الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومرجحات مِنْهَا إِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الله جَلَّ وَعَلا قَدْ عَصَمَكَ من المعاصي وَكَرَّهَهَا إليكَ وَوَفَّقَكَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِن الطاعات التي أمركَ بِهَا تَرَجّح عِنْدَكَ الْقُبُول لا تَتَهَاون بالذنب الصغير وانظر إِلَى مَن عَصَيْتَ رَبًّا عَظِيمًا السماوات والأَرْض جميعًا قبضتُه يوم القيامة.
شِعْرًا:
…
أَفَقْ مِنْ غَفْلَةِ الآمَالِ تَسْلَمْ
…
وَقُمْ للهِ أَوَّابًا مُطِيعَا
وَخَالِفْ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ
…
وَنَفْسِكَ وَالْهَوَى نُمَّ الرَّقِيعَا
فَنِعْمَ الْعَبْدُ أَنْتَ بِغَيْرِ شَكٍّ
…
إِذَا أَصْبَحْتَ لِلدَّاعِي سَمِيعَا
بَصِيرًا بِالْعَوَاقِبِ فِي أُمُورٍ
…
بِهَا أَحْسَنْتَ مَا عِشْتَ الصَّنِيعَا
تَمَسَّكْ بِالشَّرِيعَةِ وَاحْتَرِمْهَا
…
تَنَلْ مِنْ فَضْلِهَا الشَّرَفَ الرَّفِيعَا
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.
(فَصْلٌ)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ
آفَةُ الْكِبْرِ
عَظِيمَةٌ وَفِيهِ يَهْلِكُ الْخَوَّاصُ وَقَلَّمَا يَنْفَكُ عَنْهُ الْعُبَّاد وَالزُّهَادُ وَالْعُلَمَاءُ وَكَيْفَ لا تعظم آفُتُهُ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَإِنَّمَا صَارَ حِجَابًا دُونَ الْجَنَّة لأَنَّهُ يحول بين الْعَبْد وبين أَخْلاق الْمُؤْمِنِينَ لأن صاحبه لا يقدر أنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فلا يَقْدِرُ على التَّوَاضُعِ وَلا عَلَى تَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغَضَبِ وَلا عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَقُبُولِ النُّصْحِ وَلا يَسْلِمْ مِنْ الازْدِرَاءِ وَالاحْتِقَارِ لِلنَّاسِ وَاغْتِيَابِهِمْ فَمَا مِنْ خُلُقٍ شَيْءٍ ذَمِيمٍ إِلا وَهُوَ مُتَّصِف به ومُضْطَرٌ إِلَيْهِ وَقَدْ شَرَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الْكِبْر فقَالَ: «الْكِبْر بَطَر الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ يَدْعُوا إِلَى الْكِبْرِ تَتَوَلَّدُ الآفَاتُ الْكَثِيرَةُ وَهَذَا مَعَ الْخَلْقِ فَأَمَّا مَعَ الْخَالِقِ فَإِنَّ الْعُجْبَ بِالطَّاعَاتِ نَتِيجَةِ اسْتِعْظَامُهَا فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا وَيَنْسَى فَضْلَ اللهِ وَنِعْمَتَه عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لَهَا وَيَعْمَى عَنْ آفَاتِهَا الْمُفْسِدةِ لِهَا.
نَظَرَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وَالٍ ظَالِم استقبلهَ النَّاسُ بِالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ سُرُور الدُّنْيَا وَخِزْي الآخِرَة.
وَقَالَ آخر: إنما هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطِهِمْ الظُّلْم حَتَّى يفتدى مِنْهُمْ.
كَانَ عُمر بن عَبْد الْعَزِيز يجعل كُلّ يوم من ماله دِرْهَمًا فِي طعام الْمُسْلِمِين الفقراء ويأكل معهم.
وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه ألا وإنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ كَافِلِ الْيَتِيم إِنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوف.
ودخل بَعْضهمْ على سلمان الفارسي رضي الله عنه وَهُوَ والٍ على المدائن فوجَدَهُ يَعْمَل الخُوصَ بِيَدِه يُسَوِّي مِنْهُ قُفَفًا لِيَبِيعَهَا وَيَتَقَوَّتُ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ: تَعْمَلُ هَذَا وَأَنْتَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدَائِن وَيَجْرِي عَلَيْكَ الرِّزْقَ.
فَقَالَ سلمان رضي الله عنه: إِنِّي اشْتَرِي بدرهم خوصًا (سَعَفُ النخل) فأعمله قُفَفًا فأبيعه بثلاث.
أُنْفِقُ دِرْهَمًا عَلَيَّ وَعَلَى عِيَالِي وَأَتَصَدَّق بِدِرهمٍ وَأُعِيدُ دِرْهَمًا فِيهِ وَاللهِ إنِّي أحِبُّ أَنْ آكل مِنْ عَمَلِ يَدِي.
ورآه بَعْض النَّاس فِي الطَرِيق وظنه من جملة الْحَمَامِيل الْفُقَراء فقَالَ: احْمِلْ لي هَذَا فَحَمَلَ لَهُ أَمْتِعَتَهُ وَمَشِيَ مَعَهُ فِي السُّوق، وَكُلَّما صَادَفَ إِنْسَانًا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِير وَالْمَقَاضِي عَلَى رَأْسِهِ فَاسْتَغْرَبَ الرَّجُلَ ذَلِكَ وَخَجَلَ مِنْهُ وَقَالَ لِسَلْمَانَ: مَن الأَمِير؟ قَالَ: أَنَا. فَأَخَذَ يَعْتَذِرُ وَيَطْلُبه السَّمَاحَ وَيَقُولُ: أَعْطِني مَتَاعِي جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا.
قَالَ: لا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ أَنَا خَادِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَى إِلا أَنْ يُوصِلَ الأَمْتِعَةِ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِهَا.
قِيْلَ لِعُمَرَ بن عَبْدِ الْعَزِيز جَزَاكَ اللهُ عَن الْمُسْلِمِين خَيْرًا فقَالَ: بَلْ جَزَى الْمُسْلِمِين عَنِّي خَيْرًا.
وَأَتَى إِلَيْهِ مَظْلُومٌ مِنْ الْيَمَنِ فَكَتَبَ لِعَامِلِهِ بِالْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ حَقَّهُ وَيُنْصِفَه مِمَّنْ ظَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَظْلُومِ: كَمْ نَفَقَتُكَ مِن الْيَمَنِ إِلَى هُنَا وَهَلْ بَلي مِنْ أَثْوَابِكَ شَيْء ثُمَّ دفعها إليه.
وَأَتَى إِلَيْهِ فَقِير وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَدَّتْ بِي الْحَاجَةُ وَبَلَغَتْ بِي الْفَاقَةُ واَللهُ سَائِلُكَ عَنْ مَقَامِي هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَبَكَى عُمَر حَتَّى بَلَّ الْقَضِيبَ الَّذِي يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَقَالَ: كَمْ عِيَالكَ؟ قَالَ: خَمْسَة أَنَا وَامْرَأَتِي وَثَلاثَةُ أَوْلاد. فقَالَ عُمَرُ: فَرَضْنَا لَكُمْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي الشَّهْرِ وَنَأْمُرُ لَكَ بِخَمْسِمَائَةِ دِرْهَمْ مَائتين مِنْ مَالِي وَثَلاثمائة مِنْ مَالِ اللهِ حَتَّى تَتَبَلَّغَ بِهَا حَتَّى يَخَرَجَ عَطَاؤك.
وَقُدِّمُ لَهُ هَدِيَّةٍ وَقَالُوا لَهُ: أقْبَلْهُاَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةِ، فقَالَ: كَانَتْ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم هَدِيَّة وَهِيَ الآنَ لَنَا رِشْوَة وَرَفَضَهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : بَعْدَ الصُّلْحِ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالرُّوم قَدَّمَ قَائِدٌ رُومَانِي طَعَامًا فَاخِرًا لأَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَتُطْمِعُونَ الْجُنْدَ مِثْلَ هَذَا. قَالَ: لا.
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْنَا بِئْسَ أَبُو عبيدة وَقَدْ صَحِبَهُ جُنْدٌ مِن بِلادِهِمْ لِيُهْرِقُوا دِمَاءَهُمْ أَوْ لم يُهْرِقُوا فَاسْتَأْثَرَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ بشَيْء لا نأكل إلا مِمَّا يأكلون.
رَكَبَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بنُ عِيسَى الظَّالِم فِي مَوْكِبٍ عَظِيم فَقَالَ النَّاس: مَنْ هَذَا مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ امرأةٌ: لِمَ تَقُولُونَ مَنْ هَذَا. هَذَا عَبْدٌ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ فَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللهِ تَعَالَى فَابْتَلاهُ اللهُ بِمَا تَرَوْنَ فَرَجَعَ الْوَزِيرُ إِلَى مَكَّة تَائِبًا مُجَاوِرًا.
كَتَبَ وَالٍ لِعُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إِنَّ قَوْمًا اخْتَلَسُوا مَالَ الدَّوْلَةِ فَأْذَنْ لِي فِي
عِقَابِهِمْ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ لا تَظُنَّ أَنَّ رِضَائِي عَلَيْكَ وَمَشُورَتِي تُنْجِيكَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، لِذَا مِنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ فَجَازِهِ بِمَا يَسْتَحِق وَمَنْ أَنْكَر فَاسْتَحْلِفه وخلِّ سَبِيلَهُ فَلَعُمْرِي لأَنْ يلقَوُا اللهَ بِخِيَانَتِمِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُلْقَى اللهَ بِدِمَائِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَهلك مَنْ كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطهم الظُّلْمِ حَتَّى يُفْتَدَى مِنْهُمْ.
(موعظة)
عِبَادَ اللهِ سُرُورَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَعْبُرُون الْقَنَاطِرَ وَيَأْمَنُونَ الْعَوَاثِرَ فَذَلِكَ يَوْمُ عِيدِهِمْ وَمَا دَامُوا فِي دَارِ الْغُرُورِ فَلا غِبْطَةَ وَلا سُرُورَ.
وَأَيَّ سُرُورٍ لِمَنْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَاصِيَتِهِ وَالذُّنُوبُ رَاسِخَةٌ فِي آنِيَتِهِ وَالنَّفْسُ تَقُودُهُ إِلَى هَوَاهَا وَالدُّنْيَا تَتَزَيَّنُ فِي عَيْنِهِ بِمُشْتَهَاهَا.
وَالشَّيْطَانُ مُسْتَبْطِنٌ فَقَارَ ظَهْرِهِ لا يَفْتَرُ عَنْ الْوَسْوَسَةِ فِي صَدْرِهِ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ بعَرْضِهِ لِلْحَوَادِثِ وَلا يَدْرِي فِي كُلِّ نَفَسٍ مَا عَلَيْهِ حَادِث.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا
…
إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى
…
كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلَهُمْ أَعْدَائِي
وَمِنْ وَرَائِهِ الْمُغِير وَمَسْأَلة مُنْكَرٍ وَنَكِير وَيَتَوَسَّدُّ التُّرَابَ إِلَى يَوْمِ النُّشُور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يَوْمٌ لا يُبْلَغُ وَصْفُ أَهْوَالِهِ وَلا شَرْحُ أَحْوَالِهِ مَا لا يَسَعُ الْمُؤمنَ بِهِ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ وَلا يَخْلُدُ إلى هَذِهِ الدَّار وَلا يَكُونُ لَهُ هَمٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلا التَّقَرُّبُ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِش وَالرَّيْبَ وَإِقَامَةِ الدِّين الَّذِي فِي إِقَامَتِهِ النَّجَاةُ وَفِي تَضْيِيعِهِ الْعَطَب العَظِيم.
شِعْرًا:
…
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ
…
لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ
يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ
…
وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ
يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ شَرُّهُ
…
فِي الْخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ
يَوْمُ يَجِيءُ الْمُتَّقُونَ لِرَبِّهِمْ
…
وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنْ الْعِقَبَاتِ
وَيَجِيءُ فِيهِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى
…
يَتَلَمَّظُونَ تَلَمَّظَ الْعَطْشَانِ
وَالْجَنَّةُ الْعُلْيَا وَنَارُ جَهَنَّم
…
دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنَ دَائِمَتَانِ
(فَوَائِد)
تَعَرَّفْ إِلَى الله بِمَا تَعَرَّف به إِلَيْكَ بِمَا هُوَ أَهْلُه وَتَعَرَّفْ ما فَرَضَ عَلَيْكَ مَعْرِفَتَهُ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ.
ثَانِيًا: طَاعَتِهِ فِي فِعْلِ الواجبات وترك المحرمَاتَ.
ثَالِثًا: أَنْ تَشْتَاقَ إِلَى مَا شَوَّقَ إِلَيْهِ وَتَخَافَ مَا خَوَّفَ مِنْهُ لأَن العَالِم بأسماء اللهِ وصِفَاتِه وَأَحْكَامِهِ من أعْلم العَالِمين.
وَالْعَامِلُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ مِن أَعْمَلِ الْعَامِلِين.
إِن لم تقدر على الْجَدِّ فِي الْعَمَل فَقِفْ على باب الطَّلب وَتَعَرَّضْ لِنَفْحَةٍ مِنْ نَفَحَاتِ الربِّ فَفِي لَحْظَةٍ أَفْلَحَ السَّحَرة.
إِذَا رُزِقْتَ يَقَظَةً فَصُنْهَا فِي بَيْتِ عُزْلَةٍ فَإِنَّ أَيْدِي الْمُعَاشَرَةِ نَهَّابَةٌ وَاحْذَرْ مُعَاشَرَةِ الْبطَّالِينَ فَإِنَّ الطَّبْعَ لِصٌّ وَلا تُصَادِقَنَّ فَاسِقًا وَلا تَثِق إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ خَانَ أَوَّلَ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لا يَفِي لَكَ أَبَدًا.
تَزَيَّنَتْ الْجَنَّةُ لِلْخُطَّابِ فجدوا واجْتَهِدُوا فِي تحصيل المهور.
تَعَرَّفَ رَبُّ الْعِزَّةِ لِلْمُحِبِّينَ فَعَمَلُوا لِلِقَاءِ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بِالْجِيَف.
ما يُسَاوِي ربع دينار خجل الفضيحة فَكَيْفَ بِأَلِمَ الْقَطْعِ.
لَيْسَ لِلْعَابِدِين مُسْتَرَاحِ إِلا تَحْتَ شَجَرَةَ طُوبَى.
وَلا لِلْمُحِبِّينَ قَرَارٌ إِلا يَوْمَ الْمَزِيد فَمَثِّلْ لِقَلْبِكَ الاسْتِرَاحَة تَحْتَ شَجَرة طُوبَى يَهُنْ عَلَيْكَ النصب والتعب.
وَاسْتَحْضِر يَومَ الْمَزِيد يَهُنْ عَلَيْكَ مَا تَتَحَمَّلُ مِنْ أَجْلِهِ.
مَتَى رَأَيْتَ الْعَقْلَ يُؤَثِّرُ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ مُسِخَ.
وَمَتَى رَأَيْتَ الْقَلْب قَدْ ترحل عَنْهُ حب الله والاستعداد لِلقائه وحل فيه حب المخلوق والرِّضَا بالحياة الدُّنْيَا وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهَا فاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ خُسِفَ بِهِ.
وَمَتَى أَقْحَطَتِ الْعَيْنُ مِن الْبُكَاء مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّ قُحْطَهَا مِن قَسْوَةِ الْقَلْب.
وَمَتَى رَأَيْتُ نَفْسَكَ تَهْرَبُ مِن الأُنْسِ بِاللهِ إِلَى الأُنْسِ بِالْمَخْلُوق وَمِنْ الْخُلْوَة مَعَ اللهِ إِلَى الْخُلْوَة مَعَ الْمَخْلُوقِ فَاعْلَمْ أَنَّها لا تصلح لله.
مَن رَكِبَ ظهر التفريط والتواني والكسل نَزَلَ بدارِ الْعُسْرَةِ والندامة.
مَنْ أَدْلَجَ فِي غياهب الليل على نجائب الصبر صَبَّحَ منزل السرور.
وَمَنْ نَامَ عَلَى فِرَاشِ الْكَسَلِ أَصْبَحَ مُلْقًا بِوَادِي الأَسَف.
(فائدة نفيسة) : يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أن يتأملها ويأخذ لمستقبله فِكرة، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء: لَمْ أَزَلْ بُرْهَةً مِنْ عُمْرِي انْظُرُ اخْتِلافَ الأُمَّةِ وَالتمَسُ المنهاجَ الْوَاضحَ وَالسَّبِيل الْقَاصِدَ وَأطلبُ مِن الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَاسْتَدِلُ عَلَى طَرِيقِ الآخِرَة بِإِرْشَادِ الْعُلَمَاء.
وَعَقَلْتُ كَثِيرًا مِن كَلام اللهِ عز وجل بِتَأَوِيلِ الْفُقَهَاءِ وَتَدَبَّرْتُ أَحْوَالَ الأُمَّةِ وَنَظَرْتُ فِي مَذَاهِبِهَا وَأَقَاوِيلِهَا فَعَقَلْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا قُدِّرَ لِي.
وَرَأَيْت اخْتِلافَهُم بَحْرًا عَمِيقًا غَرِقَ فِيهِ نَاسٌ كَثِير وَسَلِمَ مِنْهُ عِصَابَةُ قَلِيلَة، وَرَأَيْتُ كُلَّ صَنْفٍ مِنْهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ النَّجَاةَ لِمَنْ تَبِعَهُم وَأَن الْمَهَالِكَ لِمَنْ خَالَفَهَمْ. ثُمَّ رَأَيْتُ النَّاسَ أَصْنَافًا فَمِنْهُمْ الْعَالِمُ بِأَمْرِ الآخِرَة لِقَاؤُهُ عَسِير وَوُجُودُهُ عَزِيز. وَهُوَ يُعِدُّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا لِثَوَاب الآخِرَة وَالْقُرْبِ مِنْ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَمِنْهُمْ الْجَاهِلُ فَالْبُعْد مِنْهُ غَنِيمَة.
وَمِنْهُمْ الْمُتَشبَهُ بالْعُلَمَاءِ مَشْغُوفٌ بِدُنْيَاهُ مُؤَثِّرٌ لَهَا.
وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ مَنْسُوبٌ إِلَى الدِّين مُلْتَمِسٌ بِعِلْمِهِ التَّعْظِيمَ وَالْعُلُوَّ، يَنَالُ بِالدِّينِ مِنْ عَرَض الدُّنْيَا.
وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا حَمَلَ.
وَمِنْهُمْ الْمُتَشَبِّهُ بِالنُّسَّاكَ مُتَحَرٍّ لِلْخَيْرِ لا غِنَاءَ عِنْدَهُ وَلا نَفَاذَ لِعِلْمِهِ وَلا مُعْتَمَدَ عَلَى رَأْيِهِ.
وَمِنْهُمْ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالدَّهَاءِ مَفْقُودُ الْوَرَعِ وَالتُّقَى.
وَمِنْهُمْ شَيَاطِينُ الإِنْسَ عَنْ الآخِرَة يَصُدُّونَ وَعَلى الدُّنْيَا يَتَكَالَبُون وَإلى جَمْعِهَا يُهْرَعُونَ وَفِي الاسْتِكْثَارِ مِنْهَا يَرْغَبُونَ.
فَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَحْيَاء وَفِي الْعُرْفِ مَوْتَى.
فَتَفَقَّدْتُ فِي الأَصْنَافِ نَفْسِي وَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعَا فَقَصَدْتُ إِلَى هُدَى الْمُهْتَدِين بِطَلَبِ السَّدَادِ وَالْهُدَى وَاسْتَرْشَدْتُ الْعِلْمَ وَأَعْمَلْتُ الْفِكْرَ وَأَطَلْتُ النَّظَر.
فَتَبَيَّنَ لِي مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ أَنَّ إتِّبَاعَ الْهَوَى يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُطِيلُ عَنْ الْحَقِّ وَيُطِيلُ الْمُكْثَ فِي الْعَمَى.
فَبَدَأْتُ أَوَّلاً بِإسْقَاطِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِي وَوَقَفْتُ عِنْدَ اخْتِلافِ الأُمَّةِ مُرْتَادًا لِطَلَبِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ.
حَذَرًا مِنْ الأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ وَالْفِرْقَةِ الْهَالِكَةِ مُتَحَرِّزًا مِنْ الاقْتِحَام قَبْلَ الْبَيَانِ وَالتَمِسُ سَبِيلَ النَّجَاةِ لِنَفْسِي.
ثُمَّ وَجَدْتُ بِاجْتِمَاعِ الأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّل أَنَّ سَبِيلِ النَّجَاةِ فِي التَّمَسُّكِ بِتَقْوَى اللهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالْوَرَعُ فِي حَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَجَمِيع حُدُودِهِ. وَالإِخْلاص لله تَعَالَى بِطَاعَتِهِ.
وَالتَّأَسِّي بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَطَلَبْتُ مَعْرِفَةَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي الآثَارِ فَرَأَيْتُ اجْتِمَاعًا وَاخْتِلافًا وَوَجَدْتُ جَمِيعَهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاللهِ وَأَمره الْفُقَهَاءِ عِنْدَ اللهِ الْعَامِلِينَ بِرِضْوَانِهِ، الْوَرِعِينَ عَنْ مَحَارِمِهِ الْمُتَأَسِّينَ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْثِرِينَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا أُوَلئِكَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِأَمْرِ اللهِ وَسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ.
فَالْتَمَسْتُ مِنْ بَيْنِ الأُمَّةِ هَذَا الصَّنْفَ الْمُجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ وَالْمُوصُوفِينَ بِآثَارِهِمْ وَاقْتَبَسْتُ مِنْ عِلْمِهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ مِنْ الْقَلِيلِ، وَرَأَيْتُ عِلْمُهُمْ مُنْدَرِسًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «بَدَا الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَا» . فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ وُهْم الْمُتَفَرِّدُونَ بِدِينِهِمْ.
فَعَظُمَتْ مُصِيبَتِي لِفَقْد الأَوْلِيَاءِ الأَتْقِيَاءِ الأَبْرَار وَخَشِيتُ بَغْتَةَ الْمَوْتِ أَنْ يَفْجَأَنِي عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ عُمْرِي لاخْتِلافِ الأُمَّةِ، فَانْكَمَشْتُ فِي طَالِبِ عِلْمٍ لَمْ أَجِدْ لِي مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا وَلَمْ أُقَصِّرْ فِي الاحْتِيَاطِ.
فَقُيِّضَ لِي الرَّءُوفُ بِعِبَادِهِ قَوْمًا وَجَدْتُ فِيهِمْ دَلائِلَ التَّقْوَى وَأَعْلامَ الْوَرَعَ وَإِيثَارَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا. وَوَجَدْتُ إِرْشَادِهُمْ وَوَصَايَاهُمْ مُوَافِقَةً لأَفَاعِيل أَئِمَّةِ الْهُدَى.
وَوَجَدْتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُصْحِ الأُمَّةِ لا يُرَجُّونَ أَبدًا فِي مَعْصِيَتِهِ وَلا يُقَنِّطُونَ أَبَدًا مِنْ رَحْمَتِهِ.
يَرْضُونَ أَبَدًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرْاءِ وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ عَلَى النعماء يُحَبِبُونَ اللهَ إِلَى الْعَبْدِ بِذِكْرِهِمْ أيادِيه وَإِحْسَانِهِ وَيَحُثُّونَ الْعِبَادَ عَلَى الإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظِيمِ قدرَتِهِ وَعُلَمَاءُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ فُقَهَاءُ فِي دِينِهِ عُلَمَاءُ بِمَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ وَرِعِينَ عَنْ الْبِدع وَالأَهْوَاءِ تَارِكِينَ لِلتَّعَمُّقِ وَالإِغلاءِ مُبْغِضِينَ لِلْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ مُتَوَرِّعِينَ عَنْ الاغْتِيَابِ وَالظُّلْمِ مُخَالِفِينَ لأَهْوَائِهِمْ مُحَاسِبِينَ لأَنْفُسِهِمْ مَالِكِينَ لِجَوَارِحِهِمْ وَرِعِينَ فِي مَطَاعِمِهِمْ
وَمَلابِسِهم وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُجَانِبِينَ لِلشُّبُهَاتِ تَارِكِينَ لِلشَّهَوَاتِ مُجْتَزِئِينَ بِالْبُلْغَةِ مِنْ الأَقْوَاتِ مُتَقَلِّلِينَ مِنْ الْمُبَاحِ مُشْفِقِينَ مِنْ الْحِسَابِ وَجِلِينَ مِنْ الْمَعَادِ عُلَمَاءُ بِأَمْرِ الآخِرَة وَأَقَاوِيلَ الْقِيَامَةِ رَاجِينَ مِنْ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ جَزِيلَ الثَّوَابِ وَخَائِفِينَ مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ أَوْرَثَهُمْ الْخَوْفَ الدَّائِمِ وَالْهَمَّ الْمُقِِيمِ فَشُغِلُوا عَنْ سُرُورِ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا فَتَبَيَّنَ لِي فَضْلُهُمْ وَاتَّضَحَ لِي نُصْحُهُمْ وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُمْ الْعَامِلُونَ بِطَرِيقِ الآخِرَة وَالمتأسُونَ بِالْمُرْسَلِينَ وَالْمَصَابِيحِ لِمَنْ اسْتَضَاءَ بِهِمْ وَالْهَادُونِ لِمَنْ اسْتَرْشَدَ. أ. هـ.
قُلْتُ: فَبِمِثْلِ هَؤُلاءِ إِنْ وجدُوا فَلْيَقْتَدِ الْمُقْتَدُونَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابْنُ الْقَيِّم رحمه الله: لا يَكُونُ الْعَبْد مُتَحَقِّقًا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إِلا بِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الإِخْلاص لِلْمَعْبُودِ. وَالثَّانِي: الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَالنَّاس مُنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ هَذَيْنِ الأَصْلَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهُمْ أَهْل الإِخْلاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَقِيقَةً.
فَأَعْمَالُهُمْ كُلّهَا لله، وَأَقْوَالهُم للهِ، وَحُبُّهم للهِ، وَبُغْضُهُمْ للهِ.
فَمُعَامَلَتُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِوَجْهِ اللهِ وَحْدَهُ لا يريدون بذَلِكَ من النَّاس جَزَاءً وَلا شُكُورَا.
وَلا ابْتِغَاءَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ وَلا طَلَبَ الْمَحْمَدَةِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلا هَرَبًا مِنْ ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُوا أنفسهم من أصحابِ القبُور لا يملكون لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورَا.
فَالْعَمَل لأجل النَّاسِ وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع مِنْهُمْ لا يكون من عارف بِهُمْ البتة، بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف النَّاس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص لَهُ أعماله وأقواله وعطاءه
منعه وحبه ويغصه، ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بِاللهِ وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف الله وعرف النَّاس آثر معاملة الله على معاملتهم.
القسم الثاني: من لا إخلاص لَهُ ولا متابعة فلَيْسَ عمله موافقا للشرع، ولَيْسَ هُوَ خالص للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لَهُمْ بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إِلَى الله عز وجل، ولهم أوفر نصيب من قوله تَعَالَى:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا بإتباع السُنَّة والإِخْلاص.
وَهَذَا القسم يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إِلَى العلم والفقر والعبادة عَنْ الصراط المستقيم، فَإِنَّهُمْ يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإِخْلاص والعلم فهم أَهْل الْغَضَب والضلال.
القسم الثالث من هُوَ مخلص فِي أعماله لكنها على غير متابعة الأَمْر كجهال العباد والمنتسبين إِلَى طَرِيق الفقر والزهد، وكل من عَبْد اللهِ بغير أمره واعتقَدْ عبادته هَذِهِ قربة إِلَى الله فهَذَا حاله، كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الْخُلْوَة التي يترك فيها الْجُمُعَة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النَّهَارَ بالليل قربة وأن صيام يوم يفطر النَّاس كلهم قربة وأمثال ذَلِكَ.
القسم الرابع من أعماله على متابعة الأَمْر لكنها لغير الله كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقَالَ، ويقرأ القرآن ليقَالَ، فهؤلاء أَعْمَالُهُمْ ظاهرها أعمال صَالِحَة مأمور بها لكنها غير صَالِحَة فلا تقبل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر.. انتهى كلامه رحمه الله.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ صلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: أعز الأَشْيَاءِ فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص. قِيْل: لما صار أعز. قَالَ: لأنه لَيْسَ للنفس فيه نصيب. وقَالَ آخر: أعز شَيْء فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص وَكَمْ اجتهد فِي إسقاط الرياء عَنْ قلبي فكأنه ينبت فيه على لون آخر.
فالإِخْلاص فِي غاية الصعوبة فلِذَلِكَ نجد كثيرًا من النَّاس يشرح أعماله للناس يذكر صدقاته وصيامه وصيام التطوع وَكَمْ حج من سُنَّة وَكَمْ عمرة اعتمر وَهُوَ ما سئل وأنه يحيي الليل بالصَّلاة والتلاوة.
ويذكر الَّذِينَ يساعدهم بجاهه وماله يريد بذَلِكَ المنزلة فِي قُلُوب العباد وأنه من المحسنين وَهَذَا غلط وضرر عَلَيْكَ فما دمت تعمل لله فما الداعي إِلَى ذكره لمن لا يملكون لا نفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورَا، فالرياء تعب ونصب ولغوب وخسران وذل فِي الدُّنْيَا وخزي وفضيحة وعذاب وندامة فِي الآخِرَة.
فالعاقل يعمل الْعَمَل خالصًا لله لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس وإلا دخل عَلَيْهِ مطالبه العوض أَوْ تشوق إِلَى حظ من حظوظ الدُّنْيَا.
والمهم أن يحرص على إخفاء أعماله لأن الجزاء عَنْدَ من يعلم السِّرّ وأخفى لا إله إلا هُوَ، إلا إن ترجحت مصلحة الإظهار على الإخفاء كَانَ يقتدي به فِي الصدقة أَوْ الزَّكَاة لإِزَالَة التهمة عَنْهُ بعدم إخراجها. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} .
عن أَنَس رضي الله عنه عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «من فارق الدُّنْيَا على
الإِخْلاص لله وحده لا شريك لَهُ وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكَاة فارقها والله عَنْهُ راض» . رَوَاهُ ابن ماجه والحاكم وقَالَ: صحيح على شرط الْبُخَارِيّ ومسلم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قَالَ حين بعث إِلَى اليمن: يَا رَسُولَ اللهِ أوصني قَالَ: «أخلص دينك يكفيك الْعَمَل القليل» . رَوَاهُ الحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن ثوبان رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «طُوبَى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كُلّ فتنة ظلماء» .
شِعْرًا:
…
لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ فِي الْوَرَى
…
وَزِينَةُ الْمَرْءُ تُقَىً مَعَ أَدَبْ
قَدْ يَشْرفُ الْمَرْءُ بِإِخْلاصِهِ
…
صِدْقًا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ
آخر:
…
وَذَكِّرْ بِالتُّقَى نَفَرًا غَفُولاً
…
فَلَوْلا السَّقْيُ مَا نَمَتِ الزُّرُوعُ
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا
…
وَنِيلَ الأَمَانِي وَاكْتِسَاب الْفَضَائِلِ
لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالِ للهِ وَحْدَهُ
…
وَيُكْثِرُ مِنْ ذِكْرٍ لَهُ فِي الْمَنَازِلِ
وَفِي الْمَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ يَذْكُرُهُ
…
وَيُشْغِلُهُمْ فِي ذِكْرِهِ فِي الْمَحَافِلِ
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نضر الله امرئً سمَعَ منا حديثًا فبلغه غيره فرب حامل فقه إِلَى من هُوَ افقه منه ورب حامل فقه لَيْسَ بفقيه، ثلاث لا يغل عَلَيْهمْ قلب مُسْلِم إخلاص الْعَمَل لله ومناصحة ولاة الأَمْر ولزوم الجماعة فَإِنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا نيته فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأتيه من الدُّنْيَا إلا ما كتب لَهُ، ومن كَانَتْ الآخِرَة نيته جمَعَ الله أمره وجعل غناه فِي قَلْبهُ وأتته الدُّنْيَا وهي راغمة» . رَوَاهُ ابن حبان وَرَوَاهُ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وعن الضحاك بن قيس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى يَقُولُ: أَنَا خَيْر شريك فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي، يَا أيها النَّاس
أخلصوا أعمالكم فَإِنَّ الله تبارك وتعالى لا يقبل من الْعَمَل إلا ما خلص لَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبَزَّار بإسناد لا باس به.
وورد عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إن الله عز وجل لا يقبل من الْعَمَل إلا ما كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه» . رَوَاهُ أبو داود والنسائي.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجهه» . أَخْرَجَهُ الطبراني بإسناد لا بأس به.
سئل الفضيل بن عياض ما أخلص الْعَمَل وما أصوبه، قَالَ: إن الْعَمَل إِذَا كَانَ خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وَإِذَا كَانَ صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حَتَّى يكون خالصًا صوابًا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السُنَّة.
شِعْرًا:
…
هَمُّ الأَلِبَّاءِ إِخْلاصٌ لِخَالِقِهِمْ
…
فِيمَا أَمَرْهُمْ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
وَهَمُّ غَيْرِهِمْ فِي الصُّحْفِ يَقْرَؤُهَا
…
أَوْ حَوْلَ مِذْيَاعِهِ يَا خِيبَة الأَمَلِ
أَعْظِمْ بِهَا مِنْ نَدَامَاتٍ إِذَا اكْشفَتْ
…
يَوْمَ الْجَزَاءِ لأَهْلِ اللَّهْوِ وَالزِّلَلِ
آخر:
…
لِعَمْرِيَ إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا
…
وَنِيلَ الأَمَانِي وَارْتِفَاعِ الْمَنَازِلِ
لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالَ للهِ وَحْدَهُ
…
وَيُكْثِرُ مِنْ ذِكْرٍ لَهُ فِي الْمَحَافِلِ
آخر:
…
مَوَاهِبُ ذِي الْجَلالِ عَلَيْكَ تتَرَى
…
بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ بِهَا كَنُودُ
يَزِيدُكَ مِنْهُ فَضْلاً كُلَّ يَوْمٍ
…
وَأَنْتَ بِضِدِّهِ أَبَدًا تَزِيدُ
تَغُرُّكَ أُمُّ دَفْرٍ بِالأَمَانِي
…
عَنْ الْعُقْبَى لِتَغْفُلَ يَا بَعِيدُ
أَلا فَانْهَضْ إِلَى الْوَهَّابِ وَاشْكُرْ
…
لَهُ نِعَما غِزَارًا لا تَبِيدُ
اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الصالحين الأَبْرَار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابن الجوز: تباعد عَنْ أَهْل السُّوء وباعد أولادك عنهم لا يعادونك بأفعالهم وأقوالهم وطباعهم ولا يزال يقسو قلبك حَتَّى يستأنس بِهُمْ فهناك الهلاك، والسُّوء يتفاوت فمن أهله أَهْل الفواحش وَمِنْهُمْ أَهْل اللهو وَمِنْهُمْ أَهْل الغيبة والنميمة وَمِنْهُمْ أَهْل الملاهي وآلات الطرب.
فَإِنَّهُمْ يسبون أَهْل العقول عقولهم حَتَّى ينحلوا عَنْ دينهم ومروءتهم فيعسر عَلَيْهمْ الخلاص لما يجدونه من لذة النعمَاتَ والأصوات، حَتَّى يكون عادة وطبع فربما يجلس الرجل إليهم وَهُوَ كاره لسماع لغواهم مستوحش من نَفْسهُ ثُمَّ لا يزال على ذَلِكَ حَتَّى يراه حسنا.
من كيد الشيطان أن يورد ابن آدم المورد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ثُمَّ يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عَنْهُ ويسلمه للهلاك ويقف يتشمت به ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والقتل واللواط والزنا ويدل عَلَيْهِ ويفضحه، قَالَ الله تَعَالَى:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} .
ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لعنه الله طلاع رصاد وما هُوَ بشَيْء من فخوخه بأوثق لصيده من النساء خُصُوصًا المسناة العجائز الماهرات بالحيل والمكر والخديعة، قَالَ بَعْضُهُمْ:
عَجُوزُ النَّحْسِ إِبلَيْسٌ يَرَاهَا
…
تُعَلِّمُهُ الْخَدِيعَةَ فِي السُّكُوتِ
تَقُودُ مِن السِّيَاسَةِ أَلْفَ بَغْلٍ
…
إِذَا انْفَرَدَتْ بِخَيْطِ الْعَنْكَبُوتِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ) : ذكر ابن القيم رحمه الله الأسباب التي يعتصم بها من الشيطان الأول الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قَالَ تَعَالَى:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} والمراد بالسمع هنا سمع الإجابة لا السمع العام.
الثاني قراءة المعوذتين فَإِنَّ لهما تأثيرًا عجيبًا فِي الاستعاذة بِاللهِ من شر الشيطان ودفعه، ولهَذَا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» . وكَانَ صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما كُلّ ليلة عَنْدَ النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كُلّ صلاة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما مَعَ صورة الإِخْلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح كفتاه من كُلّ شر.
الثالث قراءة آية الكرسي.
الرابع قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إن البيت الَّذِي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» .
الخامس خاتمة سورة البقرة فقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «من قرأ الآيتين من آخر البقرة فِي ليلةٍ كفتاه» .
السادس أول سورة حم المُؤْمِن إِلَى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ففي الترمذي عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم المُؤْمِن إِلَى قوله {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حَتَّى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حَتَّى يصبح» .
السابع لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة.
ففي الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة،
كَانَتْ عدل عشر رقاب وكتب لَهُ مائة حسُنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة وكَانَ حرزًا لَهُ من الشيطان يومه ذَلِكَ حَتَّى يمسي ولم يأت أحدٌ بأفضل منه إلا رجل عمل أكثر من ذَلِكَ» .
الثامن وَهُوَ أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل وَهَذَا بعينه هُوَ الَّذِي دلت عَلَيْهِ سورة النَّاس، فانه وصف الشيطان فيها الشيطان بأنه الخناس الَّذِي إِذَا ذكر الْعَبْد ربه انخنس فإذا غفل عَنْ ذكر الله التقم الْقَلْب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز الْعَبْد نَفْسهُ من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع الوضوء والصَّلاة وَهَذَا من أعظم ما يحترز الْعَبْد به ولاسيما عَنْدَ الْغَضَب والشهوة فَإِنَّهَا نار تصلى فِي قلب ابن آدم، كما روى الترمذي عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:«ألا وإن الْغَضَب جمرة فِي قلب ابن آدم فما أطفأ الْعَبْد جمرة الْغَضَب والشهوة بمثل الوضوء والصَّلاة» . فَإِنَّ الصَّلاة إِذَا وقعت بخشوعها والإقبال علي الله فيها أذهبت أثر ذَلِكَ جملة وَهَذَا أمر تجربته تغني عَنْ إقامة الدَلِيل عَلَيْهِ.
