المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فصل ": ذكر نماذج من صبر الصحابة على الأذى والشدائد في الدعوة إلى الله - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٢

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ فصل ": ذكر نماذج من صبر الصحابة على الأذى والشدائد في الدعوة إلى الله

شِعْرًا:

وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كَالصَّحَابَةِ

بِالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِصَابَةِ

فَإِنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا الْمُخْتَارَ

وَعَايَنُوا الأَسْرَارَ وَالأَنْوَارَا

وَجَاهَدُوا فِي اللهِ حَتَّى بَانَا

دِينُ الْهُدَى وَقَدْ سَمَا الأَدْيَانَا

وَقَدْ تُلِيَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ

مِنْ فَضْلِهِمْ مَا يَشْفِي مِنْ غَلِيلِ

وَفِي الأَحَادِيثِ وَفِى الأَخْبَارِ

وَفِى كَلامِ الْقَوْمِ وَالأَشْعَارِ

مَا قَدْرَ رَبَا مِنْ أَنْ يُحِيطَ نَظْمِي

بِبَعْضِهِ فَاسْمَعْ وَخُذْ مِنْ عِلْمِي

آخر:

قُوْمٌ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّ الْعَرْشِ مَنْزِلَةً

وَحُرْمَةً وَبُشَارَاتٍ وَإِكْرَامِ

فَازُوا بِصُحْبَةِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَاتَّصَفُوا

بِوَصْفِهِ فُهُمْ لِلنَّاسِ أَعْلامُ

فَفِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ قَدْ وَرَدَتْ

آثَارُ فَضْلٍ لَهَا فِي الذِّكْرِ أَحْكَامُ

وَبَعْدَهُ عُمَر الْفَارُوق صَاحِبُهُ

بِهِ تَكَمَّلَ بِالْفَارُوقِ إِسْلامُ

وَهَكَذَا الْبَّرُّ عُثْمَانُ الشَّهِيدُ لَهُ

فِي الليلِ وُرِدٌ وَبِالْقُرَآنِ قَوَّامُ

وَلِلإِمَامِ عَلِيّ الْمُرْتَضَى مِنَحٌ لَهُ

احْتِرَامٌ وَإِعْزَازٌ وَإِكْرَام

هُمُ الصَّحَابَةُ لِلْمُخْتَارِ قَدْ وَضَّحُوا

طُرُقَ الْهُدَى وَعَلَى الطََّاعَاتِ قَدْ دَامُوا

"‌

‌ فَصْلٌ ": ذِكْرُ نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى الأَذَى وَالشَّدَائِدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ

فَأَوْلُ ذَلِكَ فِي تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ

أَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الأَطْرَابُلْسِيّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلاثِينَ رَجُلاً أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهُورِ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ» . فَلَمْ يزل أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ كُلُّ رُجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ. وقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَكَانَ أَوْلُ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللهِِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَضُرِبُوا فيِ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَديدًا، وَوُطِأَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا

ص: 35

شَدِيدًا وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بن رَبِيعَة فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ، وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ وَنَزَا عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ.

وَجَاءَ بَنُو تَمِيمٍ يَتَعَادُونَ فَأَجْلَتْ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَحَمِلَتْ بَنُو تَمِيمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَلا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَمِيمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلّنَ عُتْبَةَ بن رَبِيعةَ فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةُ وَبَنُوا تَمِيمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ فَتَكَلَّمَ آخِر النَّهَارَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمُ وَعَذَلُوهُ ثُمَّ قَامُوا وَقَالُوا لأُمِّهِ أُمِّ الْخَيِرِ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا أَوْ تُسْقِيهِ إِيَّاهُ.

فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: مَا لِي عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ. فَقَالَ: إذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلٍ بِنْتِ الْخَطَّابِ، فَاسْأَلِيهَا فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فَقَالَتْ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللهِ.

فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلا مُحَمَّدَ بن عَبْد اللهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ؟ قَالَتْ: نَعَم. فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِقًا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتْ: وَاللهِ إِنَّ قَوْمًا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لأَهَلِ فِسْقٍ وَكُفْرٍ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَنْتَقَمَ اللهُ لَكَ مِنْهُمْ.

قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: هَذِهِ أُمُّكَ تَسْمَعُ. قَالَ: فَلا شَيْءَ عَلَيْكِ مَنْهَا. قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ.

قَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: فِي دَارِ ابْنِ الأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ أَنْ لا أَذُوقَ طَعَامًا وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا أَوْ آتِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمْهَلَنَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ خَرَجْنَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى ادْخَلنَاهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلَهُ وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَقَةً شَدِيدَةً.

ص: 36

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ بِي بَأْسٌ إِنَّ مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي، وَهَذِهِ أُمِّي بَارٌة بِوَلَدِهَا وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَأْدُعُهَا إِلَى اللهِ، وَادْعُ اللهَ لَهَا عَسَى اللهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَاهَا إِلَى اللهِ فَأَسْلَمَتْ وَأَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ فِي الدَّارِ شَهْرًا وَهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلاً. وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ رضي الله عنه أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه.

وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرِ بن الْخَطَّابِ أَوْ لأَبِي جَهْلِ بن هُشَامٍ فَأَصْبَحَ عُمَر وَكَانَتْ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الأَرْبَعَاءِ فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلا مَكْةَ.

وَخَرَجَ أَبُو الأَرْقَمِ وَهُو أَعْمَى كَافِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِبَنِي عبيدِ الأَرْقَمِ فَإِنَّه كَفَرَ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلامَ تُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقّ وَيُظْهِرُوا دِينَهَمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: يَا عُمَر إِنَّا قَلِيلٌ قَدْ رَأَيْنَا مَا لَقِينَا.

فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالذِّي بَعَثَكَ بِالْحَّقِ لا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ.

ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْش وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ: يَزْعُمُ فُلانٌ أَنَّكَ صَبَوْتَ؟

فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَة وَبَرَكَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ فَتَنَحَّى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ حَتَّى أَعْجَزَ النَّاس وَاتْبَعَ الْمَجَالِسَ التَّي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الإِيمَانُ.

ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهمْ، قَالَ: مَا عَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي

ص: 37

وَاللهِ مَا بَقَي مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ غَيْرَ هَيَّابٍ وَلا خَائِفٍ.

فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ مُؤَمِّنًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَط إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إَلا يَأْتِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيّ النَّهَارَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغَمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدُ رِبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ وَلا يَخْرُجُ؛ إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومِ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْف وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأنَا لكَ جَارٌّ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ فِي بَلَدِكَ.

فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُِومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيُقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.

فَلَمْ تَكْذِبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابنِ الدَّغِنَةِ.

وَقَالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلِيُصِّلِ فِيهَا وَلْيَقْرَأَ مَا شَاءَ وَلا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ.

فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلا يَسْتَعْلِنُ بِصَلاتِهِ وَلا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَا مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ

ص: 38

الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ - أَيْ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ - وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافُ قُرِيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهُ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ مِنْ أَنْ يَرَّدَ إِلَيكَ ذِمَّتِكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهَنَا أَنْ نَخْفُرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ.

قَالَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذمَّتِي.

فَإِنِّي لا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبَ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيكَ جَوَارُكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عز وجل.

هَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهُ فَلَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَلَقَدْ قَدَّمَهُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ قَالَ فِي النُّونِيَّةِ مَا قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ:

شِعْرًا:

