المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ علي بن الحسين يحاسب نفسه - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٣

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ علي بن الحسين يحاسب نفسه

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض» . رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتكم» . متفق عليه.

كَمْ رَأَيْنَا مِنْ أُنَاسٍ هَلَكُوا

فَبَكَى أَحْبَابُهُمْ ثُمَّ بُكُوا

تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْدَهُمُوا

وُدُّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا

آخر:

إِنِّي وَإِنْ كَانَ جَمْعُ الْمَالِ يُعْجِبُنِي

فَلَيْسَ يَعْدِلُ عِنْدِي صِحَّةَ الْجَسَدِ

فِي الْمَالِ زَيْنٌ وَفِي الأَوْلادِ مَكْرُمَةٌ

وَالسُّقْمُ يُنْسَيْكَ ذِكْرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ

والله أعلم. صلى الله على محمد وعلى آله وسلم.

موعظة: عن الزهري: سمعت‌

‌ علي بن الحسين يحاسب نفسه

ويناجى ربه يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من آلافك، ومن فجعت به من إخوانك. ونقل إلى الثرى من أقرابك، فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر.

خَلَتْ دُورُهمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عَرَاصُهُمْ

وَسَاقَهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِرُ

وَخَلَّو عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا

وَضَمَّتْهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ الْحَفَائِرُ

كم خربت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غبرت الأرض وغيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى المهالك ثم رجعت عنهم إلى أهل الإفلاس.

وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ

لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ

عَلَى خَطَرٍ تَمْشِي وَتُصْبِحُ لاهِيًا

أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ

وَإِنَّ امْرَأً يَسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائِبًا

وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لا شَكَّ خَاسِرُ

فحتام على الدنيا إقبالك وبشهواتها اشتغالك وفد وخطك الشيب

ص: 126

وأتاك وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات وعاينت ما حل بهم من المصيبات.

أَبَعْدَ اقْتِرَابِ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ

وَشِيب قَذَالٍ مُنْذِر لِلأَكَابِر

كَأَنَّكَ مَعْنَي بِمَا هُوَ ضَائِرٌ

لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ حَائِر

انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عقبان الأيام ووفاهم الحمام فانمحت من الدنيا آثارهم ويقنت فيها أخبارهم وأضحوا رممًا في التراب إلى يوم الحشر والمآب والحساب.

فَأَمْسَوْا رَمِيمًا فِي التُّرَابِ وَعُطِّلَتْ

مَجَالِسَهُمْ مِنْهُمْ وَأَخْلَى الْمَقَاصِرُ

وَحَلُّوا بِدَارٍ لا تزاور بَيْنَهُمْ

وَأَنَّى لِسُكَّانِ الْقُبُورِ التَّزَاوُرُ

فَمَا أَنْ تَرَى إِلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا

مُسَطَّحَةً تَسْفِي عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ

كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان تمكن من دنياه ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.

فَمَا صَرَفَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ إِذَا أَتَتْ

مُبَادَرَة تَهْوَى إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ

وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونُ الَّتِي بَنَى

وَحَفَّ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ

وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ

وَلا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهُ الْعَسَاكِرُ

أتاه من الله ما لا يرد ونزل به من قضائه ما لا يصد فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز القهار قاصم الجبارين ومبيد المتكبرين الذي ذل لعزه كل سلطان وأباد بقوته كل ديان.

مَلِيكُ عَزِيزُ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ

حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِذُ الأَمْرِ قَاهِرُ

عَنَى كُلُّ ذِي عِزٍّ لِعِزَّةِ وَجْهِهِ

فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ

ص: 127

لَقَدْ خَضَعَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَأَلَتْ

لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الملوكُ الْجَبَابِرُ

فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لك من مصائدها، وتحلت لك من زينتها، وأبرزت لك من شهواتها وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها.

وَفِي دُون مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتُهَا

إِلَى دَفْعِهَا دَاعٍ وَبِالزُّهْدِ آمِرُ

فَجُدَّ وَلا تَغْفُلْ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا

فَعَمَّا قَلِيلٍ يَتْركُ الدَّارَ عَامِرُ

فَشَمِّرْ وَلا تَفْتُرْ فَعُمْركَ زَائِلٌ

وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الإِقَامَةِ صَائِرُ

وَلا تَطْلُبَ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَعِيمَهَا

وَإِنْ نِلْتَ مِنْهُ غِبُّهُ لَكَ ضَائِرُ

فهل يحرص على الدنيا لبيب، أو يسر بها أريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها أم كيف تنام عين من يخشى البيات وكيف تسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات.

أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا

وَتَشْغَلُنَا الَّلَذاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ

وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ

بِمَوْقِف عَرْضٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نُشُورَ وَأَنَّنَا

سُدى مَا لَنَا بَعْدَ الْمَمَاتِ مَصَادِرُ

وما عسى أن ينال صاحب الدنيا لذتها ويتمتع به من بهجتها مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها وكثرة عذابه في مصائبها وفي طلبها وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها.

