المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سعيد بن عامر الجمحي وخبيب - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٢

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ سعيد بن عامر الجمحي وخبيب

.. وَيَا رَبِّ خَلِّصْنِي مِن النَّارِ إِنَّهَا

لَبِئْس مَقَرّ لِلْغُوَاة وَمَرْجِعُ

أَجِرْنِي أَجِرْنِي يَا إِلَهِي فلَيْسَ لِي

سُوَاكَ مَفَرٌّ أَوْ مَلاذٌ وَمَفْزَعُ

وَهَبْ لِي شِفَاءٌ مِنْكَ رَبِي وَسَيِّدِي

فَمَنْ ذَا الَّذِي للضُّرِّ غَيْرَكَ يَدْفَعُ

فأَنْتَ الَّذِي تُرْجَى لِكَشْفِ مُلَمَّةٍ

وَتَسْمَعَ مُضْطَرًّا لِبَابِكَ يَقْرَعُ

فقَدْ أَعْيتِ الأَسْبَابُ وَانْقَطَعَ الرَّجَا

سِوَى مِنْكَ يَا مَنْ لِلْخَلائِقِ مَفْزَعُ

إِلَيْكَ إِلَهِي قَدْ رَفَعْتُ شِكَايَتِي

وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَاهُ تَدْرِي وَتَسْمَعُ

فَفَرِّجْ لَنَا خَطْبًا عَظِيمًا وَمُعْضِلاً

وَطَرَبًا يَكَادُ الْقَلْبُ مِنْهُ يُصَّدَعُ

وَمَاذَا عَلَى رَبِّي عَزِيزٌ وَفَضْلَهُ

عَلَيْنَا مَدَى الأَنْفَاسِ يَهْمِي وَيَهْمَعُ

فَكَمْ مِنَحٍ أَعْطَى وَكَمْ مِحَنٍ كَفَى

لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرَانُ وَالْمِنُّ أَجْمَعُ

وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ

عَلَى الْمُصْطَفَى مَنْ فِي الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ

اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِين وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ والْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفًا مِنْ كُلّ دَاءٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ "

"‌

‌ سَعِيْدُ بْنُ عَامِرٍ الجُمَحِيُّ وخُبَيْبٌ

"

خُبَيْبٌ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ أَحَدُ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللهِ الثَّابِتِِينَ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَمِمَّنْ حَضَرَهُ يَوْمَ قَتْلِهِ رضي الله عنه سَعِيدُ بن عَامِرِ الْجَمَحِيُّ: خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فِي ظَاهِرَةِ مَكَّة بِدَعْوَةٍ مِنْ زُعَمَاءِ قُرَيْش لِيَشْهَدَ

ص: 62

مَعَهُمْ مَصْرَعَ خُبَيْبٍ بن عُدَيٍّ أَحَدَ صَحَابَةِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ أَنْ ظَفَرَ بِهِ الأَعْدَاءُ الْمُشْرِكُونَ غَدْرًا.

وقَدْ أَقْدَرَهُ اللهُ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ رُؤْيَةِ أَسِيرِ قُرَيْشٍ مُكَبَّلاً بِقُيُودِهِ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ، فَوَقَفَ سَعِيدٌ يَطُلُّ عَلَى خُبَيْبٍ وَهُوَ يُقَدَّمُ إِلَى خَشَبَةِ الصَّلْبِ وَسُمِعَ صَوْتَ خُبَيْبٍِ الثَّابِتُ الْهَادِئُ يَقُولُ إِنْ شَئْتُمْ أَنْ تَتْرُكُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ مَصْرَعِي فَافْعَلُوا.

ثُمَّ نَظَرَ سَعِيدٌ إِلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيُصَلَّي رَكْعَتَيْنِ يَا لِحُسْنِهِمَا وَيَا لِتَمَامِهِمَا وَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلا أَنْ تَظُنُوا أَنِّي أَطَلْتُ الصَّلاةَ جَزِعًا مِنَ الْمَوْت لا اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الصَّلاةِ.

ثُمَّ رَأَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُمَثِّلُونَ بِخُبِيْبٍ حَيًّا وَيَقْطَعُونَ مِنْهُ الْقِطْعَةَ تِلْوَ الْقِطْعَةِ وَيَقُولُونَ لَهُ أَتُحِبّ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ مَكَانَكَ وَأَنْتَ نَاجٍ، فيَقُولُ والدِّمَاء تَنْزِفُ مِنْهُ وَالرُّوحُ تَتَسَلَّلُ مِنْ بَدَنِهِ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ آمِنًا وَادِعًا فِي أَهْلِي وَوَلَدِي وَأَنَّ مُحَمَّدًا يُوخَزُ بِشَوْكَةٍ.

وَلا غُرْوَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفَرَتْ بِهُمْ

كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ

فَحَرْبَةُ وَحْشِيّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى

وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابن مُلْجَمِ

ثُمَّ أَبْصَرَ سَعِيدٍ بن عَامِر خُبَيْبًا وَهُوَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِ خَشَبَةِ الصَّلْبِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا وَلا تُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا. ثُمَّ خَرَجَ رُوحُهُ الطَّيِّبَةُ وَبِهِ الشَيْءُ الْكَبِيرُ مِنْ ضَرَبَاتِ السِّيُوفِ وَطَعَنَاتِ الرِّمَاحِ.

ثُمَّ إِنْ سَعِيدَ أَخَذَ دَرْسًا، فَعَلِمَ أَنَّ الْحَيَاةَ الْحَقْةَ عَقِيدَةٌ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى الْمَوْتَ، وَعَلِمَ أَنَّ الإِيمَانَ الثَّابِتَ لا يُزِلْزِلَهُ شَيْءٌ الْبَتَّة.

وَعَلِمَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي تَبْلُغُ مَحَبَّتُهُ وَالذَّبُّ عَنْهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ إِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ مُؤَيْدٌ مِنَ السَّمَاءِ، عِنْدَ ذَلِكَ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ سَعِيد بن عَامِر لِلإِسْلامِ

ص: 63

فَقَامَ فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ وَأَعْلَنَ بَرَاءَةَ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَهَاجَرَ سَعِيدُ بن عَامِر إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَزَمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدَ مَعَهُ خَيْبَرَ، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْغَزَوَاتِ.

وَلَمَّا تُوُفِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَلَّ سَيْفًا مَسْلُولاً فِي يَدَيْ خَلِيفَتِيِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَا يَعْرِفَانِ لَهُ صِدْقَهُ وَتَقْوَاهُ.

وَلَمَّا آلَتِ الْخِلافَةُ إِلَى عُمَر رضي الله عنه أَتَاهُ سَعِيدُ فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ أُوصِيكَ أَنْ تَخْشَى اللهَ فِي النَّاسِ، وَلا تَخْشَى النَّاسَ فِي اللهِ، وَأَنْ لا يُخَالِفَ قَوْلُكَ فِعْلَكَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ.

يا عُمَر أَقِمْ وَجْهَكَ لِمَن وَلاكَ اللهُ أَمْرُهُ مِنَ بَعِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَقَرِيبِهِمْ، وَأَحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ، وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ وَلا تَخَفْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.

فَقَالَ عُمَر: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَا سَعِيدُ؟ فَقَالَ: يَسْتَطِيعُهُ مِثْلُكَ مِمَّنْ وَلاهُمْ اللهُ أَمْرَ أَمَّةِ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ أَحَدٌ. عِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عُمَرُ سَعِيدًا إِلَى مُسَاعَدَتِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا مُوَلُوكَ حَمْصَ. فَقَالَ: يَا عُمَر نَشَدْتُكَ اللهَ لا تَفْتِنِي. فَغَضَبَ عُمَرُ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ وَضَعْتُمْ هَذَا الأَمْرَ فِي عُنُقِي ثُمَّ تَخَلَّيْتُمْ عَنِّي، وَاللهِ لا أَدَعُكَ ثُمَّ أَلْزَمَهُ بِحِمْص وَقَالَ: أَلا نَفْرِضُ لَكَ رِزْقًا؟ : وَمَا أَفْعَلُ بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ عَطَائِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَزِيدُ عَنْ حَاجَتِي.

ثُمَّ مَضَى وَالِيًا عَلَى حِمْص وَمَا مَضَى إِلا زَمَنٌ يَسِيرُ حَتَّى جَاءَ بَعْضُ أَهْلِ حِمْص إِلَى عُمَر فَقَالَ: اكْتُبُوا أَسْمَاءَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَكُمْ بِحِمْص حَتَّى أَسُدَّ حَاجَتِهِمْ، فَرَفَعُوا لَهُ كِتَابًا فِيهِ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ الْمَوْجُودِينَ بِحِمْص وَمِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ الْمَكْتُوبِينَ سَعِيد بن عَامِرِ الْجَمَحِيّ.

ص: 64

فَقَالَ عُمَر مَنْ سَعِيد بن عَامِرٍ، فَقَالُوا: أَمِيرُنَا. قَالَ: أَمِيرُكُمْ فَقِيرٌ؟ قَالُوا: نَعَم، وَاللهِ إِنَّهُ لَيَمُرُّ عَلَيْهِ الأَيَّامُ الطِّوَالُ، وَلا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ. فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه بُكَاءً شَدِيدًا، حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ.

ثُمَّ عَمِدَ إِلَى أَلْف دِينَارٍ فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ وَقَالَ: اقْرَؤُا عليه السلام وَقُولُوا لَهُ يَسْتَعِينُ بِهَذَا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ فَجَاءُوهُ بِهَا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا وَأَخْبَرُوهُ، جَعَلَ يُبْعِدُهَا عَنْهُ، وَيَسْتَرْجِعُ.

فَجَاءَتْ زَوْجَتَهُ وَقَالَتْ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ أمَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ الدُّنْيَا لِتُفْسِدَ آخِرَتِي وَحَلَّتِ الْفِتْنَةِ فِي بَيْتِي. قَالَتْ: تَخَلَّصَ مَنْهَا. قَالَ: هَلْ تُعِينِينِي عَلَى ذَلِكَ. قَالَتْ: نَعَم. فَوَزَّعَهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

ثُمَّ لَمْ يَمْضِ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً حَتَّى أَتَى عُمَر عَلَى حِمْصٍ يَتَفَقَّدُهَا وَيَسْأَلُ عَنْ أَمِيرِهِمْ وَسِيرَتِهِ مَعَهُمْ، وَهَلْ نَقَمُوا عَلَيْهِ بشَيْء، فَذَكَرُوا أَرْبَعَ:

أحدها: قَالُوا أَنَّهُ لا يخَرَجَ إِلَيْنَا حَتَّى يتَعَالَى النَّهَارَ. فَسَأَلَ عُمَرُ سَعِيدًا: لِمَاذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، وَلَكِنَ حَيْثُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ تَوْضِيحِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لأهْلِي خَادِمٌ فَأَقُومُ الْصُّبْحَ فَأَعْجِنُ لَهُمْ عَجِينَهُمْ، ثُمَّ انْتَظِرَهُ يَخْتَمِرُ، ثُمَّ أَقُومُ فَأَخْبِزَهُ لَهُمْ، ثُمَّ أَتَوَضَّأُ وَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ.

وَأَمَّا الثَّانِيَة: فَقَالُوا: أَنَّهُ لا يُجِيبُ أَحَدًا بِالليْلِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَذْكُرُهُ، وَلَكْن لَمَّا أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ النَّهَارَ لَهُمْ وَلِرَبِّي عز وجل الليْلَ.

