المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قال بعضهم موصيا أولاده بوصية نافعة - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٣

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌قال بعضهم موصيا أولاده بوصية نافعة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

و‌

‌قال بعضهم موصيًا أولاده بوصية نافعة

لمن عمل بها.

وبعد، فإني لما علاني المشيب بغمته، وقادني الكبر في رمته، وادكرت الشباب بعد أمته؛ أسفت لما أضعت، وندمت بعد الفطام على ما رضعت؛ وتأكدت وجوب نصحي لمن لزمني رعيه، وتعلق بسعيي سعيه، وأملت أن تتعدى إلى ثمرات استقامته، وأنا رهين فوات، وفى برزخ أموات؛ ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عثاري، إن سلك - وعسى ألا يكون ذلك - على آثاري فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخلد؛ بعد الضراعة إلى الله في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم؛ وأن يمن علي فيهم بحسن الخلف، والتلاقي من قبل التلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف؛ فهو ولي ذلك، والهادي إلى خير المسالك.

اعملوا هداكم من بأنواره يهتدي الضلال، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال، إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، وتبرأت من يمينها الشمال؛ إني مودعكم وإن سالمني الردى، ومفارقكم وإن طال المدى، وما عدا مما بدا؛ فكيف وأدوات السفر تجمع، ومنادي الرحيل يسمع؛ ولا أقل للحبيب المودع من وصية محتضر، وعجالة مقتصر؛ ونصيحة تكون نشيدة واع ومبصر؛ تتكفل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضح لكم في الشفقة والحنو قصدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي؛ فهي أربكم الذي لا يتغير وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رف عليكم سقفه؛ وكأني بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ؛ وبنشاطكم قد كسل، واستبدل الصاب من العسل، ونصول الشيب تروع بأسل، لا بل [السام] من كل حدب قد نسل، والمعاد اللحد ولا تسل؛ فبالأمس كنتم فراخ حجر، واليوم آباء عسكر مجر، وغدًا شيوخ مضيعة وهجر؛ والقبور فاغرة، والنفوس عن المألوفات

ص: 14

صاغرة؛ والدنيا بأهلها ساخرة، والأولى تعقبها آخرة؛ والحازم من لم يتعظ به أمر، وقال: بيدي لا بيد عَمِرو؛ فاقتنوها من وصية، ومرام في النصح قصية؛ وخصوا بها أولادكم إذا عقلوا، ليحدوا زادها إذا انتقلوا؛ وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؛ ولا رضي الدنيا منزلاً، ولا لطف بمن أصبح عن فئة الخير منعزلاً؛ ولتلقنوا تلقينًا، وتعلموا علمًا يقينًا؛ إنكم لن تجدوا بعد أن أنفرد بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويسح انسكابي، وتهرول عن المصلى ركابي، أحرص مني على سعادة إليكم تجلب، أو غاية كمال بسببكم ترتاد وتطلب؛ حتى لا يكون في الدين والدنيا أوْرف منكم ظلاً، ولا أشرف محلاً، ولا أغبط نهلا وعلا؛ وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تصيخوا إلى قولي الآذان، وتتلمحوا صبح نصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصية لقمان:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .

وأعيد وصية خليل الله وإسرائيله، حسبما تضمنه محكم تنزيله:{يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفاه، وقرره مصطفاه، من قبل أن يتوفاه، فالله واحد أحد، فرد صمد، ليس له والد ولا ولد.

سبق وجوده الأكوان؛ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} خالق الخلق وما يعلمون، والذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؛

ص: 15

الحي العليم المدبر القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ أرسل الرسل رحمة لتدعو العباد إلى النجاة من الشقاء وتوجه الحجة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيدة بالمعجزات التي لا تتصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء؛ ثم ختم ديوانهم بنبي ملتنا المرعية للهمل، الشاهدة على الملل، فتلخصت الطاعة، وتبينت له الإمرة المطاعة، ولم يبق بعده إلا ارتقاب الساعة؛ ثم إن الله قبضه إذ كان بشرًا، وترك دينه يضم من الأمة نشرا؛ فمن اتبعه لحق به، ومن حاد عنه تورط في منتسبه، وكانت نجاته على قدر سببه.

روي عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي، فعضوا عليهما بالنواجذ» .

فاعملوا يا بني بوصية من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد؛ واستشعروا حبه الذي توفرت دواعيه، وعوا مراشد هديه فيا فوز واعيه؛ وصلوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به مجملاً أو مفصلاً على حسبه، وأوجبوا التجلة لصحبه؛ الذين اختارهم الله لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته؛ واشملوهم بالتوقير، وفضلوا منهم أولي الفضل الشهير؛ وتبرؤوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داع، ولا تع التشاجر بينهم أذن واع، فهو عنوان السداد وعلامة سلامة الاعتقاد؛ ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة، وأئمتها الجلة؛ فهم صقلة نصولهم، وفروع ناشئة عن أصولهم، وورثتهم وورثة رسولهم؛ واعلموا أني قطعت في البحث زماني، وجعلت النظر شاني، منذ يراني الله وأنشاني، مع نبل يعترف به الشاني، وإدراك يسلمه العقل الإنساني؛ فلم أجد خابط ورق، ولا مصيب عرق؛ ولا نازع خطام، ولا متكلف فطام، ولا مقتحم بحر طام؛ إلا وغايته التي يقصدها قد فضلتها الشريعة وسبقتها، وفرعت ثنيتها وارتقتها؛ فعليكم بالتزام جادتها السابلة، ومصاحبة رفقتها

ص: 16

الكافلة، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة؛ والله يقول وهو أصدق القائلين:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائعه. فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فعل المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخس ما ورث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بلغت، فأنت خير الشاهدين.

فاحذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شوه الوجوه ونضج الجلود؛ واستعيذوا برضا الله من سخطه، واربئوا بنفوسكم عن غمطه؛ وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العرض الزائل ائتلافكم؛ واقنعوا منه بما تيسر، ولا تأسوا على ما فات وتعذر، فإنما هي دجنة ينسخها الصباح، وصفقة يتعقبها الخسار والرباح؛ ودونكم عقيدة الإيمان فشدوا بالنواجذ عليها، وكفكفوا الشبه أن تدنوا إليها؛ واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خرق لا يرفؤه عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل؛ وتمسكوا بكتاب الله حفظًا وتلاوة، واجعلوا حمله على حمل التكليف علاوة؛ وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره وانتهوا عن مناهيه، ولا تتأولوه ولا تغلوا فيه؛ وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه؛ وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا ينخرم.

اللهَ الله في الصلاة ذريعة التجلة، وخاصة الملة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم؛ وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة؛ والناهية عن الفحشاء والمنكر مهما عرض الشيطان عرضهما، ووطأ للنفس الأمارة سماءهما وأرضهما، والوسيلة إلى بل الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تحفة

ص: 17

الله إلى مريض الفكر؛ وضابطة حسن العشرة من الجار، وداعية المسالمة من الفجار؛ والواسمة بسمة السلامة، والشاهدة للعقد برفع الملامة؛ فاصبروا النفس على وظائفها بين إبداء وإعادة، فالخير عادة؛ ولا تفضلوا عليها الأشغال البدنية [وتؤثروا على العلية الدنية] ؛ فإن أوقاتها المعينة بالانفلات تنبس والفلك بها من أجلكم لا يحبس؛ وإذا قرنت بالشواغل فلها الجاه الأصيل، والحكم الذي لا يغيره الغدو ولا الأصيل؛ والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حق من يموت، من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها؛ وأتبعوها بالنوافل ما أطقتموها؛ فالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة استحق الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح مع إضاعة رأس المال، وثابروا عليها في الجماعات، وبيوت الطاعات؛ فهو أرفع للملام، وأظهر لشرائع الإسلام؛ وأبر بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعض البَعض.

والطهارة التي هي في تحصيلها سبب موصل، وشرط لمشروطها محصل؛ فاستوفوها، والأعضاء نظفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها؛ والحجول والغرر فأطيلوها، والنيات في كل ذلك فلا تهملوها؛ فالبناء بأساسه، والسيف برئاسه، واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور؛ تستغرق الأوقات، وتنازع شتى الخواطر المفترقات؛ فلا يضبطها إلا من ضبط نفسه بعقال، وكان في درجة الرجولة ذا انتقال، واستعاض صدأه بصقال؛ وإن ترخى تقهقر الباع، وسرقته الطباع، وكان لما سواها أضيع فشمل الضياع.

والزكاة أختها الحبيبة، ولدتها القريبة؛ مفتاح السماحة بالعرض الزائل وشكران المسئول على الضد من درجة السائل؛ وحق الله في مال من أغناه، لمن أجهده في المعاش وعناه؛ من غير استحقاق ملء يده وإخلاء يد أخيه، ولا علة القدر الذي يخفيه، وما لم ينله حظ الله فلا خير فيه، فاسمحوا بتفرقتها للحاضر

ص: 18

لإخراجها واختيار عرضها ونتاجها؛ واستحيوا من الله أن تبخلوا عليه ببعض ما بذل، وخالفوا الشيطان كلما عذل؛ واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون؛ فوهب وأقدر، وأورد بفضله وأصدر؛ ليرتب بكرمه الوسائل، ويقيم الحجج والدلائل، فابتغوا إليه الوسيلة بماله، واغتنموا رضاه ببعض نواله.

صيام رمضان عبادة السر المقربة إلى الله زلفى، الممحوضة لمن يعلم السر وأخفى؛ مؤكدة بصيام الجوارح عن الآثام، والقيام ببر القيام؛ والاجتهاد، وإيثار السهاد على المهاد؛ وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرعية، ولواحقه الشرعية؛ فبذلك تحسن الوجوه، وتحصل النفوس من الرقة على ما ترجوه؛ وتهذب الطباع، ويمتد في ميدان الوسائل إلى الله الباع.

والحج مع الاستطاعة الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجبه الحاجب؛ وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم قدره فيما فرض عن ربه وسنه، وقال:«ليس له جزاء عند الله إلا الجنة» .

ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله إن كانت لكم قوة عليه، وغنى لديه؛ فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه.

هذه عمد الإسلام وفروضه، ونقود مهره وعروضه؛ فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناوئكم ظاهرين، وتلقوا الله لا مبدلين ولا مغيرين، ولا تضيعوا حقوق الله فتهلكوا مع الخاسرين.

