المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وصية الإمام الغزالي لبعض إخوانه - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٣

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌وصية الإمام الغزالي لبعض إخوانه

(وصية عظيمة نافعة لمن عمل بها)

‌وصية الإمام الغزالي لبعض إخوانه

، فقال: وإني أوصي هذا الأخ أن يصرف إلى الآخرة همته وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ويراقب سريرته وعلانيته وقصده، وهمته، وأفعاله، وأقواله، وإصداره، وإيراده، أهي مقصورة على ما يقربه إلى الله تعالى ويوصله إلى سعادة الأبد، أو منصرفة إلى ما يعمر دنياه ويصلحها له إصلاحًا منغصًا، مشوبًا بالكدورات، مشحونًا بالغموم والهموم، ثم يختمها بالشقاوة والعياذ بالله؟

فليفتح عين بصيرته ولتنظر نفس ما قدمت لغد، وليعلم أنه لا ناظر لنفسه ولا مشفق سواه.

وليتدبر ما كان بصدده؛ فإن كان مشغولاً بعمارة ضيعة فلينظر: كم من قرية أهلكها الله تعالى وهى ظالمة، فهي خاوية على عروشها بعد إعمالها؟

وإن كان مقبلاً على استخراج ماء، وعمارة نهر؛ فلينظر: كم من بئر معطلة وقصر مشيد بعد عمارتها؟

وإن كان مهتمًا بتأسيس بناء؛ فليتأمل: كم من قصور مشيدة البنيان محكمة القواعد والأركان، أظلمت بعد سكانها؟

وإن كان مهتمًا بعمارة الحدائق والبساتين فليعتبر: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} (44 سورة الدخان، الآيات: 25-27)، وليقرأ:{أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (26 سورة الشعراء، الآيات: 205 - 207) .

وإن كان مشغوفًا - والعياذ بالله - بخدمة سلطان، فليتذكر ما ورد في الخبر أنه ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم؟ فلا يبقى أحد مد لهم دواة أو برى لهم قلمًا فما فوق ذلك إلا حضر، فيجمعون في تابوت من نار، فيلقون في جهنم.

وعلى الجملة، فالناس كلهم إلا من عصم الله نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا عن التزود للآخرة، وأقبلوا على طلب أمرين: الجاه والمال، فإن كان هو في طلب جاه ورياسة،

ص: 47

فليتذكر ما ورد به الخبر: أن الأمراء والرؤساء يحشرون يوم القيامة في صورة الذر تحت أقدام الناس يطؤهم بأقدامهم، وليقرأ ما قال تعالى في كل متكبر جبار.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يكتب الرجل جبارًا وما يملك إلا أهل بيته» . أي: إذا طلب الرياسة بينهم، وتكبر عليهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادًا من حب الشرف في دين الرجل المسلم» .

وإن كان في طلب المال وجمعه فليتأمل قول عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين، الغنى مسرة في الدنيا، مضرة في الآخرة، بحق أقول لكم: لا يدخل الجنة الأغنياء ملكوت السماء.

وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «يحشر الأغنياء يوم القيامة أربع فرق: رجل جمع مالاً من حرام، وأنفقه في حرام، فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حرام، وأنفقه في حلال فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حلال، وأنفقه في حرام، فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حلال، وأنفقه في حلال، فيقال: قفوا هذا، واسألوه؛ لعله ضيع بسبب غناه فيما فرضنا عليه، أو قصر في الصلاة أو في وضوئها، أو ركوعها، أو سجودها، أو خشوعها، أو ضيع شيئًا من فروض الزكاة والحج.

فيقول: لعلك باهيت، واختلت في شيء من ثيابك؟

فيقول: يا رب! ما باهيت ولا اختلت في ثيابي.

فيقول: لعلك فرطت فيما أمرناك به من صلة الرحم، وحق الجيران والمساكين، وقصرت في التقديم والتأخير، والتفصيل والتعديل؟

ويحيط هؤلاء به فيقولون: ربنا أغنيته بين أظهرنا، وأحوجتنا إليه، فقصر في حقنا» .

شِعْرًا:

فَإِنْ يَكَنِ الرَّحْمَنُ أَعْطَاكَ ثَرْوَةً

فَأَصْبَحْتَ ذَا يُسْرٍ وَقَدْ كُنْتَ ذَا عُسْرِ

فَتَابِعْ لَهُ حَمْدًا وَشُكْرًا مَعَ الثَّنَا

يَزِدْكَ وَتَأْمَنْ يَا أُخَيَّ مِنَ الْفَقْرِ

وَأَخْرِجْ لِحَقِّ اللهِ مِنْهَا مُبَادِرًا

لِمَنْ كَانَ ذَا فَقْرٍ قَرِيبٍ وَذِي عُسْرِ

آخر:

ذِهَابُ الْمَالِ فِي حَمْدٍ وَأَجْرٍ

ذَهَابٌ لا يُقَالُ لَهُ ذَهَابُ

ص: 48

فإن ظهر تقصر ذهب به إلى النار، وإلا قيل له: قف! هات الآن شكر كل لقمة، وكل شربة، وكل أكلة، وكل لذة؛ فلا يزال يسأل.

فهذا حال الأغنياء الصالحين المصلحين القائمين بحقوق الله تعالى، أن يطول وقوفهم في العرصات، فكيف حال المفرطين المنهمكين في الحرام والشبهات، المتكاثرين به، المتنعمين بشهواتهم، الذين قيل فيهم:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (102 سورة التكاثر، الآية: 1) .

فهذه المطالب الفاسدة هي التي استولت على قلوب الخلق، فسخرتها للشيطان، وجعلتها ضحكة له، فعليه وعلى كل مستمر في عداوة نفسه أن يتعلم علاج هذا المرض الذي حل بالقلوب.

فعلاج مرض القلوب أهم من علاج مرض الأبدان، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. وله دواءان:

أحدهما: ملازمة ذكر الموت وطول التأمل فيه، مع الاعتبار بخاتمة الملوك وأرباب الدنيا، كيف أنهم جمعوا كثيرا، وبنوا قصورًا، وفرحوا بالدنيا بطرًا أو غرورًا فصارت قصورهم قبورًا، وأصبح جمعهم هباء منثورًا:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (23 سورة الأحزاب، الآية: 38) ، {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} (32 سورة السجدة، الآية: 26) .

فقصورهم وأملاكهم ومساكنهم صوامت ناطقة، تسهد بلسان حالها على غرور عمالها، فانظر الآن في جمعيهم:{هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} (19 سورة مريم، الآية: 98) .

شِعْرًا:

إِنَّ الَّذِينَ بَنُو فَطَالَ بُنَاؤُهُمْ

وَاسْتَمْتَعُوا بِالْمَالِ وَالأَوْلادِ

جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَل دِيَارِهِمْ

فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادِ

ص: 49

قال بعضهم:

حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى نَتَوَانَا

وَأَظُنُّ هَذَا كُلَّهُ نِسْيَانَا

وَالْمَوْتُ يَطْلُبُنَا حَثِيثًا مُسْرِعًا

إِنْ لَمْ يَزُرْنَا بُكْرَةً مَسَّانَا

إِنَّا لَنُوعَظُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً

وَكَأَنَّمَا يُعْنِي بِذَاكَ سِوَانَا

غَلَبَ الْيَقِينُ عَلَى التَّشَكُكِ فِي الرَّدَى

حَتَّى كَانَا قَدْ نَرَاهُ عِيَانَا

يَا مَنْ يَصِيرُ غَدًا إِلَى دَارِ الْبَلَى

وَيُفَارَقُ الإِخْوَانَ وَالْخِلانَا

إِنَّ الأَمَاكِنَ فِي الْمَعَادِ عَزِيزَةٌ

فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ إِنْ عَقَلْتَ مَكَانَا

الدواء الثاني: تدبر كتاب الله، ففيه شفاء ورحمة للمؤمنين.

وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بملازمة هذين الواعظين بقوله: «فقد تركت فيكم واعظين: صامتًا وناطقًا؛ الصامت الموت، والناطق القرآن» .

وقد أصبح أكثر الناس أمواتًا عن كتاب الله تعالى، وأن كانوا أحياء في معايشهم، وبكمًا عن كتاب الله، وإن كانوا يتلونه بألسنتهم؛ وصمًا عن سماعه، وإن كانوا يسمعونه بآذانهم؛ وعميًا عن عجائبه، وإن كانوا ينظرون إليه في صحائفهم؛ وأميين في أسراره، ومعانيه، وإن كانوا يشرحونه في تفاسيرهم.

فاحذر أن تكون منهم، وتدبر أمرك، من لم يتدبر كيف بقوم ويحشر؟

وانظر في أمرك وأمر من لم ينظر في نفسه، كيف خاب عند الموت وخسر؟ واتعظ بآية واحدة من كتاب الله تعالى، ففيها مقنع وبلاغ لكل ذي بصيرة؛ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (63 سورة المنافقين، الآية: 9) إلى آخرها. وإياك ثم إياك، أن تشتغل بجمع المال فإن فرحك به ينسيك عن ذكر الآخرة وينزع حلاوة الإيمان من قلبك.

شِعْرًا:

أَتَطمَعُ أَنْ تُخَلَدَ لا أَبَالَكْ

أَمِنْتَ مِنَ الْمَنِيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ

ص: 50

فَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِهُجُومِ مَوْتٍ

يُشَتَّتُ بَعْدَ جَمْعِهُمْ عِيَالَكْ

كَأَنِّي بِالتُّرَابِ عَلَيْكَ يُحْثَى

وَبِالْبَاكِينَ يَقْتَسَمُونَ مَالَكْ

آخر:

أَلا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا

فَاخْبِرْهُ بِمَا فَعَلَ الْمَشِيبُ

قال عيسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بحلاوة إيمانكم وهذا ثمرته بمجرد النظر فكيف عاقبة الجمع والطغيان والبطر انتهت الوصية.

شِعْرًا:

اذْكُرِي الْمَوْتَ لَدَى النَّوْمِ وَلا

تَغْفُلِي عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْهُبُوبْ

وَاذْكُرِي الْوِحْشَةَ فِي الْقَبْرِ فَلا

مُؤنِسٌ فِيهَا سِوَى تَقْوَى الْقُلُوبْ

قَدِّمِي الْخَيْرَ احْتِسَابًا فَكَفَى

بَعْضُ مَا قَدَّمْتِ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبْ

رَاعَنِي فَقْدُ شَبَابِي وَأَنَا

لا أَرَاعُ الْيَوْمَ مِنْ فُقْدِ الْمَشِيبْ

جَنَّ جَنْبَايَ إِلَى بُرْدِ الثَّرَى

حَيْثُ أُنْسَى مِنْ عَدُوٍّ وَصَدِيقْ

آخر:

وَكَمْ ذِي مَعَاصِي نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً

وَمَاتَ وَخَلاهَا وَذَاقَ الدَّوَاهِيَا

تَصَرَّمُ لَذَّاتُ الْمَعَاصِي وَتَنْقَضِي

وَتَبْقَى تِبَاعَات الْمَعَاصِي كَمَا هِيَا

فَوَاسَأتَا وَالله رَاءٍ وَسَامِعٌ

لِعَبْدٍ بِعَيْنِ اللهِ يَغِشى الْمَعَاصِيَا

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ) : ولما نزل الموت بالحسن بن علي رضي الله عنهما قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار. فأخرج فقال: اللهم إني احتسب نفسي عندك فإني لم أصب بمثلها؛ ومن أخلاقهم قلة الضحك وعدم الفرح بشيء من الدنيا بل كانوا ينقبضون بكل شيء حصل لهم من ملابسهم ومراكبها ومناكحها ومناصبها عكس ما عليه أبناء الدنيا العاشقون لها كل ذلك خوفًا أن يكونوا ممن عجل لهم الطيبات في الحياة الدنيا وكيف يفرح بشيء سوى فضل الله ورحمته من هو في السجن محبوس عن لقاء الله عز وجل.

ص: 51

شِعْرًا:

لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ قَصْرٍ

فَسِيحٍ مُنْيَةٍ لِلسَّاكِنِينَا

وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِيِنٍ

يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ووالذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» . وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: عجبت من ضاحك ومن ورائه النار ومن مسرور ومن ورائه الموت.

وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم قال: أتى عبد الرحمن بن عوف بعشائه وهو صائم فقرأ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه وما تعشى وإنه لصائم خرجه الجوزجاني. وقال الحسن: ما ظنك بأقوام قاموا لله على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشًا واحترقت أجوافهم جوعًا صرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن جرها واشتد نضجها.

شِعْرًا:

وَمَا عِظْم الْمُصَابِ فِرَاقُ أَهْلِ

وَلا وَلَدٍ وَلا جَارٍ شَفِيقِ

وَلا مَوْتِ الْغَرِيبِ بَعِيدُ دَارٍ

عَنِ الأَوْطَانِ فِي الْبَلَدِ السَّحِيقِ

وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ فَقْدُ دِينٍ

يَنَالُ بِفَقْدِهِ سُكْنَى الْحَرِيقِ

وروي أن الحسن أمسى صائمًا فأتي بعشاه فعرضت له هذه الآية {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} فقلصت يده وقال: ارفعوه فأصبح صائمًا.

فلما أمسى أتي بإفطاره عرضت له الآية. فقال: ارفعوه. فقلنا: يا أبا سعيد تهلك وتضعف فأصبح اليوم الثالث صائمًا فذهب ابنه إلى يحيى البكاء وثابت

ص: 52

البناني ويزيد الضبي. فقال: أدركوا أبي فإنه هالك فلم يزالوا له حتى سقوه شربة ماء من سويق. وكان كثير من السلف مثل هؤلاء ينغص عليهم ذكر طعام أهل النار وشرابهم طعام الدنيا فيمتنعوا من تناوله أحيانًا لذلك.