قَالَ عُمَر: وَمَا هِيَ الثَّالِثَة؟ قَالُوا: أَنَّهُ لا يخَرَجَ يَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَنَّهُ لَيْسَ لي خَادِمٌ، ولَيْسَ عِنْدِي ثِيَابٌ غَيْرَ التِي عَلَيَّ فَأَنَا أَغْسِلُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّة وَأَنْتَظِرُهَا حَتَّى تَجِفَّ، ثُمَّ أَخْرَجُ إِلَيْهِمْ آخِرَ النَّهَارَ.

ص: 65

وَأَمَّا الرَّابِعَة: فَقَالُوا أَنَّهُ تُصِيبَهُ غَشْيَة فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ فَيَغِيبَ عَمَّنْ فِي الْمَجْلِسِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْهَا فَقَالَ: إِنِّي حَضَرْتُ مَصْرَعَ خُبَيْب بن عَدِيٍّ، وَأَنَا مُشْرِكٌ وَرَأَيْتُ قُرَيْشًا تُقَطِّعُ جَسَدَهُ وَهِيَ تَقُولُ: أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَكَانَكَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ آمِنًا وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَأَنَّ مُحَمَّدًا تَشُوكُهُ شَوْكَة.

فَإِذَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ الْمَشْهَدَ وَأَنَّي لَمْ أَنْصُرُهُ ظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ لا يَغْفِرَ لِي فَتُصِيبَنِي تِلْكَ الْغَشْيَة. ثُمَّ بَعَثَ لَهُ عُمَرُ بِأَلْف دِينَارٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى حَوَائِجِهِ، فَلَمَّا عَلِمَتْ زَوْجَتَهُ قَالَتْ: الْحَمْدُ لله الَّذِي أَغْنَانَا عَنْ خِدْمَتِكَ أشْتَرِ لَنَا مُؤْنَة وَاسْتَأْجِر لَنَا خَادِمًا فَقَالَ لَهَا: وَهَلْ لَكَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: نَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يَأْتِينَا بِهَا وَنَحْنُ أَحْوَجُ مَا نَكُونُ إِلَيْهَا. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: نُقْرِضُهَا اللهُ قَرْضًا حَسَنًا. قَالَتْ: نَعَم وَجُزِيتَ خَيْرًا فَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى وَزَّعَهَا عَلَى الأَيْتَامِ وَالأرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ. فرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ لَقَدْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفِسِهِمْ. أ. هـ باختصار.

شِعْرًا:

وَمَا النَّاس إِلا رَاحِلُونَ وَبَيْنَهُمْ

رِجَال ثَوَتْ آثَارُهُمْ كَالْمَعَالِمِ

بِعِزَّةِ بَأْسٍ وَطَلاعِ بَصِيرَةٍ

وَهَزَّةِ نَفْسٍ وَتَسَاع مَرَاحِم

حُظُوظُ كَمَالٍ أَظْهَرَتْ مِنْ عَجَائِبِ

بِمْرَآتِ شَخْص مَا اخْتَفَى فِي الْعَوَالِمِ

وَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ يَخْتَصُّ نَفْسَهُ

أَلا إِنَّمَا التَّخْصِيصُ قِسْمَةُ رَاحِمٍ

وَمَنْ عَرِفَ الدُّنْيَا تَيَقَّنَ أَنَّهَ

مَطِيَّةُ يَقْظَانٍ وَطِيْفَةُ حَالِمٍ

فَلِلهِ سَاعٍ فِي مَنَاهِجِ طَاعَة

لإِيَلاف عَدْل أَوْ لإتْلافِ ظَالِمِ

اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَاخَلْصْ عَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَمَكْسَبْنَا مِنَ الرِّبَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى طَاعَتِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اعْطِنَا مِنَ الْخَيْرِ فَوْقَ مَا نَرْجُو وَاصْرِفْ عَنَّا مِنَ السُّوءِ فَوْقَ مَا نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجَائِكَ وَاقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فَاسْتُرْهَا، وَتَعْلَمُ

ص: 66

حَاجَاتَنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وَلِِيًّا وَكَفَى بِكَ نَصِيرًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبيلَ عِبَادِكَ الأَخْيَارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِيينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": لِلْبَرْاءِ بن مَالِك الأَنْصَارِيّ أَخُو أَنَسِ بن مَالِكِ خَادِمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْبَراءُ شُجَاعًا قَتَلَ مَائَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُبَارَزَةً وَهُوَ وَحْدُهُ غَيْرَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ فِي غِمَارِ الْمَعَارِكِ مَعَ الْمُحَارِبِينَ.

وَبَعْد أَنْ الْتَحَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى ارْتَدَّ قَبَائِلٌ مِنَ الْعَرَبِ وَخَرَجُوا مِنَ الإِسْلامِِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَهْلُ مَكَّةِ وَالْمَدِينَةِ، وَجَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَة هُنَا وَهُنَاكَ مِمَّنْ ثَبِّتْ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ.

وَصَمَدَ الصَّدِيقُ رضي الله عنه لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْمُدَمِّرَةِ الْعَمْيَاءِ صُمُودَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، وَجَهَّزَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ أَحَدَ عَشَرَ جَيْشًا.

وَعَقَدَ لِقَادَةِ هَذِهِ الْجُيُوشِ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءَ وَدَفَعَ بِهِمْ فِي أَرْجَاءِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِيُعِيدُوا الْمُرْتَدِّينَ إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالْحَقِّ.

وَكَانَ أَقْوَى الْمُرْتَدِّينَ بَأْسًا وَأَكْثَرُهُمْ عَدَدًا بَنُوا حَنِيفَةَ، أَصْحَاب مُسَيْلَمَة الْكَذَّاب فقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ مُسَيْلَمَة مِنْ قَوْمِهِ وَحُلَفَائِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ قَدْ اتَّبَعُوا مُسَيْلَمَة عَصَبِيَّة لا إِيمَانًا بِهِ.

