المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في الإحسان إلى اليتيم والأرملة والمسكين - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٣

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌في الإحسان إلى اليتيم والأرملة والمسكين

والاستماع إِلَى الغناء من المذياع والبكمات والمطربين والمطربات وانصحهم عن تعاطيها وشراء وأجرة وإعارة وحذرهم من مخالطة متعاطيها ومقاربته ومجاورته ومشاركته ومصاهرته.

شِعْرًا:

احْفَظْ نَصِيحَةَ مَنْ بَدَا لَكَ نُصْحُهُ

وِلرَأْي أَهْلِ الخَيْرِ جَهْدَكَ فاقْبَلِ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وسلم

(فَصْلٌ)

‌فِي الإحسان إِلَى اليتيم والأرملة والمسكين

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن فِي كفالة اليتيم والإحسان إليه والسعي على الأرملة والمسكين فضل عظيم يجده من وفقه الله للقيام به {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .

واليتيم هو من مات أبوه ولم يبلغ، والجمع أيتام وهم الذين فقدوا أباهم الذي كَانَ يرعاهم بنفسه وماله ويحبهم من أعماق قلبه ويؤثر مصلحتهم على مصلحته.

وإن مما يذرف الدمع من العين ساخنًا ساعة الموت صبية صغارًا وذرية ضعفاء يخلفهم الميت وراءه يخشى عليهم من مصائب الدنيا وصروفها ويتمنى وصيًّا مرشدًا يقوم مقامه يرعاهم كرعايته ويسوسهم كسياسة يعزيهم بره ولطفه عن أبيهم الراحل ويجدون عنده من العناية والقيام بمصالحهم مَا يكون بإذن الله سببًا لإخراجهم رجالاً فِي الحياة

ص: 470

يملئون العيون ويشرحون الصدور.

فالذي يكفل اليتيم ويتعهده ويلاحظه ويؤدبه ويهذب نفسه وتطمئن قلوب أقاربه إذا رأوه وكأن والده حي لا يفقد من والده إلا جسمه، فلا غرو أن كَانَ مكانه عند الله عظيمَا، وكان حريًّا أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبًا فِي الجنة يتمتع بما فيها من النعيم المقيم، كما قام بما وفقه الله له من رعاية اليتيم.

ففي هذا ترغيب فِي كفالة الأيتام والعناية بأمورهم فلهم حق على المسلمين سواء كَانَوا أقارب أو غيرهم، يكون ذلك بكفالتهم وبرهم وجبر قلوبهم وتأديبهم أحسن تربية فِي مصالح دينهم ودنياهم.

ولذلك أوصى جل وعلا بالإحسان إليهم ليصيروا كمن لَمْ يفقد والديه، قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مسح رأس يتيم لَمْ يمسحه إلا لله كَانَ بكل شعرة تمر عليها يده حسنات» .

وأما الأرملة فهي التي مات زوجها، فهي فِي حاجة إِلَى الملاحظة لأنها ضعيفة وحاجات النساء كثيرة دقيقة وجليلة يرفعها المسكن والمأكل والملبس وهناك أشياء كثيرة من ذلك الدهن والطيب والمشط والمكحلة وأواني لشؤونها فِي حال طبخها وفي حال الحلي وأمور أخرى يطول ذكرها وتعدادها.

والمهم أن الذي يكدح وينصب ليكفي تلك الأرملة حاجاتها أو بعضها بعد أن فقدت زوجها الذي كَانَ يرعاها ويؤنسها وينفق عليها

ص: 471

ويسكنها معه، فهو بذلك الإحسان يخفف عنها من ألم المصيبة، ويسلبها عن الفجيعة، ويكف يدها عن السؤال والنظر لما فِي أيدي الناس، ويصون وجهها، فهذا كالمجاهد فِي سبيل الله، له أجر عظيم عند الله عز وجل.

وكذلك الساعي على المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة فلا يجدون مَا يكفيهم فِي قوتهم وكسوتهم وسكناهم، إما لفقد المال، وإما لعجز عن الكسب لمرض أو لصغر أو لزمانة أو لعمى، أو الذي تقطعت به الأسباب، وأظلمت على عينه الدنيا وانغلقت فِي وجهه الأبواب، يستحف السعي عليه ممن وفقه الله لذلك، والأخذ بيد.

ويعان على العمل بالقرض والإيجار أو مَا يستعين به على نفقة نفسه وأهله بأي عمل يحسنه من تعليم أو صنعة أو زراعة أو تجارة أو وظيفة يكف بها وجهه، وَقَدْ يكون المسكين من الأقارب أو ذا رحم يجب وصلها فيعظم حقه، ويكون السعي عليه برًا وصلة يكتب أجره عند الله أضعافًا مضاعفة، وهذه فرصة ثمينة لمن وفقه الله للقيام بها!

والخلاصة:

أن الذي يجمع المال بعرق جبينه لا لينفقه فِي السرف والبذخ واللذة والسمعة، ولكن ليسد به جوعة المسكين واليتيم ويغنيه عن السؤال فيحفظ على وجهه ماء الحيا وعَلَى نفسه خلق العفاف يكون حريًّا بمرتبة المجاهدين ومنزلة المقربين، فاخدم بمالك ووقتك وقوتك وسعيك وجاهك ذوي الحاجات وأرباب العاهات تنل بإذن الله المنزلة العالية الخالدة. تنبه: بشرط أن يكونوا من المؤمنين بالله.

ذَكَرَ الوَعِيدَ فَطرفُهُ لا يَهْجَعُ

وجَفَا الرُقاَدَ فَبَان عَنْهُ المُضْجَعُ

مُتَفَرّدًا بِقَلِيلهِ يَشْكُو الَذِي

مِلْءَ الجَوَانِحِ وَالحَشَا يَسْتَوْجِعُ

لَمَّا ئَيْقَّنَ صِدقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الَ

آياتُ صَارَ إِلَى الإِنَابِة يُسْرِعُ

ص: 472

ج

فَجَفَا الأَحِبَّةُ فِي مَحَبَةِ رَبِّهِ

وَسَما إِليهِ بِهِمَّةٍ مَا يُقْلِعُ

وَتَمَتَّعَتْ بِودَادِهِ أَعْضَاؤُهُ

إِذَ خَصَّهَا مِنْهُ بِوِدِ يَنفَعُ

كَمْ فِي الظَّلامِ لَهُ إِذَا نَامَ الوَرَى

مِنْ زَفْرُةٍ فِي إِثْرِهَا يَتَوَجَّعُ

وَيقُولُ فِي دَعَوَاتِهِ يَا سَيّدِي

العُيْنُ يُسْعِدُهَا دَمُوعٌ رُجَّعُ

إِنّي فَزِعْتُ إليكَ فارْحَمْ عَبْرَتِي

وَإِليكَ مِن ذُلِّ الْخَطِيئَةِ أَفْزَعُ

مَنْ ذَا سِوَاكَ يُجِيْرُنِي مِن زَلّتِي

يَا مَنْ لِعزَّتِهِ أَذِلُّّّّّّّّّّّّ وَأَخْضَعُ

فَامْنُنْ عَلِيَّ بتَوْبَةً أَحْيَا بِهَا

إِنّي بِمَا اجْتَرَأَتْ يَدَاي ََمُرَدَّعُ

موعظة: عباد الله - الدنيا ملأى بالمصائب والآلام، والأحزان والأسقام غناها فقر وعزها ذل. والآجال فيها معدودة والأعمار محدودة، قال تعالى:{فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .

نعيمها إِلَى فناء وعيشها إلى انقضاء متاعها قليل، وحسابها طويل - الخلود فيها لا يكون لإنسان والبقاء الدائم لا يكون إلا للديان الذي يقول:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .

فالسعيد من استعد ليوم الرحيل، وجهز نفسه بالعمل الصالح لسفر طويل، وتفكر فيمن سبقوه إِلَى دار القرار، وعلم أنه لا حق بهم مهما حاول الفرار، والأمر بعد ذلك إما نعيم مقيم أو شقاوة وعذاب أليم.

فيا من بنيت الآمال وقصرت فِي الصالح من الأعمال، تنبه للموت، فإن نسيانه ضلال مبين، كم من صديق لك مات فِي ريعان شبابه، وكم شيعت إِلَى الدار الآخرة من أحبابه، تذكر يا مغرور ساعة الاحتضار وخروج الروح.

والأولاد حولك يبكون والنساء تنوح، يناديك ولدك، أبتي إني بعدك مسكين، وتصرخ الزوجة يا زوجي إِلَى أين الرحيل وهل من رجعة أو غيابك طويل.

فتغرغر عيناك بالدموع ويلجم منك اللسان، وتحاول النطق فيعتذر

ص: 473

عليك الكلام، وتطلب النجاة ولكن {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .

إذا علمت هذا يا أخا الإسلام، فكيف يكون حال أبنائك من بعدك. ذل بعد عز، وحرمان بعد حنان ينظرون إِلَى الأبناء مع آبائهم فيحزنون، ويذكرون عطف أبيهم فيبكون، ليلهم نهار، ونهارهم ليل.

أعيادهم أتراح وأحزان، وأفراحهم هموم وأشجان، يتلفتون على أحباب أبيهم وأصدقائه، علهم يجدون عندهم الحنان ويشتهون ضمة أو قبلة كما يفعل الآباء بالغلمان والوالدان.

فإن كنتم يا مسلم فِي حياتك بارًا بمن فقدوا آبائهم، عطوفًا على اليتامى تمسح دموعهم بخيرك، وتعاملهم كولدك تدخل السرور على قلوبهم الحزينة بما تقدمه لهم من الهدايا والإحسان، وما تظهره لهم من حب وعطف ورعاية وحنان، إن فعلت هذا فِي حياتك فأبشر.

فإن أولادك بعدك فِي أمان، تحنوا عليهم القلوب، ويرعاهم علام الغيوب. قال تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} .

أيها المسلمون: إن رعاية اليتيم من واجبات الدين، وإن إهمال شأنه وإذلاله وقهره مَا ينبغي للإنسان وأكل ماله يغضب الديان، ويوجب الحرمان. قال الله تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} .

إن من رعاية اليتيم تنمية ماله، وإصلاح حاله بالتربية والتعليم والتهذيب والتقويم قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} .

ص: 474

وإن احتاج اليتيم أو الأرملة إِلَى مساعدة تعود على مصلحته فينبغي لوليه أن يستعين بأهل الفضل والكرم ممن لهم قدم ثابت فِي ذلك وعرق أصيل لألانهم أحرى من غيرهم فِي النفع. واحذر اللئام والبخلاء.

شِعْرًا:

وَإِنِّي لأَرْثِي لِلْكَرِيمِ إِذَا غَدَا

عَلَى حَاجَةٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ

وَأَرْثِي لَهُ مِنْ وَقْفَةٍ عِنْدَ بَابِهِ

كَمَرِّ سَنِّي وَالْعِلْجُ رَاكِبُهْ

شِعْرًا:

سَلِ الفَضْلَ أَهْلَ الفضلِ قِدْمًا ولا تَسَلْ

عَلَى مَنْ نَشَأَ فِي الفقرِ ُثمَّ تَمَوَّلَا

فَلَو مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيعًا بأسْرِها

تُذَكِّرُهُ الأَيَامُ مَا كَانَ أَوَّلا

آخر:

بَعْضُ الرِّجَال كَقَبْرِ المَيْتِ تَمَنَحُهُ

أعَزَّ شَيَءٍ وَلا يُعْطِيكَ تَعْوِيضَا

آخر:

تَجَنَّبْ بُيُوتَا شُبِّعَتْ بَعد جُوعِهَا

فإنَّ بَقَاءَ الجُوعِ فيها مُخَمَّرُ

وَآوِي بُيُوتًا جُوِّعَتْ بَعْدَ شِبْعِهَا

فإنَّ كَرِيمَ الأَصْلِ لَا يَتَغَيَّرُ

آخر:

إيَّاكَ إيَّاكَ أَنَ تَرجُو امْرًأ حَسُنَتْ

أَحْوَالُهُ بَعْدَ ضُرِّ كَانَ قَاسَاهُ

فَنَفْسُهُ تِبْكَ مَا زَادَتْ ومَا نَقَصَتْ

وذلِكِ الفقرُ فَقْرٌ َما تَنَاسَاهُ

قال فِي الفتح: قال شيخنا فِي شرح الترمذي: لعل الحكمة فِي كون كافل اليتيم يشبه فِي دخوله الجنة أو شبهت منزلته فِي دخول الجنة بالقرب من منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إِلَى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلاً لهم ومعلمًا ومرشدًا.

وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه

ص: 475

ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه. انتهى. قلت: وكثيرًا مَا يفعل بعض الناس ذلك الإحسان زمنًا ويتركه ولا يتمم إحسانه وبعضهم يرحب بذلك أول الأمر ولا يثبت على ذلك وقليل من يتمم كلامه ويثبت على جميله وإحسانه والتوفيق بيد الله وقديمًا قيل:

وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجِمْيلِ بِفَاعِلٍ

وَمَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ

آخر:

فأكْثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُكَ قوله

وَلَكِنْ قليلٌ مَنْ يُسُركَ فِعْلُهُ

آخر:

وَفي النَّاسٍ مَنْ أَعْطَى الجَمِيلَ بَدِيهَةً

وَظَنَّ بِفِعْلِ الخَيْرِ لَمَّا تَفَكَّرَا

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد فِي سبيل الله» . رواه البخاري ومالك وغيرهما وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه» . متفق عليه.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال ثلاثة من الأيتام كَانَ قام ليلة وصام نهاره وغدا وراح شاهرًا سيفه فِي سبيل الله، وكنت أنا وهو فِي الجنة أخوين كما أن هاتين أختان» . وألصق أصبعيه السبابة والوسطى رواه ابن ماجة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين» . رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

ص: 476

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين فِي الجنة» . وأشار مالك بالسبابة والوسطى. رواه مسلم ورواه مالك عن صفوان بن مسلم مرسلاً.

ورواه البزار متصلاً ولفظه قال: «من كفل يتيمًا له ذا قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو فِي الجنة كهاتين» . وضم إصبعه «ومن سعى على ثلاث بنات فهو فِي الجنة وكان له كأجر المجاهد فِي سبيل الله صائمًا قائمًا» .

والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.

موعظة

عباد الله لقد تفضل الله علينا ورزقنا من الطيبات، وجعلنا آمنين مطمئنين، وأغنانا عن الحاجة، وصان وجوهنا عن المسألة التي وقع فيها الكثير من الناس، فالواجب علينا إذا إزاء هذه النعم العظام أن نكثر شكره وحمده والثناء عليه.

وبذلك يحفظ عليكم نعمته ويزيدكم مِنْهَا ويبارك لكم فيها قال تعالى وهو أصدق قائل وأوفى واعد. {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} وليس الشكر قول اللسان فقط، وإنما الشكر مع ذلك امتثال أوامر الله بالطاعة والإحسان فِي عبادة الله وإلى عباد الله البؤساء من يتيم ومسكين وأرملة ممن أصابتهم الشدة والفقراء من أرباب العيال المتعففين الذين لا يسألون ولا يفطن لهم فيتصدق عليهم.

وفي الدرجة الأولى من ليس لهم موارد أصلاً لا أولاد يدرسون ولا أولاد موظفين يدرون عليهم ولا عقار ولا غيره، وأن من القسوة أن يمنع الإنسان رفده ومعونته عن إخوانه المحتاجين.

شِعْرًا:

أحْسِنْ إذا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ

فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِحْسَانِ إمْكَانُ

ص: 477

أمن الرحمة والشفقة أن يكون الإنسان فِي رغد من العيش ورفاهية تامة وسعة من الرزق وإخوانه من المسلمين فِي ضنك وبؤس لا يعلم به إلا الله أو من أعلمه الله بحاله، أمن المروءة أن يتمتع الإنسان بأصناف المآكل والمشارب والملابس وأخوه المسلم المدقع فقرًا يتألم من الجوع ويتألم من البرد.

فالذي يرى من هذه صفتهم ولا يتألم ويتوجع لهم ويعمل مَا فِي وسعه لهم قاسي القلب خال من الشفقة والرحمة والرأفة نسأل الله أن يمن علينا بإتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين قال الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ونسأله أن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم فِي الجنة هكذا» . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. رواه البخاري وأبو داود والترمذي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قبض يتيمًا من بين المسلمين إِلَى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة إلا أن يعمل ذنبًا لا يغفر» . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت فِي المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت فِي المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» . رواه ابن ماجة.

ص: 478

وروي عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة» . وأومأ بيده يزيد بن زريع الوسطى والسبابة «امرأة آمت زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها #حتى بانوا أو ماتوا» . رواه أبو داود.

وعن أنس رضي الله عنه رفعه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً قال ليعقوب عليه السلام: مَا الذي أذهب بصرك وحنى ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي حنى ظهري فالحزن على أخيه بنيامين فآتاه جبريل عليه السلام فقال: أتشكو الله عز وجل؟ قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} قال جبريل عليه السلام: الله أعلم بما قلت منك.

قال: ثم انطلق جبريل عليه السلام ودخل يعقوب عليه السلام بيته فقال: أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وحنيت ظهري، فاردد عليّ ريحانتي فأشمهما شمة واحدة ثم اصنع بي بعد مَا شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول: أبشر فإنهما لو كَانَ ميتين لنشرتهما لك لأقر بهما عينك.

ويقول لك: يا يعقوب أتدري لَمْ أذهبت بصرك وحنيت ظهرك؟ ولم فعل إخوة يوسف بيوسف مَا فعلوه؟ قال: لا. قال: إنه أتاك يتيم، مسكين وهو صائم جائع وذبحت أنت وأهلك شاة فأكلتموها ولم تطعموه.

ويقول: إني لَمْ أحب شيئًا من خلقي حبي اليتامى والمساكين فاصنع طعامًا وادع المساكين» . قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكان يعقوب كلما أمسى نادى مناديه من كَانَ صائمًا فليحضر طعام

ص: 479

يعقوب وإذا أصبح نادى مناديه من كَانَ مفطرًا فليفطر على طعام يعقوب» . رواه الحاكم والبيهقي والأصبهاني واللفظ له.

شِعْرًا:

أَلَمْ تَرَ أنَّ النَّفْسَ يُرْدِيكَ شَرُّهَا

وَأَنَّكَ مَأْخوُذُ بِمَا كُنَتَ سَاعِيَا

فَمَنْ ذا يُرِيُد اليومَ لِلنَّفْسِ حِكْمَةً

وعِلْمًا يَزِيدُ العقلَ لِلصَّدرِ شَافِيا

هَلُمَ إِليَّ الآنَ إنْ كُنْتَ طَالِبًا

سَبِيْلَ الهُدَى أوْ كُنْتَ لِلْحقِ باغِيا

فعندي مِن الأنباءِ عِلمٌ مجرَّبٌ

فَمِنه بإلهامٍ ومِنهُ سَمَاعِيا

أخَبِرُ أخْبارًا تَقَادَمَ عَهْدُها

وكَيفَ بَدأ الإسلام إذْ كانَ بادِيًا

وكَيفَ نَمىَ حتَّى اسْتَتَمَّ كَمالُه

وكَيفَ ذَوَى إذْ كالثَّوبِ بَالِيَا

ومِن بعدِ ذا عندي مِنَ الِعلمِ جَوْهرٌ

يُفيِدُك عِلْمًا إنْ وَعَيْتَ كَلامِيَا

فأحْوَجُ مَا كُنَّا إلى وَصِفْ دِيِننَا

وَوَصْف دَلالاتِ العُقُولِ زَمَانِيَا

فَقَدْ نَدَبَ الإسلامُ أحْمدَ نَدْبَهً

كَمَا نَدَبَ الأمواتَ ذُو الشَّجْوِ شِاجيَا

فأولُ مَا أبْدأُ فِبالحَمْدِ لِلَّذِي

بَرَانى للإسلامِ إذْ كَانَ بَارِيَا

وصَيَّرِني إذْ شَاءَ مِن نَسْلِ آدمَ

ولَمْ أكُ شَيطانًا مِن الجِنَّ عَاتِيَا

ولو شاءَ مِن إبليسَ صَيَّر مَخْرَجِي

فَكُنتُ مُضِلاً جَاحِدَ الحقَّ طَاغِيَا

ولَكِنَّهُ قَدْ كَانَ بَاللُّطِف سَابِقًا

وإذا لَمْ أكُنْ حَيًا على الأرضِ مَاشِيَا

وصَيَّرني مِنْ بَعْدُ فِي دِينِ أحمدَ

وعَلَّمَنِي مَا غَابَ عنْهُ سُؤَالِيَا

وَفَهَّمَنِي نُورًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً

فَشُكْرِي لَهُ فِي الشَّاكِرِينَ مُوَازِيَا

فَمِنْ أَجْلِ ذَا أَرْجُوهُ إِذْ كَانَ نَاظِرًا

لِضَعْفِي وَجَهْلِي فِي الْمَلاِئِم حَالِيَا

وَمِنْ أَجْلِ إِذَا أَرْجُوهُ إِذَا كَانَ غَافِرًا

وَمِنْ أَجْلِ ذَا قَدْ صَحَّ مِنِّي رَجَائِيَا

وَلَوْ كُنْتُ ذَا عَقْلٍ لَمَا قَدْ رَجَوْتُهُ

لَقَدْ كُنْتُ ذَا خَوْفٍ وَشُكْرِي مُحَاذِيَا

وَلَوْ كُنْتُ أَرْجُوهُ لِحُسْنِ صَنِيعِهِ

شَكَرْتُ فَصَحَّ الآنَ مِنِّي حَيَائِيَا

فَشُكْرِي لَهُ إذْ صَبِرْتُ بِالْحَقِّ عَالِمًا

وَلِلشَّرِّ وَصَّافًا وَلِلْخَيْرِ وَاصِيَا

ص: 480

.. وَمِنْ بَعْدِ ذَا وَصفِي لِنَفْسِي وَطَبْعِهَا

وَوَصْفِي غَيْرِي إِذْ عَرَفْتُ ابْتِدَائِيَا

فَهَذَا مِنَ الأَنْبَاء وَصْفُ غَرَائِبٍ

فَمَنْ كَانَ وَصْف لَكَانَ يجَالِيَا

وَذَاكَ لأَنَّ النَّاسَ قَدْ آثَرُوا الْهَوَى

عَلَى الْحَقِّ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا عَلانِيَا

فَهَذَا زَمَانُ الشَّرِّ فَاحْذَرْ سَبِيلَهُ

فَإِنَّ سَبِيلَ الشَّرِّ يُرْدِي الْمَهَاوِيَا

سَيَأْتِيكَ مِنْ أَنْبَائِهِ وَصْفُ خَابِرٍ

كَلامٌ بِتَحْبِيرٍ وَوَصْفُ قَوَافِيَا

يَقُولُونَ لِي اهْجُرْ هَوَاكَ وَإِنَّمَا

أَكدُّ وَأَسْعَى أَنْ أُقِيمَ هَوَائِيَا

وَنَفْسَكَ جَاهِدْهَا وَإِنِّي لَمَائِلٌ

إِلَيْهَا فَمَا أَنْ دَارَ أَلا تَنَائِيَا

وَكَيْفَ أَطِيقُ الْهَوَى أَنْ أَهْجُرَ الْهَوَى

وَقَدْ مَلَّكَتْهُ النَّفْسُ مِنِّي زِمَامِيَا

تَقُودُنِي الأَيَّامُ فِي كُلِّ مُحْنَةٍ

لَدَى طَبْعٍ يَبْدُو يَهِيجُ ذَاتِيَا

فَأَصْبَحْتُ مَأْسُورًا لَدَى النَّفْسِي وَالْهَوَى

يَشُدَّانِ مِنِّي مَا اسْتَطَاعَا وَثَاقِيَا

اللهم اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فائدة جليلة)

إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده يحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل مَا أهمه، وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إِلَى نفسه فشغل محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.

فهو يكدح كدح الوحش فِي خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه فِي نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . أ. هـ.

دَارك فَمَا عُمْرُكَ بِالْوَانِي

وَلا تَثِقْ بِالْعُمْرِ الْفَانِي

ص: 481

.. يَأْتِي لَكَ الْيَوْمُ بِمَا تَشْتَهِي

فِيهِ وَلا يَأْتِي لَكَ الثَّانِي

وَيَأْمَلُ الْبَانِي بَقَاءَ الَّذِي

يَبْنِي وَقَدْ يُخْتَلِسُ الْبَانِي

تَصْبَحُ فِي شَأْنِ بِمَا تَقْتَنِي الآ

مَالُ وَالأَيَّامُ فِي شَانِ

فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِّ مُسْتَبْصِرًا

إِنْ كُنْتَ ذَا عَقْلٍ وَعُرْفَانِ

هَلْ نَالَ مَنْ جَمَّعَ أَمْوَالَهُ

يَوْمًا سِوَى قَبْرٍ وَأَكْفَانِ

أَلَيْسَ كِسْرَى بَعْدَ مَا نَالَهُ

زُحْزِحَ عَنْ قَصْرٍ وَإِيوَانِ

وَعَادَ فِي حُفْرَتِهِ خَالِيًا

بِتُرْبَةٍ يُبْلَى وَدِيدَانِ

كَمْ تَلْعَبُ الدُّنْيَا بِأَبْنَائِهَا

تَلاعُبَ الْخَمْر بِنَشْوَانِ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(موعظة)

عباد الله إن الشفقة والرأفة على خلق الله وخصوصًا اليتيم والمسكين والأرملة أثر من آثار الرحمة التي يجعلها الله فِي قلوب بعض عباده، فقل لي أيها الأخ مَا الذي عندك مِنْهَا فإن كنت رحيمًا بعباد الله فلك البشرى والهناء بهذا الخلق الكريم الذي هو سبب لسعادتك فِي يوم الحسرة والندامة، ذلك أن الرحيم يعامله المولى جل وعلا برحمته قال تعالى:{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} فالراحمون يرحمهم الله.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» . وإن كنت قاسيًا عوملت بالقسوة {جَزَاء وِفَاقاً} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} والله سبحانه وتعالى لا يغفل عن أعمال عباده، وتظهر دلائل رحمتك فِي معاملتك لليتيم والمسكين والأرملة، وفي معاملتك مع أهلك، فإنهم يعيشون طول حياتهم عندك أن كنت رحيمًا أو قاسيًا.

وتظهر رحمتك أيضًا فِي معاملتك إخوانك فإنهم يجدونك إن كنت رحيمًا لين الجانب سهلاً بشوشًا لحوائجهم وتظهر فِي معاملتك لبهائمك

ص: 482

فِي عدم تكليفها فوق الطاقة وفي ملاحظتها دائمًا فِي طعامها وشرابها ومكانها فِي الشتاء والصيف.

وتظهر رحمتك فِي معاملتك مع الخلق كلهم فِي حسن الخلق والصدق والحنو عليهم وزيارتهم وعيادتهم وقضاء مَا سهل عليك من حوائجهم، أما من قسا على الخلق وعاملهم معاملة ليس فيها شيء من الحنان والشفقة فهذا هو الجبار القاسي الذي لا يعامله مولاه إلا بما يناسب معاملته من الجبروت.

وكم فِي الدنيا من جبابرة نزعت الرحمة من صدورهم لا يعرفون معاملة الخلق بالرحمة بل بالقسوة والشدة والغلظة، لا فرق عندهم بين الآدمي والكلب العقور وغيره.

ومثل أولئك لو سمعوا كلمة لا تعجبهم ربما أعدموا القائل وأيتموا أولاده وأيموا نساءه، ولو رأوا من فِي أشد المصائب مَا بالوا ولا اهتموا وكأنه شيء عادي، وترى أحدهم يخرج مع الجنائز لتعزية رفيقه فِي مصائبه وهو يضحك ويتفكه.