وقال ابن أبي ذئب: حدثني من شَهِدَ عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه فقام من مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس.

وقال سرار أبو عبد الله: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه فقال لي: يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله عز وجل وعقابه تمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفس تغل يداها على عنقها وتسحب إلى النار أن لا تبكي ولا تصيح وكيف لنفس تعذب أن لا تبكي.

وقال العلاء بن زياد كان إخوان مطرف عنده فخاضوا في ذكر الجنة والنار فقال مطرف: لا أدري ما تقولون حال ذكر النار بيني وبين الجنة.

وقال عبد الله بن أبي الهذيل: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة وعوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه وقيل له: لو كانت النار خلقت لك ما زادت على هذا، فقال: وهل خلقته إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن والإنس.

أما تقرأ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} ، أما تقرأ:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} ، فقرأ حتى بلغ:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} وجعل يجول في الدار ويبكي حتى غشي عليه.

شِعْرًا:

يَا رَبِّ جُدْ لِي إِذَا مَا ضَمَّنِي جَدَثِي

بِرَحْمَةٍ مِنْكَ تُنْجِيني مِنَ النَّارِ

ص: 53

أَحْسِنْ جِوَارِي إِذَا أَمْسَيْتُ جَارَكَ فِي

لَحْدٍ فَإِنَّكَ قَدْ أَوْصَيْتَ بِالْجَارِ

اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) : ومن أخلاقهم مقت أنفسهم ومحاسنها على الدقيق والجليل، قال مطرف بدعائه في عرفة: اللهم لا تردهم لأجلي. وقال بكر بن عبد الله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم. وقال أيوب السحيتاني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدتي اسمي الذي أضله أهل البصرة. وقال: لو قيل ليخرج شر من في المسجد ما سبقني على الباب أحد.

وكان سفيان الثوري ما ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النَّار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار.

ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت ممن كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة أيطمع لمثلي أن ينجو من النار، فقال: أي والله إني لأرجو ذلك.

وكان سفيان الثوري بهذه الأبيات كثيرًا ما يتمثل:

ص: 54

أَظَرِيفُ إِنَّ الْعَيْشَ كَدَّرَ صَفْوَهُ

ذِكْرُ الْمَنِيَّةِ وَالْقُبُورِ الْهُوَّلِ

دُنْيًا تَدَاوَلَهَا الْعِبَادُ ذَمِيمَةً

شِيبَتْ بِأَكْرَهَ مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ

وَبَنَاتُ دَهْرِ لا تَزَالُ مُلِمَّةً

وَلَهَا فَجَائِعُ مِثْلُ وَقْعِ الْجَنْدَلِ

وجاع مرة جوعًا شديدًا فمر بدار فيها عرس فدعته نفسه على أن يدخل فلم يطوعها ومضى إلى بيته وقدمت له بنته قرصًا فأكله وشرب ماء فتجشى ثم قال:

سَيَكْفِيكَ مِمَّا أُغْلِقَ الْبَابُ دُونَهُ

وَظَنَّ بِهِ الأَقْوَامُ مِلْحٌ بِجُرْدُقِ

وَتَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فُرَاتٍ وَتَغْتَذِي

تُعَارِضُ أَصْحَابَ الثَّرِيدِ الْمَلَبَّقِ

تَجَتَّنِي إِذَا مَا هُمْ تَجشَوْا كَأَنَّمَا

ظَلَلْتَ بِأَنْوَاعِ الْخَبِيصِ الْمُفَتَّقِ

آخر:

إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً

وَخَمْسَ تُمَيْرَاتٍ صِغَارِ كَوَانِزِ

فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خَصْبًا وَنَعْمَةً

وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ عِنْدَ الْهَزَائِزِ

وَكَمْ مُتَمَنَّ عَيْشَنَا لا يَنَالَهُ

وَلَوْ نَالَهُ أَضْحَى بِهِ حَقَّ فَائِزِ

آخر:

خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الطَّوَى وَأَعِفَّةٌ

عَنْ شُبْهِةٍ لا يَعْرِفُونَ حَرَامَا

وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة. وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي.

وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فاثنوا عليه فقال: لو يعلم الناس ما نحن عليه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدًا.

وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورًا ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.

ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ

ص: 55

الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قالت: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والرزق وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معهم رضي الله عنها.

شِعْرًا:

قَوْمٌ مَضَوْا كَانَتْ الدُّنْيَا بِهِمْ نُزَهًا

وَالدَّهْرُ كَالْعِيدِ وَالأَوْقَاتُ أَوْقَاتُ

عَدْلٌ وَأَمْنٌ وَإِحْسَانٌ وَبَذْلُ نَدَى

وَخَفْضُ عَيْشٍ نُقضِّيهِ وَأَوْقَاتُ

مَاتُوا وَعِشْنَا فَهُمْ عَاشُوا بِمَوْتِهِمْ

وَنَحْنُ فِي صُوَرِ الأَحْيَاءِ أَمْوَاتُ

للهِ دَرُّ زَمَانٍ نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ

أَوْدَى بِنَا وَعَرَتْنَا فِيهِ نَكْبَاتُ

جُورٌ وَخَوْفٌ وَذُلٌّ مَا لَهُ أَمَدٌ

وَعَيْشَةٌ كُلُّهَا هَمٌّ وَآفَاتُ

وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ لا أَخْلاقَ لَهُمْ

إِلَى مُدَارَاتِهِمْ تَدْعُو الضَّرُورَاتُ

مَا فِيهِمْ مِنْ كَرِيمٍ يُرْتَجَى لِنَدىً

كَلا وَلا لَهُمْ ذِكْرٌ إِذَا مَاتُوا

لا الدِّينُ يُوجَدُ فِيهِمْ لا وَلا لَهُمُوا

مِنَ الْمُرُوءَةِ مَا تَسْمُو بِهِ الذَّاتُ

واَلصَّبْرُ قَدْ عَزَّ وَالآمَالُ تُطْمِعُنَا

وَالْعُمْرُ يَمْضِي فَتَارَاتٌ وَتَارَاتُ

وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ

زَالَتْ مِنْ النَّاسِ وَاللهِ الْمُرُوآتُ

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعاتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا لجميع المسلمين. اللهم اشف قلوبنا من أمراض المعاصي والآثام واملأها من خشيتك وأقبل بها إلى طاعتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 56

(فَصْلٌ)

ومن أخلاقهم رضي الله عنهم كثرة الحزن والهم كلما تذكروا الموت وسكراته وخوف سوء الخاتمة الذي من أسبابه استيلاء حب الدنيا على القلب وضعف الإيمان والانهماك في المعاصي.

لأنه متى ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا حتى لا يبقى في القلب موضع لحب الله إلا من حيث حديث النفس ولا أثر له في كفها عن السيئات.

وذلك يورث الإكثار من المعاصي والاستمرار فيها حتى يظلم القلب وتراكم عليه ظلمات الذنوب فلا تزال تطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى تصير طبعًا ورينا.

فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ضعف حبه لله لشعوره بفراق الدنيا إذ هي المحبوب الغالب على القلب فيتألم باستشعار فراقها ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهيته من حيث أنه من الله فيخشى أن يفرط من لسانه أو يثور من قلبه شيء يسخط الله عليه.

والذي يفضي إلى مثل هذه الخاتمة غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى أما من كان حب الله تعالى أغلب على قلبه من حب المال والدنيا فهو أبعد عن هذا الخطر العظيم فحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال.

ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين متأثرين بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لا تزن عندهم الدنيا شيئًا ولا يعبؤن بها وإذا حصل لهم شيء منها خرج فورًا ومن أخلاقهم القناعة وحسن الالتجاء إلى الله والثقة له والتوكل عليه في الدقيق والجليل قال بعضهم:

ص: 57

يَا مَنْ لَهُ الْفَضْلُ مَحْضًا فِي بَرِيَّتِهِ

وَهُوَ الْمُؤَمَّلُ فِي الضَّرَاءِ وَالْبَاسِ

عَوَّدَتْنِي عَادَةٌ أَنْتَ الْكَفِيلُ بِهَا

فَلا تَكِلْنِي إِلَى خَلْقٍ مِنْ النَّاسِ

وَلا تُذِلَّ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهِ

وَجْهِي الْمَصُونُ وَلا تَخْفِضْ لَهُمْ رَاسِي

وَابْعَثْ عَلَى يَدِ مَنْ تَرْضَاهُ مِنْ بَشَرٍٍ

رِزْقِي وَصُنْهُوَ عَمَّنْ قَلْبُهُ قَاسِي

فَإِنَّ حَبْلَ رَجَائِي فِيكَ مُتَّصِل

بِحُسْنِ صُنْعِكَ مَقْطُوعًا عَنْ النَّاسِ

آخر:

إِنَّ الْقَنَاعَةَ كَنْزٌ لَيْسَ بِالْفَانِي

فَاغْنَمْ أَُخَيَّ هُدِيتَ عَيْشَهَا الْفَانِ

وَعِشْ قَنُوعًا بِلا حِرْصٍ وَلا طَمَعٍ

تَعِشْ حَمِيدًا رَفِيعَ الْقَدْرِ وَالشَّانِ

لَيْسَ الْغَنِيُّ كَثِيرَ الْمَالِ يَخْزُنَهُ

لِحَادِثِ الدَّهْرِ أَوْ لِلْوَارِثِ الشَّانِي

يُجَمِّعُ الْمَالَ مِنْ حِلٍّ وَمِنْ شُبَهٍ

وَلَيْسَ يُنْفِقُ فِي بِرٍّ وَإِحْسَانٍ

يَشْقَى بِأَمْوَالِهِ قَبْلَ الْمَمَاتِ كَمَا

يَشْقَى بِهَا بَعْدَه فِي عُمْرِهِ الثَّانِي

إِنَّ الْغَنِيَّ غَنِيُّ النَّفْسِ قَانِعُهَا

مُوَفَّرُ الْحَظِّ مِنْ زُهْدٍ وَإِيمَانِ

بَرٌّ كَرِيمٌ سَخِيُّ النَّفْسِ يُنْفِقُ مَا

حَوَتْ بَدَاهُ مِنَ الدُّنْيَا بِإِيقَانِ

مُنَوَّرُ الْقَلْبِ يَخْشَى اللهَ يَعْبُدُهُ

وَيَتَّقِيهِ بِإِسْرَارِ وَإِعْلانِ

مُوَفَّقٌ رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ مُتَّبِعٌ

إِثَرَ الرَّسُولِ بِإِخْلاصِ وَإِحْسَانِ

آخر:

إِنْ كُنْتَ تَرْجُو اللهَ فَاقْتَنِعْ بِهِ

فَعِنْدَهُ الْفَضْلُ الْكَثِيرُ الْغَزِيرْ

مَنْ ذَا الَّذِي تَلْزَمُهُ فَاقَةٌ

وَذُخْرُهُ اللهُ الْغَنِيُّ الْكَبِيرْ

(فَصْلٌ) : قال ابن القيم رحمه الله: من فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًا.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال:

ص: 58

يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه:«لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه» .

فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه.

وإن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علْم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو ومغفرة، وأن إن أحيل على عمله هلك.

فهذا محل أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجائهم كله بعفو الله ورحمته.

وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم.

ومن هنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.

شِعْرًا:

شِعْرًا:

مَا أَنْعَمَ الْعِيشَةُ لَوْ أَنَّ الْفَتَى

يُلْهَمُ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الْوَرَى

وَقَدْ تَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالتُّقَى

لِيَقْتَدِي مِنْ قَصْدُهُ سُبْلَ الْهُدَى

فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا.

وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك، فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا منكسرًا كسرًا فيه جبره، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه،

ص: 59

ولو عمل الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) : وقال رحمة الله تعالى: فائدة قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.

فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل باعتقاده ومحبته لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضوع كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل.

وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه بغيره.

ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضوع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وأحكامه.

وسر ذلك في إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء وفهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.

ولهذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا» . رواه مسلم وغيره.

فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات، والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها.

ص: 60

وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغًا لها ولا قبولاً وجاوزته إلى محل سواه.

كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها وتلج فيه لكن تمر مجتازة لا مستوطنة.

وقال بعضهم: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ولقي حكيم حكيمًا فقال له: لا رأك الله عندما نهاك ولا فقدك حيث أمرك. وقال بشر بن الحارث: بي داء ما لم أعالج نفسي لا أتفرغ لغيري فإذا عالجت نفسي تفرغت لغيري.

وقال: أنا أكره الموت ولا يكره إلا مريب وسأله بعضهم موعظة فقال: ما تقول فيمن القبر مسكنه والصراط جوازه والقيامة موقفه والله مسائله فلا يعلم إلى جنة يصير فينهى أو إلى نار فيعزى فوا طول حزناه وأعظم مصيبتاه زاد البكاء فلا عزاء واشتد الخوف فلا أمن.

شِعْرًا:

تَعَافُ الْقَذَا فِي الْمَاءِ لا تَسْتَطِيعُهُ

وَتَكْرَعُ فِي حَوْضِ الذُّنُوبِ فَتَشْرَبُ

وَتُؤْثِرُ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ أَلَذَّهُ

وَلا تَذْكُرُ الْمُخْتَارَ مِنْ أَيْنَ تَكْسَبُ

وَتَرْقُدُ يَا مِسْكِينَ فَوْقَ نَمَارِقٍ

وَفِي حَشْوِهَا نَارٌ عَلَيْكَ تَلَهَّبُ

فَحَتَّى مَتَى لا تَسْتَفِيقُ جَهَالَةٍ

وَأَنْتَ ابنُ سَبْعِينٍ بِدِينِكَ تَلْعَبُ

ولقد كان بعض الصحابة يؤدي ما عليه من العبادة ولم يكن يكثر من الاستغفار في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى أكثر الصحابي من الاستغفار، فسأله الصحابة في ذلك فقال: لقد كنت آمنًا من العذاب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فلما توفي لم يبق إلا الأمان الثاني وهو الاستغفار.

يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .

وقال عامر بن عبد الله بن قيس: لو أن الدنيا كانت لي بحذافيرها ثم أمرني

ص: 61

الله تعالى بإخراجها كلها لأخرجتها بطيب نفس، وكلن يقول: كم من شيء كنت أحسنه أود الآن إني لا أحسنه وما يغني ما أحسن من الخير إذا لم أعمل به.

وكان يقول: (من جهل العبد أن يخاف على الناس من ذنوبهم ويأمن هو على ذنوب نفسه) .

ويقول بعضهم: طوبى لمن كان صمته تفكرًا وكلامه ذكرًا ومشيه تدبرًا وكان سفيان الثوري يقول: إذا فسد العلماء فمن بقي في الدنيا يصلحهم ثم ينشد:

يَا مَعْشَرُ الْعُلَمَاءِ يَا مِلْحَ الْبَلَدْ

مَا يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحَ فَسَدْ

آخر:

وَرَاعِ الشَّاةَ يَحْمِي الذِّئْبَ عَنْهَا

فَكَيْفَ إِذْ الذِّئَابُ لَهَا رُعَاةُ

بِالْمِلْحِ يَصْلَحُ مَا يَخْشَى تَغَيُّرُهُ

فَكَيْفَ بِالْمِلْحِ إِنْ حَلَّتْ بِهِ الْغِيَرُ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) : وقال بعض العلماء: إخواني اعلموا أن صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم وأن من العلماء رحمة على الناس يسعد من اقتدى بهم وأن من العلماء فتنة على الأمة يهلك من تأسى بهم.

فالعالم إذا كان عاملاً برضوان الله مؤثرًا للآخرة على الدنيا فأولئك خلفاء الرسل عليهم السلام والنصحاء للعباد والدعاة إلى الله فيسعد من أجابهم ويفوز من اقتدى بهم ولهم مثل أجر المتأسين بهم.

وتلا بعض أهل العلم قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

فقال: هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال: إنني من المسلمين إنه خليفة الله.

ص: 62

يا قوم فبمثل هذا العالم اقتدوا به وتأسوا تسعدوا ألا أن صنفًا من العلماء رضوا بالدنيا عوضًا عن الآخرة فآثروها على جوار الله تعالى ورغبوا في الاستكثار منها وأحبوا العلو فيها.

فتأسى بهم عالم من الناس وافتتن بهم خلق كثير أولئك أسوء فتنة على الأمة، تركوا النصح للناس كيلا يفتضحوا عندهم، لقد خسروا وبئسما اتجروا واحتملوا أوزارهم مع أوزار المتأسين بهم فهلكوا وأهلكوا أولئك خلفاء الشيطان ودعاة إبليس أقل الله في البرية أمثالهم.

وقال بعض العلماء: من ازداد بالله علمًا فازداد للدنيا حبًا ازداد من الله بعدًا وقال: إذا كان العالم مفتونًا بالدنيا راغبًا فيها حريصًا عليها فإن في مجالسته لفتنة تزيد الجاهل جهلاً وبفتن العالم يزيد الفاجر فجورًا ويفسد قلب المؤمن.

شِعْرًا:

أُوصِيكُمُ يَا مَعْشَرَ الإِخْوَانِ

عَلَيْكِمْ بِطَاعَةِ الدَّيَّانِ

وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُهْمِلُوا أَوْقَاتَكُمْ

فَتَنْدَمُوا يَوْمًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ

وَإِنَّمَا غَنِيمَةُ الإِنْسَانِ

شَبَابُهُ وَالْخُسْرُ فِي التَّوَانِي

مَا أَحْسَنَ الطَّاعَةَ لِلشُّبَّانِ

فَأَسْعَوْا لِتَقْوَى اللهِ يَا إِخْوَانِي

وَأَعْمِرُوا أَوْقَاتَكُمْ بِالطَّاعَةَ

وَالذِّكْر كُلَّ لَحْظَةٍ وَسَاعَةْ

وَمَنْ تَفُتْهُ سَاعَةْ فِي عُمْرِهِ

تَكُنْ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ فِي قَبْرِهِ

وَمَنْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي شَبَابِهِ

حَتَّى مَضَى عَجِبْتُ مِنْ تَبَابِهِ

وَيَا سَعَادَةَ امْرِئٍ قَضَاهُ

فِي عَمَلٍ يَرْضَى بِهِ مَوْلاهُ

أَحَبَّ رَبِّي طَاعَةِ الشَّبَابِ

يَا فَوْزَهُمْ بِجَنَّةِ الرِّضْوَانِ

فَتُبْ إِلَى مَوْلاكَ يَا إِنْسَانُ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفُوتَكَ الأَوَانُ

وَمَنْ يَقُلْ إِنِّي صَغِيرٌ أَصْبِرُ

ثُمَّ أُطِيعُ اللهَ حِينَ أَكْبُرَ

فَإِنْ ذَاكَ غَرَّهُ إِبْلِيسُ

وَقَلْبُهُ مُغَلَّقٌ مَطْمُوسُ

لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ صَغِيرَا

وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْبِهِ بَصِيرَا

ص: 63

مُجَانِبًا لِلإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ

مُخَالِفًا لِلنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ

مُلازِمًا تِلاوَةَ الْقُرْآنِ

مُسْتَعْصِمًا بِالذِّكْرِ مِنْ نِسْيَانِ

مُرَاقِبًا للهِ فِي الشُّؤُونِ

مُحَاذِرًا مِنْ سَائِرِ الْفُتُونِ

مُجَانِبًا رَذَائِلَ الأَخْلاقِ

مُجَافِيًا كُلا عَدَا الْخَلاقِ

مُحَارِبًا لِنُزْعَةِ الضَّلالِ

وَصَوْلَةِ الأَهْوَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ

فَإِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ بِالنَّجَاةِ

فَاسْلُكْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْهُدَاةِ

يَا مَنْ يَرُومُ الْفَوْزَ فِي الْجَنَّاتَ

بِالْمُشْتَهَى وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ

انْهَضْ إِلَى السَّجَدَاتِ فِي الأَسْحَارِ

وَاحْرِصْ عَلَى الأَوْرَادِ وَالأَذْكَارِ

وَاحْذَرْ رِيَاءَ النَّاسِ فِي الطَّاعَاتِ

فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ

وَاخْتَرْ مِنَ الأَصْحَابِ كُلَّ مُرْشِدِ

إِنَّ الْقَرِينَ بِالْقَرِينَ يَقْتَدِي

وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ دَاءٌ وَعَمَى

تَزِيدُ فِي الْقَلْبِ السَّقِيمَ السَّقَمَا

فَإِنْ تَبِعْت سُنَّةَ النَّبِي

فَاحْذَرْ قَرِينَ السُّوءِ وَالدَّنِي

وَاخْتَرْ مِنَ الزَّوْجَاتِ ذَاتِ الدِّينِ

وَكُنْ شُجَاعًا فِي حِمَى الْعَرِينِ

وَزَوِّدْ الأَوْلادَ بِالآدَابِ

تَحْفَظْ قُلُوبَهُم مِن الأَوْصَابِ

وَهَذِّبِ النُّفُوسَ بِالْقُرْآنِ

وَلا تَدَعْهَا نُهْبَةَ الشَّيْطَانِ

وَاحْرِصْ عَلَى مَا سُنَّةُ الرَّسُولُ

فَهُوَ الْهُدَى وَالْحَقُّ إِذَا أَقُولُ

دَعْ عَنْكَ مَا يَقُولُهُ الضُّلالُ

فَفِيهِ كُلَّ الْخُسْرِ وَالْوَبَالُ

وَأَصْدَقُ الْحَدِيثِ قَوْلُ رَبِّنَا

وَخَيْرُ هَدْيِ اللهِ عَنْ نَبِيِّنَا

يَا أَيُّهَا الْغَفْلانُ عَنْ مَوْلاهُ

انْظُرْ بِأَيِّ سَيِّءٍ تَلْقَاهُ

أَمَا عَلِمْتَ الْمَوْتَ يَأْتِي مُسْرِعًا

وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى

وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مِنْ بَعْدِ الأَجَلْ

إِلا الَّذِي قَدَّمَهُ مِنَ الْعَمَلْ

فَبَادِرِ التَّوْبَةَ فِي إِمْكَانِهَا

مِنْ قَبْل أَنْ تُصَدَّ عَنْ إِتْيَانِهَا

ص: 64

.. يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ مَا هَذَا الْعَمَلْ

إِلَى مَتَى هَذَا التَّرَاخِي وَالْكَسَلْ

لَوْ يَعْلَمُ الإِنْسَانُ قَدْرَ مَوْتِهِ

مَا ذَاقَ طُولَ الدَّهْرِ طَعْمَ قُوتِهِ

مَا لِي أَرَاكَ لَمْ تُفِدْ فِيكَ الْعِبَرْ

وَيْحَكَ هَذَا الْقَلْبُ أَقْسَى مِنْ حَجَرْ

وَأَفْلَسُ النَّاسِ طَوِيلُ الأَمَلِ

مُضَيِّعُ الْعُمْرِ كَثِيرِ الْخَطَلِ

نَهَارُهُ مُمْضِيهِ فِي الْبَطَالَةْ

وَلَيْلَهُ فِي النَّوْمِ بِئْسَ الْحَالَةْ

ادْعُ لَنَا يَا سَامِعًا وَصِيَّتِي

بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ مَعَ الْعَطِيَّةِ

وَلا تُؤَاخِذْنَا عَلَى النِّسْيَانِ

وَلا عَلَى الأَخْطَاءِ وَلا الْعِصْيَانِ

يَا رَبِّ وَاحْفَظْنَا مِنَ الْفَتَّانِ

وَلا تُذِقْنَا حُرْقَةَ النِّيرَانِ

يَا رَبِّ وَانْصُرْنَا عَلَى الأَعْدَاءِ

وَاحْمِ الْحِمَى مِنْ هِيشَةِ الْغَوْغَائِي

وَدِينَكَ احْفَظْهُ مَعَ الأَمَانِ

لِلأَهْلِ فِي الأَقْطَارِ وَالأَوْطَانِ

وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى الْخِتَامِ

وَالشُّكْرُ للهِ عَلَى الإِنْعَامِ

مَا أَعْظَمُ الإِنْعَامَ مِنْ مَوْلانَا

وَأَجْزَلَ الإِفْضَالُ إِذْ هَدَانَا

لِنِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ

وَالاقْتِدَاءِ بِسَيِّدِ الأَنَامِ

ثُمَّ صَلاةُ اللهِ وَالسَّلامُ

مَا نَاحَ طَيْرُ الأيْكِ وَالْحَمَامِ

عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى الْبَشِيرِ

الْهَاشِمِي الْمُجْتَبِي النَّذِيرِ

وَآلِهِ مَا انْبَلَجَ الصَّبَاحُ

وَصَحْبَهِ مَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسماوات أنت الله الأحد لصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 65

(فَصْلٌ)

وحسبك من آثار تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على قوة الثقة بالله وحسن الظن به والتوكل عليه والزهد في الدنيا ما يتجلى بأكمل معانيه في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة. أما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر» .

فقال: عدة الله وعدة رسوله فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير إلا كنت سابقًا، وجاء عمر بنصف ماله حتى دفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال:«ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر» .

قال: خلفت نصف مالي لهم. رواه ابن أبي حاتم من حديث عامر الشعبي وعن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة.

فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان: علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» . أخرجه الترمذي.

وعن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذر رضي الله عنه فخرج عطاؤه ومعه جارية له قال: فجعلت تقضي حوائجه ففضل معها سبعة فأمرها أن تشتري بها فلوسًا قال: قلت لو أخرجته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك قال: إن خليلي عهد لي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

ص: 66

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه» . رواه الطبراني في الكبير.

وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا؟ قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب قالت: غفر الله له ثم سلت سترًا لها فقطعته وجعلت العطاء صررًا وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها ثم رفعت يديها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقًا به.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن عبد العزيز قال: كان للزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه شيء.

وأخرج الحاكم عن أم بكر بنت المسور أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه باع أرضًا له بأربعين ألف دينار فقسمها في بني زهرة وفقراء المسلمين والمهاجرين وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى عائشة رضي الله عنها بمال من ذلك فقالت: من بعث هذا المال قلت: عبد الرحمن بن عوف.

قال: وقص القصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحنو عليكن من بعدي إلا الصابرون سقى الله عوف من سلسبيل الجنة» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وعن نافع أن معاوية رضي الله عنه بعث إلى ابن عمر مائة ألف فما حال الحول وعنده منها شيء. وعن أيوب بن وائل الراسبي قال: قدمت المدينة فأخبرني رجل جار لابن عمر أنه أتى ابن عمر أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من قبل آخر وقطيفة.

ص: 67

فجاء إلى السوق يريد علفًا لراحلته بدرهم نسيئة فقد عرفت الذي جاءه فأتيت سريته فقلت: إني أريد أن أسألك عن شيء أحب أن تصدقيني قلت: أليس قد أتي عبد الرحمن أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من آخر وقطيفة.

قالت: بلى قلت: رأيته يطلب علفًا بدرهم نسيئة قالت: ما بات حتى فرقها فأخذ القطيفة فألقاها على ظهره ثم ذهب فوجهها ثم جاء فقلت: يا معشر التجار ما تصنعون بالدنيا وابن عمر أتته البارحة عشرة آلاف درهم وضح فأصبح اليوم يطلب لراحلته علفًا نسيئة بدرهم.