واعلموا أن بالعلم تستكمل وظائف هذه الألقاب، تجلى محاسنها من بعد الانتقاب؛ فعليكم بالعلم النافع، دليلا بين يدي الشافع؛ فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصل إلى اللباب؛ والله عز وجل يقول:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} والعلم وسيلة النفوس الشريفة، على المطالب المنيفة، وشرطه الخشية لله والخيفة، وخاصة الملأ

ص: 19

الأعلى، وصفة الله في كتبه التي تتلى؛ والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفى الدنيا إلى التجلة عادة؛ والذخر الذي قليله يشفع وينفع، وكثيره يعلي ويرفع؛ لا يغصبه الغاصب، ولا يسلبه العدو المناصب؛ ولا يبتزه الدهر إذا مال، ولا يستأثر به البحر إذا هال؛ من لم ينله فهو ذليل وإن كثرت آماله، وقليل إن جم ماله؛ وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتخطى حسابكم، فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم؛ واحملوهم على جمعه ودرسه، واجعلوا طباعهم ثرىً لغرسه؛ واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جراه، وسهر يهجر له الجفن كراه؛ تعقدوا لهم ولاية عز لا تعزل، وتحلوهم مثابة رفعة لا يحط فارعها ولا يستنزل؛ واختاروا من العلوم التي ينفقها الوقت، ما لا يناله في غيره المقت؛ وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة؛ من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد محصولها؛ فإنما هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير؛ فمن كان قابلاً منها لازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد؛ فليخص تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه؛ ثم الشروع في أصول الفقه، فهو العلم العظيم المنة، المهدي كنوز الكتاب والسنة؛ ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة، والتدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة؛ ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى؛ فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه.

وأمروا بالمعروف أمرًا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حريًا بالاعتدال حقيقًا، واغبطوا من كان من سنة الغفلات مفيقًا، واجتنبوا ما تنهون عنه حتى لا تسلكوا من طريقًا؛ وأطيعوا أمر من ولاه الله من أموركم أمرًا، ولا تقربوا من الفتنة جمرًا، ولا تداخلوا في الخلاف زيدًا ولا عمرًا.

وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهم ما أضرى عليه الآباء ألسنة

ص: 20

البنين؛ وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عرف به. وإياكم والكذب فهو العورة التي لا توارى، والسوءة التي لا يرتاب في عارها ولا يتمارى؛ وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعد الله له من العذاب، ألا يقبل صدقه إذا صدق، ولا يعول عليه إن كان بالحق قد نطق.

وعليكم بالأمانة فالخيانة لوم، وفى وجه الديانة كلوم؛ ومن الشريعة التي لا يعذر بجهلها؛ أداء الأمانات إلى أهلها؛ وحافظوا على الحشمة والصيانة، لا تجزوا من أقرضكم دين الخيانة؛ ولا توجدوا للغدر قبولا، ولا تقروا عليه طبعًا مجبولاً؛ وأوفوا بالعهد عن العهد كان مسئولاً؛ ولا تستأثروا بكنز ولا خزن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حزن، ولا تبخسوا الناس أشيائهم في كيل أو وزن؛ والله الله أن تعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو بالكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في فسحة ممتدة، وسبيل الله غير منسدة؛ ما لم ينبذ إلى الله بأمانه، ويغمس في الدم الحرام بيده أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه الذي هدى به سننًا قويمًا، وجلى من الجهل والضلال ليلاً بهيما:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .

واجتناب الزنا وما تعلق به من أخلاق دليل على من كرمت طباعه، وامتد في سبيل السعادة باعه؛ ومن غلبت عليه غرائز جهله، فلينظر هل يحب أن يزنى بأهله؟! والله قد أعد للزاني عذابًا وبيلاً، وقال:{وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} .

والخمر أم الخبائث ومفتاح الجرائم والجرائر؛ واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطًا، والمحرم قد أغنى عنه بالحلال الذي سوغ وأعطى؛ وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لقولهم بالفساد، ولا لنفوسهم بالمضرة في مرضاة الأجساد، والله قد جعلها رجسًا محرمًا على العباد، وقرنها بالأنصاب والأزلام في مباينة السداد.

ص: 21

ولا تقربوا الربا فإنه من مناهي الدين، والله تعالى يقول:{وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} في الكتاب المبين، ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه، وانزعوا الطمع عن ذلك حتى تذهب ريحه؛ والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه، ولا يكل اختياره إلا للثقة من خدمة، ولا تلجؤوا على المتشابه إلا عند عدمه؛ فهو في السلوك إلى الله أصل مشروط، والمحافظة عليه مغبوط.

وإياكم والظلم. فالظالم ممقوت بكل لسان، مجاهر لله بصريح العصيان، والظلم ظلمات يوم القيامة كما ورد في الصحاح والحسان؛ والنميمة فساد وشتات، لا يبقى عليه متات، وفى الحديث:«لا يدخل الجنة قتات» . واطرحوا الحسد والبخل فمارئي البخيل وهو مودود؛ وإياكم وما يعتذر منه، فمواقف الخزي لا تستقال عثراتها، ومظنات الفضائح لا تؤمن غمراتها؛ وتفقدوا أنفسكم مع الساعات، وافشوا السلام في الطرق والجماعات، ورقوا على ذوي الزمانات والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يربحكم في البضاعات؛ وعولوا عليه وحده في الشدايد، واذكروا المساكين إذا نصبتم الموائد؛ وتقربوا إليه باليسير من ماله، واعلموا أن الخلق عيال الله وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله؛ وارعوا حقوق الجار، واذكروا ما ورد في من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج البادية الالتحام؛ واحذروا شهادة الزور فإنها تقطع الظهر، وتفسد السر والجهر؛ والرشا فإنها تحط الأقدار، وتستدعي المذلة والصغار؛ ولا تسامحوا في لعبة قمر، ولا تشاركوا أولي البطالة في أمر؛ وحقوق الله من الازدراء والاستخفاف، ولا تلهجوا بالآمال العجاف، لا تكلفوا بالكهانة والإرجاف؛ واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد، واعلموا أن الله بمرصاد؛ وأن الخلق بين زرع وحصاد، وأفلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما

ص: 22

تحذر السموم، واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم؛ وقابلوا بالصبر أذية المؤذين، ولا تقارضوا مقلات الظالمين، فالله لمن بغي عليه خير الناصرين؛ ولا تستعظموا حوادث الأيام كلما نزلت، ولا تضجوا للأمراض إذا أعضلت؛ فكل منقرض حقير، وكل منقض وإن طال فقصير؛ وانتظروا الفرج، وانشقوا من جناب الله الأرج؛ وأوسعوا بالرجاء الجوانح، واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطوبى لعبد إليه جانح، تضرعوا إلى الله بالدعاء، والجؤوا إليه في البأساء والضراء؛ وقابلوا نعم الله بالشكر الذي يقيد منها الشارد، ويعذب الموارد؛ وأسهموا منها للمساكين، وأفضلوا عليهم، وعينوا الحظوظ منها لديهم؛ فمن الآثار:«يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلما زالت عن قوم فعادت إليهم» . ولا تطغكم النعم فتقصروا في شكرها، وتلفكم الجهالة بسكرها؛ وتتوهموا أن سعيكم جلبها، وجدكم حلبها؛ فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتقين، ولا فعل إلا الله إذا نظر بعين اليقين. والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زينكم؛ وليلتزم كل منكم لأخيه، ما يشتد به تواخيه؛ بما أمكنه من إخلاص وبر، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزية لا تجهل، وحق لا يهمل؛ وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التعاهد والتزاور؛ ترغموا بذلك الأعداء، وتستكثروا الأوداء؛ ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تهارشوا تهارش السباع على الجيفة؛ واعلموا أن المعروف يكدر بالامتنان، وطاعة النساء وشر ما أفسد بين الإخوان؛ فإذا أسديتم معروفًا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمرًا فاحتقره (إلا أن يكون تعظيمًا للدين فساعدوهن وانصروه) والله الله لا تنسوا مقارضة سجلي، وبروا أهل مودتي من أجلي، ومن رزق منكم مالاً بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد؛ فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعيًا لنفسه إن تغلب العدو على بلده في الافتضاح والافتقار؛ ومعوقًا عن الانتقال، أمام النوب الثقال؛ وإذا كان رزق

ص: 23

العبد على المولى فالإجمال في الطلب أولى؛ وازهدوا جهدكم في مصاحبة أهل الدنيا، فخيرها لا يقوم بشرها، ونفعها لا يفي بضرها؛ وأعقاب من تقدم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضدة؛ ومن بلي منكم بها فليستظهر بسعة الاحتمال، والتقلل من المال، ويحذر معاداة الرجال، ومزلات الإذلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال؛ وإفشاء الأسرار، وسكر الاغترار؛ وليصن الديانة، ويؤثر الصمت ويلزم الأمانة، ويسر من رضا الله على أضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قصد أقربهما إلى الحق؛ وليقف في التماس أسباب الجلال، وسموا القدر ورفعة الحال دون الكمال، فما بعد الكمال غير النقصان، والزعازع تسالم اللدن اللطيف من الأغصان. وإياكم وطلب الولايات رغبة واستجلابًا، واستظهارًا على الحظوظ وغلابًا؛ فذلك ضرر بالمروءات والأقدار، داع إلى الفضح والعار؛ ومن امتحن منكم بها اختيارًا، أو جبر عليها إكراهًا وإيثارًا؛ فليتق وظائفها بسعة صدره، وليبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره؛ فالولايات فتنة ومحنة، واسر وإحنة؛ وهي بين إخطاء سعادة، وإخلال بعادة؛ وتوقع عزل، وإدالة رخاء بأزل، وبيع جد من الدنيا بهزل؛ ومزلة قدم، واستتباع ندم؛ ومال العمر كله قوت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد؛ جعلكم الله ممن نفعة بالتبصير والتنبيه، وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه.

هذه أسعدكم الله وصيتي التي أصدرتها، وتجارتي التي لربحكم أدرتها؛ فتلقوها بالقبول لنصحها، والاهتداء بضوء صبحها؛ وبقدر ما أمضيتم من فروعها، واستغشيتم من دروعها؛ اقتنيتم من المناقب الفاخرة، وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة؛ وبقدر ما أضعتم من لآليها النفسية القيم، استكثرتم من بواعث الندم؛ ومهما سئمتم إطالتها، واستغزرتم مقالتها؛ فاعلموا أن تقوى الله فذلكة الحساب، وضابط هذا الباب؛ كان الله خليفتي عليكم في كل حال،

ص: 24

فالدنيا مناخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض محال؛ فالموعد للالتقاء، دار البقاء؛ جعلها الله من وراء خطة النجاة، ونفق بضائعها المزجاة، بلطائفه المرتجاة؛ والسلام عليكم من حبيبكم المودع، والله يلأمه حيث شاء من شمل متصدع ورحمة الله وبركاته. انتهى.

اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.

شِعْرًا:

رَجِعْتُ عَلَى السَّفِيهِ بِفَضْلِ حِلْمِي

فَكَانَ الْحِلْمُ عَنْهُ لَهُ لِجَامَا

وَظَنَّ بِي السَّفَاهَ فَلَمْ يَجِدْنِي

أُسَافِهُهُ وَقُلْتُ لَهُ سَلامَا

فَقَامِن يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلَا

وَقَدْ كَسَبَ الْمَذَلَّةِ وَالْمَلامَا

وَفَضْلُ الْحِلْمِ أَبْلَغُ فِي سَفِيهٍ

وَأَحْرَى أَنْ يَنَالَ بِهِ انْتِقَامَا

كان عمر بن الخطاب رحمه الله يتمثل بما يلي من الأبيات:

لا شَيْءَ مِمَّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ

يَبْقَى الإِلَهُ وَيُودِي الْمَالُ وَالْوَلَدُ

لَمْ تُغْنِي عَنْ هُرْمُز يَوْمًا خَزَائِنُهُ

وَالْخُلُدُ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا

وَلا سُلَيْمَانُ إِذْ تَجْرِ الرِّيَاحُ لَهُ

وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ فِيمَا بَيْنَهُمَا تَرِدُ

أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّتِي كَانَتْ لِعِزَّتِهَا

مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْهَا وَافِدٌ يَفِدُ

حَوْضٌ هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلا كَذِبٍ

لا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا

مَنْ كَانَ حِينَ تَصِيبُ الشَّمْس جَبْهَتَهُ

أَوْ الْغُبَارَ يَخَافَ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا

وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ

فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا

فِي قَعْرِ مَظْلَمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ

يَطِيلُ فِيهَا وَلا يَخْتَارُهَا اللَّبَثَا

تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ

يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّى لَمْ تُخْلِقِي عَبثَا

آخر:

رَكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةْ

وَتَبَوَّءُوا الرُّتَبَ الْعَلِيَّةْ

حَتَّى إِذَا اغْتَرُّوا بِهَا

صَرَعَتْهُمُوا أَيْدِي الْمَنِيَّةْ

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 25

(فَصْلٌ)

فائدة عظيمة النفع في دفع فضول الغم والهم الغم يكون للماضي والهم يكون للمستقبل، فمن اغتنم لما مضى من ذنوبه نفعه غمه على تفريطه، لأنه يثاب عليه.

ومن اهتم بعمل خير نفعاه همته، قال الله جلا وعلا:{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} فأما إذا اغتنم لمفقود من الدنيا، فالمفقود لا يرجع والغم يؤذي، فكأنه أضاف إلى الأذى أذى.

وينبغي للحازم أن يحترز مما يجلب الغم، وجالبه فقد محبوب فمن كثرت محبوباته كثر غمه ومن قللها قل غمه.

ثم إن الإنسان كلما طال إلفه لما يحبه واستمتاعه به تمكن من قلبه، فإذا فقده أحس من مر التألم في لحظة لفقده بما يزيد على لذات دهره المتقدم.

وهذا لأن المحبوب ملائم فإن اضطر إلى جوالب الغم فأثمرت الغم فعلاجه الإيمان بالقضاء والقدر وأنه لا بد مما قضي بقضاء الله قدره وأنه الفعال لما يريد لا يكون شيء إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور ثم يعلم أن الدنيا موضوعة على الكدر فالبناء إلى النقض والجمع إلى التفرق ومن رام بقاء ما لا يبقى كمن رام وجود ما لا يوجد فلا ينبغي أن يطلب من الدنيا ما لم توضع عليه، قال الشاعر:

طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا

صَفْوًا مِنَ الأَقْذَاءِ وَالأَكْدَارِ

وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا

مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ

ثم يتصور ما نزل به مضاعفا فيهون عليه حينئذ ما هو فيه ومن عادة الحمال الحازم أن يضع فوق حمله شيئًا ثقيلاً ثم يمشي به خطوات ثم ينزله فيخف الحمل عليه.

ص: 26

وإذا نزلت به مصيبة تصور أعظم منها فمثلاً إذا ذهبت إحدى عينيه تصور أن يعمى، وإذا أخذ بعض ماله تصور أخذه كله وهكذا يقدر أعظم مما حدث به فيهون عليه الأمر.

شِعْرًا:

يُمَثِّلُ ذُو اللُّبِ فِي نَفْسِهِ

مَصَائِبَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا

فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ

لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مَثَّلا

وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنُ أَيَّامَهُ

وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلا

فَإِذَا دَهَتْهُ صُرُوفُ الزَّمَانِ

بِبَعْضِ مَصَائِبِهِ أَعْوَلا

وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمِ فِي أَمْرِهِ

لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ حُسْنَ الْبَلا

وقال رحمه الله الحازم من أعد للخوف عدته قبل وقوعه ونفى فضول الخوف مما لا بد منه لا ينفعه خوفه منه.