ولو رأى إنسانًا مصدومًا أو ساقطًا فِي محل يريد إنقاذه تركه ولا همة له إلا فيما يتعلق بنفسه فقط ومثل أولئك تنشب بينهم وبين البهائم كل يوم حروب لأنها عملت عملاً في نظرهم أنه إجرام وربما قتلوا البهائم أو قريبًا من الهلاك.

فأين هؤلاء من الرحمة، بينهم وبينها بون، كما بين الحركة والسكون، ومن هؤلاء من ليس له إلا امرأة واحدة وهو جبار عليها كل مَا بين حين وحين يجلدها جلد الزاني، وبعضهم تجد أخته أو ابنته أو ربيبته كل يوم تشتكي من سوء معاملته لها. وربما حصل مِنْه على أبيه أو أمه أو كلاهما أذية.

ص: 483

وفي الأرض كثير من هذه البليات، فعود نفسك الرحمة أيها المؤمن، فإنك فِي حاجة شديدة إِلَى رحمة الله، وعالج نفسك فِي تهذيبها وتمرينها على الرحمة وإذهاب القسوة، واحرص على مقارنة الرحماء لتكسب مِنْهُمْ هذه الصفة وتسلم من ضدها قال صلى الله عليه وسلم:«لا تنزع الرحمة إلا من شقي» .

الرَّاحِمُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمُهمْ

مَنْ فِي السَّمَاءِ كَذَا عَنْ سَيِّدِ الرُّسُلِ

فَارْحَمْ بِقَلْبِكَ خَلْق اللهِ وَارْعَهُمُ

بِهِ تَنَالُ الرِّضَا وَالْعَفْوُ عَنْ زَلَلِ

اللهم وفقنا لسلوك سبيل أهل الطاعة وارزقنا الثبات عليه والاستقامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة وأمنا من فزع يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة أن الرحمة بالناس بل وبالحيوان عاطفة نبيلة وخلق شريف من أفضل الأعمال وأزكاها وأرفعها وأعلاها وناهيك بها أنها خلق الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين.

ولقد مدح الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه فِي وصف رسوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وضدها القسوة التي عاقب الله بها اليهود لما نقضوا العهود إذ يقول جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} .

ص: 484

فالرحمة فضيلة والقسوة رذيلة، فكان مجيء النبي صلى الله عليه وسلم برسالته من عند الله رحمة لناس يتخبطون فِي بحر الأوهام والجهالات ومساوئ الأخلاق وسيء العادات وقبيح الأعمال يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار والأوثان والشمس والقمر، آلهتهم شتى وأربابهم متفرقة.

وَقَدْ فشي وعم الفساد وأظلم الجو وشمل الظلم العباد فالقوي يأكل الضعيف ولا مراقب له ولا مخيف، يئدون البنات ويقتلون الأولاد، جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنقذهم الله به وأخرجهم به من الظلمات إِلَى النور من عبادة الأصنام وتعظيمها إِلَى معرفة الله وتوحيده، والتفكير فِي الإله وتمجيده وتقديسه.

وانتشلتم من أوهامهم وجهالاتهم وضلالاتهم ومساوئهم إِلَى الاهتداء بنور القرآن وتعاليمه عليه الصلاة والسلام فبعد أن كَانَوا قابعين فِي عقر دارهم قانعين فِي جزيرتهم إذا بهم يحملون إِلَى العالم أجمع رسالة النور والأمان والحق والسلام فيفتحون البلاد ويسوسون العباد بفضل مَا وهبهم الله من مَا تمكن فِي نفوسهم وقوي فِي أفئدتهم من حب الرحمة وابتغاء للرأفة بخلق الله ورغبته فِي العدل.

فكان مولده صلى الله عليه وسلم نعمة وبعثته رحمة لا تدانيها رحمة والرحمة صفة من صفات الله الذاتية الفعلية فهو رحمن الدنيا والآخرة وحدث جل وعلا عن رحمته فِي كتابه فقال {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الآية.

والنبي صلى الله عليه وسلم يرغبنا فِي الرحمة واللين والرفق والمسامحة بقوله وفعله فهو يقول: «من لا يرحم لا يرحم» . وهو القائل: «لا

ص: 485

تنزع الرحمة إلا من شقي» . أي ولا تسكن إلا فِي قلب تقي فالرحمة فضيلة والقسوة والغلظة رذيلة وعمل منكر والرحمة لا تختص بالإنسان بل تعم الحيوان وكل ذي روح وإحساس.

فمن آثارها مَا يجده الوالد لولده وآثرها تقبيله ومعانقته وشمه وضمه وحنوه عليه كما صنع الله عليه وسلم بالحسين والحسن رضي الله عنهما ومن أثرها تأديبه وتربيته وإجابة رغائبه مَا دامت فِي سبيل المصلحة وإبعاده من الشر.

وتكون الرحمة بالآباء والأمهات وأثرها اللطف بهما والعطف عليهما والقول الكريم لهما وصنع الجميل فيهما والذب عنهما والحنو عليهما والشفقة عليهما وإظهار البشر لهما قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .

ومن آثارها جريان الدمع مع العين وذرفها عند المصيبة كما كَانَ صلى الله عليه وسلم حال وفاة ولده جعلت عيناه تذرفان الدمع فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» .

ولذا أجاب الأعرابي الذي قال: أتقبلون صبيانكم فما نقبلهم قال له: «أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» ومن آثار الرحمة بالقريب والصديق أن تخصه بمزيد من البر والإحسان فتنفس كربه وتخفف ألمه وتفرج همه وتسعى لإزالة الشحناء ورفع البغضاء ويواسي فقره ويرشده عند الحيرة وينبهه عند الغفلة وينصحه إذا استنصحه ويعين العاجز ويعود

ص: 486

المريض وينفس له فِي أجله ويشيع جنازته ونحو ذلك من الأعمال الصالحة النافعة والطريقة المجدية.

وتكون الرحمة بالأقرباء وأثرها وصلتهم وزيارتهم ومودتهم والسعي فِي مصالحهم ودفع مَا يضرهم وتكون الرحمة بين الزوجين وأثرها المعاشرة بالمعروف والإخلاص والوفاة المتبادل وأن لا ترهقه بالطلبات ولا يكلفها بالمرهقات بل يعاون على شؤون المنزل وتربية الأولاد بنفسه أو ماله أن كَانَ ذا سعة.

وتكون الرحمة بأهل دينك ترشدهم إِلَى الخير وتعلمهم مَا تقدر عليه مما ينفعهم وتأخذ بهم عن اللمم إِلَى سبيل الأمم وتعمل لعزهم ودفع المذلة عنهم وتكون رحيمًا بالمؤمنين جميعًا فتحب لهم مَا تحب لنفسك وتكره لهم مَا تكره لها.

ومن أثرها بالحيوان مَا جاء فِي حديث مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذ ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» .

وذلك بأن يرفق بها ولا يصرعها ويزعجها بغتة ولا يجرها من موضع إِلَى موضع بسرعة ترهقها وترهبها بل بلطف ولا يسرع بقطع الرأس ويسرع بقطع الحلقوم والمري والودجين ويتركها إِلَى أن تبرد لتخفيف ألمها بقدر الاستطاعة.

ومن الرحمة مَا يحدثنا به صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل

ص: 487

يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب مِنْهَا ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له» . قالوا: يا رسول الله وإن لنا فِي البهائم أجر؟ قال: «فِي كل كبد رطبة أجر» . والله أعلم. وصلى الله على محمد.

(فَصْلٌ)

اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن للجار على جاره حق عظيم فِي الأديان كلها والشرائع والأوضاع كافة، والعرب كَانَوا يعظمون حق الجار ويحترمون الجوار فِي الجاهلية قبل الإسلام، ويعتزون بثناء الجار عليهم ويفخرون بذلك، والضعيف إذا جاور القوي صار قويًّا بإذن الله، له مَا لهم وعليه مَا عليهم، وحين جاء الإسلام أعزه الله وأكد حق الجوار وحث عليه وجعله بعد القرابة وكاد يورثه.

والجار يطلق ويراد به الداخل فِي الجوار ويطلق على المجاور فِي الدار، وعَلَى الساكن مع الإنسان فِي البلد، وعَلَى أربعين دارًا من كل جانب وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:«الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار والإسلام، وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب، له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم» .

إذا عرفت ذلك فتعلم أن من توفيق الإنسان وسعادته أن يكون فِي بيته يشعر بالعطف واللطف عليه والتقدير له والمحبة له، ومن قلة توفيقه

ص: 488

أن يكون بين جيران يضمرون الشر له والعداوة، ويدبرون له المكائد ويذمرون عليه خصومه.

فالشخص الذي بجانبه جيران سوء يعملون للإضرار به فِي نفسه أو ماله أو عرضه، ويحوكون له العظائم والدواهي، منغص عيشه، لا يهنأ له بال، غير مرتاح، تجده قلقًا مِنْهُمْ إن دخل أو خرج، ولا ينعم بمال، تراه مقطب الوجه، محزون النفس مكلوم الفؤاد.

وتجد أهله معهم فِي لجاج، كل ذلك من جار السوء، إما من قبل التسلط على أهله أو على أولاده، وإما بوضع أذية فِي طريقه أو فِي بيته، وأبتعد على ملكه أو بتجسس عليه بدون مبرر وإما بنظر وتطلع عليهم من نافذة أو باب أو سطح أو رمي حصا ونحوه عليهم أو نحو ذلك من أنواع الأذايا.

وربما اضطر إِلَى بيع منزله من أجل جار السوء، كما ذكر بعض من ابتلى بجار سوء اضطره إِلَى بيع ملكه قال فِي ذلك:

يَلُومُونَنِي إِنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي

وَلَمْ يَعْلَمُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغَّصُ

فَقُلْتُ لَهُمْ كُفُّوا الْمَلامَ فَإِنَّمَا

بِجِيرَانِهَا تَغْلُوا الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ

آخر:

أَرَى دَارَ جَارِي عَنْ تَغَيَّب حُقْبَةً

عَليَّ حَرَامًا بَعْدَهُ إِنْ دَخَلْتُهَا

قَلِيلٌ سَؤَالِي جَارَتِي عَنْ شُؤونِهَا

إِذَا غَابَ رَبُّ الْبَيْتِ عَنْهَا هَجَرْتُهَا

أَلَيْسَ قَبِيحًا أَنْ يُخَبَّرَ أَنَّنِي

إِذَا غَابَ عَنْهَا شَاحِطَ الدَّارِ زرْتُهَا

آخر:

اطْلُبْ لِنَفْسِكَ جِيرَانًا تُسَرُّ بِهِمْ

لا تَصْلُحُ الدَّارُ حَتَّى يَصْلُحَ الْجَارُ

آخر:

شِرَى جَارَتِي سِتْرًا فُضُول لأَنَّنِي

جَعَلْتُ جُفُونِي مَا حَيِيتُ لَهَا سِتْرَا

ص: 489

وَمَا جَارَتِي إِلا كَأُمِّي وَإِنَّنِي

لأَحْفَظُهَا سِرًّا وَاحْفَظُهَا جَهْرَا

بَعَثْتُ إِلَيْهَا انْعَمِي وَتَنَعَّمِي

فَلَسْتُ مُحِلاً مِنْكِ وَجْهًا وَلا شَعْرَا

ويقول الآخر:

دَارِ جَارَ السُّوءِ بِالصَّبْرِ وَإِنْ

لَمْ تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النُّقَلْ

آخر:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَخْلُصْ عِبَادَةَ رَبِّهِ

فَلا خَيْرَ فِيهِ وَابْتَعِدْ عَنْ جِوَارِهِ

وبعض الجيران يكون فيه خير وشر فهذا ربما تقابل منافعه مضاره وتتحمل مِنْه ذلك النقص لما فيه من الكمال وأما الآخر فهو شر مضرة بلا منفعة ونقصان بلا فائدة فكيف يعذر وهو بهذه الحالة.

عَذَرْنَا النَّخْلَ فِي إِبْدَاءِ شَوْكٍ

يَرِدْ بِهِ الأَنَامِلَ عَنْ جَنَاهُ

فَمَا لِلْعَوْسَجِ الْمَذْمومِ يُبْدِي

لَنَا شَوْكًا بِلا ثَمَرٍ نَرَاهُ

آخر:

مَرِضْتُ وَلِي جِيرَة كُلُّهُمْ

عَنِ الرُّشْدِ فِي صُحْبَتِي حَائِدُ

فَأَصْبَحْتُ فِي النَّقْصِ مِثْلَ الَّذِي

وَلا صِلَةَ لِي وَلا عَائِدُ

آخر:

وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ لا عَهْدَ عِنْدَهُمْ

صَدَفتُ وَرَبِّ الْخَلْقِ صُحْبَة النَّاسِ

وَصِرْتُ جَلِيسُ الْكُتُبِ مَا عِشْتُ فِيهِمُ

وَأَعْمَلْتُ حُسْنَ الصَّبْرِ عَنْهُمْ مَعَ الْيَأْسِ

آخر:

وَزَهَّدَنِي فِي النَّاسِ مَعْرَفَتِي بِهِمْ

وَطُولُ اخْتِبَارِي صَاحِبًا بَعْدَ صَاحِبِ

فَلَمْ أَرَى فِي الأَيَّامِ خَلا تَسُرُّنِي

بِوَادِيهِ إِلا سَاءَنِي فِي الْعَوَاقِبِ

وَلا قُلْتُ أَرْجُوهُ لِدَفْعِ مُلِمَّةٍ

أَتَتْنِي إِلا كَانَ إِحْدَى الْمَصَائِبِ

آخر:

أَنْتَ فِي مَعْشَرٍ إِذَا غِبْتَ عَنْهُمْ

جَعَلُوا كُلَّ مَا يَزِينُكَ شِينَا

وَإِذَا أَمَا رَأَوْكَ قَالُوا جَمِعيًا

أَنْتَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَيْنَا

ص: 490

وعن أبي شريح قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» . قيل من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» . رواه البخاري ومسلم فبين صلى الله عليه وسلم أن من هذا خلقه، وتلك دخيلته مع جاره غير مؤمن، وأكد ذلك بالحلف والتكرار ثلاث مرات.

وهل المؤمن إلا من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم وهل الإيمان إلا من الأمن؟ فإذا كَانَ الجار لجاره حربًا وعليه ضدا فكيف يكون من المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله لقد كَانَ الواجب عليه أن يتفقد أمور جاره، ويساعده بكل مَا استطاع، ويعمل على جلب الخير له ودفع مَا يضره، حتى يكون فِي عيشة راضية وحياة طيبة، كما يعمل بعض الجيران المحسنين الذين يألفون ويؤلفون.

فقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب فيحسن التعاون بينهما، وتكون الرحمة والإحسان بينهما، فإذا لَمْ يحسن أحدهما لصاحبه فلا خير فيهما لسائر الناس.

أَعِينُ أَخِي أَوْ صَاحِبِي فِي بَلائِهِ

أَقُومُ إِذَا عَضَّ الزَّمَانُ وَأَقْعُدُ

وَمَنْ يُفْرِدُ الإِخْوَانَ فِيمَا يَنْوبُهُمْ

تَنْبِهُ اللَّيَالِي مَرَّةً وَهُوَ مُفْرَدُ

فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بإهداء مَا تيسر والصدقة والدعوة واللطافة به وإعانته والتوسيع عليه فِي معاملته وإقراضه، وعيادته وتعزيته عند المصيبة وتهنئته بما يفرحه، ويستر مَا انكشف له من عورة، ويغض بصره عن محارمه ويمنع أولاده وأهله من أذية أولاد جاره وأهلهم.

وإن بدا لهم حاجة قام بها، ولا يرفع على المذياع أو التلفزيون إن كَانَ يضرهم ويسهرهم وهو ممن ابتلى بهذا المنكر المحرم، ويعمل

ص: 491

كل مَا فيه لهم ويقدر عليه ويدفع عنهم مَا يضرهم مَا استطاع فبهذه الأشياء تقع بإذن الله الألفة والمحبة.

وبها تحصل المودة، ويصبح المرء بين جيرانه محبوبًا موقرًا يتفقدونه إذا غاب ويسألون عنه ويعدونه إذا حضر مرغوبًا مرموقًا بالعناية مِنْهُمْ آمنًا مِنْهُمْ مطمئنًا إليهم يتبادلون المنافع.

روي أن إبراهيم بن حذيفة باع داره فلما أراد المشتري أن يشهد عليه قال: لست أشهد عليَّ ولا أسلمها حتى يشتروا مني جوار سعيد بن العاص وتزايدوا فِي الثمن قالوا: وهل رأيت أحدًا يشتري جوار أو يبيعه قال: ألا تشتري جوار من إن أسأت إليه أحسن وإن جهلت عليه حلم وإن أعسرت وهب لا حاجة لي فِي بيعكم ردوا عليَّ داري.

فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث غليه بمائة ألف درهم وروى المدائني أنه باع جار لفيروز داره بأربعة آلاف درهم فجيء بها فقال البائع: هذا ثمن داري فأين ثمن جاري قال: ولجارك ثمن قال: لا أنقصه والله عن أربعة آلاف درهم.

فبلغ ذلك الفيروز فأرسل إليه بثمانية آلاف درهم وقال: هذا ثمن دارك وجارك وألزم دارك لا تبعها. أين هؤلاء من أكثر جيران زمننا لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجرتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولادًا كَأنَهم فِي معزل عن الآيات والأحاديث الواردة فِي الجوار وحقوقه ولبعضهم ممن بلي بجاره السوء:

أَلا مَنْ يَشْتَرِي جَارًا نَؤُومًا

بِجَارٍ لا يَنَامُ وَلا يُنِيمُ

وَيَلْبِسُ بِالنَّهَارِ ثِيَابَ نُسْكٍ

وَشَطْرُ اللَّيْلِ شَيْطَانٌ رَجِيمُ

وقيل ابن المقفع كَانَ بجوار داره دار صغيرة وكان يرغب فِي شرائها

ص: 492

ليضيفها إِلَى داره وكان جاره يمتنع من بيعها ثم ركبه دين فاضطر إِلَى بيعها وعرضها على جاره بن المقفع فقال: مَا لي بها حاجة. فقيل له: ألست طلبت مِنْه شرائها. فقال: لو اشتريتها الآن مَا قمت بحرمة الجوار لأنه الآن يريد بيعها من الفقر ثم دفع إِلَى جاره ثمن الدار وقال: ابق بدارك وأوف دينك لله دره.

قال علي بن أبي طالب للعباس: مَا بقي من كرم إخوانك قال: الأفضال على الإخوان وترك أذى الجيران قال الشاعر:

شِعْرًا:

سَقْيًا وَرَعْيًا لِجِيرَانٍ نَزَلْتُ بِهِمْ

كَأَنَّ دَارَ اغْتِرَابِي عِنْدَهُمْ وَطَنِي

إِذَا تَأَمَّلْتُ مِنْ أَخْلاقِهِمْ خُلُقًا

عَلِمْتُ أَنَّهُمُوا مِنْ حِلْيَةِ الزَّمَنِ

آخر:

إِذَا خِفْتَ الْمَوَّدَةَ وَاسْتَقَامَتْ

فَلا تَجْزَعَ وَإِنَّ بَعْدَ اللِّقَاءُ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبِعَادُ أَغَابَ وَجْهِي

فَلَمْ تَغِبْ الْمَوَدَّةُ وَالصَّفَاءُ

وَلَمْ يَزَلْ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ مِنِّي

مَعَ السَّاعَاتِ يَتْبَعُهُ الدُّعَاءُ

آخر:

أَحْبَابُنَا مَا غِبْتُمْ مُذْ بِنْتُمُوا

فَأَبُثُّكُمْ شَوْقِي وَأَسْأَلُ عَنْكُمْ

بِنْتُمْ على حُكْمِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ فِي

حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَنَّكُمْ قَدْ بِنْتُمُوا

أَنْتَمْ إِذَا اطَّرَدَ الْقِيَاسُ أَنَا وَإِنْ

عُكِسَ الْقِيَاسُ فَإِنَّنِي أَنَا أَنْتُمُوا

آخر:

تَطَاوَلَ لَيْلِي بِالرِّيَاضِ وَلَمْ يَكُنْ

عَلَى بحَارَاتِ الْقَصِيمِ يَطُولُ

فَهَلْ لِي إِلَى أَرْضِ الْقَصِيمِ بِرَجْعَةٍ

أُقِيمُ بِهَا قَبْلَ الْمَمَاتِ قَلِيلُ

وَلاسِيَّمَا فِي حَارَةٍ قَدْ سَكَنْتُهَا

ثَلاثِينَ عَامًا أَوْ تَزِيدُ قَلِيلُ

آخر:

إِذَا أَنَا لا أَشْتَاقُ أَوَّلَ مَنْزِلٍ

غُذِيتُ بِخَفْضٍ فِي ذُرَاهُ وَلِينِ

مِنَ الْعَقْلِ أَنْ اشْتَاقُ أَوَّل مَنْزِلٍ

غُذِيتُ بِخَفْضٍ فِي ذُرَاهُ وَلِينِ

آخر:

يَقِيمُ الرِّجَّالُ الْمُوسِرُونَ بِأَرْضِهِمْ

وَتَرْمِي النَّوَى بِالْمُفْتَرِين الرَّامِيَا

وَمَا تَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ عَنْ مَلالَةٍ

وَلَكنْ حِذَارًا مِنْ شَمَاتِ الأَعادِيَا

يَا مَنْ تَحَوَّلَ عَنَّا وَهُوَ يَأْلَفُنَا

بَعُدْتَ عَنَّا أَبَعْدَ الآنَ تَلْقَاَنَا

ص: 493

.. فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مُذْ فَارَقْتَ جِيرَنَنَا

بُدِلْتَ جَارًا وَمَا بُدِّلْتَ جِيرَانَا

فكتب إليه جاره:

بَعُدْتُ عَنْكُمْ بِدَارِي دُونَ خَالِصَتِي

وَمَحْضُ وُدِّي وَعَهْدِي كَالَّذِي كَانَا

وَمَا تَبَدَّلَتُ مُذْ فَارَقْتُ قُرْبُكُمْ

إِلا هُمُومًا أُعَانِيهَا وَأَحْزَانَا

وَهَلْ يُسَرُّ بِسُكْنَى دَارِهِ أَحَدٌ

وَلَيْسَ أَحْبَابُهُ لِلدَّارِ جِيرَانَا

آخر:

أَقُولُ لِجَارِي إِذْ أَتَانِي أَحَدٌ

وَلَيْسَ أَحْبَابُهُ لِلدَّارَ جَيرَانَا

إِذَا لَمْ يَصَلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُخَاصِمًا

يَدُلُّ بِحَقّ أَوْ يَدل بِبَاطِلِ

إِذَا لَمْ يَصَلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجَاوِرِي

إِلَيْكَ فَمَا شَرِّي إِلَيْكَ بِوَاصِلِ

آخر:

إِنِّي لأَحْسِدُ جَارَكُمْ لِجِوَارِكُمْ

طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى لِدَارِكَ جَارَا

يَا لَيْتَ جَارَكَ بَاعَنِي مِنْ دَارِهِ

شِبْرًا فَأُعْطِيهِ بِشِبْرٍ دَارَا

آخر:

يَا حَبَّذَا وَطَنُ كُتَّابِهِ زَمَنًا

فِيهِ السُّرُورُ على يُسْرٍ وَإِعْسَارِ

وَحَبَّذَا نَاعِم مِنْ تُرْبِه عَبِقٌ

هَبَّتْ عَلَيْهِ رِيَاحُ غِبَّ أَمْطَارِ

أَحِبُّهُ وَبِلادُ اللهِ وَاسِعَةٌ

حُبَّ الْبَخِيلِ غِنَاهُ بَعْدَ إِقْتَارِ

وَلَسْتُ أَوَّلَ مُشْتَاقٍ إِلَى وَطَنٍ

مَعَ الأَقَارِبَ وَالأَصْحَابِ وَالْجَارِ

آخر:

سَقَى اللهُ نَجْدًا وَالْقَصِيمَ أَخُصُّهُ

سَحَابَ غَوَادٍ خَالِيَاتٍ مِنَ الرَّعْدِ

آخر:

يَا حَبَّذَا أَزَمُنٌ فِي مَنْزِل سَلَفْتَ

مَا أَقْصَرَ وَقْتَهَا عُمْرًا وَأَحْلاهَا

أَوْقَاتُ أُنْس قَضَيْنَاهَا فَمَا ذُكِرَتْ

إِلا وَقَطَّعَ قَلْبَ الْمَرْءِ ذِكْرَاهَا

آخر:

وَمِنْ مَذْهَبِي حُبُّ الدِّيَا الَّتِي بِهَا

وُلِدتُ وَحُبُّ الْمُتَّقِينَ بِأَرْضِهَا

آخر:

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْعَ الْعُهُودَ الَّتِي مَضَتْ

فَلَسْتَ بِرَاع عَهْدَ أَهْلِ الْمَنَازِلِ

وَلاسِيَّمَا دَارًا وُلِدَتَ بِرَبْعِهَا

وَكُنْتُ بِهَا جَدْلا فِي خَيْرِ آهِلِ يُرِيدُ الْقَصِيمِ

آخر:

إِذَا زُرْتَ أَرْضِي بَعْدَ طُولِ تَغَرُّبٍ

فَقَدْتُ صَدِيقِي وَالْبِلادُ كَمَا هِيَا

فَأَكْرِمْ أَخَاكَ الْمُخْلِصَ الْوِدَّ إِنَّمَا

كَفَى بِالْمَمَاتِ فُرْقَةً وَتَنَائِيَا

ص: 494

آخر:

بِذَيَّالِكَ الْمَنْزِلْ أَهِيمُ وَلَمْ أَقُلْ

بِذَيَّالِكَ الْمَنْزِلْ وَذَيَّاكَ مِنْ زُهْدِ

وَلَكِنْ إِذَا مَا حَبَّ شَيْء تَوَلَّعَتْ

بِهِ أَحْرُفُ التَّصْغِيرِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجْدِ

سَقَى اللهُ نَجْدًا وَالْقَصِيمَ أَخُصُّهُ

سِحَابُ غَوَادٍ خَالِيَاتٍ مِنَ الرَعْدِ

آخر:

بِلادٌ بِهَا كُنَّا وَنَحْنُ نُحِبُّهَا

إِذَا النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلادُ بِلادُ

آخر من يهوى التنقل تبع المصالح الدنيوية:

نَقْلِ رِكَابَكَ فِي الْفَلا

وَدَعِ الْغَوَانِي فِي الْقُصُورْ

لَوْلا التَّغَرُّبُ مَا ارْتَقَى

درَرُ الْبُحُورِ إِلَى النُّحُورْ

فَمُحَا لِفُوا أَوْطَانِهِمْ

أَمْثَالُ سُكَّانِ الْقُبُورْ

آخر:

كُلُّ الْمَنَازِلِ وَالْبِلادِ عَزِيزَةً

عِنْدِي وَلا كَمَوَاطِنِي وَبِلادِي

آخر:

مَا مِنْ غَرِيبٍ وَلَنْ أَبْدَى

تَجَلَّدَهُ إِلا تَذَكَّر عِنْدَ الْغُرْبَةِ الْوَطَنَا

آخر:

إِنَّ الْوَدَاع مِنَ الأَحْبَابُ نَافلة

لِلظَّاعِنِينَ إِذَا مَا يَمَّمُوا بَلَدَا

وَلَسْتُ أَدْرِي إِذَا شَطَّ الْمَزَارُ بِهِمْ

هَلْ تَجْمَعُ الدَّارُ أَمْ لا نَلْتَقِي أَبَدَا

دَارُ سَكَنَا بِهَا مُذْ كَانَ نَشَأَتُنَا

فِيهَا الْقَرِيبُ وَأَصْحَابُ لَنَا سَنَدَا

آخر:

كَمْ مَنْزِلٍ فِي الأَرْضِ يَأْلَفُه الفْتَى

وَحَنِينُهُ أَبَدًا لأَوَّلِ مَنْزِلِ

آخر:

وَلا تَيْأَسَا أَنْ يَجْمَع اللهَ بَيْنَنَا

كَأَحْسَنِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ تَصَافِيَا

فَقَدْ يَجْمَعُ اللهَ الشَّتْيتينِ بَعْدَمَا

يَظُنَّانِ كُلُّ الظَّنِّ أَنْ لا تَلاقِيَا

قال ابن عبد البر: ثلاث إذا كن فِي الرجل لَمْ يشك فِي عقله وفضله إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه وإليك طرف فِي الحث على الإحسان إِلَى الجار والبعد عن أذيته.