الحرز العاشر إمساك فضول الكلام فَإِنَّهَا تفتح أبوابًا من الشَّر كُلّهَا مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عَنْكَ تلك الأبواب.
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فَوَائِد ونصائح ومواعظ وحكم وآداب ووصايا)
من أَخْلاق المُؤْمِن حسن الْحَدِيث، وحسن الاستماع إِذَا حدث، وحسن البشر إِذَا لقي، ووفاء الوعد إِذَا عد ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
سوء الخلق سبب النكد فِي الحياة والشرور والآثام، فعلى العاقل اللبيب أن يعرف الأَخْلاق السيئة ليتنبها، وهي كثيرة ولا يخلوا احد مَنْهَا فتفقَدْ نفسك وأزل ما فيها.
فمن ذَلِكَ المكر، والخديعة، والخيانة، والغش، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسعاية، والظلم، والرياء، والعقوق، والقطيعة، والكبر، والعجب، والزهو، والأنفة من المسكنة.
والنفاق، والخيانة، والغدر، والحسد، والغل، والحقَدْ، والشماتة، والبغضاء، وسوء الظن، والتجسس على الْمُسْلِمِين.
وإضمار السُّوء، والتربص بالدوائر، ومساعدة الهوى، ومخالفة الحق، والرضى بالهوى، والحب والبغض بالهوى، والجفاء.
والقَسْوَة، وقلة الرحمة، والحرص، والشره، والطمَعَ، والطيرة، والطغيان بالْمَال، والفرح بإقبال الدُّنْيَا، واستقلال الرزق، واحتقار النعم، والاحتقار بمصائب الدين، واستعظام الدُّنْيَا، والحزن على ما فات مَنْهَا.
والاستهانة بعلم الله عز وجل عَنْدَ فعلك للذنب والاستهانة بسماعه ما يصدر منك من المعاصي قولاً وفعلاً، وقلة الحياة من إطلاع الله عَلَيْكَ ومن إطلاع من عَنْ اليمين وعن الشمال قعيد، وأَنْتَ لو اطلع عَلَيْكَ مخلوق ضعيف وأَنْتَ تعمل معصية الله لانزعجت.
فتنبه لِذَلِكَ وراقب الله جَلَّ وَعَلا وتقدس وكن منه على حذر.
شِعْرًا:
…
وَهُوَ الْحَلِيمُ فَلا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ
…
بِعَقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ
…
فَهُوَ السَّتِيرُ وَصَاحِبُ الْغُفْرَانِ
وَهُوَ الْعَفُّوُ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الْوَرَى
…
لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بِالسُّكانِ
وَهُوَ الصَّبُورُ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ
…
شَتَمُوهُ بَلْ نَسَبُوهُ لِلْبُهْتَانِ
قَالُوا لَهُ وَلَدٌ وَلَيْسَ يُعِيدُنَا
…
شَتْمًا وَتَكْذِيبًا مِن الإِنْسَانِ
هَذَا وَذَاكَ بِسَمْعِهِ وَبِعِلْمِهِ
…
لَوْ شَاءَ عَاجَلهُمْ بِكُلِّ هَوَانِ
لَكِنْ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ
…
يُؤْذُونَهُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ
ج
(فَصْلٌ) : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إخواني إِذَا تقرب النَّاس إِلَى الله عز وجل بأنواع البر الظاهرة مثل الجهاد والحج والصوم والزَّكَاة والصدقة وتلاوة القران وغير ذَلِكَ، فنافسوهم فيها واجعلوا أعظم الرغبة فِي طاعة الْقُلُوب التي لا يطلع عَلَيْهَا الإنس ولا الملائكة ولا الجن، ولا يعلمها إلا علام الغيوب، فَإِنَّ القليل من أعمال البر كثير لسلامته من الرياء وَجَمِيع المكدرات.
ألا فتقربوا إِلَى الله بطاعة الْقُلُوب فَإِنَّ فيها المعرفة بعظمة الله وكبريائه وجلاله وقدرته وعَظِيم قدرته سُبْحَانَهُ وتقربوا إليه بمحابه، وبغض مكارهه، والرِّضَا والْغَضَب لَهُ وفيه، وتقربوا إليه بشدة الحب لَهُ، والحب فيه والغض من أجله، وتقربوا إِلَى الله بالمعرفة بأياديه الحسُنَّة ونعمه الظاهرة والباطنة، وأفعاله الجميلة، ومننه المتواترة على تواتر الإساءة منا، وَهُوَ جَلَّ وَعَلا وتقدس يعود بأنواع النعم عَلَيْنَا.
ألا فتقربوا إليه بالخوف من زَوَال النعم وشدة الحياء من التقصير فِي الشكر، وتقربوا بالوجل من مكر الله تَعَالَى والإشفاق على إيمانكم، وتقربوا إِلَى الله بشدة الخوف منه، وحَقِيقَة الرجَاءَ فيه، والسرور بذكره، ومناجاته، والشوق إليه، والرغبة فِي جواره، وتقربوا إِلَى الله بصدق اليقين والتوكل عَلَيْهِ والثِّقَة به وَالطُّمَأْنِينَة إليه والأُنْس به والانقطاع إليه.
وتقربوا إليه بالوفاء ولين الجانب والجناح والتواضع والخشوع والخضوع، وتقربوا إليه بالحلم والاحتمال وكظم الغيظ وتجرع المرارة، وتقربوا إليه بسلامة الصدر وإرادة الْخَيْر للأمة وكراهة الشَّر لَهُمْ، وتقربوا إِلَى الله بالرأفة والرحمة والشفقة والحوطة على الْمُسْلِمِين، وتقربوا إليه بالجود والكرم والتفضل والإحسان وصدق الوفاء.
وتقربوا إليه بالقناعة والعفاف والكفاف والرضى وبالبُلْغَةِ واليأس من نائل
النَّاس، وتقربوا إليه بالتدبير لكتابه وتفهمه والْعَمَل به والإِخْلاص، وتقربوا إليه بمجاهدة إبلَيْسَ لعنة الله ومخالفة الهوى والنفس الأمارة بالسُّوء والتفقَدْ لأحوالكم والتقوى فِي كُلّ أموركم وتقربوا إِلَى الله بأداء الأمانات، وتقربوا إليه بالإحسان إِلَى المسيء والإيثار على أنفسكم وإن كَانَ بكم خصاصة، وارغبوا فِي مكارم الأَخْلاق.
شِعْرًا:
…
وَيَا سَائِلِي عَنْ حِرْفَتِي قُلْتُ حِرْفَتِي
…
صِيَانَةُ أَوْقَاتِي بِطَاعَةِ خَالِقِي
فقَالَ لَقَدْ أَحْسَنْتَ تَصْرِيفَ مُدَّةٍ
…
لِعُمْرِكَ فَالْزِمْهَا تَفُزْ بِالسَّعَادَةِ
وتقربوا إِلَى الله بالتواضع والابتعاد عَنْ الترفع على عباد الله الْمُؤْمِنِينَ، وتقربوا إِلَى الله بالفرح بمصائب الدُّنْيَا، والرِّضَا بقضاء الله وقدره وتقربوا إِلَى الله بالاستعداد للموت والبعث والنشور والحساب.
شِعْرًا:
…
دَعِ التَّعْلِيلَ وَالتَّسْوِيفَ وَاقْبِلْ
…
عَلَى مَوْلاكَ تَغْنَمْ نَيْلَ حَظِّ
أَدِمْ بِالْحَزْمِ إِقْبَلاً عَلَيْهِِ
…
عَسَى تَحْظَى بِتَوْفِيقٍ وَحِفْظِ
وَنَقِّ الْقَلْبَ مِنْ شُِبُهَاةِ زَيْغٍ
…
تَرَاهُ مَعْنَوِيًّا ثُمَّ لَفْظِي
وَرِدْ حَوْضَ الشَّرِيعَةِ مَعْ صَفَاءٍ
…
وَجَانِبْ كُلَّ ذِي حَسَدٍ وَغَيْظِ
وَرَقِّ النَّفْسَ بِالْعُرْفَانِ تَزْكُو
…
وَتَظْفَر بِالْمُنَى مِنْ كُلِّ وَعْظِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
من أنفع الحياء أن تستحي من الله أن تسأله ما تحب وتأتى ما يكره. قَالَ بَعْضُهُمْ: ربما أصلي لله ركعتين فانصرف وأنَا من الخجل بمنزلة من ينصرف عَنْ السرقة حياء من الله عز وجل لأني لم أوفها حقها.
قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: (الدُّنْيَا كُلّهَا غموم فما كَانَ مَنْهَا من سرور فهو ربح) . وقَالَ الجنيد رضي الله عنه: لست اسْتَبْشِعُ ما يرد علي لأني قَدْ أصلت أصلاً وَهُوَ أَنَّ الدُّنْيَا دار هم وغم وبَلاء وفتنة وإن العَالِم كله شر.
ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فَإِنَّ تلقاني بما أحب فهو فضل وإلا فالأصل هُوَ الأول.
وقَالَ بَعْضهمْ: يَا أيها النَّاس أنتم تحبون الروح والروح لله وتحبون الْمَال والْمَال للورثة وتطلبون اثنين ولا تجدونهما الرَّاحَة والفرح وهما فِي الْجَنَّة. فالواجب على الْعَبْد أن لا يوطن نَفْسهُ على الرَّاحَة فِي الدُّنْيَا ولا يركن فيها إِلَى ما يقتضي فرحًا وأنسًا وأن يعمل على قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيما روى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةِ رضي الله عنه «الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن» .
فتوطين الْعَبْد نَفْسهُ على المحن يهون عَلَيْهِ ما يلقاه ويجد السلوان عَنْدَ ما يهواه.
شِعْرًا:
…
يُمَثِّلُ ذُو اللُّبِ فِي لُبِّهِ
…
شَدَائِدَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا
فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ
…
لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهُ مَثَلا
رَأى الأَمْر يُفْضِي إِلَى آخِرِ
…
فَصَيِّرَ آخِرَهُ أَوَّلا
وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنْ أَيَّامَهُ
…
وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلا
فَإِنْ دَهَمَتْهُ صُرُوفُ الزَّمَانِ
…
بِبُغْضِ مَصَائِبِهِ أَعْوَلا
وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمَ فِي نَفْسِهُ
…
لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلا
فعلى الإِنْسَان العاقل أن يتلقى ما يرد عَلَيْهِ من المصائب والهموم والغموم والانكاد بالصبر والرِّضَا والاستسلام عَنْدَ جريان الِقَضَاءِ.
فعن قريب إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى ينجلي الأَمْر ويستوجب من الله جَلَّ وَعَلا جزيل الأجر والثواب والله ولي التَّوْفِيق. وقَالَ أحد الزهاد: جوع قليل، وَعُرْيٌ قليل وذل قليل، وصبر قليل وقَدْ انقضت عَنْكَ أيام الدُّنْيَا. وقَالَ آخر: الصبر جماع كُلّ فضيلة وملاك كُلّ فائدة جزيلة ومكرمة نبيلة.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
بِمَا صَبَرُواْ} ، وقَالَ جل وعلا وتقدس:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
من أنزل حوائجه بِاللهِ تَعَالَى والتجأ إليه وتوكل فِي أمره كله عَلَيْهِ كفاه كُلّ مؤنة، وقرب عَلَيْهِ كُلّ بعيد، ويسر عَلَيْهِ كُلّ عسير، ومن سكن إِلَى علم نَفْسهُ وعقله، واعتمد على قوته وحوله وكله الله إِلَى نَفْسهُ وخذل وحرم التَّوْفِيق فلم تنجح مطالبه ولم تتيسر مآربه.
شِعْرًا:
…
أَقَرَّ عَلَى حُكْمِ الرَّدَى الْمُتَخَمِّطُ
…
وَقَرَّ كَأَنْ لَمْ يُصْرَعِ الْمُتَخَبِّطُ
عَلَيْكَ سَبِيلُ الْخَيْرِ وَانْظُرْ إِلَى الَّذِي
…
تَأَبَّطَ شَرًّا هَلْ نَجَا الْمُتَأَبِّطُ
وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فِي الْبِرِّ وَالتُّقَى
…
فَكَمْ قَرَعَ السِّنَّ الذُّهُولُ الْمُفَرِّطُ
وَحَاوِلْ مِن الدُّنْيَا الدَّنِيةِ مَخْلِصًا
…
وَأَنَّى وَأَنْتَ النَّاشِبُ الْمُتَوَرِّطُ
لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْر مَا عَزَّ قَاسِطٌ
…
وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَلا ذَلَّ مُقْسِطُ
تَبَرَّأَ غَالٍ مِنْ مَسَاعِيهِ مُسْرِفٌ
…
وَأَحْمَدَ عُقْبَى أَمْرِهِ الْمُتَوَسِّطُ
سَيَنْخَفِضُ الطَّمَّاحُ إِثْمًا وَعِزَّةً
…
وَيَنْقَبِضُ التَّلْعَابَةُ الْمُتَبَسِّطُ
آخر:
…
سَهَوْنَا عَنْ مُسَاوَرَةِ الْمَنَايَا
…
فَيَا للهِ مِنْ سَهْوِ الْعِبَادِ
وَغَرَّتْنَا مُسَاعَدَةُ الأَمَانِي
…
فَلَمْ نَحْزَنْ عَلَى الْعُمْرِ الْمُبَادِ
وَكَمْ نَادَتْ فَأَسْمَعَتِ اللَّيَالِي
…
وَلَكِنْ لا مُصِيخَ إِلَى مُنَادِ
مُجَاهَرَةٌ بِنُكْرٍ دُونَ عُرْفٍ
…
وَتَنْدِيدٌ يُعَادُ بِكُلِّ نَادِ
يَطُولُ تَعَجُّبِي مِنَّا حَلَلْنَا
…
وَلَمْ نَخَفِ السُّيُولَ بِبَطْنِ وَادِ
وَلَمْ أَرَ مِثْلَنَا سَفَرًا تَبَارَوْا
…
إِلَى الْغَايَاتِ سَيْرًا دُونَ زَادِ
اللهم وَفَّقَنَا توفيقًا يَقِينَا عَنْ معاصيك وأرشدنا إِلَى السعي فيما يرضيك وأجرنا يَا مولانَا من خزيك وعذابك وهب لَنَا ما وهبته لأوليائك وأحبابك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : فائدة - قَالَ ابن القيم رحمه الله: لشهادة أن لا إله إلا الله عَنْدَ الموت تأثير عَظِيم فِي تكفير السيئات وإحباطها لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قَدْ ماتت منه الشهوات ولانت نَفْسهُ المتمردة وانقادت بعد إبائها، وأقبلت بعد أعراضها، وذلت بعد عزها وخَرَجَ مَنْهَا حرصها على الدُّنْيَا وفضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كَانَتْ لَهُ وأرجى ما كَانَتْ لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد مَنْهَا التَّوْحِيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه.
فزالت مَنْهَا تلك المنازعات التي كَانَتْ مشغولة بها، واجتمَعَ همها على من أيقنت بالقدوم عَلَيْهِ والمصير إليه، فوجه الْعَبْد وجهه بكليته إليه، واقبل بقَلْبهُ وروحه وهمه عَلَيْهِ، فاستسلم لله وحده ظاهرًا وباطنًا واستوى سره وعلانيته.
فقَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا من قَلْبهُ وقَدْ تخلص من التعلق بغيره والالتفات إِلَى ما سواه، قَدْ خرجت الدُّنْيَا كُلّهَا من قَلْبهُ وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قَلْبهُ من الآخِرَة، فصَارَت نصب عينيه، وصَارَت الدُّنْيَا وراء ظهره.
فَكَانَتْ تلك الشهادة الْخَالِصَة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقِيَ ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها وعلانيتها فلو حصلت لَهُ الشهادة على هَذَا الوجه فِي أيام الصحة لا ستوحش من الدُّنْيَا وأهلها وفر إِلَى الله من النَّاس وأنس به دون من سواه لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأنس بها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إِلَى غير الله فلو تجردت كتجردها عِنْدَ الموت لكَانَ لها نبأ آخر وعيش آخر سِوَى عيشها البهيمي. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
شِعْرًا:
…
إِذَا مَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا
…
حَيَاةً حُلْوَةَ الْمَحْيَا
فَلِلْفُرُوضِ لا تَهْمَلْ
…
وَذِكْرُ اللهِ لا تَنْسَى
شِعْرًا:
…
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْأَ يَحْبِسُ مَالَهُ
…
وَوَارِثَهُ فِيهِ غَدًا يَتَمَتَّعُ
كَأَنَّ الْحُمَاةَ الْمُشْفِقِينَ عَلَيْكَ قَدْ
…
غَدَوْا بِكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا
وَمَا هُوَ إِلا النَّعْشُ لَوْ قَدْ أَتَوَ بِهِ
…
تُقَلَّ فَتُلَقَى فَوْقَهُ ثُمَّ تُرْفَعُ
وَمَا هُوَ إِلا حَادِثٌ بَعْدَ حَادِثٍ
…
عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الْحَوَادِثِ تَجْزَعُ
وَمَا هُوَ إِلا الْمَوْتُ يَأَتِي لِوَقْتِهِ
…
فَمَالكَ فِي تَأْخِيرِهِ عَنْكَ مَدْفَعُ
أَلا وَإِذَا وُدِّعْتَ تَوْدِيعَ هَالِكٍ
…
فَآخِرُ يَوْمٍ مِنْكَ يَوْمَ تُوَدَّعُ
أَلا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَائِزًا
…
فأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ
رَأَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا
…
وَإِنَّكَ فِي الدُّنْيَا لأَنْتَ الْمُرَوَّعُ
وَصَفْتَ التُّقَى وَصْفًا كَأَنَّكَ ذُو تُقَى
…
وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ
وَلَمْ تُعْنَ بِالأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَاقِعُ
…
وَكُلُّ امْرِئٍ يَعْنَى بِمَا يَتَوَقَّعُ
وَإِنَّكَ لِلْمَنْقُوصِ فِي كُلِّ حَالَةٍ
…
وَكُلُّ بَنِي الدُّنْيَا عَلَى النَّقْصِ يُطْبَعُ
وَمَا زِلْتُ أَرْمي كُلَّ يَوْمٍ بِعِبْرَةٍ
…
تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَالِ تَصْدَعُ
فَمَا بَالُ عَيْنِي لا تَجُودُ بِمَائِهَا
…
وَمَا بَالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ
تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ الْمُلْكَ غَيْرُهُ
…
مَتَى تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ
وَأَيُّ امْرئٍ فِي غَايَةٍ لَيْسَ نَفْسُهُ
…
إِلَى غَايَةٍ أُخْرَى سِوَاهَا تَطَلَّعُ
وَبَعْضُ بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيعَةٌ
…
وَكُلٌّ بِكُلَّ قَلَّمَا يَتَمَتَّعُ
يُجِبُّ السَّعِيدُ الْعَدْلَ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ
…
وَيَبْغِي الشَّقِيُّ الْبَغْيَ وَالْبَغْيُ يَصْرَعُ
اللَّهُمَّ ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحَسْرَة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقها عيشة الأَبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(موعظة)
عباد الله كلنا نعلم أن حياتنا مهما امتدت وصفت للزَوَال، وكَذَلِكَ كُلّ واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختيار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، سيصبح الواحد منا عما قريب فِي حفرة وحيدًا لَيْسَ معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تَكُون أيها الأخ كأنك ما رَأَيْت الدُّنْيَا ولا هِيَ رأتك لحظة من اللحظات.
ويا ليتك إِذَا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عَلَيْهَا آثار لو كَانَ ذَلِكَ لأحب بعضنا الموت، لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام لكنك تعلم أنه يعقب ذَلِكَ الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كَانَ منك قبل الموت فِي الاختيار.
فإن كنت قَدْ أحسنت، رَأَيْت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات.
عن البراء بن عازب قَالَ: كنا فِي جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهينا إِلَى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «إن المُؤْمِن إِذَا احتضر أتاه ملك الموت فِي أحسن صورة، وأطيب ريحًا، فجلس عنده لِقَبْضِ رُوحِهِ، وأتاه ملكَانَ بحنوط من الْجَنَّة وكانَا منه على بعيد فاستخَرَجَ ملك الموت روحه من جسده رشحًا.
فإذا صَارَت إِلَى ملك الموت ابتدرها الملكَانَ فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الْجَنَّة وكفناها بكفن من الْجَنَّة ثُمَّ عرجا بها إِلَى الْجَنَّة، فتفتح لَهُ أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها ويقولون: لمن هَذِهِ الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء.
ويسمى بأحسن الأسماء التي كَانَ يسمى بها فِي الدُّنْيَا، فيقَالَ هَذِهِ روح
فلان فإذا صَعَدَا بها إِلَى السماء شيعها مقربوا كُلِّ سماء حَتَّى توضع بين يدي الله عَنْدَ العرش، فيخَرَجَ عملها من عليين فَيَقُولُ الله عز وجل للمقربين: اشهدوا أني قَدْ غفرت لصَاحِب هَذَا الْعَمَل. ويختم كتابه فيرد فِي عليين.
فَيَقُولُ الله عز وجل: ردوا روح عبدي إِلَى الأَرْض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها.
ثُمَّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} فإذا وضع المُؤْمِن فِي لحده تَقُول لَهُ الأَرْض: إن كنت لحبيبًا إِليَّ وأَنْتَ على ظهري، فَكَيْفَ إذ صرت الْيَوْم فِي بطني سأريك ما أصنع بك، فيفسح لَهُ فِي قبره مد بصره.
وقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وضع الكافر فِي قبره أتاه منكر ونكير فيجلِسَانه فيقولان لَهُ: من ربك؟ فَيَقُولُ: لا أدري. فيقولان لَهُ: لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادًا، ثُمَّ يعاد فيجلس فيقولان لَهُ: ما قولك فِي هَذَا الرجل. فَيَقُولُ: أي رجل؟ فيقولان: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: قَالَ النَّاس إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادًا» .
ويا ليت الأَمْر ينتهي ويقف عَنْدَ هَذَا الحد، فتبقى فِي قبرك على الدوام، فإنه أخف مِمَّا بعده، فتَكُون آلامك فيه أخف إن كنت من أَهْل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وَهُوَ القيام من القبور، قَالَ الله تَعَالَى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وحينئذ تسوقك نتيجة اختبارك إما إِلَى الْجَنَّة وإما إِلَى السعير، من كَانَ مكذبًا بهَذَا والعياذ بِاللهِ فلا كلام لَنَا معه، لأن مآله إِلَى جهنم وبئس المهاد لأنه من الكافرين، وإن كَانَ مؤمنًا بذَلِكَ كما أخبر الله ورسوله فهو الَّذِي تفيد فيه المواعظ وضرب الأمثال ويقَالَ: لماذا نراك متصفًا بما يخالف قولك.
شِعْرًا:
…
فَأَكْثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُّكَ قَوْلُهُ
…
وَلَكِنْ مَنْ يَسُرُّكَ فِعْلُهُ
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَخِتَامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قَرُبَ الْمَدى
…
وَحَتَّام لا يَنْجَابُ عَنْ قَلْبِكَ السُّكْرُ
بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا
…
وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ
آخر:
…
وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ
…
يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ
لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنَ
…
وَأَفْعَالُهُ أَفْعَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ
" فَصْلٌ يَحْتَوِيْ عَلَى الإِنْكَارِ عَلَى المُنْحَرِفِيْنْ "
نراك فِي ليلك ونهارك فِي ما يغضب مولاك فلسانك فِي ميدان الفحش، ومنكر القول جواد عَظِيم وعينك فِي أودية النظرات الخائبة دَائِمًا تجول وتهيم، وفرجك لا يتهيب أن يتجاوز أرضه الطيبة إِلَى الأَرْض الوبيئة الخبيثة وأما بطنك فلا يعف عَنْ أخبث المأكولات، وأما أذنك فمصغية وسامعة إِلَى ما لا يحل من الكلام.
وأما رجلك فساعية إِلَى المعاصي والآثام، وأما يدك فباطشة بالضعيف دون توقع، فيا مسكين أن المعاصي عدو مبين، يعلم ذَلِكَ كُلّ مُؤْمِن عاقل فضلاً عَنْ المُؤْمِن يلقي نَفْسهُ فيها، فاتعظ وتنبه أيها الأخ وبرهن على إِنَّكَ تميز بين النافع والضار.
شِعْرًا:
…
إِنَّ فِي الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ لَشُغْلاً
…
وَادِّكَارًا لِذِي النُّهَى وَبَلاغَا
فَاغْتَنِمْ خِصْلَتَيْنِ قَبْلَ الْمَنَايَا
…
صِحَّةَ الْجِسْمِ يَا أَخِي وَالْفَرَاغَا
آخر:
…
فَبَادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابَهُ
…
وَتُطْوَى عَلَى الأَعْمَالِ صُحْفُ التَّزَوُّدِ
وَمَثْلُ وُرُودَ الْقَبْرِ مَهْمَا رَأَيْتَهُ
…
لِنَفْسِكَ نِفَاعًا فَقَدِّمْهُ تَسْعَدِ
آخر:
…
يَا طَالِبًا رَاحَةً مِنْ دَهْرِهِ عَبَثًا
…
أَقْصِرْ فَمَا الوَقْتِ إِلا بِالْهُمُومِ مُلِي
كَمْ مَنْظَرٍ رَائِقٍ أَفْنَتْ جَمَالَته
…
يَدُ الْمَنُونِ وَأَعْيَتْهُ عَنْ الْحِيَلِ
وَكَمْ هُمَامٍ وَكَمْ قَرْمٍ وَكَمْ مَلِكٍ
…
تَحْتَ التُّرَابِ وَكَمْ شَهْمٍ وَكَمْ بَطَلِ
وَكَمْ إِمَامٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي دُوَلٌ
…
قَدْ صَارَ بِالْمَوْتِ مَعْزُولاً عَنْ الدُّوَل
وَكَمْ عَزِيزٍ أَذَلَّتْهُ الْمَنُونُ وَمَا
…
أَنْ صَدَّهَا عَنْهُ مِنْ مَالٍ وَلا خَوَلِ
يَا عَارِفًا دَهْرَهُ يَكْفِيكَ مَعْرِفَةً
…
وَإِنْ جَهلْتَ تَصَارِيفَ الزَّمَانِ سَلِ
هَلْ فِي زَمَانِكَ أَوْ قَبْلَهُ سَمِعَتْ
…
أُذْنَاكَ أَنَّ ابنَ أُنْثَى غَيْرُ مُنْتَقِلِ
وَهَلْ رَأَيْتَ أُنَاسًا قَدْ عَلوا وَغَلَوا
…
فِي الْفَضْلِ زَادُوا بِمَا نَالُوا عَنْ الأَجَلِ
أَوْ هَلْ نَسِيتَ (لِدُوا لِلْمَوْتِ) أَوْ عَمِيَتْ
…
عَيْنَاكَ عَنْ وَاضِعٍ نَعْشًا وَمُحْتَمِلِ
وَهَلْ رَعَى الْمَوْتُ ذَا عِزِّ لِعِزَّتِهِ
…
أَوْ هَلْ خَلا أَحَد دَهْرًا بِلا خَلَلِ
المَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ
…
لَكِنْ ذَا الْفَضْلِ مَحْمُولٌ عَلَ عَجَلِ
ولَيْسَ فَقْدُ إِمَامٍ عَالِمٍ عَلَمٍ
…
كَفَقْدِ مَنْ لَيْسَ ذَا عِلْمٍ وَلا عَمَلِ
ولَيْسَ مَوْت الَّذِي مَاتَتْ لَهُ أُمَمٌ
…
كَمَوْتُ شَخْصٍ مِنْ الأَوْغَادِ وَالسَّفَلِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقوي إيماننا بك وملائكتك وكتبك ورسلك والْيَوْم الآخِر والقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ وأَنْتَ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ فِي الرَّجَاء "
الرجَاءَ قِيْل فِي تعريفه هُوَ ارتياح لانتظار ما هُوَ محبوب عَنْدَ الإِنْسَان
ولكن ذَلِكَ المتوقع لابد لَهُ من سبب حاصل، فَإِنْ لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتقاء سمي تمنيًا لأنه انتظار من غير سبب ولا يطلق اسم الرجَاءَ والخوف إلا على ما يتردد فيه.
فأما ما لا يتردد فيه ويقطع به فلا إِذًا، لا يقَالَ أرجو طلوع الشمس ولكن يقَالَ أرجو نزول المطر، وأخاف انقطاعه وضد الرجَاءَ اليأس وَهُوَ تذكر فوت رحمة الله، وقطع الْقَلْب عَنْ ذَلِكَ، واليأس معصية، قَالَ تَعَالَى إخبارًا عما قاله يعقوب {وَلَا تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} .
شِعْرًا:
…
لا تَرْجُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ
…
وَاقْطَعْ عُرَى الآمَالِ مِنْ خَلْقِهِ
لا تَطْلُب الْفَضْلَ مِنْ غَيْرِهِ
…
وَاضْنُنْ بِمَاءِ الْوَجْهِ وَاسْتَبْقِهِ
فَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ وَمَا لامْرِئٍ
…
يَكُونُ طُولَ الدَّهْرِ فِي رِقِّهِ
آخر:
…
التَمِسِ الأَرْزَاقِ عَنْ الَّذِي
…
مَا دُونَهُ إِنْ سُئِلَ مِنْ حَاجِبِ
وَمَنْ إِذَا قَالَ جَرَى قَوْلُهُ
…
بِغَيْرِ تَوْقِيعٍ مِنْ الْكَاتِبِ
ومقدمَاتَ الرجَاءَ أربع، الأولى: ذكر سوابق فضل الله إِلَى الْعَبْد. وَالثَّانِيَة: ذكر ما وعد الله من جزيل ثوابه وعَظِيم كرمه وجوده دون استحقاق أَوْ سؤال. الثالثة: ذكر كثرة نعم الله عَلَيْكَ فِي أمر دينك وبدنك ودنياك فِي الحال من أنواع الإمداد والألطاف من غير استحقاق أَوْ سؤال. والرابعة: ذكر سعة رحمة الله تَعَالَى وسبقها غضبه وأنه الرحمن الرحيم الغنى الكريم الرؤوف بعباده الْمُؤْمِنِينَ، وقوة الرجَاءَ على حسب قوة المعرفة بِاللهِ وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه.
قَالَ ابن القيم رحمه الله فالرجَاءَ ضروري للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أَوْ كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها.
وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها والرجَاءَ من الأسباب التي ينال بها الْعَبْد ما يرجوه من ربه بل هُوَ من أقوى الأسباب. أهـ.
وقَالَ فِي مختصر منهاج القاصدين: وقَدْ علم أرباب الْقُلُوب أنَّ الدُّنْيَا مزرعة الآخِرَة والْقَلْب كالأَرْض والإيمان كالبذر فيها والطاعات جارية مجرى تنقية الأَرْض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها.
وأن الْقَلْب المستغرق بالدُّنْيَا كالأَرْض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة هُوَ يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإِيمَان، وقل أن ينفع إيمان مَعَ خبث الْقَلْب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو البذر فِي الأَرْض السبخة.
فينبغي أن يقاس رجَاءَ الْعَبْد المغفرة برجَاءَ صَاحِب الزرع، فكل من طلب أرضًا طيبةً وألقى فيها بذرًا جيدًا غير مسوسٍ وعفنٍ، ثُمَّ ساق إليها الماء فِي أوقات الحاجة ونقى الأَرْض من الشوك والحشيش وما يفسد الزرع.
ثُمَّ جلس ينتظر من فضل الله تَعَالَى دفع الصواعق والآفات المفسدة إِلَى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، فهَذَا يسمى انتظاره رجَاءَ، فَأَمَّا إن بذر فِي أرض سبخة صلبة مرتفعة لا يصل إليها الماء ولم يتعاهدها أصلاً ثُمَّ انتظر الحصاد فهَذَا يسمى انتظاره حمقًا وغرورًا لا رجَاءً.
وإِنْ بث البذر فِي أرض طيبة، ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار سمي انتظاره تمنيًا لا رجَاءً، فَإِنَّ اسم الرجَاءَ إِنما يصدق على انتظار محبوب، تمهدت أسبابه الداخلة تحت اختيار الْعَبْد، ولم يبق إلا ما لَيْسَ إِلَى اختياره، وَهُوَ فضل الله سُبْحَانَهُ بصرف الموانع المفسدات.
فالْعَبْد إِذَا بث بذر الإِيمَان وسقاه ماء الطاعات، وطهر الْقُلُوب من شوك الأَخْلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تَعَالَى ثباته على ذَلِكَ إِلَى الموت، وحسن
الخاتمة المفضية إِلَى المغفرة كَانَ انتظاره لِذَلِكَ رجَاءً محمودًا باعثًا على المواظبة على الطاعات والقيام بمقتضى الإِيمَان إِلَى الموت.
شِعْرًا:
…
تَرَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَصْبُو
…
وَمَا يَخْلُو مِنَ الشَّهَوَاتِ قَلْبُ
فُصُولُ الْعَيْشِ أَكْثَرُهَا هُمُومٌ
…
وَأَكْثَرَ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ
فَلا يَغْرُوكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ
…
وَعَيْشٌ لَيِّنُ الأعْطَافِ رَطْبُ
وإن قطع بذر الإِيمَان عَنْ تعهده بماء الطاعات أَوْ ترك الْقَلْب مشحونًا برذائل الأَخْلاق وانهمك فِي طلب لذات الدُّنْيَا، ثُمَّ انتظر المغفرة كَانَ ذَلِكَ حمقًا وغرورًا، قَالَ الله تَعَالَى:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} وذم القائل {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً} .
شِعْرًا:
…
أَفِي السَّبَخَاتِ يَا مَغْبُونُ تَبْنِي
…
وَمَا أَبْقَى السِّبَاخُ عَلَى الأَسَاسِ
ذُنُوبُكَ جَمَّةٌ تَتْرَى عِظَامًا
…
وَدَمْعُكَ جَامِدٌ وَالْقَلْبُ قَاسِي
وَأَيَّامًا عَصَيْتَ اللهَ فِيهَا
…
وَقَدْ حَفِظْتُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ نَاسِي
فَكَيْفَ تُطِيقُ يَوْمَ الدِّين حِمْلاً
…
لأَوْزَارِ الْكَبَائِرِ كَالرَّوَاسِي
هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لا وِدَّ فِيهِ
…
وَلا نَسَبٌ وَلا أَحَدٌ مُوَاسِي
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يَا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألَكَ أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(موعظة) : عباد الله يَقُولُ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} عباد الله إن الصَّلاة عماد الدين وأعظم أركَانَ الإِسْلام بعد الشهادتين، وهي قرة عين المُؤْمِن وطمأنينة قَلْبهُ تبدو
واضحة فِي وقوفه بين يدي ربه، وخشوعه وانكساره، عِنْدَمَا يتجه إليه فِي عبادته، ويقف خاضعًا ذليلاً بين يدي العزيز الحكيم.
عباد الله من حافظ على الصَّلاة فهو السَّعِيد الرابح، ومن أضاعها فهو الشقي الخاسر، وإن اللبيب العاقل من إِذَا حضر للصلاة اقبل بقَلْبهُ وقالبه، وطرح الدُّنْيَا وشؤنها ومتعلقاتها جانبًا وتدبر ما يتلوه إن كَانَ وحده أَوْ إمامًا. وأنصت وأحضر قَلْبهُ إن كَانَ مأمومًا وتفهم ما يسمَعَ وابتهل وتضرع إِلَى مولاه.
(موعظة) : عباد الله إن الخشوع فِي الصَّلاة هُوَ روحها، والمحور الَّذِي تدور عَلَيْهِ سائر أفعالها، والخشوع فيها مَعَ الإِخْلاص لله آية الإِيمَان وسبب الفلاح وأمان من وساوس الشيطان. ألا وإن الصَّلاة بلا خشوع كجسد بلا روح قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما (لَيْسَ لَكَ من صلاتك إلا ما عقُلْتُ مَنْهَا) .
وَفِي المسند مرفوعًا: «إن الْعَبْد ليصلي الصَّلاة ولم يكتب لَهُ إلا نصفها أَوْ ثلثها أَوْ ربعها حَتَّى بلغ عشرها» . وقَدْ علق الله فلاح المصلين بالخشوع فِي صلاتهم فدل على أن من لم يخشع فلَيْسَ من أَهْل الفلاح ولو اعتد لَهُ بها ثوابًا لكَانَ من المفلحين هكَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء.
قَالُوا: وأما الاعتداد بها فِي أحكام الدُّنْيَا وسقوط الِقَضَاءِ فَإِنَّ غلب الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعًا، وكَانَتْ السُّنَن والأذكار وعقبها جوابر ومكملات لنقصها، وإن غلب عَلَيْهِ عدم الخشوع فيها وعدم تعلقها.
فقَدْ اختلف الْعُلَمَاء فِي وجوب إعادتها واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عَلَيْهَا، ولم يضمن لَهُ فيها الفلاح فلم تبرأ ذمته مَنْهَا، ويسقط الِقَضَاءِ عَنْهُ كصلاة المرائي قَالُوا: ولأن الخشوع والعقل روح الصَّلاة، ومقصوها ولبها،
فَكَيْفَ يعتد بصلاة فقدت روحها، ولبها وبقت صورتها وظاهرها.
قَالُوا: ولو ترك الْعَبْد واجبًا من واجباتها عمدًا لأبطلها تركه وغايته أن يكون بَعْضًا من ابعاضها منزلة فوات عضو من أعضاء الْعَبْد المعتق فِي الكفارة، فَكَيْفَ إِذَا عدمت روحها ومقصودها، وصَارَت بمنزلة الْعَبْد الميت فإذا لم يعتد بالْعَبْد المقطوع اليد يعتقه تقربًا إِلَى الله تَعَالَى فِي كفارة واجبةٍ فَكَيْفَ يعتد بالْعَبْد الميت.
وقَالَ بَعْض السَّلَف: الصَّلاة كجارية تهدى إِلَى ملك من الملوك فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أَوْ عوراء أَوْ عمياء أَوْ مقطوعة اليد أَوْ الرجل أَوْ مريضة أَوْ دميمة أَوْ قبيحة حَتَّى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة فَكَيْفَ بالصَّلاة التي يهديها الْعَبْد ويتقرب بها إِلَى ربه تَعَالَى والله طيب لا يقبل إلا طيب ولَيْسَ من الْعَمَل الطيب صلاة لا روح فيها كما أنه لَيْسَ من العتق الطيب عتق بلا روح.
قَالُوا: وتعطيل الْقَلْب عَنْ عبودية الحضور والخشوع تعطيل لملك الأعضاء عَنْ عبوديته وعزل لَهُ عَنْهَا فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها وقَدْ عزل ملكها وتعطل.
قَالُوا: والأعضاء تابعة للقلب تصلح بصلاحه وتفسد بفساده فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها وَإِذَا فسدت عبوديته بالغَفْلَة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه وعن أمره يصدرون وبه يأتمرون.