وكانت زوجاتهم رضي الله عنهم زوجات صالحات تعينهم على تنفيذ المشاريع الخيرية فهذا أبو الدحداح لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} .

قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» . فقال: أرني يدك يا رسول الله فناوله صلى الله عليه وسلم يده الكريمة فقال: اشهد يا رسول الله أني قد أقرضت ربي حائطي. أي البستان وكان له بستان فيه ستمائة نخلة وفي البستان زوجته أم الدحداح وأولاده يسكنونه.

ثم جاء إلى البستان فنادى زوجته يا أم الدحداح قالت: لبيك. قال: أخرجي أنت وأولادك فقد أقرضت ربي عز وجل حائطي فشجعته ونشطته وقالت: ربح بيعك ثم نقلت متاعها وأولادها رضي الله عنهما. فتأمل قوة اليقين فيما عند الله كيف تعمل وتأمل موقف زوجته من عمله هذا.

ولو كانت من نساء الزمان لقالت: أنت مجنون وأقلقت راحته وألبت عليه أولاده وأمه وأباه وقالت: خذوا على يديه. نسأل الله العافية.

وهذا عثمان بن عفان ترد عليه عير له من الشام في وقت نزل فيه البرح

ص: 68

بالمسلمين من الجدب والقحط فإذا هي ألف بعير مسوقة تحمل برًا وزيتًا وزبيبًا.

فجاءه التجار وقالوا: بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنك تعلم ضرورة الناس فيقول حبًّا وكرامة: كم تربحوني على شرائي فيجيبون قائلين الدرهم درهمين فيقول: أعطيت أكثر من هذا فيقولون: يا أبا عمر، وما بقى في المدينة تجار غيرنا وما سبقنا إليك أحد فمن الذي أعطاك.

فيجيب إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة فيقولون: لا، فيشهد الله على أن هذه وما حملت صدقة لله على المساكين والفقراء من المسلمين، فيا ليت أغنياء هذا الزمن تنسخوا من الزكاة فقط ولكن هيهات أن يتغلبوا على النفس والشيطان والدنيا والهوى.

اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما أصاب أرضًا بخيبر أتي النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عني منه فما تأمرني قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» .

قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل

ص: 69

ولضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه. متفق عليه.

وهذا أبو بكر رضي الله عنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته وقد ربح الكثير من التجارة بعد الإسلام فلما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد بقي له من كل مدخره سوى خمسة آلاف درهم.

لقد أنفق ماله المدخر في افتداء الضعفاء من الموالي المسلمين الذين كانوا يذوقون العذاب ألوانًا من ساداتهم الكفار كما أنفقه في بر الفقراء والمعوزين، فليعتبر بذلك معشر الحراس للأموال.

وقد حدث أن جاء عامل عمر بالبحرين أبو هريرة بمال كثير وروايته: قدمت من البحرين بخمسمائة ألف درهم فأتيت عمر بن الخطاب مساء فقلت: يا أمير المؤمنين اقبض هذا المال. قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: وتدري كم خمسمائة ألف درهم؟ قلت: نعم مائة ألف خمس مرات. قال: أنت ناعس أذهب الليلة فبت حتى تصبح.

فلما أصبحت أتيته فقلت: اقبض مني هذا المال؟ قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: أمن طيب هو؟ قلت: لا أعلم إلا ذاك. فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس إنه قد جاءنا مال كثير فإن شئتم أن نكيل لكم كلنا وإن شئتم أن نعد لكم عددنا وإن شئتم أن نزن لكم وزنا.

فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين دون الدواين يعطون عليها فاشتهى عمر ذلك ووزعها على المسلمين كلها.

وذكر بعض المفسرين أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس فصلى الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت

ص: 70

وفات وقت الصلاة ولم يخبروه بذلك هيبة له فاغتنم لذلك وقال: ردوها علي فاقبل عليها فضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربًا إلى الله وطلبًا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعة الله.

وكان ذلك مباحًا له وبقي منها مائة فرس فلما عقرها لله تعالى أبدله الله تعالى خيرًا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب تجري بأمره كيف شاء وإليه يشير قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} .

شِعْرًا:

لا أَجْعَلُ الْمَالَ لِي رَبًا يُصرِفُنِي

لا بَلْ أَكُونُ لَهُ مَوْلاً أُصَرّفُهُ

مَا لِي مِنَ الْمَالِ إِلا مَا تَقَدَّمَنِي

فَذَاكَ لِي وَلِغَيْرِي مَا أُخَلِّفُهُ

آخر:

وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَالِ لَوْلا امْتِهَانُهُ

وَبَيْنَ الْحَصَى الْمَجْمُوع أَوْ كُثُبِ الرَّمْلِ

آخر:

تَمَتَّعْ بِمَالِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ

وَإِلا فَمَا النَّفْعُ إِنْ أَنْتَ مُتَّا

شَقِيتَ بِهِ ثُمَّ خَلَّفْتَهُ

لِغَيْرِكَ بَعْدَكَ فَسُحْقًا وَمَقْتَا

آخر:

فَإِنَّ مَسِيرِي فِي الْبِلادِ وَمَنْزِلِي

هُوَ الْمَنْزِلُ الأَقْصَى إِذَا لَمْ أُقْرَّبِ

وَلَسْتُ وَإِنْ أُذْنِيتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ

خَلاقِي وَلا دِينِي ابْتِغَاءِ الرَّغَائِبِ

وروي أن عمر أرسل مع غلامه بأربعمائة دينار إلى أبي عبيدة بن الجراح وأمر الغلام بالتأني ليرى ما يصنع فيها فذهب بها الغلام إليه وأعطاها له وتأنى يسيرًا ففرقها أبو عبيدة كلها فرجع الغلام لعمر فخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فأرسلها معه إليه وأمره بالتأني كذلك ففعل ففرقها فاطلعت زوجته وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فأعطاهما إياها. فرجع الغلام لعمر وأخبره فسر بذلك. وقال: إخوة بعضهم من بعض.

ص: 71

وروي أن زوجة طلحة بن عبيد الله رأت منه ثقلاً فقالت له: مالك لعله رابك منا شيء فنعتبك قال: لا ولنعم الحليلة للمسلم أنت ولكن اجتمع عندي مالي ولا أدري كيف أصنع قالت: وما يغمك منه أدع قومك فاقسمه بينهم فقال: يا غلام عليَّ بقومي. فكان جملة ما قسم أربعمائة ألف (400000) .

وباع أرضًا من عثمان بسبعمائة فحملها عليه فلما جاء بها قال: إن رجلاً يبيت عنده هذه في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله فبات ورسله تختلف في السكك سكك المدينة حتى أسحروا ما عنده منها فرقوها على الفقراء والمساكين.

الصحابة رضي الله عنهم جمعوا كرمًا وشجاعة وخصالاً حميدة اقرأ آخر سورة الفتح وما ينطبق عليهم رضي الله عنهم ما يلي:

شِعْرًا:

فَهُمْ جَمَعُوا الْعَلْيَاءَ عِلْمًا وَعِفَّةً

وَزُهْدًا وَجُودًا لا يَضِيقُ فُوَاقَا

كَمَا جَمَعَ التُّفَّاحُ حُسْنًا وَنَظْرَةً

وَرَائِحَةً مَحْبُوبَةً وَمَذَاقَا

آخر:

لَهُمْ سَحَائِبُ جُودٍ فِي أَنَامِلِهِمْ

أَمْطَارُهَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالذَّهَبُ

فِي الْعُسْرِ قَالُوا إِذَا أَيْسَرْنَ ثَانِيةِ

قَصَّرْنَ عَنْ بَعْضِ مَا نُعْطِي وَمَا نَهَبُ

حَتَّى إِذَا عَادَ أَيَّامُ الْيَسَارَ لَهُمْ

رَأَيْتَ أَمْوَالَهُمْ فِي النَّاسِ تُنْتَهَبُ

آخر:

هُمُ الْقَوْمُ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا

أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطَوْا أَطَابُوا وَأَجْزَلُ

وَمَا يُدْرِكُونَ التَّابِعُونَ فِعَالَهُمْ

وَإِنْ أَحْسَنُوا فِي النَّائِبَاتِ وَأَجْمَلُوا

آخر:

وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كَالصَّحَابَةْ

بِالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِصَابة

آخر:

وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لَدَيْهِمُ

تَحِيضُ دِمَاءً وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ

وَأَعْجَبُ مِنْهَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ

تَأَجَّجُ نَارًا وَالأَكُفُّ بُحُورُ

وبعث عبد الله بن الزبير إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمال في غرارتين ثمانون ألف ومائة ألف درهم وهي صائمة فجعلت تقسم بين الناس فأمست وما

ص: 72

عندها من ذلك درهم فقالت لجارتها: هلمي فطوري فجاءت بخبز وزيت فقالت لها الجارية: فما استطعت فيما قسمت في هذا اليوم أن تشتري لنا لحمًا بدرهم قالت: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت. هكذا يؤثر الإيمان العميق بما أخبر الله به وبرسوله.

كان سهل بن عبد الله بن يونس التستري ينفق ماله في طاعة الله فجاءت أمه وإخواته إلى عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يشكونه فقالوا: هذا لا يمسك شيئًا ونخشى عليه الفقر فأراد عبد الله أن يعينهم عليه.

فقال له سهل: يا عبد الله أرأيت أن رجلاً من أهل المدينة اشترى ضيعة برستاق (أرض السواد) وهو يريد أن يتنقل إليها أكان يترك بالمدينة شيئًا وهو يسكن الرستاق.

فقال عبد الله بن المبارك: خصمكم يعني أنه أراد أن يتحول على الرستاق لا يترك بالمدينة شيئًا فالذي يريد أن يتحول على الآخرة كيف يترك في الدنيا شيئًا.

شِعْرًا:

بِهَا لِيْلُ فِي الإِسْلامِ سَادُوا وَلَمْ يَكُنْ

كَأَوَّلِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ

هُمُ الْقَوْمِ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا

أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطُوا أَطَابُوا وَأجْزَلُوا

ومن الشعر الذي لا ينطبق إلا على الصحابة رضي الله عنهم ما يلي:

مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقِيتُ سَيِّدَهُمْ

مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي

لا يَنْطِقُونَ عَنِ الْفَحْشَاءِ إِنْ نَطَقُوا

وَلا يُمَارُونَ إِنْ مَارَوْا بِإِكْثَارِ

إِنْ يُسْأَلُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإِنْ خُبِرُوا

فِي الْجُهْدِ أَدْرَكَ مِنْهُمْ طِيبَ أَخْبَارِ

وَإِنْ تَوَدَّدْتَهُمْ لانُوا وَإِنْ شُهِمُوا

كَشَفْتَ إِذْ مَارَ حَرْبٍ غَيْرَ إِغْمَارِ

هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسَارٌ ذُوو حَسَبٍ

سُوَّاسُ مَكْرُمَةً أَبْنَاءُ أَيْسَارِ

آخر:

بِهَا لِيلُ لَوْ عَايَنْتَ فَيْضَ أَكُفِّهَم

لأَيْقَنْتَ أَنَّ الرِّزْقَ فِي الأَرْضِ وَاسِعُ

فائدة سبب البخل ستة أشياء غلبة الشهوات (1) وطول الأمل (2) ورحمة الولد (3) وخوف الفقر (4) وقلة الثقة بمجيء الرزق (5) وعشق المال لذاته (6) فالبخل يتعب نفسه ويحرمها وينفع غيره كما قيل:

ص: 73

شِعْرًا:

يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ

وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ

كَدُودَةِ الْقِزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا

وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ

آخر:

إِذَا كُنْتَ جماعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا

فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ

تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ

فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ

آخر:

وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يَلِمُّ وَفْرًا

لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ

كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ

فَرِيسَتَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ

آخر:

يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ

عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآتِ

إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَطْلُبُنِي

مَا لَيْسَ عِنْدِي لِمَنْ إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ

آخر:

قُلْ لِي بِرَبِّكَ مَاذَا يَنْفَعُ الْمَالُ

إِنْ لَمْ يُزَيِّنْهُ إِحْسَانٌ وَإِفْضَالُ

الْمَالُ كَالْمَاءِ إِنْ تُحْبَسْ سَوَاقِيَهُ

يَأْسَنْ وَإِنْ يَجْر يَعْذُبْ مِنْهُ سِلْسَالُ

تَحْيَا عَلَى الْمَاءِ أَغْرَاسُ الرِّيَاضِ كَمَا

تَحْيَا عَلَى الْمَالِ أَرْوَاحٌ وَآمَالُ

إِنَّ الثَّرَاءَ إِذَا حِيلَتْ مَوَارِدُهُ

دُونَ الْفَقِير فَخَيْرٌ مِنْهُ إِقْلالُ

اللهُ أَعْطَاكَ فَابْذُلْ مِنْ عَطِيَّتِهِ

فَالْمَالُ عَارِيَةٌ وَالْعُمْرُ رَحَّالُ

آخر:

لَقَدْ دَرَجَ الأَسْلافُ مِنْ قَبْلِ هَؤُلاءِ

وَهِمَّتُهمِ نِيلُ الْمَكَارِمِ وَالْفَضْلِ

وَقَدْ رَفَضُوا الدُّنْيَا الْغُرُورَ وَمَا سَعَوْا

لَهَا وَالَّذِي يَأْتِي يُبَادَرُ بِالْبَذْلِ

فَقِيرُهُمْ حُرٌّ وَذُو الْمَالِ مُنْفِقٌ

رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ فِي صَالِحِ السُّبْلِ

لِبَاسُهُمْ التَّقْوَى وَسِيمَاهُمْ الْحَيَا

وَقَصْدُهُمْ الرَّحْمَنُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ

مَقَالُهُمْ صِدْقٌ وَأَفْعَالُهُمْ هُدَىً

وَأَسْرَارُهُمْ مَنْزُوعَةُ الْغِشِّ وَالْغِلِّ

خُضُوعٌ لِمَوْلاهُمْ مُثُولٌ لِوَجْهِهِ

قُنُوتٌ لَهُ سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ مِثْلِ

آخر:

أَيَا نَفْسُ لِلْمَعْنَى الأَجَلِّ تَطَلَّبِي

وَكُفِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي قَدْ تَقَضَّتِ

فَكَمْ أَبْعَدَتْ إِلْفًا وَكَمْ كَدَّرَتْ صَفًا

وَكَمْ جَدَّدَتْ مِنْ تَرْحَةٍ بَعْدَ فَرْحَتِ

فَلَوْ جُعِلَتْ صَفْوًا شُغِلْتُ بِحُبِّهَا

وَلَمْ يَكُ فَرْقٌ بَيْنَ دُنْيَا وَجَنَّةِ

ص: 74

.. لَعُمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ أَخِي حِجَا

فَيَلْهُو بِهَا عَنْ دَارِ فَوْزٍ وَجَنَّةِ

عَنِ الْمَوْطِنَ الأَسْنَى عَنِ الْقُرْبِ وَاللِّقَا

عَنِ الْعَيْشِ كُلِّ الْعَيْشِ عِنْدَ الأَحِبَّةِ

فَوَاللهِ لَوْلا ظُلْمَةُ لَمْ يَطِبْ

لَكَ الْعَيْشُ حَتَّى تَلْتَحِقْ بِالأَحِبَّةِ

اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين، وخصنا منك بالتوفيق المبين، ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه، وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفًا من كل داء، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) : ومن أخلاقهم توصية بعضهم بعضًا بما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة: ودع ابن عون رجلاً فقال له: عليك بتقوى الله فإن المتقي ليست عليه وحشة.