وقد اشتد الخوف من الله بكثير من الصالحين حتى سألوا الله تقليل ذلك والسبب في سؤالهم أن الخوف كالسوط للدابة فإذا ألح على الناقة (أي يضربها) قلقت.

قال سفيان الثوري لشاب يجالسه: أتحب أن تخشى الله حق خشيته؟ قال: نعم. قال: أنت أحمق لو خشيته حق خشيته ما أديت الفرائض.

قال: ولا ينبغي للعاقل أن يشتد خوفه من نزول المرض فإنه نازل لا بد وخوف ما لا بد منه زيادة أذى.

شِعْرًا:

يَا مَنْ سَيْنَأَى عَنْ بَنِيهْ

كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهُ

مَثِّلْ لِنَفْسَكَ قَوْلَهُمْ

جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوهْ

وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ

قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ

آخر:

أَسْلَمُوهُ مَقْبُورًا مُشَيِّعُوه

وَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَخَلَّفُوهُ

سَاعَةِ سَوَّوْا تُرَابَهُ عَلَيْهِ

وَلَّوْاوَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ

ص: 27

فأما الخوف من الموت والفكر فيه فإنه لا سبيل إلى دفعه عن النفس وإنما يخفف الأمر العلم بأنه لا بد منه فلا يفيد الحزر إلا زيادة على المحذور.

وكلما تصورت شدته كانت كل تصويرة موتًا ليصرف الإنسان فكره عن تصور الموت ليكون ميتًا مرة لا مرات ويكون صرف الفكر ربحًا.

وليعلم أن الله جل وعلا قادر على تهوينه إذا شاء وليوقن أن ما بعده أخوف منه، لأن الموت قنطرة إلى منزلة إقامة، وإنما ينبغي للإنسان أن يكثر ذكر الموت ليحثه على الإكثار من الأعمال الصالحة لا لنفس تصويره وتمثيله.

فإن خطر على القلب الحزن على فراق الدنيا فالعلاج أن يعلم أن الدنيا ليست بداره لذة وفرح وسرور، وإنما لذتها راحة من مؤلم ومثل هذا لا ينافس فيه، فأما الحزن على فراق الدنيا لفوت العمل الصالح فقد كان السلف يحزنون لذلك.

قال معاذ بن جبل عند موته: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.

واحتضر أحد العباد فقال: مسا تأسفي على دار الهمود والأحزان والخطايا والذنوب وإنما تأسفي على ليلة لمتها وساعة غفلت فيها عن ذكر الله.

شِعْرًا:

سعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ

فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ

آخر:

وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ

ذُخْرًا يَكُونُ كَصَالِحِ الأَعْمَالِ

آخر:

مَا مَاتَ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ زَمَانَهُ

بِتَفَهُّمٍ وَتَدِبُرٍ لِمَعَانِي

آخر:

الدِّينُ فِيهِ الْعِزُّ وَالْجَمَالُ

وَالْكُفْرُ فِيهِ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ

آخر:

وَلَيْسَ بَعَامِرٍ بُنْيَانُ قَوْمٍ

إِذَا لَمْ يُخْلِصُوا للهِ دِينَا

آخر:

وَإِذَا رُزِقْتَ مِنَ الْحَلالِ تِجَارَةٌ

فَابْذِلْ لَهَا فِي مَرَاضِي اللهِ مُجْتَهِدَا

ص: 28

هكذا كانت طريقة كثير من السلف كانوا يحرصون على أن لا تمر ساعة من الزمان أن يتزودوا فيها بعلم نافع أو عمل صالح من صدقة أو ذكر أو مجاهدة نفس أو إسداء نفع لمسلم، حتى لا تذهب الأعمار سبهللا دون فائدة.

فَكُنْ فِي حَالَةٍ تَزْدَادُ فِيهَا

لَدَى الْخَلاقِ مَرْتَبَةً وَقَدْرَا

وكانوا يقولون: من علامات المقت إضاعة الوقت. ويقولون: الوقت سيف إن قطعته وإلا قطعك.

وكانوا يحاولون دائمًا الترقي من حال إلى حال أحسن منها بحيث يكون اليوم أحسن من أمس، ويقولون من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه أحسن من أمسه فهو غير مغبون، ومن كان يومه أحسن من أمسه فهو رابح، ومن كان يومه أسوأ من أمسه فهو خسران.

وقال حكيم: من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثلة أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه.

وَأَسْوَأَ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمٌ لا يُرَى

لَهُ فِيهِ أَعْمَالٌ تَسُرُّ لَدَى الْحَشْر

وقال آخر: أشرف الأشياء قلبك ووقتك، فإذا أهملت قلبك وضيعت وقتك فماذا يبقى معك كل الفوائد ذهبت.

قال الحسن: عجبت لأقوام أمروا إن ونودي فيهم بالرحيل جلس أولهم مع آخرهم وهم يلعبون.

وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في وقت كسادها فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير.

ص: 29

وقال آخر: لو سقط من أحدهم درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي، وعمره يذهب ولا يقول: ذهب عمري، وكان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات.

ويقول آخر: لله در أقوام يحافظون على أوقاتهم أكثر من محافظتكم على دراهمكم.

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.

وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه.

وهكذا كان السلف ينصحون إخوانهم ويحفظون أوقاتهم فعليك بالاقتداء بهم.