وَيَقُولُ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ يَؤُمُّكُمْ

عَنِّي أَبُو بَكْرٍ بِلا رَوَغَانِ

وَيَظِلُّ يَمْنَعُ مِنْ إِمَامِةِ غَيْرِهِ

حَتَّى يُرَى فِي صُورِةِ مَيَلانِ

ويَقُولُ لَوْ كُنْتُ الْخَلِيلَ لِوَاحِدٍ

فِي النَّاسِ كَانَ هُوَ الْخَلِيلُ الدَّانِ

لَكِنَّهُ الأَخُ وَالرَّفِيقُ وَصَاحِبِي

وَلَهُ عَلَيْنَا مِنْهُ الإِحْسَانِ

ويَقُولُ لِلصِّديق يَوْم الْغَارِ لا

تَحْزَنْ فَنَحُنُ ثَلاثَةٌ لا اثْنَانِ

اللهُ ثَالِثُنَا وَتَلْكَ فَضِيلَةٌ

مَا حَازَهَا إِلا فَتًى عُثْمَانِ

ص: 39

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ التَّالِينَ لِكِتَابِكَ الْعَامِلِينَ بِهِ، الْمُحَلِّلِينَ حَلالَهُ الْمُحَرِمِينَ حَرَامَهُ الْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَوَاهِيهِ الْمُتَّعِظِينَ بِمَوَاعِظِهِ الْمُنْزَجِرِينَ بِزَوَاجِرِهِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَعَانِيهِ الْمُتَدَبِّرِينَ لأَلْفَاظِهِ الْبَاكِينَ الْمُقَشْعِرِينَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ، اللَّهُمَّ اعْفُ عَنْ تَقْصِيرِنَا فِي طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ وَأَدِمْ لَنَا لُزُومَ الطَّرِيقِ إِلَى مَا يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ. وَهَبَ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ، وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدْيتَهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ، اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا التَي هِيَ أَقْرَبُ أَعْدَائِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوّكَ وَاعْصِمْنَا مِنْ الْهَوَى وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَمَكِّنْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَاوألهمنا ذِكْرِكَ وَشُكْرَكَ وَفَرِّج قُلُوبِنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجِهَكَ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ رضي الله عنه، قَالَ: أَيْ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بن مَعْمَرٍ فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبدُ اللهِ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأنَا غُلامٌ اعْقِلُ كُلَّمَا رَأَيْتُ حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيل أَنِّي أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وهم أَنِدَيتُهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ أَلا إِنَّ ابٍنَ الْخَطَّابَ قَدْ صَبَأَ.

قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذِبَ وَلَكْنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لا إله إلا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُؤوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلَحَ: - أي أَعْيَا - فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ

ص: 40

يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاللهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلاثمَائِة رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا.

قَالَ: فَبَيْنَمَا عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَبِرَة وَقَمِيصٌ مَوَشَّى حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ. قَالَ: فَمَه، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا، فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَترَونَ بَنِي عَدِيّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبهُمْ هَكَذَا، خَلُّوا عَنْ الرَّجُلِ.

قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ - أَيْ كُشِفَ عَنْهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتِ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقُوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ قَالَ: وَذَاكَ أَيْ بُنَي الْعَاصُ بن وَائِلٍ السَّهْمِيّ. وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيّ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِي، قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُثْمَانُ بن عَفَانٍ رضي الله عنه أَخَذَهُ عَمُّهُ الْحَكَمُ بْن أَبِي الْعَاصِ بن أُمَيَّةَ فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا، قَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ آبَائِكَ إِلَى دِينٍ مُحْدَثٍ، وَاللهِ لا أَحُلُّكَ أَبَدًا وَلا أَفَارِقَهُ، فَلَمَّا رَأَى الْحَكَمُ صَلابَتُهُ فِي دِينِهِ تَرَكَهُ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ مَسْعُودٍ بن خِرَاشٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِذَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ يَتَّبِعُونَ شَابًا مُوثقًا بِيَدِهِ فِي عُنُقِهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنَهُ؟ قَالُوا: هَذَا طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه صَبَأَ وَامْرَأَةٌ وَرَاءَهُ تُدَمْدِمُ وَتَسُبُّه. قُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: الصِّمَّةُ بِنْت الْحَضْرَميّ أُمُّهُ.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكُ عَنْ إِبْرَاهِيمِ بن مُحَمَّدٍ بن طَلْحَة قَالَ: قَالَ لِي طَلْحَةُ بن عُبَيْد اللهِ رضي الله عنه:: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرى فَإَذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِه يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ هَذَا الْمُوسِم أَفِيهُمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ.

قَالَ طَلْحَةُ رضي الله عنه: نَعَم أَنَا. فَقَالَ: هَلَ ظَهَرَ أحمد بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ

ص: 41