أَمَا قَدْ نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ

يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ

تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا

وَكَمْ قَدْ نَرَى يَبْقَى لَهَا الْمُتَعَاوِرُ

فَلا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ

وَلا هُوَ مَنْ تَطْلا بِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ

كم غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم

ص: 128

تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمة.

بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمِنْعَةٍ

مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ

فَلَمَّا رَأَى أَنْ لا نَجَاةَ وَأَنَّهُ

هُوَ الْمَوْتُ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ

تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ

عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ

إذا بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار، ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزول البلية.

أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ

وَأبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ

فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ

وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ

وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ

تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَا وَالْحَنَاجِرُ

هنالك خلف عواده وأسلمه أهله وأولاده وارتفعت البرية بالعويل وقد أيسوا من العليل فغمضوا بأيديهم عينيه ومد عند خروج روحه رجليه وتخلى عنه الصديق والصاحب الشفيق.

فَكَمْ مُوجِعٌ يَبْكِي عَلَيْهِ مُفَجَّعٌ

وَمُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ

وَمُسْتَرْجِعٌ دَاعٍ لَهُ الله مُخْلِصًا

يُعَدّدُ مِنْهُ كُلَّ مَا هُوَ ذَاكِرُ

وَكَمْ شَامِتٌ مُسْتَبْشِرٌ بِوَفَاتِهِ

وَعَمَّا قَلِيل لِلَّذِي صَارَ صَائِرُ

فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه وشمروا لإبرازه كأن لم يكن بينهم العزيز المفدى ولا الحبيب المبدَّى.

وَحَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ بِقُرْبِهِ

يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ

وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ

وَوَجِّه لِمَا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ

ص: 129

وَكُفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ

مُشَيِّعُهُ إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ

فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه وقد خضبت الدموع عينيه وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه واحرباه.

لَعَايَنْتَ مِنْ قُبْحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظَرًا

يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ

أَكَابِرُ أَوْلادٍ يَهِيج اكْتِئَابِهم

إِذَا مَا تَنَاسَاهُ الْبَنُونُ الأَصَاغِرُ

وَرَبَّةُ نِسْوَان عَلَيْهِ جَوَازِع

مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ

ثم أخرج من سعة قصره، إلى مضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وهيء عليه اللبن احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه وأوزاره، وضاق ذرعًا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا عليه البكاء والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب.

فَوَلَّوا عَلَيْهِ مُعولِينَ وَكُلُّهُم

لِمِثْل الَّذِي لاقَى أَخُوهُ مُحَاذِرُ

كَشَاءٍ رَعَاءٍ آمِنِينَ بَدَا لَهَا

بِمُدْيتِهِ بَادِي الذِّرَاعَيْنِ حَاسِرُ

فَرِيعَتْ وَلَمْ تَرْعَى قَلِيلاً وَأَجْفَلَتْ

فَلَمَّا نَأَى عَنْهَا الَّذِي هُوَ جَازِرُ

عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفا بأفعال الأنعام اقتدينا أم على عادتها جرينا، عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبره بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.

ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ

مَوَارِيثَهُ أَوْلادُهُ وَالأَصَاهِرُ

وَأَحْنَو عَلَى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا

فَلا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ

فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا

وَيَا آمِنًا مِن أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ

كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك، وهى مطيتك إلى مماتك، أم كيف تشبع من طعامك، وأنت

ص: 130

منتظر حمامك، أم كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات.

وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلرَّحِيلِ وَقَدْ دَنَا

وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكٌ مُسَافِرُ

فَيَا لَهْفَ قَلْبِي كَمْ أَسوِّفُ تَوْبَتِي

وَعُمْرِيَ فَانٍ وَالرَّدَى لِيَ نَاظِرُ

وَكُلَّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحُفِ مُثْبَتٌ

يُجَازى عَلَيْهِ عَادِلُ الْحكمِ قَادِرُ

فكم ترتع بآخرتك دنياك، وتركب غيك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن أم على هذا نزل القرآن أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورًا ومساكنهم قبورًا.

تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى وَتَعْمُرُ فَانِيَا

فَلا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلا ذَاكَ عَامِرُ

وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً

وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى اللهِ عَاذِرُ

أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِي

وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ

أ. هـ.

ينبغي لن عمر ستين أن يحاسب نفسه ويتخلى للعبادة قبل هجوم هادم اللذات.

وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا

فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ

فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا

آخر:

سِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفُ

بِهِ وَجَلٌ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ

يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا

وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهُوَ رَاجٍ وَخَائِفُ

فَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى

وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ

ص: 131

فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي

إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ

وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا

يُصَدِّدُ ذُو الْقُرْبَى وَيَجْفُوا الْمُؤَآلِفُ

لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي

أُرَجِيّ لإِسْرَافِي فَإِنِّي لَتَالِفُ

آخر:

غَفَلتُ وَلَيْسَ الْمَوْتُ فِي غَفْلَةٍ عَنِّي

وَمَا أَحَدٌ يَجْنِي عَليَّ كَمَا أَجْنِي

أُشَيِّدُ بُنْيَانِي وَأَعْلَمُ أَنَّنِي

أَزُولُ لِمَنْ شَيَّدتُهُ وَلِمَنْ أَبْنِي

كَفَانِي بِالْمَوْتِ الْمُنَغَّصِ وَاعِظًا

بِمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَا سَمِعَتْ أُذُنِي

وَكَمْ لِلْمَنَايَا مِنْ فُنُونٍ كَثِيرَة

تُمِيتُ وَقَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى فَنِّ

وَلَوْ طَرَقَتْ مَا اسْتَأْذَنَتْ مَنْ يُحِبني

كَمَا أَفْقَدَتْنِي مَنْ أُحِبُّ بِلا إِذْنِ

قَدْ كُنْتُ أَفْدِي نَاظِريهِ مِنَ الْقَذَى

فَغَطَّيْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أُفْدِيهِ بِالْعَيْنِ

سَتَسْجُني يَا رَبِّ فِي الْقَبْرِ بُرْهَةً

فَلا تَجْعَلَ النِّيرَانَ مِنْ بَعْدِهِ سِجْنِي

وَلِي عِنْدَ رَبِّي سَيِّئَاتٌ كَثِيرَةٌ

وَلَكِنَّنِي عِبدٌ بِهِ حَسَنُ الظَّنِّ

ص: 132

عصمنا الله وإياكم من الزلل، ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد، وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وقال ابن القيم رحمه الله: لا يتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، واضمحلالها ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد.

وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب ذلك من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها وغم بعد فواتها، فهذا أحد النظرين.

(النظر الثاني) النظر في الآخرة واقبالها ومجيئها، ولا بد ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة، منقطعة مضمحلة.

فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد، فيما يقتضي الزهد فيه كل احدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة، إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له وإما لعدهم رغبته في الأفضل.

ص: 133

وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الأيمان وضعف العقل والبصيرة، فأن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها، إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وأما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.

وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها، وعدوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولو صلوا منها إلى كل مرغوب.

فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فأثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيادة حتى آذن بالرحيل.

قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب مال في ظل شجرة ثم راح وتركها» وقال «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» .

وقال خالقها سبحانه {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .

شِعْرًا:

إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً

وَسَبْعُ تُمَيْرَاتٍ صِغَارٍ هَوَامِزِ

فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خِصْبًا وَنِعْمَةً

وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ وَقْتَ الْهَزَاهِزِ

ص: 134

آخر:

لا خَيْرَ فِي طَمَعٍ يُدْنِي لِمَنْقَصَةٍ

وَحَفْنَةٌ مِنْ كَفَافِ الْعَيْشِ تَكْفِينِي

آخر:

لَعَمْرِي مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْكَ نِعْمَةً

وَمَدَّ لَهَا كَفًّا فَأَنْتَ أَمِيرُهُ

وَمَنْ كُنْتُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ

أَمِيرُكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ أَسِيرُهُ

وَمَنْ كُنْتَ عَنْهُ ذَا غِنَى وَهُوَ مَالِكٌ

أَزِمَّةً أَمْوَالٍ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ

آخر:

لَعَمْرِكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ

وَلا الْحَيُّ فِي دَارِ السَّلامَةِ آمِنُ

تُحَارِبُنَا أَيَّامُنَا وَلَنَا رِضَىً

بِذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمَنَايَا تُهَادِنُ

أَرَى الْحِيرَةَ الْبَيْضَاءَ عَادَتْ قُصُورُهَا

خَلاءً وَلَمْ تَثْبُتْ لِكِسْرى الْمَدَائِنُ

رَكِبْنَا مِنَ الآمَالِ فِي الدَّهْرِ لُجَّةً

فَمَا صَبَرَتْ لِلْمَوْجِ تِلْكَ السَّفَائِنُ

فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها وقال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} .

وقال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .

وقال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

وقال تعالى {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ مَتَاعٌ}

قد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن

ص: 135

بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال {إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ} .

شِعْرًا:

وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا

فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ

فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا

وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}

وقوله {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَاّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} .

وقوله {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}

وقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .

وقوله {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}

وقوله {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}

وقوله {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} . والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

ص: 136

خُلِقْنَا لأَحْدَاثِ اللَّيَالِي فَرَائِسًا

تَزَفُّ إِلَى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسَا

تُجََِّز مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا

وَتُرْدِفُ أَعْوَادُ الْمَنَايَا فَوَارِسَا

إِذَ أَمَلٌ أَرْخَى لَنَا مِنْ عَنَانِهِ

غَدَا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسَا

أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُتِّ وَهُوَ بِمَائِهِ

رَطِيبًا وَمَا إِنْ أَصْبَحَ الْغِصْنُ يَا بِسَا

نَشِيدُ قُصُورَا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً

وَنَصِبرُ مَا شِئْنَا فُتُورًا دَوَارِسَا

وَقَدْ نَعَتِ الدُّنْيَا إِلَيْنَا نُفُوسَنا

بِمَنْ مَاتَ مِنَّا لَوْ أَصَابَتْ أَكَايِسَا

لَقَدْ ضَرَبتْ كِسْرَى الْمُلُوكِ وَتُبَّعا

وَقَيْصَرَ أَميَالاً فَلَمْ نَرَ قَائِسَا

نَرَى مَا نَرَى مِنْهَا جَهَارا وَقَدْ غَدَا

هَوَاهَا عَلَى نُورِ الْبَصِيرَةِ طَامِسَا

وَقَدْ فَضَح الدُّنْيَا لَنَا الْمَوْتُ وَاعِظًا

وَهَيْهَاتَ مَا نَزْدَادُ إِلا تَقَاعُسَا

آخر:

كَمْ سَالِمٍ أَسْلَمْتَهُ لِلرَّدَى فَقَضَى

حَتْفًا وَلَمْ يَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَاطَرَا

وَمُتْرَفٍ قَلَبَتْ ظَهْرَ الْمِجَنَّ لَهُ

فَعَادَ بَعْدَ عُلُّوِّ الْقَدْرِ مُحْتَقَرَا

فَأَبْعِدَنْهَا وَلا تَحْفَلْ بِزُخْرُفِهَا

وَغُضَّ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَا

فَكُلُّ شَيْءٍ تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ حَسَنٍ

كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبْقَى لَهُ أَثَرا

وَاصْحَبْ وَصَلّ وَوَاصِلْ كُلِّ أونَةٍ

عَلَى النَّبِيِّ سَلامًا طَيِّبًا عَطَرَا

وَصَحْبِهِ وَمَنْ اسْتَهْدَى بِهَدْيِهِمُوا

فَهُمْ أَئِمَّةُ مَنْ صَلَّى وَمَنْ ذَكَرَا

اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد. وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 137

موعظة: عباد الله إن الناس في هذه الحياة انقسموا قسمين قسم جعلوا غايتهم الكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا من مساكن وملابس وقضاء وطر وليس وراء هذه الغاية عندهم غاية أخرى فهم يقضون أوقاتهم يصرمون أعمارهم ليتمتعوا ما وسعهم التمتع فما بعد نظرهم الكليل الحسير وقلوبهم الميتة إلا العدم والفناء.

وهؤلاء هم جند الشيطان شر خلق الله وأشقاهم قال تعالى {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} وقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} فهم صاروا كالأنعام لا يختلفون عنها إلا في الصورة والشكل وإلا في دخولهم النار ولذلك قال الله جل وعلا {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .

تلك هي غاية هذا الصنف أما مركزهم بين الناس فهو مركز الإفساد والإضلال ومآلهم جميعًا دخول النار، قال تعالى {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وقال {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} .

الصنف الثاني الذين عرفوا الحقيقة والغاية التي خلقوا لها عرفوا أن الله خلقهم لعبادته كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أيقنوا بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} فغايتهم كما تقدم عبادة الله.

ومنها الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه وعمارة الأرض بفعل الخير وهداية الحيارى إلى الحق وقيادتهم في دروب الحياة الدنيا ووراءها الغاية العظمى والعليا وهي ابتغاء مرضاة الله وحده جل جلاله.

قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا

ص: 138

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

هذه مهمة المسلم وغايته فيها عبادة الله وحده وجهاده في سبيله يجاهد نفسه حتى يحملها على طاعة الله ويبعدها عن المعصية جهده ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور الإسلام.

وقد اختار الله المسلمين لهذه المهمة دلالة الناس وقيادتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور فلا مجال عن هذه المهمة الشريفة هذه طريقة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام قال الله تعالى: {َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

وقال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» . فكل واحد من المسلمين عليه على قدر حاله ولا يعذر وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .

فالذي يقول إنه مسلم عليه أن يبلغ ويدعو ويؤدي هذه الشهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء ويؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.

ص: 139

وهو لا يؤيد هذه الشهادة تمامًا حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعًا يشهد لهذا الدين الإسلامي بالأحقية في الوجود بالخيرية وبالأفضلية على سائر ما في الأرض.

فالشهادة في النفس أولاً بمجاهدتها حتى تكون ترجمة له ترجمه حية في شعورها وسلوكها حتى صورة الأيمان في هذه النفس فيقولوا ما أطيب هذا الأيمان وما أحسنه وما أزكاه.

وهو يصوغ أصحابه على هذا الشكل من الخلق والكمال فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون والشهادة له بدعوة الناس إليه وبيان فضله ومحاسنه ومزيته بعد تمثل هذا الفضل.

وهذه المزية في نفس الداعية فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للأيمان في ذات نفسه إذا هو لم يدع إليها الناس وما يكون قد أدى الدعوة والتبليغ والبيان قال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال: {ُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية.

ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجًا للجماعة المؤمنة ومنهجًا للبشرية جميعَا والمحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة.

فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الأيمان الذاتي ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة. أ. هـ.

ص: 140

شِعْرًا:

لَقَدْ عَفَتْ مِنْ دِيَارِ الْعِلْمِ آثَارُ

فَأَصْبَحَ الْعِلْمُ لا أَهْلٌ وَلا دَارُ

يَا زَائِرِينَ دِيَارَ الْعِلْمِ لا تَفِدُوا

فَمَا بِذَاكَ الْحِمَى وَالدَّارِ دَيَّارُ

تَرَحَّلَ الْقَوْمُ عَنْهَا وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ

مُشَمِّرٌ مِنْ حُدَاةِ الْبَيْنِ سَيَّارُ

قَدْ أَوْرَدَ الْقَوْمَ حَادِيهم حِيَاضَ رَدَى

فَمَا لَهُمْ بَعْدَ ذَاكَ الْوِرْدِ إصْدَارُ

لَهْفِي عَلَى سُرُجِ الدُّنْيَا الَّتِي طَفِئَتْ

وَلا يَزَالُ لَهَا فِي النَّاسِ أَنْوَارُ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا

وَهَكَذَا طَالِبُ الْعَلْيَاءِ صَبَّارُ

لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا

بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابَوْا وَلا جَارُوا

مَالُوا يَمِينًا عَنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا

لأَنَّهَا فِي عُيُونِ الْقَوْمِ أَقْذَارُ

وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادٍ قُلُوبُهُمْ

طَيْرٌ لَهَا فِي ظِلالِ الْعَرْشِ أَوْكَارُ

هُم الَّذِينِ رَعَوا لِلْعِلْمِ حُرْمَتَهُ

لِلْعِلْمِ بَيْنَهُمْ شَأْنٌ وَمِقْدَارُ

صَانُوهُ طَاقَتَهُمْ عَنْ مَا يُدَنِّسُهُ

كَمَا يَصُونُ نَفِيسَ الْمَالِ تُجَّارُ

ص: 141

وَأَحْسَنُوا فِيهِ تَصْرِيفًا لأَنَّهُم

لَهُمْ مِن اللهِ تَوْفِيقٌ وَإِقْدَارُ

رَأَوْهُ كَالنَّجْمِ بُعْدًا لَيْسَ يُدْرِكُهُ

بَاعٌ قَصِيرٌ وَفَهْم فِيهِ إِقْصَارُ

فَدَوَّنُوهَا فُرُوعًا مِنْهُ دَانِيَةً

لَكُلٍّ جَانٍ تَدَلَّتْ مِنْهُ أَثْمَارُ

يَا صَاحِ فَالْزَمْ طَرِيقَ الْقَوْمِ مُتَّبِعًا

فَرِيقَهُمْ لَيْسَ بَعْدَ الْيَوْمِ إِنْظَارُ

وَوَاجِبٌ قَصْرُكَ الْمَمْدُودَ مِنْ أَمَلٍ

مَسَافَةُ فِي دُنْيَاكَ أَشْبَارُ

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بطاعتك وجبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نفوسنا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عدوك واجعل هوانا تبعًا لما جاء به رسولك صلى الله عليه وسلم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وقال ابن القيم رحمه الله في التحذير من إبليس وجنوده وبيان شيء من حيله ومكره وكيده لبني آدم ووصاياه لجنوده كيف يوقعون بني آدم في المعاصي من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون وتوجيه جنوده إلى المداخل إلى قلوب بني آدم ليدمرهم ويهلكهم ويزجهم معه في السعير، وقال رحمه الله:

ص: 142

ولما علم سبحانه أن آدم، وبنيه قد بلوا بهذا العدو، وأنه قد سلط عليهم أمدهم بعساكر، وجند يلقونه بها، وأمد عدوهم أيضًا بجند وعساكر يلقاهم بها وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها.

واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وأخبر أن ذلك وعد مؤكد في أشرف كتبه وهي التوراة، والإنجيل، والقرآن، وأخبر أنه أوفى بعهده منه سبحانه.

ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشتري من هو، وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة، وإلى من جرى على يديه هذا العقد، فأي فوز أعظم من هذا، وأي تجارة أربح منه.

ثم أكد سبحانه هذا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

ولم يسلط هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب أنواع المخلوقات إليه، إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه وأهله أرفع الخلق عنده درجات وأقربهم إليه وسيلة.

ص: 143

فعقد سبحانه وتعالى لواء هذا الحرب لخلاصة مخلوقاته، وهو القلب الذي هو محل معرفته، ومحبته، وعبوديته، والإخلاص له والتوكل عليه، والإنابة إليه، فولاه أمر هذا الحرب.

وأيده بجنده من الملائكة لا يفارقونه، قال تعالى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} يثبتونه ويحفظونه، ويأمرونه بالخير، ويخصونه عليه، ويعدونه بكرامة الله، ويصبرونه، ويقولون: إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد.