قَالُوا: ولأن عبودية من غلبت عَلَيْهِ الغَفْلَة والسهو فِي الغالب لا تَكُون مصاحبة للإخلاص فَإِنَّ الإِخْلاص قصد المعبود وحده بالتعبد والغَافِل لا قصد لَهُ فلا عبودية لَهُ.
قَالُوا: وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، ولَيْسَ السهو عَنْهَا تركها وإلا لم يكونوا مصلين وإنما السهو عَنْ واجبها إما عَنْ الحضور أَوْ الخشوع.
والصواب أنه يعم النوعين فإنه سُبْحَانَهُ أثَبِّتْ لَهُمْ صلاة ووصفها بالسهو عَنْهَا، فهو السهو عَنْ وقتها الواجب أَوْ عَنْ إخلاصها وحضورها الواجب، ولِذَلِكَ وصفهم بالرياء، ولو كَانَ السهو سهو ترك لما كَانَ هناك رياء أ. هـ.
وبالتالي فَإِنَّ الْعَبْد إِذَا مرن نَفْسهُ وقَلْبهُ على التفهم والتدبر والخشوع والخضوع فِي الصَّلاة انغرست فِي قَلْبهُ خشية الله ومحبته والرغبة فيما لديه وحضرته هيبة خالقه فِي جميع أحواله وَفِي جميع أعماله.
فإذا سولت لَهُ نَفْسهُ أمرًا أَوْ زين لَهُ الشيطان سوءًا تبرأ منهما قائلاً إِني أخاف الله رب العالمين فكن فِي صلاتك خاشعًا خاضعًا مخبتًا.
فإذا قُلْتُ الله أكبر فاستحضر عظمة الله وأنه لا شَيْء أكبر منه ولا شَيْء أعظم منه وأنه مستحق لأن يعظم ويجل ويقدر وأنه لَيْسَ أحد يساويه أَوْ يدانيه فِي عظمته.
وإذا قُلْتُ الحمد لله رب العالمين فاستحضر أنه المستحق للثناء وأنه المربي لجميع الخلق التربية العامة والمربي لخواص خلقه التربية الخاصة، وهي تربية الْقُلُوب على العقائد النافعة، والأعمال الصَّالِحَة، والأَخْلاق الفاضلة.
وَإِذَا قُلْتُ الرحمن الرحيم استحضرت لرحمته العامة والخاصة راجيًا منه أن يجعلك ممن كتبها لَهُمْ فإذا قُلْتُ مالك يوم الدين مجدته واستحضرت لوقوفك بين يديه وَهُوَ أحكم الحاكمين.
فإذا قُلْتُ إياك نعبد وَإِيَّاكَ نستعين استحضرت أنَّكَ تخصه وحده بالعبادة
والاستعانة، المعنى نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.
فإذا قُلْتُ أهدنا الصراط المستقيم استحضرت أنَّكَ تتضرع إليه وتسأله أن يدلك ويرشدك ويوفقك إِلَى سلوك الصراط المستقيم وأن يثبتك عَلَيْهِ فهَذَا الدُّعَاء من أجمَعَ الأدعية وأنفعها للعبد ولهَذَا وجب على الْعَبْد أن يدعو به فِي كُلّ ركعة من صلاته لضرورته إِلَى ذَلِكَ وَهَذَا الصراط هُوَ صراط المنعم عَلَيْهمْ من النبيين.
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وافعل فِي باقي صلاتك كما فعلت فِي أولها من التدبر والتفهم محضرًا قلبك لمعاني ما تقوله وما تسمعه حَتَّى تكتب لَكَ كاملة.
عباد الله إن من حافظ على الصلوات فِي أوقاتها وواظب على الْجُمُعَة والجماعات وأداها تأدية تامة بخشوع وخضوع، استنار قَلْبهُ وقويت الصلة بينه وبين ربه، وتهذبت نَفْسهُ وحسنت مَعَ الله والنَّاس معاملته،
وحيل بينه وبين المحرمَاتَ وكَانَ على البؤساء عطوفًا وبالضعفاء رحيمًا، وأفلح فِي دينه وكَانَ من المحبوبين عَنْدَ الله وعَنْدَ خلقه.
عباد الله النفس آمرة بالسُّوء، والشيطان يأمر بالفحشاء والْمُنْكَر والسيف القاطع والدواء النافع الَّذِي جعله الله وقاية للإنسان من شر النفس والشيطان، إنما هُوَ الصَّلاة، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} .
عباد الله احذروا أن تستهينوا بالصَّلاة وأن لا تهتموا لها، فَإِنَّ هَذِهِ صفة الَّذِينَ خلت صلاتهم من التذلل والخشوع كما ترونهم يسرعون فِي أدائها وهم عَنْهَا غافلون لا يعرفون لها معنى ولا يعقلون لها سرًا ولم تشعر قُلُوبهمْ بحلاوتها ولا بلذة المناجات قَدْ ملكتهم الوساوس، وامتلأت قُلُوبهمْ بشواغل
الدُّنْيَا ولذاتها، واستحوذ عَلَيْهمْ الشيطان فأنساهم ذكر الله.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ومن النَّاس من عميت بصائرهم، وتحجرت ضمائرهم، فأضاعوا الصَّلاة واتبعوا الشهوات، وأهملوا أوامر بديع السماوات وغفلوا عَنْ واجب شكره ولم يخافوا سطوة جبروته وبطشه، ولا سوء الحساب، ولا نار الْعَذَاب {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
فيا أيها المسلمون اتقوا الله ربكم وحافظوا على صلاتكم وقوموا لله خاضعين خاشعين لتفوزوا برضوانه وتكونوا من المفلحين.
شِعْرًا:
…
للهِ دَرُّ السَّادَةِ الْعُبَّادِ
…
فِي كُلِّ كَهْفٍ قَدْ ثَوَوْا أَوْ وَادِي
أَلْوَانُهُمْ تُنْبِيكَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ
…
وَدُمُوعُهُمْ عَنْ حُرْقَةِ الأَكْبَادِ
كَتَمُوا الضَّنَى حِفَظًا لَهُمْ وَتَحَمَّلُوا
…
سُقْمَ الْهَوَى وَمَشَقَّةَ الأَجْسَادِ
هَجَرُوا الْمَرَاقِدَ فِي الظَّلامِ لِرَبِّهِمْ
…
وَاسْتَبْدَلُوا سَهَرًا بِطِيبِ رُقَادِ
لا يَفْتُرونَ إِذَا الدُّجَى وَافَاهُمُوا
…
مِنْ كَثْرَةِ الأَذْكَارِ وَالأَوْرَادِ
وَرَأَوْا عَلامَاتِ الرَّحِيلِ فَبَادِرُوا
…
تَحْصِيلِ مَا الْتَمَسُوا مِن الأَزْوَادِ
فَإِذَا اسْتَمَالَ قُلُوبَهُمْ دَاعِي الْهَوَى
…
ذَكَرُوا الْبِلَى فِي ظُلْمَةِ الإِلْحَادِ
نَظَرُوا إِلَى الدُّنْيَا تَغُرُّ بِأَهْلِهَا
…
بِوِصَالِهَا وَتَكِرُّ بِالإِبْعَادِ
فَتَجَنَّبُوهَا عِفَّةً وَتَزَهُّدًا
…
وَتَزَوُّدُوا مِنْ صَالِحِ الأَزْوَادِ
وَمَضُوا عَلَى مِنْهَاجِ صَحْبِ نَبِيِّهِمْ
…
فَنَجَوْا غَدًا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ مَعَادِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ) : روى شداد بن أوس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «الكيس من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها وتمنى على الله الأماني» .
وَمِمَّا ورد فِي الحث على الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، وقَالَ تَعَالَى:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} ، وقَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
وقَالَ: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللهُ} ، وقَالَ:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} وقَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .
شِعْرًا:
…
إِذَا شَدَّ زَنْدِي حُسْنُ ظَنِّي بِمَنْ عَلَى
…
عَلَى خَلْقِهِ فَهُوَ الَّذِي كُنْتُ أَطْلُبُ
آخر:
…
وَإِنِّي لآتِي الذَّنْبَ أَعْرِفُ قدْرَهُ
…
وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ
لَئِنْ عَظَّمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا
…
وَإِنْ عَظُمَتْ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَصْغُرُ
وقَالَ: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، وقَالَ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إِلَى قوله: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ، وقَالَ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} .
وقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، وقَالَ:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ووجه الدلالة مِنْهَا حيث أوصى الله بالإحسان إِلَى القاذف.
ومن جانب الرجَاءَ ما كَانَ من أمر السحرة المبارزين لمُوَسى عليه السلام فما كَانَ إلا أن رأوا آية مُوَسى فعرفوا الحق ووقعوا سجدًا {قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة فهَذَا حال من عرف الله ووحده بعد كُلّ ذَلِكَ السحر والكفر والضلال والفساد فَكَيْفَ حال من أفنى عمره فِي توحيد الله.
وَكَذَا قصة أصحاب الكهف إذ آمنوا بِاللهِ كيف لطف بِهُمْ، وأكرمهم وألبسهم المهابة حَتَّى إن بركتهم شملت كلبهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحالة وصار لَهُ ذكر وشان وخبر يتلى وهذه فائدة صحبة الأخيار فما ظنك بالمُؤْمِن الَّذِي عَبَّد الله ووحده ولهج بذكره آناء الليل وآناء النَّهَارَ، وعادى فيه ووالى فيه سنين عديدة وبوده لو عمر زيادة تابع فيها خدمة سيده ومولاه جَلَّ وَعَلا.
ومن جانب الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} .
شِعْرًا:
…
تَفِيضُ عُيُونِي بِالدُّمُوعِ السَّوَاكِبِ
…
وَمَالِي لا أَبْكِي عَلَى خَيْرِ ذَاهِبِ
عَلَى عُمْرِي إِذْ وَلَّى وَحَانَ انْقِضَاؤُهُ
…
بِآمَالِ مَغْرُورٍ وَأَعْمَالِ نَاكِبِ
عَلَى غُرَرِ الأَيَّامِ لَمَّا تَصَرَّمَتْ
…
وَأَصْبَحْتُ مِنْهَا رَهْنَ شُؤْمِ الْمَكَاسِبِ
عَلَى زَهَرَاتِ الْعَيْشِ لَمَّا تَسَاقَطَتْ
…
بِرِيحِ الأَمَانِي وَالظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ
عَلَى أَشْرَفِ الأَوْقَاتِ لَمَّا غُبِنْتُهَا
…
بِأَسْوَاقِ غَبْنٍ بَيْنَ لاهٍ وَلاعِبِ
عَلَى أَنْفَسِ السَّاعَاتِ لَمَّا أَضَعْتُهَا
…
وَقَضَّيْتُهَا فِي غَفْلَةٍ وَمَعَاطِبِ
عَلَى صَرْفِيَ الأَيَّامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ
…
وَلا نَافِعٍ مِنْ فِعْلِ فَضْلٍ وَوَاجِبِ
عَلَى مَا تَوَلَّى مِنْ زَمَانٍ قَضَيْتُهُ
…
وَرَجَّيْتُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ وَصَائِبِ
عَلَى فُرَصٍ كَانَتْ لَوْ أَنِّي انْتَهَزْتُهَا
…
لَقَدْ نِلْتُ فِيهَا مِنْ شَرِيفِ الْمَطَالِبِ
وَأَحْيَانَ آنَاءٍ مِنْ الدَّهْرِ قَدْ مَضَتْ
…
ضَيَاعًا وَكَانَتْ مُوسِمًا لِلرَّغَائِبِ
عَلَى صُحُفٍ مَشْحُونَةٍ بِمَآثِمٍ
…
وَجُرْمٍ وَأَوْزَارٍ وَكَمْ مِنْ مَثَالِبِ
عَلَى كَمْ ذُنُوبٍ كَمْ عُيُوبٍ وَزَلَّةٍ
…
وَسَيِّئَةٍ مَخْشِيَّةٍ فِي الْعَوَاقِبِ
عَلَى شَهَوَاتٍ كَانَتْ النَّفْسُ أَقْدَمَتْ
…
عَلَيْهَا بِطَبْعٍ مُسْتَحَثٍّ وَغَالِبِ
عَلَى أَنَّنِي آثَرْتُ دُنْيَا دَنِيَّةً
…
مُنَغَّصَةً مَشْحُونَةً بِالْمَعَائِبِ
عَلَى عَمَلِ لِلْعِلْمِ غَيْرِ مُوَافِقٍ
…
وَمَا فَضْلُ عِلْمٍ دُونَ فِعْلٍ مُنَاسِبِ
عَلَى فِعْلِ طَاعَاتٍ بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ
…
وَمِنْ غَيْرِ إِحْضَارٍ وَقَلْبٍ مُرَاقِبِ
أُصَلِّي الصَّلاةَ الْخَمْسَ وَالْقَلْبُ جَائِلٌ
…
بِأَوْدِيَةِ الأَفْكَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
عَلَى أَنَّنِي أَتْلُو الْقُرْآنَ كِتَابَهُ
…
تَعَالَى بِقَلْبِ ذَاهِلٍ غَيْرَ رَاهِبِ
عَلَى طُولِ آمَالٍ كَثِير غَرُورُهَا
…
وَنِسْيَانِ مَوْتٍ وَهُوَ أَقْرَبُ غَائِبِ
عَلَى أَنَّنِي قَدْ أَذْكُرُ اللهَ خَالِقِي
…
بِغَيْرِ حُضُورٍ لازِمٍ وَمُصَاحِبِ
عَلَى أَنَّنِي لا أَذْكُرُ الْقَبْرَ وَالْبَلَى
…
كَثِيرًا وَسَفْرًا ذَاهِبًا غَيْرَ آيِبِ
عَلَى أَنَّنِي عَنْ يَوْمِ بَعْثِي وَمَحْشَرِي
…
وَعَرْضِي وَمِيزَانِي وَتِلْكَ الْمَصَاعِبِ
مَوَاقِفُ مِنْ أَهْوَالِهَا وَخُطُوبِهَا
…
يَشِيبُ مِنْ الْولْدَانِ شَعْرُ الذَّوَائِبِ
تَغَافَلْتُ حَتَّى صِرْتُ مِنْ فُرْطِ غَفْلَتِي
…
كَأَنِّي لا أَدْرِي بِتِلْكَ الْمَرَاهِبِ
عَلَى النَّارِ أَنِّي مَا هَجَرْتُ سَبِيلَهَا
…
وَلا خِفْتُ مِنْ حَيَّاتِهَا وَالْعَقَارِبِ
عَلَى السَّعْيِ لِلْجَنَّاتِ دَارِ النَّعِيمِ وَالْـ
…
ـكَرَامَةِ الزُّلْفَى وَنَيْلِ الْمَآرِبِ
مِنْ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْمُخَلَّدِ وَالْبَقَا
…
وَمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ مِنْ كُلِّ طَالِبِ
وَأَكْبَرُ مِنْ هَذَا رِضَا الرَّبِّ عَنْهُمْ
…
وَرُؤْيَتُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجِبِ
فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا
…
هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ
وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ
…
هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ
وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ
…
عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ
…
وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ
…
وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ
…
وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ
عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا
…
وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ
عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ
…
وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ
وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ
…
وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ
.. فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا
…
وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ
وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ
…
عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ
وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ
…
وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ
…
وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ
…
وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ
…
وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ
عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا
…
وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ
عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ
…
وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ
وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ
…
وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ
إِلَيْهِ مآبِي وَهُوَ حَسْبِي وَمَلْجَئِي
…
وَلِي أَمَلٌ فِي عَطْفِهِ غَيْرُ خَائِبِ
وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا بَقِي لِمَا
…
يُحِبُّ وَيَرْضَى فَهُوَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ
وَأَنْ يَتَغَشَّانَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةٍ
…
وَفَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَسَتْرِ الْمَعَائِبِ
وَأَنْ يَتَوَلانَا بِلُطْفٍ وَرَأْفَةٍ
…
وَحِفْظٍ يَقِينَا شَرَّ كُلِّ الْمَعَاطِبِ
وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةٍ
…
عَلَى مِلَّةِ الإِسْلامِ خَيْرِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيمِينَ لِلْقُرْآنِ وَالسُنَّةِ الَّتِي
…
أَتَانَا بِهَا عَالِي الذُّرَى وَالْمَرَاتِبِ
مُحَمَّدٌ الْهَادِي الْبَشِيرُ نَبِيُّنَا
…
وَسَيِّدُنَا بَحْرُ الْهُدَى وَالْمَنَاقِبِ
عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ
…
وَآلٍ وَأَصْحَابٍ لَهُ كَالْكَوَاكِبِ
(موعظة) : عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها فَإِنَّ متاعها قليل ولا تطمعوا بالإقامة فيها فَإِنَّ البقاء فيها مستحيل كيف لا والمنادي ينادي كُلّ يوم يَا عباد الله الرحيل، هُوَ الموت ما منه فوت ولا تعجيل ولا يقبل الفداء فاستعدوا لَهُ فإنه سيأتيكم عَنْ قريب.عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها وإيثارها على الآخِرَة فَإِنَّ هَذَا الفساد يقعد المسلم عَنْ التطلع إِلَى الآخِرَة والْعَمَل لها وإتعاب الجسد فِي سبيل الله والدعوة إليه وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على مهام الدعوة إِلَى الله،
إِنَّ الدُّنْيَا فيها قابلية الإغراء للتعلق بها وحبها. ولهَذَا وصفها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ الدُّنْيَا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدُّنْيَا واتقوا النساء» . وقَدْ حذرنا ربنا من الوقوع فِي شباكها والتعلق بها فقَالَ عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . ووجه الاغترار بالدُّنْيَا أن فيها مباهج ومناظر وملذات للأنفس والأعين والأسماع تهواها نَفْسهُ بطبيعتها وتؤثرها على ما سواها، قَالَ تَعَالَى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والآخِرَة * وَالآخِرَة خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وقَالَ عز من قائل:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَة} . فإذا تركت النفس وشانها زَادَ تعلقها بالدُّنْيَا وزَادَ التصاقها بها حَتَّى تصبح هِيَ كُلّ غايتها ومنتهى أملها ومبلغ علمها، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا:{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} . وإذا ما وصلت النفس إِلَى هَذَا الحد فقدت حاسة القبول والاعتبار وعَنْدَ ذَلِكَ لا يجدي معها وعظ ولا تذكير مهما بالغت فيه. فما هُوَ العلاج لمن وصل إِلَى هَذِهِ الدرجة العلاج بإذن الله هُوَ تخليص الْقَلْب من أسرارها وتعلقه بها وَذَلِكَ بان يجعل زَوَال الدُّنْيَا نصب عينيه ويتيقن لقاء الآخِرَة وبقاءها وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم. ويتدبر الآيات مثل قوله تَعَالَى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} . وقوله تَعَالَى {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَة خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} ، وقوله:{فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَة إِلَاّ قَلِيلٌ} ، وقوله تَعَالَى:{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ} . وقوله {إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ} الآية. ويتدبر الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «كن فِي الدُّنْيَا غريب أَوْ عابر سبيل» . الْحَدِيث. وقوله: «ما لي وللدنيا» . ونحو ذَلِكَ من الآيات وَالأَحَادِيث التي مرت سابقًا حول أمثلة الدُّنْيَا.
ويقارن بين الأمرين فَإِنَّ كَانَ ذا عقل راجح آثر الآخِرَة على الدُّنْيَا وأيضًا لابد من قطع التسويف وطول الأمل حَتَّى يحس أنه فِي غربة وأنه مسافر عَنْ هَذِهِ الدار وأنه سيرحل عَنْهَا فِي أَيَّةِ ساعةٍ رغم أنفه شاء أم أبى.
شِعْرًا:
…
وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ
…
يَوْمًا عَلَى آلةٍ حَدْبَاء مَحْمُول
آخر:
…
وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ
…
يَوْمًا لَهُ مِنْ دَوَاعِي الْمَوْتِ تَثْوِيبُ
وَإِن وسوس لَهُ الشيطان وألقى فِي روعه إِنَّكَ شاب قوي موفور الصحة مشدود أسرك وَفِي إمكانك الرجوع إِلَى الطاعة والإقبال إِلَى الآخِرَة فليطرد وساوسه باستحضار الَّذِينَ رحلوا شبابًا وكهولاً وهم الآن تحت الثرى.
شِعْرًا:
…
يُعَمَّرِ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا
…
وَيُنْسَى مَنْ يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ
آخر:
…
لا تَغْتَزِرْ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ
…
فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ
ويخَرَجَ إِلَى المقابر ويتفكر فيمن جمعوا الأموال وقتلوا أوقاتهم فِي طلبها واتعبوا أبدانهم وأنهم سيحاسبون عَلَيْهَا، ويفكر فيمن تعود عَلَيْهمْ بعده ربما أنهم لا يذكرونه بخَيْر ويتمنون موته فلماذا يحرق نَفْسهُ فِي جمعها لَهُمْ.
شِعْرًا:
…
وقَدْ يُورِثُ الْمَال الْبَعِيدَ مُظَلَّلٌ
…
مِن النَّاس يَأْبَى وَضَعْه فِي الْقَرَائِب
آخر:
…
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه
…
سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ
…
وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
آخر:
…
شَقِيتُ بِمَا جَمَعْتُ فَلَيْتَ شِعْرِي
…
وَرَائِي مَنْ يَكُونَ بِهِ سَعِيدَا؟!
أُعَايِنُ حَسْرَةً أَهْلِي وَمَالِي
…
إِذَا مَا النَّفْسُ جَاوَزَتِ الْوَرِيدَا
أُعِدُّ الزَّادَ مِنْ تَقْوَى فَإِنِّي
…
رَأَيْتُ مَنِيَّتِي السَّفَرَ الْبَعِيدَا
تَبَدَّل صَاحِبي فِي اللَّحْدِ مِنِّي
…
وَهَالَ عَلَى مَنَاكِبَى الصَّعِيدَا
فَلَوْ أَبْصَرْتَنِي مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ
…
رَأَيْتَ مَحَاسِنِي قَدْ صِرْنَ دُودَا
وَحِيدًا مُفْرِدًا يَا رَبِّ [لُطْفًا]
…
بِعَبْدِكَ حِينَ مَا يُتْرَكْ وَحِيدَا
فإذا قصر أمله فِي الحياة انَبْعَث إِلَى التجهز للآخرة بعمل الطاعات إذ لا يدري متى ينادى عَلَيْهِ بالرحيل فإذا تخلص من التعلق بالدُّنْيَا وأفرغ ما فِي قَلْبهُ من سمومها وأقبل على الآخِرَة أحس بغربة شديدة فِي الدُّنْيَا ولكن مَعَ خفة فِي روحه وإقبال شديد على مراضي الله وعلى رأسها الدعوة إليه وهداية الحيارى من عباد الله.
لا يعوقه عَنْ ذَلِكَ عائقٌ من تعبٍ ولا نصبٍ ولا سفرٍ ولا سهرٍ ولا بذلٍ ولا تضحيةٍ لأن ذَلِكَ كله من الزَّاد المؤكد نفعه وفائدته فِي سفره الطويل الْبَعِيد إِلَى الآخِرَة بل إنه سيعقب تعبه راحةٌ وألمه لذة وَفِي بذله ربحًا وَفِي تضحيته عوضًا مضمونَا.
وَفِي وصية الإِمَام علي بن أبي طالب لابنه الحسن أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة وقوه باليقين ونوره بالحكمة وَذَلِلّهُ بذكر الموت وقرره بالفناء وبصره بفجائع الدُّنْيَا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأَيَّامُ وأعرض عَلَيْهِ أخبار الماضين وذكره بما أصاب من كَانَ قبلك من الأولين وسر فِي ديارهم وآثارهم وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا فإنك تجدهم قَدْ انتقلوا عَنْ الأحبة وحلوا فِي دار غربة وكأنك عَنْ قليل قَدْ صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع أخرتك بدنياك إِلَى أن قَالَ: يَا بني أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عَلَيْهِ وتفضي بعد الموت إليه حَتَّى يأتيك وقَدْ أخذت وشددت لَهُ أزرك ولا يأتيك بغتة فيبهرك وَإِيَّاكَ أن تغتر بما تَرَى من إخلاد أَهْل الدُّنْيَا إليها وتكالبهم عَلَيْهَا فقَدْ نبأك الله عَنْهَا ونعت لَكَ نفسها وتكشف لَكَ عَنْ مساويها فَإِنَّ أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهر بعضها بَعْضًا أي ينبح بعضها على بَعْض ويأكل عزيزها ذليلها ويقهر كبيرها صغيرها نَعَمٌ معلقة وأخرى مهملة قَدْ أضلت عقولها وركبت مجهولها سروح عاهة لَيْسَ راع يقيمها ولا مقيم يَسِيسُهَا سلكت بِهُمْ الدُّنْيَا طَرِيق العمى وأخذت
بأبصارهم عَنْ منار الهدى فتاهوا فِي خيراتها وغرقوا فِي نعمتها واتخذوها رَبًّا فلعبت بِهُمْ ولعبوا بها ونسوا ما وراءها، واعْلَمْ أن من كَانَ مطيته الليل والنَّهَارَ فإنه يسار به وإن كَانَ واقفًا ويقطع المسافة وإن كَانَ مقيمًا.
شِعْرًا:
…
يَا جَامِعَ الْمَالِ إِنَّ الْعُمْرَ مُنْصَرِمٌ
…
فَابْخَلْ بِمَالِكَ مَهْمَا شِئْتَ أَوْ فَجُدِ
وَيَا عَزِيزًا يَخِيطُ الْعُجْبُ نَاظِرُهُ
…
أُذْكُرْ هَوَانَكَ تَحْتَ التُّرْبِ وَاتَّئِدِ
قَالُوا تَرَقَى فُلانُ الْيَوْمَ مَنْزِلَةً
…
فَقُلْتُ يُنْزِلُهُ عَنْهَا لِقَاءُ غَدِ
كَمْ وَاثِقٍ بِاللَّيَالِي مَدَّ رَاحَتَهُ
…
إِلَى الْمَرَامِ فَنَادَاهُ الْحِمَامُ قَدِ
وَبَاسِطٍ يَدَهُ حُكْمًا وَمَقْدِرَةً
…
وَوَارِدُ الْمَوْتِ أَدْنَى مِنْ فَمٍ لِيَدِ
كَمْ غَيَّرَ الدَّهْرُ مِنْ دَارِ وَسَاكِنِهَا
…
لا عَنْ عَمِيدِ ثَنَى بَطْشًا وَلا عَمَدِ
زَالَ الَّذِي كَانَ لِلْعَلْيَا بِهِ سَنَدٌ
…
وَزَالَتْ الدَّارُ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ
تَبَارَكَ اللهُ كَمْ تَلْقَى مَصَائِدَهَا
…
هَذِي النُّجُوم عَلَى الدَّانِينَ وَالْبُعَدِ
تَجْرِي النُّجُومُ بِتَقْرِيبِ الْحِمَامِ لَنَا
…
وَهُنَّ مِنْ قُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى أَمَدِ
لا بُدَّ أَنْ يَغْمِسَ الْمِقْدَارُ مُدْيَتَهُ
…
فِي لَبَّةِ الْجَدْيِ مِنْهَا أَوْ حَشَى الأَسَدِ
عَجِبْتُ مِنْ آمِلٍ طُولَ الْبَقَاءِ وَقَدْ
…
أَخْنَى عَلَيْهِ الَّذِي أَخْنَى عَلَى لُبَدِ
يَجُرّ خَيْطُ الدُّجَى وَالْفَجْرِ أَنْفُسَنَا
…
لِلتُّرْبِ مَا لا يَجُرُّ الْحَبْلُ مِنْ مَسَدِ
هَذِي عَجَائِبُ تَثْنِي النَّفْسَ حَائِرَةً
…
وَتُقِعِدُ الْعَقْلَ مِنْ عِيِّ عَلَى ضَمَدِ
مَا لِي أُسَرٌ بِيَوْمٍ نِلْتُ لَذَتَهُ
…
وَقَدْ ذَوَى مَعَهُ جُزْءٌ مِن الْجَسَدِ
لا تَرْكَنَّ فَرِيدًا فِي التُّرَابِ غَدًا
…
وَلَوْ تَكَثَّرَ مَا بَيْنَ الْوَرَى عَدَدِي
مَا نَافِعِي سَعَةٌ فِي الْعَيْشِ أَوْ حَرَجٌ
…
إِنْ لَمْ تَسَعْنِي رُحْمَى الْوَاحِدِ الصَّمَدِ
اللَّهُمَّ قنعنا من الدُّنْيَا باليسير وسهل عَلَيْنَا كُلّ أمر عسير وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وأسكنا دار كرامتك يَا من هُوَ ملجؤنا وملاذنا وإليه المصير واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجَا ومن كُلّ ضيق مخرجَا،
اللَّهُمَّ أحيي قلوبًا أماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
ومِمَّا ورد فِي فضيلة الرجَاءَ من الأحاديث ما فِي الصحيحين عَنْ أبي سعيد رضي الله عنه عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قتل تسعةً وتسعين نفسًا، ثُمَّ ندم وسأل عابدًا من عباد بني إسرائيل هل لَهُ من توبة فقَالَ لا فقتله وأكمل به مائةً، ثُمَّ سأل عالمًا من علمائهم هل لَهُ من توبة فقَالَ ومن يحول بينك وبين التوبة.
ثُمَّ أمره بالذهاب إِلَى قرية يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت فِي أثناء الطَرِيق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة الْعَذَاب، فأمر الله عز وجل أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كَانَ أقرب فهو مَنْهَا فوجدوه أقرب إِلَى الأَرْض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نأى بصدره عَنْدَ الموت، وأن الله تبارك وتعالى أمر البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلد أن تتباعد. هَذَا معنى الْحَدِيث.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، وأن مُحَمَّد عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق والنار حق، أدخله الله الْجَنَّة على ما كَانَ من الْعَمَل» . متفق عَلَيْهِ. وَفِي رواية لمسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّدًا رسول الله حرم الله عَلَيْهِ النار» .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ الله عز وجل من جَاءَ بالحسُنَّة فله عشر أمثالها، أو أزيد ومن جَاءَ بالسيئة فجزاء سَيِّئَة مثلها أَوْ أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب منى ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً، ومن لقيني بقراب الأَرْض خطيئةً لا يشرك بي شَيْئًا لقيته بمثلها مغفرة» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن جابر رضي الله عنه قَالَ: جاء أعربي إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما الموجبتان؟ قَالَ: «من مَاتَ لا يشرك بِاللهِ شَيْئًا دخل الْجَنَّة، ومن مَاتَ يشرك به شَيْئًا دخل النار» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث معاذ: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ» .
وَفِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عَنْ الْجَنَّة» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث عتبان قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ الله قَدْ حرم عَلَى النَّارِ من قَالَ لا إله إلا الله يبتغي بذَلِكَ وجه الله» . متفق عَلَيْهِ.
وعن عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه قَالَ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فالزقته ببطنها فأرضعته، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أترون هَذِهِ المرأة طارحة ولدها فِي النار» ؟ قلنا: لا وَاللهِ. فقَالَ: «لله أرحم بعباده من هَذِهِ بولدها» . متفق عَلَيْهِ.
وعن أَنَس رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ الله يَا ابن آدم إِنَّكَ ما دعوتني ورجوتني، غفرت لَكَ على ما كَانَ منك ولا أبالي، يَا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثُمَّ استغفرتني غفرت لَكَ، يَا ابن آدم
إِنَّكَ لو أتيتني بقراب الأَرْض خطايا، ثُمَّ لقيتني لا تشرك بي شَيْئًا، لا تيتك بقرابها مغفرة» . رَوَاهُ الترمذي.
وعنه عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن الكافر إِذَا عمل حسَنَةً أطعم بها طعمة من الدُّنْيَا، وأما المُؤْمِن فَإِنَّ الله تَعَالَى يدخر لَهُ حسناته فِي الآخِرَة ويعقبه رزقًا فِي الدُّنْيَا على طاعته» .
وَفِي رواية: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسَنَةً يعطى بها فِي الدُّنْيَا ويجزى بها فِي الآخِرَة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفضى إِلَى الآخِرَة لم يكن لَهُ حسَنَةً يجزى بها» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم فِي أَهْل الشرك إلا كالشعرة البيضاء فِي جلد الثور الأسود أَوْ كالشعرة السوداء فِي جلد الثور الأحمر» . متفق عَلَيْهِ.
وَفِي حديث ابن عباس قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ما من رجل مُسْلِم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بِاللهِ شَيْئًا إلا شفعهم الله فيه» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث أبي هريرة فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اذهب فمن لقيت وراء هَذَا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي مُوَسى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النَّهَارَ ويبسط يده بالنَّهَارَ ليتوب مسيء الليل حَتَّى تطلع الشمس من مغربها» . رَوَاهُ مُسْلِم.
شِعْرًا:
تَتَبَّعْ مَرَاضِي اللهَ وَادْعُ وَالْحِفَا
…
لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ فَتَسْعَدا
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا
…
وَلاتتوانى عَندما تسمع الندا
عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُدْنَى المُؤْمِن يوم القيامة من ربه حَتَّى يضع عَلَيْهِ كنفه فيقرره بذنوبه فَيَقُولُ: أتعرف ذنب كَذَا أتعرف ذنب كَذَا فَيَقُولُ: ربي أعرف، قَالَ: فإني سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فيعطى صحيفة حسناته» . متفق عَلَيْهِ.
وينبغي لمن قربت مفارقته الدُّنْيَا أن يكون على باله ما تقدم من آيات الرجَاءَ وأحاديث الرجَاءَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
شِعْرًا:
…
نَادَتْ بِوَشْكَ رَحِيلِكَ الأَيَّامُ
…
أَفْلَسَتْ تَسْمَعُ أَمْ بِكَ اسْتِصْمَامُ
وَمَضَى أَمَامَك مَنْ رَأَيْتُ وَأَنْتَ لِلْـ
…
بَاقِينَ حَتَّى يَلْحَقُوكَ إِمَامُ
مَا لِي أَرَاكَ كَأَنَّ عَيْنَكَ لا تَرَى
…
عِبَرًا تَمُرُّ كَأَنَّهُنَّ سِهَامُ
تَأْتِي الْخُطُوبُ وَأَنْتَ مُنْتَبِهُ لَهَا
…
فَإِذَا مَضَتْ فَكَأَنَّهَا أَحْلامُ
قَدْ وَدَّعَتْكَ مِن الصِّبَا نَزَوَاتُهُ
…
فَاجْهَدْ فَمَالَكَ بَعْدَهُنَّ مَقَامُ
وَأَرْضَ الْمَشِيبَ مِن الشَّبَابِ خَلِيفَةً
…
فَكِلاهُمَا لَكَ خِلْفَةٌ وَنِظَامُ
وَكِلاهُمَا حُجَجٌ عَلَيْكَ قَوِيَّةٌ
…
وَكِلاهُمَا نِعَمٌ عَلَيْكَ جِسَامُ
وَلَقَدْ غَنِيتَ مِنَ الشَّبَابِ بِغِبْطَةٍ
…
وَلَقَدْ كَسَاكَ وِقَارُهُ الإِسْلامُ
أَهْلاً وَسَهْلاً بِالْمَشِيبِ مُؤَدِّبًا
…
وَعَلَى الشَّبَابِ تَحِيَّةٌ وَسَلامُ
مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا
…
إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ
وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ
…
أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَاب رُكَامُ
وَلَكَمْ رَأَيْتُ مَحَلَّةً أَقْوَتْ وَكَمْ
…
جَدَثٌ رَأَيْتُ تَلُوحُ فِيهِ عِظَامُ
وَالْمَوْتُ يَعْمَلُ وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ
…
تَلْهُو وَتَعْبَثُ بِالْمُنَى وَتَنَامُ
فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ دَائِمٌ
…
أَبَدًا وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ
وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لِجَلالِهِ
…
وَلِحِلْمِهِ تَتَصَاغَرُ الأَحْلامُ
وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ لَمْ يَزَلْ
…
لا تَسْتَقْلُ بِعِلْمِهِ الأَوْهَامُ
سُبْحَانَهُ مَلِكٌ تَعَالَى جَدُّهُ
…
وَلِوَجْهِهِ الإِجْلالُ وَالإِكْرَامُ
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغار إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لَنَا ولوالدينا ولجميع الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ ": إِذَا فهمت ما تقدم فاعْلَمْ أن الْعَبْد المُؤْمِن لا بد أن يجمَعَ بين الرجَاءَ والخوف، وَهَذَا الطَرِيق هُوَ طَرِيق الاعتدال، لأنه إن غلب عَلَيْكَ الرجَاءَ حَتَّى فقدت الخوف البتة وقعت فِي طَرِيق الأمن من مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وإن غلب عَلَيْكَ الخوف حَتَّى فقدت رجَاءَ الله وقعت فِي طَرِيق اليأس، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، وإن جمعت بين الخوف والرجَاءَ فهو طَرِيق أَوْلِيَاء الله وأصفيائه.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وجملة الأَمْر أنَّكَ إِذَا تذكرت سعة رحمة الله تَعَالَى التي سبقت غضبه ووسعت كُلّ شَيْء ثُمَّ أن كنت من هَذِهِ الأمة المرحومة الكريمة على الله تَعَالَى ثُمَّ غاية فضله العَظِيم وكمال جوده الكريم وجعل عنوان كتابه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ كثرة أياديه إليك ونعمته عَلَيْكَ ظاهرة وباطنة من غير شفيع أَوْ قدم سابقة لَكَ.
شِعْرًا:
…
يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا
…
عِلْمًا وَبِي وَبِإِعْلانِي وَإِسْرَارِي
أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا
…
فَهَبْ ذُنُوبِي لِتَوْحِيدِي وَإِقْرَارِي
آخر:
…
أَيَا رَبِّ قَدْ أَحْسَنْتَ عَودًا وَبَدْأَةً
…
إِليَّ فَلَمْ يَنْهَضْ بِإِحْسَانِكَ الشُّكْرُ
فَمَنْ كَانَ ذَا عُذْرٍ لَدَيْكَ وَحُجَّةٍ
…
فَعُذْرِي إِقْرَارِي بِأَنْ لَيْسَ لِي عُذْرُ
وتذكرت من جانب آخر كمال جلاله وعظمته وعظم سلطانه وهيبته
ثُمَّ شده غضبه الَّذِي لا تَقُوم لَهُ السماوات والأَرْض، ثُمَّ غاية غفلتك وكثرة ذنوبك وجفوتك مَعَ دقة أمره، وخطر معاملته فِي إحاطة علمه وبصره بالعيوب والغيوب، ثُمَّ حسن وعده وثوابه الَّذِي لا يبلغ كنهه الأوهام وشدة وعيده وأليم عقابه الَّذِي لا يحتمل ذكره الْقُلُوب.
تَارَّة تنظر إِلَى عذابه وتَارَّة تنظر إِلَى رأفته ورحمته، وتَارَّة تنظر إِلَى نفسك فِي جفواتها وجناياتها فإذا فعلت ذَلِكَ أدى بك جميع ذَلِكَ إِلَى الخوف والرجَاءَ وَكُنْت قَدْ سلكت سبيل الشارع الْقَصْد وعدلت من الجانبين المهلكين، الأمن واليأس ولا تتيه فيهما مَعَ التائهين، ولا تهلك مَعَ الهالكين وشربت الشراب الممزوج العدل فلا تهلك ببرودة الرجَاءَ الصرف، ولا بحرارة الخوف الصرف.