شِعْرًا:

فَقُلْ لِمُرَجِي مَعَالِي الأُمُور

بِغَيْرِ اجْتِهَاد رَجَوْتَ الْمُحَالا

آخر:

يَا نَائِمًا وَالْمَنُونُ يَقْضَى

وَغَالِبًا وَالْحِمَامُ أَوْفَى

جَاءَكَ أَمْرٌ وَأَيُّ أَمْرٍ

طَمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَعَفَّى

هَلْ بَعْدَ هَذَا الْمَشِيبِ شَيءٌ

غَيْرَ تُرَابٍ عَلَيْكَ يُحْثَى

فَلَيْسَ هَذَا الأَمْرَ سَهْلاً

وَلا بِشَيءٍ عَلَيْكَ يَخْفَى

مَنْ بِعْدِ مَا الْمَرْءُ فِي بَرَاحٍ

يَهْتَزُّ تِيهًا بِهِ وَظَرْفَا

سَاكِنُ نَفْسٍ قَرِيرُ عَيْنٍ

يَرْشُفُ ثَغْرَ النَّعِيمِ رَشْفَا

إِذْ عَصَفَتْ فِي دَارِهِ رِيحٍ

تَقْصِفُ كُلَّ الظُّهُورَ قَصْفَا

فَبَاتَ فِي أَهْلِهِ حَصِيدًا

قَدْ جَعَفَتْهُ الْمَنُونُ جَعْفَا

فَعَادَ ذَاكَ النَّعِيمُ بُؤْسَا

وَصَارَ ذَاكَ السُّكُونُ رَجْفَا

وَسِيقَ سَوْقًا إِلَى ضَرِيحٍ

يُرْصَفُ بِالرَّغْمِ فِيهِ رَصْفَا

ص: 30

وَبَاتَ لِلدَّوْدِ فِيهِ طَعْمًا

وَلِلْهَوَامِّ الْعِطَاشِ رَشْفَا

وَلَيْتَهُ لَمْ يَكُنُ رَهِينًا

بِكُلِّ مَا قَدْ هَفَا وَأَهْفَا

اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم مع الذي أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) : اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين وثبتنا وإياك وإياهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إن علَى من نزل به الموت أن يعلم أنها ساعة تحتاج إلى معاناة صعبة جدًا لأن صورتها ألم محض وفراق لجميع المحبوبات.

ثم ينضم إلى ذلك هول سكرات الموت وشدائده والخوف من المآل، ويأتي الشيطان يحاول أن يسخط العبد على ربه، ويقول له: انظر في أي شيء ألقاك، وما الذي قضى عليك وكيف يؤلمك.

وها أنت تفارق ولدك، وزوجتك، وأهلك، وتلقى بين أطباق الثرى، وربما أسخطه على ربه، فكره قضاء الله تعالى ولقاءه، وربما حسن إليه الجور في الوصية، وربما حابا بعض الورثة وخصه بشيء دونهم، أو يعوقه إصلاح شأنه، والخروج من مظلمة تكون فبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يحول بينه وبين التوبة.

ص: 31

أخرج أبو داود من حديث أبي اليسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» .

وفى تلك الساعة يقول الشيطان لأعوانه: إن فاتكم الآن لم تقدروا عليه أبدًا.

وقال رحمه الله: وأما العلاج لتلك الشدائد فينبغي أن نذكر قبله مقدمة، وهو أن من حفظ الله في صحته حفظه الله في مرضه ومن راقب الله في خطراته حرسه الله عند حركات جوارحه.

ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ? صلى الله عليه وسلم أنه قال: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» . أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي.

ثم إنك قد سمعت قصة يونس عليه السلام لما وفقه الله لأعمال صالحة متقدمة أنقذه الله بسببها، قال الله جل وعلا وتقدس:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .

ولما لم يكن لفرعون عمل خير لم يجد وقت الشدة متعلقًا، فقيل له:{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند الموت: سيدي لهذه الساعة خبأتك.

فأما من ضيع وأهمل في حال الصحة فإنه يضيع في مرضه فالجزاء من جنس العمل.

قال الله جلا وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .

وقال جلا وعلا: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ، وقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا

ص: 32

وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .

(فائدة) : قال أحد العلماء: إني رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض اشتغلوا بالشكوى والتداوي عن الالتفات إلى المصالح من وصية أو فعل خير فكم له من ذنوب لا يتوب منها أو عنه ودائع أو عليه دين أو زكاة أو مظلمة لا يخطر بباله تداركها، والسبب والله أعلم ضعف الإيمان فينبغي للمتيقظ أن يتأهب في حال صحته قبل هجوم المرض أو الموت فربما ضاق الوقت عن عمل واستدراك فارط أو وصية وربما مات فجاءة والله أعلم.