وَقَدْ جاء فِي الحديث النبوية التحذير من إيذاء الجار، والترغيب فِي الإحسان إليه، فعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه» . متفق عليه.

ص: 495

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» . متفق عليه.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» . رواه مسلم.

وفي رواية له عن أبي ذر قال إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم مِنْهَا بمعروف» .

وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «مَا تقولون فِي الزنا» ؟ قالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، فهو حرام إِلَى يوم القيامة. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» .

قال «مَا تقولون فِي السرقة» ؟ قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام. قال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من جاره» . رواه أحمد واللفظ له، ورواته ثقات والطبراني فِي الكبير والأوسط.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه» . رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وإسناد أحمد جيد.

لِلْجَارِ حَقُّ إِذَا أَدَّيْتَ وَاجِبَهُ

جَازَاكَ رَبُّكَ بِالإِحْسَانِ إِحْسَانَا

فَأَوَّلْ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَاثْنِينَّ بِهِ

وَإِنْ أَتَى سَبَّهُ جَازَيْتَ غُفْرَانَا

آخر:

وَاغْضُضْ جُفُونَكَ عَنْ عَوْرَاتِ مَنْزِلِهِ

وَأَوْلِهِ مِنْكَ لُطْفًا حَيْثُمَا كَانَا

جَارِي أَرَى حِفْظَهُ حَقًّا وَنُصْرَتَهُ

فَلَسْتُ أُسْلِمُ جَارِي عَزَّ أَوْهَانَا

إِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَنَا نَزَحَتْ

فَأَنْتُمُوا فِي سُوَيْدَا الْقَلْبِ سُكَّانُ

وَاللهِ مَا غَيَّرَتْنِي سَلْوةً عَرَضَتْ

وَلا انْطَوَى لِي على الْهجْرَان جُثْمَانُ

وَكَيْفَ أَنْسَاكُمْ وَالْقَلْبُ عِنْدَكُمْ

وَفِي الْحَشَا مِنْكُمْ وَجْدَ وَأَشْجَانُ

لا تَهْجُروا وَافِيًا يَرْعَى ذِمَامَكُمْ

فَيَبْلُغُ الْغَرضَ الْحُسَّادُ لا كَانَوا

ص: 496

قال بعضهم على لسان من فارقه من يألفه ويحبه:

كََيْفَ السَّبِيلُ وَقَدْ شَطَّتْ بِنَا الدَّارُ

أَمْ كَيْفَ أَصْبرُ وَالأَحْبَابُ قَدْ سَارُوا

وَمَنْزِلُ الأُنْسُ أَضْحَى بَعْدَ سَاكِنِهِ

مُسْتَوْحِشًا حِينَ غَابَتْ عَنْهُ أَقْمَارُ

مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالدَّارُ تَجْمَعُنَا

وَالْعَيْشُ مُتَّصِلٌّ وَالْوَصْلُ مِدْرَارُ

يَا سَاكِنِينَ بِقَلْبِي أَيْنَمَا رَحَلُوا

وَرَاحِلِينَ بِقَلْبِي أَيْنَمَا سَارُوا

غِبْتُمْ فَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا لِغَيْبَتِكُمْ

وَضَاقَ مِنْ بَعْدِكُمْ رَحْبٌ وَأَقْطَارُ

لَيْتَ الْغَرَابُ الَّذِي نَادَى بِفْرِقَتِكُمْ

عَارٍ مِن الرِّيشِ لا تَحْوِيهِ أَوْكَارُ

بَعْدَ النَّعِيمِ بَعُدْنَا عَنْ مَنَازِلِنَا

وَبَعْدَ أَحْبَابِنَا شَطَّتْ بِنَا الدَّارُ

وقال آخر:

دَعُونِي على الأَحْبَابَ أَبْكِي وَأَنْدُبُ

فَفِي الْقَلْبِ مِنْ نَارِ الْفُرَاقِ تَلَهُّبُ

وَلا تَعْتِبُونِي إِنْ جَرَتْ أَدْمُعِي دَمًا

فَلَيْسَ لِقَلْبٍ فَارَقَ الإِلْفَ مَعْتَبُ

دَعُونِي على الأَحْبَابَ أَبْكِي وَأَنْدُبُ

فَفِي الْقَلْبِ مِنْ نَارِ الْفُرَاقِ تَلَهُّبُ

وَلا تَعْتِبُونِي إِنْ جَرَتْ أَدْمُعِي دَمًا

فَلَيْسَ لِقَلْبٍ فَارَقَ الإِلْفَ مَعْتَبُ

لَقَدْ جَرَحَ التَّفْرِيقُ قَلْبِي بِنَبْلِهِ

فَمِنْ دَمِّهِ دَمْعِي على الْخَدِّ يَسْكُبُ

أَأَحْبَابُنَا مَا بِاخْتِيَارِي فُرَاقُكُمْ

وَلَكِنْ قَضَاءَ اللهِ مَا مِنْه مَهْرَبُ

وَمَا كَانَ ظَنِّي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَنَا

وَسُرْعَةَ هَذَا الْبَيْنِ مَا كُنْتُ أَحْسِبُ

أَجُولِ بِطَرْفِي بَعْدَكُمْ فِي دِيَارِكُمْ

فَارْجَعْ وَالنِّيرَانِ فِي الْقَلْبِ تَلْهَبُ

آخر:

بَكَيْتُ عَلَى الأَحِبَّةِ حِينَ سَارُوا

وَأَزْعَجَنِي الرَّحِيلُ فَلا قَرَارُ

أُنَادِيهِمْ بِصَوْتِي أَيْنَ حَلُّوا

وَفِي قَلْبِي مِنَ الأَشْوَاقِ نَارُ

يَقُولُ لِي الْعَذُولُ وَقَدْ رَآنِي

وَفِي حَالِي لِمَنْ عَشَقَ اعْتِبَارُ

أَتَجْهَرُ مَنْ تُحِبُّ وَأَنْتَ جَارُ

وَتَطْلُبُهُ وَقَدْ شَطَّ الْمَزَارُ

وَتَبْكِي عِنْدَ فُرْقَتِهِ اشْتِيَاقا

وَتَسْأَلُ فِي الْمَنَازِلِ أَيْنَ سَارُوا

ص: 497

.. لِنَفْسِكَ لَمْ وَلا تَلم الْمَطَايَا

وَمُتْ كَمَدًا فَلَيْسَ لَكَ اعْتِذَارُ

موعظة: عباد الله لقد تباعدت القلوب فِي هذا الزمان تباعدًا ينبغي أن يبكي له أشد البكاء، وأصبحنا بهذا التباعد لا أخاء بيننا، والسبب الوحيد فِي ذلك أن عشقنا الدنيا قضى نهائيًا على كل محبوب، وأصبح الهدف الوحيد هو الحصول عليها من أي طريق كَانَ، فالقلب واللسان والجوارح مشغولة ليلاً ونهارًا فِي طلب الدنيا، فهي المنتهى والمشتهى على حد قول الشاعر فيها وهي تلقب أم دفر والدفر النتن:

أَبَى الْقَلْبُ إِلا أُمَّ دَفْرٍ كَمَا أَبَى

سِوَى أُمَّ عَمْروٍ مُوجَعُ الْقَلْبِ هَائِمُ

هِيَ الْمُنْتَهَى وَالْمَشْتَهَى وَمَعَ السُّهَى

أَمَانِي مِنْهَا دُونُهُنَّ الْعَظَائِمُ

وَلَمْ تَلْقَنَا إِلا وَفِينَا تَحَاسُدٌ

عَلَيْهَا وَإِلا فِي الصُّدُورِ سَخَائِمُ

آخر:

نَعَمْ إِنَّهَا الدُّنْيَا إِلَى الْغَدْرِ دَعْوَةً

أَجَابَ إِلَيْهَا عَالِمٌ وَجَهُولُ

فَفَارَقَ عَمْرُو بن الزُّبَيْرِ شَقِيقَهُ

وَخَلَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَقِيلُ

آخر:

عَجِبْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَذَمِّي نَعِيمَهَا

وَحُبِّي لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ بَاطِنُ

وَقَوْلِي أَعِذْنِي رَبِّ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ

وَأُكْلَفُ مِنْهَا بِالَّذِي هُوَ فَاتِنُ

آخر:

أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لا يَسْأَمُونَهَا

عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ

أَرَاهَا وَإِنْ كَانَت تُحَبّ كَأَنَّهَا

سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيب تَقَشَّعُ

آخر:

لِسَانُكَ لِلدُّنْيَا عَدُوٌ مُشَاحِنٌ

وَقَلْبُكَ فِيهَا لِلسَانِ مُبَايِنُ

وَمَا ضَرَّهَا مَا كَانَ مِنْكَ وَقَدْ صَفَا

لَهَا مِنْكَ وَدٌ فِي فَؤُادِكَ كَامِنُ

فللدنيا يعق الولد أباه ويقاطع أخاه، وهو يعرف تمامًا أنه شقيقه وللدنيا المشاغبات بين الجيران والمتعاملين فللدنيا مكانة اليوم أنست الخلق خالقهم ورازقهم فإن حضروا للصلاة فالأبدان حاضرة والقلوب مع الدنيا، فعلت الدنيا بالناس اليوم أفاعيل كنت تخطر على البال، ومن أجل الدنيا ترى الخلق فِي قلاقل وأهوال.

زر المحاكم وانظر ترى العجب العجاب، كل ذلك وأعظم مِنْه

ص: 498

سببه حب الدنيا والانهماك فيها فأين نحن من سلفنا الصالح الذين قال الله تعالى فِي وصفهم: {أَشِدَّاء على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} فانظر شهادة الله لهم أنهم رحماء بينهم وهل تقتضي الرحمة إلا عطفًا مِنْهُمْ على إخوانهم وإحسانًا، وانظر إِلَى قوله تعالى:{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}

هكذا يكون المؤمنين، لذلك كَانَت هيبتهم فِي نفوس أعدائهم ترتعد مِنْهَا فرائض الشجعان وكانوا سادة الدنيا يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فإن كنت فِي شك مما ذكرنا لك فانظر إلى مَا ذكره المحققون من المؤرخين.

اللهم اجمع قلوب المؤمنين على محبتك وطاعتك، وأزل عنهم مَا حدث من المنكرات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» .

قلت: يا رسول الله وما بوائقه؟ قال: «غشمه وظلمه ولا يكسب مالا ًمن حرام فينفق مِنْه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيقبل مِنْه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كَانَ زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ

ص: 499

ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبث لا يمحو الخبيث» . رواه أحمد.

وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره قال: «أطرح متاعك على الطريق» . فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقيت من الناس، قال:«وما لقيت مِنْهُمْ» ؟ قال: يلعنوني.

قال: «قَدْ لعنك الله قبل الناس» . فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«ارفع متاعك فقد كفيت» . رواه الطبراني، والبزار بإسناد حسن بنحوه إلا أنه قال:«ضع متاعك على الطريق» . فوضعه فكان كل من مر به قال: مَا شأنك قال: جاري يؤذيني، قال: فيدعون عليه، فجاء جاره فقال: رد متاعك فإني لا أؤذيك أبدَا.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال: «اذهب فاصبر» . فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال:«اذهب فاطرح متاعك فِي الطريق» . ففعل فجعل الناس يمرونه ويسألونه فيخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه، فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه. رواه أبو داود واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وعن مطرف بن عبد الله قال: كَانَ يبلغني عنك حديث وكنت أشتهي لقائك قال: لله أبوك قَدْ لقيتني فهات. قلت: حديث بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثك، قال:«إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة» . قال فلا أخالني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 500

قال: فقلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل قال: رجل غزَا فِي سبيل الله صابرًا محتسبًا فقاتل حتى قتل وأنتم تجدونه عندكم فِي كتاب الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} .

قلت: ومن؟ قال: (ورجل كَانَ له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت) . فذكر الحديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناده واحد إسنادي أحمد رجالهما محتج بهم فِي الصحيح ورواه الحاكم وغيره بنحوه وقال: صحيح على شرط مسلم.

وعن نافع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهني والمسكن الواسع» . رواه أحمد ورواته رواة الصحيح.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني. وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» . رواه ابن حبان فِي صحيحه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أن فلانة تكثر من وصلاتها وصدقتها وصيامها غير إنها تؤذي جيرانها بلسانها.

قال: «هي فِي النار» . قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال:«هي فِي الجنة» . رواه أحمد والبزار وابن حبان فِي صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضًا ولفظه وهو لفظ

ص: 501

بعضهم قالوا: يا رسول الله فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، قال:«هي فِي النار» . قالوا: يا رسول الله فلانة تصلي المكتوبات وتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال:«هي فِي الجنة» .

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من الفواقر، إمام إن أحسنت لَمْ يشكر وإن أسأت لَمْ يغفر، وجار سوء إن رأى خيرًا دفنه، وإن رأى شرًّا أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك» . رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.

وفي حديث أنس: «اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة قاطع رحم وجار سوء» . وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(موعظة)

عباد الله لقد كَانَ سلفنا فِي محبة بعضهم بعضًا آية من الآبيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الإنصاف غاية الغايات لذلك كَانَوا فِي محبة الخير لبعضهم على أرقى مَا يتصور فِي الدرجات.

وهل يتصور أن يكون فِي أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه» .

وإن الخجل ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار فِي نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل

ص: 502

بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما مَا ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كَأنَه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب مَا هو السبب فِي ذلك فألق سمعك وأحضر قلبك.

فأقول: لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم كل مَا سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لَمْ يبق فِي القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد فِي هذا الزمان.

فالقلوب فِي سرور مَا دام المال سالمًا وإن انهار بناء الشرف والدين والنفوس فِي هدوء وطمأنينة مَا ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم فِي تواصل مَا لَمْ يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان.

وهذا من ثمرات البخل قال بعضهم: البخيل يستعجل الفقر الذي هرب مِنْه ويفوته الغنى الذي يطلبه فيعيش فِي الدنيا عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء فالبخيل هو الوحيد الذي يستبشر ورثته بمرضه وموته وتجده ليله ونهاره مستغرق فِي جمع المال لا يفتر خوفًا من الفقر وهذا هو الفقر كما قيل:

وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ

مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ

آخر:

يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ

وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ

كَدُودَةِ الْقِزِّ مَا تَبْنِييهِ يَهْدِمُهَا

وَغَيْرِهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ

آخر:

وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا

لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ

كَكَلْبِ الصَّيْدِ يَمْسِكَ وَهُوَ طَاوٍ

فَرِيسَتَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ

ص: 503

أما علم هؤلاء أن المال الذي كَانَ بأيدينا كَانَ قبلنا بيد إخواننا فِي الإنسانية الذين سبقونا إِلَى الدنيا ثم انتقل على من بعدهم من جيل إِلَى جيل إِلَى أن وصل سعد به صرفه مراضي الله وشقي به من صرفه فِي مَا يغضب الله.

ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينتقل عنك فِي أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك وأعلم أنك والله ميت وموروث عنك مَا جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسأل عنه هللة وقرشًا قرشًا.

وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاءً تستغيث فلا تغاث وتتمنى لو كَانَت الدنيا بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات.

الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك فِي طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الأوان وبقي الندم والحرمان.

قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} .

لقد أنسى حب هذا المال مَا لهم من شرف ومروءة ودين

ص: 504

وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله:

وَمَا هِيَ إِلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ

عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا

فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتُ سِلْمًا لأَهْلِهَا

وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلابُهَا

أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كَانَ نكبة على أصحابه وكذاك الأولاد إن كَانَوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعَلَى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كَانَ يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون عليَّ عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وان رأى شرًا أفشاه) .

وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال: لا خير فيه. قيل: ولم يا نبي الله؟ قال: لأنه يجمع من غير حل. قيل: فإن جمع من حل؟ قال: لا يؤدى حقه. قيل: فإن أدى حقه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء. قيل: فإن سلم؟ قال: يشغله عن ذكر الله. قيل: فإن لَمْ يشغله. قال: يطيل عليه حسابه يوم القيامة.

فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا وورد عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال: كَانَ بين عمار بن ياسر وبين رجل كلام فِي المسجد فقال عمار: أسأل الله تعالى إن كنت كاذبًا أن لا يميتك حتى يكثر مالك وولدك ويوطئ عقبك. وورد عن حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم فِي المائتين كل خفيف الحاذ» . قالوا: يا رسول الله وما الخفيف الحاذ؟ قال: «الذي لا أهل له ولا ولد» .

شِعْرًا:

يَقُولُ الَّذِي يَرْجُو مِنَ اللهِ عَفْوَُه

وَيَرْجُوهُ نَصْرًا عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ

لِمَنْ يَتَّقِي الْمَوْلَى وَيَرْجُو لِقَاءَهُ

وَعَمَّا يَقُولُ النَّاسُ لَيْسَ بِسَائِلِ

ص: 505

أَقُولُ بِحَمْدِ اللهِ قَوْلاً مُنَقَّحًا

وَلَوْ أَنَّ فَهْمِي قَاصِر فِي الْمَسَائِلِ

عَلَيْهِ مِنْ النَّصِّ الصَّرِيحِ شَوَاهِدٌ

إِذَا قُلْتُهُ يَهْوِي لَهُ كُلَّ عَاقِلِ

أَسِرُّ بِمَا بِي وَالْعُيُونُ عَوَابِرٌ

بِدَمْعٍ على الْخَدَّيْنِ ثَجًّا بِوَابِلِ

وَفِي مُدَّعِي الإِسْلامِ قَلْبِي كََأَنَّهُ

عَلَى الْمُهْلِ مِنْهُمْ لَيْسَ عَنْهُمْ بِذَاهِلِ

فَمَا بَيْنَ دَهْرِي وَمَا بَيْنَ مُشْرِكٍ

وَلَمْ يَعْرِفِ الإِسْلامَ غَيْرُ الْقَلائِلِ

وَلَوْ بَذَلُوا الأَمْوَالَ نَفْلاً لِرَبِّنَا

إِذَا الْفَرْضُ ضَاعَ لا غِنَى بِالنَّوَافِلِ

تَرَكْنَا الْكِتَابَ وَالْحَدِيثَ وَرَاءَنَا

لأَجْلِ مَجَلاتٍ أَتَتْ بِالتَّهَازُلِ

لَقَدْ حَصَّلَ الْمَقْصُودَ مِنَّا عَدُوَّنَا

وَمَقْصُودُنَا مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِحَاصِلِ

مَشَيْنَا جَمِيعًا فِي فَسَادِ صَلاحِنَا

وَرُمْنَا مَرَامًا خَاسِرًا غَيْرَ طَائِلِ

وَتَسْتَعْجِبُ الأَعْدَاءُ مِنَّا لأَنَّنَا

كَمِثْلِ الْقَطَا تَصْطَادُنَا بِالْحَبَائِلِ

أَحَاطَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ

كَأَنَّا طَعَامٌ قَدَّمُوهُ لآكِلِ

ج

ص: 506

وَصَارُوا بِحَارًا يُغْرِقُ الْفُلْكَ مَوْجُهَا

وَنَحْنُ لَهُمْ صِرْنَا كَمِثْلِ الْجَدَاوِلِ

وَنَخْتَرِعُ الأَعْدَاءِ لِلْحَرْبِ قُوَّةً

وَقَدْ هَدَّدَتْ مَنْ لَمْ يُطِعُ بِالْقَنَابِلِ

وَلَيْسَ لَنَا مِنَّا زَعِيمٌ مُصَادِمٌ

أَتَتْ تَتَمَطَّى مَا لَهَا مِنْ مُقَابِلِ

وَنَحْنَ هَبَطْنَا لِلتُّرَابِ تَوَاضُعًا

نُرِيدُ نَجَاحًا مِنْ خَفِيفِ الْقَسَاطِلِ

(فَتَبًّا لِعَبْدٍ الدَّنَانِيرِ كُلُّهُمْ

وَتَبًّا لِخَبٍّ جَاهِلٍ مُتَعَاقِلِ)

وَتَبًّا لِقَوْمٍ عَزَّ فِيهِمْ سَفِيهُهُمْ

وَصَارَ ذَلِيلاً عِنْدَهُمْ كُلُ فَاضِلِ

وَمِنْ أَعْظَمِ الْخُسْرَانِ عِزُّ عَدُوِّهِمْ

وَذُلِّهُمْ مِنْ بَعْدَ عِزِّ الأَوَائِلِ

فَيَا لَيْتَ لِلإِسْلامِ فِي الْحَالِ شَوْكَةً

ذُووا نَجْدَةٍ يَخْشَاهُمُ كُلَّ جَاهِلِ

رِجَالٌ يَرَوْنَ الْمَوْتَ مَجْدًا وَجَنَّةً

عَنِ الذُّلِّ مِنْ فِعْلِ الصُّقُورِ الْحِلاحِلِ

تَذُودُ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ بِسَيْفِهَا

وَمِنْ أَرْضِهَا تَنْفِي جَمِيعَ الأَرَاذِلِ

اللهم اختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا

ص: 507

وآصالنا واجعل إِلَى رحمتك مصيرنا ومآلنا واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ومن بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ومما حث الشارع عليه وهو من سنن المرسلين إكرام الضيف قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} .

ويذكر أنه كَانَ لا يأكل طعامه إلا مع ضيف وإن لَمْ يأته أحد خرج يلتمس ضيفَا وقال صلى الله عليه وسلم: «من كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . ورغب فيها صلى الله عليه وسلم وقال: «من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وقرى الضيف دخل الجنة» .

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو رضي الله عنهما: «فإن لجسدك عليك حقَّا وإن لعينك عليك حقَّا وإن لزورك عليك حقَّا» . والحديث رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إِلَى بعض نسائه فقالت: لا والذي بعثك بالحق مَا عندي إلا ماء ثم أرسل إِلَى الأخرى فقالت: مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق مَا عندي إلا ماء.

ص: 508

فقال: «من يضيف هذا الليلة رحمه الله» . فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فانطلق به إِلَى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني قال: فعلليهم بشيء فإذا أرادوا العشاء فنوميهم فإذا دخل ضيفا فأطفئي السراج ورأيه أنا نأكل.

وفي رواية فإذا أهوى ليأكل فقومي إِلَى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قَدْ عجب الله من صنيعكما بضيفكما» . زاد فِي رواية فنزلت هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

وعن أبي شريح خويلد بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كَانَ بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه» . رواه مالك والبخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه» . رواه أحمد ورواته ثقات والحاكم.

وعن شهاب بن عباد أنه سمع بعض وفد عبد القيس وهم يقولون: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد فرحهم فلما انتهينا إِلَى القوم أوسعوا لنا فرحب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لنا.

ثم نظر إلينا فقال: «من سيدكم وزعيمكم» . فأشرنا جميع إِلَى المنذر بن عائد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهذا الأشج فكان أول يوم وضع عليه الاسم لضربة كَانَت فِي وجهه بحافر حمار» . قلنا: نعم يا رسول الله فتخلف بعد القوم فعقل رواحلهم وضم متاعهم.

ص: 509

ثم أخرج عيبته فألقى عنه ثياب السفر ولبس من صالح ثيابه ثم أقبل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بسط النبي صلى الله عليه وسلم رجله واتكأ فلما دنا مِنْه الأشج أوسع القوم له وقالوا: ها هنا يا أشج فقال النبي صلى الله عليه وسلم واستوى قاعدًا وقبض رجله: «ها هنا يا أشج» . فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحب به وألطفه وسأله عن بلادهم وسمى لهم قرية الصفا والمشقر وغير ذلك من قرى هجر.

فقال: بأبي وأمي يا رسول الله لأنت أعلم بأسماء قرانا منا فقال: «إني وطئت بلادكم وفسح لي فيها» ثم أقبل على الأنصار فقال: «يا معشر الأنصار أكروما إخوانكم أشباهكم فِي الإسلام شيء بكم أشعارًا وأبشارًا أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين إذ أبى قوم أن يسلموا حتى قتلوا» .

قال: فلما أصبحوا قال: «كيف رأيتم كرامة إخوانكم وضيافتهم إياكم» . قالوا: خير إخوان ألانوا فرشنا وأطابوا مطعمنا وباتوا وأصبحوا يعلمونا كتاب ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم وفرح. رواه أحمد بإسناد صحيح.

وإكرام الضيف يكون بحسن استقباله ويقابله بوجه ويهش به ويبش ويرحب به ويؤهل ويظهر له من السرور مَا تطيب به نفسه ويطمئن به قلبه من حسن حديث مما يناسب حاله ومقامه وابتسام ومداعبة فِي حشمه واحترام وقديمًا قيل:

إِذَا الْمَرْءُ وَافَى مَنْزلاً لَكَ قَاصِدًا

قَرَاكَ وَأَرْمَتْهُ لَدَيْكَ الْمَسَالِكُ

فَكُنْ بَاسِمًا فِي وَجْهِهِ مُتَهَلِّلاً

وَقُلْ مَرْحَبًا أَهْلاً وَيَوْمٌ مُبَارَكُ

وَقَدِّمْ لَهُ مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الْقِرَا

عَجُولاً وَلا تَبْخَلْ بِمَا هُوَ هَالِكُ

فَقَدْ قِيلَ بَيْتٌ سَالِفٌ مُتَقَدِّمٌ

تَدَاوَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرُو وَمَالِكُ

(بَشَاشَةُ وَجْهِ الْمَرْءِ خَيْرَ مِنْ الْقِرَا

فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَهُوَ ضَاحِكُ)

ص: 510

ج

آخر:

أَمِتْ ذِكْرَ مَعْرُوفٍ تُرِيدُ حَيَاتُهُ

فَإِحْيَاؤُهُ حَقًّا أَمَانَةُ ذِكْرِهِ

وَصَغِّرْهُ يَعْظُمْ فِي النُّفُوسِ مَحَلُّهُ

فَتَصْغِيرُهُ فِي النَّاسِ تَعْظِيمٌ قَدْرِهِ

آخر:

وَمَا لِي وَجْهٌ فِي اللِّئَامِ وَلا يَدٌ

وَلَكِنَّ وَجْهِي لِلْكَرِيمِ عَرِيضُ

أَحِنُّ إِذَا لاقَيْتُهُمْ وَكَأَنَّنِي

إِذَا أَنَا لاقَيْتَ اللَّئِيمَ مَرِيضُ

آخر:

وَمَا اكْتَسَبَ الْمَحَامِدَ طَالِبُوهَا

بِمِثْلِ الْبِشْرِ وَالْوَجْهِ الطَّلِيقِ

آخر:

وَمَا اكْتَسَبَ الْمَعَالِي طَالِبُوهَا

بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ الْجَلِيلُ

آخر:

أَخُو الْبِشْرِ مَحْمُودٌ على حُسْنِ بِشْرِهِ

وَلَنْ يَعْدِمِ الْبَغْضَاءَ مَنْ كَانَ عَابِسَا

آخر:

يَقُولُونَ لِي هَلْ لِلْمَكَارِمِ وَالْعُلَى

قَوَامٌ فَفِيهِ لَوْ عَلِمَتَ دَوَامُهَا

فَقُلْتُ لَهُمْ قَوْلاً صَحِيحًا مُحَقَّقًا

نَعَمْ طَاعَةُ الرَّحْمَنِ فَهِي قَوَامُهَا

آخر:

لا يُدْرِكُ الْمَجْدُ مَنْ لَمْ يُخْلِصِ الْعَمَلا

لِخَالِقِ ذِي الْفَضْل الَّذِي شَمَلا

وَلا يَنَالُ الْعُلا إِلا الَّذِي شَرُفَتْ

أَخْلاقُهُ وَلأَمْرِ اللهِ مُمْتَثِلا

آخر:

جِيء بِالسَّمَاحِ إِذَا مَا جِئْتَ فِي غَرَض

فَفِي الْعُبُوسِ لَدَى الْحَاجَاتِ تَصْعِيبُ

سَمَاحَةُ الْمَرْءِ تُنْبِي عَنْ فَضِيلَتِهِ

فَلا يَكُنْ لَكَ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ تَقْطِيبُ

آخر:

أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ

وَيُخْصِبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ جَدِيبُ

وَمَا الْخَصْبِ لِلأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقُرَى

وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ

ولا يريه من فقره وسوء حاله وقلة ذات اليد فإنه ربما ضاق بذلك ذرعًا ويتنكد عليه المقام ويتكدر لتلك الشكوى ثم إن كَانَ عاقلاً صاحب دين رَقَّ

ص: 511

له ورحمة وقدم مَا عنده له وانعكست المسألة فأصبح ضيفًا عليه صاحب المنزل بعد أن كَانَ ضيفًا له.