وكأني بك قَدْ وصلت إِلَى المقصود غانمًا وشفيت من العلتين سالمًا ووجدت النفس قَدْ انبعثت للطاعة ودانت فِي الخدمة ليلاً ونهارًا من غير فترةٍ ولا غَفْلَةٍ، واجتنبت المعاصي والمخازي وهجرنها وصرت حينئذ من الأصفياء الخواص العابدين، الَّذِينَ وصفهم الله تَعَالَى بقوله:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .
وَاللهُ سُبْحَانَهُ المسئول أن يمدك وإيانَا بحسن توفيقه وتسديده إنه أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وأجود الأجودين ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلي العَظِيم.
اللَّهُمَّ إنََّا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الْحَبِيب بحبيبه عَنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إِلَى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": قَالَ ابن القيم رحمه الله: الْقَلْب فِي سيره إِلَى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجَاءَ جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ومتى قطع الرأس مَاتَ الطائر متى فقَدْ الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
وقِيْل أكمل الأَحْوَال الاعتدال.أهـ. قَالَ الله تَعَالَى مخبرًا عَنْ أوليائه وأصفيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقَالَ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقِيْل: إن كَانَ الغالب على الْقَلْب الأمن من مكر الله فالخوف أفضل وَكَذَا إن كَانَ الغالب على الْعَبْد المعصية، وإن كَانَ الغالب عَلَيْهِ اليأس والقنوط فالرجَاءَ أفضل.
والَّذِي تطمئن إليه النفس سلوك الاعتدال إلا عَنْدَ فراق الدُّنْيَا فيغلب جانب الرجَاءَ.
لما ورد عَنْ جابر رضي الله عنهما أنه سمَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يَقُولُ: «لا يموتن أحدكم إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنِ بِاللهِ عز وجل» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وقَالَ عليه الصلاة والسلام: «قَالَ الله عز وجل أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي وأنَا معه حيث ذكرني» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة وقَدْ رئي بَعْضهمْ بعد موته فسئل عَنْ حاله فأنشد:
شِعْرًا:
…
نُقِلْتُ إِلَى رِمْسِ الْقُبُورِ وَضِيقَهَا
…
وَخَوْفِي ذُنُوبِي أَنَّهَا بِي تَعْثُرُ
فَصَادَفْتُ رَحْمَانًا رَؤُوفًا وَأَنْعُمًا
…
حَبَانِي بِهَا سَقْيًا لِمَا كُنْتُ أَحْذَرُ
وَمنْ كَانَ حُسْنُ الظَّنِ في حَالِ مَوْتِهِ
…
جَمِيلاً بِعَفْوِ اللهِ فَالْعَفْوُ أَجْدَرُ
آخر:
…
رَجَوْتُكَ يَا رَحْمَنُ إِنَّكَ خَيْرُ مَنْ
…
رَجَاهُ لِغُفْرَانِ الْجَرَائِمِ مُرْتَجِي
فَرَحْمَتُكَ الْعُظْمَى الَّتِي لَيْسَ بَابُهَا
…
وَحَشَاكَ فِي وَجْهِ الْمُسِيء بِمُرْتَجِ
آخر:
…
يَا مَنْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ يَبْتَهِلُوا
…
وَكُلُّ حَيّ عَلَى رُحْماهُ يَتَّكِلُ
يَا مَنْ نَأَى فَرَأى مَا فِي الْقُلُوبُ وَمَا
…
تَحْتَ الثَّرَى وَحِجَابُ اللَّيْلِ مُنْسَدِلُ
يَا مَنْ دَنَا فَنَأَى عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْـ
…
أَفْكَارُ طُرًّا أَوْ الأَوْهَامُ وَالْعِلَلُ
أَنْتَ الْمَلاذُ إِذَا مَا أَزْمَتٌ شَمِلَتْ
…
وَأَنْتَ مَلْجَأُ مَنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ
أَنْتَ الْمُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ حَادِيَةٍ
…
أَنْتَ الإِلهُ وَأَنْتَ الذُّخْرُ وَالأَمَلُ
أَنْتَ الْغِيَاثُ لِمَنْ سُدَّتْ مَذَاهِبُهُ
…
أَنْتَ الدَّلِيلُ لِمَنْ ضَلَّتْ بِهِ السُّبُلُ
إِنَّا قَصَدْنَاكَ وَالآمَالُ وَاقِعَةٌ
…
عَلَيْكَ وَالْكُلُّ مَلْهُوفٌ وَمُبْتَهِلُ
فَإِنْ غَفَرْتَ فَعَنْ طُولٍ وَعَنْ كَرَمٍ
…
وَإِنْ سَطَوْتَ فَأَنْتَ الْحَاكِمُ الْعَدِلُ
وأخَرَجَ الإِمَام أحمد وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي عَنْ حيان أبي النضر قَالَ: خرجت عائدًا ليزيد بن الأسود، فلقيت واثلة بن الأسقع وَهُوَ يريد عيادته، فدخلنا عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى واثلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل واثلة حَتَّى جلس فأخذ يزيد بكفي واثلة فجعلهما على وجهه، فقَالَ لَهُ واثلة: كيف ظنك بِاللهِ؟ قَالَ: ظني بِاللهِ حسن. قَالَ: فأبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ الله عز وجل أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله» .
وروى الطبراني عَنْ ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: والَّذِي لا إله غيره لا يحسن عبد بِاللهِ الظن إلا أعطاه ظنه، وَذَلِكَ بأن الْخَيْر فِي يده.
وروى البيهقي عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «أمر الله عز وجل بعبد إِلَى النار فَلَمَّا وقف على شفتها التفت فقَالَ: أما وَاللهِ يا رب إن كَانَ ظني
بك لحسن فقَالَ الله عز وجل: ردوه أَنَا عَنْدَ حسن ظن عبدي بي» .
ولما حضرت الإِمَام أحمد الوفاة قَالَ لولده عَبْد اللهِ: أذكر لي أحاديث الرجَاءَ، وأنشد بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ:
شِعْرًا:
…
أَرَانِي إِذَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِتَوْبَةٍ
…
تَعَرَّضَ لِي مِنْ دُونِ ذَلِكَ عَائِقُ
تَقَضَّتْ حَيَاتِي فِي اشْتِغَالٍ وَغَفْلَةٍ
…
وَأَعْمَالِ سُوءٍ كُلُّهَا لا تُوَافِقُ
طُرِدْتُ وَغَيْرِي بِالصَّلاحِ مُقَرَّبٌ
…
وَدُونَ بُلُوغِي مَسْلَكٌ مُتَضَايقُ
وَكَيْفَ وَزَلاتُ الْمُسِيءِ كَثِيرَةٌ
…
أَيَقْرُبُ عَبْدٌ عَنْ مَوَالِيهِ آبِقُ
إِلَى اللهِ أَشْكُو قَلْبَ سُوءٍ قَدْ احْتَوَى
…
عَلَيْهِ الْهَوَى وَاسْتَأْصَلَتْهُ الْعَلائِقُ
وَلِي حُزْنٌ يَزْدَادُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ
…
وَدَمْعُ جُفُونِي لِلْبُكَاءِ يُسَابِقُ
فَإِنْ يَغْفِرْ الْمَوْلَى الَّذِي قَدْ أَتَيْتُه
…
فَذَاكَ الرَّجَا وَالظَّنُّ حِينًا يُوَافِقُ
(عَلامَةُ مَا يُولِي مِن الْفَضْل إِنْ أَنَا
…
هَجَرْتُ الدُّنَا أَوْ قُلْتُ إِنَّكَ طَالِقُ)
(وَأَقْبَلْتُ فِي تَصْلِيحِ أَخْرَايَ مُدْلِجًا
…
أُحَاسِبُ نَفْسِي كُلِّ مَا ذَرَّ وَشَارِقُ)
" فَصْلٌ "
قَالَ ابن القيم رحمه الله: ولا ريب أن حُسْن الظَّنِ بِاللهِ إنما يكون مَعَ الإحسان فَإِنَّ المحسن حَسَنُ الظَّنِ بربه أنه يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فَإِنَّ المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حُسْن الظَّنِ بربه وَهَذَا موجود فِي الشاهد فَإِنَّ الْعَبْد الآبق المسيء الخارج عَنْ طاعة سيده لا يحُسْن الظَّنِ به، ولا يجامَعَ وحشة الإساءة إحسان الظن أبدًا، فَإِنَّ المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن النَّاس ظنًا بربه أطوعهم لَهُ، كما قَالَ الحسن البصري: إن المُؤْمِن أحُسْن الظَّنِ بربه فأحسن الْعَمَل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء الْعَمَل.
وكيف يكون محُسْن الظَّنِ بربه من هُوَ شارد عَنْهُ، حال مرتحل فِي مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قَدْ هان حقه وأمره عَلَيْهِ فأضاعه، وهان نهيه عَلَيْهِ فارتكبه وأصر عَلَيْهِ وكيف يحُسِّن الظَّنِ بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه ووالى أعداءه، وجحد صفات لَهُ وأساء الظن بما وصف نَفْسهُ ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وظن بجهله أن ظاهر ذَلِكَ ضلال وكفر.
وكيف يحُسْن الظَّنِ بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى فِي حق من شك فِي تعلق سمعه ببَعْض الجزئيات، وَهُوَ السِّرّ فِي القول (41: 23) {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} .
فهؤلاء لما ظنوا أن الله سُبْحَانَهُ لا يعلم كثيرًا مِمَّا يعملون كَانَ هَذَا إساءة لظنهم بربهم، فأرداهم ذَلِكَ الظن. وَهَذَا شأن كُلّ من جحد صفات كماله ونعوت جلاله، ووصفه بما لا يليق به، إِذَا ظن هَذَا أنه يدخله الْجَنَّة كَانَ هَذَا غرورًا وخداعًا من نَفْسهُ، وتسويلاً من الشيطان، لا إحسان ظن بربه.
فتأمل هَذَا الموضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمَعَ فِي قلب الْعَبْد تيقنه بأنه مُلاقٍ الله، وأن الله يسمَعَ كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عيه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسئول عَنْ كُلّ عمل وَهُوَ مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه، وَهُوَ مَعَ هَذَا يحُسْن الظَّنِ به.
وهل هَذَا إلا من خدع النُّفُوس وغرور الأماني، وقَدْ قَالَ أبو سهل ابن حنيف: (دخلت أَنَا وعروة بن الزبير على عَائِشَة رضي الله عنها فقَالَتْ: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مرض لَهُ، وكَانَتْ عنده ستة دنانير أَوْ سبعة دنانير، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أفرقها، فشغلني وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى عافاه
الله ثُمَّ سألني عَنْهَا فقَالَ: «ما فعلت أكنت فرقت الستة دنانير» . فَقُلْتُ: لا وَاللهِ، لَقَدْ كان شغلني وجعك، قَالَتْ: فدعا بها فوضعها فِي كفه، فقَالَ:«ما ظن نَبِيّ اللهِ لو لقي الله وهذه عنده» .
فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بِاللهِ إِذَا لقوه ومظَالِم العباد عندهم، فَإِنْ كَانَ ينفعهم قولهم: حسَّنَّا ظنونَنَا بك إِنَّكَ لم تعذب ظالمًا ولا فَاسِقًا، فليصنع الْعَبْد ما شَاءَ، وليرتكب كُلّ ما نهاه الله عَنْهُ، وليحسن ظنه بِاللهِ، فالنار لا تمسه، فسبحان الله، ما يبلغ الغرور بالْعَبْد، وقَالَ إبراهيم لقومه (37: 86) {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . أي ما ظنكم به إن يفعل بكم إِذَا لقيتموه وقَدْ عبدتم غيره.
ومن تأمل هَذَا الموضع حق التأمل علم أن حُسْن الظَّنِ بِاللهِ هُوَ حسن الْعَمَل نَفْسهُ، فَإِنَّ الْعَبْد يحمله على حسن الْعَمَل حُسْن الظَّنِ بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عَلَيْهَا ويتقبلها منه، فالَّذِي حمله على حسن الْعَمَل حُسْن الظَّنِ، فكُلَّما حسن ظنه بربه حسن عمله.
وإِلا فَحُسْن الظَّنِ مَعَ اتباع الهوى عجز، كما فِي الترمذي والمسند مِنْ حَدِيثِ شداد ابن أوس عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الكيس من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني» .
وبالجملة فَحُسْن الظَّنِ إنما يكون مَعَ انعقاد أسباب النجاة وأما مَعَ انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن.
فَإِنَّ قِيْل: بل يتأتى ذَلِكَ، ويكون مستند حُسْن الظَّنِ على سعة مغفرة الله ورحمته، وعفوه وجوده، وأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَأَنَّهُ لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو.
قِيْلَ: الأَمْر هكَذَا، وَالله فوق ذَلِكَ وأجل وأكرم وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذَلِكَ فِي محله اللائق به، فإنه سُبْحَانَهُ موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كَانَ مُعَوَّلُ حُسْن الظَّنِ على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك فِي ذَلِكَ البر والفاجر، والمُؤْمِن والكافر، ووليه وعدوه.
فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقَدْ باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته، ووقع فِي محارمه وانتهك حرماته، بل حُسْن الظَّنِ ينفع من تاب وندم وأقلع، وبدل السيئة بالحسُنَّة، واستقبل بقية عمره بالْخَيْر والطاعة، ثُمَّ أحُسْن الظَّنِ بعدها فهَذَا هُوَ حُسْن الظَّنِ، والأول غرور وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
يفرق بين حُسْن الظَّنِ بالله وبين الغرور به قَالَ الله تَعَالَى (2: 218){إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ} فجعل هؤلاء أَهْل الرجَاءَ، لا الباطلين والفاسقين، وقَالَ تَعَالَى (16: 119) {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأخبر سُبْحَانَهُ أنه بعد هَذِهِ الأَشْيَاءِ غفور رحيم لمن فعلها، فالعَالِم يضع الرجَاءَ مواضعه، والجاهل المغتر يضعه فِي غير مواضعه.
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تائبين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ فِي نَمَاذِج مِنْ أََخْلَاقِ السَّلَفِ رحمهم الله
من ذَلِكَ توصية بَعْضهمْ بَعْضًا وقُبُولهمْ لها وشكرهم للواعظ لَهُمْ، ومن وصية الإِمَام علي بن أبي طالب لابنه الحسن قَالَ فيها:
أي بني.. إني لما رأيتني قَدْ بلغت سنًا، ورأيتني أزداد وهنًا بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً مِنْهَا قبل أن يُعَجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما فِي نفسي، وأن أنقص فِي رأيي كما نقصت فِي جسمي، أَوْ يسبقني إليك بَعْض غلبات الهوى وفتن الدُّنْيَا، فتَكُون كالصعب النفور.
وإنما قلب الحدث كالأَرْض الخالية ما ألقي فيها من شَيْء قبلته، فبادرتك بالأَدَب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك من الأَمْر ما قَدْ كفاك أَهْل التجارب بغيته وتجربته، فتَكُون قَدْ كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذَلِكَ ما قَدْ كنا نأتيه، واستبان لَكَ ما ربما أظلم عَلَيْنَا منه.
أي بني.. إني وإن لم أكن عمرت عمر من كَانَ قبلي، فقَدْ نظرت فِي أَعْمَالُهُمْ، وفكرت فِي أخبارهم، وسرت فِي آثارهم حَتَّى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهِيَ إِلَيَّ من أمورهم قَدْ عمرت مَعَ أولهم إِلَى آخرهم، فعرفت صفو ذَلِكَ من كدره ونفعه من ضرره.
فاستخلصت لَكَ من كُلّ أمر نخيله وتوخيت لَكَ جميله، وصرفت عَنْكَ مجهوله، ورَأَيْت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عَلَيْهِ من أدبك أن يكون ذَلِكَ وأَنْتَ مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة ونفس صافية.
وأن إبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله، وشرائع الإِسْلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذَلِكَ بك إِلَى غيره، ثُمَّ أشفقت أن يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ ما اختلف النَّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الَّذِي التَبَسَ عَلَيْهمْ، فكَانَ أحكام ذَلِكَ على ما كرهت من تنبيهك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك الله لما فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك بوصيتي هَذِهِ.
واعْلَمْ يَا بني، إن أحب ما أَنْتَ آخذ به إِلَيَّ من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عَلَيْكَ، والأخذ بما مضى عَلَيْهِ الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فَإِنَّهُمْ لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أَنْتَ ناظر.
وفكروا كما أَنْتَ مفكر، ثُمَّ ردهم آخر ذَلِكَ إِلَى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فَإِنَّ أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذَلِكَ بتفهم وتعلم، ولا بتورط الشبهات وعلوا الخصومَاتَ.
وابدأ قبل نظرك فِي ذَلِكَ بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه فِي توفيقك، وترك كُلّ شائبة أَوْلجتك فِي شبهة أَوْ أسلمتك إِلَى ضلالة، فإذا أيقنت أن قَدْ صفا قلبك فَخَشَعَ، وتم رأيك فاجتمَعَ، وكَانَ همك فِي ذَلِكَ همًا واحدًا، فَانْظُرْ فيما فَسَّرْتُ لَكَ.
وإن لم يجتمَعَ لَكَ ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعْلَمْ أنَّكَ إنما تخبط العشواء وتتورط الظلماء، ولَيْسَ طالب الدين من خبط أَوْ خلط، والإمساك على ذَلِكَ أمثل.
فتفهم يَا بني وصيتي، واعْلَمْ أنَّ مالك الموت هُوَ مالك الحياة، وأنَّ الخالق هُوَ المميت، وأن المفني هُوَ المعيد، وأن الله هُوَ المعافي، وأن الدُّنْيَا لم تكن لتستقر إلا على ماجعلها الله عَلَيْهِ من النعماء والابتلاء، والجزاء فِي المعاد أَوْ ما شَاءَ مِمَّا لا نعلم.
فإن أشكل عَلَيْكَ شَيْء من ذَلِكَ فاحمله على جهالتك به، فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثُمَّ علمت، وما أكثر ما تجهل من الأَمْر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثُمَّ تبصره بعد ذَلِكَ، فاعتصم بالَّذِي خلقك ورزقك وسواك، وليكن لَهُ تَعَبُّدُكَ، وإِليه رغبتُك، ومنه شفقتك.
واعْلَمْ يَا بني أن أحدًا لم ينبئ عَنْ الله كما أنبأ عَنْهُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فارض به رائدًا، وإلى النجاة قائدًا، فإني لم آلُكَ نصيحة، وإنك لن تبلغ فِي النظر لنفسك - وإن اجتهدت - مبلغ نظري لَكَ.
واعْلَمْ يَا بني أنه لو كَانَ لربك شريك لأتتك رسله، ولرَأَيْت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إلهٌ واحدٌ كما وصف نَفْسهُ، لا يضاده فِي ملكه أَحَدًا، ولا يزول أبدًا، ولم يزل أول قبل الأَشْيَاءِ بلا أولية، وآخر بعد الأَشْيَاءِ بلا نهاية، عَظُمَ عَنْ أن تَثْبُتَ ربوبيته بإحاطة قلب أَوْ بصر، فإذا عرفت ذَلِكَ فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله فِي صغر خطره، وقلة مقدرته، وكثرة عجزه، وعَظِيم حاجته إِلَى ربه، فِي طلب طاعته، والرهبة من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عَنْ قبيح.
يا بني.. إني قَدْ أنبأتك عَنْ الدُّنْيَا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عَنْ الآخِرَة وما أعد لأهلها فيها، وضربت لَكَ فيهما الأمثال لتعتبر بها وتحذو عَلَيْهَا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نعوذ بك من الشك بعد اليقين، ومن الشيطان الرجيم، ومن شدائد يوم الدين، ونسألك رضاك والْجَنَّة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللَّهُمَّ ارحمنا إِذَا عرق الجبين واشتد الكرب والأنين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ ": إنما مثل من خَبَرَ الدُّنْيَا كمثل قوم سَفرٍ نَبَا بِهُمْ منزل جديب فأَمَّوا منْزِلاً خصيبًا وجنابًا مريعًا فاحتملوا وعثاء الطَرِيق وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم، ليأتوا سعة دراهم، ومنزل قرارهم، فلَيْسَ
يجدون لشيء من ذَلِكَ ألَمًا، ولا يرون فِي نفقه مغرمًا، ولا شَيْء أحب إليهم مِمَّا قربهم من منزلهم، وأدناهم عَنْ محلهم.
ومثل من اغتر بها كمثل قوم كَانُوا بمنزل خصيب، فَنَبَا بِهُمْ إِلَى منزل جديب، فلَيْسَ شَيْء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كَانُوا فيه إِلَى ما يهجمون عَلَيْهِ ويصيرون إليه.
يا بني.. اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره لَهُ ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من النَّاس بما ترضاه لَهُمْ من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقَالَ لَكَ.
وَاعْلَمْ أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع فِي كدحك ولا تكن خازنًا لغيرك، وَإِذَا هديت لقصدك، فكن أخشع ما تَكُون لربك.
واعْلَمْ أن أمامك طريقًا ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة، وأنه لا غنى لَكَ فيه عَنْ حسن الارتياد، قَدْرَ بلاغك من الزَّاد مَعَ خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذَلِكَ وبالاً عَلَيْكَ.
وَإِذَا وجدت من أَهْل الفاقة من يحمل لَكَ زادك إِلَى يوم القيامة، فيوافيك به غدًا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمله إياه، وأكثر من تزويده وأَنْتَ قادر عَلَيْهِ، فلعلك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك فِي حال غناك، ليجعل قضاءه لَكَ فِي يوم عسرتك.
واعْلَمْ أن أمامك عقبة كؤودًا، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطي عَلَيْهَا أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة على جنة أَوْ على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فلَيْسَ بعد الموت مستعتب، ولا إِلَى الدُّنْيَا منصرف.
واعْلَمْ أن الَّذِي بيده خزائن السماوات والأَرْض، قَدْ أذن لَكَ فى الدُّعَاء، وتكفل لَكَ بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك تسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عَنْكَ، ولم يلجئك إِلَى من يشفع لَكَ إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عَلَيْكَ فِي قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة.
بل جعل نزوعك عَنْ الذنب حسُنَّة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشرًا، وفتح لَكَ باب المتاب، فإذا ناديته سَمِعَ نداءك، وَإِذَا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسأتله من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق.
ثُمَّ جعل فِي يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لَكَ من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدُّعَاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطك إبطاء إجابته، فَإِنَّ العطية عَلَى قَدْرِ النية، وَرُبَّمَا أخرت عَنْكَ إجابة ليكون ذَلِكَ أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل.
وَرُبَّمَا سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرًا منه عاجلاً أَوْ آجلاً، أَوْ صرف عَنْكَ لما هُوَ خَيْر لَكَ، فلرب أمر قَدْ طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لَكَ جماله، وينفى عَنْكَ وباله. فالْمَال لا يبقى لَكَ ولا تبقى لَهُ.
واعْلَمْ أَنَّكَ إنما خلقت للآخرة لا الدُّنْيَا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك فِي منزل قلعة ودار بلغة، وطَرِيق إِلَى الآخِرَة.
وأنك طريد الموت الَّذِي لا ينجو منه هاربه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه على حذر إن يدركك وأَنْتَ على حال سَيِّئَة قَدْ كنت تحدث نفسك مَنْهَا بالتوبة، فيحول بينك وبين ذَلِكَ، فإذا أَنْتَ قَدْ أهلكت نفسك.
يا بني.. أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عَلَيْهِ، وتفضي بعد الموت إليه، حَتَّى يأتيك وقَدْ أخذت منه حذرك، وشددت لَهُ أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك، وَإِيَّاكَ أن تغتر بما تَرَى من إخلاد أَهْل الدُّنْيَا إليها، وتكالبهم عَلَيْهَا.
فقَدْ نبأك الله عَنْهَا ونَعَتَتْ لَكَ نفسها، وتكشفت لَكَ عَنْ مساويها، فَإِنَّ أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بَعْضًا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها.
نعم معقلة، وأخرى مهملة، قَدْ أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة بواد وعث. لَيْسَ لها راع يقيمها، ولا مقيم يسميها، سلكت بِهُمْ الدُّنْيَا طَرِيق العمى، وأخذت بأبصارهم عَنْ منار الهدى، فتاهوا فِي حيرتها، وغرقوا فِي نعمتها، واتخذوها ربًّا فلعبت بِهُمْ ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها.
رويدًا يسفر الظلام، كَأنْ قَدْ وردت الأظغان، يوشك من أسرع أن يلحق، واعْلَمْ أن من كانت مطية الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفًا ويقطع المسافة وإن كان مقيمًا وادعًا.
واعلم يقينا إِنَّكَ لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وإنك فِي سبيل من كَانَ قبلك فخفض فِي الطلب، وأجمل فِي المكتسب فانه رب طلب قَدْ جر إلى حرب، فلَيْسَ كُلّ طالب بمرزوق، ولا كُلّ مجمل بمحروم، وأكرم نفسك عَنْ دنية، وان ساقتك إِلَى الراغائب، فانك لن تعتاض بما تبذل
من نفسك عوضًا، ولا تكن عبد غيرك وقَدْ جعلك الله حرًا، وما خَيْر، لا ينال إلا بشر، ويسر لا ينال الا بعسر.
وَإِيَّاكَ أن توجف بك مطايا الطمَعَ، فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت أن يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله سُبْحَانَهُ أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كَانَ كُلّ منه.
كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ بِأَخْبَارِ مَنْ مَضَى
…
وَلَمْ تَرَ فِي الْبَاقِينَ مَا يَصْنَعُ الدَّهْرُ
فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ دِيَارُهُمْ
…
عَلَيْهَا مَجَالُ الرِّيحِ بَعْدَكَ وَالْقَطْرُ
وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ حَيًّا بِمَنْزِلٍ
…
عَلَى الأَرْضِ إِلا بِالْفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ
وَأَهْلُ الثَّرَى نَحْوَ الْمَقَابِرِ شُرّعٌ
…
وَلَيْسَ لَهُمْ إِلا إِلَى رَبِّهِمْ نَشْرُ
عَلَى ذَاكَ مَرُّوا أَجْمَعُونَ وَهَكَذَا
…
يَمُرُّونَ حَتَّى يَسْتَرِدُّهُمْ الْحَشْرُ
فَلا تَحْسَبَنَّ الْوَفْرَ مَالاً جَمَعْتَهُ
…
وَلَكِنَّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ صَالِحٍ وَفْرُ
قَضَى جَامِعُوا الأَمْوَالِ لَمْ يَتَزَوَّدُوا
…
سِوَى الْفَقْرُ يَا بُؤْسًا لِمَنْ زَادُهُ الْفَقْرُ
بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا
…
وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ
وَمَا بَيْنُ مِيلادُ الْفَتَى وَوَفَاتِهِ
…
إِذَا نَصَحَ الأَقْوَامُ أَنْفُسَهُمْ عُمْرُ
لأَنَّ الَّذِي يَأْتِي كَمِثْلِ الَّذِي مَضَى
…
وَمَا هُوَ إِلا وَقْتُكَ الضَّيِّقُ النَّزْرُ
فَصَبْرًا عَلَى الأَوْقَاتِ حَتَّى تَحُوزَهَا
…
فَعَمَّا قَلِيلٍ بَعْدَهَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ
اللَّهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا وبفنائك أنخنا وَإِيَّاكَ أملنا ولما عندك من الكرم والجود والإحسان طلبنا ومن عذابك أشفقنا ولغفرانك تعرضنا فاغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(وَصِيَّةُ أَبِيْ حَازِمٍ الأَعْرَجِ لِلزُّهْرِي)
عافانَا الله وَإِيَّاكَ أبا بكر من الفتن، ورحمك من النار، فقَدْ أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك مَنْهَا، أصبحت شيخًا كبيرًا قَدْ أثقلتك نعم الله عَلَيْكَ، بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله تَعَالَى مِمَّا حَمَلَكَ من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، فرمى بك فِي كُلّ نعمة أنعمها عَلَيْكَ وكل حجة يحتج بها عَلَيْكَ، وقَدْ قَالَ تَعَالَى:{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .
انظر.. أي رجل تَكُون إِذَا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عَنْ نعمه عَلَيْكَ كيف رعيتها، وعن حججه عَلَيْكَ كيف قضيتها، ولا تحسبن الله راضيًا منك بالتغرير، ولا منك التقصير، هيهات لَيْسَ كَذَلِكَ.
أخذ على الْعُلَمَاء فِي كتابه إذ قال {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} .. الآية.
إنك تَقُول إِنَّكَ جدل، ماهر عَالِم، قَدْ جدلت النَّاس فجدلتهم، وخاصمتم فخصمتهم، إذلالاً منك بهمك، وإقتدارًا منك برأيك، فأين تذهب من قول الله عز وجل:{هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .. الآية
اعْلَمْ أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقيت، أن آنست الظَالِم وسهلت لَهُ طَرِيق الغي بدنوك حين أدنيت، وأجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن تبوء بإثمك غدا مَعَ الْجُمُعَة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عَنْ ظلم مظلمة.
إنك أخذت ما لَيْسَ لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقًا، ولا ترك باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدلَيْسَ بدعائه إياك حين دعاك.
جعلوك قطبًا تدور باطلهم عَلَيْكَ، وجسرًا يعبرون بك إِلَى بلائهم،
وسلمًا إِلَى ضلالتهم، وداعيًا إِلَى غيهم، وسالكًا سبيلهم، يدخلون بك الشك على الْعُلَمَاء، ويقتادون بك قُلُوب الجهال إليهم، فلم تبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لَهُمْ إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لَكَ فِي جنب ما خرجوا عَلَيْكَ، وما أقل ما أعطوك فِي كثير ما أخذوا منك، فَانْظُرْ لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول.
وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرًا وكبيرًا، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه فِي النَّاس بخيلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك لكسوته ستيرَا، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تَكُون منه قريبَا.
ما لَكَ لا تنتبه من نفسك، وتستقِيْل من عثرتك، فَتَقُول: وَاللهِ ما قمت لله مقامًا واحدًا أحيي لَهُ فيه دينًا، ولا أميت لَهُ فيه باطلاً، إنما شكرك لمن استحَمَلَكَ كتابه، واستودعك علمه.
ما يؤمنك أن تَكُون من الَّذِينَ قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى}
…
الآية.
إنك لست فِي دار مقام، قَدْ أذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه، طُوبَى لمن كَانَ مَعَ الدُّنْيَا على وجل، ويا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده.
إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ولَيْسَ أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك. ذهبت اللذة وبقيت التعبة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، إحذر فقَدْ أتيت، وتخلصت فقَدْ أدهيت إِنَّكَ تعامل من لا يجهل، والَّذِي يحفظ عَلَيْكَ لا يغفل.
تجهز فقَدْ دنا منك سفر، وداو دينك فقَدْ دخله سقم شديد، ولا
تحسبن أني أردت توبيخك أَوْ تعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تبنش ما فات من رأيك، وترد ما عزب عَنْكَ من حلمك، وذكرت قوله تَعَالَى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
أغفلت ذكر من مضى من أسلافك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فَانْظُرْ هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أَوْ دخلوا فِي مثل ما دخلت فيه، هل تراه إِدَّخَرَ لَكَ خيرًا منعوه أَوْ علمك عِلْمًا جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك فِي صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن حللت أحلوا، وإن حرمت حرموا، ولَيْسَ ذَلِكَ عندك، ولكن إكبابهم عَلَيْكَ، ورغبتهم فيما فِي يديك، ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عَلَيْكَ وعَلَيْهمْ، وطلب حب الرياسة وطلب الدُّنْيَا منك وَمِنْهُمْ.
أما تَرَى ما أَنْتَ فيه من الجهل والعزة، وما النَّاس فيه من البَلاء والفتنة، وابتليتهم بالشغل عَنْ مكاسبهم وفتنتهم، بما رأوا من اثر العلم عَلَيْكَ، وتاقت أنفسهم إِلَى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الَّذِي بلغت، فوقعوا بك فِي بحر لا يدرك قعره، وَفِي بَلاء لا يقدر قدره، فالله لَنَا ولك ولهم المستعان.
واعْلَمْ أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تَعَالَى على يدي أوليائه لآوليائه، الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولَقَدْ جَاءَ نعتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الَّذِينَ إِذَا غابوا لم يفتقدوا، وَإِذَا شهدوا لم يعرفوا، قُلُوبهمْ مصابيح الهدى، يخرجون من كُلّ فتنة سوداء مظلمة» .
فهؤلاء أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وجاه يجريه الله تَعَالَى على يدي أعدائه لأوليائه، وَمِقَةٌ يقذفها الله فِي قُلُوبهمْ لَهُمْ، فيعظمهم النَّاس بتعَظِيم أولئك لَهُمْ ويرغب النَّاس فيما فِي أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
وما أخوفني أن تَكُون ممن ينظر لمن عاش مستورًا عَلَيْهِ فِي دينه، مقتورًا عَلَيْهِ فِي رزقه، معزولة عَنْهُ البلايا، مصروفة عَنْهُ الفتن فِي عنفوان شبابه وطهور جلده، وكمال شهوته.
فعني بذَلِكَ دهره، حَتَّى إِذَا كبر سنه، ورق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته، فتحت عَلَيْهِ الدُّنْيَا شر فتوح فلزمته تبعتها وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها.
فسبحان الله ما أبين هَذَا الغبن، وأخسر هَذَا الأَمْر، فهلا إِذَا عرضت لَكَ فتنتها ذكرت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عمر رضي الله عنه فِي كتابه إِلَى سعد.. حين خاف عَلَيْهِ مثل الَّذِي وقعت فيه عِنْدَمَا فتح الله على سعد.
أما بعد فأعرض عَنْ زهرة ما أَنْتَ فيه حَتَّى تلقى الماضين الَّذِينَ دفنوا فِي أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، لَيْسَ بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدُّنْيَا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا.
فإذا كَانَتْ الدُّنْيَا يبلغ من مثلك هَذَا فِي كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث فِي سنه، والجاهل فِي علمه، والمأفون فِي رأيه المدخول فِي عقله (إنَا لله وإنَا إليه راجعون) على من المعول، وعَنْدَ من المستعتب.
نحتسب عَنْدَ الله مصيبتنا.. وما نرى منك، ونحمد الله الَّذِي عافانَا مِمَّا ابتلاك به. والسَّلام عَلَيْكَ ورحمة الله وبركاته..
شِعْرًا:
…
يَمْشُونَ نَحْوَ بُيُوتِ اللهِ إِذَا سَمِعُوا
…
اللهُ أَكْبَرُ فِي شَوْقٍ وَفِي جَذَلِ
أَرْوَاحُهُمْ خَشَعَتْ للهِ فِي أَدَبِ
…
قُلُوبُهُمْ مِنْ جَلالِ اللهِ فِي وَجَلِ
نَجْوَاهُمُ رَبَّنَا جِئْنَاكَ طَائِعَةً
…
نُفُوسَنَا وَعِصْيَانَا خَادِعَ الأَمَلِ
إِذَا سَجَى اللَّيْلُ قَامُوهُ وَأَعْيُنُهُمْ
…
مِنْ خَشْيَةِ اللهِ مِثْلَ الْجَائِدِ الْهَطَلِ
هُمُ الرِّجَال فَلا يُلْهِيهِمْ لَعِبٌ
…
عَن الصَّلاةِ وَلا أَكْذُوبَةُ الْكَسَلِ
آخر:
…
لا فِي النَّهَارَ وَلا فِي اللَّيْلِ لِي فَرَحٌ
…
فَمَا أُبَالِى أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَا
لأَنَّنِي طُولَ لَيْلِى هَائِمٌ دَنِفٌ
…
وَبِالنَّهَارَ أُقَاسِي الْهَمَّ وَالْفِكَرَا
آخر:
…
لَعَمْرِي لَقَدْ نُودِيتَ لَوْ كُنْتَ تَسْمَعُ
…
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا لَيْسَ يَدْفَعُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّاسَ فِي غَفَلاتِهِمْ
…
وَأَنَّ الْمَنَايَا بَيْنَهُمْ تَتَقَعْقَعُ
أَلَمْ تَرَ لَذَّاتِ الْجَدِيدِ إِلَى الْبَلَى
…
أَلَمْ تَرَ أَسْبَابَ الأُمُورِ تَقَطَّعُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَوْتَ يَهْتَزُّ سَيْفُهُ
…
وَأَنَّ رِمَاحَ الْمَوْتِ نَحْوَكَ شُرَّعُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الوَقْتَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ
…
لَهُ عَارِضٌ فِيهِ الْمَنِيَّةُ تَلْمَعُ
أَيَا بَانِي الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَبْتَنِي
…
وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقَالَ رجل لمُحَمَّد بن سيرين: أوصني. فقَالَ: لا تحسد أَحَدًا فإنه إن كَانَ من أَهْل النار فَكَيْفَ تحسده على دنيا فانية مصيره بعدها إلى النار، وإن كَانَ من أَهْل الْجَنَّة فاتبعه فِي إعمالها واغبطه عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أولى من حسدك لَهُ على الدُّنْيَا.
وقَالَ رجل للحسن البصري: أوصني. فقَالَ: لا تذنب فتلقى نفسك فِي النار من إِنَّكَ لو رَأَيْت أَحَدًا يلقى برغوثًا فِي النار لا نكرت عَلَيْهِ، وأَنْتَ تلقى نفسك فِي النار كُلّ يوم مرات، ولا تنكر عَلَيْهَا. ومن ذَلِكَ حسن أدبهم مَعَ الصغير والكبير ومَعَ الْبَعِيد فضلاً عَنْ القريب.
والأصل فِي الأَدَب شهود النقص فِي النفس والكمال فِي الغير عكس من
كَانَ قليل أدب متكبر، وكَانَ ميمون بن مهران إِذَا دُعِي إِلَى وليمة جلس مَعَ الصبيان والمساكين من الرِّجَال وترك الأغنياء، وكَانَ بكر بن عَبْد اللهِ المزني يَقُولُ: إِذَا رَأَيْت من هُوَ أكبر منك فعظّمْه وقل إنه سبقني إِلَى الإِسْلام والْعَمَل الصالح وَإِذَا رَأَيْت من هُوَ أصغر منك فعظمه وقل فِي نفسك إني سبقته إِلَى الذُّنُوب، وَإِذَا أكرمك النَّاس فقل هَذَا من فضل الله علي لا أستحقه وَإِذَا أهانوك فقل هَذَا بذنب أحدثته.
ومن أخلاقهم انخلاع قُلُوبهمْ من خوف الله من ذَلِكَ ما ذكر أنه لما حضرت الوفاة سلمان الفارسي بكى، وقَالَ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ عهد إلينا وقَالَ: «ليكن بلغة أحدكم من الدُّنْيَا كزَادَ الراكب " وها أَنَا قَدْ جمعت هَذِهِ الأمتعة وأشار إليها وهي أجانة وحفنة ومطهرة فَلَمَّا مَاتَ قوموها بخمسة عشر درهمًا.
