المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الزبير بن العوام رضي الله عنه - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٢

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ الزبير بن العوام رضي الله عنه

أحمد؟ قَالَ: ابْن عَبْدِ اللهِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِب هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجِرَه إِلَى نَخْل وحرة وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ.

قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّة فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ؟ قَالُوا: نَعَم، مُحَمَّد بِن عَبدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَمِين تَنَبَّأَ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقُلْتُ: اتَّبَعْتَ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: نَعَم فَانْطَلِقْ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعُهُ فَإِنَّه يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ فَأََخْبَرَهُ طَلْحَة بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَمَا قَالَ الرَّاهِبُ فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَة أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بن خُوَيْلَدِ بن الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا في حَبْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَمِيمٍ. وَكَانَ نَوْفَلُ بن خُوَيْلِدٍ يُدْعَى ((أَسَدُ قُرَيْشٍ)) فلِذَلِكَ سَمَّى أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةَ الْقَرِينَيْنِ

. فَذَكَرَ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَفِي حَدِيثُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ ابن الْعَدَوِيَّةِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي الأَسْوَدُ قَالَ: أَسْلَمَ‌

‌ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رضي الله عنه

وَهُوَ ابْن ثَمَانُ سِنِينَ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرة سنة وَكَانَ عَمُّ الزُّبَيْرِ يُعَلِّقُ الزُّبَيْر فِي حَصِيرٍ وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ. فيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا أَكْفُرُ أَبَدًا.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا عَنْ حَفْصِ بن خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُوصِلِ قَالَ: صَحِبْتُ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رضي الله عنه فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَصَابَتْهُ جَنَابَةً بِأَرْضٍ قَفْرٍ فَقَالَ: اسْتُرْنِي. فَسَتَرْتُهُ فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَة فَرَأَيْتُهُ مُجَدّعًا بِالسِّيوفِ. قُلْتُ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِكَ آَثَارًا مَا رَأَيْتُهَا بِأَحَدٍ قَطٍ؟ قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَم. قَالَ: أََمَا وَاللهِ مَا مَنْهَا جِرَاحَةٌ إِلا مَعَ

ص: 42

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ اللهِ.

وَعِندَ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَلِيّ بن زَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى الزُّبَيْرَ وَإِنَّ في صَدْرِهِ لأَمْثَالُ الْعُيُونِ مِنْ الطَّعْنِ وَالرَّمْي.

أَخْرَجَ الإِمَامُ أحمد وَابْنُ مَاجَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ سَبْعَةٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعمارُ وَأُمُّهُ سُمَيَّة وَصُهَيْبٌ وَبِلالٌ وَالْمِقْدَادُ رضي الله عنهم.

فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ اللهُ بِعَمِّهِ، وأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ أَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلا بِلال فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَان فَجَعَلوُا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّة وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةَ عَنْ هُشَام بن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بن نَوْفَل يَمُرُّ بِبِلالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، اللهُ يَا بِلالُ ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ بن نَوْفَلِ عَلَى أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ وَهُوَ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلالٍ فيَقُولُ: احْلِفُ بِاللهِ عز وجل لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذِهِ لاتَّخِذَّنَهُ حَنَانًا.

حَتَى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقِ يَوْمًا وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَقَالَ لأُمَيَّة: أَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذَا الْمِسْكِين حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْتَ أَفْسَدْتُهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفْعَلُ عِنْدِي غُلامٌ أَسْوَدٌ أَجْلَدُ مِنَْهُ وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَهُ بِهِ. قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ. قَالَ: هُوَ لَكَ فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلامَه ذَلِكَ وَأَخَذَ بِلالاً فَأَعْتَقَهُ.

ثُمَّ اعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ قَبْل أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَ رِقَابٍ بِلال سَابِعُهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقٍ كَانَ أُمَيَّةُ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الشَّمْسِ فَيَطْرحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّة ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ يَقُولُ: لا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَعْبَدَ اللاتَ وَالْعُزَّى.

ص: 43

وَهُوَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْبَلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ عَمَّارُ بْن يَاسِرَ وَهُوَ يُذَكِّرُ بِلالاً وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلاء وَاعْتَاقِ أَبَا بَكْرٍ إِيَّاهُ وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا رضي الله عنه.

جَزَى اللهُ خَيْرًا عَنْ بِلالٍ وَصَحْبِهِ

عَتِيقًا وَأَخْزَى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلٍ

عَشِيَّةَ هَمَّا فِي بِلالٍ بِسَوْءَةٍ

وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ

بِتَوْحِيدِهِ رَبّ الأَنَامِ وَقَوْلُهُ

وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ

فِإِنْ يَقْتُلُونِي يَقْتُلُونِي فَلَمْ أَكُنْ

لأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْل

فَيَا رَبّ إِبْرَاهِيمَ وَالْعَبْدِ يُونُس

وَمُوسَى وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لا تُبْلِ

لِمَنْ ظَلّ الْغَيَّ مِنْ آلِ غَالِبٍ

عَلَى ضَرِ بر كَانَ مِنْهُ وَلا عَدْل

اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاجْعَلْ الإِيمَانَ لَنَا سِرَاجًا وَلا تَجْعَلْهُ لَنَا اسْتِدْرَاجًا وَاجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إِلَى جَنَّتِكَ وَلا تَجْعَلُهُ لَنَا مَكْرًا مِنْ مَشِيئَتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ الْحَلِيمُ الْغَفُورُ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الأَبْرَارِ، وِآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَة حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ والْبَيْهَقِيُّ وَابْن عَسَاكِرُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِعَمارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَبُونَ. فَقَالَ: «أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ» . قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُ الطَّبَرَانِيِّ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمُقوم وَهُوَ ثِقَةٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو أحمد الْحَاكِم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن جَعُفَرِ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَاسِرٍ وَعَمَّارٍ وَأُمِّ عَمَّارٍ وَهُمْ يُؤْذَوْنَ فِي اللهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ: «صَبْرًا آل يَاسِرٍ صَبْرًا آل يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَحْوَهُ وَزَادَ: وَعَبْدِ اللهِ بْنِ يَاسِرٍ. وَزَادَ: وَطَعَنَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةِ فِي قُبُلِهَا فَمَاتَتْ وَمَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ وَرُمِيَ عَبْدُ اللهِ فَسَقَطَ.