وقال زيد بن أسلم: كان يقال من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا.

وكانت أعمالهم بعيدة عن الرياء عملاً بقوله تعالى في الصدقات {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:(ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، كان الربيع بن خيثٍم لا يطلع على عمله إلا أهل بيته ودخل عليه رجل وهو يقرأ في المصحف فغطاه بكمه.

شِعْرًا:

إِذَا وَاتَاكَ مِنْ مَوْلاكَ خَمْسٌ

فَلا تَأْسَفْ عَلَى شَيْءٍ يَفُوتُ

حِجىً وَسَلامَةٌ وَلِبَاسُ تَقْوَى

وَدِينٌ غَيْرَ مَدْخُولٍ وَقُوتُ

آخر:

جَمَالُ أَخِي النُّهَى كَرَمٌ وَتَقْوَى

وَلَيْسَ جَمَالهُ عَرْضًا وَطُولا

وكان ميمون بن مهران يقول لأصحابه قولوا ما أكره في وجهي فإن

ص: 75

الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره وكان يقول يا أهل القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الربح في الدنيا اطلبوا الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة.

وبالتالي فإن الانهماك في الدنيا قد شمل أصناف الخلق لقلة معرفتهم بالله تعالى إذ لا يحب الله إلا من عرفه فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازداد حبه له، وكلما فكر في نعم الله عليه قوى حبه لربه، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.

ولهذا قال الله تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله ورسوله ومن المجاهدة لأعلاء كلمة الله فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله.

ولهذا قال حتى يأتي الله بأمره وهذا وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ شنيعٌ للمنهمكين في طلب الدنيا المؤثرين لها ولأهلهم وقرابتهم وعشيرتهم على الله ورسوله والجهاد في سبيله أفلا يعتبر اللبيب وينظر كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غيرت الأرض ببلائها وكم غيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف المخلوقين.

وما أكثر من أخذت الدنيا بقلبه وقالبه وصار عبدًا لها في ليله ونهاره ضاعت أوقاته النفيسة في الركض خلفها يجمعها لمن يخلفه عليها وصار هو بالحقيقة حارسًا خادمًا محاميًا بجازته وكسوته وسكناه فقط ولا شكر ولا ثناء ولا مروءة وتأمله وصفًا مطابقًا لأغنياء أهل هذا الزمن تكون بذلك مصدقًا متعجبًا وان كنت موفقًا قلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم، اللهم عافهم

ص: 76

ولا تبتلينا واستعملت ما عندك فيما يقرب إلى الله والدار الآخرة وسألت الله أن يثبتك على الإيمان وأن يزيغ قلبك بعد إذ هداك وأن يهب لك من لدنه رحمة وأن يهيئ لك من أمرك رشدًا.

شِعْرًا:

وَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَكُنْ لَهُ

مِن اللهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ

فَإِنْ تُعْجِبُ الدُّنْيَا رِجَالاً فَإِنَّهَا

مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالزَّوَال قَرِيبُ

آخر:

يُحْصِي الْفَتَى مَا كَانَ مِنْ نَفَقَاتِهِ

وَيُضِيعُ مِنْ أَنْفَاسِهِ مَا أَنْفَقَا

وَكَأَنَّمَا دُنْيَا ابْنِ آدَمَ عِرْسُهُ

أَخَذَتْ جَمِيعَ تُرَاثِهِ إِذْ طَلَّقَا

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

«موعظة» : عباد الله نحن في زمن لا نسيء إذا عددنا أهله من ضعفاء المتدينين الذي غلبت عليهم المداهنة، والتملق، والكذب، راجع حال السلف المؤمن حقًا وانظر حالنا اليوم، تعجب من الفرق المبين.

كان هذا المال بأيديهم بكثرةٍ، ومع ذلك لا يدور عليه الحول، لأنهم نصب أعينهم قوله تعالى:{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، وقوله تعالى:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

مطمئنين على قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} كانوا إذا وصل إليهم المال يصيبهم قلق حتى يتصدقوا به على حد.

شِعْرًا:

لأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ بِهِ

إِنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف

وَلا أَذُمُّكَ إِنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ

فَالرَّزْقُ بِالْقَدَرِ الْمَحْتُوم مَصْرُوفُ

ص: 77

آخر:

لا تَيْأَسَنَّ إِذَا مَا ضِقْتَ مِنْ فَرَجٍ

يَأْتِي بِهِ اللهُ فِي الرَّوْحَاتِ وَالدُّلَجِ

وَإِنْ تَضَايَقَ بَابٌ عَنْكَ مُرْتَتِجٌ

فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ بَابًا غَيْرَ مُرْتَتِجِ

فَمَا تَجَرَّعَ كَأْسَ الصَّبْرِ مُعْتَصِمٌ

بِاللهِ إِلا أَتَاهُ اللهُ بِالْفَرَجِ

آخر:

قَالَتْ طُرَيْفَةُ لا تَبْقَى دَرَاهِمُنَا

وَمَا بِنَا صَلَفٌ فِيهَا وَلا خَرَقُ

لَكِنْ إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا دَرَاهِمُنَا

ظَلَّتْ إِلَى طُرُقِ الْمَعْرُوفِ تَسْتَبِقُ

لا يَأْلَفُ الدِّرْهَمْ الْمَضْرُوبُ صُرَّتَنَا

لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَهُوَ مُنْطَلِقُ

آخر:

أَلَمْ تَرَى أَنَّ الْمَالَ يُهْلِكُ أَهْلَهُ

إِذْ جَمَّ آتِيهِ وَسُدَّتْ طَرِيقُهُ

وَمَنْ جَاوَزَ الْمَاءَ الْغَزِيرَ مَسِيلُهُ

وَسُدَّتْ مَجَارِي الْمَاءِ فَهُوَ غَرِيقُهُ

وجاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش، ذهبت المكارم إلا من التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارًا بالجنة أشهدك أني جعلت ثمنها في سبيل الله، تأمل سيرة الرجال الذين عرفوا الدنيا حقيقة لعلك تقتدي بهم فتربح الدنيا والآخرة.

وكانوا إذا عرض لهم أحد وأبدى لهم احتياجه يرون غفلتهم عنه من النقائض والعيوب الفاحشات على حد قول الشاعر:

وَتَرْكِي مُوَاسَاة الأَخِلاءِ بِالَّذِي

تَنَالُ يَدِي ظُلْمٌ لَهُمْ وَعُقُوقُ

وَإِنِّي لأَسْتَحِيي مِن اللهِ أَنْ أُرَى

بِحَالِ اتِّسَاعٍ وَالصَّدِيقُ مُضَيَّقُ

آخر:

خَلِيلٌ أَتَانِي نَفْعُهُ وَقْتَ حَاجَتِي

إِلَيْهِ وَمَا كُلُّ الأَخِلاءِ يَنْفَعُ

آخر:

يَرَى الْمَرْءُ أَحْيَانًا إِذَا قَلَّ مَالُهُ

مِنَ الْخَيْرِ أَبْوَابًا فَلا يَسْتَطِيعُهَا

وَمَا إِنْ بِهِ بُخْلٌ وَلَكِنَّ مَالَهُ

يُقَصِّرُ عَنْهَا وَالْبَخِيلُ يُضِيعُهَا

أين هذا وأين حالنا اليوم وقد بخلنا بحق المال الزكاة وهي حق الفقراء والمساكين..... الخ.

ص: 78

وكانوا إذا فاتتهم تكبيرة الإحرام مع الأمام ربما غشي عليهم من ألم هذا المصاب العظيم وكانوا يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام ومن باب أولى وأحرى من فاتته الجماعة أو الجمعة.

أين هذا من حالب مجتمعنا اليوم الذي ترى الكثير منهم يجافي عليه الباب ويشرب الشاي والدخان أبا الخبائث والناس يصلون.

وكثير من الذين يصلون مع الجماعة تجدهم يحرصون على الإتيان إذا ظنوا أنها أقيمت الصلاة ويقصدون النقارين الذين لا يتركون في الصلاة ولا يطمئنون فيها ولا يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة التي لا صلاة لمن لم يقرأ بِهَا ولا يتمكن من الإتيان بالتشهد كاملاً.

فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنهم لا يفهمون الصلاة ولا المقصود منها ولو فهموها تماما لصارت قرة أعينهم ولا استراحوا بها واستعانوا بها على الدين والدنيا.

وكانوا أي السلف ممن يحن إلى بيت الله يتمتعون به في كل عام، ولذلك تعد لأحدهم أربعين حجة، وأزيد، أين هذا ممن يسافرون على بلاد الكفرة بلاد الحرية محكمة القوانين أعداء الإسلام وأهله، ويوالونهم بل ويدرسون عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم قد تبرأ من المقيم بين أظهر المشركين إذا كان يقدر على الخروج من بين أظهرهم ولكن نسال اله العافية {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .

ومع ذلك يبعثرون الفلوس العظيمة، التي سيناقشون عنها داخلة وخارجة ضد ما عليه آباؤهم من هجران من جاء من بلاد الكفر غير مهاجرٍ قال صلى الله عليه وسلم:«أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين» . وقال: «من جامع المشركين وسكن معهم فإنه مثلهم» . بلغ يا أخي من يدرسون على الكفار والعياذ بالله.

ص: 79

وكان السلف يشتاقون إلى الصيام، وبعضهم يصومون ستة أيام من شوال، وثلاثة من كل شهر، ويوم الاثنين والخميس، وبعضهم يصوم كصيام داود عليه السلام، يوم يصوم ويوم يفطر.

أما نحن فيا ليته يسلم لنا رمضان من المفسدات والمنقصات وهيهات، وكانت المساكن لا تهمهم يسكنون فيما تيسر.

عن مالك بن دينار أنه رجلاً يبني دارًا وهو يعطي العمال الأجرة فمد يده فأعطاه درهمًا فطرح الدرهم في الطين فتعجب الرجل وقال: كيف تطرح الدرهم في الطين.

فقال: أعجب مني أنت طرحت كل دراهمك في الطين يعني ضيعتها في البناء، ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالعلا بن زياد فرأى سعة داره فقال له ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج.

وكان نوح عليه السلام في بيت من شعر ألف سنة فقيل له: يا رسول الله لو اتخذت بيتًا من طين تأوي إليه قال: أنا ميت فلم يزل فيه حتى فارق الدنيا. وقيل: إنه قال: بيت العنكبوت كثير من يموت.

شِعْرًا:

أَرَى الزُّهَّادَ فِي رَوْحٍ وَرَاحَةْ

قُلُوبُهُمُ عَنْ الدُّنْيَا مُزَاحَةْ

إِذَا أَبْصَرْتُهُمْ أَبْصَرْتَ قَوْمًا

مُلُوكُ الأَرْضِ سِيمَتُهُمْ سَمَاحَةْ

وقال أبو هريرة: بئس بيت الرجل المسلم بيت العروس يذكر الدنيا وينسى الآخرة، وكان لشقيق البلخي خص يكون هو ودابته فيه فإذا غزا هدمه وغزا رجع بناه. بلغ يا أخي أهل الفلل والعمائر وقل عن قريب ستسكنون في مسكن ثلاث أذرع فقط ويسد عليكم فيه.

شِعْرًا:

تَبْنِي الْمَنَازِلَ أَعْمَارٌ مُهَدَّمَةٌ

مِنَ الزَّمَانِ بِأَنْفَاسٍ وَسَاعَاتِي

ص: 80

آخر:

أَمَّا بُيُوتُكَ فِي الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ

فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَتَّسِعُ

السلف كانوا إذا سمعوا الموعظة، أو مروا بحدادٍ يوقد نارًا، صعقوا وربما مكثوا بلا وعي، أيامًا، أو أشهرًا متتالياتٍ، وقد سمعت بأناس قتلتهم المواعظ أما نحن فتتلى علينا الآيات من كتاب الله ولا كأنها مرت قلوبنا من الانهماك بالدنيا والغفلة أصبحت لا تؤثر فيها العظات.