شِعْرًا:
…
مَا ضَرَّ مَنْ كَانَتْ الْفِرْدَوْسُ مَسْكَنَهُ
…
مَاذَا تَحَمَّلَ مِنْ بُؤْسٍ وَإِقْتَارِ
تَرَاهُ يَمْشِي كَئِيبًا خَائِفًا وَجِلاً
…
إلى الْمَسَاجِدِ يَسْعَى بَيْنَ أَطْمَارِ
ومِمَّا ينسب إِلَى الشَّافِعِي:
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى شَيْئَيْنِ لَوْ جُمِعَا
…
عِنْدِي لَكُنْتَ إِذَا مِنْ أَسْعَدِ الْبَشَرِ
كَفَافِ عَيْشٍ يَقِينِي شَرَّ مَسْأَلَةٍ
…
وَخِدْمَةِ الْعِلْمِ حَتَّى يَنْتَهِي عُمُرِي
آخر:
…
قَطَعَ اللَّيَالِي مَعَ الأَيَّامِ فِي خَلِق
…
وَالنَّوْمُ تَحْتَ رِوَاقِ الْهَمِّ وَالْقَلَقِ
أَحْرَى وَأَعْذَرُ لِي مِنْ أَنْ يُقَالَ غَدًا
…
إِنِّي التَمَسْتُ الْغِنَى مِنْ كَفِّ مُخْتَلِقِ
قَالُوا قَنِعْتَ بِذَا قُلْتُ الْقُنُوعُ غِنَى
…
لَيْسَ الْغِنَى كَثْرَةُ الأَمْوَالِ وَالْوَرَقِ
آخر:
…
لا تَضْرَعَنَّ لِمَخْلِوقٍ عَلَى طَمَعٍ
…
فَإِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْكَ فِي الدِّينِ
وَاسْتَرْزِقْ اللهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ
…
فَإِنَّمَا الأَمْرُ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ
آخر:
…
كَمْ فَاقَةٍ مَسْتُورَةٍ بِمُرُوءَةٍ
…
وَضَرورَةٍ قَدْ غُطِّيَتْ بِتَجَمُّلِ
وَمنِ ابْتِسَامٍ تَحْتَهُ قَلْبٌ شَجِي
…
قَدْ خَامَرَتْهُ لَوْعَةٌ مَا تَنْجَلِي
آخر:
…
إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا نَالَتْهُ مَخْمَصَةٌ
…
أَبْدَى إِلَى النَّاسِ رَيًّا وَهُوَ ظَمْآنُ
يَطْوِي الضُّلُوعَ عَلَى مِثْلِ اللَّظَى حُرَقًا
…
وَالْوَجْهُ طلق بِهِ وَالْبشَّر رَيّانُ
آخر:
…
نَهَارٌ مُشْرِقٌ وَظَلامُ لَيْلٍ
…
أَلَحَّا بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ
هُمَا هَدَمَا دَعَائِمَ عُمْرِ نُوحٍ
…
وَلُقْمَانٍ وَشَدَّادٍ وَعَادِ
فَيَا بَكْرَ بن حَمَّادٍ تَعَجَّبْ
…
لِقَوْمٍ سَافَرُوا مِنْ غَيْرِ زَادِ
تَبِيتُ عَلَى فِرَاِشَك مُطْمَئِنًا
…
كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ مِنَ الْمَعَادِ
فَيَا سُبْحَانَ مَنْ أَرْسَى الرَّوَاسِي
…
وَأَوْفَدَهَا عَلَى السَّبّعُ الشِّدَادِ
آخر:
…
مَنْ رَاقَبَ الْمَوْتَ لَمْ تَكْثُرْ أَمَانِيهِ
…
وَلَمْ يَكُنْ طَالِبًا مَا لَيْسَ يَعْنِيهِ
آخر:
…
رُبَّ بَاتَ يُمَنِّي نَفْسَهُ
…
حَالَ مِنْ دُونِ مُنَاهُ أَجْلُهْ
آخر:
…
إِذَا أَمْسَيْتَ فَابْتَدِرِ الصَّبَاحَا
…
وَلا تُمْهِلْهُ تَنْتَظِرِ الصِّيَاحَا
وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ فَكَمْ أُنَاسٍ
…
قَضَوْا نَحْبًا وَقَدْ نَامُوا صِحَاحَا
آخر:
…
وَلا تُرْجِ فِعْلَ الصَّالِحَاتِ إِلَى غَدٍ
…
لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ
احتضر بَعْض العباد فقَالَ: ما تأسفي على دار الهموم والأحزان والانكاد والخطايا والذُّنُوب، وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عَنْ ذكر الله، وقَالَ إبراهيم بن أدهم: فرغ قلبك من ذكر الدُّنْيَا يفرغ عَلَيْكَ الرضاء إفراغًا. خطب الحجاج فقَالَ: إن الله أمرنا نطلب الآخِرَة وكفانَا مؤنة الدُّنْيَا فليته كفانَا مؤونة الآخِرَة وأمرنا بطلب الدُّنْيَا. فقَالَ الحسن البصري: ضالة المُؤْمِن عَنْدَ فاسق فليأخذها.
وقَالَ أَنَس رضي الله عنه: إن الله جعل الدُّنْيَا دار بلوى والآخِرَة دار عقبى، فجعل بلوى الدُّنْيَا لثواب الآخِرَة سببًا، وثواب الآخِرَة من بلوى الدُّنْيَا عوضًا فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي. وقَالَ بَعْضهمْ: إن امرأ ذهبت ساعة من عمره فِي غير ما خلق لَهُ لحري أن يطول عَلَيْهَا حزنه.
وقَالَ آخر: ما ابتلى أحد بشَيْء أشد من الغَفْلَة والقَسْوَة إنما كره المُؤْمِن الموت لانقطاع الأَعْمَال الصَّالِحَة وخوف الذُّنُوب، ومن شغله طلب الدُّنْيَا عَنْ الآخِرَة ذل إما فِي الدُّنْيَا وإما فِي الآخِرَة وإما بهما جميعًا.
من نظر فِي سيرة السَّلَف عرف تقصيره وتخلفه عَنْ درجات الكمال، تعرف نفسك فِي ثلاثة مواضع: إِذَا عملت فَانْظُرْ نظر الله إليك وَإِذَا تكلمت فاذكر سمَعَ الله إليك وَإِذَا سكت فاذكر علم الله فيك، تهاون بالدُّنْيَا حَتَّى لا يعظم بعينك أهلها ومن يملكها.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: كَانَ الرجل فِي أَهْل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركًا لها، والْيَوْم يزداد الرجل بعلمه حبًا للدنيا وطلبًا لها وكَانَ الرجل ينفق ماله على علمه والْيَوْم يكسب الرجل بعلمه مالً وكَانَ يرى على طالب العلم زيادة فِي باطنه وظاهره والْيَوْم يرى على كثير من أَهْل العلم فساد فِي الظاهر والباطن.
شِعْرًا:
…
يَا عَامِرَ الدُّنْيَا عَلَى شَيْبَتِهْ
…
فِيكَ أَعَاجِيبُ لِمَنُ يَعْجَبُ
مَا عُذْرُ مَنْ يَعْمُر بُنْيَانَهُ
…
وَعُمْرُهُ مُسْتَهْدَمٌ يَخْرَبُ
آخر:
…
عَجِبْتُ لِتَغْرِيسِي نَوَى النَّخْلِ بَعْدَمَا
…
طَلَعْتَ عَلَى السِّتِّينَ أَوْ كِدْتُ أَفْعَلُ
وَأَدْرَكْتُ مِلأَ الأَرْضِ نَاسًا فَأَصْبَحُوا
…
كَأَهْلِ دِيَارٍ أَدْلَجُوا فَتَحَمَّلُوا
وَمَا النَّاسُ إِلا رُفْقَةٌ قَدْ تَحَمَّلَتْ
…
وَأُخْرَى تُقَضَّى حَاجَهَا ثُمَّ تَرْحَلُ
ولما حضرت إبراهيم النخعى الوفاة بكى فقِيْل لَهُ فِي ذَلِكَ فقَالَ: إني أنتظر رسولاً يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالْجَنَّة أَوْ بالنار. ولما حضرت عمر بن عَبْد الْعَزِيز الوفاة، قَالَ: اللهم إني أذنبت فَإِنَّ غفرت لي فقَدْ مننت وإن عذبتني فقَدْ عدلت، وما ظلمت لكن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثُمَّ قضى نحبه.
وكَانَ يتمثل بهذه الأبيات:
تَرَاهُ مَكِينًا وَهُوَ لِلَّهْوِ مَاقِتٌ
…
بِهِ عَنْ حَدِيثِ الْقَوْمِ مَا هُوَ شَاغِلُهْ
وَأَزْعَجَهُ عِلْمٌ عَنْ الْجَهْلِ كُلِّهِ
…
وَمَا عَالِمٌ شَيْئًا كَمَنْ هُوَ جَاهِلُهْ
عَبُوسٌ عَنْ الْجُهَّالِ حِينَ يَرَاهُمُوا
…
فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُمْ خَدِينٌ يُهَازِ لَهْ
تَذَكَّرَ مَا يَلْقَى مِنْ الْعَيْشِ آجِلاً
…
فَاشْغَلهُ عَنْ عَاجِلِ الْعَيْشِ آجِلُهْ
ولما حضرت عامر بن قيس الوفاة بكى وقَالَ: إني لم أبك جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدُّنْيَا، ولكن على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل فِي أيام الشتاء.
وكَانُوا يبكون إِذَا فاتتهم تكبيرة الإحرام مَعَ الجماعة، وكَانَ المحدث الثِّقَة بشر بن الحسن يقَالَ لَهُ الصفي لأنه كَانَ يلزم الصف الأول فِي مسجد البصرة خمسين سُنَّة.
مثله إبراهيم بن ميمون المروزي أحد الدعاة المحدثين الثقاة من أصحاب عطاء بن أبي رباح وكَانَتْ مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة قَالُوا: كَانَ فقيهًا فاضلاً من الأمارين بالمعروف. وقَالَ ابن معين: كَانَ إِذَا رفع المطرقة فسمَعَ النداء لم يردها.
وقِيْل لكثير بن عبيد الحمصى عَنْ سبب عدم سهوه فِي الصَّلاة وقَدْ أم أَهْل حمص ستين سُنَّة كاملة فقَالَ: ما دخلت من باب المسجد قط وَفِي نفسي غير الله.
وقَالَ سُلَيْمَانٌ بن حمزة المقدسى وَهُوَ من ذرية ابن قدامة صَاحِب كتاب المغنى " لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلها قط مَعَ أنه قارب التسعين» .
وذكر عَنْ الأعمش أنه قَالَ: لم تفتني صلاة الجماعة ما يقرب من أربعين سُنَّة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها.
وذكر عن بَعْضهمْ أنه لم تفته تكبيرة الإحرام أربعين سُنَّة وكَانَ بَعْضهمْ يصيبه مرض إِذَا فاتته صلاة الجماعة.
نَحْنُ بالعكس ربما يصيبنا مرض أَوْ جنون إِذَا فاتنا شَيْء من حطام الدُّنْيَا والسبب الوحيد إِنَّ الدُّنْيَا ما تهمهم وأما الآخِرَة فهي نصب أعينهم فِي كُلّ ساعة يستعدون لها والدُّنْيَا جعلوها مطية الآخِرَة.
نسال الله الحي القيوم العلى العَظِيم القوى العزيز أن يوقظ قلوبنا من هَذِهِ الرقدة اللَّهُمَّ صلى على مُحَمَّد.
شِعْرًا:
…
أَفَلَسْتَ تَدْرِي أَنَّ يَوْمَكَ قَدْ دَنَا
…
أَوَ لَسْتَ تَدْرِي أَنَّ عُمْرَكَ يَنْفَدُ
فَعلامَ تَضْحَكُ وَالْمَنِيَّةُ قَدْ دَنَتْ
…
وَعَلامَ تَرْقُدُ وَالثَّرى لَكَ مَرْقَدُ
آخر:
…
الْوَقْت سَاوَمَنِي عُمْرِي فَقُلْتُ لَهُ
…
لا بِعْتُ عُمْرِي بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
ثُمَّ اشْتَرَاهُ تَفْرِيقًا بِلا ثَمَنِ
…
ثَبِّتْ يَدَا صَفقَةٍ قَدْ خَابَ شَارِيهَا
آخر:
…
وَمَا فُرْشُهُمْ إِلا أَيَامِنَ أُزْرِهِمْ
…
وَمَا وُسْدُهُمْ إِلا مِلاءٌ وأَذْرُعُ
وَمَا لَيْلُهُم فِيهِنَّ إِلا تَخَوُّفٌ
…
وَمَا نَوْمُهُمْ إِلا عِشَاشٌ مُرَوَّعُ
وألوانهم صفر كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ
…
عَلَيْهَا جِسَامًا مَا بِهِ الْوَرْسُ مُشبْعُ
نَوَاحِلُ قَدْ أَرْزَى بِهَا الْجُهْدُ وَالسَّرَى
…
إِلَى اللهِ فِي الظُّلْمَاءِ وَالنَّاسُ هُجَّعُ
وَيَبْكُونَ أَحْيَانًا كَأَنَّ عَجِيجَهُمْ
…
إِذَا نَوَّمَ النَّاسُ الْحَنِينُ الْمُرَجَّعُ
وَمَجْلِسِ ذِكْرِ فِيهِمْ قَدْ شَهِدْتُهُ
…
وَأَعْيُنُهُمْ مِنْ رَهْبَةِ اللهِ تَدْمَعُ
آخر:
…
وَمَا النَّاسُ إِلا رَاحِلُونَ وَبَيْنَهُمْ
…
رِجَالٌ ثَوَتْ آثَارُهُمْ كَالْمَعَالِمِ
بِعِزَّةِ بَأَسٍ وَاطِّلاعِ بَصِيرَةٍ
…
وَهَزَّةِ نَفْسٍ وَاتِّسَاعِ مَرَاحِمِ
حُظُوظُ كَمَالٍ أَظْهَرَتْ مِنْ عَجَائِبٍ
…
بِمِرْآة شَخْصٍ مَا اخْتَفَى فِي الْعَوَالِمِ
وَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ يَخْتَصُّ نَفْسَهُ
…
أَلا إِنَّمَا التَّخْصِيصُ قِسْمَةُ رَاحِمِ
وَقَدْ يَفْسِدُ الْحُرَّ الْكَرِيمَ جَلِيسُهُ
…
وَتَضْعُفُ بِالإِيهَامِ قُوَّةُ حَازِمِ
وَلَيْسَ بِحَيٍّ سَالِكٍ فِي خَسَائِسٍ
…
وَلَيْسَ بِمَيْتٍ هَالِكٌ فِي مَكَارِمِ
.. إِذَا لَجَّ لُؤْمٌ مِنْ سَفِيهٍ لِرَاشِدٍ
…
تَوَهَّمَ رَشْدًا فِي سَفَاهَهِ لائِمِ
عَجِبْتُ مِنْ الإِنْسَانِ يَعْجَبُ وَهُوَ فِي
…
نَقَائِصَ أَحْوَالٍ قَسِيمَ السَّوَائِمِ
يَرَى جَوْهَرَ النَّفْسِ الطَّلِيقَ فَيَزْدَهِي
…
وَيَذْهَلُ عَنْ أَعْرَاضِ جِسْمٍ لَوَازِمِ
دُيُونُ اضْطِرَارٍ تَقْتَضِي كُلَّ سَاعَةٍ
…
فَتُقْتَرَضُ الأَعْمَارُ بَيْنَ الْمَغَارِمِ
وَكُلُّ فَمَغْرُورٌ بِحُب حَيَاتِهُ
…
وَيُغْرِيهِ بِالأَدْنَى خَفَاءُ الْخَوَاتِمِ
وَجَمَّاعُ مَالٍ لا انْتِفَاعَ لَهُ بِهِ
…
كَمَا مَصَّ مَشْرُوطَا زُجَاجِ الْمَحَاجِمِ
وَمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا تَيَقَّنَ أَنَّهَا
…
مَطِيَّةُ يَقْظَانٍ وَطَيْفَةُ حَالِمِ
فَلِلَّهِ سَاعٍ فِي مِنْاَهجِ طَاعَةٍ
…
لإيلافِ عَدْلٍ أَوْ لإِتْلاِفِ ظَالِمِ
ولما حضرت عَبْد اللهِ بن المبارك الوفاة قَالَ لغلامه: اجعل رأسي على الأَرْض. فَبَكَى غلامه قَالَ: ما يبكيك؟ قَالَ: ذكرت ما كنت فيه من النَّعِيم وأَنْتَ هُوَ ذا تموت على هَذِهِ الحال فقَالَ: إني سألت ربي أن أموت على هَذِهِ الحال.
ثُمَّ قَالَ: لقني يَا أخي لا إله إلا الله إِذَا الحال تغير، ولا تعد علي إلا إن تكلمت بعد بكلام. ودخل الحسن البصري على رجل وَهُوَ فِي سياق الموت يجود بنفسه فقَالَ: إن أمرًا هَذَا آخره لحقيق أن يزهد فِي أوله. ولما حضرت أبا ذر الوفاة قَالَ: يَا موت اخنق وعجل فإني أحب لقاء الله.
ودخل أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل محتضر يجود بنفسه فوجده يَقُولُ: الحمد لله. فقَالَ لَهُ: أصبت يَا أخي أن الله إِذَا قضى أمرًا أحب من عبده أن يحمده عَلَيْهِ. ودخل سفيان الثوري على ولد يجود بنفسه وأبواه يبكيان عنده فقَالَ لهما: لا تبكيا فَإِنَّي قادم على من هُوَ أرحم منكما. ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى، قَالُوا: ما يبكيك؟ قَالَ: بعد السفر وقلة الزَّاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط فِي النار. وروي أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قَالَ: أعوذ بِاللهِ من ليلة صباحها إِلَى النار.
شِعْرًا:
…
لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فَقْد قَصَرٍ
…
فَسِيحٍ مُنْيَةِ لِلسَّاكِتِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِينٍ
…
يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا
ثُمَّ قَالَ: مرحبًا بالموت زائر مغيب وحبيب جَاءَ على فاقة، اللَّهُمَّ إني كنت أخافك وأنَا الْيَوْم أرجوك، اللهم إِنَّكَ تعلم أني لم أكن أحب الدُّنْيَا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومكابدة السَّاعَات ومزاحمة الْعُلَمَاء بالركب عَنْدَ حلق الذكر.
ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة وجعل يجود بنفسه وَيَقُولُ: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هَذَا ألا رجل يعمل لمثل يومي هَذَا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هَذِهِ. ثُمَّ قبض رحمه الله فيا أيها الغَافِل المهمل وكلنا كَذَلِكَ انتبه واغتنم أوقات الصحة والسلامة واملأ أوقاتك بالباقيات الصالحات قبل أن يفاجئك هاذم اللذات ويحال بينك وبين الأَعْمَال الصالحات وتندم ولات ساعة مندم.
شِعْرًا:
…
تَغَنَّمْ سُكُونَ الْحَادِثَاتِ فَإِنَّهَا
…
وَإِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيلٌ تَحَرَّكُ
وَبَادِرْ بَأَيَّامِ السَّلامَةِ إِنَّهَا
…
رِهَانٌ وَهَلْ لِلرَّهْنِ عِنْدَكَ مَتْرَكُ
آخر:
…
نَهَارُكُ بَطَّالٌ وَلَيْلُكَ نَائِمٌ
…
وَعَيْشُكَ يَا مِسْكِينُ عَيْشُ الْبَهَائِم
آخر:
…
وَعَظَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ صُمُوتُ
…
وَسُكَّانِهَا تَحْتَ التُّرَابِ خُفُوتُ
أَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ
…
لِمَنْ تَجْمَعِ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَمُوتُ
وروى المزني قَالَ: دخلت على الشَّافِعِي فِي مرضه الَّذِي مَاتَ فيه فَقُلْتُ لَهُ: كيف أصبحت؟ فقَالَ: أصبحت من الدُّنْيَا راحلاً وللإِخْوَان مفارقًا ولسوء عملي ملاقيًا ولكأس المنية شاربًا وعلى الله واردًا فلا أدري أروحي تصير إِلَى الْجَنَّة فأهنؤها أَوْ إِلَى النار فأعزيها ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
وَلَمَّا قَسَى قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي
…
جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ
…
بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوِكَ أَعْظََمَا
وَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنْ الذَّنْبِ لَمْ يَزَل
…
تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
آخر:
…
أَجَاعَتْهُمْ الدُّنْيَا فَخَافُوا وَلَمْ يَزَلْ
…
كَذَلِكَ ذُو التَّقْوَى عَنْ الْعَيْشِ مُلْجَمَا
أَخُو طَيءٍ دَاوُدُ مِنْهُمْ وَمِسْعَرٌ
…
وَمِنْهُمْ وَهَيْبٌ وَالْعَرِيبُ بنُ أَدْهَمَا
وَفِي ابنِ سَعِيدٍ قُدْوَةَ الْبِرَّ وَالنُّهَى
…
وَفِي الْوَارِثِ الْفَارُوقِ صِدْقًا مُقَدِّمَا
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ بِالْفُضَيْلِ مَعَ ابْنِهِ
…
وَيُوسُفَ إِنْ لَمْ يَأْلُ أَنْ يَتَسَلَّمَا
أُولِئكَ أَصْحَابِي وَأَهْلُ مَوَدَّتِي
…
فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ذُو الْجَلالِ وَسَلَّمَا
فَمَا ضَرَّ ذَا التَّقْوَى نِصَالُ أَسِنَّةٍ
…
وَمَا زَالَ ذُو التَّقْوَى أَعَزُّ وَأَكْرَمَا
وَمَا زَالَتِ التَّقْوَى تُرِيكَ عَلَى الْفَتَى
…
إِذَا مَحَّض التَّقْوَى مِنْ الْعِزِّ مِيسَمَا
آخر:
…
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ وَاقْنَعْ بِرِزْقِهِ
…
فَخَيْرُ عِبَادِ اللهِ مَنْ هُوَ قَانِعُ
وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا وَلا طَمَعٌ بِهَا
…
فَقَدْ تُهْلِكَ الْمَغْرُورَ فِيهَا الْمَطَامِعُ
فَصَبْرًا عَلَى مَا نَابَ مِنْ تَبُعَاتِهَا
…
فَمَا يَسْتَوِي عَبْدٌ صَبُورٌ وَجَازِعُ
أَعَاذِلُ مَا يُغْنِي الثَّرَاء عَنْ الْفَتَى
…
إِذَا حَشْرَجَتْ فِي النَّفْسِ مِنْهُ الأَضَالِعُ
آخر:
…
امنع جفوننك طول الليل رقدتها
…
وامنع حشاك لذيذ الري والشبعا
واستشعر البر والتقوى ودم بهما
…
حتى تنال بهن الفوز والرفعا
آخر:
…
فَخُضْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَاسْمُ إِلَى الْعُلا
…
لِتَحْظَى بِعِزِّ فِي حَيَاتِكَ دَائِمِ
فَلا خَيْرَ فِي مَنْ لا يَخَافُ إِلَهَهُ
…
وَلا هِمَّةٍ تَصْبُو لِنَيْلِ الْمَآثِمِ
آخر:
…
وَرَبِّكَ لَوْ أَبْصَرْتَ يَوْمًا تَتَابَعَتْ
…
عَزَائهُمْ حَتَّى لَقَدْ بَلَغُوا الْجُهْدَا
لأَبْصَرْتَ قَوْمًا جَانَبُوا النَّوْمَ وَارْتَدَوْا
…
بَارْدِيَةِ التَّسْهَادِ وَاسْتَقْرَبُوا الْبُعْدَا
وَصَامُوا نَهَارًا دَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرُوا
…
عَلَى بُلَغ الأَقْوَاتِ وَاسْتَعْمَلُوا الْكَدَّا
أُولَئِكَ قَوْمٌ حَسَّنَ اللهُ فِعْلَهُمْ
…
وَأَوْرَثَهُمْ مِنْ حُسْنِ فِعْلِهِمْ الْخُلْدَا
آخر:
…
صَفَوْا فَلا غُرْوَ أَنْ تَصْفُوا مَشَارِبَهُمْ
…
وَفِي الْمَصَافَتِ لِلأَحْبَابِ أَسْرَارُ
يَرْوِي عَلِيلُ الصِّبَا صَحِيحَ هَوَى
…
مِنَ الشَّذَا فَهُوَ نَقَّالٌ وَمِعْطَارُ
.. هُمُ الرِّجَالُ فَإِنْ تَسْلُكْ طَرِيقَهُمُوا
…
نِلْتَ الْمُنَى لَيْسَ بَعْدَ الْعَيْنِ آثَارُ
سَلْهُمْ وَسَلْ عَنْهُمُوا مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ
…
فَعِنْدَهُمْ لِمُقِيمِي الدِّينِ أَقْدَارُ
أَنْعَمْ إِذَا كُنْتَ تَهْوَاهُم بِقُرْبِهِمُوا
…
وَاصْحَبْهُمُوا إِنْ نَأَتِ يَوْمًا بِكَ الدَّارُ
وَاحْلُلْ بِسَاحَتِهِمْ تَسْعَدْ بِجَيْرَتِهِمْ
…
يَحْمُوا النَّزِيلَ وَلا يُؤْذَى لَهُمْ جَارُ
آخر:
…
اعتزلْ ذكر الغواني وَالْغَزَلْ
…
وَقُلِ الْفَصْلَ وَجَانِبْ مِنْ هَزَلْ
وَدَعِ الذِّكْرَى لأَيَّامِ الصِّبَا
…
فَلأَيَامِ الصِّبَا نِجْمٌ أَفَلْ
إِنّ أَهْنَا عَيْشَةٍ قَضَّيْتَهَا
…
ذَهَبَتْ لَذَّاتُهَا وَالإثْمُ حَلّ
وَاتْرُكِ الْغَادَةَ لا تَحْفَلْ بِهَا
…
تُمْس فِي عَزّ رَفِيع وَتُجَلّ
وَافْتَكِرْ فِي مُنْتَهَى حُسْنِ الَّذِي
…
أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمْرًا جَللْ
وَافْتَكِرْ فِي مُنْتَهَى حُسْنِ الَّذِي
…
أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمْرًا جَللْ
وَاهْجُرْ الْخَمْرَةَ إِنْ كُنْتَ فَتَىً
…
كَيْفَ يَسْعَى فِي جُنُونٍ مِنْ عَقَلْ
وَاتَّقِ اللهَ فَتَقْوَى اللهِ مَا
…
بَاشرَتْ قَلْبَ امْرِئٍ إِلا وَصَلْ
لَيْسَ مَنْ يَقْطَعُ طُرْقًا بَطَلاً
…
إِنَّمَا مَنْ يَتَّقِي اللهَ بَطَلْ
صَدِّقِ الشَّرْعَ وَلا تَرَكَنْ إِلَى
…
رَجُلٍ يَرْصُدُ فِي اللَّيْلِ زُحَلْ
حَارَتِ الأَفْكَارُ فِي قُدْره مَنْ
…
قَدْ هَدَانَا سُبْلَنَا عز وجل
أَيْنَ نَمْرُودُ وَكَنْعَانُ وَمَنْ
…
مَلَكَ الأَرْضَ وَوَلَّى وَعَزَلْ
أَيْنَ عَادٌ أَيْنَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ
…
رَفَعَ الأَهْرَامَ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ
أَيْنَ مَنْ سَادُوا وَشَادُوا وَبَنُوا
…
هَلَكَ الْكُلُّ فَلَمْ تُغْنِ الْقُللْ
أَيْنَ أَرْبَابُ الْحِجَى أَهْلُ النُّهَى
…
أَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ وَالْقَوْمُ الأَوَلْ
سَيُعِيدُ الله كلاً مِنْهُمُ
…
وَسَيَجْزِي فَاعِلاً مَا قَدْ فَعَلْ
يَا بُنَيّ اسْمَعْ وَصَايَا جَمَعتْ
…
حِكَمًا خُصّتْ بِهَا خَيْرُ الْمِلَلْ
اطْلبِ الْعِلْمَ وَلا تَكسَلْ فَمَا
…
أَبْعدَ الْخَيْرَ عَلَى أَهْلِ الْكَسَلْ
وَاحْتَفِلْ لِلْفِقْه فِي الدِّينِ وَلا
…
تَشْتَغِلْ عَنْهُ بِمَالٍ وَخَولْ
.. وَاهْجُرْ النَّوْمَ وَحَصِّلْهُ فَمَنْ
…
يَعْرِفِ الْمَطْلُوبَ يَحْقِرْ مَا بَذَلْ
لا تَقُل قَدْ ذَهَبَتْ أَرْبَابُه
…
كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ
فِي ازْدِيَادِ الْعِلْمِ إِرْغَامُ الْعِدَى
…
وَجَمَالُ الْعِلْمِ إِصْلاحُ الْعَمَلْ
جَمِّلِ الْمَنْطِقَ بِالنَّحوِ فَمَن
…
حُرِمَ الإِعْرَابَ بِالنُّطْقِ اخْتَبَلْ
أُنْظمِ الشِّعْرَ وَلازِمْ مَذْهَبِي
…
فِي اطِّرَاح الرِّفد لا تَبْغِ النِّحَلْ
فَهُوَ عُنْوَانٌ عَلَى الْفَضْلِ وَمَا
…
أَحْسَنَ الشِّعْرَ إِذَا لَمْ يُبْتَذَلْ
مَاتَ أَهْل الْجُودَ لَمْ يَبْقَ سِوَى
…
مُقْرِفٌ أَوْ عَلَى الأَصْلِ اتَّكَلْ
أَنَا لا أَخْتَارُ تَقْبِيلَ يَدٍ
…
قَطَعُهَا أَجْمَلُ مِنْ تِلْك الْقُبَلْ
إِنْ جَزَتْنِي عَنْ مَدِيحِي صِرْتُ فِي
…
رِقِّهَا أَوْ لا فَيَكْفِينِي الْخَجَلْ
مُلْكُ كسرى عَنْهُ تُغْنِي كِسْرَةٌ
…
وَعَنْ الْبَحْرِ اكْتِفَاءٌ بِالْوَشَلْ
أَعْذَبُ الأَلْفَاظِ قَوْلِي لَكَ خُذْ
…
وَأَمْرِّ اللَّفْظِ نُطْقِي بِلَعَلّ
لَيْسَ مَا يَحْوِي الْفَتَى مِنْ عَزْمِه
…
لا وَلا مَا فَاتَ يَوْمًا بِالْكَسَلْ
اطْرحِ الدُّنْيَا فَمِنْ عَادَاتِهَا
…
تَخْفِضُ الْعَالِي وَتُعْلِي مِن سَفَلْ
عَيْشَةُ الرَّاغِبُ فِي تَحْصِيلِهَا
…
عَيْشَةُ الزَّاهِدُ فِيهَا أَوْ قَلّ
كَمْ جَهُولٍ وَهُوَ مُثْرٍ مُكْثِرٌ
…
وَعَلِيمٍ مَاتَ مِنْهَا بِالْعِلَلْ
كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى
…
وَجَبَانٍ نَالَ غَايَاتِ الأَمَلْ
فَاتْرُكِ الْحِيلَة فِيهَا وَاتَّئِدْ
…
إِنَّمَا الْحِيلَةُ فِي تَرْكِ الْحِيَلْ
أَيُّ كَفٍّ لَمْ تَنَلْ مِمَّا تُفِدْ
…
فَرَمَاهَا اللهُ مِنْهُ بِالشَّلَلْ
لا تَقُلْ أَصْلِي وَفَصْلِي أَبَدًا
…
إِنَّمَا أَصْلُ الْفَتَى مَا قَدْ حَصَلْ
قَدْ يَسُودُ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ
…
وَبِحُسْنِ السَّبكِ قَدْ يُنْفَى الزَّعَلْ
وَكَذَا الْوَرْدُ مِنَ الشَّوْكِ وَمَا
…
يَطْلَعُ النَّرجسُ إِلا مِنْ بَصَلْ
مَعَ أَنِّي أَحْمَدُ اللهَ عَلَى
…
نَسَبِي إِذْ بأَبِي بَكْرٍ اتَّصَلْ
قِيمَةُ الإِنْسَانِ مَا يُحْسِنُهُ
…
أَكْثَرَ الإِنْسَانُ مِنْهُ أَوْ قَلّ
.. أُكْتُم الأَمْرَيْنِ فَقْرًا وَغِنَىً
…
وَاكْسَبِ الْفِلْسَ وَحَاسِبْ مِنْ مَطَلْ
وَادَّرِعْ جَدًّا وَكَدًّا وَاجْتَنِبْ
…
صُحْبَةَ الْحَمْقَى وَأَرْبَابَ الدُّوَلْ
بَيْنَ تَبْذِيرٍ وَبُخْلٍ رَتْبَةٌ
…
وَكِلا هَذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ
لا تخُضْ فِي حَقِّ سَادَاتٍ مَضَوْا
…
إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلزِّلَلْ
وَتَغَافِلْ عَنْ أُمُورٍ إِنَّهُ
…
لَمْ يَفُزْ بِالْحَمْدِ إِلا مَنْ غَفَلْ
لَيْسَ يَخْلُوا الْمَرْءُ مِنْ ضِدٍّ وَلَوْ
…
حَاوَلَ الْعُزْلةَ فِي رَأْسِ جَبَلْ
مِلْ عَنْ النَّمَّامِ وَازْجُرْه فَمَا
…
بَلَغَ الْمَكْرُوهَ إِلا مَنْ نَقَلْ
دَارِ جَارَ السُّوءِ بِالصَّبْرِ فَإِنْ
…
لَمْ تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النُّقَلْ
جَانِبْ السُّلْطَانَ وَاحْذَرْ بَطْشَهُ
…
لا تُعَانِدْ مَنْ إِذَا قَالَ فَعَلْ
لا تَلِي الْحُكْمَ وَإِنْ هُمْ سَأَلُوا
…
رَغْبَةً فِيكَ وَخَاَلِفْ مَنْ عَذَلْ
إِنَّ نِصْفَ النَّاسِ أَعْدَاءٌ لِمَنْ
…
وَلِيَ الأَحْكَامَ هَذَا إِنْ عَدَلْ
فَهُوَ كَالْمَحْبُوسِ عَنْ لَذَّاتِهِ
…
وَكِلا كَفَّيْهِ فِي الْحَشْرِ تُغَلّ
إِن لِلنَّقْصِ وَالاسْتِثْقَالِ فِي
…
لَفْظَةِ الْقَاضِي لَوَعظًا وَمَثْل
لا تَوَازِي لَذَّةُ الْحُكْمِ بِمَا
…
ذَاقَهُ الشَّخْصُ إِذَا الشَّخْصُ انْعَزَلْ
فَالْوِلايَاتُ وَإِنْ طَابَتْ لِمَنْ
…
ذَاقَهَا فَالسُّمُّ فِي ذَاكَ الْعَسَلْ
نَصَبُ الْمنْصِبِ أَوْهِى جَلَدِي
…
وَعَنَائِي مِنْ مَدَارَاِة السَّفَلْ
قصِّر الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ
…
فَدَلِيلُ الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلْ
إِنَّ مَنْ يَطْلُبُهُ الْمَوْتُ عَلَى
…
غِرَّةٍ مِنْهُ جَدِيرٌ بِالْوَجَلْ
غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ
…
أَكْثَرَ التِّرْدَادَ أَقْصَاهُ الْمَلَلْ
خُذْ بِنَصْلِ السَّيْفِ وَاتْرُكْ غِمَدَهُ
…
وَاعْتَبِرْ فَضْلَ الْفَتَى دُونَ الْحُلَلْ
لا يَضُرُّ الْفَضْلَ إِقْلالٌ كَمَا
…
لا يَضُرُّ الشَّمْسُ إِطْبَاقُ الطِّفَلْ
حُبَّكَ الأَوْطَان عَجْزٌ ظَاهِرٌ
…
فَاغْتَرِبْ تَلْقَ عَنْ الأَهْلِ بَدَلْ
فَبِمُكثِ الْمَاءِ يَبْقَى آسِنًا
…
وَسُرَى الْبَدْرِ بِهِ الْبدرُ اكْتَمَلْ
.. أَيُّهَا الْعَائِبُ قَوْلِي عَبَثًا
…
إِنَّ طِيبَ الْوَرْدِ مُؤْذٍ لِلْعَجَلْ
عَدِّ عَنْ اسْهُمِ قَوْلِي وَاسْتَتِرْ
…
لا يُصِيبَنَّكَ سَهْمٌ مَنْ ثُعَلْ
لا يَغُرَّنَكَ لِينٌ من فَتَىً
…
إِنَّ لِلْحَيَّاتِ لِينًا يُعْتَزَلْ
أَنَا مِثْلُ الْمَاءِ سَهْلٌ سَائِغٌ
…
وَمَتَى سُخِّنَ آذَى وَقَتَلْ
أنَا كَالْخَيْزور صَعْب كَسْرَهُ
…
وَهُوَ لَدْن كَيْفَ مَا شِئْتَ انْفَتَل
غَيْرَ أَنِّي فِي زَمَانٍ مَنْ يَكُنْ
…
فِيهِ ذَا مَالٍ هُوَ الْمَوْلَى الأَجَل
وَاجِبٌ عِنْدَ الْوَرَى إِكْرَامُهُ
…
وَقَلِيلُ الْمَالِ فِيهُمْ يُسْتَقَل
كُلُّ أََهْلِ الْعَصْرِ غمر وَأَنَا
…
مِنْهُمْ فَاتْرُكْ تَفَاصِيل الْجمل
وَصَلاةٌ وَسَلامٌ أَبَدًا
…
لِلنَّبِيِّ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الدّول
وَعَلَى الآلِ الْكِرَامِ السُّعَدَا
…
وَعَلَى الأَصْحَابِ وَالْقَوْمِ الأُوَل
مَا ثَوَى الرَّكْبُ بِعشَاقٍ إِلَى
…
أَيْمَن الْحَيّ وَمَا غَنَّى رَمْل
" موعظة "
إخواني: إن الليل كما علمتم فيه فضل عَظِيم وثواب جزيل لمن وفقه الله جَلَّ وَعَلا،
وَهُوَ من أثقل شَيْء على النفس ولا سيما بعد أن يرقَدْ الإِنْسَان، وإنما يكون خفيفًا بالاعتياد، وتوطين النفس وتمرينها عَلَيْهِ والمداومة والصبر على المشقة والمجاهدة فِي الابتداء، ثُمَّ بعد ذَلِكَ ينشرح وينفتح باب الأُنْس بِاللهِ وتلذ لَهُ المناجاة والْخُلْوَة، وعَنْدَ ذَلِكَ لا يشبع الإِنْسَان من قيام الليل، فضلاً عَنْ أن يستثقله أَوْ يكسل عَنْهُ كما وقع لكثير من السَّلَف. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْل الليل فِي ليلهم ألذ من أَهْل اللهو فِي لهوهم ويا بعدها بين الحالتين، فسبحان من وفق أقوامًا فتقربوا إليه بالنوافل، وأبعد بحكمته وعدله آخرين فهم عَنْ ما ينفعهم فِي حاضرهم ومآلهم غافلون.