ثم أمده بجند آخر من وحيه، وكلامه، فأرسل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل إليه كتابه، فازداد قوة إلى قوته، ومدادًا إلى مدده وعدة إلى عدته.

وأيده مع ذلك بالعقل وزيرًا له ومدبرًا، وبالمعرفة مشيرة عليه وناصحة له، وبالإيمان مثبتًا له، ومؤيدًا، وناصرًا، وباليقين كاشفًا له عن حقيقة الأمر كأنه يعاين ما وعد الله تعالى به أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه.

فالعقل يدبر أمر جيشه، والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللاحقة بها، والإيمان يثبته ويقويه ويصبره، واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة.

ثم أمد سبحانه القائم بهذه الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة، فجعل العين طليعته والأذن صاحب خبره، واللسان ترجمان، واليدين والرجلين أعوانه.

ص: 144

وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له، ويسألون له أن يقيه السيئات، ويدخله الجنات، وتولى سبحانه الدفع عنه والدفاع عنه بنفسه.

وقال: هؤلاء حزبي وحزب الله المفلحون، وقال تعالى:{ُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهؤلاء جندي وجند الله هم الغالبون.

وعلم سبحانه عباده كيف هذا الحرب والجهاد فجمعها لهم في أربع كلمات، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مقاومته، ومنازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل معه العدو ولزوم ثغر العين، والأذن واللسان، والبطن، واليد، والرجل.

فهذه الثغور منها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يخلى مكانها فيصادف العدو الثغر خاليًا فيدخل منه.

فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، خير الخلق بعد النبيين والمرسلين، وأعظمهم حماية، وحراسة من الشيطان، وقد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد، فدخل منه العدو فكان ما كان.

وجماع هذه الثلاثة الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى فلا ينفع الصبر ولا المصابرة، ولا المرابطة، إلا بالتقوى ولا تقوم التقوى إلا

ص: 145

على ساق الصبر، فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين واصطدام العسكريين، وكيف تدال مرة. ويدال عليك مرة أخرى.

أقبل ملك الكفرة بجنوده وعساكره، فوجد القلب في حصنه جالسًا على كرسي مملكته، أمره نافذٌ في أعوانه، وجنده قد حفوا به يقاتلون عنه، ويدافعون عن حوزته، فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه.

فسال عن أخص الجند به، وأقربهم منه منزلة، فقيل له هي النفس، فقال لأعوانه ادخلوا عليها من مرادها وانظروا مواقع محبتها، وما هو محبوبها، فعدوها به، ومنوها إياه، وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها.

فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها، ثم جروها بها إليكم.

فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغور العين، والأذن واللسان، والفم واليد، والرجل، فرابطوا على هذه الثغور وكل المرابطة فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيلٌ أو أسيرٌ أو جريحٌ مثخن الجراحات.

ولا تخلوا هذه الثغور، ولا تمكنوا سرية تدخل فيه إلى القلب فتخرجكم منها، وان غلبتم فاجتهدوا في أضعاف السرية ووهنا، حتى لا تصل إلى القلب وإن وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئًا.

فإذا استوليتم على هذه الثغور، فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره

ص: 146

اعتبارًا بل اجعلوا نظره تفرجًا، واستحسانًا، وتلهيًا، فان استرق نظره عبرة، فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة، والاستحسان والشهوة، فإنه أقرب غليه، وأعلق بنفسه، وأخف عليه.

ودونكم ثغر العين فإن منه تنالون بغيتكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به القلب بذر الشهوة، ثم اسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده وأمنيه حتى أقوي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة، إلى الانخلاع من العصمة.

فلا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم وهونوا عليه أمره وقولوا له مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنعه وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه وما خلق الله لك العينين سدى وما خلق هذه الصورة ليحجبها عن النظر.

ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستحسنه وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب وامزجوه بما تهوى النفس مزجًا وألقوا الكلمة فان رأيتم منه إصغاء إليها فزجوه بأخواتها وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره.

وإياكم أن يدخل هذا الثغر شيء من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به إما بإدخال ضده عليه وأما بتهويل ذلك وتعظيمه وان هذا الأمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها أليه وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك.

ص: 147

وأما بأرخصه على النفوس وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس وأعز عليهم واغرب عندهم والقابلون له أكثر وأما الحق فهو مهجور وقائله معرض نفسه للعداوة. والرائج بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك فيدخلون الباطل عليه في كل قالب يقلبه ويخف عليه وتخرجون له في قالب يكرهه ويثقل عليه.

وإذا شئت أن تعرف ذلك انظر إلى إخوانهم من شياطين الأنس كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس والتعرض من البلا لما لا يطيق وإلقاء الفتن بين الناس ونحو ذلك.

والمقصود أن الشيطان لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ولا ينفعه ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه وأن دخل بغير اختيار أفسده عليه.

ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه، من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم.

أحدهما: التكلم بالباطل، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن اكبر جندكم وأعوانكم.