كانوا يتعاونون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويلتفتون كتلة واحدة ويأخذون على يد السفيه أما نحن فنثبط ونقول لمن يريد المساعدة ما أنت بملزم اتركهم.

السلف كانوا ينصحون أهل المعاصي، ويهجرونهم، إذا أصروا على المعاصي واو كانوا ممن لهم منزلة ومكانة في قلوب كثير من أهل الدنيا وكانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم وهممهم عالية وأنفسهم رفيعة لا يخشون إلا لله لا يتملقون ولا يداهنون ولا يخضعون غلا لله، قال بعضهم

شِعْرًا:

يَا مَنْ خَلا بِمَعَاصِي اللهِ فِي الظُّلَمِ

فِي اللَّوْحِ يُكْتَبُ فِعْلَ السُّوءِ بِالْقَلَمِ

بِهَا خَلَوْتَ وَعَيْنُ اللهِ نَاظِرَةُ

وَأَنْتَ بِالإِثْمِ مِنْهُ غَيْرًُ مُكَتَتِمِ

فَهَلْ أَمِنْتَ مِنَ الْمَوَلَى عُقُوبَتَهُ

يَا مَنْ عَصَى اللهَ بَعْدَ الشَّيْبِ وَالْهَرَمِ

آخر:

قَالُوا نَرَى نَقَرًا عِنْدَ الْمُلُوكِ سَمَوْا

وَمَا لَهُمْ هِمَّةٌ تَسْمُوا وَلا وَرَعُ

وَأَنْتَ ذُو هِمَّةٍ فِي الْفَضْلِ عَالِيَةٍ

فَلَمْ ظَمِئْتَ وَهُمَ فِي الْجَاهِ قَدْ كَرَعُوا

فَقُلْتُ بَاعُوا نُفُوسًا وَاشْتَروا ثَمَنًا

وَصُنْتُ نَفْسِي فَلَمْ أَخْضَعْ كَمَا خَضَعُوا

قَدْ يُكْرَمُ الْقِرْدُ إِعْجَابًا بِخِسَّتِهِ

وَقَدْ يُهَانُ لِفَرْطِ النَّخْوَةِ السَّبُعُ

هذا الذي كان من سلفنا الكرام نحو أهل المعاصي والمنكرات.

أما نحن فنتركهم ونقول ذنوبهم على جنوبهم، وربما جالسناهم،

ص: 81

وواكلناهم، وعظمناهم، كما يسمع الكثير يقولون للمهاجر بالمعاصي كشارب الدخان، وحالق اللحية، ومستعمل آلات اللهو، يا معلم يا أستاذ يا سيد والواجب هجرة ليرتدع فإنا لله وإنا إليه راجعون.

شِعْرًا:

عُرَى الأَعْمَارِ يَعْلُوهَا انْفِصَامُ

وَأَمْرُ اللهِ مَا مِنْهُ اعْتِصَامُ

سَوَاءٌ فِي الثَّرَى مَلِكٌ وَعَبْدٌ

ثِوَى النَّعْمَانُ حَيْثُ ثَوَى عِصَامُ

أَعِدَّ لِمَوْقِفِ الْعَرْضِ احْتِجَاجًا

لَعَلَّكَ لَيْسَ يَقْطَعُكَ الْخِصَامُ

وَلا يَعْظُمْ سِوَى التَّفْرِيطِ خَطْبٌ

عَلَيْكَ فَإِنَّهُ الْخَطْبُ الْعِظَامُ

ابِنْ لِي هَلْ تُبَارِزْ أَمْ تُوَلِّي

إِذَا شَرَكْتَ بِكَ الْحَرْبُ الْعُقَامُ

وَلَمْ تَعْرَفْ وَقَدْ فَجِئَ انْتِقَالٌ

أَغَفْرٌ لِلذُّنُوبِ أَمْ انْتِقَامُ

تَوَقَّ مِن السِّفَار عَلَى اغْتِرَارِ

فَلَيْسَ لِسَاكِنِي الدُّنْيَا مَقَامُ

وَإِنَّ الْمَوْتَ لِلأَتْقَى شِفَاءٌ

كَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ لَهُ سَقَامُ

حَذارِ حَذَارِ إِنَّكَ فِي بِحَارٍ

مِنَ الدُّنْيَا طَمَتْ فَلَهَا التِّطَامُ

وَتَعْلَمُ أَنَّهَا تُرْدِي يَقِينًا

وَمِنَّا فِي غَوَارِبِهَا اقْتِحَامُ

وَإِنَّ مِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ أَمَرَّتْ

مَوَارِدُهَا وَإِنْ كَثُرَ الزِّحَامُ

آخر:

هُوَ الزَّمَانُ فَلا عَيْشٌ يَطِيبُ بِهِ

وَلا سُرُورٌ وَلا صَفْوٌ بِلا كَدَرِ

يَجْنِي الْفَتَى فَإِذَا لِيمَتْ جَنَايَتُهُ

أَحَال مِنْ ذَنْبِهِ ظُلْمًا عَلَى الْقَدَرِ

وَكُلُّ يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ يُعْجِبُنَا

فَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْعُمُرِ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.

(فَصْلٌ) : ومن الناس من يغلب على قلبه عند الموت حب شهوة من شهوات الدنيا فيكون استغراق قلبه صارفًا وجهه إلى الدنيا.

فإن اتفق قبض الروح حالة غلبة الدنيا فالأمر خطير لأن المرء يموت على ما عاش عليه كما انه يبعث على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب تضاد الصفة التي غلبت عليه لأن ذلك بالأعمال الصالحات وقد انقطع

ص: 82

بالموت ولا أمل بالرجوع إلى الدنيا ليتدارك ذلك وعند ذلك تعظم الحسرة.

ويشد الندم وكم غرت الدنيا من مخلد إليها وصرعت من مكب عليها فلم تنعشه من عثرته ولم تنقذه من صرعته ولم تشفه من ألمه ولم تبرئه من سقمه.

شِعْرًا:

بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمَنْعَةٍ

مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ

فَلَمَّا رَأَى أَنْ لا نَجَاةَ وَأَنَّهُ

هُوَ الْمَوْتُ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ

تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ

عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ

آخر: في التحذير عن الدنيا:

أَمُّ دَفْرٍ فِي غُرُورٍ تَتْجَلي

كَعَرُوسٍ زَيَّنَتْهَا مُسْرِفَاتْ

تَخْدَعِ الْغِرَّ وَعَنْهَا يَرْعَوِي

عَارِفٌ يَسْمُو بِإِشْرَاقِ الصِّفَاتْ

ابْتَعدْ مَا عِشْتَ عَنْ زِينَاتِهَا

وَالْزَمِ التَّقْوَى إِلَى يَوْمِ الْوَفَاةْ

آخر:

يسَرَّ الْفَتَى بِالْعَيْشِ وَهُوَ مُبِيدُهُ

وَيَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَمَا هِيَ دَارُهُ

وَفِي عِبرِ الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ وَاعِظٌ

إِذَا صَحَّ فِيهَا فِكْرهُ وَاعْتِبَارُهُ

فَلا تَحْسَبنْ يَا غَافِلُ الدَّهْرِ صَامِتًا

فَأَفْصَحُ شَيْءٍ لَيْلُه وَنَهَارُهُ

أَصِخْ لِمُنَاجَاةِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ

سَيُغْنِيكَ عَنْ جَهْرِ الْمَقَالِ سِرَارُهُ

أَدَارَ عَلَى الْمَاضِينَ كَأْسًا فَكُلُّهُمْ

أُبِيحَتْ مَغَانِيهِ وَأَقْوَتْ دِيَارُهُ

وَلَمْ يَحْمِهم مِنْ أَنْ يُسَقَّوْا بِكَأْسِهِمْ

تَنَاوُشُ أَطْرَافِ الْقَنَا وَاشْتِجَارُهُ

آخر:

أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ

وَأَبَلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ

فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ

وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ

وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ

تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ

ولهذا سببان أحدهما كثرة المعاصي والآخر ضعف الإيمان وذلك أن مقارفة المعاصي من غلبة الشهوات ورسوخها في اللب بكثرة الإلف والعادة، وكل ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه غالبا عند الموت.

ص: 83

فعليك بالإكثار من ذكر الله، وتلاوة كتابه، والاستغفار من الذنوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم القوي العزيز.

شِعْرًا:

لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ

أمِضَى الحَيَاةَ بَتَسْبِيْحٍ وَتَهْليْل

آخر:

وَمَنْ عَرَفَ الأَيَّامَ مَعْرِفِتْي بِهَا

وَبِالنَّاسِ أَمْضَى وَقْتَهُ فِي الْعِبَادَةِ

وَأَعْرَضَ عَنْ قِيلَ وَقَالٍ وَجَلْسَةٍ

مَعَ الْمُشْغِلِي أَوْقَاتِهِمْ فِي الْمَضرَّةِ

وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الإِلَهِ وَحَمْدِهِ

وَشُكْرٍ لَهُ وَقْتَ الْهَنَا وَالْمَسَاءَةِ

فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر كان أكثر ما يحضره غالبا ذكر الله وطاعته وإن كان إلى المعاصي أكثر غلب ذكرها على قلبه عند الموت فربما تفيض روحه عند غلبة معصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويذهل عن الله وحسن الظن به لاشتغاله بما تقيد به نسال الله العافية.

فالذي غلبت طاعته على معاصيه بعيد عن هذا الخطر بإذن الله، والذي غلبت عليه المعاصي وكان قلبه بها افرح من الطاعات يخشى عليه وخطره عظيم جدا.

ومن أراد السلامة من ذلك فلا سبيل له إلا المجاهدة والصبر طول العمر في فطام نفسه عن الشهوات محافظة على القلب منها ويكون طول عمره مواظبًا على الأعمال الصالحة مكثرًا لذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضجعًا وماشيًا وان كان يحفظ القرآن وشيئًا منه فليداوم عليه بتدبرٍ وتفهمٍ ليستفيد حفظًا وفهمًا وأجرًا.

وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت وشدائده فإن المرء يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه.

ويعرف ذلك أي أن ما ألفه طول عمره يعود ذكره عند الموت بمثالٍ، وهو أن الإنسان لا شك انه يري في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره

ص: 84

فالذي قضي عمره في طلب العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء ورؤيته بعضهم وبعض كتب العلم والذي قضى عمره في النجارة يرى من الأحوال المتعلقة بها.

والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط والذي قضى حياته في الفلاحة يرى الأحوال المتعلقة بالفلاحة والفلاحين.

والذي قضى عمره في الفساد والفجور يرى في منامه الأحوال المتعلقة بالفجور ويرى الفسقة مثله وأعمالهم من لواط أو زنا أو سرقة أو مسكر أو دخان أو نحو ذلك من المحرمات وقس على ذلك باقي الأعمال.

ووجه ذلك انه إنما يظهر في حالة النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والله اعلم والموت شبيه بالنوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فربما اقتضى ذلك تذكر مألوفة وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لذلك أي ذكره في القلب طول الألف لذلك.

إذا فهمت ذلك فاحذر كل الحذر أن تكون ممن قتلوا أوقاتهم في مقابلة التلفزيون والسينما والمذياع والبكمات والصور ونحو المنكرات المحرمات واحذر تعاطيها بيعا أو شراء فتخسر وقتك ومالك، ونسأل الله السلامة منها ومن جميع المحرمات.

ولذا نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغولا بالحساب الذي طال إلفه له فغلب على لسانه ولم يوفق للشهادتين ويخشى على صاحب المعاصي والمنكرات ومتخذي آلات اللهو من شطرنج وأعواد وأوراق لعب وبكماتٍ واصطواناتٍ وكرةٍ

ص: 85

ومذياعٍ وتلفزيون وسينما وصورٍ ونحو ذلك أن يكون مشغولاً بها في آخر لحظة من حياته فيكون ختام صحيفة ما نطق به لسانه مما يأتي فيها من أغاني وتمثيلياتٍ وصور وفديو ونحوه من المنكرات والمحرمات نعوذ بالله من سوء الخاتمة.

اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا، اللهم وقي أيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا ووفقنا لما تحبه وترضاه وألهمنا ذكرك وشكرك وأعذنا من عدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شِعْرًا:

قَدْ آنَ بَعْدَ ظَلامِ الْجَهْلِ إِبْصَارِي

الشَّيْبُ صُبْحٌ يُنَاجِينِي بِإِسْفَارِ

لَيْلُ الشَّبَابِ قَصِيرٌ فَاسْرِ مُبْتَدِرًا

إِنَّ الصَّبَاح قُصَارَى الْمُدْلِجَ السَّارِي

كَمْ اغْتِرَارِي بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا

أَبْنِي بِنَاهَا عَلَى جُرْفٍ لَهَا هَارِي

وَوَعْدِ زُورٍ وَعَهْدٍ لا وَفَاءَ لَهُ

تَعَلَّمَ الْغَدْرَ مِنْهَا كُلُّ غَدَّارِ

دَارٌ مَآثِمُهَا تَبْقَى وَلَذَّتُهَا

تَفْنَى أَلا قُبِّحَتْ هَاتِيكَ مِنْ دَارِ

فَلَيْتَ إِذْ صَفِرَت مِمَّا كَسَبْتَ يَدِي

لَمْ تَعْتَلِقْ مِنْ خَطَايَاهَا بِأَوْزَارِ

لَيْسَ السَّعِيدُ الَّذِي دُنْيَاهُ تُسْعِدُهُ

إِنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

«موعظة» : عباد الله كلن سلفنا يزور بعضهم بعضًا للمذاكرة للعلم وتذكر الملمات والمهمات يتساءلون عن ما خفي عليهم معناه من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن أورادهم ومقدارها في الصلاة والصيام والأذكار والصدقات وعن الكتب النافعة ليقتنوها والكتب الضارة ليجتنبوها.