وإن كَانَ جاهلاً غير دين شتمك وذمك وخرج من عندك ساخطًا يقول: مَا لا ينبغي وينسب إليك أشياء ربما أنك بريء مِنْهَا ولا تحتقر مَا عندك بل قدم له مَا تيسر من الطعام والشراب كما هي طريقة السلف الصالح رضي الله عنهم فإنهم كَانَوا يقدمون للضيف ولو كَانَ شيئا يسيرًا ويقولون: هو أحسن من العدم.

وَقَدْ دخل ضيف على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقدم له نصف رغيف ونصف خيارة وقال له: كل فإن الحلال فِي هذا الزمان لا يحتمل السرف. وأخرج سلمان رضي الله عنه إِلَى ضيف خبزًا وملحًا وقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التكلف لتكلفت لك. وقال إبراهيم النخعي رضي الله عنه: إن الإنسان لا يبخل بما تيسر ظانًا أنه لا يليق بضيفه وأنها لا تتم الضيافة به وأنه لا يذكر معه بخير فخير له أن يقال: جاد بما لديه. من أن يقال فيه: أغلق بابه وغيب وجهه عن ضيف نزل به.

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه دخل عليه نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقدم إليهم خبزًا وخلاً فقال: كلوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم الإدام الخل» . إنه هلاك بالرجل أن يدخل إليه النفر من إخوانه فيحتقر مَا فِي بيته أن يقدمه إليهم وهلاك بالقوم أن يحتقروا مَا قدم إليهم وفي رواية: كفى بالمرء شرًا أن يحتقر مَا قدم إليهم. وفي رواية: كفى بالمرء شرًا أن يحتقر مَا قدم إليه.

ولا ينبغي أن يستأثر بخير مَا عنده من البر واللحم والسمن والعسل والفاكهة ونحو ذلك ويقدم لضيفه الرديء والجاف والناشف أو مَا يكرهه هو وأهله من رديء الطعام والشراب ولا يجب عليه إنزال الضيف فِي بيته لما فيه

ص: 512

من الحرج والمشقة إلا أن لا يجد الضيف مسجدًا ولا رباطًا ولا محلا فيه ولا يخاف مِنْه ضررًا على نفسه أو ماله أو أهله فليلزم إنزاله فِي بيته للضرورة فإن خاف فلا يلزمه.

ويجوز للضيف الشرب من كوز صاحب البيت والاتكاء على وسادة موضوعة وقضاء حاجته فِي الصهروج أو الكنيف من غير استئذان بالفظ لأنه مأذون فيه عرفَا كقرع الباب عليه هذا إذ كَانَ قريبًا من محل الضيف وإلا فلا بد من تنبيه.

شِعْرًا:

وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ

يُلاقِي كَمَا لاقَى مُجِيرُ أُمُّ عَامِرِ

سَقَاهَا وَرَوَّاهَا فَلَمَّا تَضَلَّعَتْ

فَرَتْهُ بِأَنْيَابٍ لَهَا وَأَظَافِرِ

فَقُلْ لِذَوِي الْمَعْرُوفِ هَذَا جَزَاءُ مَنْ

يُوَصِّلُ مَعْرُوفًا إِلَى غَيْرِ شَاكِرِ

والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ)

وينبغي أن يخرج مع الضيف إذا خرج ويدخل معه إذ دخل ويحفظ له دابته ومتاعه ويقضي له حاجته ويحمل معه مَا يشريه لنفسه ويسعى فِي تسهيل الطريق له مَا أمكن من مساعدته على رخصة أمتعته وجواز سفر ونحوه.

وينبغي للضيف أن يكون خفيف النفس لطيفًا يفهم بالإشارة، يباشر أعماله بنفسه ولا يكلف مضيفه ويشغله عن شئونه ولا يكلفه فوق طاقته ولا يتأفف ويتكره من طعام قدم إليه ولا يترفع عن مكان أعد له وأنزل فيه ولا يعيب شيئًا مما يراه ويغض بصره ويكف سمعه ولا يتجسس أخبار أهل البيت ولا يتحكم بالحاشية ولأطفال والخدم.

ولا يطيل الإقامة حتى يحرج صاحب المنزل كما يفعله الثقلاء ولا يقول

ص: 513

إلا خيرًا ولا يفعل إلا فعل الكرام الذين يشكرون الصنيع ويكافئون على الإحسان وعَلَى المضيف أن يحتسب الأجر من الله على فعله المعروف ويغتنم مثل هذه الأعمال ولا يأل جهدًا فِي اصطناع المعروف مهما أمكنه ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: «صناع المعروف تقي مصارع السوء» . وقال علي رضي الله عنه: لا يزهدك فِي المعروف كفر من كفره فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر وقال الشاعر:

مَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لا يَعْدَمُ جَوَازِيَهُ

لا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسُ

آخر:

إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إِحْسَانٌ تَجُودُ بِهِ

فَجُدْ بِجَاهِكَ إِنَّ الْجَاهَ إِحْسَانُ

آخر:

وَمَا نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ قَدْ صَنَعْتُهَا

إِلَى غَيْرِ ذِي شُكْرٍ بِمَانَعَتِي أُخْرَى

سَآتِي جَمِيلاً مَا حَيَيْتُ فَإِنَّنِي

إِذَا لَمْ أُفِدْ شُكْرًا أَفَدْتُ بِهِ أَجْرَا

قالوا: وينبغي لمن قدر إسدائه للمعروف أن يعجله حذرًا من فواته ويبادر به خيفة عجزه ويتحرى الأخيار الكرام كما يتحرى لزراعته الرياض الطيبة وليحذر من بذر المعروف باللئام الأنذال فإنهم كالأرض السبخة تمرر الماء العذب وتفسد البذر ولا تأمن مِنْهُمْ أن ينالك جزاء إحسانك إليهم سوء وقديمًا قيل:

وَلا تَصْطَنِعْ إِلا الْكِرَامَ فَإِنَّهُمْ

يُجَازُونَ بِالنَّعْمَاءِ مَنْ كَانَ منْعِمَا

وَمَنْ يَتَّخِذْ عِنْدَ اللِّئَامِ صَنِيعَةً

يَظَلُّ على آثَارِهَا مُتَنَدِّمَا

آخر:

إِذَا شِئْتَ أَنْ تُعْطِي الأُمُورَ حُقُوقِهَا

وَتُوقِعَ حكْمَ الْعَدْلِ أَحَْسَن مَوْقِعِهِ

فَلا تَصْنَعِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ

فَظُلْمُكَ وَضْعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ

آخر:

لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي يُعْطِي عَطِيَّتَهُ

عَنِ الثَّنَاءِ وَإِنْ أَغْلَى بِهِ الثَّمَنَا

إِنَّ الْكَرِيمُ الَّذِي يُعْطَى عَطِيَّتَهُ

يَقْصُدْ رِضَى رَبِّهِ لا يَبْتَغِي ثَمَنَا

وَلا يُرِيدُ بِبَذْلِ الْعُرْفِ مُحْمَدَةً

وَلا يَمُنُّ إِذَا مَا قَلَّدَ الْمِنَنَا

ص: 514

آخر:

كَمْ طَامِعَ بِالثَّنَا مَنْ غَيْر بَذْلِ يَدٍ

وَمُشْتَهٍ حَمْدَهُ لَكِنْ بِمَجَّانِ

وَالنَّاسُ أَكْيَسُ مِنْ أَنْ يَحْمَدُوا رَجُلاً

حَتَّى يَرَوْا عِنْدَهُ آثَارَ إِحْسَانِ

آخر:

إِذَا كُنْتُمُو لِلنَّاسِ فِي الأَرْضِ قَادَةً

فَسُوسُوا كَرَامَ النَّاسِ بِالْحلم وَالْعَدْلِ

وَسُوسُوا لِئَامُ النَّاسِ بِالذُّلِّ وَحْدَهُ

صَرِيحًا فَإِنَّ الذُّلَّ أَصْلَحُ لِلنَّذْلِ

آخر:

أَمَرُّ وَأَمْضَى مِنْ سُمُومِ الأَرَاقَمَ

وَأَوْجَعُ مِنْ ضَرْبِ السُّيُوفِ الصَّوَارِمِ

وُقُوفُ فَتَىً حُرِّ تَقِيٍّ مُهَذَّبٍ

عَلَى بَابِ نَذْلٍ لارْتِيَادِ الْمَطَاعِمِ

أَلا إِنَّ قَصْدَ الْحُرِّ لِلنَّذْل هُجْنَةٌ

عَلَيْهِ وَلَوْ أَعْطَاهُ مُلْكَ الأَعَاجِمِ

آخر:

مَتَى تَحْمَدْ صَدِيقَ السُّوءِ فَاعْلَمْ

بِأَنَّكَ بَعْدَ ُمَحْمَدَةٍ تَذُمُّهْ

كَطِفْلٍ رَاقَةُ تَرْقِيشُ صِلّ

فَلَمَّا مَسَّهُ أَرَادَهُ سُمَّهْ

آخر:

مَتَى تُسْدِ مَعْرُوفًا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ

رُزئْتَ وَلَمْ تَظْفُرْ بِحَمْدِ وَلا أَجْرِ

آخر:

مَدَحْتُكُمْ طَعَمًا فِيمَا أَؤمِّلُهُ

فَلَمْ أَنَلْ غَيْرَ حَظَّ الإِثْمِ وَالتَّعَبِ

إِنْ لَمْ تَكُنْ صِلَةٌ مِنْكُمْ لِذِي أَدَبٍ

فَأُجْرَةُ الْخَطِّ أَوْ كَفَّارَةُ الْكَذِبِ

آخر:

وَاخْشَ الأَذَى عِنْدَ إِكْرَامِ اللَّئِيمِ كَمَا

تَخْشَى الأَذَى إِنْ أَهَنْتَ الْحُرَّ ذَا النُّبلِ

وقال آخر:

وَمَنْ يَجْعَلِ الضِّرِغَامِ لِلصَّيْدِ بَازَهُ

تَصَيَّدُه الضِّرْغَامُ فِيمَا تَصَيَّدَا

وَمَا قَتَلَ الأَحْرَارَ كَالْعَفْوُ عَنْهُمْ

وَمَنْ لَكَ بِالْحُرِّ الَّذِي يَحْفَظُ الْيَدَا

إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَّكْتَهُ

وَإِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا

فَوَضْعُ النِّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ باِلْعُلا

مُضِر كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَا

آخر:

إِذَا افْتَقَرَ الْكَرِيمَ فَمِلْ إِلَيْهِ

فَشَمُّ الْوَرْدِ بَعْدَ الْقَطْفِ عَادَهْ

وَإِنْ أَثْرَى اللَّئِيمُ فَصُدَّ عَنْهُ

فَبَيْتُ الْمَاءِ تُفْسِدُهُ الزِّيَادَهْ

آخر:

إِذَا مَا أَتَيْنَاهُ فِي حَاجَةٍ

رَفَعْنَا الرِّقَاعَ لَهُ بالْقَصَبْ

لَهُ حَاجِبٌ دُونَهُ حَاجِبُ

وَحَاجِبُ حَاجِبِهِ يَحْتَجِبْ

ص: 515

.. النَّاس بِالنَّاسِ مَا دَامَ الْحَيَاةُ بِهِمْ

وَالسَّعْدُ لا شَكَّ تَارَاتٌ وَتَارَاتٌ

وَأَفْضَلُ النَّاسِ مَا بَيْنَ الْوَرَى رَجُلٌ

تُقْضَى على يَدِهِ لِلنَّاسِ حَاجَاتُ

لا تَمْنَعَنَّ يَدَ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحَدٍ

مَا دُمْتَ مُقْتَدِرًا فَالسَّعْدُ تَارَاتُ

وَاشْكُرْ فَضَائِلَ صُنْعِ اللهِ إِذْ جُعِلَتْ

إِلَيْكَ لا لَكَ عِنْدَ النَّاسِ حَاجَاتُ

قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ

وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ

ولا يهمله ثقة مِنْه بظن القدرة عليه فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندمًا وكم من معول على مكنة فأورثت خجلاً كما قيل:

مَا زِلْتَ أَسْمَعُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ خَجَلٍ

حَتَّى ابْتُلِيتُ فَكُنْتُ الْوَاثِقَ الْخَجِلا

ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مدخورة ومغارمه محبورة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه» . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح» . أي التعجيل وقال بعضهم: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها.

شِعْرًا:

جُودُ الكريم إذا مَا كَانَ عَن عِدَةٍ

وَقَدْ تَأَخَّرَ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْكَدَرِ

إِنَّ السَّحَائِبَ لا تُجْدِي بِوَارِقُهَا

نَفْعًا إِذَا هِيَ لَمْ تُمْطِحر على الأَثَرِ

يَا دَوْحَةَ الْجُودِ لا عَتْبٌ على رَجُلٍ

يَهُزُّهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الثَّمَرِ

شِعْرًا:

إِنَّ الْعَطِيَّةَ رُبَّمَا أَزى بِهَا

عِنْدَ الَّذِي تُقْضَى لَهُ تَطْوِيلهَا

فَإِذَا ضَمِنْتَ لِصَاحِبٍ لَكَ حَاجَةً

فَاعْلَمْ بِأَنَّ تَمَامَهَا تَعْجِيلُهَا

آخر:

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا

فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ

وَلا تَغْفَلْ عَنِ الإِحْسَانِ فِيهَا

فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ

آخر:

أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ

فَلَنْ يَدُومَ على الإِحْسَانِ إِمْكَانُ

فعَلَى الإنسان العاقل أن يساعد أخاه المسلم على فعل معروف أو دفع ملمة بماله وجاهه ولا يقتدي بمن لا خير فيه لا فِي جاه ولا مال يهمه إلا نفسه

ص: 516

فقط قال الشاعر:

إِذَا كُنْتَ لا تُرْجَى لِدَفْعِ مُلِمَّةِ

وَلَمْ يَكُ لِلْمَعْرُوفِ عِنْدَكَ مَوْضِعُ

وَلا أَنْتَ ذُو جَاهٍ يُعَاشِ بِرَئْيِهِ

وَلا أَنْتَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَشْفَعُ

فَعَيْشُكَ فِي الدُّنْيَا وَمَوْتُكَ وَاحِدُ

وَعُودُ خِلالٍ مِنْ حَيَاتِكَ أَنْفَعُ

وليحرص فاعل المعروف على ضيف أو غيره على مجانبة الامتنان وترك الإعجاب بفعله لما فِي من إسقاط الشكر وإحباط الأجر فإنه قَدْ روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر» . ثم تلا صلى الله عليه وسلم آية البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} فالمان بالمعروف والإحسان غير محمود وفي ذلك يقول الشاعر:

إِذَا الْجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلاصًا مِن الأَذَى

فَلا الْحَمْدُ مَكْسُوبًا وَلا الْمَال بَاقِيَا

وقال العباس: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال تعجيله وتصغيره وستره فإذا عجلته هنأته وإذا صغرته عظمته وإذا سترته تممته على أن ستر المعروف من أقوى أسباب ظهوره وأبلغ دواعي نشره لما جلبت عليه النفوس من إظهار مَا خفي وإعلان مَا كتم قال الشاعر:

خَلٌّ إِذَا جِئْتَهُ يَوْمًا لِتَسْأَلُهُ

أَعْطَاكَ مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا

يُخْفِي صَنَائِعُهُ وَاللهُ يَعْلَمُهَا

إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتُهُ ظَهَرَا

آخر:

لا تَسْأَلِ النَّاسَ وَالأَيَّامُ عَنْ خَبَرٍ

هَمَا يَبُثَّانِكَ الأَخْبَارُ تَطْفِيلا

وَلا تُعَاتِبْ على نَقْصِ الطِّبَاعِ أَخَا

فَإِنَّ بَدْرَ السَّمَا لَمْ يَعْطِ تَكْمِيلا

شِعْرًا:

إِذَا الْمَرْءُ أَبْدَى الْخَيْرَ مُكْتَتِمًا لَهُ

فَلا بُدَّ أَنَّ الْخَيْرَ يَوْمًا سَيَظْهَرُ

وَيكْسَى رِدَاءً بِالَّذِي هُوَ عَامِلٌ

كَمَا يَلْبِسُ الثَّوْبَ التَّقِيُّ الْمُشَهَّرُ

آخر:

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ

وَإِنْ خَالََهَا تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ

ص: 517

اللهم هب لنا ما وهبته لأوليائك وتوفنا وأنت راض عنا وَقَدْ قبلت اليسير منا واجعلنا يا مولانا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(موعظة)

عباد الله إن الصلاة من أعظم الأمانات عندكم، مطلوب، منكم أن تؤدوها وتقيموها قال تعالى:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فالله سبحانه أمرنا بالمحافظة على الصلاة فِي أوقاتها والقيام فيها خاشعين خاضعين لجلالته وعظمته، وجعلها طريق الفوز والسعادة فِي العاجل والآجل قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .

ذلك أن الصلاة الكاملة تنير القلب وتهذب النفس وتعلم العبد آداب العبودية لله وواجبات الربوبية، بما تغرسه فِي قلب العبد المؤمن من إجلال الله وتعظيمه وتقديره، والتجلي بمكارم الأخلاق كالصديق والأمانة والقناعة والوفاء والحلم والحياء والتواضع والعدل والصبر والإحسان.

وتوجهه إِلَى مولاه، فتكثر له مراقبته وخدمته حتى تعلو بذلك همته، وتقوى عزيمته وتزكو نفسه، فيبتعد عن الكذب والخيانة، والأيمان الكاذبة، والشر والغدر والغضب والكبر والرياء، ويترفع عن البغي والعدوان، ودناءة الفسوق والعصيان والفساد قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} .

فبالمحافظة على الصلاة تقوى النفس على احتمال الشدائد، وتثبت عند نزول البلايا والمحن، ويسهل عليه البذل حالة الغنى واليسار، قال الله

ص: 518

تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}

شِعْرًا:

إِذَا أُلْهِمَ الإِنْسَانُ ذِكْرًا لِرَبِّهِ

وَكَانَ بِمَا يَأْمُرْ بِهِ اللهُ آتِيَا

فَهَذَا الْفَتَى لا مَنْ يَكُونُ مُضَيِّعًا

لأَمْرِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا

ثم انظروا عباد الله ماذا كَانَ من آثار ترك الصلاة، كَانَ من آثاره كثرة الشر ووسائل الشر، وانتشار الفواحش والمنكرات، من سفور وآلات لهو وحلق لحية علنًا وشرب دخان علنًا وصور مجسدة وغير مجسدة، وغش وتدليس وربا وعقوق والدين وقطيعة رحم وشهادة زور وقذف ولعن وغية ونميمة وأغاني من مذياع وفديو وتلفزيون ونحو ذلك من البدع المحرمة وتشبه بأعداء الإسلام بجعل خنافس وإسبال ثوب وجعل شنبات مع حلق لحية وتشبه بالنساء ومغازلة لهن وتسمية لأعداء الإسلام بسيد ومعلم وأستاذ ونحو ذلك مما يقشعر مِنْه جلد المسلم وتفتت له كبده فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الأمانة من الأخلاق الفاضلة وأصل من أصول الديانات، وهي ضرورية للمجتمع الإنساني، لا فرق بين حاكم وموظف وصانع وتاجر وزارع ولا بين غني وكبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير وواجب الموظف ورأس مال التاجر وسبب شهرة الصانع، وسر نجاح العامل والزارع، ومفتاح كل تقدم بإذن الله، ومصدر كل سعادة ونجاح بإذن الله.

وليست الأمانة مقصورة على الودائع التي تؤمن عند الناس من غال

ص: 519

وثمين كالنقدين وما ناب عنهما من أوراق، وكالجواهر والحلي والأموال بل الأمانة أوسع من هذا كله، فهي عمل لكل ما لله فيه طاعة، وامتثال واجتناب كل ما لله فيه مخالف وعصيان، سواء كَانَ ذلك فِي عبادة الله أو فِي معاملة عباده.

فالصلاة أمانة عندك مطلوب منك أن تؤديها فِي وقتها إن لَمْ يكن عذر شرعي كاملة غير منقوصة مستوفية لفرائضها وشروطها وأدائها بقلب مملوءة من الخشوع والخضوع، وجسم مملوء من الطمأنينة والاتزان.

والزكاة أمانة عندك مطلوب أن تصوم وأن تصون صيامك عن مَا يفسده، وأن تتحرى الحلال للسحور والفطور، وأن لا يفكر عقلك إلا فِي خير ولا ينطق لسانك إلا حسنًا، ولا تسمع أذنيك إلا طيبًا ولا تنظر عينك إلا مباحًا ولا تمد يدك إلا إِلَى إصلاح ولا يسعى قدمك إلا طاعة ومعروف.

والحج أمانة لله فِي عنقك إن كنت ممن توفرت لديه الشروط وهي الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والاستطاعة وتزيد المرأة شرطًا سادسًا وهو وجود محرم لها، وتؤدي مَا عليك من حقوق لله ولعباده.

وتنتظر ذلك المال الذي ستحج به أهو حلال أم حرام، وهل جمعته مع عرق جبينك أو إرثًا أو من دماء الناس وسرقة مَا لهم بغش ونحوه، وهل تريد حج رياء وسمعة أو ابتغاء وجه الله، والمهم أن تفتش على نفسك قبل العمل لئلا تخسر الدنيا والآخرة.

وبقدر مَا يكون الإنسان مقصرًا فِي عبادة من هذه العبادات يكون غير موف لأمانته تمامًا، فينبغي للإنسان أن يستحضر فِي كل ساعة وفي كل نظرة

ص: 520

ولفتة وفي كل إشارة وفي كل حركة وسكون أنه مطالب بالأمانة فلسانك أمانة عندك إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بعباد الله والقذف والفحش ونحو ذلك مما نهى عنه الشرع واستعملته فِي تلاوة كلام الله والباقيات الصالحات، فقد حفظت هذه الأمانة.

والأذن أمانة، إن جنبتها استماع المحرمات من الغيبة والملاهي والغناء وكلام من لا يرضون باستماعك ويكرهون ذلك واستعملتها في استماع ما يعود نفعه إليك فِي الدنيا والآخرة فقد حفظت هذه الأمانة.

ورجلك أمانة عندك إن استعملتها بالمشي إِلَى مَا أمر الله به، وحجزتها عن السير إِلَى مَا نهى الله عنه فقد حفظتها.

وكذلك الفرج إن جنبته الزنا واللواط والاستمناء باليد وكل مَا نهى الله عنه، واستعملته فيما أباحه لك الشرع فقد حفظته قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .

وكذلك العقل إن استعملته فيما يعود عليك بالسعادة دنيا وأخرى ولم تستعمله في المكر والدهاء وخداع المسلمين والكيد لهم ونحو ذلك فقد حفظته.

ومن معاني الأمانة وضع كل شيء في مكانه اللائق به والجدير له فلا يسند منصب إلا لمن ترفعه كفايته له، أما من يعجز عن القيام به فلا يجوز له فلا إسناده إليه، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني، قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» . والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(موعظة)

عباد الله تمر الحياة بأحدنا وهو منهمك فِي ملذاته وشهواته

ص: 521

ومطاعمه، لا يفكر فِي مآله ولا فِي يوم حسابه وكأنه خالد فِي الدنيا لا يموت أبدا، أو كَانَ عنده يقين أنه لا يحاسب على مَا جناه.

ومن العجيب أنه لا يمر يوم بل ولا ساعة إلا وفي ذلك نذير لابن آدم بالرحيل عن هذه الدار، يشاهد الموت يتخطف الناس من حوله فلا يزدجر، وتقوم الحوادث الجسام من حروب تفني آلافًا من البشر وتهدد الأحياء بالالتحاق بمن مات، وبالمجاعات والخراب، فلا يتعظ ولا يعتبر.

ويرى الحرائق مَا بين آونة وآونة تتلف النفوس والأموال والمساكين، وكيف تكون حالة الناس ومطافيهم، فلا يذكر جهنم وأهوالها وأنكالها وما فيها من أنواع العذاب الذي لا تصمد له الجبال الصم الصلاب، قست القلوب، وتحجرت الضمائر {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} {ِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

أيها الغافلون، دنياكم دار غرور وهموم وأحزان، وهي بلا شك فانية، وأخراكم دار قرار باقية، وأجهل الناس من باع آخرته بدنياه والتقوى مفتاح السعادتين الدنيوية والأخروية، ضمان ضمنه الله لعباده، ووعد لا يتخلف، قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .

أما المعاصي والغفلة والنسيان والطغيان، فليس من ورائها إلا ضنك المعيشة فِي الدنيا بالهموم المبرحة والأحزان المجرحة مع العذاب الأليم فِي الآخرة، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الآيات.

أيها العاقلون كلكم تعلمون أن الغفلة تنسي العبد ربه وآخرته، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه، قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، فلا تتعرضوا بذلك لسخطه وكونوا دائمًا ذاكرين للآخرة، فإن

ص: 522

ذلك يبعث على الخوف من الله، ومن خاف ربه استقام بإذن الله، قال الله تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} والله أعلم وصلى الله على محمد وآله.