والثاني: السكوت عن الحلق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم،

ص: 148

أما سمعتم قول الناصح «المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس» .

فالرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق. واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبهم منه على مناخرهم في النار فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر.

وأوصيكم بوصية فاحفظوها، لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعوانًا على الإنس بكل طريقٍ، وادخلوا عليهم من كل بابٍ، واقعدوا لهم كل مرصد.

أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت {16: 17 - فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقة كلها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها.

وقد حذرهم ذلك رسولهم وقال لهم: «إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها، وقعد له بطريق الإسلام. فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فخالفه وأسلم.

فقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، فخالفه وهاجر، فقعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة.

ص: 149

فهكذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة، وقولوا له في نفسه: أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل، وتصير بمنزلته أنت وهو سواء.

أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه، فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم.

واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا: طريقة مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال، وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها.

ثم أقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم، وزينوها في قلوبهم، واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم.

ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه. اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ’ وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وقال رحمه الله يحكيه في التحذير عن إبليس وجنوده:

واعملوا أن أعوانكم على لزوم الثغور مصالحة النفس الأمارة

ص: 150

فأعينوها واستعينوا بها، وأمدها واستمدوا منها، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وابطال قواها ولا سبيل إلى ذلك ألا بقطع موادها عنها.

فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة، وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس المارة، فأنها لا تأمر إلا بما ترونه وتحبونه، ولا تجيئكم بما تكرهونه البتة، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله.

فان أحسنتم من القلب منازعة إلى مملكته، وأردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح، فزينوها وجملوها وأوروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، وقولوا له: ذق طعم هذا الوصال وتمتع بهذه العروس، كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب.

ثم وازن بين لذة هذه المسألة ومرارة تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها، فليست بيوم وتنقضي، وإنما هو حرب متصل بالموت، وقواك تضعف عن حرب دائم.

واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:

أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه.

ص: 151

والثاني: جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم، وحسنوها في أعينهم وصلوا عليهم بهذين العسكريين، فليس لكم من بني آدم ابلغ منهما، واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة وأقرنوا بين الغافلين.

ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحد خمسة، فإن مع كل واحد من الغافلين شيطانين صاروا أربعة، وشيطان الذكر معهم، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم_ من ذكر الله أو مذاكرة أمره ونهيه ودينه، ولم تقدروا على تفريقهم- فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الأنس البطالين، فقربوهم منهم، وشوشوا عليهم بهم.

وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا أعوانا له على تحصيلها، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصيروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور فاصبروا وأنتم صابروا ورابطوا عليهم بالثغور، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.

واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور، فخذوا عليه طريق الشهوة، ودعوا طريق الغضب، ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب، فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه، ولا تعطلوا ثغرها، فإن من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه وشهوته وامزجوا أحدهما بالآخر، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب، والى الغضب من طريق الشهوة.

ص: 152

واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب فبه قطعت أرحامهم وسفكت دمائهم وبه قتل أحد ابني آدم أخاه واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم والشهوة نار تثور من قلبه وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير.

فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة فان ذلك عنهم نار الغضب والشهوة وقد أمرهم نبيهم بذلك فقال إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أودجه فمن أحس بذلك فليتوضأ وقال لهم إنما تطفأ النار بالماء وقد أوصاهم أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة.

فحولوا بينهم وبين ذلك وأنسوهم إياه واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها الغفلة وأتباع الهوى وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى فإذا رأيتم الرجل لهواه فاهربوا من ظله ولا تدنوا منه.

والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ويعينهم بها على نفسه فيقاتلونه بسلاحه ويكون معهم على نفسه وهذا غاية الجهل.

مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ

مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ

انتهى كلامه رحمه الله بتصرف يسير.

ص: 153

وقال رحمه الله يصف الدنيا:

لَكِنَّ ذَا الإِيمَانِ يَعْلَمُ أَنَّ هَا

ذَا كَالضَّلالِ وَكُلُّ هَذَا فَانِ

كَخَيَالِ طَيْفٍ مَا اسْتَتَمَّ زِيَارَةً

إِلا وَصُبْحُ رَحِيلِهِ بِأَذَانِ

وَسَحَابَةٍ طَلَعَتْ بِيَوْمٍ صَائِفٍ

فَالظِّلُّ مَنْسُوخٌ بِقُرْبِ زَمَانِ

وَكَزَهْرَةٍ وَافَى الرَّبِيعُ بِحُسْنِهَا

أَوْ لامِعًا فَكِلاهُمَا إِخْوَانِ

أَوْ كَالسَّرَابِ يَلُوحُ لِلظَّمْآنِ فِي

وَسَطَ الْهَجِيرِ بِمُسْتَوَى الْقِيعَانِ

أَوْ كَالأَمَانِي طَابَ مِنْهَا ذِكْرُهَا

بِالْقَوْلِ وَاسْتِحْضَارُهَا بِجَنَانِ

وَهِيَ الْغُرُورُ رُؤُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَا

لِيسِ الأُولَى اتَّجَرُوا بِلا أَثْمَانِ

أَوْ كَالطَّعَامِ يَلَذُّ عِنْدَ مَسَاغِهِ

لَكِنَّ عُقْبَاهُ كَمَا تَجِدَانِ

هَذَا هُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَ الرَّسُو

لُ لَهَا وَذَا فِي غَايَةِ التِّبْيَانِ

وَإِذَا أَرَدْتَ تَرَى حَقِيقَتَهَا فَخُذْ

مِنْهُ مِثَالاً وَاحِدًا ذَا شَانِ

أَدْخِلْ بِجَهْدِكَ أَصْبُعًا فِي الْيَمِّ وَانْـ

ص: 154

.. ـظُرْ مَا تَعَلَّقَهُ إِذَا بعَيَانِ

هَذَا هُوَ الدُّنْيَا كَذَا قَالَ الرَّسُو

لُ مُمَثِّلاً وَالْحَقُّ ذُو تِبْيَانِ

وَكَذَاكَ مَثَّلَهَا بِظِلِّ الدَّوْحِ فِي

وَقْتِ الْحَرُورِ لِقَائِلِ الرُّكْبَانِ

هَذَا وَلَوْ عَدَلَتْ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ

عِنْدَ الإِلَهِ الْحَقِّ فِي الْمِيزَانِ

لَمْ يَسْقِ مِنْهَا كَافِرًا مِنْ شَرْبَةٍ

مَاءً وَكَانَ الْحَقُّ بِالْحِرْمَانِ

تَاللهِ مَا عَقَلَ امْرُؤٌ قَدْ بَاعَ مَا

يَبْقَى بِمَا هُوَ مُضْمَحِلِّ فَانِ

هَذَا وَيُفْتِي ثُمَّ يَقْضِي حَاكِمًا

بِالْحِجْرِ مِنْ سَفَهٍ لِذَا الإِنْسَانِ

إِذْ بَاعَ شَيْئًا قَدْرُهُ فَوْقَ الَّذِي

يُعْتَاضُهُ مِنْ هَذِهِ الأَثْمَانِ

فَمَنِ السَّفِيهُ حَقِيقَةً إِنْ كُنْتَ ذَا

عَقْلٍ وَأَيْنَ الْعَقْلَ لِسَّكْرَانِ

وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْقُلُوبَ شَهِدْنَ مِنْ مِـ

نَا كَانَ شَأْنٌ غَيْرَ هَذَا الشَّانِ

نَفْسٌ مِنْ الأَنْفَاسِ هَذَا الْعَيْش إِنْ

قِسْنَاهُ بِالْعَيْشَ الطَّوِيل الثَّانِي

يَا خِسَّةَ الشُّرَكَاءِ مَعْ عَدَمِ الْوَفَا

ص: 155

.. ءِ وَطُولَ جَفْوَتِهَا مِنْ الْهِجْرَانِ

هَلْ فِيكَ مُعْتَبَرٌ فَيَسْأَلُوا عَاشِقٌ

بِمَصَارِعِ الْعُشَّاقِ كُلَّ زَمَانِ

لَكِنْ عَلَى تِلْكَ الْعُيُونِ غِشَاوَةٌ

وَعَلَى الْقُلُوبِ أَكِنَّةُ النِّسْيَانِ

وَأَخُو الْبَصَائِرِ حَاضِرٌ مُتَيَقِّظُ

مُتَفَرِّدٌ عَنْ زُمْرَةِ الْعُمْيَانِ

يَسْمُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّفِيقِ الأَرْفَعِ اَلأَ

عْلَى وَخَلَّى اللِّعْبَ لِلصِّبْيَانِ

وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فَصِبْيَانٌ وَإِنْ

بَلَغُوا سِوَى الأَفْرَادِ وَالْوِحْدَانِ

وَإِذَا رَأَى مَا يَشْتَهِيهُ يَقُولُ مَوْ

عِدُكِ الْجِنَانُ وَجَدَّ فِي الأَثْمَانِ

وَإِذَا أَبَتْ إِلا الْجِمَاحَ أَعَاضَهَا

بِالْعِلْمِ بَعْدَ حَقَائِقِ الإِيمَانِ

وَيَرَى مِن الْخُسْرَانِ بَيْعَ الدَّائِمِ الْـ

بَاقِي بِهِ يَا ذِلَّةَ الْخُسْرَانِ

وَيَرَى مَصَارِعَ أَهْلِهَا مِنْ حَوْلِهِ

وَقُلُوبُهُمْ كَمَرَاجِلِ النِّيرَانِ

حَسَرَاتُهَا هُنَّ الْوُقُودُ فَإِنْ خَبَتْ

زَادَتْ سَعِيرًا بِالْوُقُودِ الثَّانِي

جَاؤُا فُرَادَى مِثْلَ مَا خُلِّقُوا بِلا

ص: 156