ص: 44

وَعِنْدَ أحمد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوْلُ شَهْيدٍ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ اسْتُشْهِدَ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بِحَرْبَةٍ فِي قُبُلِهَا. وَعَنْ عَمْرُو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: أَحْرَقَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرِ بِالنَّارِ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِهِ وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فيَقُولُ: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَى إِبْرَاهِيم عليه السلام، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةِ» . فَقَتَلَهُ أَحَدُ الْمُقَاتِلِينَ مَعَ مُعَاوِيَةٍ.

شِعْرًا:

وَلا غُرْوَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهِمُ

كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ

فَحَرْبَةُ وَحْشِيُّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرّدَى

وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلَجَّمٍ

وَعِنْد الْحَاكِمِ فِي الْكُنَى وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ إِذْ بِعَمَّارِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ يُعَذَّبُونَ فِي الشَّمْسِ لِيَرْتَدُوا عَنْ الإِسْلامِ. فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُول اللهِ الدَّهْرُ هَكَذَا؟ فَقَالَ: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لآلِ يَاسِرٍ وَقَدْ فَعَلْتَ» .

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمُ فِي الْحِلْيَةِ ج (1) ص (140) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّد بْن عَمَّارٍ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا رضي الله عنه فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. مَا تُرِكْتُ حتَّى نِلْتُ مِنْكَ وذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: أَجِدُ قَلْبِي مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ. قَالَ: «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ.

أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ الشِّعَبِي قَالَ: دَخَلَ خَبَّابُ بْن الآرَت رضي الله عنه عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَجْلَسَهُ عَلَى مُتَّكَئِهِ فَقَالَ: مَا عَلَى الأَرْضِ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْ هَذَا إِلا رَجُل وَاحِد. قَالَ لَهُ خَبَّابُ: مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بِلالٌ. فَقَالَ خَبَّابٌ: مَا هُوَ أَحَقُّ مِنِّي إِنَّ بِلالاً كَانَ لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمْنَعُهُ اللهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمًا، أَخَذُونِي فَأَوْقَدُوا لِي نَارًا، ثُمَّ سَلَقُونِي فِيهَا ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي

ص: 45

فَمَا اتَّقَيْتُ الأَرْضَ – أَوَ قَالَ: بَرْدَ الأَرْضِ - إِلا بِظَهْرِي، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإَذَا هُوَ قَدْ بَرَصَ، أَيْ مِنْ أَثَرِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ.

وَأَخْرَجَ أحمد عَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً قَيِّنًا وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٍ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ. فَقَالَ: لا وَاللهِ لا أَقْضِيَنَّكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَث. قَالَ: فَإِنَّي إِذَا مِتُّ ثُمَّ جَئْتنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيَكَ.

فَأَنْزَلَ اللهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} . وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ الشِّعبِيِّ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ رضي الله عنه بِلالاً عَمَّا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ خَبَّابٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! انْظُرْ إِلَى ظَهْرِي. فَقَالَ عُمَرُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ. قَالَ: أَوْقَدُوا لِي نَارًا فَمَا أَطْفَأَهَا إِلا وَدَكَ ظَهْرِي.

شِعْرًا:

إِنَّ الشَّدَائِدَ قَدْ تَغْشَى الْكَرِيمَ لأَنْ

تُبِينُ فَضْلَ سَجَيَاهُ وَتُوضِحُهُ

كَمَبْرَدِ الْقَيِّنِ إِذْ يَعْلُو الْحَدِيدَ بِهِ

وَلَيْسَ يَأْكُلُهُ إِلا لِيُصْلِحَهُ

قَالَ عِيسَى بْن مَرْيَمَ عليه السلام: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مُجَالَسَةً؟ قَالُوا: بَلَى يَا رُوحِ اللهِ. قَالَ: مَنْ تُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ وَيُزِيدُكُمْ فِي عَمَلِكُمْ مَنْطِقِهِ وَيُشَوِّقُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ عَمَلُهُ. وَقَالَ عِيسَى عليه السلام لِلْحَوَارِيِّينَ: وَيْلُكُمْ، يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا كَيَفَ تُخَالِفُ فُرُوعكُمْ أُصُولَكمْ وَأَهْوَاؤكمْ عُقُولَكمْ، قَوْلُكُمْ شِفَاءٌ يٌبْرِؤُ الدَّاءَ، وَفِعْلُكُمْ دَاءٌ لا يَقْبَلُ الدَّوَاءَ لَسْتُمْ كَالْكرْمَةِ التَّي حَسُنَ وَرَقُهَا وَطَابَ ثَمَرُهَا وَسَهُلَ مُرْتَقَاهَا، وَلَكِنَّكُمْ كَالسُّمْرَةِ التَّي قَلَّ وَرَقُهَا وَكَثُر شَوْكُهَا وَصَعُبَ مُرْتَقَاهَا.

وَيْلُكُمْ يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا جَعَلْتُمْ الْعَمَلَ تَحْتَ أَقْدَامِكِمْ مَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَجَعَلْتُمْ الدُّنْيَا فَوْقَ رُؤسِكِمْ لا يُمْكِنُ تَنَاوُلهَا فَلا أَنْتُمْ عَبِيدٌ نُصَحًا وَلا أَحْرَارٌ كِرَامٌ. وَيِلُكُمْ يَا أُجَرَاءُ السُّوءِ، الأَجْرُ تَأْخُذُونَ وَالْعَمَلَ تُفْسِدُونَ سَوْفَ تَلْقَوْنَ مَا

ص: 46

تَحْذَرُونَ إِذَا نَظَرَ رَبُّ الْعَمَل فِي عَمَلِهِ الَّذِي أَفْسَدْتُمْ وَأَجْرِهِ الَّذِي أَخَذْتُمْ.