شِعْرًا:

وَصِيَّتِي لَكَ يَا ذَا الْفَضْلِ وَالأَدَبِ

إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْكُنَ الْعَالِي مِنَ الرُّتَبِ

وَتُدْرِكَ السَّبْقَ والْغَايَاتِ تَبْلُغُهَا

مُهَنَّأًَ بِمَنَالِ الْقَصْدِ وَالأَدَبِ

تَقْوَى الإِلَه الَّذِي تُرْجَى مَرَاحِمُهُ

الْوَاحِدُ الأَحَدُ الْكَشَّافُ لِلْكُرَبِ

أَلْزَمْ فَرَائِضَهُ وَاتْرُكْ مَحَارِمَهُ

وَاقْطَعْ لَيَالِيكَ وَالأَيَّامِ فِي الْقَرْبِ

وَأَشْعِرِ الْقَلْبَ خَوْفًا لا يُفَارِقُهُ

مِنْ رَبِّهِ مَعَهُ مِثْلٌ مِنْ الرَغَبِ

وَزَيِّنِ الْقَلْبَ بِالإِخْلاصِ مُجْتَهِدًا

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرَّيَا يُلْقِيكَ فِي الْعِطَبِ

وَنَقِّ جَيْبَك مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ وَلا

تَدْخُلْ مَدَاخِلَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالرِّيبِ

وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنْ طَعْنٍ على أَحَدٍ

مِن الْعِبَادِ وَمِنْ نَقْلٍ وَمِنْ كَذِبِ

وَكُنْ وَقُورًا خَشُوعًا غَيْرَ مُنْهَمِكٍ

فِي اللَّهْوِ وَالضِّحْكِ وَالأَفْرَاحِ وَاللَّعَبِ

وَنَزِّهِ الصَّدْرَ مِنْ غِشٍّ وَمِنْ حَسَدٍ

ص: 523

.. وَجَانِبْ الْكِبْرَ يَا مِسْكِينُ وَالْعُجُبِ

وَارْضَ التَّوَاضُعَ خُلَقًا إِنَّهُ خُلُقُ الـ

أَخْيَارِ فَاقْتَدْ بِهِمْ تَنْجُو مِنْ الْوَصَبِ

وَخَالِفِ النَّفْسَ وَاسْتَشْعِرْ عَدَاوَتَهَا

وَارْفُضْ هَوَاهَا وَمَا تَخْتَارُهُ تُصِبِ

وَإِنْ دَعَتْكَ إِلَى حَظٍّ بِشَهْوَتِهَا

فَاشْرَحْ لَهَا غِبَّ مَا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ

وَازْهَدْ بِقَلْبِكَ فِي الدَّارِ الَّتِي فَتَنَتْ

طَوَائِفًا فَرَأَوْهَا غَايَةَ الطَّلَبِ

تَنَافَسُوهَا وَأَعْطَوْهَا قَوَالِبَهُمْ

مَعَ الْقُلُوبِ فَيَا للهِ مِنْ عَجَبِ

وَهِيَ الَّتِي صَغُرَتْ قَدْرًا وَمَا وَزَنَتْ

عِنْدَ الإِلَهِ جَنَاحًا فَالْحَرِيصُ غَبِي

وَخُذْ بَلاغَكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَاسْعَ بِهِ

سَعْيَ الْمَجْدِ إِلَى مَوْلاكَ وَاحْتَسِبِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الَّذِي يَبْتَاعَ عَاجِلَهُ

بِآجِلٍ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ يَخِبِ

وَإِنْ وَجَدْتَ فَوَاسِ الْمَعْوِزِينَ تَفِضْ

عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الأَرْزَاقُ فَاحْتَسِبِ

وَإِنْ بُلِيتَ بِفَقْرٍ فَارْضَ مُكْتَفِيًا

باللهِ مِنْ رَبِّكَ الْفَضْلَ وَارْتَقَبِ

وَاتْلُ الْقُرْآنَ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ وَجَلٍ

ص: 524

.. عَلَى الدَّوَامِ وَلا تَذْهَلْ وَلا تَغِبِ

وَاذْكُرْ إِلَهَكَ ذِكْرًا لا تُفَارِقُهُ

وَادْعُ الإِلَهَ وَقُلْ يَا فَارِجِ الْكُرَبِ

يَا رَبِّ إِنَّكَ مَقْصُودِي وَمُعْتَمَدِي

وَمُرْتَجَايَ بِدُنْيَايَ وَمُنْقَلَبِي

فَاغْفِرْ وَسَامِحْ عُبَيْدًا مَا لَهُ عَمَلٌ

بِالصَّالِحَاتِ وَقَدْ أَوْعَى مِنَ الْحُوبِ

اللهم قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

فالولاية شروطها الحفظ والعلم والقوة والأمانة، فالواجب أن يختار للعمل أحن الناس قيامًا به، فإن عدل عنه إِلَى غيره لهوىً أو رشوة أو قرابة فهذه خيانة ممن ولاه أو تسبب فِي الولاية، قال صلى الله عليه وسلم:«من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله مِنْه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» . رواه الحاكم.

وعن أبي يعلي معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» . وفي رواية لمسلم: «مَا من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة» .

وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل يوم القيامة مغلولة يده إِلَى عنقه ففكه بره أو أوبقة إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة» .

وعن أبي هريرة مرفوعًا «ويل للأمناء ويل للعرفاء ليتمنين أقوام يوم

ص: 525

القيامة أن ذوائبهم كَانَت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء» .

وفي أفراد مسلم من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» . وفي لفظ آخر: «يا أبا ذر إني أحب لك مَا أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم» .

وفي الحديث الآخر: «أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم أن فِي العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله ورسوله وغش جماعة المسلمين» . قلت: وفي زماننا المظلم بالمنكرات والمعاصي كثير من الأعمال يتولاها أناس لا يصلون كفرة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إِلَى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك مَا أخاف عليك بعد مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله مِنْه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» . رواه الحاكم.

والأمة التي لا أمانة لها هي التي تنتشر فيها الرشوة وتعمل على إهمال الأكفاء وإبعادهم وتقديم الذين ليسول أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة الذي وقع. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله متى تقوم الساعة فقال:«إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» . فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة» . رواه البخاري.

ومن معاني الأمانة أن يحرص الإنسان على أداء واجبه كاملاً فِي العمل الذي يناط به وأن يستنفد جهده فِي تكميله وتحسينه وأن يفي بجميع مَا اتفقا عليه عملاً ووقتًا، والخيانة تتفاوت، فما أصاب الدين وجمهور

ص: 526

المسلمين وتعرضت البلاد لأذاه أشد إثمًا ونكرًا وشناعة، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فقال: هذه غدرة فلان» . رواه البخاري.

وفي رواية: «لكل غادر لواء عنه إسته يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة» .

ومن الأمانة أن لا يستغل الإنسان منصبه الذي عين فيه لجر منفعة له أو إِلَى قريبه فأخذ زيادة على مَا رتب له من بيت المال بطرق ملتوية.

إما بتناول رشوة وإما بتناول رشوة باسم هدية أو تحفة يتناولها هذا الخائن بتأويلات باطلة أو بمحاباة أو مجاملة صديق أو رفيق أو جارٍ بما فيه ضرر على عموم المسلمين أو بأية ذريعة ووسيلة من وسائل الاستغلال النفوذي، فكل ذلك غش وخيانة، وما أخذ فهو سحت لأنه ثمرة خيانة وغدر وخداع ومكر، قال تعالى:{وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

وعن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه منكم على عمل فكتما مخيطًا فما فوقه كَانَ غلولاً يأتي به يوم القيامة» . فقام إليه رجل أسود من الأنصار كَأنَي انظر إليه فقال: يا رسول الله أقبل عني عملك قال: «ومالك» . قال: سمعتك تقول كذا وكذا قال: «وأنا أقول الآن من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي مِنْه أخذ وما نهي عنه» . انتهى رواه مسلم.

شِعْرًا:

يَغْدُ إِلَى كَسْبِ قِيرَاط أَخُو عَمَل

لَوْ يُوزَنُ الإِثْمُ فِيهِ كَانَ قِنْطَارَا

وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه.

ثم قال: «أما بعد فإني استعمل رجالاً منكم على أمور ولاني الله فيأتي

ص: 527

أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي فهلا جلس فِي بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدي له أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ مِنْه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كَانَ بعيرًا له رغا أو بقرًا له خوارٌ أو شاة تيعر» .

ثم رفع يديه حتى رأينا عَفْرَتَيْ إبطيه ثم قال: «اللهم هل بلغت» . متفق عليه، قال الخطابي: وفي قوله: «هلا جلس فِي بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدي إليه أم لا» . دليل على أن كل أمر يتذرع به إِلَى محظور فهو محظور.

وكل داخل فِي العقود ينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا.

أما الذي يلتزم حدود الله فِي وظيفته ولا يخون الواجب الذي طوقه فهو من المجاهدين قال صلى الله عليه وسلم: «العامل إذا استعمل فأخذه الحق وأعطى الحق لَمْ يزل كالمجاهد فِي سبيل الله حتى يرجع إِلَى بيته» .

شِعْرًا:

فَلِلَّهُ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ

تَسِحُّ لِفَرْطِ الْوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا

يَقِيمُ إِذَا مَا اللَّيْلُ مَدَّ ظَلامَهُ

عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَأْتَمَا

فَصِيحًا بِمَا قَدْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ

وَفِيمَا سِوَاهُ فِي الْوَرَى كَانَ أَعْجَمَا

وَيَذْكُرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ

وَمَا كَانَ فِيهَا بِالْجَهَالَةِ أَجْرَمَا

فَصَارَ قَرِينَ الْهَمِّ طُولَ نَهَارِهِ

وَيَخْدِمُ مَوْلاهُ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا

يَقُولُ إِلَهِي أَنْتَ سُؤلِي وَبُغْيَتِي

كَفَى بِكَ لِلرَّاجِينَ سُؤْلاً وَمَغْنَمَا

ص: 528

عَسَى مَنْ لَهُ الإِحْسَانُ يَغْفِرُ زِلَّتِي

وَيَسْتُرُ أَوْزَارِي وَمَا قَدْ تَقَدَّمَا

اللهم أذقنا عفوك وأسلك بنا طريق مرضاتك. وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا مَا يبعد عن طاعتك الله وثبت محبتك فِي قلوبنا وقوها ويسر لنا مَا يسرته لأوليائك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ومن معاني الأمانة حفظ الأسرار التي لا يرضى أهلها أن تذاع فكم من أضرار على الأبدان والأموال والأعراض حصلت بإفشاء الأسرار إلا إذا كَانَت الأسرار فيها على المسلمين فليس لها حرمة ولا يجوز كتمها وعَلَى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليلحقوا به الأذى أن يسارع إِلَى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته فإن ذلك خطر عظيم وفساد كبير، وَقَدْ قال صلى الله عليه وسلم:«المجلس بالأمانة إلا مجلس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق، ومما يتعين كتمه وستره مَا يجري بين الرجل وامرأته مما يفضي به أحدهما إِلَى الآخر فإن التحدث به خيانة لهذه الأمانة» .

إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ

وَلامَ عَلَيْهِ غَيْرَه فَهُوَ أَحْمَقُ

إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ

فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرِّ أَضْيَقُ

فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إِلَى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» . والثرثارون من أحلى وألذ مَا يتسامرون به فِي مجالسهم منكر من أقبح المنكرات، ألا وهو مَا يقع بينهم وبين أزواجهم فِي الخلوات الخاصة من كلام وأفعال، وما يكون من الرجال قليل من مَا يكون من النساء فإن الكلام فِي هذا الموضوع عادتهن

ص: 529

الوحيدة وهذه معصية من أفحش المعاصي ووقاحة محرمة.

وعن أسماء بنت يزيد أنها كَانَت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال:«لعل رجلاً يقول مَا فعل بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها» . فأزم القوم - أي سكتوا وجلين - فقلت: أي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن قال: «فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون» . رواه أحمد.

شِعْرًا:

إِنَّ الْكَرِيمَ الَّذِي تَبْقَى مَوَدتُه

وَيَحْفَظُ السِّرَ إِنْ صَافَا وَإِنْ صَرَمَا

لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي إِنْ زَلَّ صَاحِبُه

بَثَّ الذي كَانَ مِن أَسْرَارِهِ عَلْمَا

روى عن بعض الورعين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: مَا الذي يريبك مِنْهَا. فقال: العاقل لا يهتك سترَا. فلما طلقها قيل له: الآن طلقتها. فقال: مَا لي ولا مرأة غيري (المعنى عليَّ وعليها ستر الله) . وهكذا الرجال الذي يعرفون قدر الأمانة والغالب أن إخبار الناس بالأسرار يترتب عليه أضرار فلذلك قيل حول هذا الكلام:

احْفَظْ لِسَانَكَ لا تَبُحْ بثلاثةٍ

سِنٍّ ومالٍ إِنْ سُئِلْتَ ومَذْهَب

فَعَلَي الثلاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلاثةٍ

بِمَُكَفِّرٍ وبِحَاسِدٍ ومُكَذِّبِ

ومن الأمانة الوضوء فإن أداه كاملاً بدون مجاوزة للحد فقد حفظ هذه الأمانة وإن أداها وإن فرط فيها وأهمل بعض الأعضاء أو بعض الجسم فِي الغسل أو تعدى إِلَى الوسواس وفاتت لمولاه فقد خان أمانته.

وكذلك الكيل والوزن أمانة إن أداه على الوجه المطلوب بلا بخس ولا غش فقد حفظها وأداها، وإن بخس أو غش أو دلس فقد خان أمانته.

وكذلك أولادك أمانة عندك إن أحسنت فيهم وربيتهم تربية صالحة

ص: 530

ووجهتهم توجيهًا حسنًا فقد أديت أمانتك وإن أهملهم ولَمْ يبال بهم فقد خان أمانته.

وكذلك الودائع التي تدفع إِلَى الإنسان ليحفظها حينًا ثم يردها إِلَى أصحابها حين يطلبونها أو إِلَى الحاكم إن فقدوا ومن يخلفهم وتعذر عليه إيصالها إليهم وأيس من مجيء صاحبها، فهذه من الأمانات التي يسأل عنها، وَقَدْ استخلف صلى الله عليه وسلم عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إِلَى ترك وطنه فِي سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: ثلاثة مؤدبين إِلَى البر والفاجر الأمانة والعهد وصلة الرحم.

وكذلك التلميذ أمانة يجب على الأستاذ أن يوجهه إِلَى العلوم النافعة والعقائد السليمة ويحذره من البدع وما يضره فِي دينه ويحذره من أهل البدع ويبين مَا يعرفه من الكتب المظل دراستها والعلماء المنحرفين عن الصراط المستقيم ليجتنبهم وكتبهم، ويذكر له العلماء المحققين المستقيمين وكتبهم ليقتنيها فيتأثر بها بإذن الله وتحل العقيدة السليمة فِي قلبه ويسعد فِي حياته وبعد مماته بإذن الله تعالى.

ويحذره من كتب الأشاعرة والشيعة والمعتزلة ومن علمائهم ومن أضر مَا على المسلمين اليوم الأشاعرة وكتبهم والرافضة وكتبهم عصمنا الله وجميع المسلمين مِنْهُمْ ومن كتبهم وبدعهم التي عمت وطمت وصرفت كثيرًا من الناس عن طريقة السلف الخالصة من شوائب البدع.

ويكون هذا المعلم المخلص هو السبب الوحيد لاستقامة هذا التلميذ وهدايته فيا لها من تجارة ويا له من ربح، ويا لها من نصيحة فنجد التلميذ إن كَانَ وافيًا شكورًا يدعوا لمواجهة دائمًا وإن لَمْ يكن كذلك فأجر المعلم والموجه

ص: 531

المخلص لا يضيع عند الله، قال تعالى:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} والناس يختلفون فيهم روض وسبح.

قال بعضهم:

لَعَمْرُكَ مَا المَعْرُوفُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ

وفي أَهْلِهِ إِلَاّ كَبَعْضِ الوَدَائِعِ

فََمُسْتَودٌع ضَاعَ الذِي كَانَ عِنْدَهُ

وَمُسْتَوْدَعٌ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ ضَائِعِ

وَمَا النَّاسُ فِي كُفْرِ الأَيَادِي وَشُكْرِهَا

إلى أَهْلِهَا إِلَاّ كَبَعْض المَزارِعِ

فَمَزْرَعَةُ أَجْدَتْ فَأَضْعَفْ زَرْعُهَا

وَمَزْرَعَةٌ أَكْدَتْ على كُلِّ زَارِعِ

وكذلك العمل أمانة فِي عنق العالم يسأل عنه يوم القيامة إذا لَمْ سنشره بين الناس وينور به قلوبهم يكون خائنًا لأمانته وغاشًّا لإخوانه قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} .

قال بعض المفسرين على هذه الآية: والتنديد بكتمان مَا أنزل الله من الكتاب المقصود به أولاً أهل الكتاب ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة يكتمون الحق الذي يعلمونه ويشترون به ثمنًا قليلاً إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ويخشون عليها من البيان وإما هو الدنيا كلها وهي ثمن قليل حين تقاس على مَا يخسرونه من رضى الله ومن ثواب الآخرة. انتهى.

وقال آخر: وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة كَانَت أو مستنبطة وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك إذ غير جائز استحقاق الأجر على مَا يجب فعله بلغ يا أخي الذين يأكلون بالكتب الدينية ويحتكرونها باسم تحقيق أو نشر نسأل الله العافية.

ص: 532

وَقَدْ روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد، وأيم لولا آية فِي كتاب الله مَا حدثت بشيء أبدًا، ثم تلا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا مما ينفع الله به الناس فِي أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . رواه ابن ماجة ومن الأمانة فِي العلم إنك إذا أبديت رأيًا ثم أراك الدليل القاطع أو الراجح أن الحق فِي غير مَا أبديت أن تصدع بما استبان لك أنه الحق.

ولا يمنعك من الجهر به أن تنسب إِلَى سوء النظر فيما رأيته أولاً، والأمانة حملت كثيرًا من العلماء على أن يظهروا رجوعهم عن كثير من آراء علمية أو اجتهادية دينية تبين لهم أنهم غير مصيبين فيها.

ولا يكترثون بما قال فيهم من الاعتراضات التي فِي غير محلها لعلمهم أن الناس مَا مِنْهُمْ سلامة أبدَا مهما استقاموا ولهذا الرسل لَمْ يسلموا مِنْهُمْ قولاً وفعلاً، بل الله جل وعلا الذي أوجدهم ورباهم ورزقهم وفضلهم على كثير ممن خلق جعلوا له ولدا وقالوا: لا يعيدنا، فلا مطمع فِي السلامة مِنْهُمْ، وهم كما قال الشاعر معربًا عن صفاتهم:

وَإِنْ تُبْدِي يَوْمًا بالنَّصِيحَةِ لامْرئٍ

بِتُهْمَتِهِ إِيَّاكَ كَانَ مُجَازِيَا

ص: 533

ج

وَإِنْ تَتَحَلَّى بِالسَّمَاحَةِ وَالسَّخَاء

يُقَالُ سَفِيهٌ أَخْرَقٌ لَيْسَ وَاِعِيَا

وَإِنْ أَمْسَكْت كفَّاكَ حَالَ ضَرُورَةٍ

يُقَالُ شَحِيحٌ مُمْسِكٌ لا مُسَاوِيَا

وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْ فِيكَ يَنْبُوعُ حِكْمَةٍ

يَقُولُونَ مِهْذَارًا بَذِيًّا مُبَاهِيَا

وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَعْنِ أَنْ كُنْتَ تَارِكًا

يَقُولُونَ عَنْ عِيٍ مِن العَجْزِ صاَغِيَا

وَإِنْ كُنْتَ مِقْدَامًا لِكُلِّ مُلِمَّةٍ

يُقَالُ عَجُولٌ طَائِشُ العًقْلَ وَاهِيَا

وَإِنْ تَتَغَاضَى عَنْ جَهَالَةِ نَاقِصٍ

يَعُدُّوكَ خَوَارًا جَبَانًا وَلاهِيا

وَإِنْ تَتَقَاصَى بِاعْتِزالِكَ عَنْهُمُو

يَخَالُوكَ مِنْ كِبْرٍ وَتِيهٍ مُجَافِيَا

وَإِنْ تَتَدَانَى مِنْهُمْ الِتَأَلُّفٍ

يَظُنُّوكَ خَدَّاعًا كَذُوبًا مُرَائِيَا

تَرى الظُّلْمَ مِنْهُمْ كَامِنًا فِي نُفُوسِهم

كذَا غَدْرُهُم فِي طَبْعِهِمْ مُتَوَارْيَا

فَفِي قُوَّةِ الإِنْسَانِ يَظْهَرُ ظُلْمُهُ

وَفِي عَجْزِهِ يَبْقَى كَمَا كَانَ خَافِيَا

وَهَيْهَاتَ تَنْجُو مِنْ غَوَائِلِ فِعْلِهم

وَأَقْوَالِهِمْ مَهْمَا تَكُنْ مُتَحَاشِيَا

ص: 534

فَمَنْ رَامَ إِرْضَاءَ الأَنامِ بِقَوْلِهِ

وَفِعْلٍ غَدَا لِلْمُسْتَحِيلِ مُعَانِيَا

وَمَنْ ذَا الذِي أَرْضَى الخَلَائِقِ كُلَّهُم

رَسُولاً نَبِيَّا أَمْ وَلِيًّا وَقَاضِيَا

وَأَعْظَمُ مِنْ ذَا خَالِقُ الخَلْقُ هَلْ تَرَى

جَمِيعَ الوَرَى فِي قِسْمَةٍ مِنْه رَاضِيَا

إِذَا كَانَ رَبُّ الخَلْقِ لمْ يُرْضِ خَلْقَهُ

فَكيْفَ بِمَخْلُوقٍ رِضَاهُمْ مُرَاجِيا

فَلازِمْ رِضَى رَبِّ العِبَادِ إِذاً وَلَا

تُبَالِ بِمَخْلُوقِ إذَا كُنْتَ زَاكِيَا

وَسَدِّدْ وَقَارِبْ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا

يُكَلَّفُ عَبْدٌ فِعْلَ مَا كَانَ قَاوِيَا

اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدنيا ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ومن الأمانة فِي العلم أنك إذا سئلت عن مسألة خافيًا عليك حكمها أن تقول: لا أدري غير مستنكف ولا مبال بما يكون لها من أثر عند السائلين والمستمعين ولأن يقال سئل فقال: لا أدري خير من أن يقال سئل فأجاب خطأ أو روى مَا لَمْ يكن واقعًا.

ص: 535

وسأل رجل بن عمر عن مسألة فقال: لا علم لي بها. ثم قال السائل بعد أن ولى: نِعْمَ مَا قال بن عمر قال: لما لا يعلم لا أعلم.

وقال سفيان بن عيينة: كنت فِي حلقة رجل من ولد عبد الله بن عمر فسئل عن شيء فقال: لا أدري. فقال له يحي بن سعد: العجب منك كل العجب تقول: لا أدري وأنت ابن إمام هُدَى؟ فقال: أولا أخبرك منى عند الله وعند من عقل عن الله من قال بغير علم أو حدث عن غير ثقة.

وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس عن ثمان وأربعين مسألة، فقال فِي اثنين وثلاثين مِنْه: لا أردي.

وعن أبي سليمان بن بلال: قال شهدت بن محمد بن أبي بكر الصديق والناس يسألونه، فقال: يا هؤلاء بعض مسائلكم فإنا لا نعلم كل شيء.

وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلاً مِنْه فِي أيديهم إذا سئل أحدهم عما لا يعلم قال: لا أدري.

عَلَيْكَ بِلَا أَدْريْ إِذََا كُنْتَ جَاهِلاً

لِتَسْلَمَ مِن شَرِّ الخَطَا فِي الإِجَابَةِ

آخر:

وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا

وَيَكْرَهُ لا أَدْرِي أَصِيْبَتْ مَقَالِتُهْ

آخر:

يَمُدُوْنَ فِي الإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً

وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْجَوَابِ يُكَذْلِكُ

آخر:

حِذَارَكَ أَنْ تَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ

كَفَى بِالشَّكِ عِنْدَ النَّاسِ جَهْلاً

آخر:

وَبِالصِّدْقِ فَاسْتَقْبِلْ حَدِيْثَكَ إِنَّهُ

أَصَحُّ وَأَدْنَى لِلسَّدَادِ وَأَمْثَلُ

ص: 536

آخر:

تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُوْلَدُ عَالِمًا

وَلَيْسَ أَخُوْ عِلْمٍ هُوَ جَاهِلُ

وَإِنْ كَبِيرَ الْقَوْمِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ

صَغِيرٌ إِذَا التَّقَتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ

ومن الأمانة فِي العلم أن لا يفتي بما يراه باطلاً. إلا إن سأله عن مَا يراه فلان بأن قال: مَا رأي الشافعي أو أحمد فيها، أو مَا هو اختيار شيخ الإسلام فيها، إن كنت عالمًا بالحكم تقول له: يرى كذا وكذا ولا بأس.

وبالتالي فما من إنسان منا إلا وعلمه أمانة لله فِي عنقه، فالشعب أمانة فِي يد الولاة للأمور، والدين أمانة فِي يد العلماء وطلبة العلم والعدل أمانة فِي يد القضاة والحق أمانة فِي يد المجاهدين، والصدق أمانة فِي يد الشهود، والمرضى أمانة فِي يد الأطباء، والمصالح أمانة فِي يد المستخدمين، والتلميذ أمانة فِي يد الأستاذ، والولد أمانة فِي يد أبيه، والوطن أمانة فِي يد الجميع، وهكذا باقي الأمانات.

وَقَدْ ورددت آيات وأحاديث فِي عظم شأن الأمانة والأمر بحفظها وأدائها والتحذير من الخيانة فيها، قال الله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: القتل فِي سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل فِي سبيل الله فيقال: أد أمانتك فيقول: أي رب كيف وَقَدْ ذهبت الدنيا، فيقال: انطلقوا به إِلَى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي فِي أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي فِي أثرها أبد الآبدين.

ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد

ص: 537

ذلك الودائع، قال: راوي الحديث فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إِلَى مَا قال ابن مسعود قال: كذا وكذا قال: البراء صدق أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .

وفي حديث حذيفة فِي وصفه لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: «أن الأمانة نزلت فِي جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» .

وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا، وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة فيقال: إن فِي بني فلان رجلاً أمينًا ويقال للرجل: مَا أعقله وما أظرفه وما أجلده وما فِي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» . الحديث رواه البخاري.

وللأمير الصنعاني فِي الحث على تدبر كتاب الله والتفكر فِي آياته والثناء على الله قصيدة بليغة.