شِعْرًا:
…
ولا خَيْر فِي مَنْ لا يُوَطِّنُ نَفْسهُ
…
عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى بِمَا فِي كِتَابِهِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعَدُوّكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبة أجمعين.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ يَا أخي أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من سؤال الله ويتحرى أوقات الإجابة لعل الله جَلَّ وَعَلا أن يستجيب لَهُ، قَالَ الله تبارك تَعَالَى وَهُوَ أصدق القائلين:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، وقَالَ تبارك وتعالى وَهُوَ أوفى الواعدين:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقَالَ تَعَالَى {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وقَالَ تَعَالَى {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ، وقَالَ تَعَالَى {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وأن يفتح الدُّعَاء بالثناء على الله والصَّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شِعْرًا:
…
وأقوم خلق الله لله بالَّذِي
…
يحب ويرضاه النَّبِيّ المبجل
فتى جمعت فيه المكارم شملها
…
فما فاته مَنْهَا أخَيْر وأول
عنايته بالدين تشهد أنه
…
نبي من الرحمن قَدْ جَاءَ مرسل
له مني عظمى على كُلّ مُسْلِم
…
وطاعته فرض من الله منزل
دعانَا إِلَى الإِسْلام بعدا اندراسه
…
وقام بأمر الله والأَمْر مهمل
وأصلح بين الْمُسْلِمِين بيمنه
…
واطفأ نيرانًا على الدين تشعل
يعاقب تأديبًا ويعفو تطولاً
…
ويجزى على الحسنى ويعطى فيجزل
ولا يتبع المعروف منا ولا أذى
…
ولا البخل من عاداته حين يسأل
رعاه الَّذِي استرعاه أمر عباده
…
وكافاه عنا المنعم المتفضل
اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات وَوَفِّقْنَا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته، واستهداك فهديته ودعا لَكَ فأجبته، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى صحبه وسلم أجمعين.
" فَصْلٌ "
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ولن ينفع حذر من قدر، ولكن الدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل، فعليكم بالدُّعَاء عباد الله» . رَوَاهُ أحمد والطبراني عَنْ معاذ رضي الله عنه.
قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيى كريم يستحى إِذَا رفع الرجل يديه إن يردهما صفرًا خائبتين» . رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجه والحاكم عَنْ سلمان رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنين بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غَافِل لاه ". رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب لَهُ، فَإمَّا أن يعجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يؤخر لَهُ فِي الآخِرَة وإما يكفر عَنْهُ من ذنوبه بقدر ما دعاء، ما لم يدع بإثُمَّ أَوْ قطيعة رحم، أَوْ يستعجل يَقُولُ: دعوت ربى فما استجاب لي» . رَوَاهُ الترمذي عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من سره إن يستجيب الله لَهُ عَنْدَ الشدائد والكرب فليكثر الدُّعَاء فِي الرخاء» . رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه.
ولَقَدْ علم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمته كيف تدعو فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إذ صلى أحدكم فليبداء بتحميد الله تَعَالَى والثناء عَلَيْهِ ثُمَّ ليصل على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ليدع بما شَاءَ» . رَوَاهُ أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقى عَنْ فضالة بن عبيد رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دعا أحدكم فليؤمن على دعاء نَفْسهُ» . رَوَاهُ ابن عدي عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم " لا يجتمَعَ ملأ فيدعوا بَعْضهمْ ويؤمن بَعْضهمْ الا أجابهم الله» . رَوَاهُ الطبراني والحاكم والبيهقى عَنْ حبيب بن سَلَمَة الفهري رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» . رَوَاهُ أبو داود والبيهقى عَنْ ابن عباس رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تدعو على أنفسكم إلا بخَيْر فَإِنَّ الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". رَوَاهُ أحمد ومسلم وَأَبُو دَاود عَنْ أم سَلَمَة رضي الله عنها.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا على تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافق من الله ساعة نيل فيها عطاء مستجاب لكم» . رَوَاهُ أبو داود عَنْ جابر رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب السماء ويستجاب الدُّعَاء فِي أربعة مواطن: عَنْدَ التقاء الصفوف فِي سبيل الله، وعَنْدَ نزول الغيث، وعَنْدَ إقامة الصَّلاة، وعَنْدَ رؤية الكعبة» . رَوَاهُ الطبراني عَنْ أبي إمامة رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من كَانَتْ لَهُ إِلَى الله حَاجَة فليدع بها دبر كُلّ صلاة مفروضة» . رَوَاهُ ابن عساكر عَنْ أبي مُوَسى رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإِمَام العادل، والصائم حَتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، وَيَقُولُ الرب تبارك وتعالى: وعزتي لا نصرنك ولو بعد حين» . رَوَاهُ أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم " دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عَنْدَ رأسه ملك موكل به، كُلَّما دعا لأخيه بخَيْر قَالَ الملك: آمين ولك مثل
ذَلِكَ. رَوَاهُ أحمد ومسلم وابن ماجه عَنْ أبي الدرداء رضي الله عنه
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله حوائجكم حَتَّى الملح» . رَوَاهُ البيهقى عَنْ بكر بن عَبْد اللهِ المزني رضي الله عنه مرسلاً.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كُلّ ليلة إِلَى السماء الدُّنْيَا حين يبقى الثلث الليل الآخِر فَيَقُولُ: من يدعوني فاستجيب لَهُ، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فاغفر لَهُ» . رَوَاهُ أحمد والْبُخَارِيّ ومسلم وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون الرب من الْعَبْد فِي جوف الليل الآخِر فَإِنَّ استطعت أن تكون مِمَّا يذكر الله فِي تلك الساعة فكن» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم عَنْ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه.
وقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا يدع الله دعوة دعا عبده المُؤْمِن إلا بين لَهُ، إما أن يكون عجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يكون ادخر لَهُ فِي الآخِرَة» . قَالَ
فَيَقُولُ المُؤْمِن فِي ذَلِكَ المقام: يَا ليته لم يكن عجل لَهُ شَيْئًا من دعائه» . رَوَاهُ الحاكم عَنْ جابر رضي الله عنه.
وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " أيها النَّاس إن الله طيب لا يقبل إلا طيب. وإن الله أمر الْمُؤْمِنِينَ بما أمر به المرسلين فقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقَالَ الله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إِلَى السماء: يَا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لِذَلِكَ» . رَوَاهُ أحمد ومسلم والترمذي عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه. عَنْهُ فمن أراد أن تجاب دعوته فليطب مطعمه.
" فَصْلٌ "
فيا أيها الغَافِل المهمل المفرط وكلنا كَذَلِكَ انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعه لروحك وتصور كربه وسكراته وغصصه وغمه وقلقه.
وتصور بُدُوَّ الملك لجذب روحك من قدميك ثُمَّ الاستمرار ليجذب الروح مِنْ جَمِيعِ بدنك فَنُشِطَتْ من أسفلك متصاعدة إِلَى أعلاك حَتَّى إِذَا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه وعمت الآلام جميع بدنك وقلبك وجل محزون منتظر إما البشرى من الله بالرِّضَا وإما الْغَضَب.
فبينما أَنْتَ فِي كربك وغمومك وشدة حزنك لارتقابك أحدى البشريين إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك فيلزم حينئذ غاية الهم والحزن أَوْ الفرح والأُنْس والسرور قلبك حين أقضت من الدُّنْيَا مدتك وانقطع مَنْهَا آثرك وحملت إِلَى دار من سلف من الأمم قبلك.
وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وَسُرُورًا وملئ رعبًا وحزنًا وعبرة وبزيارة القبور وهول مطلعه وروعة الملكين منكر ونكير وسؤالها لَكَ فِي
القبر عَنْ ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول من ربك والثاني ما دينك والثالث من نبيك.
فتصور أصواتهما عَنْدَ ندائهما لَكَ لتجلس لسؤالهما لَكَ فيه فتصور جلستك فِي ضيق قبرك وقَدْ سقط كفنك عَنْ حقويك والقطن من عينيك. ثُمَّ تصور شخوصك ببصرك اليهما وتأملك لصورتهما فَإِنَّ رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك.
شِعْرًا:
…
وللمرء يوم ينقضي فيه عمره
…
وموت وقبر ضيق فيه يولج
ويلقى نكيرًا فِي السؤال ومنكرًا
…
يسومان بالتنكيل من يتلجلج
آخر:
…
تفكر فِي مشيبك والمآب
…
ودفنك بعد عزك فِي التراب
إذا وافيت قبرًا أَنْتَ فيه
…
تقيم به إِلَى يوم الحساب
وفى أوصال جسمك حين تبقى
…
مقطعة ممزقة الاهاب
فلولا القبر صار عَلَيْكَ سترًا
…
لأنتنت الأباطح والروابي
خلقت من التُّرَاب فصرت حيًا
…
وعلمت الفصيح من الخطاب
فطلق هَذِهِ الدُّنْيَا ثلاثًا
…
وبادر قبل موتك بالمتاب
نصحتك فاستمَعَ قولي ونصحي
…
فمثلك قَدْ يُدَلُّ على الصواب
خلقنا للممَاتَ ولو تركنا
…
لضاق بن الفسيح من الرحاب
ينادى فِي صبيحة كُلّ يوم
…
لدوا للموت وابنو للخراب
ثُمَّ تصور كيف يكون شعورك إن ثبتك الله عز وجل ونظرت إلى ما أعد الله لَكَ وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فتصور فرحك وسرورك بما تعانيه من النَّعِيم وبهجة الملك وإيقانك بالسلامة مِمَّا يسوؤك.
وان كَانَتْ الأُخْرَى فتصور ضد ذَلِكَ من انتهارك ومعينتك جهنم
وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقَالَ.
ثُمَّ بعد ذَلِكَ الْفَنَاء والبَلاء حَتَّى تنقطع الأوصال وتتفتت العظام ويبلى جسدك ويستمر حزنك فيا حَسْرَة روحك وغمومها وهمومها، حَتَّى إِذَا تكاملت عدة الأموات وقَدْ بقى الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه ثُمَّ لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جَلَّ وَعَلا.
قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} يأمر الله ملكًا ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقه والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل الِقَضَاءِ.
فتصور وقوع الصوت فِي سمعك ودعائك إِلَى العرض على مالك الملك فيطير فؤادك ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جَلَّ وَعَلا، قَالَ تَعَالَى:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} .
فبينما أَنْتَ فِي فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأَرْض فخرجت مغبرًا من غبار قبرك قائمًا على قدميك شاخصًا ببصرك نَحْوَ النداء، قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} ، وقَالَ:{خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} .
فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك فِي زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم وأصواتهم ترهقهم الذلة، قَالَ تَعَالَى {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} ، وقَالَ تَعَالَى:{خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} .
اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفى الآخِرَة واتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة
وفى الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين.
اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار واعتق رقابنا ورقاب إبائنا من النار يَا عزيز يَا غفار ويا كريم يَا ستار ويا حليم ويا جبار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فصل ": ثُمَّ تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة فبعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور، قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} .
وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق مَعَ كثافة سمكها فيا هول صوت ذَلِكَ الانشقاق.
والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء، قَالَ تَعَالَى {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} وقَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} . وقَالَ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} . قِيل تذوب كما تذوب الفضة فِي السبك وتتلون كما تلون الأصباغ التي يدهن بها فتَارَّة حمراء وتَارَّة صفراء وزرقاء وخضراء وَذَلِكَ من شدة الأَمْر وهول يوم القيامة، وقَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} قِيْل كالفضة المذابة أَوْ الرصاص المذاب، وقَالَ تَعَالَى:{يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} .
فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا وقَدْ أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق ولا ظِلّ إلا ظِلّ عرش رب العالمين، فبينما أَنْتَ على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس ثُمَّ ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العَظِيم.
وانضاف إِلَى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام والعطش تضاعف ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم على الأَرْض حَتَّى استنقع ثُمَّ ارتفع على الأبدان عَلَى قَدْرِ مراتبهم ومنازلهم عَنْدَ ربهم بالسعادة والشقاوة.
ثُمَّ تصور مجئ جهنم تقاد ولها سبعون ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وقَالَ تَعَالَى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .
فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل الا جثا لركبته يَقُولُ: يَا رب نفسي نفسي. فتصور ذَلِكَ الموقف المهيل المفزع الَّذِي قَدْ ملا الْقُلُوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا يَا لَهُ من موقف ومنظر مزعج.
وأَنْتَ لا محالة أحدهم فتوهم نفسك لكربك وقَدْ علاك العرق والفزع والرعب الشديد والنَّاس معك منتظرون لفصل الِقَضَاءِ إِلَى دار السعادة أَوْ إِلَى دار الشقاء، قَالَ تَعَالَى:{وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} .
فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كُلّ واحد بنفسه ينادي نفسي نفسي، قَالَ الله تَعَالَى:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، وقَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الآية.
فتصور نفسك وحالتك عِنْدَمَا يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصَاحِب لما فِي ذَلِكَ الْيَوْم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت الْقُلُوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.
ولولا عظم هول ذَلِكَ الْيَوْم ما كَانَ من الكرم والمروة والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك وأخيك وبنيك ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إِلَى ذَلِكَ فلا تلام على فرارك مِنْهُمْ ولا لوم عَلَيْهمْ إِذَا فروا منك، قَالَ الله تَعَالَى:
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وقَالَ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
فبينما أَنْتَ فِي تلك الحالة مملوء رعبًا قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ مِنْ شِدَّةِ الأَهْوَال وَالْمُزْعِجَات وَالْخَوف الْعَظِيم إِذَا ارتفع عنق من النار يلتقط من أمر بأخذه فينطوي عَلَيْهمْ ويلقيهم فِي النار فتبتلعهم ثُمَّ تصور الميزان وعظمته وقَدْ نصب لوزن الأَعْمَال وتصور الكتب المتطايرة فِي الإِيمَان والشمائل وقلبك واجف مملوءًا خوفًا متوقع أين يقع كتابك فِي يمينك أَوْ فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك.
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فصل ": فالأتقياء يعطون كتبهم بإيمانهم والأشقياء بالشمال أَوْ من وراء الظهر، قَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، وقَالَ:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} .
قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} الآيات، وقَالَ {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} الآيات.
فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال ويا لها من خطوب مجرد تصورها يبكي المُؤْمِن بها حَقًّا.
عَنْ الحسن أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ رأسه فِي حجر عَائِشَة فنعس فتذكرت الآخِرَة فبكت فسالت دموعها على خد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فاستيقظ بدموعها فرفع رأسه فقَالَ: «ما يبكيك» ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذكرت الآخِرَة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة.
وعن أَنَس بن مالك قَالَ: يؤتى بابن آدم يوم القيامة حَتَّى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فَإِنَّ ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمَعَ الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
وإن خف ميزانه نادى بصوت فيسمَعَ الخلائق شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.
وتصور بينما أَنْتَ واقف مَعَ الخلائق الَّذِينَ لا يعلم عددهم إلا الله جَلَّ وَعَلا وتقدس إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان بن فلان هَلُمَّ إِلَى العرض على الله عز وجل.
فقمت أَنْتَ لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم من أَنْتَ المطلوب فقمت ترتعد فرائضك وتضطرب رجلاك وَجَمِيع جوارحك وقلبك من شدة الخوف والذهول فِي أشد الخفقان مرتفعًا إِلَى الحنجرة.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .
فتصور خوفك وَذُلُّكَ وضعفك وانهيار أعصابك وقواك متغيرًا لونك مرعوبًا مذعورًا مرتكضًا مزعجًا قَدْ حَلَّ بِكَ الْغَمِّ وَالْهَمَّ والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك ورَأَيْت من الشدائد والكروب والمحزنات ما الله به عليم.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، فيا من يوم، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} والآية بعدها.
وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأَرْض الَّذِي الأَرْض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويان بيمينه القوي العزيز وقلبك خائف مملؤء من الرعب محزون وجل وطرفك خائف خفي خاشع ذليل.
وجوارحك مرتعدة بيدك صحيفة فيها الدقيق والجليل لا تغادر صغيرة ولا كبيرة فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله الَّذِي لم يزل أليك محسنًا وعَلَيْكَ سَاتِرًا.
فبأي لسان تجيبه حين يسألك عَنْ قبيح فعلك وعَظِيم جرمك وبأي قدم تقف غدًا بين يديه وبأي طرف تنظر إليه وبأي قلب تحتمل كلامه العَظِيم الجليل ومساءلته وتوبيخه.
وتصور نفسك بصغر جسمك بين يدي من السموات السبع والأَرْض كخردلة فِي كفة الكبير المتعال شديد المحال الَّذِي ما من دابة إلا هُوَ آخذ بناصيتها وقُلُوب العباد بين أصابعه لا إله الا هُوَ القوي العزيز.
وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقة بك من جوانبك ومن خلفك فكم من كبيرة قَدْ نسيتها أثبتها عَلَيْكَ الملك وَكَمْ من بلية أحدثتها فذكرتها وَكَمْ من سريرة قَدْ كنت كتمتها قَدْ ظهرت وبدت.
وَكَمْ من عمل قَدْ كنت تظن أنه قَدْ خلص لَكَ وسلم فإذا هُوَ بالرياء قَدْ حبط بعد ما كَانَ أملك فيه عظيمًا فيا حَسْرَة قلبك وتأسفك على ما فرطت فِي طاعة ربك، قَالَ تَعَالَى:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، وقَالَ تَعَالَى {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
حتى إِذَا كرر عَلَيْكَ السؤال بذكر البلايا ونشرت مخبآتك التي طالما أخفيتها وسترتها عَنْ مخلوق مثلك لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا وقَدْ ظهرت قلة هيبتك وقلة حيائك منه وظهرت مبارزتك لَهُ بفعل ما نهاك عنه.
فما ظنك بسؤال من قَدْ امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله وكيف بك أن ذكرك مخالفتك لَهُ وركوبك معاصيه وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك فِي الدُّنْيَا بطاعته.
وماذا تَقُول إن قَالَ: يَا عبدي أما استحيت مني أما راقبتني استخففت بنظري إليك ألم أحسن إليك ألم أنعم عَلَيْكَ ما غرك مني.
شبابك فيما ابليته وعمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته وعلمك ماذا عملت فيه.
وورد عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «ليقفن أحدكم بين يدي الله تبارك وتعالى لَيْسَ بينه وبينه حجاب يحجبه ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عَنْهُ فَيَقُولُ ألم أنعم، ألم آتك مالاً فَيَقُولُ: بلى. فَيَقُولُ: ألم أرسل أليك رسولاً فَيَقُولُ: بلى. ثُمَّ ينظر عَنْ يمينه فلا يرى إلا النار ثُمَّ ينظر عَنْ شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فَإِنَّ لم يجد فبكلمة طيبة " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.
فأعظم به موقفًا وأعظم به من سائل لا تخفى عَلَيْهِ خافية وأعظم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد على ما فرطت فِي طاعته
وعلى ركوبك معصيته وعلى أوقات ضاعت عَنْدَ الملاهي والمنكرات، قَالَ الله تَعَالَى عَنْ حال المجرمين المفرطين:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، وقَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} الآية.
وكيف تَثْبُتُ رجلاك عَنْدَ الوقوف بين يديه وكيف يقدر على الكلام لسانك عِنْدَمَا يسألك الحي القيوم إلا أن يثبتك جَلَّ وَعَلا ويقدرك على ذَلِكَ فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء والخجل بدا لك منه أحد أمرين إما الْغَضَب أَوْ الرِّضَا عَنْكَ.
فإما أن يَقُولُ: يَا عبدي أَنَا سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فقَدْ غفرت لَكَ كبير جرمك وكثير سيئاتك وتقبلت منك يسير إحسانك فَيَسْتَطِيرُ قلبك بالبهجة والفرح والسرور فيشرق ويستنير لِذَلِكَ وجهك.
فتصور نفسك حين ما يقَالَ لَكَ وتهدأ نفسك ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال.
وتصور رضاه عَنْكَ حينما تسمعه منه فثار فِي قلبك فامتلأ سرورًا وكدت أن تموت من الفرح فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عز وجل.
اللَّهُمَّ اغفر لَنَا ما قطع قلوبنا عَنْ ذكرك واعف عَنْ تقصيرنا فِي طَاعَتكَ وشكرك وأدم لَنَا لزوم الطَرِيق إليك وهب لَنَا نورًا نهتدي به إليك، واسلك بنا سبيل أَهْل مرضاتك واقطع عنا كُلّ ما يبعدنا عَنْ سبيلك ويسر لَنَا ما يسرته لأَهْل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا وحقق بكرمك قصدنا واسترنا فِي دنيانَا وأخرتنا واحشرنا فِي زمرة المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين، اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا
وقواتنا يَا رب العالمين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
وتصور نفسك وقَدْ بدا لَكَ منه الرِّضَا والرحمة والمغفرة فتكاد روحك أن تطير من بدنك فرحًا فَكَيْفَ لو سمعت من الله عز وجل الرِّضَا عَنْكَ والمغفرة لَكَ فأمن خوفك وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد وأيقنت بفوزك ونعيمك أبدًا لا يفنى ولا يبيد وطار قلبك فرحًا وأبيض وجهك وأشرق وأنار.
ثُمَّ خرجت إِلَى الخلائق مستنير الوجه قَدْ حل بك أكمل الجمال والحسن كتابك بيمينك وقَدْ شخصت أبصار الخلائق إليك غبطة لَكَ وتأسفًا على أن ينالوا من الله عز وجل مثل ما نلت.
وتصور نفسك إن لم يعف عَنْكَ ربك وأيقنت بالهلاك وذهب بك إِلَى جهنم مسود الوجه تتخطى الخلائق بسواد وجهك وكتابك فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك تنادي بالويل ولثبور والملك آخذ بعضدك ينادي هَذَا فلان بن فلان قَدْ شقي شقاء لا يسعد بعدها أبدًا.
وتصور الصراط وَهُوَ الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته ودحوضه وجهنم تضطرب وتتغيض وتخفق بأمواجها من تحته.
فيا لَهُ من منظر ما أفظعه وأهوله وسماعك شهيقها وتغيضها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها وقَدْ اضطررت على المشي عَلَيْهِ وقَدْ مرت عَلَيْكَ صفته.
ثُمَّ قِيْل لَكَ وأَنْتَ تنظر إِلَى الجسر بفظاظته وفظاعته وقِيْل للخلق معك اركبوا الجسر الَّذِي هُوَ الصراط فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك مِمَّا عانيت من المزعجات والكروب والشدائد والأهوال وعظائم الأمور وقلة المأكل والمشرب والرَّاحَة.
ولما قِيْل: اركب طار عقلك رعبًا وخوفًا ثُمَّ إِذَا رفعت رجلك وأَنْتَ تنتفض لتركب الجسر فوقع قدمك على حدته ودقته فازداد فزعك وازداد رجفان قلبك ورفعت رجلك الأُخْرَى وأَنْتَ مضطرب تمروج من شدة الخوف العَظِيم وقَدْ أثقلتك الأوزار وأَنْتَ حاملها على ظهرك وأَنْتَ تنظر إِلَى النَّاس من يتهافتون من بين يديك ومن ورائك.
فتصور مرورك عَلَيْهِ بضعفك وثقلك وأوزارك وقلة حيلتك وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون ويزلون وقَدْ تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم وآخرون يتخطفون بالكلاليب وتسمَعَ العويل والبُكَاء والأصوات المزعجات المناديات بالويل والثبور.
فيا له من منظر فظيع ومر تقي ما أصعبه ومجاز ما أضيقه ومكَانَ ما أهوله وموقف ما أشقه وكأني بك مملوءًا من الذعر والرعب والقلق ملتفتًا يمينًا وشمالاً إِلَى من حولك من الخلق وهم يتهافتون قدامك فِي جهنم وأَنْتَ تخشى أن تتبعهم إِلَى قعر جهنم.
فتصور هَذَا بعقلك ما دمت فِي قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه فلا يفيدك التفكير لعلك أن تتلافى تفريطك وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان فتبوأ بالفشل والخيبة والحرمان.
وتصور حالتك إن يؤت بالْخُسْرَانُ وزلت رجلك على الصراط ووقعت فيما كنت تحاذر وتخاف وطار عقلك ثُمَّ زلت رجلك الأُخْرَى فنكستَ على هامتك وعلت رجلاك فلم تشعر إلا والكلوب قَدْ دخل فِي جلدك ولحمك.
فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها وقد غلب على قلبك الندم والتأسف على ضيعتها فيما يسخط الله.
وتصور سماعك لنداء النار بقوله عز وجل: {هَلِ امْتَلَأْتِ} وسمعت أجابتها {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وهي تلتهب فِي بدنك لها قصيف فِي جسدك ثُمَّ لم تلبث أن تفطر جسمك وتساقط لحمك وبقيت عظامك.
محترق تطلب مِنْهُمْ ماء أَوْ نحوه فأجابوك بالرد والخيبة فتقطع قلبك حَسْرَة وأسفًا.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} فيا خيبة من هَذَا حاله وَهَذَا مآله.
لَقَدْ تقطع قلبك حزنًا إذ خيبوا أملك فيهم وبما رَأَيْت من غضبهم عَلَيْكَ لغضب رَبِّكَ عز وجل ففزعت إِلَى الله بالنداء بطلب الْخُرُوج مَنْهَا فبعده مدة الله أعْلَمْ بها جَاءَ الجواب {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
فَلَمَّا سمعت النداء بالتخسئة لَكَ ولأمثالك بقى نفسك من شدة الضيق والألم والحَسْرَة مترددًا فِي جوفك لا مخَرَجَ لَهُ فضاقت نفسك ضَيِّقًا شَدِيدًا لا يعمل مداه ألا الله.
وبقيت قَلِقًا تَزْفر ولا تطيق ثُمَّ أتاك زيادة حَسْرَة وندامة حيث أطبق أبواب النار عَلَيْكَ وعلى أعدائه فيها فانقطع الأمل كليًا.
فيا إياسك ويا أياس سكَانَ جهنم حين يسمعوا وقع أبوابها تطبق عَلَيْهمْ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} .
فعلموا عَنْدَ ذَلِكَ أن لا فرج أبدًا ولا مخَرَجَ ولا محيص لَهُمْ من عذاب الله خلود فلا موت وعذاب لا زَوَال لَهُ عَنْ ابدأنهم ودوام حرق قُلُوبهمْ.
أحزان لا تنقضي وهموم وغموم لا تنفد وسقم لا يبرأ وقيود لا تحل وأغلال لا تفك، قَالَ تَعَالَى:{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} .
ثُمَّ اطلعت النار على ما فِي جوفك فأكلت ما فيه وأَنْتَ تنادى وتستغيث فلا ترحم حَتَّى إِذَا طال فيها مكثك واشتد بك العطش.
فذكرت الشراب فِي الدُّنْيَا فزعت إِلَى الجحيم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فَلَمَّا تناولته تمزعت كفك من تحته واحترقت من حرارته ثُمَّ قربته إِلَى فمك والألم بالغ منك كُلّ مبلغ فشوى وجهك وتساقط لحمه.
ثُمَّ تجرعته فسلخ حلقك ثُمَّ وصل إِلَى جوفك فقطع أمعاءك، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا:{وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس:{وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} .
ثُمَّ ذكرت شراب الدُّنْيَا وبرده ولذاته فبادرت إِلَى الحميم لتبرد به كبدك كما تعودت فِي الدُّنْيَا فسقيت فقطع أمعاءك والحميم شراب كالنحاس المذاب يقطع الأحشاء والأمعاء ثُمَّ بادرت إِلَى النار رجَاءَ أن تَكُون أَهْوَن منه ثُمَّ اشتد عَلَيْكَ حريق النار فرجعت إِلَى الحميم قَالَ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، وقَالَ فِي الآية الأُخْرَى:{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} .
فقدر نفسك مَعَ الضائعين والخاسرين لعلك أن تلحق بالأَبْرَار
والمقربين وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك كُلّ مبلغ وذكرت الجنان وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم.
وهاجت الأحزان وهاجت غصة فِي فؤادك إِلَى حلقك أسفًا على ما فات من رضي الله عز وجل حزنًا على نعيم الْجَنَّة.
ثُمَّ ذكرت شرابها وبرد مائها وذكرت أن فيها بَعْض القرابة من أب أَوْ أم أَوْ ابن أَوْ أخ أَوْ غيرهم من القرابة أَوْ الأصدقاء فِي الدُّنْيَا فناديتهم بقلب محزون لا يرحم بكاؤهم ولا يجاب دعاؤهم ولا يغاثون عَنْدَ تضرعهم ولا تقبل توبتهم ولا تقَالَ عثرتهم غضب الله عز وجل عَلَيْهمْ فلا يرضى عنهم أبدًا فمثل نفسك بهَذَا الوصف إن لم يعف عَنْكَ ربك لعلك أن تستيقظ فتستدرك.
فلو رَأَيْت المعذبين قَدْ أكلت النار لحومهم ومحت محاسن وجوههم واندرس تخطيطهم فبقيت العظام محترقة مسودة وقَدْ قلقوا من شدة تكرار الْعَذَاب الأَلِيمِ، قَالَ تَعَالَى:{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} وهم ينادون بالويل والثبور ويصرخون بالبُكَاء والعويل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} ، وقَالَ:{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} .
فلو رأيتهم لذاب قلبك فزعًا ورعبًا من سوء خلقهم ولخرجت روحك من نتن رائحتهم فَكَيْفَ لو نظرت نفسك وأَنْتَ لعلك فيهم وقَدْ زال من قلبك الأمل والرجَاءَ ولزمك القنوط والإياس فمثل نفسك لعلك أن تتأثر فتستعد للقاء الله.
ونظرت إِلَى النار وهي تشتعل فِي أجزاء بدنك فتدخل أذنيك وعينيك ولا تقدر على إبعادها عَنْكَ لملازمتها لَكَ، قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} فهناك يغلب على قلبك التأسف والحسرات
والندامة، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} الآية.
فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقل فارغ وعزيمة صادقة وراجع نفسك ما دمتُ فِي قيد الحياة وتب إِلَى الله توبة نصوحًا عَنْ ما يكره مولاك وتضرع إليه وابك من خشيته لعله يرحمك ويقِيْل عثرتك فَإِنَّ الخطر عَظِيم والبدن ضعيف والموت منك قريب، انتهى بتصريف من كلام المحاسبي رحمه الله.
شِعْرًا:
…
مِثْلَ وُقُوفِكَ يَوْمَ الْحَشْرِ عُرْيَانًا
…
مُسْتَعْطِفًا قَلَقَ الأَحْشَاء حَيْرَانا
النَّارُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ وَمِنْ حَنَقٍ
…
عَلَى الْعُصَاةِ وَتَلْقَ الرَّبَ غَضْبَانَا
اقْرَأْ كِتَابَكَ يَا عَبْدِي عَلَى مَهْلٍ
…
وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَرَى هَلْ كَانَ مَا كَانَ
لَمَّا قَرَأْتَ كَتِابًا لا يُغَادِرُ لِي
…
حَرْفًا وَمَا كَانَ فِي سِرٍّ وَإِعْلانَا
قَالَ الْجَلِيلُ خُذُوهُ يَا مَلائِكَتِي
…
مُرُوا بِعَبْدِي إِلَى النِّيرَانِ عَطْشَانَا
يَا رَبّ لا تُحْزِنَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَلا
…
تَجْعَلْ لِنَارِكَ فِينَا الْيَوْم سُلْطَانَا
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" موعظة ": لله در أقوام تركوا الدُّنْيَا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا مَعَ التحقيق ثُمَّ تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
قَالَ عمرو بن ذر: لما رأى العابدون الليل قَدْ هجم عَلَيْهمْ، ونظروا إِلَى أَهْل الغَفْلَة قَدْ سكنوا إِلَى فرشهم ورجعوا إِلَى ملاذهم.
قاموا إِلَى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قَدْ وهب الله لَهُمْ من السهر وطول التهجد.
فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا مَلَّتْ أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقَدْ ولى الليل بربح وغبن.
فاعملوا فِي هَذَا الليل وسواده، فَإِنَّ المغبون من غبن الدُّنْيَا والآخِرَة، وكم من قائم لله تَعَالَى فِي هَذَا الليل قَدْ اغتبط بقيامه فِي ظلمة حفرته.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتَرَى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْء من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم على الجهاد ويقمَعَ أَهْل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لَنَا ولوالدينا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله.
" فصل ": ويقابل دار الأشقياء التي تقدمت قريبًا دار أخرى دار قرار ونعيم وسرور وحبور وأمن وصحة وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
دار جعلها الكريم جَلَّ وَعَلا دار ضيافة يكرم فيها عباده الأخيار الَّذِينَ وفقهم لخدمته والْعَمَل بطاعته.
ولا تظن هَذِهِ الضيافة محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي بل كُلّ ما تحبه وتتمناه أمامك إن كنت من أَهْل العفو والتجاوز فتوهم إن تفضل الله عَلَيْكَ بالعفو والتجاوز (أي تصور ممرك على الصراط) .
ونورك يسعى بين يديك وعن يمينك، وكتابك بيمينك مبيض الوجه.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ، وقَدْ أيقنت برضاه عَنْكَ وأَنْتَ على الصراط مَعَ زمرة العابدين ووفود المتقين.
والملائكة تنادى: سلم سلم، والوجل مَعَ ذَلِكَ لا يفارق قلبك ولا قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ، تنادي وينادون:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فتدبر حين رأوا المنافقين طفئ نورهم، وهاج الوجل فِي قُلُوبهمْ، فدعوا بتمام النور والمغفرة.
فتوهم أي تصور وتخيل وتمثل نفسك، وأَنْتَ تمر خفيفًا مَعَ الوجل وتصور ممرك عَلَى قَدْرِ خفة أوزارك وثقلها وقَدْ انتهيت إِلَى آخره. فغلب على قلبك النجاة، وقَدْ عاينت نعيم الجنان وأَنْتَ على الصراط، فحن قلبك على جوار الله عز وجل، واشتاق إِلَى رضا الله، حَتَّى إِذَا صرت إِلَى آخر خطوات بأحد رجليك إِلَى العرصة (أى عرصة القيامة) التي بين آخر الجسر وبين باب الْجَنَّة، فوضعتها على العرصة التي بعد الصراط، وبقيت القدم الأُخْرَى على الصراط، والخوف والرجَاءَ قَدْ اعتليا فِي قلبك وغلبا عَلَيْكَ.
ثُمَّ ثنيت بالأخرى، فجزت الصراط كله واستقرت قدماك على تلك العرصة، وزلت عَنْ الجسر ببدنك، وخلفته وراء ظهرك، وجهنم تضطرب من تحت من يمر عَلَيْهَا، وتثب على من زل عَنْهُ مغتاظة تزفر عَلَيْهِ وتشهق إليه.
ثُمَّ التفت إِلَى الجسر فنظرت إليه باضطرابه، ونظرت إِلَى الخلائق من فوقه، وإلى جهنم من تحته تثب وتزفر على الَّذِينَ زلزلوا عَنْ الصراط، لها فِي رؤوسهم وأنحائهم قصيف، فطار قلبك فرحًا إذ نجوت بضعفك من النار وخافت النار وجسرها من وراء ظهرك، متوجها إِلَى جوار ربك.
ثُمَّ خطوت أمنا إِلَى باب الْجَنَّة امتلأ قلبك سرورًا وفرحًا، فلا تزال فِي ممرك بالفرح والسرور حَتَّى توافي أبوابها، فإذا وافيت بابها استقبلك بحُسْنِهِ،
فنظرت إِلَى حسنه ونوره وحسن صورة الْجَنَّة وجدرانها، وقلبك مستطير فرح مسرور متعلق بدخول الْجَنَّة حين وافيت بابها أَنْتَ وأَوْلِيَاء الرحمن.
فتوهم أي تخيل وتصور نفسك فِي ذَلِكَ الموكب، وهم أَهْل كرامة الله ورضوانه، مبيضة وجوههم، مشرقة برضا الله، مسرورون فرحون مستبشرون، وقَدْ وافيت باب الْجَنَّة بغبار قبرك، وحر المقام ووهج ما مر بك.
فنظرت إِلَى العين التي أعدها الله لأوليائه وإلى حسن مائها، فانغمست فيها مسرورًا، لما وجدت من برد مائها وطيبة، فوجدت لَهُ بردًا وطيبًا فذهب عَنْكَ بحزن المقام، وطهرك من كُلّ دنس وغبار، وأَنْتَ مسرور لما وجدت من طيب مائها لما باشرته، وقَدْ أفلتَّ من وهج الصراط وحره، لأنه قَدْ يوافي بابها من أحرقت النار بَعْض جسده بلفحها وقَدْ بلغت منه.
فما ظنك وقَدْ انفلت من حر المقام ووهج أنفاس الخلائق، ومن شدة توهج حر الصراط فوافيت باب الْجَنَّة بذَلِكَ، فَلَمَّا نظرت إِلَى العين قذفت بنفسك فيها، فتوهم (أي تصور وتخيل) فرحة فؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط، ووهج القيامة، وأَنْتَ فرح لمعرفتك إِنَّكَ إنما تغتسل لتتطهر لدخول الْجَنَّة والخلود فيها.
فأَنْتَ تغتسل مَنْهَا دائبًا، ولونك متغير حسنًا، وجسدك يزداد نضرة وبهجة ونعيمًا، ثُمَّ تخَرَجَ مَنْهَا فِي أحسن الصور وأتم النور.
اللهم ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتَرَى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْء من أمرنا نَحْنُ البؤساء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات وتقيم علم الجهاد وتقمَعَ أَهْل
الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : فتوهم (أي تصور وتخيل) فرح قلبك حين خرجت مَنْهَا فنظرت إِلَى كمال جمالك، ونضارة وجهك وحسنه، وأَنْتَ عَالِم موقن بأنك تتنظف للدخول إِلَى جوار ربك، ثُمَّ تقصد إِلَى العين الأُخْرَى، فتتناول من بَعْض آنيتها، فتوهم نظرك إِلَى حسن الإناء وإلى حسن الشراب، وأَنْتَ مسرور بمعرفتك إِنَّكَ إنما تشرب هَذَا الشراب لتطهر جوفك من كُلّ غل وجسدك ناعم أبدًا.
حَتَّى إِذَا وضعت الإناء على فيك ثُمَّ شربته، وجدت طعم شراب لم تذق مثله ولم تعود شربه، فيسلس من فيك إِلَى جوفك، فطار قلبك سرورا لما وجدت من لذته، ثُمَّ نقى جوفك من كُلّ آفة، فوجدت لذة طهارة صدرك من كُلّ طبع كَانَ فيه ينازعه إِلَى الغموم والهموم والحرص والشدة والْغَضَب والغل فيا برد طهارة صدرك، ويا روح ذَلِكَ على فؤادك.