وَقَالَ عليه السلام: اتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ بيوتًا، وَالْبيوتَ مَنَازِلَ، وَكُلُوا بَقْلَ الْبَرِيَّةِ، وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْقُرَاحَ، وَانْجُوا مِنَ الدُّنْيَا سَالِمِينَ. وَقَالَ عليه السلام لِلْحَوَارِيِّينَ: لا تَنْظُرُوا فِي أَعْمَالِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ، وَانْظُرُوا فِي أَعْمَالِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُبْتَلَى وَمُعَافَى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلاءِ، وَاحْمِدُوا اللهَ عَلَى الْعَافِيَةِ. وَقَالَ: عَجَبًا لَكُمْ تَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا وَأَنْتُمْ تُرْزَقُونَ فِيهَا بِلا عَمَلٍ، وَلا تَعْمَلُونَ لِلآخِرَةِ وَأَنْتُمْ لا تُرْزَقُونَ فِيهَا بِلا عَمَلٍ.

اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ جِمِيعِ الآفَاتِ وَعَافِنَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَارْفَعْ لَنَا فِي مَرْضَاتِكَ الدَّرَجَاتِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ فِي فَسِيحِ الْجَنَّاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُّرُهُ الْمَعْصَيَةُ وَلا تَنْفَعُهُ الطّاعَةُ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لَمَصَالِحِنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا، وَلا تُؤَاخِذُنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرِنَا، وَأَكَنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَائِبِ التَّي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وَامْنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنْبٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَخِيهِ: ارْكَبْ عَلَى هَذَا الْوَادِي فاعْلَمْ عِلْمَ هَذَا الرَّجُل الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيُّ يَأْتِيهُ الْخَبَر مِنَ السَّمَاءِ وَاسْمَعْ قَوْلُهُ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسِمَعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَكَلامًا مَا هُوَ بَالشِّعْرِ. فَقَالَ: شَفَيْتَني مِمَّا أَرَدْتُ.

فَتَزَوَّدَ حِمْل شَنَّةٍ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكْةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلا يَعْرِفُهُ وَكَرِهَ أنَّ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيلِ اضْطَجَعَ فَرَآهَ عَلِيٌّ

ص: 47

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مَنْهُمَا صَاحَبَهُ عَنْ شَيْء حَتَّى أَصْبَحَ.

ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدَ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَلا يَرَاهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعَهُ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا آنَ لِلرَّجُلَ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ، فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، لا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْء، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْم الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ.

ثُمَّ قَالَ: أَلا تُحَدَّثَنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لِتُرْشِدَنِي فَعَلْتُ. فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإَذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ مَعْهُ فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إرْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي.

قَالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارَتِكُمْ إِلَى الشَّامِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ.

ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِّ بِمِثْلِهُا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا فَأَكَبَّ العَبَّاسُ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي أَشْهَدُ أَن لا إله إلا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئُ فَقَامُوا فَضُرِبَتُ لأَمُوتَ. فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهمْ فَقَالَ: وَيْلُكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارٍ فَأَقْلَعُوا عَنِّي.

ص: 48

فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الْغَدَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ: مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئُ فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالأَمْسِ فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتُهُ بِالأَمْسِ.

شِعْرَاً:

طَالِع تَوَارِيخ مَنْ فِي الدَّهْرِ قَدْ وُجِدُوا

تَجِدْ خُطُوبًا تُسَلِّي عَنْكَ مَا تَجِدُ

تَجِدُ أَكَابِرَهُمْ قَدْ جُرِّعُوا غُصَصًا

مِنْ الرَّزَايَا بِهَا قَدْ فُتِّنَتْ كُبُدُ

عَزْلٌ وَنَهْبٌ وَضَرْبٌ بِالسِّيَاطِ يَلي

حَبْسٌ وَقَتْلٌ وَتَشْرِيدٌ لِمَنْ زَهِدُوا

وَإِنْ وُقِيتَ بِِحَمْدِ اللهِ شَرَّتَهُمْ

فَلْتَحْمد اللهَ فِي الْعُقْبَى كَمَنْ حَمِدُوا

آخر:

وَلا يَلْبَثُ الْجُهَّالُ أَنْ يَتَهَظَّمُوا

أَخَا الدِّين مَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِسَفِيهِ

آخر:

وَمَنْ يَحْلَمْ ولَيْسَ لَهُ سَفِيهٌ

يُلاقِي الْمُعْضِلاتِ مِنَ النُّذُولِ

آخر:

مَا إِنْ نَفَى عَنْكَ قَوْمًا قُرْبُهُمُ ضَرَرٌ

كَمِثْلِ قَمْعِكَ جُهَّالاً بِجُهَّالٍ

آخر:

تَعْدُ الذِّئَابِ عَلَى مَنْ لا كِلابَ لَهُ

وَتَتَّقِي مَرْبَضَ الْمُسْتَأْسِدِ الْحَامِي

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم يَقُولُ أَبُو ذَرٍ: فَرَمَانِي النَّاسُ حَتَّى كَأَنِّي نَصْبُ أَحْمَرُ فَاخْتَبَأْتُ بِيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا وَلَبِثْتُ فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا لِي طَعَامٌ وَلا شَرَابٌ إِلا مَاءُ زَمْزَمَ.

قَالَ: وَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَقَدْ دَخَلا الْمَسْجِدَ فَوَاللهِ أَنِّي لأَوْلُ النَّاسِ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ. فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، مَنْ أَنْتَ» . فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ. فَقَالَ صَاحِبُهُ: ائْذَنْ لي يَا رَسُولَ اللهِ فِي ضِيَافَةِ اللَّيْلَةِ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى دَارٍ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَقُبِضَ لِي قَبَضَاتُ مِنْ زَبِيبٍ. قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى أَخِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَسْلَمْتُ. قَالَ: فَإِنِّي عَلَى دِينِكِ، فَانْطَلَقَنَا إِلَى أُمِّنَا فقَالَتْ: إِنِّي عَلَى دِينِكُمَا. قَالَ: وَأَتَيْتُ قَوْمِي فَدَعَوْتُهُمْ فَتَبِعَنِي بَعْضهُمْ.

وأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَعَلَّمَنِي

ص: 49

الإِسْلامَ وَقَرَأْتُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ دِينِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إَنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ» . قُلْتُ: لا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ قُتِلْتُ. قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي فَجِئْتُ وَقُُرَيْشٌ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

فَانْتَفَضَتِ الْحِلَقُ فَقَامُوا فَضَرَبُونِي حَتَّى تَرَكُونِي كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَر، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُونِي، فَأَفَقْتُ فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى مَا بِي مِنَ الْحَالِ. فَقَالَ:«أَلَمْ أَنْهَكَ» ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ كَانْتْ حَاجَةُ فِي نَفْسِي فَقَضَيْتُهَا. فَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«الْحَقْ بِقَوْمِكَ فَإَذَا بَلَغَكَ ظُهُورِي فَأْتِنِي» .

وَعَنْ أَبِي ذَرٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ مَكَّةَ فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلِ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، فَخَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَر.

آخر:

تَسْطُوا الْكِلابَ عَلَى أُسْدِ الشَّرّ سَفَهًا

وَالْبَازُ الأَشْهَبُ يَخْشَى صَوْلَةَ الْحَجَلِ

شِعْرَاً:

وَالْقِرْدُ يَضْحَكُ مِنْ نِمْرٍ عَلَى هُزُءٍ

وَالْكَلْبُ يُوعِدُ لَيْثَ الْغيلِ بِالْغِيَلِ

آخر:

وَإِنِّي لأَسْتَبِقِي إِمْرَأَ السُّوء عَدَّةً

لِعَدْوَةِ عَرِيضِ مِنَ الْقَوْمِ جَانِبِ

أَخَافُ كِلابَ الأَبْعَدِينَ وَهَرْشَهَا

إِذَا لَمْ تُهَارِشْهَا كِلابُ الأَقَارِبِ

" موعظة ": عِبَادَ اللهِ تَزَوَّدُا لِلرَّحِيلِ، فَقَدْ دَنَتْ الآجَالُ وَاجْتَهِدُوا وَاسْتَعِدُّوا لِلرَّحِيلِ، فَقَدْ قَرُبَ الارْتِحَالُ، وَمَهِّدُوا لأَنْفُسِكُمْ صَالِحَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِالْفُرَاقِ وَإِنَّ الآخِرَة قَدْ أَشْرَفَتْ لِلتَّلاقِ فَتَزَوَّدُوا مِنْ دَارِ الانْتِقَالِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ.

وَاسْتَشْعِرُوا التَّقْوَى فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَأحْذَرُوا التَّفَاخُرَ والتَّكَاثُرَ فِي الدُّنْيَا بِجَمْعِ الْحُطَامِ وَاكْتِسَابِ الآثَامِ وَإِيَّاكُمْ وَالاغْتِرَارَ بِالآمَالِ فَوَرَاءَكُمْ الْمَقَابِرُ ذَاتُ الْوَحْشَةِ وَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْكُرُبَاتِ وَتَضَايُقِ الأَنْفَاسِ وَالأَهْوَالِ الْمُفْضعاتِ.

ص: 50

فَسَوْفَ تَرَوْنَ مَا لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فِي حِسَابٍ إِذَا نُودِيتُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ حُفَاةً عُرَاةً غُرُلاً مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي وَتَعَلَّقُ الْمَظْلُومُونَ بَالظَّالِمِينَ وَوَقَفْتُمْ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَلَّ بِكِمْ كَرْبُ الْمَقَامِ وَاشْتَدَّ بِالْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الزّحَامُ وَأُخِذَ الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ وَبُرِّزَتْ جَهَنَّمُ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفِ زِمَامٍ مَعَ كُلّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا وَالْخَزَنَةُ حَوْلَهَا غِلاظٌ شِدَادٌ.

وَيَنَادِي عِنْدَ ذَلِكَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الْجَبَّارِ فيَقُولُ: هَلْ امْتَلأتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. هُنَالِكَ يَنْخَلِعُ قَلْبُكَ وَتَتَذَكَّرُ مَا فَرَطْتَ فِيهِ مِنَ الأَوْقَاتِ وَتَنْدِمُ وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ وَتَتَمَنَّى أَنْ لَوْ زِيدَ فِي الْحَسَنَاتِ وَخُفِفَ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَكِنْ أَنَّى لَكَ بِهَذا وَهَيْهَاتَ {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِلاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتِبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْم الآخَرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبِنَا وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهَوألهمنا ذَكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمْيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرُ يَوْمَ الزَّحْفِ وَالزَّلازِلَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": مَا أَصَابَ سَعِيدَ بْن زَيْد وَزَوْجَتهُ فَاطِمَةِ أُخْت عُمَرٍ.

أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عُمَرٌ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زهرةٍ قَالَ: أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا. قَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ إِذ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا. قَالَ. فَقَالَ لَهُ عُمَر: مَا أَرَاكَ إِلا قَدْ صَبَأْتَ وَتَرَكْتَ دِينِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَفَلا أَدُلُكَ عَلَى مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ، وَخَتَنُكَ قَدْ صَبَوَا وَتَرَكَا دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ.

ص: 51

قَالَ: فَمَشَى عُمَرُ ذَامِرًا حَتَّى أَتَاهُمَا وَعِنْدَهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يقَالَ خَبَّابُ رضي الله عنه قَالَ: فَسَمِعَ خَبَّابُ حِسَّ عُمَرَ فَتَوَارَى فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا هَذِِهِِ الْهَيْمَنَةُ التِّي سَمِعْتُهَا عِنْدَكُمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَقْرَءُونَ {طه} فَقَالا: مَا عِنْدَنَا حَدِيثًا تَحَدَثْنَاهُ بَيْنَنَا. قَالَ: فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوْتُمَا.

قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَتَنُهُ: أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكِ؟ فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى خَتَنِهِ فَوَطَأَهُ وَطْأً شَدِيدًا فَجَاءَتْ أُخْتُهُ فَدَفَعَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا فَنَفَحَهَا بِيَدِهِ – أَيْ لَطِمَهَا - فَدَمَى وَجْهَهَا فقَالَتْ - وَهِيَ غَضْبَى -: يَا عُمَر إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

فَلَمَّا يَئِسَ عُمَرُ قَالَ: اعْطُونِي الْكِتَابَ هَذَا الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ: يَقْرَأُ الْكُتُبَ. فَقَالَتْ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رِجْسٌ وَلا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ فَاغْتَسِلْ وَتَوَضَأَ. قَالَ. فَقَامَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ {طه} حَتَّى انْتَهَى إِلَى قُوْلُهُ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرِ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُون دَعْوَةَ رَسُولِ اللهِ لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بَعُمَرِ بْنِ هُشَامٍ. قَالَ: ورَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدَّارِ التِّي فِي أَصْلٍ الصَّفَا فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ.

قَالَ: وَعَلَى بَابِ الدّارِ حَمْزَةٌ وَطَلْحَةٌ رضي الله عنهما وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأىَ حَمْزَةٌ وَجَلَ الْقَوْمِ مِنْ عُمَرٍ قَالَ حَمْزَةٌ: نَعَمْ فَهَذَا عُمَرُ فَإِنْ يُرِدِ اللهُ بِعُمَرِ خَيْرًا يُسْلِمُ وَيَتْبَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ يُرِدْ اللهُ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا.

قَالَ: وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَاخِلٌ يُوَحَى إِلَيْهِ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ وَقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ حَتَّى

ص: 52

يُنْزِلَ اللهُ بِكَ مِنَ الْخِزِي وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، اللَّهُمَّ هَذَا عُمَرُ ابْن الْخَطَّابِ اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَأَسْلَمَ وَقَالَ: أُخْرُجْ يَا رَسُول اللهِ.

أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عُثْمَان قَالَ: لَمَّا رَأَى ابْنُ مَظْعُونٍ رضي الله عنه مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَلاء وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: وَاللهِ إَنَّ غَدْوِي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَصْحَابِي وَأَهْلِ دِينِي يَلْقُونَ مِنَ الأَذَى وَالْبَلاء مَا لا يُصِيبُنِي لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي نِفْسِي.

فَمَشَى إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: لا يَا أَبَا عَبْدَ شَمْسٍ وَفَتْ ذِمّتُكَ قَدْ رَدَدْتُ إِلَيْكَ جِوَارَكَ. قَالَ: لِمَ يَا ابْنَ أَخِي لَعَلَّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قِوْمِي؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي أَرْضَى بِجوَارِ اللهِ عز وجل وَلا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَارْدُدْ عَلَيَّ جَوَارِي عَلانِيَةً كَمَا أَجَرْتُكَ عَلانِيَةً.

قَالَ: فَانْطَلَقَا ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: هَذَا عُثْمَانٌ رضي الله عنه قَدْ جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوَارِي. قَالَ لَهُمْ: قَدْ صَدَقَ قَدْ وَجَدْتُه وَفِيًّا كَرِيمَ الْجِوَارِ وَلَكْنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ لا أَسْتَجِيرَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ.

ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ وَلَبِيدُ بْن رَبِيعَة بْن مَالِكٍ بْن كِلابٍ الْقَيْسِيُّ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قُرَيْشِ يَنْشِدُهُمْ فَجَلَسَ مَعَهُمْ عُثْمَان فَقَالَ لَبِيدٌ وَهُوَ يَنْشِدُهُمْ: أَلا كُلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلٌ.

فَقَالَ عُثْمَانٌ: صَدَقْتَ. فَقَالَ: وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ. فَقَالَ عُثْمَانٌ: كَذِبْتَ، نَعِيمُ الْجَنَّةِ لا يَزُولُ. قَالَ لَبِيدُ بْن رَبِيعَةِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشِ وَاللهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ فَمَتَى حَدَثَ فِيكُمْ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ هَذَا سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءٍ مَعَهُ قَدْ فَارَقُوا دِينِنَا فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ مَنْ قَوْلِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانٌ حَتَّى

ص: 53

سَرَى – أَيْ عَظُمَ أَمْرُهُمَا فَقَامَ إِلَيْه ذَلِكَ الرَّجُلَ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَطَرَهَا وَالْوَلِيدُ بْن الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ مِنْ عُثْمَانٍ. فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أَصَابَهَا لَغَنِيَّةِ! لَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ. فَقَالَ عُثْمَانٌ: بَلَى وَاللهِ إِنَّ عَيْنِي الصَّحِيحَةُ لَفَقِيرَةٌ إِلَى مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللهِ، وَإِنِّي لَفِي جوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزُّ مِنْكَ وَأَقْدَرَ يَا أَبَا عَبْدَ شَمْسٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْن مَظْعُونٍ فِيمَا أُصِيبَ مِنْ عَيْنِهِ:

شِعْرَاً:

فَإِنْ تَكُ عَيْنِي فِي رِضَى اللهِ نَالَهَا

يَدَا مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ بُمُهَتَدِ

فَقَدْ عَوَّضَ الرَّحْمَنُ مَنْهَا ثَوَابُهُ

وَمَنْ يَرْضَهُ الرَّحْمَنُ يَا قَوْمُ يَسْعَدِ

فَإِنِّي وَقَدْ قُلْتُمْ غَوِيٌّ مُضَلَّلٌ

سَفِيهٍ عَلَى دِينِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ

أُرِيدُ بِذَاكَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ دِينُنَا

عَلَى رَغْمِ مَنْ يَبْغِي عَلَيْنَا وَيَعْتَدِي

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْء مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءِ الْفُقَرَاءِ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَزِيلُ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَوَفْقِنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ بَارَكَ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيبَ الدَّعَوَاتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلَنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِج السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ مُصْعَبُ بْن عُمَيْرِ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالاً وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانَهُ وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً – أَيْ غَنِيَّة كَثِيرةَ الْمَالِ - تَكْسُوهُ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَرَّقَهُ، وَكَانَ أَعْطَرُ أَهْلِ مَكَّةَ، يَلْبِسُ الْحَضْرَمِيُّ مِنَ النِّعَالِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهُ

ص: 54

وَيَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحْسَنَ لُمَّةً، وَلا أَرَقَ حُلَّةً، وَلا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَب بْن عُمَيْرٍ.

فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو إِلَى الإِسْلامِ فِي دَارِ أَرْقَمٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ، وَخَرَجَ فَكَتَمَ إِسْلامَهُ، خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ، فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِرًّا فَبَصُرَ بِهِ عُثْمَانُ بن طَلْحَةٍ يُصَلِّي فَأَخْبَرَ أَمَّهُ وَقَوْمَهُ فَأَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا، فَرَجَعَ مُتَغَيْرَ الْحَالِ قَدْ خَرَجَ فَكَفَّتْ أُمُّهُ عَنْهُ مِنَ الْعَذْلِ.

وَأَخْرَجَهَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَر رضي الله عنه قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُصْعَبِ بْن عُمَيْرٍ رضي الله عنه مُقْبِلاً عَلَيْهِ إِهَابِ كَبْشٍ - أَيْ جَلْد كَبْشٍ - (قَدْ تَمَنْطَقَ بِهِ) - أَي شّدَّهُ فِي وَسَطِهِ، فَقَالَ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يُغْذُوَانه بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتَ عَلَيْهِ حُلَّةً شَرَاهَا - أَوْ شُرِيَتْ - بِمَائَةِ دَرْهَمٍ فَدَعَاهُ حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَ.

وَأَخْرَجَ التّرمُذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ رَاهَوِيهُ عَنْ عَلِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْتُ فِي غَدَاةٍ شَاتِيَةٍ مِنْ بِيْتِي جَائِعًا حَرصًا قَدْ أَذْلَقَنِي الْبَرْدُ، فَأَخَذْتُ إِهَابًا مَعْطُونًا كَانَ عِنْدنَا فَجَبَبْتُهُ.

ثُمَّ أَدْخَلْتُهُ فِي عُنُقِي ثُمَّ حَزَّمْتُهُ عَلَى صَدْرِي اسْتَدْفِئُ بِهِ، فَوَاللهِ مَا فِي بَيْتِي شَيْء آكلُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَبَلَغَنِي، فَخَرَجْتُ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعْتُ إِلَى يَهُودِيٍّ فِي حَائِطٍ مِنْ ثَغْرَةِ جِدَارِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَعَرْابِيُّ هَلْ لَكَ فِي كُلّ دَلْو بِتَمَرَةٍ، فَقُلْتُ: نَعَم فَافْتَحْ الْحَائِطَ فَفَتَحَ لِي فَدَخَلْتُ أَنْزِعُ دَلْوًا وَيَعْطِينِي تَمْرَةً حَتَّى امْتَلاءَتْ كَفْي. قُلْتُ: حَسْبِي مِنْكَ الآن.

ص: 55

ثُمَّ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ فِي عُصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَاطَلَّعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنِ عُمَيْرٍ رضي الله عنه فِي بُرْدَةٍ لَهُ مَرْقُوعَةٍ، فلمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَرَأىَ حَالَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا فَذَرِفَتْ عَيْنَاهُ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ:«كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمِ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي أُخْرَى، وَسُتِرَتْ بِيوتَكْمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةَ قُلْنَا نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خُيْرٌ نُكْفَى الْمُؤْنَةَ، وَنَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ. قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمئِذٍ» . وَاللهُ أَعْلَمُ.

اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنِا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": قِصْةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةِ السَّهْمِيّ مَعَ مَلِكِ الْفُرْسِ مَشْهُورَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي السُّنَّةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ حِينَ عَزَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِكُتُبٍ إِلَى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ.

وَلَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُقَدِّرُ خُطُورَةَ هَذِهِ الْمُهِمَّةَ فَهَؤُلاءِ الرُّسُلِ سَيَذْهَبُونَ إِلَى بِلادٍ نَائِيَةٍ لا عَهْدَ لَهُمْ بِهَا مِنْ قَبْلُ، يَجْهَلُونَ لُغَاتِهِمْ وَلا يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنْ أَخْلاقِ مُلُوكِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَيَدْعُونَ هَؤُلاءِ إِلَى تَرْكِ مَا عَلَيْهِ آبَاؤهُمْ وَالدُّخُولِ فِي دِينِ الإِسْلامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ.

إِنَّهَا رِحْلَةٌ خَطِيرَةٌ الذَّاهِبُ إِلَيْهَا مَفْقُودٍ، وَالْعَائِدُ مَنْهَا مَوْلُودٌ، لِذَلِكَ جَمَعَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ وَقَامَ فِيْهِمْ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَتَشَهْدَ ثُمَّ

ص: 56

قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْضَكُمْ إِلَى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ، كَمَا اخْتَلَفَتْ بَنُوا إِسْرَائِيل عَلَى عِيسَى بن مَرْيَم.

فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ نُؤَدِّي عَنْكَ مَا تُرِيدُ، فَابْعَثْنَا حَيْثُ شِئْتَ، انْتَدَبَ صلى الله عليه وسلم سِتَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ لِيَحْمِلُوا كُتُبَهُ إِلَى مُلُوكِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَكَانَ أَحَدُ هَؤُلاءِ السِّتَّةِ عَبْد اللهِ بن حَذَافَةَ السَّهْمِيُّ، اخْتَارَهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ إِلَى كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ.