هذا مدار مجالسهم لا يخطؤنه ولا يدور لهم غيره على بال أين هذا من

ص: 86

مجالسنا وهي موارد غضب ومقت وغيبة ونميمة وبهت ومداهنةٍ ومصانعةٍ وقذفٍ وتساؤلٍ كم مرتب فلان، وفي إي مرتبة زيد، وكم فلة وعمارة لعمر، وكم دكان لبكرٍ وبكم باع فلان بيته، وما الذي أذيع في الملاهي، وانكباب على المجلات والجرائد حملات الكذب قتلات الأوقات في اللهو وما لا فائدة فيه وأين قضيت العطلة في لبنان أو في أوربا أو في مصر.

كانت أسفار السلف للقاء أحبار الأمة أوعية العلم مهما كانوا بعيدين يتلقون عنهم علم الكتاب والسنة ويتفقهون عليهم في الدين أليس من المؤسف أن يكون أولئك الناس سلفنا وبيننا وبينهم هذا الانفصال.

كان حب بعضهم لبعضٍ وتواددهم وتراحمهم فوق ما يتصور كان يمر المار في بيوتهم فلا يسمع إلا دوي أصواتهم بذكر الله وتلاوة كتابه.

والآن ما تسمع من بيوتنا إلا ما يحرض على الفسق والفجور والعصيان والنشوز والمخاصمات والطلاق والتفرق والقطيعة والعقوق من أغانٍ وألحانٍ من مذياعٍ وتلفزيون وفديو ونحوه من آلات اللهو التي عمت وطمت وابتلى بها الخلق وحطمت الأديان والأخلاق وقضت على الغيرة الدينية.

تنبيه: أنتبه يا من زين له سوء عمله فأتى بكفار خدامين أو سائقين أو مربين أو خياطين أو طباخين وأمنهم على أهله وأولاده ومحارمه أما تعلم أنهم أعداء لله ورسوله والمؤمنين حذر يا أخي عن بثهم بين المسلمين وقل له عملك هذا والعياذ بالله ذنب عظيم نشر للفساد بين المسلمين وجناية عظيمة على من هم أمانة عندك ومصادمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله» ، هذا ما نقدر عليه من النصح وانكار المنكر، نسأل الله العصمة وستظهر ثمرة مخالطة الأجانب واستخدامهم بعد ثمان أو عشر سنوات، الله اعلم فيما أظن وسيندم المستخدمون ونحوهم ندامة عظيمة عندما يتخلق أولادهم وأهليهم

ص: 87

بأخلاق الكفرة والفسقة ويشبون عليها يألفونهم ولغتهم. ولكن لا ينفع الندم حينما يفوت الآوان ويتذكرون نصح الناصح وإهمالهم له.

اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنابك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال ابن القيم رحمه الله:

وَالِي أَوْلي الْعِرْفَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيـ

ـثِ خُلاصَةُ الإِنْسَانِ وَالأَكْوَانِ

قَوْمٌ أَقَامَهُمُوا الإِلَهِ لِحِفْظِ هَـ

ـذَا الدِّينِ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ شَيْطَانِ

وَأَقَامَهُمْ حَرَسًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّـ

ـحْرِيفِ وَالتَتْمِيمِ وَالنُّقْصَانِ

يَزَكٌ عَلَى الإِسْلامِ بَلْ حِصْنٌ لَهُ

يَأْوِي إِلَيْهِ عَسَاكِرُ الْفُرْقَانِ

فَهُمْ الْمحكُّ فَمَنْ يَرَى مُنْتَقِصًا

لَهُمُوا فَزِنْدِيقٌ خَبِيثُ جَنَانِ

قَوْمٌ هُمُوا بِاللهِ ثُمَّ رَسُولِهِ

أَوْلَى وَأَقْرَبُ مِنْكَ لِلإِيمَانِ

شَتَّانَ بَيْنَ التَّارِكِينَ نُصُوصَهُ

حَقًّا لأَجْلِ زُبَالَةِ الأَذْهَانِ

وَالتَّارِكِينَ لأَجْلِهَا آرَاءَ مِنْ

آرَاؤُهُمْ ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ

لَمَّا فَسَا الشَّيْطَانُ فِي آذَانِهِمْ

ثَقُلَتْ رُؤْسُهُمُوا عَنْ الْقُرْآنِ

فَلِذَاكَ نَامُوا عَنْهُ حَتَّى أَصْبَحُوا

يَتَلاعَبُونَ تَلاعُبَ الصِّبْيَانِ

وَالرَّكْبُ قَدْ وَصَلُوا الْعُلا وَتَيَمَّمُوا

مِنْ أَرْضِ طَيْبَةِ مَطْلَعِ الإِيمَانِ

وَأَتَوْا إِلَى رَوْضَاتِهَا وَتَيَمَّمُوا

مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ مَطْلَعِ الْقُرْآنِ

قَوْمٌ إِذَا مَا نَاجِذُ النَّصِّ بَدَا

طَارُوا لَهُ بِالْجَمْعِ وَالْوِجْدَانِ

ص: 88

وَإِذَا هُمُوا سَمِعُوا بِمُبْتَدِعٍ هَذَى

صَاحُوا بِهِ طُرًّا بِكُلِّ مَكَانِ

وَرِثُوا رَسُولَ اللهِ لَكِنْ غَيْرُهُمْ

قَدْ رَاحَ بِالنُّقْصَانِ وَالْحِرْمَانِ

وَإِذَا اسْتَهَانَ سِوَاهُمُ بِالنَّصِّ لَمْ

يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا مِنْ الْخُسْرَانِ

عَضُّوا عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ رَغْبَةً

فِيهِ وَلَيْسَ لَدَيْهِمُ بِمُهَانِ

لَيْسُوا كَمَنْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَقِيقَةً

وَتِلاوةً قَصْدًا لِتَرْكِ فُلانِ

عَزَلُوهُ فِي الْمَعْنَى وَوَلَّوْا غَيْرَهُ

كَأَبِي الرَّبِيعِ خَلِيفَةِ السُّلْطَانِ

ذَكَرُوهُ فَوْقَ مَنَابِرٍ وَبِسِكَّةٍ

رَقَمُوا اسْمَهُ فِي ظَاهِرِ الأَثْمَانِ

وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُّ الْمَطَاعُ لِغَيْرِهِ

وَلِمُهْتَدٍ ضُرَبْتَ بِذَا مَثَلانِ

يَا لِلْعُقُولِ أَيَسْتَوِي مَنْ قَالَ بِالْـ

ـقُرْآنِ وَالآثَارُ وَالْبُرْهَانِ

وَمُخَالِفٌ هَذَا وَفِطْرَةَ رَبِّهِ

اللهُ أَكْبَرُ كَيْفَ يَسْتَوِيَانِ

بَلْ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَى

مَضْمُونِهَا وَالْعَقْلُ مَقْبُولانِ

وَالْوَحْيُ جَاءَ مُصَدِّقًا لَهُمَا فَلا

تَلْقَى الْعَدَاوَةَ مَا هُمَا سِلْمَانِ

فَإِذَا تَعَارَضَ نَصُّ لَفْظٍ وَارِدٍ

وَالْعَقْلُ حَتَّى لَيْسَ يَلْتَقِيَانِ

فَالْعَقْلُ إِمَّا فَاسِدٌ وَيَظُنَّهُ الرَّ

أْيُ صَحِيحًا وَهُوَ ذُو بُطْلانِ

أَوْ أَنَّ ذَاكَ النَّصُّ لَيْسَ بِثَابِتٍ

مَا قَالَهُ الْمَعْصُومُ بِالْبُرْهَانِ

وَنُصُوصُهُ لَيْسَتْ يُعَارِضُ بَعْضُهَا

بَعْضًا فَسَلْ عَنْهَا عَلِيمَ زَمَانِ

وَإِذَا ظَنَنْتَ تَعَارُضًا فِيهَا فَذَا

مِنْ آفَةِ الأَفْهَامِ وَالأَذْهَانِ

أَوْ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لَيْسَ بِثَابِتٍ

مَا قَالَهُ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآنِ

اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حبك وحب من ينفعنا حبه عندك، اللهم وما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغًا لنا فيما تحب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

اللهم اقبل توبتنا واغسل حوبتنا واجب دعوتنا وثبت حجتنا واهد قلوبنا

ص: 89

وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا واجعلنا هداة مهتدين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(موعظة) : عباد الله طاعة الله صلاح في الأرض لهذا أمر الله عز وجل بالطاعات وهذه الطاعات ترضيه سبحانه وتعالى لأنه شكور غفور وهذه الطاعات هي السبب الذي به يكون يسر العباد فيكونون في حياتهم هذه في سعادات وهي التي إذا بعثوا أدخلهم بها الله الجنات، فالناس إذا لزموا طاعة الله نالوا الخير والسعادة بعد الممات وخير ما تزوده المرء تقوى الله.

عن أبي ذر الغفاري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي.

هذا حديث عظيم خاطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أبا ذر أحد السابقين في الإسلام وتلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لما اسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة ورأى من حرصه على المقام معه وعلم أنه لا يقدر على ذلك قال له هذه المقالة.

واشتملت هذه المقالة على أمور ثلاثة جمع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حق الله وحقوق العباد فحق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته والتقوى كلمة جامعة للفضائل والكمالات مانعة من النقائض والرذالات وبعبارة أخرى هي امتثال الأمر واجتناب النهى والوقوف عند الحد الشرعي الذي حده الله ورسوله.

وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين ووصية كل رسول لقومه أن يقولوا اعبدوا الله واتقوه ويجب أن تعلم وأن التقوى في الدارين باب واسع للمتقي الملازم للأدب ينفذ منه أن نزلت بالناس شدائد أو نزل شدة لا مفر

ص: 90

منها وإن شئت فاقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .

إن ربنا الذي بيده أزمة الأمور: بيده الأمر كله في الدنيا والآخرة هو الذي يقول ذلك لا زيد ولا عمرو ولا خالدٌ ولا بكرٌ والتقوى جمال للمرء لا يماثله جمال في نظر الأفاضل المتقين ولقد أحسن من قال:

فَعَلَيْكَ تَقْوَى للهِ فَالْزِمْهَا تَفُزْ

إِنَّ التَّقِيَّ هُوَ الْْبَهِيُّ الأَهِيبُ

وَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا

إِنَّ الْمُطِيعَ لَهُ لَدَيْهِ مُقَرَّبُ

آخر:

إِنَّ التَّقِيَّ إِذَا زَلَّتْ بِهِ قَدَمٌ

يَهْوِي عَلَى فُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالسُّرِرُ

آخر:

يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ

وَيَأْبَى اللهُ إِلا مَا أَرَادَا

يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي

وَتَقْوَى اللهِ أَعْظَمُ مَا اسْتَفَادَا

آخر:

أَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ فِعْلُ الْفَرَائِضْ

وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِقَتْلِ الأَعَادِي

وَرَسُولٌ يُهْدِي إِلَيْكَ نَصِيحَةً

تَنْتَفِعْ فِيهَا أُخَيَّ فِي الْمَعَادَ

آخر:

أَطِعِ الإِلَهَ وَلا تُطِعْ لِهَوَاكَا

إِنَّ الإِلَهَ إِذَا أَطِعْتَ هَدَاكَا

وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَسُودُ وَلَنْ تَرَى

سُبل الرَّشَادِ إِذَا عَصَيْتَ الله

آخر:

وَلا عَيْشَ إِلا مَعْ رِجَالٍ قُلُوبُهُم

تَحُنُّ إِلَى التَّقْوَى وَتَرْتَاحُ لِلذِّكْرِ

وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر اتق الله حيثما كنت أي بأي زمان وجدت وأي مكان أقمت فإن التقوى لا تتقيد بزمان ولا مكان وإنما هي عبادة وإخلاص للرحمن وكف عن محارمه ومكافحة لهوى النفس والشيطان.

وموضعها القلب من كل إنسان على حد قوله صلى الله عليه وسلم: «التقوى هاهنا ويشير إلى صدره» وتظهر آثارها على الجوارح بعمل الطاعات والانكفاف عن المحرمات.

وقال صلى الله عليه وسلم «أن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر

ص: 91

إلى قلوبكم» ، فعلى الإنسان أن يبذل جده واجتهاده في تحسين موضع نظر الله منه ليكون نقيًا طاهرًا خاليًا من الغش والحسد والحقد والظنون السيئة بالمسلمين خاليا من جميع الأمراض النفسية والخلقية فلعل الله ينظر له نظرة قبولٍ ورحمةٍ وعطفٍ وإحسانٍ وامتنانٍ.

يا أبا ذر أمرتك بالتقوى المشتملة على امتثال أمر الله والابتعاد عن محارمه.

وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمير جيشه سعد ابن أبي وقاص يحضه فيه على تقوى الله ويحذره المعاصي فقال وبعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فان تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم فان ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله.

ولولا ذاك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعادتهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعلموا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله.

ولا تقولوا أن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بالمعاصي كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. . .واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل الله تعالى ذلك لي ولكم. . .أهـ.

فتأمل ما كتبه أمير المؤمنين إلى قائد جيشه يأمر بالتقوى ويحذره من المعاصي بأشد المواقف وأحرجها عند مقابلة المسلمين لجيش العدو من

ص: 92

الكفرة المعاندين لعلمه أن تقوى الله أفضل العدة والذخيرة وأقوى عاملٍ لنصرة المسلمين على أعدائهم والغلبة عليهم والظفر بهم.

فتمسك المسلمون بوصية عمر وكانوا كما وصف رجل من الروم المسلمين لرجل من الروم أمير فقال جئتك من عند رجالٍ دقاقٍ يركبون خيولاً عتاقًا أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان لو حدثت جليسك حديثًا ما فهمه عنك لما علا من أصولهم بالقرآن والذكر فالتفت إلى أصحابة وقال أتاكم منهم مالا طاقة لكم به.