حَتَّى إِذَا استكملت طهارة الْقَلْب والبدن، واستكمل أحباء الله ذَلِكَ معك، والله مطلع يراك ويراهم، أمر مولاك الجواد المتحنن خزان الْجَنَّة من الملائكة الَّذِينَ لم يزالوا مطيعين خائفين منه مشفقين وجلين من عقابه إعظاما لَهُ وإجلالاً، وهيبة لَهُ، وحذرًا من نقمة، وأمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه، فانحدروا من دارها، وبادروا من ساحتها، وأتوا باب الْجَنَّة فمدوا أيديهم ليفتحوا أبوابها.
وأيقنت بذَلِكَ، فطار قلبك سرورًا، وامتلأت فرحًا، وسمعت حسن صرير أبوابها، فعلاك السرور، وغلب على فؤادك، فيا سرور قُلُوب المفتوح لَهُمْ باب جنة رب العالمين.
فَلَمَّا فتح لَهُمْ بابها، هاج نسيم طيب الجنان، وطيب جرى مائها، فنفح وجهك، وَجَمِيع بدنك، وثارت أراييج الْجَنَّة العبقة الطيبة، وهاج ريح مسكنها الاذفر، وزعفرانها المونع، وكافورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وارياح طيب ثمارها وأشجارها، وما فيها من نسيمها.
فتدخلت تلك الارييح فِي مشامك حَتَّى وصلت إِلَى دماغك، وصار طيبها فِي قلبك، وفاض مِنْ جَمِيعِ جوارحك، ونظرت بعينيك إِلَى حسن قصورها، وتأسيس بنيانها من طرائق الجندل الأخضر من الزمرد والياقوت الأحمر، والدر الأَبْيَض، قَدْ سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه.
فقَدْ أكمله الله فِي الصفاء والنور، ومازجة نور ما فِي الجنان، ونظرت إِلَى حجب الله، وفرح فؤادك لمعرفتك إِنَّكَ إِذَا دخلتها فَإِنَّ لَكَ فيها الزيادات، والنظر إِلَى وجه ربك، فاجتمَعَ طيب أراييح الْجَنَّة وحسن بهجة منظرها وطيب نسيمها، وبرد جوها.
فتصور نفسك أن تفضل الله عَلَيْكَ بهذه الهيئة، فلو مت فرحًا لكَانَ ذَلِكَ يحق لَكَ، حَتَّى إِذَا فتحوا بابها، أقبلوا عيك ضاحكين فِي وجهك ووجوه أولياء الله معك، ونادوَكَمْ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فتوهم حسن نغماتهم، وطيب كلامهم، وحسن تسليمهم، فِي كمال صورهم، وشدة نورهم.
ثُمَّ اتبعوا السَّلام بقولهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، فاثنوا عَلَيْهمْ بالطيب والتهذيب من كُلّ دنس، ودرن وغل وغش، وكل آفة فِي دين أَوْ دنيا، ثُمَّ أذنوا لَهُمْ على الله بالدخول فِي جواره، ثُمَّ أخبروهم أنهم باقون فيها أبدًا، فَقَالُوا:{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، فَلَمَّا سمعت الأذن وأَوْلِيَاء الله معك ن بادرتم الْبَاب بالدخول، فكضت الأبواب من الزحام.
فتصور نفسك أن الله عفا عَنْكَ فِي تلك الزحمة مبادرًا مَعَ مبادرين،
مسرورا مَعَ مسرورين، بأبدان قَدْ طهرت، ووجوه قَدْ أشرقت وأنارت فهي كالبدر، قَدْ سطع من أعراضهم كشعاع الشمس.
فَلَمَّا جاوزت بابها، وضعت قدميك على تربتها، وهي مسك اذفره، ونبت الزعفران المونع، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها، فَذَلِكَ أول خطوة خطوتها فِي أرض البقاء بالأمن من الْعَذَاب والموت، فأَنْتَ تتخطى فِي تراب المسك، ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجة الدر، من حسن أشجارها، وزينة تصويرها.
فبينما أَنْتَ تتخطى فِي عرصات الجنان، فِي رياض الزعفران، وكثبان المسك، إذ نودي فِي أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك وقهارمتك، أن فلانَا قَدْ أقبل، فأجابوا، واستبشروا لقدومك، كما يبشر أَهْل الغائب فِي الدُّنْيَا بقدومه.
ثناء على الله وتضرع إليه جل جلاله
إِلَهِي وَخلاقي وَحِرْزِي وَمَوْئِلِي
…
إِلَيْكَ لِدَى الإِعْسَارِ وَالْيُسْرِ أَفْرَعُ
إِلَهْيِ لَئِنْ ابْعَدْتَنِي أَوْ طَرَدْتَنِي
…
فَمَنْ ذَا الَّذِي أَرْجُوا وَمَنْ أَتَشَفَّعُ
إِلَهِي لَئِنْ جَلَتَ وَجَمَعْتَ خَطِيئَتِي
…
فَعَفْوُكَ عَنْ ذَنْبِي أَجَلُّ وَأَوْسَعُ
إِلَهِي لَئِنْ أَعْطيتَ نَفْسِي سُؤَالَهَا
…
فَهَا أَنَا فِي رَوْضَ النَّدَامَةِ ارْتَعُ
إِلَهِي فَلا تَقْطَعْ رَجَائِي وَلا تَزْغ
…
فُؤَادِي فإني خَائٍفٌ مُتَضَرِّعُ
إِلَهِي فَأَنِسْنِي بِتَلْقِينِ حُجْتَي
…
إِذَا كَانَ لي فِي الْقَبْرِ مَثْوَى وَمَضْجَعُ
إِلَهْيِ أَذِقْنِى بَرْدَ عَفْوِكَ يَوْمَََ لا
…
بَنُونَ وَلا مَالَ هُنَالِكَ خضعُ
وَلا تَحْرِمْنِي مِنْ شَفَاعَةِ أَحْمَدٍ
…
وَصَحْبة أَخْيَارِ هُنَالِكَ خُضَّعُ
وَصَلِّ عَلَيْهِ مَا دَعَاكَ مُوَحَّدٍ
…
وَنَاجَاكَ أَقْوَامٌ بِبِاكٍ خُشْعُ
" فَصْلٌ "
فبينما أَنْتَ تنظر إِلَى قصورك، إذ سمعت جلبتهم وتبشيشهم فاستطرت لِذَلِكَ فرحًا، فينما أَنْتَ فرح ومسرور بغبطتهم لقدومك لما سمعت إجلابهم فرحًا بك، إذ ابتدرت القهارمة إليك، وقامت الولدان صفوفًا لقدومك، فينما أتت القهارمة مقبلة إليك، ذا استخف أزواجك للعجلة، فبعثت كُلّ واحدة منهن بَعْض خدامها لينظر إليك مقبلاً، ويسرع بالرجوع إليها يخبرها بقدومك، لتطمئن إليه فرحًا، وتسكن إِلَى ذَلِكَ سرورًا، فنظر إليك الخدم قبل أن تلقاك قهارمتك.
ثُمَّ بادر رسول كُلّ واحدة منهن إليها فَلَمَّا أخبرها بقدومك، قَالَتْ: كُلّ واحدة لرسولها: أَنْتَ رأيته. من شدة فرحها بذَلِكَ، ثُمَّ أرسلت كُلّ واحدة منهن رسولاً آخر، فَلَمَّا جاءت البشارات بقدومك إليهن، لم يتمالكن فرحًا، فأردن الْخُرُوج إليك مبادرات إِلَى لقائِك لولا أن الله كتب القصر لهن فِي الخيام، إِلَى قدومك، كما قَالَ مليكك:{حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} .
فوضعن أيديهن على عضائد أبوابهن، وأذرعهن برؤوسهن، ينظرون متى تبدو لهن صفحة وجهك، فيسكن طول حنينهن، وشدة شوقهن إليك، وينظرون إِلَى قرير أعينهن، ومعدن راحتهن، وأنسهن إِلَى ولي ربهن وحبيب مولاهن.
فتوهم ما عاينت، حين فتحت أبواب قصورك، ورفعت ستوره، من حسن بهجة مقاصيره، وزينة أشجاره، وحسن رياضه، وتلألؤ صحنه، ونور ساحاته.
فبينما أَنْتَ تنظر إِلَى ذَلِكَ، إذ بادرت البشرى من خدامك ينادون أزواجك هَذَا فلان بن فلان قَدْ دخل من باب قصره، فَلَمَّا سمعن نداء البُشْرَاء بقدومك ودخولك، توثبن من الفرش على الأسرة فِي الحجال.
وعينك ناظرة إليهن فِي جوف الخيام والقباب، فنظرت إِلَى وثوبهن مستعجلات، وقَدْ استخفهن الفرح، والشوق إِلَى رؤيتك.
فتخيل تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة الخريدة الناعمة، يتوثبن بالتهادي والتبختر.
فتصور كُلّ واحدة منهن حين وثَبَتْ فِي حسن حللها وحليتها بصحابة وجهها، وتثنِّي بدنها بنعمته.
فتوهم انحدارها مسرعة بكمال بدنها، نازلة عَنْ سريرها إِلَى صحن قبتها وقرار خيمتها، فوثبن حَتَّى أتين أبواب خيامهن وقبابهن.
ثُمَّ أخذن بأيديهن عضائد أبواب خيامهن للقصر، الَّذِي ضرب عليهن إِلَى قدومك، فقمن آخذات بَعْضائد أبوابهن.
ثُمَّ خرجن برؤوسهن ووجوههن، ينحدرن من أبواب قبابهن، متطلعات، ينظرن إليك، مقبلات قَدْ ملئن منك فرحًا وَسُرُورًا.
وتخيل نفسك بسرور قلبك وفرحه، وقَدْ رمقتهن على حسن وجوههن، وغنج أعينهن.
فَلَمَّا قابلت وجوههن حار طرفك، وهاج قلبك بالسرور، فبقيت كالمبهوت الذاهل من عظيم ما هاج فِي قلبك من سرور ما رأت عيناك وسكنت إليه نفسك.
فينما أَنْتَ ترفل إليهن إذ دنوت من أبواب الخيام، فأسرعن مبادرات قَدْ استخفهن العشق، مسرعات يتثنين من نعيم الأبدان، ويتهادين من كمال الأجسام.
ثُمَّ نادتك كُلّ واحدة منهن: يَا حبيبي ما أبطأك عَلَيْنَا؟ فأجبتها بأن قُلْتُ:
يا حبيبة ما زال الله عز وجل يوقفني على ذنب كَذَا وَكَذَا حَتَّى خشيت أن لا أصل إليكن، فمشين نحوك فِي السندس والحرير، يثرن المسك، وشوقًا وعشقًا لَكَ.
فأول من تقدمت منهن مدت إليك بنانها ومعصمها وخاتمها وضمتك إِلَى نحرها فانثنيت عَلَيْهَا بكفك وساعدك حَتَّى وضعته على قلائدها من حلقها ثُمَّ ضممتها إليك وضمتك إليها.
فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها كاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه.
فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها، ولذة معانقتها، ثُمَّ شممت طيب عوارضها، فذهب قلبك من كُلّ شَيْء سواها حَتَّى غرق فِي السرور، وامتلأ فرحًا، لما وصل إِلَى روحك من طيب مسيسها، ولذة روائح عوارضها.
فَلَمَّا استمكنت خفة السرور من قلبك، وعمت لذة الفرح جميع بدنك، وموعد الله عز وجل فِي سرورك، فناديت بالحمد لله الَّذِي صدقك الوعد، وأنجز لَكَ الموعد، ثُمَّ ذكرت طلبك إِلَى ربك إياهن بالدؤوب والتشمير.
فأين أَنْتَ فِي عاقبة ذَلِكَ الْعَمَل الَّذِي استقبلته وأَنْتَ تلتثمهن وتشم عوارضهن {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} .
اللَّهُمَّ إِنَّا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية ومرادًا غير مخزي ولا فاضح. اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يَا رب العالمين. اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء، وتنْزِع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الْخَيْر إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. يَا ودود يَا ذا العرش المجيد يَا مبدئ يَا معيد يَا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أَرْكَانَ عرشك وبقدرتك التي
قدرتَ بها على جميع خلقكَ وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا، وأن تبدلها لَنَا بحسنات إِنَّكَ جواد كريم رؤوف رحيم. اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
" فَصْلٌ ": فتوهم صعودها على السرير بعَظِيم بدنها ونعيمه، حَتَّى استوت عَلَيْهِ جالسةً، ثُمَّ ارتقيت على السرير، فاستويت عَلَيْهِ معها، فقابلتك وأَنْتَ مقابلها، فيا حسن منظرك إليها جالسةً فِي حالها وحليها بصباحة وجهها ونعيم جسمها! الأساور فِي معاصمها، والخواتم فِي أَكفها، والخلاخيل فِي أسواقها، والقلائد فِي عنقها، والأكاليل من الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذَلِكَ على رأسها، والذوائب من تحت التاج قَدْ حل من مناكبها، وبلغ أردافها، تَرَى وجهك فِي نحرها، وهي تنظر إِلَى وجهها فِي نحرك.
وقَدْ تدلت الأشجار بثمارها من جوانب حجلتك، واطردت الأنهار حول قصرك، واستعلى الجداول على خيمتك بالخمر والعسل واللبن والسلسبيل.
وقَدْ كمل حسنك وحسنها، وأَنْتَ لابس الحرير والسندس، وأساور الذهب واللؤلؤ على كُلّ مفصل من مفاصلك، وتاج الدر والياقوت منتصف فوق رأسك، وأكاليل الدر مفصصة بالنور على جبينك.
وقَدْ أضاءت الْجَنَّة وَجَمِيع قصورك من إشراق بدنك ونور وجهك، وأَنْتَ تعاين من صفاء قصورك جميع أزواجك وَجَمِيع أبنية مقاصيرك.
وقَدْ تدلت عليك ثمار أشجارك واطردت أنهارك من الخمر واللبن من تحتك، والماء والعسل من فوقك، وأَنْتَ جالس مَعَ زوجتك على أريكتك، وقَدْ فتحت مصاريع أبوابك، وأرخيت عَلَيْكَ حجال خيميتك، وحفف الخدام والودان بقبتك، وسمعت زجلهم بالتقديس لربك عز وجل.
وأَنْتَ وزوجك بأكمل الهيئة وأتم النَّعِيم، وقَدْ حار فيها طرفك تنظر إليها متعجبًا من جمالها وكمالها، طرب قلبك بملاحتها، وأنس قلبك بها من حسنها، فهي منادمة لَكَ على أريكتك، تنازعك وتعاطيك الخمر والسلسبيل والتسنيم فِي كأسات الدر وأكاويب قوارير الفضة.
فتوهم الكأس من الياقوت والدر فِي بنانها، وقَدْ قربت إليك ضاحكة بحسن ثغرها، فسطع نور بنانها فِي الشراب، مَعَ نور وجهها ونحرها، ونور الجنان، ونور وجهك وأَنْتَ مقابلها، واجتمَعَ فِي الكأس الَّذِي فِي بنانها نور الكأس، ونور الشراب ونور وجهها ونور نحرها، ونور ثغرها. انتهى بتصرف.
وقَالَ ابن القيم:
فَاسْمَعْ صَفَاتِ عَرَائِسَ الْجَنَّاتِ ثُمَّ
…
اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا أَخَا الْعِرْفَانِ
حُورٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا
…
وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ
حَتَّى يُحَارُ الطَّرْفُ فِي الْحُسْنِ الَّذِي
…
قَدْ ألْبَسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ
وَيَقُولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا
…
سُبْحَانَ مُعْطِي الْحُسْن وَالإِحْسَانِ
وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤوس جَمَالِهَا
…
فَتَرَاهُ مِثْلَ الشَّارِبِ النّشْوَانِ
كَمُلَتْ خَلائِقُهَا وَأَكْمَلَ حُسْنُهَا
…
كَالْبَدْرِ لَيلَ السَّتِ بَعْدَ ثَمَانِ
وَالشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا
…
والليلُ تَحتَ ذَوائِبِ الأَغْصَانِ
فَتَرَاهُ يَعْجَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِن
…
لَيلِ وَشَمْسٍ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ
فَيَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي ذَا صُنْعَه
…
سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةَ الإِنْسانِ
وَكلاهُمَا مِرْآةُ صَاحِبِه إِذَا
…
مَا شَاءَ يُبْصِر وَجْهَهُ يَرَيَانِ
فَتَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ فِي وَجْهِهَا
…
وَيَرَى مَحَاسِنِهَا بِهِ بَعَيْنَانِ
حُمْر الْخُدُودِ ثُغُورُهُنَّ لآلِئٌ
…
سُودُ الْعُيُونِ فَوَاتِرُ الأَجْفَانِ
وَالْبَدْرُ يَبْدُو حِينَ يَبْسُمُ ثَغْرُهَا
…
فَيُضِئُ سَقْفُ الْقَصْر بِالْجُدْرَانِ
وَلَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ بَرْقًا سَاطِعًا
…
يَبْدُو فَيَسْألُ عَنْهُ مَن بِجِنَانِ
فَيُقَالَ هَذَا ضَوْءُ ثَغْرٍ ضَاحِكٍ
…
فِي الْجَنَّةِ الْعُلَيا كَمَا تَريَانِ
للهِ لاثِمْ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِي
…
فِي لَثْمِةِ إِدْرَاك كُلّ أَمَانِ
رَيَّانَة الأَعْطَافِ مِنْ مَاءِ الشَّبَا
…
ب فَغِصْنَهَا بِالْمَاءِ ذُو جَرَيَانِ
لَمَّا جَرَى مَاءُ الشَّبَابِ بِغِصْنِهَا
…
حَمَلَ الثِّمَارَ كَثِيرَةَ الأَلْوَانِ
فَالْوَرْدُ وَالتُّفْاحُ وَالرُّمَّانُ فِي
…
غِصْنِ تَعَالَى غَارِسِ الْبُسْتَانِ
والَقَدْ مَنْهَا كَالْقَضِيبِ اللدِنْ فِي
…
حُسْنِ الْقَوامِ كَأَوْسَط الْقُضْبَانِ
إِلَى أن قَالَ رحمه الله:
وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ من لُبْسِهَا
…
وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ
تَهْتَزُ كَالْغِصْنِ الرَّطِيبِ وَحِمْلُه
…
وَرْدٌ وَتُفْاحٌ عَلَى رُمَّانِ
وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيَهَا وَيَحِقُّ ذَا
…
كَ لِمِثْلِهَا فِي جَنْةِ الْحَيَوَان
وَوَصَائِفٌ مِن خَلْفِها وَأَمَامِها
…
وَعَلَى شَمَائِلِهَا وَعَنْ إِيمَانِ
كَالبَدْرِ لَيلَة تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي
…
غَسّقِ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْمِيزَانِ
فَلِسَانُهُ وَفُؤَادُهُ وَالطَّرف فِي
…
دَهْشٌ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ
فالْقَلْبُ قَبْلَ زَفَافِهَا فِي عُرْسِهِ
…
وَالْعُرْسُ إِثْر العُرْسِ مُتَّصِلانِ
حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا
…
أرأيْتَ إِذ يَتَقَابَل الْقَمَرَانِ
فَسَلِ الْمُتَيَّمَ أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ
…
فِي أَيِّ وَادٍ أَمْ بَأَي مَكَانَ
وَسَلِ الْمُتَيَّم كَيْفَ حَالَتُهُ وَقَدْ
…
مُلِئَتْ لَهُ الأُذُنَانِ وَالعَيْنَانِ
مِن مَنْطِقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيهِ وَوَجْـ
…
ـه كَمْ بِهِ لِلشمْس مِن جَرَيَانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيَفَ عِيشَتُهُ إِذَا
…
وَهُمَا عَلى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَان
يَتَسَاقَطَانِ لَئِآلئا مَنْثُورة
…
مِن بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيَفَ مَجْلِسُه مَعَ الْـ
…
مَحْبُوبِ فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ
وَتَدُورُ كَاسَات الرَّحِيقِ عَلَيْهِمَا
…
بِأَكُفٍ أقمارٍ من الْولْدَانِ
يَتَنَازَعَانِ الكَأْسَ هَذَا مَرَّة
…
وَالْخُودُ أُخرَى ثُمَّ يَتَكِئَانِ
فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأيْتَ مَعْـ
…
ـشُوقَيْنِ بَعدَ البُعْدِ يَلْتقِيانِ
غَابَ الرَّقِيبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكَّدٍ
…
وَهُمَا بثَوْبِ الوَصْلِ مُشْتَمِلانِ
أَتَرَاهُمَا ضَجِرَيْنِ مِنَ ذَا الْعَيْشِ لا
…
وَحَياةِ رَبِّكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ
وَيَزِيدُ كُلّ مِنْهُمْ حُبًّا لِصَا
…
حِبِهِ جَدِيدًا سَائِرَ الأَزْمَانِ
وَوِصَالُهُ يَكْسُوهُ حُبًا بَعْدَهُ
…
مُتَسَلْسَلاً لا يَنْتَهِي بِزَمَانٍ
فَالْوَصُلُ مَحْفُوفٌ بِحُبٍ سَابِقٌ
…
وَبِلاحِقِ وَكِلاهُمَا صِنْوَانِ
فَرْقٌ لَطِيفٌ بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنَ ذَا
…
يَدْرِيْهِ ذُو شُغْلٍ بِهَذَا الشَّانِ
وَمَزِيدُهُم فِي كُلّ وَقْتٍ حَاصِلٌ
…
سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ
يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ
…
جَدَّ الرَّحِيل وَلَسْتَ بِالْيَقْظَانِ
سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأولى
…
قَنَعُوا بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْفَانِ
وَرَأَيْت أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا
…
فَتَبَعْهُم فَرَضِيتَ بِالْحِرْمَانِ
لَكنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْـ
…
ـلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ
مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِالْحُوقِ مَعَ الْقُعُودِ
…
عَنْ الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ
وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا
…
مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إمكَانِ
وقَالَ ابن القيم رحمه الله:
فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى
…
صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ
أَفِقْ قَدْ دَنَى الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ
…
سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرَّ نَارٍ تَضَرَّمُ
وَبِالسُنَّةِ الْغَرَاءِ كُنْ مَتَمَسِّكًا
…
هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ
تَمَسَّكَ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَالِهِ
…
وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ
وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا
…
فَمُرَتِّعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ
وَهَيء جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا
…
مِنِ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ
بِهِ رُسُلِي لَمَّا أَتَوْكَمْ فَمَنْ يَكُن
…
أَجَابَ سوَاهُمْ سَوْفَ يُجْزَى وَيَنْدَمُ
وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ
…
لِيَوْمِ بِه تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ
وَيَنْصِبُ ذَاكَ الْجِسْرِ مِنْ فَوْقِ مَتْنِهَا
…
فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسْلِمُ
وَيَأْتِى اللهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ
…
فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ
وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقّهُ
…
فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ
وَيَنْشُر دَيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوْضَعُ الْـ
…
ـمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ
فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ
…
وَلا مُحْسِنٌ مِن أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ
وَيَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيئ بِمَا جَنَى
…
كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهيْمِنِ يَخْتِمُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا
…
تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسِمُ
أَتَأْخُذُ بِالْيُمْنَى كِتَابَكَ أَمْ تَكُنْ
…
بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ
وَتَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ
…
فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ
تَقُولُ كِتَابِي فَأْقَرُؤهُ فَإِنَّهُ
…
يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ
وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ
…
أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوْتَهُ فَهُو مُغْرَمُ
فَبَادِرْ إِذَا مَادَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةً
…
وَعَدْلُكَ مَقْبُولٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا
…
فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْت خَلْفُكَ مُسْرِعًا
…
وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْزَمُ
اللَّهُمَّ ألهمنا القيام بحقك، وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يَا خَيْر من دعاه داع وأفضل من رجاه راج، يَا قاضى الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه وأمّلناه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلى الله على مُحَمَّد وَعَلَى آلِه وصحبه أجمعين.
(خاتمة، وصية، نصيحة)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تَعَالَى أن يحث أولاده على حفظ القران وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المتفق على صحتها عَنْهُ كالْبُخَارِيّ ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر لَهُ استخَرَجَ المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذَلِكَ.
فمثلاً يجعل لمن حفظ القران على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أَوْ أزيد أَوْ أقل حسب حاله فِي الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان الْبُخَارِيّ ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذَلِكَ ستة آلاف.
فإن عجزوا على حفظها، فالعمدة فِي الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أَوْ الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين من الريالات، فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسُرْعَةِ استخراج ما أُرِيدَ من ذَلِكَ، وما أشكل معناه أَوْ يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسُنَّة هِيَ مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، أَوْ يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد.
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍ
…
كَعِلْمِ الشَّرْعِ يُؤْخَذُ عَنْ ثِقَاتٍ
بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأََوَالِي
…
لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ
فمن وفقه الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أولاده بذَلِكَ كَانَ سبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنَ الله وَسَبَبًا لِبِرِّهِمْ بِهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ إذ ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سببَا مبَارَكًا يعمل به أولاده مَعَ أولادهم، فيزيد الأجر لَهُ ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النِّيْة إنه القادر على ذَلِكَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
تَمَّ هَذَا الجزء الثاني بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العليّ
العَظِيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد أن يعز الإِسْلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من فِي صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، ويهلك من فِي هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين، وأن يلم شعث الْمُسْلِمِين ويجمَعَ شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إِلَى كُلّ خَيْر ويعصمنا وإياهم من كُلّ شر، ويحفظنا وإياهم من كُلّ ضر، وأن يغفر لَنَا ولوالدينا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" موعظة "
فَيَا أَيُّهَا الْمُهْمِلُون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشيِّت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منَّا، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ
والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" موعظة "
عباد الله تزودوا للرحيل فقَدْ دنت الآجال واجتهدوا واستعدوا للرحيل فقَدْ قرب الارتحال ومهدوا لأنفسكم صالح الأَعْمَال فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذنت بالفراق، وإن الآخِرَة قَدْ أشرفت للتلاق فتزودا من دار الانتقَالَ إِلَى دار الْقَرَار.
واستشعروا التَّقْوَى فِي الأقوال والأفعال واحذروا التفاخر والتَّكَاثُر فِي الدُّنْيَا بجمَعَ الحطام واكتساب الآثام وَإِيَّاكُمْ والاغترار بالآمال فوراءكم المقابر ذات الوحشة والهموم والغموم والكربات وتضايق الأنفاس والأهوال المفظعات.
فسوف ترون ما لم يكن لكم فِي حساب إِذَا نوديتم من الأجداث حفاة عراة غُرلاً مهطعين إِلَى الداعي وتَعَلَّقَ الْمَظْلُومُونَ بِالظَّالِمِينَ وَوَقَفْتُمْ بين يدي رب العالمين وحل بكم كرب المقام، واشتد بالخلق فِي ذَلِكَ الموقف الزحام وأُخِذَ المجرمون بالنواصي والأقدام وبرزت جهنم تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها والخزنة حولها غلاظ شداد.
وَيُنَادِي عَنْدَ ذَلِكَ العزيز الحميد الجبار فَيَقُولُ: هل امتلأت؟ وَتَقُول هل من مزيد. هنالك ينخلع قلبك وتتذكر ما فرطت فيه من الأوقات وتتندم ولات ساعة مندم، وتتمنى أن لو زيد فِي الحسنات وخفف من السيئات ولكن أنَّى لَكَ هَذَا وهيهات {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
شِعْرًا:
…
لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالْوَادِي الْمَرِيعِ
…
تَشُبُّ بِهِ تَبَارِيحَ الضُّلُوعِ
عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْراءَ يَصْفُو
…
عَلَى أَعْطَافِهَا وَشْيُ الرَّبِيعِ
جج
تُرَدِدُ صَوْتُ بَاكِيَةٍ عَلَيْهَا
…
رَمَاهَا الْمَوْتُ بِالأَهْلِ الْجَمِيعِ
فَشَتَّتَ شَمْلَهَا وأَدَالَ مِنْهُ
…
غَرَامًا عَاثَ فِي قَلْبٍ صَرِيعِ
عَجِبْتُ لَهَا تُكَلَّمُ وَهِي خَرْسَا
…
وَتَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةُ الدُّمُوعِ
فَهِمْتُ حَدِيثِهَا وَفَهِمْتُ أَنِّي
…
مِنَ الْخُسْرَان فِي أَمْرٍ شَنِيعٍ
أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيسًا
…
وَتَشْربُ مِنْهُ بِالْكَأْسِ الْفَظِيعِ
وَهَا أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْد نَفْسِي
…
وَتَضْيِيعِ الْحَيَاةِ مَعَ الْمَضِيعِ
وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ الْيَوْمَ أَمْرِي
…
لأَرْسَلْتُ الْمَدَامِعِ بِالنَّجِيعِ
أَلا يَا صَاحِ وَالشَّكْوَى ضُرُوبٌ
…
وَذِكْرُ الْمَوْتِ يَذْهَبُ بِالْهُجُوعِ
لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيرَ أَخَاكَ دَمْعًا
…
فَمَا فِي مُقْلَتَيْهِ مِنْ الدُّمُوعِ
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك، وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ فِي دار أمانك، وعافنا يَا مولانَا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا، وأجزل لَنَا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين وأيقظ قلوبنا وقلوبكم من الغَفْلَة وارزقنا وَإِيَّاكُمْ الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إِلَى الدار الباقية، أنَّ مِنْ أَضَرِّ ما على الإِنْسَان طول الأمل.
ومعنى ذَلِكَ استشعار طول البقاء فِي الدُّنْيَا حَتَّى يغلب على الْقَلْب وينسى أَنَّهُ مُهَدَّدٌ بالموت فِي كُلّ لحظة، ولا بد منه وكل ما هُوَ آت قريب فتأهب لساعة وَدَاعَكَ من الدُّنْيَا وخروجك مَنْهَا.
وكن يَا أخي على حذر من مفاجأة الأجل فإنك عرض للآفات، وهدف منصوب لسهام الْمَنَايَا، وإنما رأس مالك الَّذِي يمكنكك إن وفقك الله أن تشتَرَي به سعادة الأبد هَذَا العمر.
قَالَ الله جل وعلا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} الآية، فإياك أن تنفق أوقات عمرك وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خَيْر فيه ولا منفعة فيطول حزنك وندامتك وتحسرك بعد موتك.
واجعل ما يلي من الآيات نصب عينيك دَائِمًا لتحثك على الإستعداد ليوم المعاد.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}
وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} .
وقوله تَعَالَى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} الآية.
وقَالَ تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}
وقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} .
وقال جَلَّ وَعَلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .
ونحو هَذِهِ الآيات التي مرت عَلَيْكَ فَإِنَّ كنت مؤمنًا حَقِيقَة فاشعر قلبك
تلك المخاوف والأخطار، وأكثر فيها التفكر والاعتبار لتسلب عَنْ قلبك الرَّاحَة والقرار فِي هَذِهِ الدار فتشتغل بالجد والاجتهاد والتشمير للعرض على الجبار.
وتفكر أَوَّلاً فيما يقرع سمَعَ سكَانَ القبور من شدة نفخ الصور، فَإِنَّهَا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عَنْ رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.
قَالَ الله جل جلاله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} .
فتصور نفسك إنتبه يَا أخي لهَذَا الْيَوْم العَظِيم الَّذِي لَيْسَ عظمة مِمَّا يوصف، ولا هوله مِمَّا يكيف، ولا يجري على مقدار مِمَّا يعلم فِي الدُّنْيَا ويعرف، بل لا يعلم مقدار عظمه ولا هوله إلا الله تبارك وتعالى، وما ظنك بيوم عَبَّرَ الله تبارك وتعالى عَنْهُ بَعْض ما يكون فيه بشَيْء عَظِيم. قَالَ الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، وماذا عَسَى أن يَقُولُ القائل فيه وماذا عَسَى أن يصف الواصف به الأَمْر أعظم والخطب أكبر والهول أشنع كما قَالَ القائل:
وما عَسَى أنْ أَقُولَ أَوْ أَقُومُ بِهِ
…
الأَمْر أَعْظَمُ مِمَّا قِيْل أَوْ وُصِفَا
وقَالَ آخر:
يَضْحَكُ الْمَرءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ
…
وَيَرُومُ الْبَقَاءَ وَالموتُ رَامَهْ
ويَمْشِي الْحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ
…
وَيُخْلِي حَدِيثُ يَومِ الْقِيَامَهْ
وَلأَمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ
…
وَنَفَى فِي الظَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ
صَاحَ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصْرهُ 10
…
فَمُحَالٌ بِأنْ تُطِيقَ تَمَامَهُ
عَجِزَ الْوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا
…
لَمْ نَجِئْ مِن بحَارِهِ بِكضَامَهْ
ج
فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا
…
وَدَعِ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ
فتصور نفسك وقَدْ خرجت من قبرك متغيرًا وجهك مغبرًا بدنك من تراب قبرك مبهوتًا من شدة الصعقة، قَالَ تَعَالَى:{خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} .
وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} الآية. وقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} .
وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} .
وقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} فتفكر فِي الخلائق ورعبهم وذلهم واستكانتهم عَنْدَ الانبعاث خوفًا من هَذِهِ الصعقة وانتظارًا لما يقضى عَلَيْهمْ من سعادة أَوْ شقاوة.
قَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} .
شِعْرًا:
…
مَنْ كَانَ يُوحِشْهُ تَبْدِيل مَنْزِلِهِ
…
وَأَنْ يُبَدَّل مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنَا
مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبَهَا
…
عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِنْ هَا هُنَا وَهُنَا
مَاذَا يَقُولُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَتِهِ
…
فَرْدًا وَقَدْ فَارَقَ الأَهْلِينَ وَالسَّكَنَا
يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ
…
وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَهُ الرَّسَنَا
وَلَمْ أَعُدْ مَكَانًا لِلنِّزَالِ وَلا
…
أَعَدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غِرَّةً وَمُنَا
إِنْ لَمْ يَجُدْ مَنْ تَوَالَى جُودُهُ أَبَدَا
…
وَيَعْفُ مَنْ عَفْوُهُ مِن طَالِبِيهِ دَنَا
فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الجُوُدِ وَاكِفةٌ
…
سَحًّا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالَ وَالْمِنَنَا
آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وَحْشَتُنَا
…
وَأَلْطَفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا
نَحْنُ الْعُصَاةُ وَأَنْتَ اللهُ مَلْجَؤُنَا
…
وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا
فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأسَاهَا وَشِدَّتِهَا
…
أَوْلَى فَمَنْ ذَا الَّذِي فِيهَا يَكُونُ لَنَا
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، اغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
وقَالَ رحمه الله: اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عَنْ المعاصي وتلين الْقَلْب القاسي، وتذهب الفرح بالدُّنْيَا وزينتها وزخارفها ولذاتها.
وتحثك على الجد والاجتهاد فِي الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.
قَالَ بَعْضهمْ: فضح الدُّنْيَا وَاللهِ هَذَا الموت فلم يترك فيها لذي عقلٍ فرحًا.
وقَالَ آخر: ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.
وقَالَ آخر: من ذكر الموت هانَتْ عَلَيْهِ مصائب الدُّنْيَا.
وقَالَ آخر: من لم يخفه فِي هَذِهِ الدار ربما تمناه فِي الآخِرَة فلا يؤتاه.
وقَالَ آخر يوصى أخًا لَهُ: يَا أخي احذر الموت فِي هَذِهِ الدار من قبل أن تصير إِلَى دارٍ تتمنى بها الموت فلا يوَجَدَ.
وقَالَ آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كَانَ أمرًا مقدارًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عَنْ دار الغرور، والاستعداد والإنابة إِلَى دار الخلود، والتفكير والنظر فيما تقدم عَلَيْهِ وفيما يصير أمرك إليه.
ويهون عَلَيْكَ مصائب الدُّنْيَا ويصغر عندك نوائبها، فَإِن كَانَ سبب موتك سهلاً وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كَانَتْ الأُخْرَى كنت مأجورًا مَعَ النِّيْة الصَّالِحَة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.
واعْلَمْ أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالْقَلْب وإقبالك على ما تذكره. قَالَ الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فأي فائدة لَكَ رَحِمَكَ اللهُ فِي تحريك لسانك إِذَا لم يخطر بقلبك.
وإنما مثل الذكر الَّذِي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغَفْلَة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمَعَ لَهُ ذهنك وتجعله نصب عينيك ومثالاً حاضرًا بين يديك، وأن تنظر إِلَى كُلّ ما تحبه من الدُّنْيَا من ولدٍ أَوْ أَهْلِ أَوْ مالٍ أَوْ غير ذَلِكَ، فتعلم عِلْمًا لا يشوبه شك إِنَّكَ مفارقه فِي الحياة أَوْ فِي الْمَمَات، وهذه سُنَّة الله الجارية فِي خلقه وحكمه المطرد.
وتشعر هَذَا قلبك وتفرغ لَهُ نفسك فتمنعها بذَلِكَ عَنْ الميل إِلَى ذَلِكَ المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.
شِعْرًا:
…
فَعُقْبَى كُلِّ شَيْءٍ نَحْنُ فِيهِ
…
مِن الْجَمْعِ الْكَثِيفِ إِلَى شَتَاتِ
وَمَا حُزْنَاهُ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمٍ
…
يُوَزَّعُ فِي الْبَنِينِ وَفِى الْبَنَاتِ
وَفِيمَنْ لَمْ نُؤَهِّلْهُُمْ بِفَلسٍ
…
وَقِيمَةِ حَبَّةٍ قَبْلَ الْمَمَاتِ
ج
وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْرٍ
…
وَقَدْ صِرْنَا عِظَامًا بَالِيَاتِ
كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرْهُمْ بِوُدٍّ
…
وَلَمْ يَكُ فِيهِمْ خِلٌّ مُؤاتِ
واعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أن مِمَّا يعينك على الفكرة فِي الموت ويفرغك لَهُ ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الَّذِينَ مضوا قبلك وتقدموا أمامك.
كَانُوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.
ويتذكر أيضًا ما كَانُوا عَلَيْهِ من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم وما كَانُوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كَانُوا فِي نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاؤا من محابهم يتنعمون.
وفى أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزَوَال، ولا يهمون بانتقَالَ، ولا يخطر الموت لَهُمْ على بال، قَدْ خدعتهم الدُّنْيَا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.
فلم تزل تقرب لَهُمْ بعيدها، وترفع لَهُمْ مشيدها، وتلبسهم غضَّها وجديدها، حَتَّى إِذَا تمكنت مِنْهُمْ علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشف لَهُمْ حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.