فَجَهَّزَ عَبْدُ اللهِ رَاحِلَتَهُ وَوَدَّعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَمَضَى إِلَى غَايَتِهِ تَرْفَعُهُ النّجَادُ وَتَحُطُّهُ الْوِهَادُ، حَتَى دِيَارِ فَارِسٍ، فَاسْتَأْذَنَ بِالدُّخُولِ عَلَى مَلِكِهَا، وَأَخْطَرَ أَعْوَان الْمَلِكِ بِالرِّسَالَةِ التَّي يَحْمِلُهَا بِأَنَّهَا ذَاتَ اهْتِمَامٍ.

عِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ فَزُيِّنَ، وَدَعَا عُظَمَاءِ فَارِسٍ لِحُضُورِ مَجْلِسِهِ، فَحَضَرُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ بِالدُّخُولِ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْن حُذَافَة عَلَى سَيِّدِ فَارِسٍ، مُشْتَمِلاً شَمْلَتُهُ، مُرْتَدِيًا عبَاءَتِهِ الصَّفِيقَةِ، عَلَيْهِ بَسَاطَةُ الأَعْرَابِ.

لَكْنَّهُ عَالِي الْهِمَّةِ، مَشْدُودَ الْقَامَةِ، تَأَجَجُ بَيْنَ جَوَانِحِهِ عِزَّةُ الإِسْلامِ فَلَمَّا رَآهُ كِسْرَى مُقْبِلاً أَشَارَ

إِلَى أَحَدِ رِجَالِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْكِتَابَ.

فَقَالَ: لا، إِنَّمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَدْفَعُهٌ لَكَ يَدًا بِيَدٍ لا أُخَالِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَسْرَى لِرِجَالِهِ: اتْرُكُوهُ يَدْنُو مِنِّي، فَدَنَا مِنْ كِسْرَى، فَنَاوَلَهُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ.

ثُمَّ دَعَا كِسْرَى كَاتِبًا عَرَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَفُضَّ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَإَذَا فِيهِ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتْبَعَ الْهُدَى» .

وَلَمَّا سَمِعَ كِسْرَى هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الرِّسَالَةِ اشْتَعَلَ غَضَبَهُ فِي صَدْرِهِ

ص: 57

فَاحْمَرَ وَجْهَهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَجَذَبَ الرِّسَالَةَ مِنْ يَدِ كَاتِبِهِ، وَجَعَلَ يُمَزِّقُهَا، دُونَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهَا، وَيَقُولُ: أَيَكْتُبْ لِي بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي.

ثُمَّ أَمَرَ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأُخْرِجَ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ لا يَدْرِي مَاذَا يَكُونُ بَعْدُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ قَالَ: وَاللهِ مَا أُبَالِي عَلَى أَيُّ حَالٍ أَكُونَ بَعْدُ أَنْ أَدَّيْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ رَاحِلَتُهُ وَانْطَلَقَ.

وَلَمَّا سَكَتَ غَضَبَ كِسْرَى، أَمَرَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَيْهِ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَرْسَلُوا فِي أَثَرِهِ، وَطَلَبَوُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَجِدُوُه، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ كِسْرَى، وَتَمْزِيقِهِ الْكِتَابَ، فَمَا زَادَ عليه الصلاة والسلام عَلَى أَنْ قَالَ:«مَزَّقَ الله مُلْكَهُ» .

أَمَّا كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَى بَاذَانِ نَائِبِهِ عَلَى الْيَمَنِ، أَنْ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي ظَهَرَ بِالْحِجَازِ رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ، وَمُرْهُمَا أَنْ يَأْتِيَانِ بِهِ، وَحَمَّلَهُمَا رِسَالةً لَهُ يَأْمُرهُمَا بِأَدَائِهَا لَهُ، وَيَأْمُرْهُ فِيهَا بِأَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى لِقَاءِ كِسْرى دُونَ إِبْطَاءٍ.

وَطَلَبَ إِلَى الرَّجُلَيْنِ أَنْ يَقِفَانِ عَلَى خَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَقْصِيَا أَمْرَهُ، وَأَنْ يَأْتِياهُ بِمَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ.

فَخَرَجَ الرَّجُلانِ حَتَّى بَلَغَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رِجَالاً تُجَّارًا مِنْ قُرِيْشٍ فَسَأَلاهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ عليه السلام، فَقَالُوا: هُوَ فِي يَثْرِب، ثُمَّ مَضَى التُّجَّارِ إِلَى مَكَّةَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وَجَعَلُوا يُهَنُّونَ قُرَيْشًا، وَيَقُولُونَ: قُرُّوا عَيْنًا فَإِنَّ كِسْرَى تَصَدَّى لِمُحَمَّدٍ وَكَفَاكُمْ شَرَّهُ.

أَمَّا الرَّجُلانِ فَيَمِمَّا وَجْهَيْهِمَا شَطْرَ الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا وَصَلا إِلَيْهِمَا، لَقِيَا

ص: 58

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَفَعَا إِلَيْهِ رِسَالَةَ بَاذَانَ، وَقَالا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ الْمُلُوكِ كِسْرَى كَتَبَ إِلَى مَلِكِنَا بَاذَانَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكِ.

وَقَدْ أَتَيْنَاكَ لِتَنْطَلِقَ مَعَنَا فَإِنَّ أَجَبْتَنَا كَلَّمْنَا كِسْرَى بِمَا يَنْفَعُكَ، وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ سُطْوَتَهُ، وَبَطْشَهُ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى إِهْلاكِكَ، وَإِهْلاكِ قَوْمِكَ.

فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُمَا: «ارْجِعَا إِلَى رِحَالِكُمَا الْيَوْم، وَأْتِيَا غَدًا فَلَمَّا غَدَوَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَوْم التَّالِي، أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّ اللهَ قَتَلَ كِسْرَى حَيْثُ سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ ((شيرويه)) فِي لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا.