شِعْرًا:

هُمُ الرِّجَالُ وَغَبْنٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ

لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَالِي وَصْفِهِمْ رَجلُ

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» لما كان العبد لابد أن يحصل منه تقصير في التقوى ولوازمها أمره صلى الله عليه وسلم بما يدفع ذلك ويمحوه فكأنه عليه الصلاة والسلام قال:

وحيث أن المرء لا يأمن على نفسه من الزلل والخطأ، فإذا ما وقعت منك زلة أو خطيئة فاتبعها بالحسنة فهي ماحية لها مخلصة لك من شرها وأثمها نظير قوله تعالى:{ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ومن أساء إليك فقابله بالإحسان على حد قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .

شِعْرًا:

أَصْدَقُ صَدِيقَكَ إِنْ صَدَقْتَ صَدَاقَةً

وَادْفَعْ عَدُوَّكَ بِالَّتِي فَإِذَا الَّذِي

وهذا من أكرم أخلاق المرء وأجل صفاته فإذا أساء إليك مسيء من الخلق خصوصًا من له حق عليك كالأقارب والأصحاب ونحوهم فقابل إساءته بالإحسان وسواء كانت إساءة قولية أو فعلية فإن قطعك فصله وإن ظلمك فاعف عنه وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فلا تقابله بالإساءة بل اعف عنه وعامله بالقول اللين وإن هجرك وترك خطابك فطيب له الكلام وابذل له السلام كما قيل:

ص: 93

شِعْرًا:

وَأَنْ أَسَاهُ مُسِيٌ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي

عُرُوضُ زَلَّتِهِ عَفْوٌ غُفْرَانُ

آخر:

فَإِنْ جَارَيْتَ ذَا جُرْمِِ بِجُرْمٍ

فَمَا فَضْلُ الْمَصُونِ عَلَى الْمُذَالِ

آخر:

إِذَا سَفَهَ السَّفِيهُ عَلَيْكَ فَاجْعَلْ

سُكُوتَكَ عِنْدَ مِنْ شَرَفَ الْخِصَالِ

فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، كأنه قريب شقيق وهذا فيما إذا كان المتعدي من غير قصدٍ وأهلاً للعفو والمسامحة والمقابلة بالتي هي أحسن والحذر من الكبر والعجب.

شِعْرًا:

كَمْ جَاهِلٍ مُتَوَاضِعٍ

سَتَرَ التَّوَاضُعُ جَهْلَهْ

وَمُمَيِّزٍ فِي عِلْمِهِ

هَدَمَ التَّكَبُّرُ فَضْلَهْ

فَدَعْ التَّكَبُّرَ مَا حَيِـ

ـيتَ وَلا تُصَاحِبْ أَهْلَهُ

فَالْكِبْرُ عَيْبٌ لِلْفَتَى

أَبَدًا يُقَبِّحُ فِعْلَهْ

وأما أن كان من المتغطر سين المتكبرين الذين يزيدهم العفو عتوًا وطغيانًا وتماديًا في ظلمهم وشرهم وبغيهم فاستعمال الشدة والحزم والقسوة أولى ليرتدعوا لأن اللئيم إذا كرمته تمرد وإذا أهنته ربما تأدب واعتدال. وقديما قيل:

إِنَّ الصَّنِيعَةَ لِلأَنْذَالِ تُفْسِدُهُمْ

كَمَا تُضِرُّ رِيَاحُ الْوَرْدَ بِالْجَعَل

آخر:

إِنَّ الْعَبِيدَ إِذَا أَذْلَلْتَهُمْ صَلَحُوا

عَلَى الْهَوَانِ وَإِنْ أَكْرَمْتَهُمْ فَسَدُوا

آخر:

إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ

وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا

فَوَضعُ النَّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلا

مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النِّدَا

إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ

وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} ، مدهم جل وعلا لانتصارهم لأنفسهم ممن بغى عليهم وأردف جل وعلا ذلك بما يدل على أن الانتصار مقيد بالمثل لأن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض فقال:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} .

ص: 94

ونعود إلى الكلام على آخر جملة في الحديث وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «وخالق الناس بخلق حسن» أي من غير تكلف، والخلق صورة الإنسان الباطنة. والخلق الحسن في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم هو أس الفضائل وينبوع المكارم وعين الكمال.

وفي حديث مسلم عنه عليه السلام قال: «البر حسن الخلق» المعنى أن خير خصال البر وأعظمها حسن الخلق نظير قوله عليه السلام «الحج عرفه» وناهيك أن الله سبحانه امتدح محمدًا صلى الله عليه وسلم به لبيان فضله وعلو منزلته وشرفه فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر مهمته التي لأجلها بعث وبها جاء من عند الله تعالى فيقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وقال تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} إلى آخر ما جاء في هذه الآيات وما شاكلها من الآيات ولنا الأسوة الحسنة في قوله وفعله وقد ذكرنا نماذج من حلمه صلى الله عليه وسلم.

وقد ورد في الحدث على حسن الخلق أحاديث كثيرة ومن حسن الخلق لين الجانب والتواضع وعدم الغضب وكف الأذى عنهم والعفو عن مساويهم وأذيتهم ومعاملتهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وبشاشة الوجه ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس المدخل عليه السرور المزيل عنه الوحشة.

ومن الخلق الحسن أن تعامل كل أحد بما يليق به ويناسب حاله ومما يثمره حسن الخلق تيسير الأمور وحب الخلق له ومعونتهم والابتعاد عن أذاه وقلة مشاكله في الحياة مع الناس والمجالسين له واطمئنان نفسه وطيب عيشه ورضاؤه به.

ومن محاسن الأخلاق الصدق والوفاء والشهامة والنجدة وعزة النفس

ص: 95

والتواضع وعلو الهمة والتثبيت والعفو والبشر والرحمة والشجاعة والوقار والورع والصيانة والصبر والحياء والسخاء والنزاهة والقناعة وحفظ السر والعفة والإيثار.

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحها ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله علي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شِعْرًا:

أَسْعَدُنَا مَنْ وَفَقَ الله

لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْهُ يَرْضَاهُ

وَمَنْ رَضِي مِنْ رِزْقِهِ بِالَّذِي

قَدَّرَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ

وَاطَّرَحَ الْحِرْصَ وَأَطْمَاعَهُ

فِي نَيْلِ مَا لَمْ يُعْطِهِ مَوْلاهُ

طُوبَى لِمَنْ فَكَّرَ فِي بَعْثِهِ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُو بِهِ اللهُ

وَاسْتَدْرَكَ الْفَارِطَ فِيمَا مَضَى

وَمَا نَسِي فَاللهُ أَحْصَاهُ

فَالْمَوْتُ حَتْمٌ فِي جَمِيعِ الْوَرَى

طُوبَى لِمَنْ تُحْمِدُ عُقْبَاهُ

وَكُلُّ مَنْ عَاشَ إِلَى غَايَةٍ

فِي الْعُمْرِ فَالْمَوْتُ قُصَارَاهُ

يَعْلَمُهُ حَقًّا يَقِينًا بِلا

شَكٍّ وَلَكِنْ يَتَنَاسَاهُ

كَأَنَّمَا خُصَّ بِهِ غَيْرَنَا

أَوْ هُوَ خَطْبٌ نَتَوَقَّاهُ

وَإِنْ جَرَى ذِكْرٌ لَهُ بَيْنَنَا

قُلْنَا جَمِيعًا قَدْ عَلِمْنَاهُ

وَلَيْسَ فِينَا وَاحِدٌ عَامِلٌ

لِغَيْرِ مَا يُصْلِحُ دُنْيَاهُ

كَمْ آمِنٍ فِي سِرْبِهِ غَافِلٍ

فِي أَعْظَمِ الْعِزِّ وَأَوْفَاهُ

أَمْوَالُهُ لا تُنْحَصِي كَثِيرَةً

وَالْخَلْقُ تَرْجُوهُ وَتَخْشَاهُ

وَمِنْ عَظِيمِ الذِّكْرِ فِي نِعْمَةٍ

يُرْجَى وَيُخْشَى وَلَهُ جَاهُ

ص: 96

قَدْ بَاتَ فِي خَفْضٍ وَفِي غِبْطَةٍ

فِي أَطْيَبِ الْعَيْشِ وَأَهْنَاهُ

أَصْبَحَ قَدْ فَارَقَ ذَا كُلَّهُ

قَهْرًا وَصَارَ الْقَبْرُ مَثْوَاهُ

فَزَالَتِ النِّعْمَةُ فِي لَحْظَةٍ

وَاسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ عَطَايَاهُ

سِيقَ إِلَى دَارِ الْبَلَى مُكْرِهًا

لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَالُ وَالْجَاهُ

وَكُلُّ مَنْ كَانَ وَدُودًا لَهُ

تَحْتَ تُرَابِ الأَرْضِ وَارَاهُ

حَتَّى إِذَا مَا غَابَ عَنْ عَيْنِيهِ

عَادَ إِلَى الدُّنْيَا وَخَلاهُ

مُقَاطَعًا مُطََّرَحًا مُهْمَلاً

مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ يَتَجَافَاهُ

كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ سَاعَةً

وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّهْرِ لاقَاهُ

لِي أَجَلٌ قَدَّرَهُ خَالِقِي

نِعَمٌ وَرِزْقٌ أَتَوَفَّاهُ

اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنانك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) قال ابن القيم رحمه الله: الدين كله يرجع إلى هذه القواعد الثلاث: فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.

وهذه الثلاث هي التي أوصى بها لقمان لابنه في قوله: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ.

فأمره بالمعروف: يتناول فعله بنفسه وأمر غيره به، وكذلك نهيه عن المنكر.

ص: 97

أما من حيث إطلاق اللفظ، فتدخل نفسه وغيره فيه، وأما من حيث اللزوم الشرعي، فإن الآمر لا يستقيم له أمره ونهيه، حتى يكون أول مأمور ومنهي.

وذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}

فجمع لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف، فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه، وذلك يعم ونهيه الذي عهده إليهم، بينهم وبينه، وبينهم وبين خلقه. ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه.

شِعْرًا:

إِذَا أَنْتَ تُصْلِحْ لِنَفْسِكَ لَمْ تَجِدْ

لَهَا أَحَدًا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ يُصْلِحُ

آخر:

نِعَمُ الإِلَهِ عَلَى الْعَبْدِ كَثِيرَةٌ

وَأَجَلُهُنَّ فَنِعْمَةُ الإِيمَانِ

آخر:

مَا أَنْعَمُ اللهَ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ نِعْمَةٍ

أَوْفَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ طَاعَتِهْ

وَكُلَّ مَنْ عُوفِي فِي دِينِهِ

فَإِنَّهُ فِي عَيْشَهٍ رَاضِيَهْ

ثم وصفاهم بأنهم يعلمون ما أمر الله به أن يوصل، ويدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه، وحق الله، وحق خلقه، فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له، والقيام بطاعته.

والإنابة إليه والتوكل عليه، وحبه وخوفه ورجائه، والتوبة والاستكانة له، والخضوع والذلة له، والاعتراف له بنعمته، وشكره عليها، والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها.

ص: 98

فهذه هي الصلة بين الرب والعبد، وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل، وأمر أن يوصل ما بيننا وبين رسوله صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وتصديقه وتحكيمه في كل شيء والرضا لحكمه، والتسليم له.

وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه، فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله.

وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة، فإنه أمر ببر الوالدين وصلة الأرحام وذلك مما أمر به أن يوصل وأمر أن نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف.

وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأقارب بأن نطعمهم مما نأكل، ونكسوهم مما نكتسي، ولا نكلفهم فوق طاقتهم، وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه، وحفظه في نفسه وماله وأهله بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر.

وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحي منهم كما يستحي الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل.

ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة، هو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب ولا يمكن احد قط أن يصل ما أمر الله بوصله إلا بخشيته، ومتى ترحلت الخشية من القلب انقطعت هذه الوصل.

ثم جمع لهم سبحانه ذلك كله في أصل واحد وهو آخيه ذلك وقاعدته ومداره الذي يدور عليه وهو الصبر فقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} فلم يكتف منهم بمجرد الصبر حتى يكون خالصا لوجه. ثم ذكر لهم ما يعينهم على الصبر وهو الصلاة فقال: {وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ} .

ص: 99

وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة وهما الصبر والصلاة فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

ثم ذكر سبحانه إحسانهم إلى غيرهم بالإنفاق سرًا وعلانية فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة، وإلى غيرهم بالأنفاق عليهم.

ثم ذكر حالهم إذا جهل عليهم وأوذو أنهم لا يقابلون ذلك بمثله بل يدرأ ون بالحسنة السيئة، فيحسنون إلى من يسيء إليهم فقال:{وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} . وقد فسر هذا الدرء بأنهم يدفعون بالذنب الحسنة بعده كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«اتبع السيئة الحسنة بعدها تمحها» .

والتحقق: أن الآية تعم النوعين والمقصود: أن هذه الآيات، تناولت مقامات الإسلام والإيمان كلها، واشتملت على فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.

وقد ذكر تعالى هذه الأصول الثلاثة في قوله: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} ، وقوله:{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} ، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر، اشتمل على الأمور الثلاثة، فإن حقيقة التقوى: فعل المأمور، وترك المحظور.

شِعْرًا:

اكْدَحْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي مَهَلٍ

وَلا تَكُنْ جَاهِلاً فِي الْحَقِّ مُرْتَابَا

إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَورُودٌ مَنَاهِلُهَا

لا بُدَّ مِنْهَا وَلَوْ عُمِّرتَ أَحْقَابَا

ص: 100