فوثَبِّتْ عَلَيْهمْ وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قلة المختنق، فكم عَلَيْهمْ من عيون باكيةٍ، ودموعٍ جاريةٍ، وخدودٍ داميةٍ، وقُلُوبٍ من الفرح والسرور لفقدهم خالية، وأنشدوا فِي هذا المعنى:
وَرَيَّانَ مِنْ مَاء الشَّبَابِ إِذَا مَشَى
…
يَمِيدُ عَلَى حُكْمِ الصِّبَا وَيَمِيدُ
تَعَلَّقَ مِنْ دُنْيَاهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ
…
خَلُوبًا لأَلْبَابِ الرِّجَالِ تَصِيدُ
فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيدٍ وَقَائِم
…
وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدُ
خَلا بِالأَمَانِي وَاسْتَطَابَ حَدِيثَهَا
…
فَيَنْقُصُ مِنْ أَطْمَاعِهِ وَيَزِيدُ
وَأَدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءِ وَهِيَ بَعِيدَةُ
…
وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيءَ وَهُوَ بَعِيدُ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْتِ رَمْيَةٌ
…
فَرَاحَ بِهَا الْمَغْرُورُ وَهُوَ حَصِيدُ
وَصَارَ هَشِيمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا
…
وَعَادَ حَدِيثًا يَنْقَضِي وَيَبِيدُ
كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَذَّة
…
وَلا طَلَعَتْ فِيهِ عَلَيْهِ سُعُودُ
تَبَارَكَ مَنْ يُجْرِي عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ
…
فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْهُ مَحِيدُ
" فَصْلٌ ": ويروى أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما مَاتَ قَالَ الله جل جلاله: كيف وجدت الموت؟ قَالَ: كسفودٍ جعل فِي النار ثُمَّ أدخل فِي صوف رطب ثُمَّ جذب. فقَالَ الله تَعَالَى: أما أَنَا لَقَدْ هوناه عَلَيْكَ يَا إبراهيم.
ويروى عَنْ مُوَسى عليه السلام أنه لما صَارَت روحه إِلَى الله تَعَالَى قَالَ لَهُ: يَا مُوَسى كيف وجدت الموت؟ فقَالَ: وجدت نفسي كالعصفور حين يلقى فِي المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير. ويروى عنه أنه قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ. ويروى أن عمر قَالَ لكعب الأحبار: حدثنا عَنْ الموت. فقَالَ: نعم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كغصن كثير الشوك أدخل فِي جوف رجل فأخذت كُلّ شوكة بعرق ثُمَّ جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى.
وقَالَ القرطبي: لتشديد الموت على الأَنْبِيَاء فائدتان أحدهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم ولَيْسَ ذَلِكَ نقصًا ولا عذابًا بل هُوَ كما جَاءَ أن أشد النَّاس بَلاءً الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل. وَالثَّانِيَة تعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقَدْ يطلع الإِنْسَان على بَعْض الموتى فلا يرى عَلَيْهِ حركةً ولا قلقًا ويرى سهولة
خروج روحه فيظن سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه.
فَلَمَّا ذكر الأَنْبِيَاء الصادقون فِي خبرهم شدة ألمه مَعَ كرامتهم على الله تَعَالَى قطع الخلق بشدة الموت الَّذِي تقاسيه مطلقًا لأخبار الصادقين عَنْهُ ما خلا الشهيد فِي سبيل الله. انتهى.
أخَرَجَ الطبراني عَنْ قتادة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة» .
أخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا فِي المرض والكفارات وابن منيع فِي مسنده مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة مرفوعًا: «يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر حق تكلم به فِي أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار» . قُلْتُ: بلى. قَالَ: «لا إله إلا الله يحيى ويميت وَهُوَ حي لا يموت وسبحان الله رب العباد والْبِلاد والحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كُلّ حال والله أكبر كبيرًا وكبرياؤه وجلاله وقدرته بكل مكَانَ. اللَّهُمَّ إن كنت أمرضتني لتقبض روحي فِي مرضي هَذَا فاجعل روحي فِي أرواح من سبقت لَهُمْ منك الحسنى وأعذني من النار كما أعذت أولئك الَّذِينَ سبقت لَهُمْ منك الحسنى.
فإن مت فِي مرضك ذَلِكَ فإلى رضوان الله والجنة، وإن كنت قَدْ اقترفت ذنوبًا تاب الله عليك» . وأخَرَجَ الطبراني عَنْ أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعًا:«من قَالَ عَنْدَ موته: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلى العَظِيم لا تطعمه النار» . وأخَرَجَ الحاكم عَنْ سعيد بن أبي وقاص أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هل أدلكم
على اسم الله الأعظم دُعَا يونس {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأَيُّمَا مُسْلِم دَعَا بِهَا فِي مرض موته أربعين مرة فمَاتَ فِي مرضه ذَلِكَ أعطى أجر شهيد وان برئ بَرئ مغفورًا لَهُ» .
شِعْرًا:
…
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِي الْوَرَى سَتُعَذَّبُ
…
فَنَاجٍ بِخَدْشٍ وَالْكَثِيرُ يُكَبْكَبُ
أَمَا يَسْتَحِي مَنْ كَانَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ
…
(ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ)
(وَتُجْمَعُ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ وَتُكْتَبُ)
وَأَنْتَ بِمَا لا يُرْتَضَى كُلَّ لَيْلَةٍ
…
أَمَا تَتَّقِي مَوْلاكَ فِي كُلِّ فِعْلَةِ
تَبِيتُ بِِلَذَّاتِ وَتَلْعَابِ طِفْلَةٍ
…
(وَقَلْبُكَ فِي سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ)
(وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصٌ مُعَذَّبُ)
فَلَوْ تَسْتَطِعْ أَخْذَ التَّقِي وَرَحْلِهِ
…
أَخَذْتَ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ وَمَحَلِّهِ
وَأَنْتَ عَلَى كَنْزِ الْقَلِيلِ وَجِلِّهِ
…
(تُبَاهِي بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلَّهِ)
(وَتَسْعَى حَثِيثًا فِي الْمَعَاصِي وَتُذْبِبُ)
وَتُعْرِضُ عَنْ فِعْلِ المَرَاضِي وَتَرْتَضِي
…
فِعَالاً تُنَافِي فِعْلَةَ الدينِ الرَّضِي
أَمَا تَرْعَوِي يَا مَنْ عَلَى لَهْوَهِ رَضِي
…
(أَمَا الْعُمْرُ يَفْنَى وَالشَّبِيبَةَ تَنْقَضِي)
(أَمَا الْعُمْرُ آتٍ وَالْمَنِيَّةَ تُطلبُ)
فَلا تَغْتَرِرُ وَاحْذَرْ فَدُنْيَاكَ يَا الْغَدِي
…
إِذَا أَضْحَكتكَ الْيَوْم أَبْكَتْكَ فِي الْغَدِي
أَتَلْهُو بِدَارٍ لا تَدُومُ لِمَرْغَدِي
…
(أَمَا تَذْكُر الْقَبْرَ الْوَحِيشَ وَلَحْدَهَ)
(بِهِ الْجِسْمُ مِنْ بَعْدِ الْعِمَارَةِ يَخْرَبُ)
وَتَقْتَتِلُ الدِّيدَانُ لا شَكَّ حَوْلَهُ
…
وَمَا أَحَدٌ يَنْعِي وَلا يَعِ عَوْلَهُ
أَمَا آنَ أَنْ تَخْشَى الْعَزِيزَ وَطَوْلَهُ
…
(أَمَا تَذْكُر الْيَوْمَ الطَّوِيلَ وَهَوْلَهُ)
(وَمِيزَانَ قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ)
فَتُوزَنُ أَعْمَالٌ فَتُخْزَى رِجَالُهُ
…
وَكُلٌّ يُجَازِي مَا جَنَتُهُ فِعَالُهُ
وَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَجَالُهُ
…
(أَمَا جَاءَ أَنَّ اللهَ جل جلاله)
(إِذَا هَتَكَ الْعَبْدُ الْمَحَارِمَ يَغْضَبُ)
فَيَهْتِكُ سِتْرَ الظَّالِمِينَ بِغِرَّةٍ
…
وَكُلُّهُمُوا عَضَّ الأَكُفَّ بِحَسْرَةٍ
وَلاتَ مَنَاصٍ حِينَ جَادُوا بِعَبْرَةٍ
…
(أَمَا الْوَاحِدُ الدَّيَّانُ جَلَّ بِقُدْرَةٍ)
(يُنَاقَشُ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ وَيَحْسِبُ)
فَيُنْصِفُ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ لَهُ افْتَرَى
…
وَيَقْصِمُهُ فَيَبْقَى مُقَحْطَرَا
أَمَا زَاجِرٌ يَزْجُرْكَ يَا مَنْ تَبَخْتَرَى
…
(أَمَا تَذْكُرُ الْمِيزَانَ وَيْحَكَ مَا تَرَى)
(إِذَا كُنْتَ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ مُكَبْكَبُ)
أَمَا تَمْشِين بَيْنَ الْوَرَى مُتَوَاضِعًا
…
أَمَا تَتَّقِي رَبًا آلاتُكَ خَاضِعًا
أَحَاطَكَ ظَهْرًا ثُمَّ بَطْنًا وَرَاضِعًا
…
(كَأَنَّكَ مَا تَلْقَى عَلَى الأَرْضِ مَوْضِعًا)
(وَمِنْ بَعْدِ تَلْهُو بِالشَّبَابِ وَتَلْعَبُ)
رَأَيْتُ وَلَمْ تَشْعُرْ نَذِيرًا وَنَاهِيًا
…
وَكُنْتَ بِدُنْيَاكَ الدَّنِيَّةِ سَاهِيَا
سَهِرْتَ وَآثَرْتَ الْغِنَى وَمَلاهِيًا
…
(تَرُوحُ وَتَغْدُو فِي مُرَاحِكَ لاهِيًا)
(وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ الْمَنِيَّةِ تَنْشبُ)
أَتَحْسَبُ أَنَّ اللهَ أَنْشَى الْوَرَى سُدَى
…
سَيَأْتِيكَ مَا مِنْهُ تَكُونُ مُكَسَّدَا
وَتُنْزَعُ رَوْحٌ تَبْقَى مُجَسَّدَا
…
(وَتَبْقَى صَرِيعًا فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا)
(وَجِسْمُكَ مِنْ حَرٍّ بِهِ يَتَلَهَّبُ)
وَمَالَكَ عَنْ دَفْعِ الأَذِيَّةِ صَوْلَةٌ
…
وَمَالَكَ مُذْ جَاءَ الْمُقَدَّرُ حِيلَةٌ
تَنُوحُ وَتَبْكِى بِالدُّمُوعِ أَهْيَلَة
…
(وَحَوْلَكَ أَطْفَالٌ صِفَارٌ وَعَوْلَةٌ)
(بِهِمْ بَعْدَ مَغْذَاكَ الْبَنُونُ تَشَعَّبُ)
أَيَادِي سَبَا خَلْفًا وَيَمْنَى وَيَسْرَةً
…
وَكُنْتَ رَهِينًا لِلْمَنَايَا وَقَسْرَةً
وَجَاءَكَ مَا أَوْدَى البَهَا وَمَسَرَّةً
…
(وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكَ بِالدَّمْعِ حَسْرَةً)
(وَخَلَّفْتَ لِلْوُارَّثِ مَا كُنْتَ تَكْسِبُ)
وَتَسْعَى لَهُ مِنْ تَالِدٍ وَمُحَصَّلٍ
…
وَتَسْهَرُ لَوْ فِي سَدِّ يَأْجُوجَ تُوصِلُ
.. وَبِتَّ وَلَمْ تَسْمَعْ وِصَاةً لِمُوصِلٍ
…
(تُعَالُجَ نَزْعَ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ)
(فَلا رَاحِمٌ يُنْجِي وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ)
وَضَاقَتْ عَلَيْكَ الرُّوحُ بَعْدَ مُرُوجِهَا
…
وَأَنْزَلْتَ عِنْدَ الْبَابِ بَعْدَ بُرُوجِهَا
وَقُرَّبتِ الأَكْفَانُ بَعْدَ عُرُوجِهَا
…
(وَغُمِّضَتِ الْعَيْنَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا)
(وَبُسِّطَتِ الرِّجْلان وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ)
وَقَامَ سِرَاعُ النَّاسِ لِلنَّعْشِ يحْضِرُوا
…
وَحَفَّارُ قَبْرٍ فِي الْمَقَابِرِ يَحْفُرُ
وَجَدَّ الَّذِي فِي حَوْلِ نَادِيكَ حُضَّرٌ
…
(وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جِهَازِكَ أَحْضَرُوا)
(حُنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا)
وَصَبُّوا عَلَيْكَ الْمَاءَ وَأَنَّ سُمُوعَهُ
…
وَحَنَّ قَرِيبٌ بِالْبُكَا وَرُبُوعُهُ
وَكُلُّ شَقِيقٍ جَاءَ جَدَّ زُمُوعُهُ
…
(وَغَاسِكُكَ الْمَحْزُونُ تَبْكِي دُمُوعُهُ)
(بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ)
كَصَيِّبِ مُزْنٍ وَدْقُهُ مُتَفَرِّقٌ
…
حَزِينٌ وَمِنْ مَا دَمْعِهِ مُتَفَرَّقٌ
وَكُلُّ رَحِيمٍ قَلْبُهُ مُتَحَرِّقٌ
…
(وَكُلُّ حَبِيبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ)
(يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ)
وَجَاؤُوا بِأَثْوَابٍ وَطِيبٍ بِطَيِّهَا
…
(وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا)
(وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا)
وَخَاطُوا الَّذِي يَحْتَاجُ وَأَخْرَجُوا
…
طَرَأيِدَ لِلتَّحْزِيمِ مِنْهَا وَأَدْلَجُوا
جَمِيعًا بِتَجْهَازٍ وَجِسْمِكَ أَدْرَجُوا
…
(وَأَلْقُوكَ فِيهَا بِيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا)
(عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصَّبُوا)
وَشَالُوكَ مِنْ بَيْنِ الأَخِلا مُجَرَّدًا
…
وَمَالَكَ خَلْفًا قَدْ تَرَكْتَ وَخُرَّدَا
وَصَلَّوْا وُقُوفًا ثُمَّ زَقَّوْكَ وُرَّدًا
…
(وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوْكَ حَيْرَانَ مُفْرَدَا)
(تَضُمُّكَ بَيْدَاءٌ مِن الأَرْضِ سَبْسَبُ)
بَعِيدٌ عَلَى قُرْبِ الْمَدَى يَعْلَمُونَهُ
…
وَسَائِلُكَ الْمُجْهَادُ لا يَسْمَعُونَهُ
.. وَقَبْرُكَ قَامُوا بَعْدَ ذَا يَسِمُونَهُ
…
(وَرَاحُوا لِمَّا خَلَّفْتَ يَقْتَسَمُوْنَهُ)
(كَأَنَّكَ لَمْ تَشْقَى عَلَيْهِ وَتَتْعَبُ)
وَتَسْهَرُ حَتَّى كَادَ ظَهْرُكَ يَنْهَصِرُ
…
(وَجِسْمُكَ مَهْزُولٌ بِسَعْيِكَ مُنْعَصِرْ)
َوَخَّلْفَتُه طُرًا وَمَالَكَ مُنْتَصِرْ
…
(فَيَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ حَسْبُكَ فَاقْتَصِرْ)
(وَخَفْ مِنْ جَحِيمٍ حَرُّهَا يَتَلَهَّبُ)
وَلا تَمْشِ مِنْ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ مُسْبِلا
…
وَكُنْ صَالِحًا بَرًّا تَقِيًّا مُحْسَبْلا
وَتُبْ عَنْ ذُنُوبٍ لا تَكُنْ مُتَكَرْبِلا
…
(وَجَانِبْ لِمَا يُرْدِيكَ فِي حُفْرَةِ الْبَلا)
(فَكُلٌّ يُجَازَى بِالَّذِي كَانَ يَكْسِبُ)
مَآكِلُ مَا نَحْتَاجُ مِنْهَا لِقُوَّتِنَا
…
شَبِيهُ حَرَامٍ وَالسَّمِيعُ لِصَوْتِنَا
يُجَازِي بِعَدْلِ لا مَفَرَّ لِفَوْتِنَا
…
(إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا)
(فَكَيْفَ يَطِيبُ الْيَوْمَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ)
وَقُدَّامُنَا قَبْرٌ بِهِ الْمَرْءُ أَلْكَنُ
…
وَلَوْ أَنَّهُ سَحْبَانُ مَأثمَّ أَلْسَنُ
وَكَيْفَ رَبَتْ مِنَّا لُحُومٌ وَأَعْكُنُ
…
(وَكَيْفَ يَطِيبُ الْعَيْشُ وَالْقَبْرَ مَسْكَنُ)
(بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ)
وَخَوْفٌ بِهِ حُزْنُ طَوِيلٌ وَرَعْشَةٌ
…
وَلَيْتَكُ تَسْلَمْ لا يُصِيبُكَ نَهْشَةٌ
وَمُنْكَرُ إِذْ يَسْأَلْ يَهُلَكْ وَدَهْشَةٌ
…
(وَهَوْلٌ وَدِيدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ)
(وَكُلُّ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلَى وَيَذْهَبُ)
وَمِنْ بَعْدِ ذَا يَوْمٌ وَإِنَّ حِسَابَهُ
…
أَلِيمٌ مَهُولٌ مُفْزِعٌ وَعِقَابُهُ
عَظِيمٌ لِعَاصٍ مَا أَشَدَّ عَذَابَهُ
…
(فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ)
(فَهَادِمُ لَذَّاتِ الْفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ)
فَيَأْخُذُ أَطْفَالاً وَيَأْخُذُ رِمَّةً
…
وَيَأْخُذُ شُبَّابًا وَيَهْدِمُ نِعْمَةَ
فَخَلِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ وَعَسْمَةً
…
(وَقُولِي إِلَهِي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً)
(وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهُ لِلذَّنْبِ يُذْهِبُ)
.. وَخُذْ بِيَدِي نَحْوَ الطَّرِيقِ الْمُحَمَّدِي
…
وَكُنْ بِي رَحِيمًا وَاسْتَقِمْ بِي عَلَى الْهُدَى
وَلا تُخْزِنِي فِي الْحَشْرِ وَأَطْلِقْ مُقَيَّدِي
…
(وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي)
(فَجِسْمِي ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ)
وَجُودُكَ مَنَّانِي وَلَوْ كُنْتَ أَحْقَرَا
…
وَعَفْوَكَ رَجَا مَنْ هَفَا وَتَقَحْطَرَا
وَإِنِّي وَأَنْ كُنْتَ الْبَعِيدِ وَمِنْ وَرَى
…
(فَمَا لِي إلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الْوَرَى)
(عَلَيْكَ اتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ)
وَأَنْتَ مَلاذٌ لِلْوَرَى فِي رُجُوعِهَا
…
مُجِيبٌ لِمَنْ يَدْعُو بِهَامِي دُمُوعِهَا
فَتَرْجُوكَ تَسْمَعْ مِنْ صَمِيمِ سَمِيعِهَا
…
(وَنَدْعُو بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ جَمِيعِهَا)
(وَخَاتِمَةِ الْعُمْرِ الَّتِي هِيَ أَطْلُبُ)
وَأَسْأَلُ طُولُ الدَّهْرِ مَا نَآءَ طَارِقُ
…
(وَصَلِّ إِلَهِي كُلَّ مَا نَاضَ بَارِقُ)
(وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا لاحَ كَوْكَبُ)
وَمَا حَنَّ رَعْدٌ فِي دِيَاجِي لَيَالِهِ
…
وَمَا انْهَلَّ سَارٍ مُغْدِقٍ مِنْ خِلالِهِ
وَمَا أَمَّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلِّ وَالِهِ
…
(عَلَى أَحْمَدِ الطُّهْرِ النَّذِيرِ وَآلِهِ)
(فَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ طُرًّا وَأَطْيَبُ)
وَأَكْمُلَ مَنْ حَلَّ الصَّفَا وَالْمُحَصَّبَا
…
وَأَحَلاُهُموا خَلْقًا وَخُلْقًا وَمَنْصِبَا
وَأَصْحَابِهِ مَا اخْضَرَّ عُودٌ وَأَخْصَبَا
…
(كَذَاكَ سَلامُ اللهِ مَا هَبَّتِ الصَّبَا)
(وَهَبَّتْ شَمَالٌ مَعَ جَنُوبٍ وَهَيْدَبُ)
آخر:
…
إِلَى كَمْ تَمَاى فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ
…
وَكَمْ هَكَذَا نَوْمٌ إِلَى غَيْرَ يَقْظَةِ
لَقَدْ شَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنْهُ تُشْتَرَى
…
بِمِلْءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيَّةَ ضَيْعَةِ
أَيُنْفَقُ هَذَا فِي هَوَى هَذِهِ الَّتِي
…
أَبَى اللهُ أَنْ تُسْوَى جَنَاحَ بَعُوضَةِ
أَتَرْضَى مِن الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَعَيْشَةٍ
…
مَعَ الْمَلا الأَعْلَى بِعَيْشِ الْبَهِيمَةِ
فَيَا دُرَّةً بَيْنَ الْمَزَابِلِ أُلْقِيَتْ
…
وَجَوْهَرَةً بِيعَتْ بِأَبْخَسِ قِيمَةِ
أَفَقٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيهِ سَفَاهَةً
…
وَسُخْطًا بِرِضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ
.. أَأَنْتَ صَدِيقُ أَمْ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ
…
فَإِنَّكَ تَرْمِيهَا بِكُلِّ مُصِيبَةِ
وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا
…
فَعَلْتَ لِمَسَّتْهُمْ لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ
لَقَدْ بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخِيصَةً
…
وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ
أَلا فَاسْتَفِقْ لا تَفْضَحَنْهَا بِمَشْهَدٍ
…
مِنْ الْخَلْقِ إِنْ كُنْتَ ابنَ أُمٍّ كَرِيمَةِ
فَبَيْنَ يَدَيْهَا مَشْهَدٌ وَفَضِيحَةٌ
…
يُعَدُّ عَلَيْهَا كُلُّ مِثْقَالِ ذَرَّةِ
فُتِنْتَ بِهَا دُنْيَا كَثِيرٍ غُرُورُهَا
…
تُعَامِلْ فِي لَذَّتهِاَ بِالْخَدِيعَةِ
إِذَا أَقْبَلَتْ بَذَّتْ وَإِنْ هِيَ أَحْسَنَتْ
…
أَسَاءَتْ وَإِنْ ضَاقَتْ فَثِقْ بِالْكُدورَةِ
وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا مَالَ قَارُونَ لَمْ تَنَلْ
…
سِوَى لُقْمَةٍ فِي فِيكَ مِنْهَا وَخِرْقَةِ
وَهَيْهَاتَ تُحْظَى بِالأَمَانِي وَلَمْ تَكُنْ
…
وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ
فَدَعْهَا وَأَهْلِيهَا لِتَغْبِطَهُمْ وَخُذْ
…
لِنَفْسِكَ عَنْهَا فَهُوَ كُلُّ غَنِيمَةِ
وَلا تَغْتَبِطْ مِنْهَا بِفَرَحَةِ سَاعَةٍ
…
تَعُودُ بِأَحْزَان عَلَيْكَ طَوِيلَةِ
فَعَيْشُكَ فِيهَا أَلْفُ عَامِ وَتَنْقَضِي
…
كَعَيْشِكَ فِيهَا بَعْضُ يَوْمِ وَلَيْلَةِ
قَالَ بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ توعيظها: يَا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي فِي حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور قَدْ تشققت، وبالأمور وقَدْ تحققت، وبوجوه المتقين وقَدْ أشرقت، وبرؤوس العصاة وقَدْ أطرقت، قَالَ تَعَالَى وتقدس:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، يَا نفس أما الورعون فقَدْ جدوا، وأما الخائفون فقَدْ استعدوا، وأما الصالحون فقَدْ فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقَدْ نصحوا.
اللَّهُمَّ قوي إيمانَنَا بِكَ وَنَوِّر قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، اللَّهُمَّ يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
عن أَنَس رضي الله عنه قَالَ: دعا رجل فقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لَكَ الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأَرْض ذو الجلال والإكرام يَا حي يَا قيوم.
فقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أتدرون بما دعا» ؟ قَالُوا: الله ورسوله أعْلَمْ. قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لَقَدْ دعا باسمه الله الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أصحاب السُّنَن.
عَنْ سعيد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعي وَهُوَ فدى بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مُسْلِم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «من دعا بهؤلاء الكلمَاتَ الخمس لم يسأل الله شَيْئًا إلا أعطاه (لا إله إلا الله، والله اكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ» . رَوَاهُ الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وَهُوَ يَقُولُ: (يَا ذا الجلال والإكرام) فقال: «قَدْ استجيب لَكَ فسل» . رَوَاهُ الترمذي.
اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جميع حالاتنا عَنْكَ، راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك.
يا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما أعف عنا، وأحسن إلينا، فإنك بالَّذِي أَنْتَ لَهُ أَهْل من عفوك أحق منا بالَّذِي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حَتَّى لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ هب لَنَا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عَلَيْكَ، والاستغناء عَنْ خلقك، واجعل خَيْر أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللَّهُمَّ أغننا بما وفقتنا لَهُ من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية.
اللهم افتح مسامِعَ قلوبنا لذكرك وارزقنا طَاعَتكَ وطاعة رسولك وَوَفِّقْنَا للعمل بِكِتَابِكَ وسُنَّة رسولك.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البَلاء ومن سوء الِقَضَاءِ ومن شماتة الأعداء.
اللَّهُمَّ لَكَ الحمد كله، ولك الملك كله، بيدك الْخَيْر كله، واليك يرجع الأَمْر كله علانيته وسره، أَهْل الحمد والثناء أَنْتَ، لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير.
اللَّهُمَّ اغفر لَنَا جميع ما سلف منا من الذُّنُوب، واعصمنا فيما بقى من أعمارنا، وَوَفِّقْنَا لعمل صالح ترضى به عنا.
اللَّهُمَّ يَا سامَعَ كُلّ صوت، ويا بارئ النُّفُوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عَلَيْهِ الأصوات، يَا عَظِيم الشأن، يَا واضح البرهان، يَا من هُوَ كُلّ يوم فِي شأن، اغفر لَنَا ذنوبنا إِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم.
اللَّهُمَّ يَا عَظِيم العفو، يَا واسع المغفرة، يَا قريب الرحمة، يَا ذا الجلال والإكرام، هب لَنَا العافية فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.
اللَّهُمَّ يَا حي ويَا قيوم فرغنا لما خلقتنا لَهُ، ولا تشغلنا بما تكلفت لَنَا به،
وَاجْعَلْنَا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللَّهُمَّ اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمت بنا أَحَدَا.
اللَّهُمَّ رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لَنَا اليقين الَّذِي لا تسكن النُّفُوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك بعزك الَّذِي لا يرام وملكك الَّذِي لا يضام وبنورك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللَّهُمَّ يَا عليم يَا حليم يَا قوي يَا عزيز يَا ذا المن والعطاء والعز والكبرياء يَا من تعنوا لَهُ الوجوه وتخشع لَهُ الأصوات، وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وأكفنا بحلالك عَنْ حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا، وتلم بها شعثنا وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا به رشدنا، وتعصمنا من كُلّ سوء يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ عَلَيْنَا ديننا وصحة أبداننا.
اللَّهُمَّ يَا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيْل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يَا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ اعتقنا من رق الذُّنُوب، وخلصنا من أشر النُّفُوس، واذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذُّنُوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللَّهُمَّ طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مَعَ المرحومين من أوليائك، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بِالصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللَّهُمَّ يَا فالق الحب والنوى، يَا منشئ الأجساد بعد البلى يَا مؤي المنقطعين إليه، يَا كافي المتوكلين عَلَيْهِ، انقطع الرجَاءَ إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عَلَيْكَ نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إِنَّكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك قلبًا سَلِيمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخَيْر الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك باسمك الأعظم الأعز الأجل الأكرم الَّذِي إِذَا دعيت به أجبت وَإِذَا سئلت به أعطيت، ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يَا من عنت لَهُ الوجوه، وخضعت لَهُ الرقاب، وخشعت لَهُ الأصوات، يَا ذا الجلال والإكرام، يَا حي يَا قيوم، يَا مالك الملك، يَا من هُوَ على كُلّ شَيْء قدير، وبكل شَيْء عليم، لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نستغيث، ومن عذابك نستجير.
اللَّهُمَّ اجعلنا نخشاك حَتَّى كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تسمَعَ كلامنا، وتَرَى مكاننا، وتعلم سرنا، وعلانيتنا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْءٌ من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا، نسألك مسألة المسكين، ونبتها إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير.
اللَّهُمَّ يا من خضعت لَهُ رقابنا، وفاضت لَهُ عباراتنا، وذلت لَهُ أجسامنا، ورغمت لَهُ أنوفنا
…
لا تجعلنا بدعائك أشقياء، وكن بنا رؤوفًا يَا خَيْر المسؤلين.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك نفسًا مطمئنةً، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يَا أرأف الرائفين وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك التَّوْفِيق لما تحبه من الأَعْمَال، ونسألك صدق التوكل عَلَيْكَ، وحُسْن الظَّنِ بك يَا رب العالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك حياةً طيبةً، ونفسًا تقيةً، وعيشةً نقية، وميتةً سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يَا رب العالمين.
{اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَا ودود يَا ذا العرش المجيد يَا مبدئ يَا معيد يَا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التِي قدرت بها على جميع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التِي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لَنَا بحسنات إِنَّكَ جواد كريم رؤوف رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع
المسلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَوَائِد عَظِيْمَة النَّفْعِ "
واعجبًا منك يضيع منك الشيء القليل وتتكدر، وتتأسف، وقَدْ ضاع أشرف الأَشْيَاءِ عندك وَهُوَ عمرك الَّذِي لا عوض لَهُ، وأَنْتَ عند قَتَّالاتِ الأوقات، الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطَرِيق عَنْ الأَعْمَال الصَّالِحَة، ولكن ستندم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}
وقَالَ آخر: من تفكر فِي قصر العمر المعمول فيه، وفكر فِي امتداد زمان الجزاء الَّذِي بعد البعث اختطف اللحظة من عمره وانتهبها، وعباها فِي الباقيات الصالحات وزاحم كُلّ فضيلة فَإِنَّهَا إِذَا فاتت فلا تدرك أبدًا، ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيلها كاملة، فهم يبالغون فِي كُلّ علم، ويثابرون على كُلّ فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عَنْ بَعْض ذَلِكَ قامت النيات نائبة عَنْهَا.
شِعْرًا:
…
الْجَدُّ بِالْجَدِّ وَالْحِرْمَانَ فِي الْكَسَلِ
…
فَانْصِبٍ تُصِبْ عَنْ قَرِيبٍ غَايَة الأَمَلِ
ويقول الآخر:
فَكَابِدْ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسَ عَذْوَهَا
…
وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلاع أَنْجُدِ
وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْر مِنْكَ سَبَهْلَلا
…
وَلا تَغْبَن بِالنِّعْمَتَيْنِ بَلْ أجْهِدِ
فَمَنْ هَجَرَ اللذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ
…
أَكَبَّ عَلَى اللذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
آخر:
…
فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللهِ وَأحْفَظْ كِتَابَهُ
…
فَفِيهِ الْهُدَى حَقًّا وَلِلْخَيْرِ جَامِعُ
هُوَ الذُّخْرُ لِلْمَلْهُوفِ وَالْكِنْزُ وَالرَّجَا
…
وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ تُنَالَ الْمَنَافِعُ
وَبِهِ يَهْتَدِي مَنْ تَاهَ مُهِمَّهِ الْهَوى
…
بِهِ يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتْهُ الْفَجَائِعُ
آخر:
…
يَا عَاشِقَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا
…
هَلْ أَخْلَدَ النَّاسَ مَا حَازُوا وَمَا عَمِرُوا
عَلَيْكَ بِاللَّيْلِ فِي الأَذْكَارِ تُعَمِّرهُ
…
وَدَعْ مَلَذَّتِهِ الأُخْرَى لِمَنْ كَفَرُوا
لَغَمْسَةٌ فِي جِنَانِ الْخُلْدِ خَاطِفَةً
…
تُنْسِيكَ مَا مَرَّ مِنْ بُؤْسٍ لَهُ خَطَرُ
" فَائِدَةٌ عَظِيْمَة النَّفْعِ "
قَالَ أحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَلَيْكَ يَا أخي بمحاربة الشيطان، وقهره، وَذَلِكَ لخصلتين أحدهما أنه عدو مضل مبين، لا مطمَعَ فيه بمصالحة واتقاء شره أبدَا، لأنه لا يرضيه ويقنعه إلا هلاكك أصلاً فلا وجه إِذًا للآمن من هَذَا الْعَدُو والغَفْلَة عَنْهُ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ، والخصلة الثَّانِيَة أنه مجبول على عداوتك، ومنتصب لمحاربتك، فِي الليل والنَّهَارَ يرميك بسهامه، وأَنْتَ غَافِل عَنْهُ، ثُمَّ هُوَ لَهُ مَعَ جميع الْمُؤْمِنِينَ عداوةٌ عامةٌ، ومَعَ المجتهد فِي العبادة والعلم عداوةٌ خاصةٌ، ومعه عَلَيْكَ أعوان نفسك الأمارة، بالسُّوء، والهوى، والدُّنْيَا، وَهُوَ فارغٌ وأَنْتَ مشغول، وَهُوَ يراك وأَنْتَ لا تراه، وأَنْتَ تنساه وَهُوَ لا ينساك، فإذًا لا بد من محاربته، وقهره، وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بِاللهِ والإكثار من ذكره.
شِعْرًا:
اهْجُرْ فِرَاشَكَ جَوْفَ الليْلِ وَارْمِ بِهِ
…
فَفِي الْقُبُورِ إِذَا وَافَيْتَهَا فُرُشُ
مَا شِئْتَ إِن شَيئْتهَا فُرْشًا مُرَّقَشة
…
أَوْ رَمْضَة فَوْقَهَا الْمَسْمُومَةُ الرُّقُش
هَذَا عَلَيْهِ قَرِير الْعَيْنِ نَائِمُهَا
…
وذا عَلَيْهِ سَخِينَ الْعَيْنِ يُنْتَهَشُ
شَتَّانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حَالِهِمَا
…
هَلْ يَسْتَوِي الرَّيُّ فِي الأَحْشَاءِ وَالْعَطَشُ
فَبَادِرِ الصُّبْحَ أَنْ تَغْشَى طَلائِعَهُ
…
وَيَلْتَقِي الأَحْيَانِ الرُّومُ وَالْحَبُشُ
كَمْ فَازَ دُونَكَ بِاللَّذَّاتِ مِنْ رَجُلٍ
…
وَافَى بِهِ دُلُجَ الأَسْحَارِ وَالْغَبَشُ
قَامُوا وَنِمْنَا وَكُلٌّ فِي تَقََلُّبِه
…
لِنَفْسِهِ جَاهِدًا يَسْعَى وَيَجْتَوِشُ
زَكُّوا نُفُوسَهُمْ بِكُلِّ صَالِحَةٍ
…
وَطَيَّبُوهَا فَلا عَيْبٌ وَلا وَقشُ
وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ في فَوَائِد منوعة)
قَالَ ابن القيم: واعلم أن الصبر على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجِبُه الشهوة.
فان الشهوة إما إن تَكُون توجب ألمًا وعقوبةً.
وإما أن تقطع لذةً أكمل مِنْهَا.
وإما أن تضيع وقتًا أضاعته حَسْرَة وندامة.
وإما أن تثلم عرضًا توفيره وانفع للعبد من ثلمه.
وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خَيْرٌ من ذهابه.
وإما أن تسلب نعمةً بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة.
وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذَلِكَ.
وإما أن تجلب همًا وغمًا وحزنًا لا يقارب لذة الشهوة.
وإما أن تنسي عِلْمًا ذكره ألذ من نيل الشهوة.
وإما أن تشمت عدوًا وتحزن وليًا.
وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفةً لا تزول، فَإِنَّ الأَعْمَال تورث الصفات والأَخْلاق.. أهـ.
وقَالَ إبراهيم بن بشار: ما رَأَيْت فِي جميع من لقيته من العباد والْعُلَمَاء والصالحين والزهاد أَحَدًا يبغض الدُّنْيَا ولا ينظر إليها مثل إبراهيم بن أدهم، وَرُبَّمَا مررنا على قوم قَدْ أقاموا حائطًا أَوْ دارًا أَوْ حانوتًا فيحول وجهه ولا يملأ عينيه من النظر إليه فعاتبته على ذَلِكَ، فقَالَ: يَا بشار اقرأ ما قَالَ الله تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولم يقل أيكم أحسن عمارة للدنيا وأكثر حبًا وذخرًا وجمالاً، ثُمَّ بكى وقَالَ صدق الله عز اسمه فيما يَقُولُ:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ولم يقل إلا ليعمروا الدُّنْيَا ويجمعوا الأموال ويبنوا الدور ويشيدوا القصور ويتلذذوا ويتفكهوا، وجعل يومه كله يردد ذَلِكَ وَيَقُولُ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .
شِعْرًا:
…
صَرَفْتُ إِلَى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي
…
وَوَجْهَتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرَبِّي
إِلَى الْمَلِكِ الأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهْ
…
مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِي الْمَتَاعِبِ
إِلَى الصَّمَدِ الْبَرِّ الَّذِي فَاضَ جُودُهُ
…
وَعَمَّ الْوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيْلي إِذَا زَلَّتْ بِيَ النَّعْلُ عَاثِرًا
…
وَاسْمَحْ غِفَارٍ وَأَكْرمَ وَاهِبِ
فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا
…
وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ
وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا
…
جَنِينًا وَيَحْمِينِي وَبِيَّ الْمَكَاسِبِ
إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكَ دُونِي قُصُورَهُمْ
…
وَنَهْنَهَ عَنْ غِشْيَانِهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ
فَزِعْتُ إِلَى بَابِ الْمُهَيْمِنِ طَارِقًا
…
مُدِلاً أُنَادِي بِاسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ
فَلَمْ أَلْفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً
…
وَلَوْ كَانَ سُؤْلِي فَوْقَ هَامِ الْكَوَاكِبِ
كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا
…
نَهَارًا وَلَيْلاً فِي الدُّجَى وَالْغَيَاهِبِ
سَأَسْأَلُهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ
…
تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَى وَالرَّغَائِبِ
فَحَسْبِي رَبَّي فِي الْهَزَاهِزِ مَلْجَأً
…
وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَام النَّوَائِبِ
وَنَسْأَلَ اللهَ الْحَيَّ الْقَيْوُمَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ الْوَاحِدَ الْفَرْدَ الْصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ يَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَخْذُلَ الْكَفَرَةَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَعْوَانَهُمْ وَأَنْ يُصْلِحَ مَنْ فِي صَلاحِهِ صَلاحٌ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ ويُهْلِكَ مَنْ فِي هَلاكِهِ عِزٌّ وَصَلاح لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَلِمَّ شَعَثَ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعَ شَمْلَهُمْ وَيُوَحِّدَ كَلِمَتُهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ بِلادَهُمْ وَيُصْلِحَ أَوْلادَهُمْ وَيَشْفِ مَرْضَاهُمْ وَيُعَافِي مُبْتَلاهُمْ وَيَرْحَمَ مَوْتَاهُمْ وَيَأْخُذَ بِأَيْدِينَا إِلَى كُلّ خَيْرٍ وَيَعْصِمَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَيَحْفَظَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ ضُرٍّ وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.