فَحَدَّقَا فِي وَجْهِهِ وَبَدَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى وَجْهَيْهِمَا، وَقَالا: أَتَدْرِي مَا تَقُولُ: أَنَكْتُبْ بِذَلِكَ لِبَاذَانَ. قَالَ: «نَعَم، وَقُولا لَهُ إِنْ دِينِي سَيَبْلُغُ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مُلْكَ كِسْرَى، وَإِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ، أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ وَخَرَجَ الرَّجُلانِ مِنْ عِنْدَ الرَسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَقَدِمَا عَلَى بَاذَانَ وَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ.

فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْيًا. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَدِمَ عَلَى بَاذَانَ كَتَابَ شِيرَويه.

وَفِيهِ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ. فَقَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى وَلَمْ أَقْتُلُهُ إِلا انْتِقَامًا لِقَوْمِنَا فَقَدْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ أَشْرَافِهِمْ وَسَبَى نِسَائِهِمْ وَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ فَإَذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِي الطَّاعَة مِمَّنْ عِنْدكَ.

فَلَمَّا قَرَأَ بَاذَانُ الْكِتَابَ ((كِتَابَ شيرويه)) طَرَحَهُ جَانِبًا وَأَعْلَنَ دُخُولُهُ فِي الإِسْلامِ وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ.. انتهى.

اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا

ص: 59

فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا، وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكِ وَهِبَاتِكِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصْبِحِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

عَبْدُ اللهَ بن حُذَافَة وَقِصَّتُهُ مَعَ مَلِكِ الرُّومِ

أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: وَجَّهَ عُمَرُ بن الْخَطَّابَ رضي الله عنه جَيْشًا إِلَى الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُل يُقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بن حُذَافَة مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسَرَهُ الرُّومُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَنَصَّرَ وَأُشْرِكَكَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مَا تَمْلِكُ وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتْهُ الْعَرَب عَلَى أَنْ أَرْجَعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا فَعَلْتُ. قَالَ: إِذَا أَقْتُلُكَ. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرمَاةِ: ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ بَدَنِهِ قَرِيبًا مِنْ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَأْبَى.

ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ ثُمَّ دَعَا بِقِدْرٍ فَصُبَّ فِيه حَتَّى احْتَرَقَ، ثُمَّ دَعَا بِأْسِيرِيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلْقِيَ فِيهَا، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهُوَ يَأْبَى ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ بِهِ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَكَى فَظَنَّ أَنَّهُ جَزِعَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِِيَّةَ فَأَبَى فَقَالَ: مَا أَبْكَاكَ إِذًا.

قَالَ: أَبْكَانِي أَنِّي قُلْتُ فِي نَفْسِي تَلْقَى السَّاعَةَ فِي هَذَا الْقِدْرِ فَتَذْهَبَ فَكُنْتُ اشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تُلْقى فِي اللهِ. قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ:

ص: 60

هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبْلَ رَأْسِي وَأُخْلِيَ مِنْكَ، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْتُ فِي نفسي: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، أُقَبِّلُ رَأْسَهُ يُخَلِّي عَنْي وَعَنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، لا أُبَالِي فَدَنَا مِنْهُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الأُسَارَى، فَقَدِمَ بِهُمْ عَلَى عُمَر فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللهِ بن حُذَافَة، وَأَنَا أَبْدَأُ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ.

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأَبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعَهُمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بِحُسْنِ الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى خِدْمَتِكَ وَحُسْنِ الآدابِ فِي مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيمِ لأَمْرِكَ والرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْرِ عَلَى بَلائِكَ وَالشُّكْرِ لِنَعْمَائِكَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ يَقْرَعُ

يَخَافُ وَيَرْجُو الْفَضْلَ فَالْفَضْلُ أَوْسَعُ

مُقِرٌّ بِأَثْقَالِ الذُّنُوبِ وَمُكْثِرٌ

وَيَرْجُوكَ فِي غُفْرَانِهَا فَهُوَ يَطْمَعَ

فَإِنَّكَ ذُو الإِحْسَانِ وَالْجُودِ وَالْعَطَا

لَكَ الْمَجْدَ وَالإِفْضَالَ وَالْمَنَّ أَجْمَعَ

فَكَمْ مِنْ قَبِيحٍ قَدْ سَتَرْت عَنْ الْوَرَى

وَكَمْ نِعَمٌ تتَرَى عَيْنًا وَتُتْبَعُ

وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى

وَأَنْتَ إِلَهُ الْخَلْقِ مَا شَئْتَ تَصْنَعُ

فَيَا مَنْ هُوَ الْقُدُّوسُ لا رَبَّ غَيْرَهُ

تَبَارَكْتَ أَنْتَ اللهُ لِلْخَلْقِ مَرْجِعُ

وَيَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فَوْقَ خَلْقِهِ

تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ

بِأَسْمَائِكَ الْحُسُنْى وَأَوْصَافِكَ الْعُلَى

تَوَسَّلَ عَبْدٌ بَائِسٌ يَتَضَرَّعُ

أَعِنِّي عَلَى الْمَوْتِ الْمَرِيرَةِ كَأْسُهُ

إِذَا الرُّوحُ مِنْ بَيْنِ الْجَوَانِحِ تُنْزَعُ

وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا

يُرَّكَمُ مِنْ فَوْقِي التُّرَابَ وَأُودَعُ

وَثَبِّتْ جَنَانِي لِسُؤَالِ وَحُجَّتِي

إِذَا قِيلَ مَنْ رُبٌّ وَمَنْ كُنْتَ تَتْبَعُ

وَمِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْكَرْبِ نَجِّنِي

إِذَا الرُّسُلِ وَالأَمْلاكِ وَالنَّاسِ خُشَّعٌ

وَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي

إِذَا الْصَّحْفُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ تُوَزَّعُ

وَهَبْ لِي كِتَابِي بِالْيَمِينِ وَثَقِّلَنَّ

لِمِيزَان عَبْدٍ فِي رَجَائِكَ يَطْمَعُ

ص: 61