شِعْرًا:

أَبْغِي فَتَى لَمْ تَذَرُ الشَّمْسَ طَالِعَةً

يَوْمًا مِنَ الْوَقْْتِ إِلا صَلَّى أَوْ ذَكَرَا

آخر:

للهِ قَومٌ أَخْلَصُوا فِي حُبِّهِ

فَكَسَا وُجُوهَهُمْ الْوَسِيمَةَ نُورَا

ذَكَرُوا النَّعِيمَ فَطَلَّقُوا دُنْيَاهُمُوا

زُهْدًا فَعَوَّضَهُمْ بِذَاكَ أُجُورَا

قَامُوا يُنَاجَوْنَ الإِلَهَ بِأَدْمُعٍ

تَجْرِي فَتَحْكِي لُؤْلُؤًا مَنْثُورَا

سَتَروا وُجُوهَهُمُوا بِأَسْتَارِ الدُّجَى

لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بُدُورَا

عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَجَادُوا بِالَّذِي

وَجَدُوا فَأَصْبَحَ حَظَّهُم مَوْفُورَا

وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِينَهُمْ

وَشَهِدَتْ وَجْدًا مَنْهُمُوا وَزَفِيرَا

تَعِبُوا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِمْ

فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَثِيرَا

صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوا

يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِيرَا

يَا أَيُّهَا الْغِرُّ الْحَزِينُ إِلَى مَتَى

تُفْنِي زَمَانَكَ بَاطِلاً وَغُرُورَا

بَادِرْ زَمَانَكَ وَاغْتَنِمْ سَاعَاتِهِ

وَاحْذَرْ تَوَانَاكَى تَحُوزَ أُجُورَا

وَاضْرِعْ إِلَى الْمَوْلَى الْكَرِيمِ وَنَادِهِ

يَا وَاحِدًا فِي مُلْكِهِ وَقَدِيرَا

مَا لِي سِوَاكَ وَأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي

وَإِذَا رَضِيتَ فَنِعْمَةٌ وَسُرُورَا

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر

ص: 33

على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم واليتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من أراد لحاق القوم المجتهدين المشمرين عن ساق للآخرة ممن تقدم ذكرهم، أن عليه أن ينبذ الكسل والعجز والتواني والتهالك في طلب الدنيا ويجد ويجتهد سالكًا طريق المجتهدين العارفين قيمة الوقت والعمر.

شِعْرًا:

كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقُ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً

إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي أَنْتَ تَطْلُبُ

آخر:

أَسْرِعْ أَخَا الْعِلْمِ فِي ثَلاثْ

الأَكْلُ وَالْمَشْي وَالْكِتَابَةْ

آخر:

وَسَاهِرَ اللَّيْلَ فِي الْحَاجَاتِ نَائِمُهُ

وَوَاهِبُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَجْدِ كَاسِبُهُ

وذكر أحد العلماء علاج الكسل وهو سهل لمن وفقه الله فقال: هو تحريك الهمة بخوف فوات القصد، وبالوقوع في اللوم، أو التأسف، فإن أسف المفرط إذا عاين أجر المجتهد أعظم من كل عقاب، وليفكر العاقل في سوء مغبة الكسل والعجز، والاشتغال بالدنيا عن الآخرة فرب راحة أوجبت حسرات وندمًا، فمن رأى زميله اجتهد وثابر على دروسه ونجح زادت حسرته وأسفه، ومن رأى جاره قد سافر ورجع بالأرباح والفوائد زادت حسرة أسفه وندامته على لذة كسله وعجزه.

قال: وقد أجمع الحكماء على أن الحكمة لا تدرك بالراحة فمن تلمح ثمرة الكسل أجتنبه ومن مد فطنته إلى ثمرات الجد والاجتهاد نسى مشاق الطريق، ثم إن اللبيب الذكي يعلم أنه لم يخلق عبثًا وإنما هو في الدنيا كالأجير أو كالتاجر، ثم إن زمان العمل بالإضافة إلى مدة البقاء في القبر كلحظة، ثم إن إضافة ذلك إلى البقاء السرمدي إما في الجنة وإما في النار ليس يشيء.

ص: 34

ومن أنفع العلاج النظر في سير المجتهدين الذين يعرفون قيمة العلم النافع والعمل الصالح والوقت والعجب من مؤثر البطالة في موسم الأرباح.

والمهم أنه بالجد والاجتهاد تدرك غاية المراد، وبالغزمات الصحاح يشرق صباح الفلاح، وما حصلت الأماني بالتواني ولا ظفر بالأمل من استوطن الكسل.

شِعْرًا:

مَا هَذِي الْحَيَاةُ رَخِيصَةٌ

فَصُنْهَا عَن التَّضِييعِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ

وَأَكْثِرْ بِهَا ذِكْرَ الإِلَهِ وَحَمْدَهُ

وَشُكْرًا لَهُ تُحْظَى بِأَسْنَى الْمَرَاتِبِ

آخر:

وَلَيْسَ كَمَا قَدْ شِئْتُهُ وَاشْتَهِيْتُهُ

وَلَكِنْ كَمَا شَاءَ الإِلَهُ يَكُونُ

إِذَا لَمْ أَجِدْ شَيْئًا نَفِيسًا أُرِيدُهُ

رَجَوْتُ إِلَهَ الْخَلْقِ أَنْ سَيَكُونُ

وقد قيل الكسل مزلقة الربح، وآفة الصنائع، وأرضة البضائع، وإذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة عن صالح العمل.

الْجَدُّ بِالْجَدِّ وَالْحِرْمَانَ فِي الْكَسَلِ

فَانْصِبٍ تُصِبْ عَنْ قَرِيبٍ غَايَة الأَمَلِ

ثم اعلم أن الموجب للكسل حب الراحة وإيثار البطالة وصعوبة المشاق.

وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل» . متفق عليه.

وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان» . وقال ابن مسعود: (إني لأبغض الرجل أراه فارغًا ليس في سيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة» . أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقال: (يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان) . وقال ابن عباس: تزوج التواني

ص: 35