الْوَارِدَاتُ عَلَيْنَا كُلَّهَا مِنَنٌ

مِنْ رَبِّنَا فَلَهُ الإِحْسَانُ وَالْحَسَنُ

إِنَا لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ

مَا لا تُحِيْطُ بِهِ عَيْنٌ وَلا أُذُنُ

ص: 538

فَشُكْرُ بَعْضِ أَيَادِيهِ الَّتِي شَمَلَتْ

عَنْ شُكْرِهَا يَعْجَزُ الْعَلامَةُ اللَّسِنُ

يَا عَالِمَ الْغَيْبِ لا يَخْفَاهُ خَافِيَةٌ

وَعِلْمُهُ يَتَسَاوَى السِّرُّ وَالْعَلَنُ

أَهْلُ الْبَسِيْطَةِ طُرًّا تَحْتَ قَبْضَتِهِ

وَكُلُّهُمْ بِالذِّي يِأْتِيهِ مُرْتَهَنُ

بِحِكْمَةٍ وَبِعِلْمٍ كَانَ مُبْتَدِئًا

هَذَا الْوُجُودَ الذِّي حَارَتْ لَهُ الْفِطَنُ

دَحَى الْبَسِيطَةَ فَرْشًا لِلأنَامِ وَقَدْ

عَلَتْ عَلَيْهَا الْجِبَالُ الشُّمُّ وَالْقُنَنُ

كَيْلا تَمِيْدَ بِأَهْلِهَا وَأَوْدَعَهَا

لَهُمْ مَنَافِعَ إِنْ سَارُوا وَإِنْ قَطَنُوا

بَنَى السَّمَاءَ بَأَيْدٍ فَوْقَهَا وَحَوَتْ

عَجَائِبًا أَعْرَضُوا عَنْهَا وَمَا فَطَنُوا

فَفِي التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهَا عِبَرٌ

لَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَنْ أَفْكَارِنَا الرَّسَنُ

وَقَدْ حَكَى اللهُ إِعْرَاضَ الْعِبَادِ فَهَلْ

غَطَّى على الْعَيْنِ مِنْ أَفْكَارِنَا الْوَسَنُ

إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِ خَالِقِنَا

عِبَادَةُ الْفِكْرِ فِيْهَا الْخَلْقُ قَدْ غُبِنُوا

تَزْدَادُ بِالْفِكْرِ إِيْمَانًا وَمَعْرِفَةً

فَلا يَفُوتُكَ شَيْءٌ مَا لَهُ ثَمَنُ

ص: 539

.. مَنَّ الإِلَهُ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ فَقُلْ

يَا مِنَّةً قَصُرَتْ مِنْ دُونِهَا الْمِنَنُ

فَصَرِّفِ الْفِكْرَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ تَجِدْ

فِيْهِ الْعُلُومَ الَّتِي لَمْ يَحْوِهَا الْفَطِنُ

آيَاتُهُ أَعْجَزَتْ كُلاٌّ بَلاغَتُهَا

وَأَبْلَغُ الْخَلْقِ قَدْ أَوْدَى بِهِ اللَّكَنُ

أَدِلَّةٌ وَأَقَاصِيصٌ وَأَمْثِلَةٌ

لَفْظٌ بَلِيغٌ وَمَعْنَى فَائِقٌ حَسَنُ

غُصْ بَحْرَهُ تَلْقَ فِيْهِ الدُّرَّ مُبْتَذَلاً

وَفُلْكُ فِكْرِكَ فِي أَمْوَاجِهِ السُّفُنُ

كَمْ قِصَّةٍ وَصَفَتْ أَخْبَارَ مَنْ دَرَجُوا

مِنْ صَالِحٍ وَشَقِيٍّ رَبُّهُ الْوَثَنُ

قِفْ بِالْمَثَانِي تَرَى آيَاتِهَا عَجَبًا

أَوْ بِالْمَئِينِ فَفِيهَا كُلِّهَا الْمِنَنُ

أَوْ الطَّوَالِ فَفِيْهَا الْعِلْمُ أَجْمَعُهُ

خَزَاِئٌن هِيَ لِلأَحْكَامِ تَخْتَزِنُ

وَفِي الْمُفَصَّلِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ

قَوَارِعٌ لِقُلُوبٍ مَا بِهَا دَرَنُ

إِنَّ الذُّنُوبَ لأَوْسَاخُ الْقُلُوبِ فَلَا

يَكُنْ فُؤَادُكَ بَيْتًا حَشْوُهُ الدِّمَنُ

وَدَاوِ قَلْبَكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ فَمَا

يُجْدِي الدَّوَاءُ بِمَيْتٍ بَعْدَ مَا دَفَنُوا

ص: 540

بِمَرْهَمِ التَّوْبَةِ الصِّدْقِ النَّصُوْحِ فَذَا

هُوَ الدَّوَاءُ لِذَاكَ الدَّاءِ لَوْ فَطِنُوا

وَنَارُ ذَنْبِكَ تُطْفِيهَا الدُّمُوعِ إِذَا

أَثَارَهَا الْخَوْفُ مِنْ مَوْلاكَ وَالْحَزَنُ

بَادِرْ بِهَذَا الدَّوَا مِنْ قَبْلِ مِيْتَتِهِ

فَمَا لِسَهْمٍ الْقَضَا مِنْ دُوْنِهِ جُنَنُ

وَرُبَّ شَخْصٍ تَوَفَى قَبْلَهُ وَثَوَى

فِي صَدْرِهِ فَهُوَ قَبْرٌ وَالْحَشَا كَفَنُ

تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي حَامِلاً جَدَثًا

فَهَلْ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا أَتَى الزَّمَنُ

فَأَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيْقًا يَكُونُ بِهِ

حُسْنُ الْخِتَامِ فَفِيْهِ الْفَوْزُ مُرْتَهَنُ

فَفِي الصَّلاةِ على خَيْرِ الْوَرَى وَعَلَى ال

آلِ الْكِرَامِ مَعَ التَّسْلِيْمِ يَقْتَرِنُ

اللهم ثبت محبتك فِي قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن توثيق عرى المودة بين المسلمين وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد، والحرص على مَا يجلب المودة والتآلف: والتناصر والتعاضد، وتجنب مَا يوغر الصدور

ص: 541

ويورث العداوة واجب تقتضيه الأخوة الإيمانية، والإيمان لا يكون تامًا إلا بذلك.

والله سبحانه وتعالى نهى عن التفرق فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ} فأمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرق، وَقَدْ وردت أحاديث متعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف.

ولما كَانَ الصالح بين المسلمين أفرادًا أو جماعات يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل وحقن الدماء التي تراق بين الطوائف المتنازعة.

وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل وتوفير الرسوم والنفقات الأخرى وتجنب إنكار الحقائق التي تجر إليها الخصومات وترك شهادة الزور وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس وتفرغ النفوس للمصالح بدل جدالها وانهماكها فِي الكيد للخصوم إِلَى غير ذلك مما يثمره الصلح أمر الله به وحث عليه.

قال الله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .

وقال تعالى: {لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .

ص: 542

وحث صلى الله عليه وسلم على الصلح وأصلح بين كثير من أصحابه وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كَانَ بينهم شر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم فِي أناس معه. الحديث متفق عليه.

ولقد بلغت العناية بالصلح بين المسلمين إِلَى انه رخص فيه بالكذب رغم قباحته وشناعته وشدة تحريمه، وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَمْ يكذب من نمى بين اثنين ليصلح بينهم» .

وفي رواية: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرًا أو نمى خيرًا» . رواه أبو داود، وفي رواية لمسلم قالت: ولم أسمعه يرخص فِي شيء مما يقوله الناس إلا فِي ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، أي قال خيرًا على وجه الإصلاح وليس المراد نفي ذات الكذب بل نفي أثمه فالكذب كذب وإن قيل للإصلاح أو غيره وإنما نفي عن المصلح كونه كذابًا باعتبار قصده.

وهذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إِلَى الزيادة فِي القول ومجاوزة الصدق طلبًا للسلامة ودفعًا للضرر ورخص فِي اليسير فِي مثل هذا لما يؤمل فيه من الصلاح، والكذب بين اثنين فِي الإصلاح أن ينمي من أحدهما إِلَى صاحبه خيرًا ويبلغه جميلاً وإن لَمْ يكن سمعه بقصد الإصلاح، والكذب فِي الحرب أن يظهر فِي نفسه قوة ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه ويوهنه ويشتت فكره. والكذب للزوجة أن يعدها ويمنيها ويظهر لها أكثر مما فِي نفسه ليستديم صحبتها ويصلح به خلقها.

ص: 543

وبلغت العناية بالصلح بين الناس إِلَى أن المصلح بين الناس يعطى من الزكاة أو من بيت المال لأداء مَا تحمله من الديون فِي سبيل الإصلاح وإن كَانَ قادرًا على أدائها من ماله.

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس تجارة وأنه مما يرضاه الله ورسوله، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب:«ألا أدلك على تجارة» ؟ قال: بلى. قال: «صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا» . رواه البزار والطبراني، وعنده «ألا أدلك على عمل يرضاه الله ورسوله» ؟ قال: بلى. قال: «صل بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا» .

وروي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصلح بين الناس أصلح الله أمره وأعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة ورجع مغفورًا له مَا تقدم من ذنبه» رواه الأصبهاني وهو حديث غريب جدًا.

اللهم يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين ألهمنا مَا ألهمت عبادك الصالحين وأيقظنا من رقدة الغافلين إنك أكرم منعم وأعز معين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

عباد الله لمن كَانَ الإنسان مكلفًا بالسعي والعمل لطلب الرزق من وجوهه المشروعة كَانَ حقًّا عليه أن يصون نفسه عن مسألة الناس.

وأن لا يمد يده لسؤالهم ولا يتقدم إليهم لطلب حطام الدنيا إلا عند

ص: 544

الضرورة أو الحاجة الشديدة لأنه إذا قعد عن العمل ولزم البطالة والكسل ونظر لما فِي أيدي الناس من أوساخهم ساءت حاله، وضاعت آماله، وضعف توكله، وضاق عيشه، وانحطت نفسه، واعتاد السؤال الذي لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:

الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله عنه، وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك لو جعل يسأل وأنه مَا يجد شيئًا لكان سؤاله تشنيعًا على سيده ولا يرضى بذلك ولله المثل الأعَلَى.

ولاسيما إذا أتى إِلَى بيت الله يسأله من فضله، ثم قام من حين مَا يسلم الإمام وجعل يشرح حاله وفقره وأوقف الناس عن تهليلهم، وتسبيحهم، وتكبيرهم، والمساجد لَمْ تبن إلا لذكر الله، والصلاة فيها وقراءة القرآن. وهذا المنكر قل من ينتبه له.

الأمر الثاني: أن فِي سؤال الناس إذلال لنفس السائل، وليس للإنسان أن يذل نفسه ويخضعها إلا لله، الذي فِي إذلالها عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا يذل لهم نفسه.

ثالثًا: أن فيه ظلم لنفسه إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة وفيه أيضًا إيذاء للمسئول خصوصًا إذ كَانَ مع إلحاح، والإيذاء حرام، فأي عاقل يرضى لنفسه بهذه الحالة التعسة، بل كيف يرضى أن يكون عضوًا أشلاً فِي الهيئة الاجتماعية لا يقام له وزن ولا تقام له قيمة.

وَقَدْ أثنى الله على الذين لا يسألون الناس إلحافًا وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة

ص: 545

والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس.

ففي زماننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وصار عندهم الحلال مَا وصل إِلَى اليد وذهب عنهم الورع والابتعاد عن الشبهات، على الإنسان أن يبذل جهده ويثبت ولا يبذل زكاته إِلَى كل من مد يده، بل يسأله بدقة، ويتحقق من الأوراق التي تعرض عليه، التي صارت تصور وتباع وتشتري وربما حصل المتسول على أضعاف مَا فيها ولو أن هؤلاء المتسولين الشحاذين استعملوا فِي طريق منتج من تجارة أو غيرها مَا يصل إلى أيديهم من الصدقات لما بقي فِي الأمة مِنْهُمْ متسول، ولكن هؤلاء قوم ألفوا هذا العيش وركنوا إليه لا يدفعهم إليه فقر ولا يردهم عنه غنى، وكم ممن اكتشف فصار عنده ثروة، وهذا سببه عدم التبيت وإجراء العادات بدون سؤال هل اغتنى أم لا.

وَقَدْ بين صلى الله عليه وسلم من يحل له السؤال وذلك فيما ورد عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال:«أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها» . ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، أو رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال -: سداد من عيش.

ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال -: سداد من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتَا» . رواه مسلم.

ص: 546

وَقَدْ ذكرنا الأحاديث التي تتضمن التغليظ الشديد فِي السؤال من غير ضرورة وذلك فِي موضوع (من تحل له الصدقة) .

شِعْرًا:

غَفَلْتُ وَحَادِي الْمَوْتِ فِي أَثَرِي يَحْدُوْ

فَإِنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِي فَلا بُدْ أَنْ أَغْدُ

أُنَعِّمُ جِسْمِي بِاللَِبَاسِ وَلِيْنِهِ

وَلَيْسَ لِجِسْمِي مِنْ لِبَاسِ الْبِلَى بُدُّ

كَأَنِّي بِهِ قَدْ مَرَّ فِي بَرْزَخِ الْبِلَى

وَمِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ

وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْمَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ

وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ

أَرَى الْعُمْرَ قَدْ وَلَى وَلَمْ أُدْرِكْ الْمُنَى

وَلَيْسَ مَعِي زَادٌ وَفِي سَفَرِي بَعْدُ

وَقَدْ كُنْتُ َجَاهَرْتُ الْمُهَيْمِنَ عَاصِيًا

وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ

وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِنْ الْحَيَا

وَمَا خِفْتُ مِنْ سِرِّي غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو

بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِهِ

وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الْحَمْدُ

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٍ سِوَى الْمَوْتِ وَالْبِلَى

عَنْ اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنِا الرُّشْدُ

ص: 547

عَسَى غَافِرُ الزَّلَاّتِ يَغْفِرُ زَلَّتِِي

فَقَدْ يَغْفِرُ الْمَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ

أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلايَ عَهْدَهُ

كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسِ لَهُ عَهْدُ

فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقَتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي

وَنَارُكَ لَا يَقْوَى لَهَا الْحَجَرُ الصَّلْدُ

أَنَا الْفَرْدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْفَرْدُ فِي الْبِلَى

وَأَبْعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الْفَرْدَ يَا فَرْدُ

اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك فِي أعمالنا وأجزل لنا الأجر والمثابة وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ)

وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن درجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائمين والمصلين والمتصدقين فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟ قالوا: بلى. قال: «إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» . رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي: حديث صحيح قال: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» .

ص: 548

ولا غرو إذا ارتفعت درجة المصلح الباذل جهده المضحي براحته وأمواله فِي رأب الصدع وجمع الشتات وإصلاح فساد القلوب، وإزالة مَا فِي النفوس من ضغينة وحقد والعمل على إحكام الروابط للألفة والإخاء وإطفاء نار العداوة والفتن.

كما هي وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم وشرفت نفوسهم وصفت أرواحهم يقومون به لأنهم يحبون الخير والهدوء ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس ويمقتون الخلاف حتى عند غيرهم من الطوائف ويجدون فِي إحباط كيد الخائنين.

ولو أننا تبعتنا الحوادث وراجعنا الوقائع لوجدنا أن مَا بالمحاكم من قضايا وما بالمراكز والنيابات من خصومات وما بالمستشفيات من مرضى، وما بالسجون من بؤساء يرجع أكثره إِلَى إهمال الصلح بين الناس حتى عم الشر القريب والبعيد وأهلك النفوس والأموال وقضى على الأواصر وقطع مَا أمر الله به أن يوصل من وشائج الرحم والقرابة وذهب بريح الجماعات وبعث على الفساد فِي الأرض.

ومن تأمل مَا عليه الناس اليوم وجد أن كثيرًا مِنْهُمْ قَدْ فسدت قلوبهم وخبثت نياتهم لأنهم يحبون الشر يتركون ويميلون إليه ويعملون على نشره بين الناس، ومن أجل ذلك يتركون المتخاصمين فِي غضبهم وشتائمهم وكيد بعضهم لبعض حتى يستفحل الأمر.

ويشتد الشر ويستحكم الخصام بينهم فينقلبوا من الكلام إِلَى القذف والطعن ومن ذلك إِلَى اللطم ومن اللطم إِلَى العصي ومن العصي على السلاح ثم بعد ذلك إِلَى المراكز ثم إِلَى السجون والناس فِي أثناء ذلك كله

ص: 549

يتفرجون ويتغامزون ويتتبعون الحوادث ويلتقطون الأخبار، بل قَدْ يلهبون نار الفتنة والعداوة ولا يزالون كذلك حتى يقهر القوي ولو كَانَ ذلك بالباطل والزور والبهتان بدون خوف من الله ولا حياء من الناس.

وتكون النتيجة بعد ذلك ضياع مَا يملكون من مال أو عقار وَقَدْ كَانَ يكفي لإزالة مَا فِي النفوس من الأضغان والأحقاد والكراهة، كلمة واحدة من عاقل لبيب ناصح مخلص تقضي على الخصومات فِي مهدها فيتغلب جانب الخير ويرتفع الشر وتسلم الجماعة من التصدع والانشقاق والتفرق.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، إذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه فِي شيء وهو يقول: والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين المتألي على الله لا يفعل المعروف» ؟ فقال: أنا يا رسول الله فله أي ذلك أحب. متفق عليه. فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر عمله عدل عن رأيه واستجاب لفعل الخير وَقَدْ قامت فِي نفسه دوافعه إرضاء لله ولرسوله.

والشاهد من ذلك خروجه صلى الله عليه وسلم للإصلاح بينهم فالدين الإسلامي الحنيف أوجب على العقلاء من الناس أن يتوسطوا بين المتخاصمين ويقوموا بإصلاح ذات بينهم ويلزموا المعتدي أن يقف عند حده درأ للمفاسد المترتبة على الخلاف والنزاع ومنعًا للفوضى والخصام، وأقوم الوسائل التي تصفو بها القلوب من أحقادها أن يجعل كل امرئٍ نفسه ميزانًا بينه وبين إخوانه المسلمين فما يحبه لنفسه يحبه لهم وما يكرهه لنفسه يكرهه لهم.

شِعْرًا:

كَمْ مِنْ أَخِ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَا

وَأَخٌ أَبُوهُ أَبُوكَ قَدْ يَجْفُوكَا

كَمْ إِخْوَةٍ لَكَ لَمْ يَلِدْكَ أَبُوهُمَا

وَكَأَنَّمَا آبَاؤُهُمْ وَلَدُوكَا

ص: 550

وبذلك تستقم الأمور بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه» . وهذه الطريقة هي التي كَانَ عليها السلف الصالح من المسلمين وكانوا بسبب ذلك مفلحين.

شِعْرًا:

إِنَّ الْمَكَارِمَ كُلَّهَا لَوْ حُصِّلَتْ

رَجَّعْتُ جُمْلَتِهَا إِلَى شَيْئَيْنِ

تَعَظِيْمُ أَمْرِ اللهِ جل جلاله

وَالسَّعِي فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ

آخر:

(فَأَحْسِنْ إِذَا أُوْتِيْتَ جَاهًا فَإِنَّهُ

سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيْلٍ تَقْشَّعُ)

(وَكُنْ شَافِعًا مَا كُنْتَ فِي الدَّهْرِ قَادِرًا

وَخَيْرُ زَمَانِ الْمَرْءِ مَا فِيْهِ يَشْفَعُ)

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(فَصْلٌ)

العدل: ضد الجور وهو الاعتدال والاستقامة والميل إِلَى الحق. وشرعًا: هو الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا وفي اصطلاح الفقهاء العدالة استواء أحواله فِي دينه واعتدال أقواله وأفعاله.

ويعتبر لها شيئان الصلاح فِي الدين واجتناب المحرم، والعدالة تارة يقال لها هي الفضائل كلها من حيث لا يخرج شيء من الفضائل عنها، وتارة يقال لها هي أجمل الفضائل من حيث أن صاحبها يقدر أن يستعملها فِي نفسه وفي غيره.

وقيل فِي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} أي العدل والإنصاف، كما فِي قوله تعالى:{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} وقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} قال قتادة ومجاهد ومقاتل: العدل. وسمي العدل ميزانًا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية، وعبر عن العدالة بالميزان إذ كَانَ من أثرها، ومن أظهر أفعالها للحاسة.

ص: 551

ومن مزية العدل أن الجور الذي هو ضد العدل لا يتسبب إلا به فلو أن لصوصًا أو نحوهم تشارطوا فيما بينهم شرطًا فلم يراعوا العدالة فيه لَمْ ينتظم أمرهم. ومن فضلها أن كل نفس تتلذذ بسماعها وتتألم من ضدها ولذلك حتى الجائر يستحسن عدل غيره إذ رآه أو سمعه.

والعدل يدعو إِلَى الألفة والمحبة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمي به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان لحصول الأمن العادل وانبساط الآمال.

عَلَيْكَ بِالْعَدْلِ إِنْ وُلِّيتَ مَمْلَكَةً

وَاحْذَرْ مِنْ الْجورِ فِيْهَا غَايَةَ الْحَذَرِ

فَالْمَالُكْ يَبْقَى على عَدْلٍ الْكَفُورِ وَلَا

يَبْقَى مَعْ الْجَوْرِ فِي بَدْوِ وَلَا حَضَرِ

وَقَدْ قال المرزبان رئيس المجوس لعمر رضي الله عنه لما رآه مبتذلاً لا حارس له: عدلت فأمنت فنمت.

وفي ذلك يقول الشاعر:

وَرَاعَ صَاحِبَ كِسْرَى أَنْ رَأَى عُمَرًا

بَيْنَ الرَّعِيَّةِ عُطْلاً وَهُوَ رَاعِيْهَا

وَعَهْدُهُ بِمُلُوْكِ الْفُرْسِ أَنَّ لَهَا

سُوْرًا مِنْ الْجُنْدِ وَالأَحْرَاسِ يَحْمِيهَا

رَآهُ مُسْتَرِقًا فِي نَوْمِهِ فَرَأَى

فِيْهِ الْجَلالَةَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهَا

فَوْقَ الثَّرَى تَحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلاً

بِبُرْدَةٍ كَادَ طُولُ الْعَهْدِ يُبْلِيهَا

ص: 552

فَهَانَ فِي عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْبِرُهُ

مِنْ الأَكَاسِرِ وَالدَّنْيَا بِأَيْدِيهَا

وَقَالَ قَوْلَةَ حَقٍّ أَصْبَحَتْ مَثَلاً

وَأَصْبَحَ الْجِيلُ بَعْدَ الْجِيلِ يَحْكِيهَا

أَمِنْتَ لَمَّا أَقَمْتَ الْعَدْلَ بَيْنَهُمُوا

فَنِمْتَ نَوْمَ قَرِيرِ الْعَيْنِ هَانِيهَا

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فالعدل فِي حالة الغضب والرضا وخشية الله تعالى فِي السر والعلانية والقصد فِي الغنى والفقر.

وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه،» . والذي يجب أن يستعمل الإنسان العدل معه أولاً بينه وبين رب العزة جل ولعلا بمعرفة أحكامه وتطبيقها بالعمل بها.

فأعظم الحقوق على الإطلاق حق الله تعالى على عباده وذلك بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وفي حديث معاذ المتفق عليه «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» . فمن قام بهذا الحق فعبد الله وحده. وأدى هذا الحق وقام بحقوقه مخلصًا لله، فقد قام بأعظم العدل، ومن صرفه لغير الله فقد جار وظلم، وعدل عن العدل واستحق العقوبة.

الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيْرَتِهِ

لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا

ص: 553

الثاني: أن يعدل مع نفسه وذلك بحملها على مَا فيه صلاحها وكفها عن القبائح ثم بالوقوف فِي أحوالها جور على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فِي الأحوال جور على النفس والتقصير فيها ظلم لها لمنعها عن كمالها ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم ومن جار على نفسه فهو على غيره أجور، لأن من لَمْ يراع حقوق نفسه فعدم مراعاته حقوق غيره أولى وأحرى.

الثالث: عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان فِي رعيته والرئيس مع صحابته، وذلك بأمور: الأول إتباع الميسور لهم وترك المعسور وحذفه عنهم وترك التسليط والقهر بالقوة وابتغاء الحق فِي الميسور ويقيم العدل فيهم قريبهم وبعيدهم غنيهم وفقيرهم وأن يكونوا عنده فِي هذا سواء.

ولا يقصر شيئًا من واجبه مع رعيته ولا يهمل شيئًا يرقي أدانهم وعقولهم وأخلاقهم ويحفظ عليهم أموالهم ودمائهم وأعراضهم ويكون لهم مثلاً أعلى فِي معاملة بعضهم بعضًا بالعدل والإنصاف، فالحاكم كالقلب من الجسد إذا صَلح صلح الجسد، فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت، فلهذا مسؤولية ولاة الأمور عظيمة فِي نظر الشريعة الإسلامية.

وَقَدْ حذر مِنْهَا النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال:«يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» . رواه مسلم، وحقها فِي نظر الدين أن يقوم بكل شيء فيه مصلحة للمحكومين.

ص: 554

قال عمر رضي الله عنه: والله لو عثرت بغلة فِي العراق لوجدتني مسئولاً عنها، فقيل: لماذا يا أمير المؤمنين، فقال: لأنني مكلف بإصلاح الطريق. هذا مثال الحاكم العدل، ولهذا جعل الله له فضلاً عظيمًا وميزة كما سيأتي فِي الأحاديث.

وروي أن يهوديًا شكا عليًا إِلَى عمر فِي خلافته رضي الله عنهما، فقال عمر لعلي بن أبي طالب: قف بجوار خصمك يا أبا الحسن، فوقف وَقَدْ علا وجهه الغضب فبعد أن قضى الخليفة بينهما بالعدل قال: أغضبت يا علي أن قلت لك قف بجوار خصمك؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لكن من كونك كنيتني بأبي الحسن فخشيت من تعظيمك إياي أمام اليهودي أن يقول ضاع العدل بين المسلمين.

وجاء رجل إِلَى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ رزقه وكان جنديًا من جنود المسلمين ولكنه كَانَ فِي الجاهلية قَدْ قتل أخًا لعمر بن الخطاب فلما رآه عمر اربد وجهه، وقال له: يا هذا إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم، فقال الرجل لعمر: أو مانعي ذلك عندك حقًّا من حقوق الله فقال عمر: اللهم لا.

فقال الرجل مَا يضيرني بغضك إياي إنما يأسى على الحب النساء. فقد عرف الرجل من ورع عمر ودينه أن شدة غضبه وغيضه وحنقه عليه وكراهية له لا تخرج به عن العدل إِلَى الظلم فهو لما علم من عدله وثقته بدينه أمن من بطشه.

ومما يجب عليه أن يستنيب لكل عمل الأكفأ الأمين وليحذر أن يولي عليهم رجلاً وفي رعيته خير مِنْه.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه

ص: 555

وسلم: «من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله مِنْه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» . رواه الحاكم.

وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إِلَى الشام: يا يزيد أن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر مَا أخاف عليك بعد مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله مِنْه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» . رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وعَلَى الإمام أن يوصي من استنابه بإقامة العدل ويحذرهم من الجور وظلم العباد فِي الدماء والأموال والأعراض، ويذكرهم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده» .

ويتفقدهم فِي ذلك الأمر الذي هو أساس الصلاح الديني والدنيوي فلا يصلح الدين إلا بالعدل ولا تصلح الدنيا وتستقيم الأمور إلا على العدل.

وقال الشيخ تقي الدين أمور الناس تستقم فِي الدنيا مع العدل الذي فيه اشتراك فِي أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم فِي الحقوق وإن لَمْ تشترك فِي إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كَانَت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كَانَت مسلمة ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لَمْ يكن لصاحبها فِي الآخرة من خلاق. أ. هـ.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه

ص: 556

وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل نمن عبادة ستين سنة وحد يقام فِي الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحًا» . رواه الطبراني فِي الكبير والأوسط وإسناد الكبير حسن.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها، ويا أبا هريرة جور ساعة فِي حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة» . وفي رواية: «عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة» . رواه الأصبهاني.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إِلَى الله يوم القيامة وأدناهم مِنْه مجلسًا إمام عادل، وأبغض الناس إِلَى الله تعالى وأبعدهم مجلسًا إمام جائر» . رواه الترمذي والطبراني فِي الأوسط مختصرًا، وعد صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله «إمام عادل» .

اللهم ارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً ورزقًا واسعًا نستعين به على طاعتك، وقلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، وإيمانًا خالصًا، وهب لنا لإنابة المخلصين، وخشوع المخبتين، وأعمال الصالحين، ويقين الصادقين، وسعادة المتقين، ودرجات الفائزين، يا أفضل من رجي وقصد، وأكرم من سئل، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ويجب على القضاء والحاكم بين الناس أن يتحروا العدل ويحكموا به بين الناس.

ص: 557

وهم أهم ركن تقوم عليه سعادة المجتمع وينبني عليه أمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا جار القاضي ولم يقسط اختل الظلم وسادت الفوضى، ولهذا إذا عم العدل استغنت الأمة عن المحاكم وقضاتها ومحاميها والوكلاء والسماسرة، وانقطع دابر شهداء الزور أعدمهم الله عن الوجود أو أصلحهم، فأكثر الحكام وظيفتهم إقامة العدل، فإذا وجد العدل فلا حاجة إليهم، وبذلك يتوفر على الأمة عدد كبير يشتغل فِي مصالح أخرى، ويتوفر مقدار كثير من المال.

ولهذا السلف تمر المدة الكثيرة على القاضي لا يأتيه خصوم، وإليك حكاية حال تاريخية تنطبق تمامًا على المتصفين بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة. عيَّن أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لَمْ يختصم إليه اثنان فطلب من أبو بكر إعفاءه من القضاء فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟

فقال له عمر: لا يا خليفة رسول الله ولكن لا حجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل مِنْهُمْ مَا له من حق فلم يطلب أكثر مِنْه وما عليه من واجب فلم يقصر فِي أدائه، أحب كل مِنْهُمْ لأخيه ما يحب لنفسه وإذا غاب أحدهم تفقدوه وإذا مرض عادوه إذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيهم يختصمون إذًا.