فلِذَلِكَ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ كَذَّابٌ وَمُحَمَّدًا صَادِقٌ لَكِنْ كَذَابَ رَبِيعَة أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ صَادِقِ مُضْرٍ: قَدَرَ اللهُ أَن جَيْشَ مُسَيْلَمَة يَهْزِمُ أَوْلَ جَيْشٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ بِقِيَادَةِ عَكْرِمَة بن أَبِي جَهْلٍ.

فَأَرْسَلَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه جَيْشًا ثَانِيًا بِقِيَادَةِ خَالِدِ بن الْوَلِيدِ حَشَدَ فِيهِ وُجُوهَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.

ص: 67

وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ هَؤلاءِ الْبَرَاءُ بن مَالِكِ الأَنْصَارِي وَنَفَرٌ مِنْ كُُمَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي أَرْضِ الْيَمَامَةِ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ مُسَيْلِمَة وَأَصْحَابِهِ وَزُلْزَلَتْ الأَرْضُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ وَطَفِقُوا يَتَرَاجَعُونَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ حَتَّى اقْتَحَمَ قَوْمُ مُسَيْلَمَة وَمَنْ مَعَهُ فَسْطَاد خَالِدِ بن الْوَلِيدِ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ أُصُولِهِ.

عَنْدَ ذَلِكَ شَعَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَطَرِ الدَّاهِمِ وَأَدْرَكُوا أَنَّهُمْ إِنْ يُهْزَمُوا أَمَامَ مُسَيْلَمَة فَلَنْ تَقُومَ لِلإِسْلامِ قَائِمَةً، وَهَبَّ خَالِدٌ إِلَى جَيْشِهِ فَأَعَادَ تَنْظِيمِهِ فَمَيَّزَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ الأَنْصَارِ، وَمَيَّزَ أَبْنَاء الْبَوَادِي عَنْ هَؤلاءِ وَهَؤلاءِ، وَجمَعَ أَبْنَاءَ كُلَّ أَبٍّ تَحْتَ رَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِيُعْرَفَ بَلاءُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَلْيُعْلَمْ مِنْ أَيْنَ أَتَى الْمُسْلِمُونَ.

ثُمَّ دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ مَعْرَكَةً ضَرُوسٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ، وثَبَتَ قَوْمُ مُسَيْلَمَة فِي سَاحَاتِ الْوَغَى ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَلَمْ يُبَالُوا بِكَثْرَةِ مَا قُتِلَ مِنْهُمْ، وَأَبْدَى الْمُسْلِمُونَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْبُطُولَةِ مَا لَوْ جُمِعَ لكَانَ مَلْحَمَة مِنْ رَوَائِعِ الْمَلاحِمِ.

فَهَذَا ثَابِتٌ بن قَيْس حَامِلُ لِوَاءَ الأَنْصَارِ يَتَحَنَّطُ وَيَتَكَفَّنُ وَيَحْفُرُ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً فِي الأَرْضِ فَيَنْزِلُ فِيهَا إِلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَيَبْقَى ثَابِتًا يُجَالِدُ عَنْ رَايَةِ قَوْمِهُ حَتَّى خَرَّ صَرِيعًا شَهِيدًا.

وَهَذَا زَيْدُ بن الْخَطَّابِ أَخُو عُمَر رضي الله عنهما يُنَادِي فِي الْمُسْلِمِينَ أَيُّهَا النَّاسُ عُضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ وَاضْرِبُوا فِي عَدِوِّكَمْ وَامْضُوا قُدُمًا، أَيُّهَا النَّاسُ وَاللهِ، لا أَتَكَلَّمُ بَعَدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبَدًا حَتَّى يُهْزَم مُسَيْلَمْة أَوْ أَلْقَى اللهُ فَأُدْلِي إِلَيْهِ بِحُجَّتِي، ثُمَّ كَرَّ عَلَى قَوْمِهِ فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ حَتَّى قُتِلَ.

وَهَذَا سَالِمُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة يَحْمِلُ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ فَيَخْشَى عَلَيْهِ قَوْمُهُ أَنْ

ص: 68

يَضْعَفَ أَوْ يَتَزَعْزَعَ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا لَنَخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلَكَ فَقَالَ: إِنْ أُتِيتُمْ مِنْ قِبَلِي فَبِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنُ أَكُونُ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ كَرَّةً بَاسِلَةً حَتَّى أُصِيبَ.

فَلَمَّا رَأَى خَالِدُ أَنَّ الْوَطِيسَ حَمَى وَاشْتَدَّ الْتَفَتَ إِلَى الْبَرَاءِ بن مَالِك وَقَالَ: إِلَيْهِمْ يَا فَتَى الأَنْصَارِ، فَالْتَفَتَ الْبراءُ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لا يُفَكِّرَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى يَثْرِبَ، فَلا مَدِينَةَ لَكُمْ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجَنَّة.

ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الأَعْدَاءِ وَحَمَلُوا مَعَهُ وَانْبَرَى يَشُقُّ الصُّفُوفَ، وَيَعْمَلُ السَّيْف فِي رِقَابِ أَعْدَاءِ اللهِ حَتَّى زُلْزِلَتْ أَقْدَامُ مُسَيْلَمَةٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَجَؤُوا إِلَى الْحَدِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَدِيقَةِ الْمَوْتِ لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَغْلَقَ مُسَيْلَمَةُ وَآلافٌ مَعَهُ مِنْ جُنْدِهِ الأَبْوَابِ وَتَحَصَّنُوا بِعَالِي جُدْرَانِهَا وَجَعَلُوا يُمْطِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِنِبَالِهِمْ مِنْ دَاخِلِهَا فَتَتَسَاقَطُ عَلَيْهمْ تَسَاقُطَ الْمَطَر.

عَنْدَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ الْبَرَّاءُ بن مَالِكٍ وَقَالَ: يَا قَوْمِ ضَعُونِي عَلَى تِرْسٍ وَارْفَعُوا التِّرْسَ عَلَى الرِّمَاحِ ثُمَّ اقْذِفُونِي بِالْحَدِيقَةِ قَرِيبًا مِنْ بَابِهَا فَأَمَّا أَنْ أُسْتشهدَ وَإمَّا أَنْ أَفْتَحَ الْبَابَ. وَفِي زَمَنٍ يَسِيرٍ جَلَسَ الْبراءُ عَلَى التِّرْسِ وَرَفَعَتْهُ الرِّمَاحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حَدِيقَةِ الْمَوْتِ قُرْبَ الْبَابِ بَيْنَ الآلافِ الْمُؤَلَّفَة مِنْ جُنْدِ مُسَيْلَمَةٍ.

فَنَزَلَ عَلَيْهُمْ نُزُولَ الصَّاعِقَة فَجَالَدَهُمْ أَمَامَ بَابِ الْحَدِيقَةِ حَتَّى قَتَلَ عَشْرَةً مِنْهُمْ، وَفَتَحَ الْبَابَ لِلْمُسِلِمِينَ وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةٌ فَتَدَفَّقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْحَدِيقَةِ مِنْ حِيطَانِهَا وَأَبْوَابِهَا وَاعَمَلُوا السِّيُوفَ فِي رِقَابِ الْمُرْتَدِينَ حَتَّى قَتَلَوا مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا وَوَصَلُوا إِلَى مُسَيْلَمَة الْكَذَّابِ فَقَتَلُوهُ.

ثُمَّ حَمَلُوا الْبَرَاءَ بن مَالِكٍ إِلَى رَحْلِهِ لَيُدَاوَى فِيهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ خَالِدُ بن الْوَلِيد شَهْرًا يُعَالِجَهُ حَتَّى أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالشِّفَاءِ وَظَلَّ الْبراءُ بَعْدُ ذَلِكَ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَتَّى فَتَحَ تَسْتر مِنْ بِلادِ الْفُرْسِ فِي إِحْدَى الْقِلاع الْمُمَرَّدَة.

ص: 69

فَحَاصَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَأَحَاطُُوا بِهُمْ فَلَمَّا طَالَ الْحِصَارُ وَاشْتِدَّ الْبَلاءُ عَلَى الْفُرْسِ جَعَلُوا يَدُلُّونَ مِنْ فَوْقِ أَسْوَارِ الْقَلْعَةِ سَلاسِلَ مِنْ حَدِيدٍ عُلِّقَتْ بِهَا كَلالِيب مِنْ فُولاذٍ حُمِيَتْ بِالنَّارِ فَكَانَتَ تَنْشِبُ فِي أَجْسَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِقُ بِهُمْ فَيَرْفَعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ إِمَّا مَوْتَى وَإِلا عَلَى الْمَوْتِ فَعَلَقَ كَلُوبٌ مَنْهَا بِأَنَس بن مَالِكِ أَخِي الْبَرَاءِ بن مَالِكِ.

فَوَثَبَ الْبَراءُ عَلَى جِدَارِ الْحِصْنِ وَأَمْسَكَ السِّلْسِلَةَ الَّتِي مَسَكَتْ أَخَاهُ وَجَعَلَ يُعَالِجُ الْكِلابَ لِيُخْرِجَهُ مِنْ جَسَدِ أَخِيهِ وَأَخَذَتْ يَدَاهُ تَحْتَرِقُ فَلَمْ يُبَالِ إِلَى أَنْ خَلَّصَ أَخَاهُ وَهَبَطَ إِلَى الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ يَدَهُ عِظَامًا لَيْسَ عَلَيْهَا لَحْمٌ ثُمَّ دَعَا الْبَراءُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ فَأَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَاسْتَشْهَدَ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ. أ. هـ، بِاخْتِصَارٍ مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

شِعْرًا:

لَهْفِي عَلَى سُرِجَ الدُّنْيَا الَّتِي طُفِئَتْ

وَلا يَزَالُ لَهَا فِي النَّاسِ أَنْوَارُ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا

وَهَكَذَا طَالِبُ الْعَلْيَاءِ صَبَّارُ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا

بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابُوا وَلا مَارُوا

مَالُوا يَمِينًا عَنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا

لأَنَّهَا فِي عُيُونِ الْقَوْمِ أَقْذَارُ

وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادِ قُلُوبِهِمْ

طَيْرٌ لَهَا فِي ظِلالِ الْعَرْشِ أَوْكَارُ

اللَّهُمَّ قَوِّ مَحَبَتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلنَا هُدَاهً مُهْتَدِينَ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ حَرْبًا لأَعْدَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتِغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزِيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 70

" قِصَة "

لأُمِّ سَلَمَة وَمَا حَصلَ لَهَا مِنَ الأَذَى

اسْمَهَا هِنْدُ بنْتُ أَبِي أمية سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ مَخْزُومٍ الْمَرْمُوقِينَ وَجَودًا يُقَالَ لَهُ زَادَ الرَّاكِبِ لأَنَّهُ إِذَا سَافَرَ لا يَتْرُكُ أَحَدًا يُرَافِقَهُ وَمَعَهُ زَادٌ بَلْ يَقُومُ بِرِفْقَتِهِ مِنَ الزَّادِ، وَزَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدُ اللهِ بن عَبْدَ الأَسَدِ أَحَدُ الْعَشْرَةِ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلامِ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَهُ إِلا أَبُو بَكْرٍ وَنَفَرٌ قَلِيلٌ.

أَسْلَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مَعَ زَوْجِها فَكَانَتْ هِيَ الأُخْرَى مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الإِسْلامِ، وَلَمَّا شَاعَ خَبَرُ إِسْلامِهَا هَاجَتْ قُرَيْشٌ وَجَعَلَتْ تَصُبُّ عَلَيْهِمَا الأَذَى الشَّدِيدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ بِهِمَا وَلَمْ يُزَلْزِلْهُمَا وَلَمْ يَتَرَدَّدَا.

وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الأَذَى وَأَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَا فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَمَضَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا إِلَى دِيَارِ الْغُرْبَةِ وَخَلَّفَتْ وَرَاءَهَا فِي مَكَّةٍ بَيْتَهَا الْفَسِيحِ الْعَالِي، وَعِزَّهَا الشَّامِخُ، وَأقْرِبَائِهَا وَمَالَهَا مُحْتَسِبَةً الأَجْرَ مِنَ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ مُحْتَقِرَةٌ مَا تَرَكَتْ فِي جَانْبِ مَرْضَاةِ اللهِ.

وَبِالرَّغْمِ مِمَّا حَصُلَ لأُمِّ سَلَمَةَ وَمَنْ هَاجَرَ مَعَهَا مِنَ الْحَفَاوَةِ وَالإِكْرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، فقَدْ كَانَ الشَّوْقُ يَحْدُوهَا إِلَى مَهْبَطِ الْوَحْي وَإِلَى النَّبِيِّ الْكّرِيمِ.

ثُمَّ تَتَابَعَتْ الأَخْبَارِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ قَدْ كَثُرُوا وَاقْتَوُوا وَعُزُّوا، وَأَنَّ إِسْلامَ حَمْزَةَ وَعُمَرَ بن الْخَطَّابِ قَدْ شَدَّ أَزْرَهُمْ وَكَفْكَفَ شَيْئًا مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.

فَعَزَمَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى مَكَّةِ يَحْدُوهُمْ الشَّوْقُ وَيَدْعُوهُمْ الْحَنِينَ، فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَة وَزَوْجُهَا مَعَ الْعَازِمِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ.

لَكْنْ سُرْعَانَ مَا تَبَيْنَ لِلْعَائِدِينَ أَنَّ مَا نُقِلَ لَهُمْ مِنَ الأَخْبَارِ أَنَّهُ كَانَ مُبَالَغًا

ص: 71

فِيهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَابَلُوا زِيَادَةً الْقُوةِ وَالْعِزَّةِ بِالتَّهَوْرِ وَالتَّفَنُنِ فِي التَّعْذِيبِ وَتَرْوِيعِهِمْ وَإِزْعَاجِهِمْ وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ.

عَنْدَ ذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَعَزَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَكِنَّ هِجْرَتَهُمَا لَمْ تَكُنْ كَمَا ظَنَّا أَنَّهَا سَهْلَةٌ بَلْ كَانَتْ صَعْبَةً عَسِرَةً خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا مَأْسَاةً تَهُونُ دُونَهَا كُلَّ مَأْسَاةٍ.

قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَمَّا عَزَمَ أَبُو سَلَمَة عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعَدَّ لِي بَعِيرًا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَجَعَلَ طَفْلَنَا سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، وَمَضَى يَقُودُ بِنَا الْبَعِيرَ، وَهُوَ لا يَلْوي عَلَى شَيْء، وَقَبْلَ أَنْ نََفْصِِلَ عَنْ مَكَّةَ رَأَنَا رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَتَصَدُّوا لَنَا.

وَقَالُوا لأَبِي سَلَمَة: إِنْ كُنْتَ قَدْ غَلَبْتَنَا عَلَى نَفْسِكَ فَمَا بَالُ امْرَأَتَكَ وَهِي بِنْتِنَا، فَعَلامَ نَتْرُكُكَ تَأْخُذهَا مِنَّا وَتَسِيرُ بِهَا ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَانْتَزَعُونِي، وَمَا إِنْ رَآهُمْ قَوْمَ زَوْجِي بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ يَأْخُذُونَنِي أَنَا وَطِفْلِي حَتَّى غَضِبُوا غَضَبًا شَدِيدًا.

وَقَالُوا: لا وَاللهِ لا نَتْرُكَ الْوَلَدَ عِنْدَ صَاحِبَتْكُمْ بَعْدَ أَنْ انْتَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا انْتِزَعًا فَهُوَ ابْنُنَا وَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ طَفِقُوا يَتَجَاذَبُونَ الطِّفْلَ بَيْنَهُمْ حَتَّى ضَرُّوا يَدَهُ وَأَخَذُوهُ.

وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وَحِيدَةً فَرِيدَةً فَزَوْجِي اتَّجَهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِي اخْتَطَفَهُ بَنُو عَبْدِ الأسَدِ مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ خَطْفًا مُحَطَّمًا مُهَيَّضًا.

أَمَّا أَنَا فقَدْ اسْتَوْلَى عَليَّ بَنُو مُخْزُومٍ قَوْمِي وَجَعَلُونِي عِنْدَهُمْ فَفَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابَنِي فِي سَاعَةٍ قَالَتْ، وَمَنْ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَخْرَجَ كُلَّ غَدَاةٍ إَِلَى الأَبْطَحِ

ص: 72

فَأَجْلِسُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَهِدَ مَأْسَاتِي، وَاسْتَعِيدُ فِيهَا صُورَةَ اللحَظَاتِ الَّتِي حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَوَلَدِي فِيهَا.

وَأَظَلُّ أَبْكِي حَتَّى يُخَيَّمَ عَلَيَّ الليلِ وَبَقِيتُ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، قَالَتْ: إِلَى أَنْ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بِنِي عَمِّي فَرَقَّ لِحَالِي وَرَحِمَنِي، قَالَ لِبَنِي قَوْمِي: أَلا تَطْلِقُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَوَلَدِهَا وَمَا زَالَ بِهُمْ حَتَّى قَالُوا لِي: الْحِقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شَئْتِ.

قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَكِنْ كَيْفَ لِي أَنْ أَلْحِقْ بِزَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ وَاتْرُكُ فَلِذَةَ كَبْدِي وَلَدِي فِي مَكَّة عِنْدَ بَنِي عَبْد الأَسَدِ. قَالَتْ: وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ مَا أُعَالَجُ مِنْ أَحْزَانٍ وَأَشْجَانٍ فَرَقَّتْ قُلُوبُهُمْ لِحَالِي وَكَلَّمُوا بَنِي عَبْد الأَسَد فِي شَأْنِي وَاسْتَعْطَفُوهُمْ عَلَيَّ فَرَدُّوا لِي وَلَدِي سَلَمَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَأَعْدَدْتُ بَعِيرِي وَوَضَعْتُ وَلَدِي فِي حِجْرِي وَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الْمَدِينَةِ أُرِيدُ زَوْجِي وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.

قَالَتْ: وَمَا وَصَلْتُ التَّنْعِيمَ حَتَّى لَقِيتُ عُثْمَانَ بن طَلْحَة فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ زَادَ الرَّاكِبِ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ. قَالَ: أَمَا مَعَكِ أَحَدٌ؟ قُلْتُ: لا وَاللهِ إِلا الله. ثُمَّ ابَنِي هَذَا. قَالَ عثمانُ: وَاللهِ لا أَتْرُكِكِ أَبَدًا حَتَّى تَبْلُغِي الْمَدِينَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: ثُمَّ أَخَذَ بِخُطَامِ بَعِيرِي وَانْطَلَقَ يَهْوِي بِي قَالَتْ: فوَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ وَلا أَشْرَفَ وَسَارَ مَعِي حَتَّى بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ.

فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقَرْيَة بِقِبَاء لِبَنِي عَمْرُو بن عَوْفٍ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَة فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّة وَنَزَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَقَرَّتْ عَيْنُهَا بِهِ وَبِوَلَدِهَا.

ثُمَّ بَعْدُ ذَلِكَ شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ بَدْرًا وَعَادَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ انْتَصَرُوا نَصْرًا مُؤْزَّرًا، وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَبْلَى بَلاءً حَسَنًا، لَكِنَّهُ خَرَجَ مَنْهَا وَقَدْ جُرِحَ

ص: 73

جُرْحًا بَلِيغًا فَمَا زَالَ يُعَالِجَهُ حَتَّى تَوَارَى لَهُ أَنَّهُ قَدْ انْدَمَلَ وَالْتَأَمَ.

لَكِنِ الْجُرْحُ كَانَ بِنَاؤهُ عَلَى فَسَادٍ، فَمَا لَبِثَ أَنْ نَفَرَ وَالْزَمَ أَبَا سَلَمَة الْفَرَاش.

وَبَيْنَمَا أَبُو سَلَمَة يُعَالِجُ جَرْحَه قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا أُمَّ سَلَمَة سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

«لا يُصِيبُ أَحَدًا مُصِيبَةً فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ ذَلِكَ ويَقُولُ: «اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسِبُ مُصِيبَتِي هَذِهِ، اللَّهُمَّ اخُلُفْنِي خَيْرًا مَنْهَا إِلا أَعْطَاهُ اللهُ عز وجل» .

وَظَلَّ أَبُو سَلَمَةَ عَلَى فراشِ مَرَضِهِ أَيَّامًا وَفِي ذَات صَبَاحٍ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْتِهِ لِيَعُودُهُ، فَلَمْ يَكَدْ يُجَاوِزُ بَابَ الدَّارِ حَتَّى فَارَقَ أَبُو سَلَمَةَ الْحَيَاةَ.

فَأَغْمَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا سَلَمَةَ وَقَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ اتْبَعَهُ الْبَصَرُ وَرَفَعَ صلى الله عليه وسلم طَرْفُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَة وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ وَافْسَحْ لَهُ قَبْرَهُ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . ثُمَّ مَا كَادَتْ تَخْرُجُ مِنْ حِدَادٍ حَتَّى تَتَابَعَ عَلَيْهَا الْخُطَّاب فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَأَبَتْ أَنْ تَسْتَجِيبَ لَهُ. ثُمَّ تَقَدَمَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَرَدَّتْهُ كَمَا رَدَّتْ صَاحِبَهُ.

ثُمَّ تَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيَّ خِلالاً ثَلاثًا فَأَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَرَى شَيْئًا مِنِّي يُغْضِبُكَ فَيُعَذِّبُنِي اللهُ.

وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا امْرَأَةٌ ذَاتَ عِيالٍ.

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غِيرتكِ فَإِنِّي أَدْعُو اللهَ عز وجل أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ فِي السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الَّذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي» .

ثُمَّ تَزَوَّجُهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهَا وَاخْلَفَهَا خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَة.

ص: 74

ومُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْم لَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَط، بَلْ كَانَتْ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهَا. أ. هـ.

اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَادْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَاجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَيَا وَيْحَ مَنْ شَبَّتْ عَلَى الزَّيْغِ نَفْسُهُ

إِلَى أَنْ دَهَاهَا الشَّيْبُ وَهُوَ نَذِيرُ

وَمَاتَ وَمَا لاقَى سِوَى الْخِزْي وَالشَّقَا

وَوَبَّخَهُ بَيْنَ الْقُبُورِ نَكِيرُ

وَلاقَى إِلَهَ الْعَرشِ فِي ثَوْبِ حَسْرَةٍ

وَقَدْ كَانَ فِي ثَوْبِ الْغُرُورِ يَدُورُ

فَقَالَ خُذُوهُ لِلْجَحِيمِ مُكَبَّلاً

وَصِلُوهُ نَارًا إِنَّهُ لَكَفُورَ

وَيَا فَوْزَ مَنْ أَدَّى مَنَاسِكَ دِينِهِ

وَعَاشَ سَلِيمُ الْقَلْبِ وَهُوَ طَهُورُ

وَتَابِعَ دِينَ الْحَقِّ فِقْهًا وَحِكْمَةً

وَلَبِّي نَدَاءَ اللهِ وَهُوَ شَكُورُ

فهَذَا الَّذِي فِي الْخُلْدِ يَنْعَمُ بَالُهُ

وَتَحْظَوْا بِهِ بَيْنَ الأَرَائِكِ حُورُ

فَلا تُهْمِلُوا يَا قَوْمِ آدَابَ دِينِكُمْ

فَهَجْرُ طَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ فُجُورُ

وَمَا الْعَيْشُ إِلا غَمْضَةٌ وَالْتِفَاتِةٌ

وَحُلْوُ أَمَانِي فَوْتُهَنَّ مَرِيرُ

وَمَا الْمَرْءُ إِلا طَائِرٌ وَجَنَاحُهُ

مُرُووْ لَيَالِي الْعُمْرِ وَهُوَ قَصِيرُ

وَمَا الْمَوْتُ إِلا جَارِحٌ لا يَعُوقُهُ

إِذَا انْقَضَّ بُنْيَانٌ عَلا وَقُصُورُ

وَرَامِي الْمَنَايَا لا تُرَدُّ سِهَامُهُ

سَوَاءٌ لَدَيْهَا حَاكِمٌ وَحَقِيرُ

وإنَّا وَإِنْ عِشْنَا زَمَانًا مُطَوَّلاً

وَطَابَ لَدَيْنَا الْعَيْشَ وَهُوَ نَظْيرُ

فَبَطْنُ الثَّرَى حَتْمًا مَحَطُ رِحَالِنَا

وَهَلْ ثَمَّ حَيٌّ مَا حَوَتْهُ قُبُورُ

وَيَا لَيْتَهَا كَانَتْ نِهَايَةُ ضَعْنِنَا

وَلَكِنَّ عُقْبَى الظَّاعِنِينَ نُشُورُ

ص: 75

.. وَحَشْرٌ مُهَوَّلٌ وَازْدِحَامٌ بِمَوْقِفٍ

عَلَى كُلِّ إِخْوَانِ الضِّيَاع عَسِيرُ

وَمَصْرَفُهُ سِجْنٌ لِمَنْ عَاشَ لاهِيًا

بِهِ لَهَبٌ يَشْوِي الحَشَا وَسَعِيرُ

وُخُضْرُ جِنَانِ لِلَّذِي مَاتَ تَائِبًا

وَكَانَ لَهُ فِي الدَّاجِيَاتِ زَفِيرُ

فَلا تُسْلِمُوا لِلنَّارِ حَرَّ وُجُوهِكُمْ

وَلا تُغْضِبُوا الرَّحْمَنَ فَهُوَ غَيُورُ

وَتُوبُوا إِلَيْهِ وَاسْأَلُوهُ حَنَانَهُ

فَوَاللهِ رَبِّي إِنَّهُ لَغَفُورُ

وَلا يَغْتَرِرْ ذُو الْجَاهِ مِنْكُمْ بِجِاهِهِ

فَأَكْبَرُ عَاتٍ فِي الْمَعَادِ حَقِيرُ

وَعَنْ جَاهِهِ وَالْمَال مَنْ مَاتَ

خَارِجٌ وَأَغْنَى غَنِيٍ إِذْ يَمُوتُ فَقِيرُ

وَلا تُلْهِكُمْ دُنْيًا أَبَادَتْ وَأَهْلَكَتْ

مُلُوكَ قُرُونٍ عَدُّهُنَّ كَثِيرُ

وَإِنَّا وَإِنْ كَانَتْ أَسَافِلُ قَوْمَنَا

تَسَاوَى لَدَيْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَفُورُ

وَبَاعُوا بِدُنْيَاهُمْ فَضَائِلَ دِينِهِمْ

وَفَاسِقُهُمِ لِلْمَاكِرِينَ نَصِيرُ

فقَدْ أَسْخَطُوا الرَّحْمَنَ حَتَّى أَهَانَهُمْ

وَلَيْسَ لَهُمْ لِلإِنْتِقَامِ شُعُورُ

فَمِنَّا أُنَاسَ فِي الدَّيَاجِي نَوَاحُهُمْ

تَبين لَهُمْ عِنْدَ البُكَاء صُخُورُ

يُنَادِوْنَ يَا رَحَمْنَ لُطْفًا فَإِنَّنَا

عَهِدْنَاكَ عَطْفًا لِلْمَلْهُوفِ تُجِيرُ

فَيَا مُصْلِحَ الأَحْوَالِ جَمِّلْ شُؤُونَنَا

فأَنْتَ لإِِصْلاحِ الشُّؤُونِ جَدِيرُ

وأَنْتَ إِلَهُ الْعَالَمِينَ بَأَسْرِهِمْ

وَأَنْتَ سَمِيعٌ عَالِمٌ وَبَصِيرُ

فَلا يَأْسَ إِذْ أَنْتَ الْقَدِيرُ وَكُلُّ مَنْ

تَوَلاهُ يَأْسٌ مِنْكَ فَهُوَ كَفُورُ

وَصَلَّ وَسَلِّمْ يَا إِلَهِي تَفَضُّلاً

عَلَى مَنْ بِذِكْرَاهُ الْقُلُوبُ تُنِيرُ

مُحَمَّدُ قُطْبُ الْمَرْسَلِينَ وَمَنْ رَحَى

رِسَالَتِهِمْ جَمْعًا عَلَيْهِ تَدُورُ

اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَعَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 76