وبالتالي فقد عنيت الشريعة بالعدل فِي القضاء عنايتها بكل مَا هو دعامة لسعادة الحياة فأتت بالعظات البالغات تبشر من أقامه بعلو المنزلة وحسن العاقبة، وتحذر من انحراف عنه بالعذاب الأليم.

ص: 558

فمن الآيات المنبهة لما فِي العدل من فضل وكرامة قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فأمر بالعدل ونبه على أن الحاكم المقسط ينال خيرًا عظيمًا، هو محبة الله للعبد، وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة فِي الدنيا والعيشة الراضية فِي الآخرة.

وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ومن الأحاديث الدالة على مَا يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله تعالى مَا ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فِي حكمهم وأهليهم وما ولوا» رواه مسلم والنسائي.

ففيه دليل على العناية بهم لكونهم عن يمينه جل وعلا ودليل على شدة قربهم مِنْه جل وعلا وفوزهم برضوانه وفي ذكر الرحمن تربية لقوة الرجاء والثقة بأن الحاكم العادل يجد من النعيم مَا تشتهيه نفسه وتلذ عينه قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} فالمقربون يحصل لهم من النعيم ما لا يحصل لغيرهم.

وَقَدْ وردت آيات وأحاديث تحذر من الجور فِي القضاء من ذلك قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور» . رواه البزار والطبراني فِي الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح.

ص: 559

وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة واحد فِي الجنة واثنان فِي النار فأما الذي فِي الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فِي الحكم فهو فِي النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فِي النار» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.

فالقاضي الممدوح فِي نظر الدين هو الذي يعرف الحق ويقضي به فإما معرفة الحق فإنها تحتاج إلى مجهود عظيم وبحث فِي كل الظروف والأحوال المحيطة بالخصوم وأما الحكم بالحق فإنه يحتاج إِلَى مجاهدة عظيمة حتى يبعد القاضي عن الميل ويتنزه عن التحيز إِلَى أقربائه وأصدقائه وأصهاره وجيرانه أو من بينهم وبينه رابطة، أو تجمعهم معه جامعة أو يكون له فِي الميل غرض يناله من مال أو منصب أو شهوة.

فالقاضي لا ينجو إلا إذا كَانَ كالميزان المنضبط فلا يميل مثقال ذرة إِلَى أحد الخصمين إلا بالحق ومن لَمْ يفعل ذلك فإنه يتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» . على مَا فسره بعض العلماء من أن معناه أنه عرض نفسه للهلاك والعذاب الأليم وهذا أن لَمْ يقض بالحق.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي تمرة قط» . رواه أحمد وابن حبان فِي صحيحه ولفظه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدعى القاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب مَا يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي عمره قط» . والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

ص: 560

(فَصْلٌ)

وكذلك العدل بين الأولاد والأقارب بالقيام بحقوقهم على اختلاف مراتبهم والقيام بصلتهم الواجبة والمستحبة به تتم الصلة وتقوى روابط المحبة والتعاطف، وبذلك يكسبون الشرف عند الله وعند خلقه وبه تنظر هذه البيوت التي قامت على ذلك بعين التقدير والتعظيم والإجلال.

وبذلك تحصل بإذن الله التكاتف والتساعد على مصالح الدنيا والدين وذلك راجع إِلَى العدل وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والمرأة راعية فِي بيت زوجها مسئولة عن رعيتها والخادم راع فِي مال سيده ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته» . رواه البخاري ومسلم.

وأما المرأة فإنها مسئولة عن تدبير منزلها بما يوافق حال زوجها فلا ترهقه بالإنفاق ولا تطلب بطلب لا يقدر عليه ولا تخونه فِي عرضه ولا تفعل مَا يؤذيه وكذلك يجب عليها أن تعدل بين أبنائها فيما بين يديها من طعام وشراب فلا تفضل واحدًا على الآخر من غير حق بل تعطي كل واحد مَا يناسبه فلا تحرم من تبغض وتجزل العطاء لمن تحب فإن خانت زوجها فِي عرضها أو ماله أو آذته بعصيانها أو فضلت بعض أولادها على بعض كَانَت ظالمة تستحق العقاب.

وكذا الخادم والعامل مسئول عن العمل الذي وكل إليه وائتمن عليه فإذا أهمل العامل عملاً أو أداه ناقصًا فقد ظلم سيده واستحق العقاب وكذلك الخادم إذا خان سيده فِي ماله كَانَ كلفه بشرائه فزاد فِي ثمنه وأخذه لنفسه أو أهمل مساومة التاجر فغبه فِي السلعة أو رأى أحدًا يعتدي على مال سيده فلم يرده أو كلفه بالإنفاق على عمل فأسرف فيه بدون حق فانه يكون ظالمًا وآثمًا.

ص: 561

ومن هؤلاء الصناع الذين يتعاقبون على عمل ثم لا يجيدون صنعه ويغشون الناس فإنهم ظالمون آثمون وكذلك النجارون والحدادون وسائر أهل الصنائع لأنهم مكلفون بالعدل فِي صنائعهم بان يجيدوها ولا يتركوا خللاً إلا أصلحوه.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راع استرعاه حفظ أم ضيع» . رواه ابن حبان فِي صحيحه وجاء فِي ترك العدل بين الزوجات أحاديث تدل على خطورة ذلك مِنْهَا مَا ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَانَت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط» . رواه الترمذي.

ورواه أبو داود ولفظه: «من كَانَت له امرأتان فمال إِلَى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» . ورواه النسائي ولفظه: «من كَانَت له امرأتان يميل إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل» . ورواه ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه بنحو رواية النسائي هذه إلا أنهما قالا: «جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» . اللهم قو إيماننا بك وبكتبك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. اللهم ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وإذا تتبعت سيرة الخلفاء الراشدين ومن اقتدى بهم وجدتهم يعدلون

ص: 562

ويأمرون بالعدل بل مِنْهُمْ من يطلب بنفسه من الأمة أن تحاسبه على كل عمل وتصرف وتقومه فِي كل خطأ قَدْ يصدر مِنْه ما داموا مخلصين يبتغون وجه الله فِي حكمهم وسلطانهم.

فهذا أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل يقول عندما استلم الحكم: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني مَا أطعت الله ورسوله فيكم. ويقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: من رأى منكم فِيَّ اعوجاجًا فليقومه.

وقال رجل لعمر: اتق الله يا عمر فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقولون هذا لأمير المؤمنين ولكن عمر نهره بتلك الكلمة وقال: لا خير فيكم إن لَمْ تقولوها ولا خير فينا إن لَمْ نسمعها.

وفي مرة كَانَت جملة من غنائم المسلمين أبراد يمانية فقام عمر رضي الله عنه يقسم هذه الغنائم بالعدل وَقَدْ أصابه مِنْهَا برد كما أصاب ابنه عبد الله مثل ذلك كأي رجل من المسلمين ولما كَانَ عمر بحاجة إِلَى ثوب طويل لأنه طويل الجسم تبرع له ابنه عبد الله ببرده ليصنع منهما ثوبًا يكفيه ثم وقف وعليه هذا الثوب الطويل يخطب فِي الناس فقال بعد أن حمد الله وأثنى على رسوله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا. فوقف له سلمان الفارسي الصحابي المشهور الجليل فقال لعمر: لا سمع لك علينا ولا طاعة.

فقال عمر رضي الله عنه: ولم؟ قال سلمان: من أين لك هذا الثوب، وَقَدْ نالك برد واحد وأنت رجل طويل فقال: لا تعجل ونادى ابنه عبد الله فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: ناشدتك الله البرد الذي اتزرت له اهو رداؤك؟ فقال: اللهم نعم. قال سلمان: الآن مر نسمع ونطيع.

ص: 563

وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المسجد ومعه الجارود فإذا امرأة برزة على ظهر الطريق فسلم عليها فردت عليه أو سلمت عليه فرد عليها فقالت: هيه يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرًا فِي سوق عكاض تصارع الصبيان فلم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله فِي الرعية واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فبكى عمر رضي الله عنه.

فقال الجارود: هيه قَدْ اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه. فقال عمر: دعها أما تعرف هذه هي خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سمواته فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها.

وقام مرة خطيبًا فقال: إن رأيتم فِيَّ اعوجاجًا فقوموني. فقام رجل من الحاضرين وقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فِي الرعية من يقوم اعوجاج عمر.

وكان رضي الله عنه إذا التبست عليه بعض الأمور يشاور الصحابة وقال رضي الله عنه: مَا تشاور قوم قط إلا هدوا لرشدهم.

وقال لقمان لابنه يا بني شاور من جرب فإنه يعطيك من رأيه مَا أقام عليه بالغلاء وأنت تأخذه بالمجان.

وقال الحسن: الناس ثلاثة فرجل ورجل نصف رجل ورجل لا رجل، فأما الرجل فذو الرأي والمشورة وأما نصف الرجل فالذي له رأي ولا يشاور، وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي لا رأي له ولا يشاور.

وقال ابن عيين كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أمرًا شاور فيه الرجال وكيف يحتاج إِلَى مشاورة المخلوقين من الخالق مدبر أمره ولكنه تعليم مِنْه ليشاور الرجل الناس.

وقال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تقطع أمرًا فلا تقطعه حتى تستشير مرشدًا.

شِعْرًا:

رُكُوبُكَ الأَمْرَ مَا لَمْ تَبْدُ مَصْلَحَةٌ

جَهْلٌ وَرَأْيُكَ فِي الإِقْحَامَ تَغْرِيرُ

ص: 564

.. فَاعْمَلِ صَوَبًا وَخُذْ بِالْحَزْمِ مَأْثَرَةً

فَلَنْ يُذَمَّ لأَهْلِ الْحَزْمِ تَدْبِيرُ

وقال عمر رضي الله عنه: لا أمين إلا من يخشى الله فشاور فِي أمرك الذين يخشون الله.

شِعْرًا:

إِذَا بَلَغَ الرَّأُي الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ

بِرِأْيِ نَصِيح أَوْ نَصِيحَةٍ حَازِمِ

وَلا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً

فَإِنْ الْخَوَافِي قَوةٌ لِلْقُوَادِمِ

آخر:

شَاوِرْ سِوَاكَ إِذَا نَالِتْكَ نَائِبَةٌ

يَوْمًا وَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَاتِ

فَالْعَيْنُ تُبْصِرُ فِيْهَا مَا دَنَا وَنَأَى

وَلا تَرَى نَفْسَهَا إِلا بِمِرْآتِ

آخر:

إِذَا عَنَّ أَمْرٌ فَاسْتَشِرْ فِيهِ صَاحِبًا

وَإِنْ كُنْتَ ذَا رَأْيٍ تُشِيرُ على الصُّحَبِ

فَإِنِي رَأَيْتُ الْعَيْنَ تَجْهَلُ نَفْسَهَا

وَتدْرِك مَا قَدْ حَلَّ فِي مَوْضِعِ الشُّهْبِ

وقال سليمان بن داود: يا بني لا تقطع أمرًا حتى تأمر مرشدًا فإذا فعلت فلا تحزن.

وفي كتاب الإمام علي رضي الله عنه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر: ولا تدخل فِي مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانًا يضعفك عن الأمور ولا حريصًا يزين لك الشر بالجور فإن البخل والحرص والجبن غرائز وشتى يجمعن سوء الظن بالله.

وعنه من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها فِي عقولها.

شِعْرًا:

إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمٍَة

فَإِنَ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَدًّا

وَإِنْ كُنْتَ ذَا عَزْمٍ فَأَنْفَذْهُ عَاجِلاً

فَإِنْ فَسَادَ الْعَزْمِ أَنْ تَتَقَيَّدَا

ص: 565

ولما بويع بالخلافة فِي اليوم الذي مات فيه أبو بكر بوصية من أبي بكر إليه هابه الناس هيبة شديدة حتى إنهم تركوا الجلوس فِي الأفنية فلما بلغه ذلك جمع الناس ثم قام على المنبر حيث كَانَ يقوم أبو بكر يضع قدميه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: بلغني أن الناس هابوا شدتي وخافوا غلظتي وقالوا: قَدْ كَانَ عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا فكيف الآن وَقَدْ صارت الأمور إليه.

ولعمري من قال ذلك فقد صدق كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عنده وخادمه حتى قبضه الله تعالى وهو راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك ثم ولي أمر الناس أبو بكر رضي الله عنه فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه فأكون سيفًا مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله تعالى وهو عليَّ راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك.

ثم إني وليت هذا الأمر فاعلموا أن تلك الشدة قَدْ تضاعفت ولكنها تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين.

وأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لبعضهم من بعض ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه حتى يضع خده على الأرض وأضع قدمي على الآخر حتى يذعن للحق.

وإلى هذا أشار الشاعر فِي قوله:

فِي طِيِّ شِدَّتِهِ أَسْرَارُ رَحْمَتِهِ

لِلْعَالَمِينَ وَلِكْن لَيْسَ يُفْشِيهَا

ص: 566

وَبَيْنَ جَنْبَيِهِ فِي أَوْفَى صَرَامَتِهِ

فُؤَادُ وَالِدٍَة تَرْعَى ذَرَارِيهَا

أَغْنَتْ عِنْ الصَّارِمِ الْمَصْقُوِلِ دُرَّتُهُ

فَكَمْ أَخَافَتْ غَوَي النَّفْسِ عَاتِيهَا

وقال: ولكم عليَّ أيها الناس أن لا اخبأ عنكم شيئًا من خراجكم وإذا وقع عندي أن لا يخرج إلا بحقه ولكم عليَّ أن لا ألقيكم فِي المهالك وإذا غبتم فِي البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

وأخرج بن سعد عن الحسن قال: كتب عمر إِلَى حذيفة رضي الله عنهما أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه قَدْ فعلنا ويبقى شيء كثير.

فكتب إليه عمر: إنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم ليس هو لعمر ولا لآل عمر أقسمه بينهم.

وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إِلَى أبي موسى رضي الله عنهما: أما بعد فاعلم يومًا من السنة لا يبقى فِي بيت المال درهم حتى يكتسح حتى يعلم الله إني قَدْ أديت إِلَى كل ذي حق حقه.

وعند ابن عساكر عن سلمة بن سعيد قال: أتى عمر بن الخطاب بمال فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال فِي بيت المال لنائبه تكون أو أمر يحدث.

فقال كلمة مَا عرض بها إلا شيطان لقاني الله حجتها ووقاني فتنتها

ص: 567

أعصي العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ولتكون فتنة من بعدي.

وقال سعيد بن المسيب: توفي والله عمر رضي الله عنه وزاد فِي الشدة فِي موضعها واللين فِي مواضعه وكان أبا العيال حتى إنه يمشي على المغيبات اللاتي غاب عنهن أزواجهن ويقول: ألكن حاجة حتى اشتري لكن فإني أكره أن تخدعن فِي البيع والشراء فيرسلن معه جواريهن.

فيدخل ومعه جواري النساء وغلمانهم ما لا يحصي فيشتري لهن حوائجهن فمن كَانَت ليس عندها شيء اشترى لها من عنده وكان يحمل حراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام فقال بعضهم له: دعني احمل عنك. فقال عمر: ومن يحمل عني ذنوبي يوم القيامة.

ويروى أنه مر بنوق قَدْ بدت عليها آثار النعمة تهف ذراها فسأل عن صاحبها فقالوا: عبد الله بن عمر فساقها إِلَى بيت مال المسلمين ظنًّا مِنْه أن ثروة ابنه لا تفي لها وأنه لولا جاهه بين الناس مَا قدر على إطعامها.

وفي ذلك يقول الشاعر:

وَمَا وَفَى ابْنُكَ عَبْدُ اللهِ أَيْنُقُهُ

لَمَّا اطَّلَعْتَ عَلَيْهَا فِي مَرَاعِيهَا

رَأَيْتَهَا فِي حِمَاهُ وَهِي سَارِحَةٌ

مِثْلَ الْقُصُورَ قَدْ اهْتَزَّتْ أَعَالِيهَا

فَقُلَت مَا كَانَ عَبْدُ اللهِ يُشْبِعَهَا

لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدِي أَوْ كَانَ يَرْوِيهَا

ص: 568

قَدْ اسْتَعَانَ بَجَاهِي فِي تِجَارَتِهِ

وَبَاتَ بِاسْمِ أَبِي حِفْصٍ يُنَمِّيْهَا

رُدُّوا النِّيَاقَ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنَّ لَهُ

حَقَّ الزِّيَادَةِ فِيهَا قَبْلَ َشارِيهَا

وَهَذَهِ خُطَّةٌ للهِ وَاضِعُهَا

رَدَتَ حُقُوقًا فَأْغْنَتَ مُسْتَميحِيهَا

وروي أن طلحة رضي الله عنه خرج فِي ليلة مظلمة فرأى عمر رضي الله عنه قَدْ دخل بيتًا ثم خرج فلما أصبح طلحة ذهب إِلَى ذلك البيت فإذا فيه عجوز عمياء مقعدة لا تقدر على المشي فقال لها طلحة: مَا بال هذا الرجل يأتيك. فقالت: إنه يتعاهدني من مدة كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى يعني القذر والنجاسة فرضي الله عنه أرضاه.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم ثبتنا على قولك الثابت وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ولما رجع رضي الله عنه من الشام إِلَى المدينة انفرد عن الناس ليتعرف ويتفقد أحوال رعيته فمر بعجوز فِي خباء لها فقصدها فقالت: يا هذا مَا فعل عمر؟ قال: قَدْ أقبل من الشام سالمًا. فقالت: لا جزاه الله خيرًا.

قال: ولم قالت لأنه والله مَا نالني من عطائه منذ تولى أمر المسلمين دينار

ص: 569

ولا درهم قال: وما يدري بحالك وأنت فِي هذا الموضع فقالت: سبحان الله والله مَا ظننت أن أحدًا يلي على الناس ولا يدري مَا بين مشرقها ومغربها فبكى عمر رضي الله عنه وقال: واعمراه كل أحد أفقه منك يا عمر حتى العجائز.

ثم قال لها: يا أمة الله بكم تبيعيني ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله فقال: لست بهزاء فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارًا.

فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه شتمت أمير المؤمنين فِي وجهه.

فقال لها عمر: يرحمك الله ثم طلب رقعة جلد يكتب بها فلم يجد فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم هذا مَا اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إِلَى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارًا فما تدعي عند وقوفه فِي الحشر بين يدي الله تعالى فعمر مِنْه بريء شهد على ذلك علي وابن مسعود دفع الكتاب إليَّ وقال: إذا أنا مت فاجعله فِي كفني ألقى به ربي عز وجل.

هكذا يكون العلماء العاملون قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} .

عَلَى قَدْرِ عِلْمِ الْمَرْءِ يَعْظُمُ خَوْفُهُ

فَلا عَالِمٌ إِلا مِنَ اللهِ خَائِفُ

ص: 570

فَآمِنْ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ جَاهِلٌ

وَخَائِفُ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ عَارِفُ

وأخرج ابن عساكر وسعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال: كَانَ بين عمر وبين أبي كعب رضي الله عنهما خصومة فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فقال له عمر: أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم.

فلما دخل عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين فقال له عمر:

هذا أول جور جرت فِي حكمك، ولكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبيّ وأنكر عمر فقال زيد لأبي: اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.

وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: كَانَ للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما دار إِلَى جنب مسجد المدينة فقال له عمر رضي الله عنه: بعينها فأراد عمر أن يزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يبيعها إياه فقال عمر: فهبها لي فأبي فقال: فوسعها أنت فِي المسجد فأبى.

فقال عمر: لا بد لك من إحداهن فأبى عليه فقال: خذ بيني وبينك رجلاً فأخذ أبيا رضي الله عنه فاختصما إليه فقال أبي لعمر: مَا أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه فقال له عمر: أرأيت قضاءك هذا فِي كتاب الله وجدته أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 571

فقال عمر: وما ذاك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس جعل كلما بنى حائطًا أصبح منهدمًا فأوحى الله إليه أن لا تبني فِي حق رجل حتى ترضيه فتركه عمر فوسعها العباس رضي الله عنهما بعد ذلك فِي المسجد.

بلغ يا أخي هذه القصة للساكنين فِي بيوت المسلمين بغير رضاهم وقل لَمْ تصلون وتصومون وتنكحون فِي بيت مغصوب يدعو عليكم مالكه ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا. أما علمتم أن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرمًا.

وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن سعيد بن المسيب قال: أراد عمر رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فيزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يعطيها إياه فقال عمر: لآخذنها فقال: فاجعل بيني وبينك أبي بن كعب رضي الله عنه قال: نعم.

فأتيا أبيًّا فذكرا له فقال: أبيّ أوحى الله إِلَى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أن يبني بيت المقدس وكانت أرضًا لرجل فاشترى مِنْه الأرض فلما أعطاه الثمن قال: الذي أعطيتني خير أم أخذت مني قال: بل الذي أخذت منك قال: فإني لا أجيز ثم اشتراها مِنْه بشيء أكثر من ذلك فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا.

فاشترط سليمان عليه الصلاة والسلام أني أبتاعها منك على حكمك فلا تسألني أيهما خير قال: فاشتراها مِنْه بحكمه فاحتكم اثني عشر ألف قنطار ذهبًا فتعاظم ذلك سليمان عليه الصلاة والسلام أن يعطيه فأوحى الله إليه أن كنت تعطيه من شيء هو لك فأنت أعلم وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطيه حتى يرضى ففعل وأنا أرى أن عباسًا رضي الله عنه أحق بداره حتى يرضى، بلغ يا

ص: 572

أخي أيضًا هذه القصة الساكنين فِي بيوت المسلمين بغير حكم شرعي وقل لهم أما تتقون الله وتخشون عقوبته.

قال العباس: فإذا قضيت لي فإني أجعلها صدقة للمسلمين رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنة الفردوس مثوانا ومثواهم.

وروي أن عمر رضي الله عنه أمر بقلع ميزاب كَانَ فِي دار العباس بن عبد المطلب إِلَى الطرق بين الصفا والمروة فقال له العباس: قلعت مَا كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بيده فقال: إذا لا يرده إِلَى مكانه غيرك ولا يكون سلم غير عاتق عمر فأقامه وأعاده على عاتق عمر ورده إِلَى موضعه.

وساوم عمر رضي الله عنه رجلاً من رعيته فِي شراء فرس ثم ركبه عمر ليجربه فعطب فرده إِلَى صاحبه فأبى صاحب الفرس أن يأخذه فقال له: وهو خليفة المسلمين اجعل بيني وبينك حكمًا فرضي الرجل بقضاء شريح العراقي فتحاكما إليه.

فقال شريح: بعد أن سمع حجة كل مِنْهما: يا أمير المؤمنين خذ مَا اشتريت أو رده كما أخذته فأكبر عمر هذه العدالة والنزاهة من شريح وقال: وهل القضاء إلا هكذا ثم أقام شريحًا على القضاء فِي الكوفة تقديرًا لنزاهة وعدله رضي الله عنهما وأرضاهما الله يسر لنا أمثالها وأبعد عنا أضدادهما.

الله يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنا على القيام بطاعتك والانتهاء عن معصيتك اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإنا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسلبت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤمله من الخيرات معطيًا سواك ولا

ص: 573

لكسره جابرًا إلا أنت يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وكان عمر رضي الله عنه فِي خلافة أبي بكر يتعهده امرأة عمياء بالمدينة ليقوم بأمرها فكان إذا جاءها ألفاها قَدْ قضيت حاجتها فترصد عمر يومًا فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مؤنتها لا تشغله عن ذلك الخلافة وتبعاتها، عندئذ صاح عمر حين رآه أنت هو لعمري. ولله در القائل يصف الصحابة رضي الله عنهم:

قَوْمٌ طَعَامُهُمُو دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ

يَتَسَابَقُونَ إِلَى الْعُلا وَالسُّؤْدِدِ

ومن كلامه إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير مَا أعزنا الله به أذلنا الله.

وعن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت عمر يطوف بالبيت وعليه جبة صوف فيها اثنا عشر رقعة بعضها من جلد، ورآه رجل وهو يطلي بعيرًا من إبل الصدقة بالقطران فقال له: يا أمير المؤمنين لو أمرت عبدًا من عبيد الصدقة فكفاله فضرب عمر صدر الرجل وقال: عبد أعبد مني.

وروي أنه أتي بمال كثير فأتته ابنته حفصة فقالت: يا أمير المؤمنين حق أقربائك فقد أوصى الله بالأقربين فقال: لا يا حفصة إنما حق الأقربين فِي مالي

ص: 574

فأما مال المسلمين فلا يا حفصة نصحت وغشيت أباك فقامت تجر ذيلها.

وروي أنه جيء بمال كثير من العراق، فقيل له: أدخله بيت المال فقال: لا ورب الكعبة لا يرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد، وغطى بالأنطاع، وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار.

فلما أصبح نظر إِلَى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدر يتلألأ، فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين مَا هذا بيوم بكاء ولكنه فِي قوم قط إلا وقع بأسهم بينهم.

قم أقبل إِلَى القبلة وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} .

وعن سنان الدولي أنه دخل على عمر وعنده نفر من المهاجرين الأولين فأرسل عمر رضي الله عنه لسفط أتي به من قلعة بالعراق، وكان فيه خاتم فأخذه بعض بنيه فأدخله فِي فيه فانتزعه مِنْه ثم بكى، فقال له من عنده: لَمْ تبكي يا أمير المؤمنين وَقَدْ فتح الله عليك، وأظهرك على عدوك، وأقر عينك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تفتح الدنيا على أحد حتى تلقى بينهم العداوة، والبغضاء، إِلَى يوم القيامة وأنا أشفق من ذلك» . رواه أحمد والبزار.

وروي أنه كَانَ يقسم شيئًا من بيت المال، فدخلت ابنة له صغيرة فأخذت درهمًا فنهض فِي طلبها حتى سقطت ملحفته عن منكبيه، ودخلت

ص: 575

الصبية إِلَى بيت أهلها وهي تبكي، وجعلت الدرهم فِي فمها، فأدخل عمر إصبعه فِي فمها فأخرج الدرهم وطرحه على خراج المسلمين، وقال: أيها الناس إنه ليس لعمر ولا لآل عمر إلا مَا للمسلمين قريبهم وبعيدهم.

وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر ذات ليلة حتى أشرفنا عَلَى حرة واقم، فإذا نار توارى بضرام، فقال: يا ابن أسلم إني أحسب هؤلاء ركبًا يضربهم الليل والبرد، انطلق بنا إليهم، قال: فخرجنا نهرول حتى انتهينا إِلَى النار فإذا امرأة توَقَدْ تحت قدر، ومعها صبيان يتضاغون، فقال: السلام عليكم أصحاب الضوء أأدنو فقالت المرأة: أدن بخير أو دع. فقال: مَا بالكم؟ قالت: يضربنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فما هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به والله بيننا وبين عمر.

فقال: وما يدري عمر قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق فيه عكنة من شحم، فقال: أحمله عليَّ، قلت: أنا أحمله عنك، فقال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك، احمله عليَّ فحملته عليه فخرجنا نهرول حتى ألقينا ذلك العدل عندها.

ثم أخرج الدقيق فجعل يقول ذري عليَّ وأنا أسوطه، وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة، فجعلت أنظر إِلَى الدخان يخرج من تحت خلل لحيته حتى أنضج.

ثم أخذ من الشحم فأدمها به ثم قال: ائت بشيء فجاءته بصحفة، فأفرغ القدر فيها، ثم جعل يقول لها أطعميهم، وأنا أسطح لك، يعني

ص: 576

أبرده، فأكلوا حتى شبعوا.

ثم ترك عندها فضل ذلك، فقالت: له جزاك الله خيرًا أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فقال: قولي خيرًا إنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك.

ثم تنحى قريبًا فربض مربض السبع، فقلت له: إن لك شأنًا غير هذا، فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون ويضحكون، ثم ناموا فقام وهو يحمد الله تعالى.

ثم أقبل عليَّ وقال: يا ابن أسلم إني رأيت الجوع أبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى مِنْهُمْ مَا رأيت. أ. هـ.

وفي ذلك يقول حافظ إبراهيم:

وَمَنْ رَآهُ أَمَامَ الْقِدَرِ مُنْصَهِرًا

وَالنَّارُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَهْوَ يُذْكِيهَا

وَقَدْ تَخَلَّلَ فِي أَثَنَاءِ لِحْيَتِهِ

مِنْهَا الدُّخَانَ وَفُوْهُ غَابَ فِي فِيهَا

رَأَى هَنَاكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى

حَالَ تَرُوْعُ لَعَمْرُ الله رَائِيْهَا

يَسْتَقْبِلُ النَّارَ خَوْفَ النَّارِ فِي غَدِهِ

وَالْعَيْنُ مِنْ خَشَْيَةٍ سَالَتْ مَآقِيهَا

وعن الحسن البصري قال: بينما يعس بالمدينة ليلاً لقيته امرأة تحمل قربة، فسألها فذكرت له أن لها عيالاً وليس لها خادم، وأنها تخرج

ص: 577

ليلاً فتسقي لهم الماء، وتكره أن تخرج نهارًا، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها.

ثم قال لها: أغدي إِلَى عمر غدوة يخدمك خادمًا، قالت: لا أصل إليه، قال: إنك ستجدينه إن شاء الله فغدت عليه، فإذا هي به فعرفت أنه الذي حمل عنها القربة، فاستحيت وذهبت فأرسل لها عمر بخادم ونفقة.

وكان إذا قدم الرسول من الثغور بكتب إِلَى أهليهم هو الذي يدور بها ويوصلها إِلَى بيوتهم بنفسه، ويقول: إذا كَانَ عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن إذا خرج الرسول دار عليهن بالقرطاس والدواة بنفسه فيقربن من الأبواب فيكتب لهن إِلَى رجالهن.

ثم يأخذ الكتب فيأمر به مع الرسول، وعن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال فِي خطبته: إني لَمْ ابعث عمالي ليضربوا أبشاركم - أي جلودكم - ولا ليأخذوا أموالكم.

فمن فعل به ذلك فليرفعه إِلَى أقصه مِنْه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته، أتقصه مِنْه، قال: أي والذي نفسي بيده لأقصه مِنْه، وَقَدْ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه - أي مكن من القصاص مِنْه - أخرجه أبو داود.

وفي حديث أخرجه البخاري عن عمر أنه قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم ليعدلوا، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيأهم، ويرفعوا إلي مَا أشكل من أمرهم.

ص: 578

وفي حديث أخرجه البخاري ومسلم أن عمر لما طعن قيل له: لو استخلفت، فقال: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا، عن استخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم وددت أن حظي مِنْهَا الكفاف، لا علي ولا لي، فقالوا: جزاك الله خيرًا، فقال: راغب وراهب.

اللهم رضنا بقضائك وأعنا على الدنيا بالعفة والزهد والقناعة وعَلَى الدين بالسمع والطاعة وطهر ألسنتنا من الكذب وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء واحفظ أبصارنا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ)

وعن ابن عمر قال: تضرعت إِلَى الله أن يريني أبي فِي النوم، حتى رأيته وهو يمسح العرق عن جبينه، فسألته عن حاله، فقال: لولا رحمة الله لهلك أبوك إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وعن حياض الإبل، فكيف الناس فسمع بذلك عمر بن عبد العزيز فصاح وضرب بيده على رأسه، وقال: فعل هذا بالتقي الطاهر، فكيف بالمترف عمر بن عبد العزيز.

ولما أصاب الناس هول المجاعة والقحط فِي عهد عمر رضي الله عنه كَانَ لا ينام الليل إلا قليلاً، ولا يجد الراحة إلا قليلاً كَانَ كل همه أن يدفع خطر المجاعة عن شعبه، وما زال به الهم حتى تغير لونه وهزل

ص: 579

وقال من رآه: لو استمرت المجاعة شهورًا أخرى لمات عمر من الهم والأسى.

وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسمن والطعام والكساء فوزعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئًا وقال لرئيس القافلة: ستأكل معي فِي البيت ومنى الرجل نفسه ممتازًا حيث ظن أن أمير المؤمنين يكون طعامه خيرًا من طعام الناس.

وجاء عمر والرجل على البيت جائعين بعد التعب ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسر يابس مع صحن من الزيت واندهش الرجل وتعجب من أن يكون هذا الطعام طعام أمير المؤمنين.

وقال: لماذا منعتني من أن آكل مع الناس لحمًا وسمنًا وقدمت هذا الطعام قال عمر: مَا أطعمك إلا مَا أطعم نفسي.

قال: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وَقَدْ وزعت بيدك اللحم والطعام عليهم قال عمر: لقد آليت على نفسي أن لا أذوق السمن واللحم حتى يشبع مِنْهَا المسلمون جميعًا، أسمعت مثل هذا الإيثار لغير الأنبياء والخلفاء الراشدين.

ومن ورعه وتقشفه مَا روي من أن امرأته اشتهت الحلوى فادخرت لذلك من نفقة بيتها حتى جمعت مَا يكفي لصنعها فلما بلغ عمر ذلك رد مَا ادخرته إِلَى بيت المال ونقص من النفقة بقدر مَا ادخرت وإلى هذا أشار الشاعر:

ص: 580

إنْ جَاعَ فِي شَدَّةِ قَوْمٌ شَرَكْتَهُمُ

في الْجُوعِ أَوْ تَنْجَلِي عَنْهُم غَوَاشِيهَا

جُوعُ الخَلِيفَةِ وَالدُّنْيَا بِقَبْضَتِهِ

في الزُّهْدِ مَنْزِلَةٌ سُبْحَانَ مُولِيهَا

فَمَنْ يُبَارِي أَبَا حَفْصٍ وَسِيْرَتَهُ

أَوْ مَنْ يُحَاوِلُ لِلْفَارُوقِ تَشْبِيهَا

يَوْمَ اشْتَهَتْ زَوْجُهُ الحَلْوَى فَقَالَ لَهَا

مِنْ أَيْنَ لِي ثَمَنُ الحَلْوَى فَأَِشْرِيهَا

لَا تَمْتَطِي شَهَوَاتِ النَّفْسِ جَامِحَةً

فَكِسْرَةُ الْخُبْزِ عَنْ حَلْوَاكِ تُجْزِيهَا

قَالَتْ لَكَ اللهُ إَنِّي لَسْتَ أَرْزَؤهُ

مَالاً لِحَاجَةِ نَفْسٍ كُنْتُ أَبْغِيهَا

لَكِنْ أُجَنِّبُ شَيْئًا مِنْ وَضِيفَتِنَا

فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى حَالٍ أُسَوِّيهَا

حَتَّى إذَا مَا مَلَكْنَا مَا يُكَافِئُهَا

شَرَيْتُهَا ثُمَّ إنِّي لَا أُثنِّيْها

قَالَ اذْهَبِي وَاعْلَمِي إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً

أنَّ القَنَاعَةَ تُغْنِي نَفْسَ كاسِيهَا

وَأَقْبَلَتَ بَعْدَ خَمْسٍ وَهْيَ حَامِلَةٌ

دُرَيْهِمَاتٍ لِتَقْضِي مِنْ تَشَتِّهيَها

فَقَالَ نَبَّهْتِ مِنِّي غَافِلاً فَدَعِي

هَذِي الدَّرَاهِمَ إذْ لَا حَقَّ لِي فِيهَا

ص: 581

مَا َزادَ عَنْ قُوتِنَا فالمُسْلِمُونَ بِهِ

أَوْلَى فَقُومِي لِبَيْتِ المَالِ رُدِّيهَا

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أنفد عمالاً قال لهم: اشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إِلَى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج.

قال عبد الرحمن بن عوف: دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال: قَدْ نزل بباب المدينة قافلة وأخاف إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي: نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته.

وقال عمر رضي الله عنه: يجب عليَّ أن أسافر لأقضي حوائج الناس فِي أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرون عَلَى قصدي فِي حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال واسبر سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين، فلا يكون فِي سِنِي عُمَرَ أبرك من هذه السنة.

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِلَى عامله أبي موسى الأشعري (أما بعد فان أسعد الولاة من سعدت به رعيته وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته فإياك والتبسط فان عمالك يقتدون بك وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضرًا فأكلت كثيرًا حتى سمنت لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كَانَ ذلك الظلم منسوبًا إليه وأخذ به وعوقب عليه.

وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحد غبنًا ممن باع دينه وآخرته بدينا غيره وأكثر الناس فِي خدمته شهوتهم فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إِلَى مرادهم من الشهوات وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه فِي النار ليصلوا إِلَى إغراضهم وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى فِي هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل عَلَى الرعية أن يرتب غلمانه وعماله

ص: 582

للعدل ويحفظ أحوال العمال وينظر فيها كما ينظر فِي أحوال أهله وأولاده ومنزله ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولا من باطنه وذلك أن لا يسلط شهوته وغضبه عَلَى عقله ودينه ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه.

وكان يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عنه عففت عنه وإن افتقرت أكلت بالمعروف.

وسئل يومًا عما يحل له من مال الله فقال: أنا أخبركم بما أستحل مِنْه يحل لي حلتان حلة فِي الشتاء وحلة فِي الصيف وما أحج عليه واعتمر من الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ثم أنا رجل من المسلمين يصيبني مَا أصابهم. رضي الله وأرضاه وجعل جنة الفردوس مثواه.

وروي أن معاوية - وهو عَلَى الشام بعث مرة إِلَى عمر بن الخطاب بمال وأدهم - أي قيد - وكتب إِلَى أبيه أبا سفيان أن يدفع ذلك إِلَى عمر فخرج رسول معاوية بالمال والأدهم حتى قدم عَلَى أبي سفيان بالمال والأدهم، فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إِلَى عمر واحتبس المال لنفسه فلما قرأ عمر الكتاب قال: فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كَانَ علينا دين ومعونة ولنا فِي بيت المال حق فإذا أخرجت لنا شيئًا قاضيتنا به. فقال: اطرحوه فِي الأدهم أي فِي القيد حتى يأتي المال.

فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال فأمر عمر بإطلاقه من القيد فلما قدم رسول معاوية عَلَى معاوية قال له: أرأيت أمير المؤمنين أعجب بالأدهم قال: نعم وطرح فيه أباك قال: ولم؟ قال: إنه جاء بالأدهم وحبس المال. قال معاوية: أي والله والخطاب لو كَانَ لطرحه فيه يريد أن الخطاب أبا عمر مكان أبي

ص: 583

سفيان فِي القصة حتى يأتي المال فرضي الله عن عمر وأرضاه مَا أنصفه وأعدله وأروعه.

وفي ذلك يقول الشاعر:

وَمَا أَقَلْتَ أَبَا سُفْيَانِ حِينَ طَوَى

عَنْكَ الْهَدِيَّةَ مُعْتَزًّا بِمُهْدِيهَا

لَمْ يُغْنِ عَنْهُ وَقَدْ حَاسَبْتَهُ حَسَبٌ

وَلَا مُعَاوِيَةٌ بِالشَّامِ يَجْيِبهَا

قَيَّدْتِ مِنْهُ جَلِيلاً شَابَ مَفْرِقُهُ

فِي عِزَّةٍ لَيْسَ مِنْ عِزٍّ يُدَانِيهَا

قَدْ نَوَّهُوا فِي اسْمِهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ

وَزَادَهُ سَيَّدُ الكَوْنَيْنِ تَنْوِيهَا

في فَتْحِ مَكَّةَ كَانَتْ دَارُهُ عُمَرٍ

قَدْ أَمَّنَ اللهُ بَعْدَ البَيْتَ غَاشِيهَا

وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَشْفَعْ لَدَى عُمَرٍ

في هَفْوَةٍ لأَبِي سُفْيَانَ يَأْتِيهَا

تَاللهِ لَوْ فَعَلَ الخَطَّابُ فِعْلَتَهُ

لَمَا تَرَخَّصَ فِيهَا أَوْ يُجَارِيهَا

فَلَا الحَسَابَةُ فِي حَقٍّ يُجَامِلُهَا

وَلَا القَرَابَةُ فِي بُطْلٍ يُحَابِيهَا

ويروى أن جبلة بن الأيهم أحد أبناء الغساسنة ملوك الشام قَدْ اعتنق

ص: 584

الإسلام وبينما هو ذات يوم يطوف إذ وطئ أعرابي ثوبه فلطمه جبلة لطمة هشمت أنفه فشكاه الأعرابي إِلَى عمر فأمر أن يقتص من جبلة فأبى جبلة أن يمكنه من القصاص وهرب والتجأ إِلَى القسطنطينية وتنصر.

وفي ذلك يقول الشاعر:

كَمْ خِفْتَ فِي اللهِ مَضْعُوفًا دَعَاكَ بِهِ

وَكَمْ أَخَفْتَ قَوِيًّا يَنْثَنِي تِيهَا

وَفِي حَدِيثِ فَتَى غَسَّانَ مَوْعِظَةٌ

لِكُلِّ ذِي نَعْرَةٍ يَأْبَى تَنَاسِيهَا

فَمَا الْقَوِيُّ قَوِيًّا رَغْمَ عِزَّتِهِ

عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَالْفَارُوقُ قَاضِيهَا

وَمَا الضَّعِيفُ ضَعِيفًا بَعْدَ حُجَّتِهِ

وَإنْ تَخَاصَمَ وَالِيهَا وَرَاعِيهَا

ويروى أن عمر رضي الله عنه كتب إِلَى عمرو بن العاص إنه قَدْ فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لَمْ تكن حين وليت مصر فكتب إليه عمرو إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر فنحن نصيب فضلاً عما نحتاج إليه لنفقتنا فكتب إليه إني خبرت من عمال السوء مَا كفى وكتابك إِلَى كتاب من أقلقه الأخذ بالحق وَقَدْ سؤت بك ظنًا وَقَدْ وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فأطلعه وأخرج إليه مَا يطالبك وأعفه من الغلظة عليك، فلم يسع عمرو بن العاص عَلَى دهائه وعلو مكانه وبعده عن أمير المؤمنين إلا الخضوع لما أمر به ومقاسمه محمد بن سلمة ماله وإلى هذه القصة يشير الشاعر:

ص: 585

شَاطَرْتَ دَاهِيَةَ السُّوَّاسِ ثَرْوَتَهُ

وَلَمْ تَخَفْهُ بِمِصْرَ وَهْوَ وَالِيهَا

وَأَنْتَ تَعْرِفُ عَمْرًا فِي حَوَاضِرِهَا

وَلَسْتَ تَجْهَلُ عَمْرًا فِي بَوَادِيهَا

فَلَمْ يَرُغ حِيلَةً فِيمَا أَمَرْتَ بِهِ

وَقَامَ عَمْروٌ إِلَى الأَجْمَالِ يُزْحِيهَا

وَلَمْ تُقِلْ عَامِلاً مِنْهَا وَإِنْ كَثُرَتْ

أَمْوَالهُ وَفَشا فِي الأرْض فاَشِيهَا

اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ومن ورعه رضي الله عنه مَا يتجلى فيما يلي مما روي عنه: كَانَ رضي الله عنه ممن يأخذون بالشورى فِي أمرهم عملاً بقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وكان يقول: لا خير فِي أمر أبرم من غير شورى.

وهو أول من قرر قاعدة الشورى فِي انتخاب الخليفة فقد سئل عندما طعن عمن يوصي بعده فقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني فِي حفرتي فأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم

ص: 586

وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر وقم عَلَى رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحدًا فاضرب رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة ورضوا رجلاً مِنْهُمْ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما فإن رضي ثلاثةٌ رجلاً مِنْهُمْ فحكِّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً مِنْهم.

فإن لَمْ يرضوا بحكم عبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس ولم يذكر فِي الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه فخشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه فلذلك تركه وهو أحد العشرة المبشرين فِي الجنة بل قيل إنه استثناه من بينهم وإلى هذه القصة يشير الشاعر فِي قوله:

يَا رَافِعًا رَايَةَ الشُّورَى وَحَارِسَهَا

جَزَاكَ رَبُكَ خَيْرًا عَنْ مُحِبِّيهَا

لَمْ يُلْهِكَ النَّزْعُ عَنْ تَأْيِيدِ دَوْلَتِها

وَلِلمَنِيَّةِ آلامٌ تُعَانِيهَا

لَمْ أَنْسَ أَمْرَكَ لِلْمِقْدَادِ يَحْمِلُُهُ

إِلَى الْجَمَاعَةِ إنْذَارًا وَتَنْبِيهَا

إنْ ظَلَّ بَعْدَ ثَلَاثٍ رَأْيُهَا شَعَبًا

فَجَرِّدِ السَّيْفَ وَاضْرِبْ فِي هَوَادِيهَا

فَأَعْجَبْ لِقُوَّةِ نَفْسٍ لَيْسَ يَصْرِفُهَا

طَعْمِ المَنِيَّةِ مُرًّا عَنْ مَرَامِيهَا

دَرَى عَمِيدُ بَنِي الشُّورَى بِمَوْضِعِهَا

فَعَاشَ مَا عَاشَ يَبْنِيهَا وَيُعَلِيهَا

ص: 587

وَمَاَ اسْتَبَدَّ بِرَأْي فِي حُكُومَتِهِ

إنَّ الْحُكُومَةَ تغْرِي مُسْتَبِدِّيهَا

رَأْيُ الجَمَاَعَةِ لَا تَشْقَى البِلَادُ بِهِ

رَغْمَ الْخِلَافِ وَرَأْيُ الفَرْدِ يُشْقِيهَا

ومن لطفه ورأفته برعيته وحرصه عَلَى العدل فيهم مَا يتجلى فِي وصيته لأبي موسى الأشعري وَقَدْ كتب له كتابًا قال فيه: فإذا جاء كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة ولا تؤخر عمل اليوم لغد فتزدحم عليك الأعمال فتضيع.

وإياك وإتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة ودنيا مؤثرة وضغائن محمولة وحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إِلَى الرضا والغبطة.

ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إِلَى الندامة والحسرة، آس بين الناس فِي وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف فِي حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك.

ولا يمنعك قضاء قضية اليوم فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إِلَى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي فِي الباطل والفهم الفهم فيما تلجلج فِي صدرك مما ليس فِي كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك بنظائرها.

واعمد إِلَى أقربها إِلَى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا

ص: 588

أمدًا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحلت عليه القضية فإن ذلك أنفى للشك وأجلى وأبلغ فِي العذر، والمسلمون عدول بعضهم عَلَى بعض إلا مجلودًا فِي حد أو مجربًا عليه شهادة زور أو متهمًا فِي ولاءٍ أو نسبٍ فإن الله قَدْ تولى منكم السرائر. وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات.

فإن الحق فِي مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن صحت نيته وأقبل عَلَى نفسه كفاه الله مَا بينه وبين الناس.

ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب عند الله عز وجل وخزائن رحمته والسلام.

وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

مقتل عمر رضي الله عنه

لم يصب المسلمون فِي العصر الأول بمصيبة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاة الصديق أعظم من قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

جنى عليه غلام مجوسي اسمه أبو لؤلؤة كَانَ للمغيرة بن شعبة وها نحن نستوقف لك مَا رواه البخاري فِي صحيحه عن عمرو بن ميمون فِي هذا المصاب الجلل.

قال عمرو: إني لواقف مَا بيني وبينه (عمر) إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب.

وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لَمْ ير فيهن خللاً تقدم فكبر.

ص: 589

وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك فِي الركعة الأولى حتى يجتمع الناس.

فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه أبو لؤلؤة فسار العلج بسكين ذا طرفين لا يمر عَلَى أحد يمينًا وشمالاً إلا طعنه طعن ثلاثة عشر رجلاً فمات مِنْهُمْ سبعة.

فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه.

وتناول (عمر) يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة.

فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع. قال: نعم. فقال: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا الحمد الله الذي لَمْ يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام فاحتمل إِلَى بيته.

فانطلقنا معه وكأن الناس لَمْ تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول: لا بأس عليه. وقائل يقول: أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه.

وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم فِي الإسلام مَا قَدْ علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة.

قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا الغلام قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك.

ص: 590

يا عبد الله بن عمر أنظر مَا علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه قال: إِنْ وَفَى بذلك مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل فِي بني عدى ابن كعب فإن لَمْ تف أموالهم فسل فِي قريش ولا تعدهم إِلَى غيرهم فادعني هذا المال.

انطلق إِلَى عائشة أم المؤمنين فقال: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا وقل يستأذن عمر ابن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.

فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه.

فقالت: كنت أريده لنفسي ولا أوثرنه به اليوم عَلَى نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قَدْ جاء فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: مَا لديك.

قال الذي يحب يا أمير المؤمنين: أذنت. قال: الحمد لله مَا كَانَ شيء أهم إلي من ذلك فإذا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت فأدخلوني وإن ردتني ردوني إِلَى مقابر المسلمين.

وجاءت أم المؤمنين حفصة (بنت عمر) والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل.

فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف. فقال كما فِي رواية مسلم: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا لوددت أني أحظى مِنْهَا الكفاف لا عليَّ ولا لي.

وإن استخلفت فقد استخلفت من هو خير منى يعني أبا بكر.

وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 591

قال عبد الله بن عمر: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف ثم قال عمر: مَا أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عنهم راض.

فسمى عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئته التعزية له.

شِعْرًا:

في كُلِ عَصْرٍ لِلْجُنَاةِ جَرِيرَةٌ

لَيْسَتْ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ تَزُولُ

جَاوُرا عَلَى الْفَارُوق أَعْدَلُ مَنْ قَضَى

بَعْدَ النَّبِي وزَكَّى رَأْيَهُ التَّنْزِيلُ

وَعَلَى عَلي وَهْوَ أطْهَرُنا فَمَا

وَيَدًا وَسَيْفُ نَبِيِّنَا الْمَسْلُولُ

كَمْ دَوْلَةٍ شَهِدَ الصَّبَاحُ جَلَالهَا

وأَتَى عَلَيْهَا اللَّيْلُ وَهِيَ فَلُولُ

وَقُصُورُ قَوْمٍ زَاهِرَاتٍ فِي الدُّجَى

طَلَعَتْ عَليهَا الشَّمْسُ وَهِيَ طُلُولُ

شِعْرًا:

ولكِنَّنَا وَالْحَمْدُ للهِ لَمْ نَزَلْ

عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ نُعَوِّلُ

نُقرُّ بأنَّ اللهَ فَوْقَ عِبَادِهِ

عَلَى عَرْشِهِ لَكِنَّمَا الكَيْفُ يُجْهَلُ

وكُلُ مَكَانٍ فَهْوَ فِيهِ بِعِلْمِهِ

شَهِيدٌ عَلَى كُلُّ الْوَرَى لَيْسَ يَغْفُلُ

وَمَا أثبتَ البَارِي تَعَالى لِنَفْسِهِ

مِن الوَصْفِ أوْ أَبْدَاهُ مَن هُوَ مُرْسَلُ

فَنُثْبِتُهُ للهِ جل جلاله

كَمَا جَاءَ لا نَنْفِي ولا نَتَأوَّلُ

هُوَ الْوَاحِدُ الْحَيُّ القَدِيرُ لَهُ البَقَا

مَلِيكٌ يُوَلِّي مَن يَشَاءُ ويَعْزِلُ

سَميعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ

عَلِيمٌ مُرِيدٌ آخِرٌ هو أَوّلُ

تَنَزَّهَ عَنْ نِدٍّ وَوَلْدٍ وَوَالِدٍ

وَصَاحِبَةٍ فَاللهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ

وَلَيْسَ كَمِثل اللهِ شَيْءٌ وَمَا لَهُ

شَبِيهٌ ولا ندٌّ بِرَبِّكَ يَعْدِلُ

وإنِّ كِتَابَ اللهِ مِن كَلِمَاتِهِ

ومِن وَصْفِهِ الأَعْلَى حَكِيمٌ مُنَزَّلُ

هو الذِكْرُ مَتْلوٌ بأَلْسِنَةِ الوَرَى

وفي الصَّدْرِ مَحْفُوظٌ وفي الصُّحْفِ مُسْجَلُ

فألفَاظُهُ لَيْسَتْ بمَحْلوقَةٍ ولا

مَعَانِيهِ فاتْرُكْ قَوْلَ مَن هُوَ مُبْطِلُ

ص: 592

.. وَقَدْ أَسْمَعُ الرَّحْمَنُ مُوسىَ كَلَامَهُ

عَلَى طُورِ سِينَا والإِلهُ يُفَضِّلُ

ولِلِطُور مَوْلانَا تَجَلىَ بُنُوْرِهِ

فَصَارَ لِخَوفِ اللهِ دَكًا يُزَلْزَلُ

وإنَّ عَلَيْنَا حَافِظِينَ مَلَائِكًا

كِرَامًا بسُكَّانِ البَسِيطةِ وكِّلُوا

فََيُحْصُونَ أَقْوالَ ابن آدَمَ كُلَّهَا

وأَفْعَالَُ طُرًا فلا شَيءَ يُهْمَلُ

ولا حَيَّ غَيْرُ اللهِ يَبْقَى وكُلُ مَنْ

سِواهُ لَهُ حَوضُ المنيةِ مَنْهَلُ

وإنَّ نُفُوسَ العَالمَيْنَ بقَبْضِهَا

رَسولٌ مِن اللهِ العظيمِ مُوَكَّلُ

ولا نَفْسَ تَفْنَى قَيْلَ إكْمَالِ رِزْقِهَا

ولَكِنْ إذَا تَمَّ الكِتَابُ المُؤَجَّلُ

وسِيَّانِ مِنْهُمْ مَن وَدي حَتْفَ أَنْفِه

وَمَنْ بِالظُّبَا وَالسَّمْهَريَِّةِ يُقْتَلُ

وَإِنَّ سُؤَالَ الفَاتِنَيْنَ مُحَقَّقٌ

لِكُلِّ صَرِيعٍ فِي الثَّرَى حِينَ يُجْعَلُ

يَقُولانِ مَاذَا كُنْتَ تَعْبُدُ مَا الذِّي

تَدِيْنُ وَمَنْ هَذَا الذِّي هُوَ مُرْسَلُ

فَيَا رَبَّ ثَبِّتْنَا عَلَى الْحّقِّ وَرُوحُ مَنْ

وَدَى فِي نَعِيْمٍ أَوْ عَذَابٍ سَتَجْعَلُ

فَأَرْوَاحُ أَصْحَابٍ السّعادةِ نُعِّمَتْ

بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وَمَا هُوَ أَفْضَلُ

وَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّاتِ تَجْنِي ثِمَارِهَا

وَتَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ المِيَاهِ وَتَأْكُلُ

وَلَكِنَ شَهِيْدَ الحَرْبِ حَي مُنَعِّمٌ

فَتَنْعِيْمُهُ لِلرُّوْحِ وَالجِسْمِ يَحْصُلُ

وأرْواحُ أصْحَابِ الشَّقَاءِ مُهَانَةٌ

مُعَذَّبَةٌ لِلْحَشْرِ واللهُ يَعْدِلُ

وَإِنَّ مَعَادَ الرُّوحُ وَالجِسْمِ وَاقِعٌ

فَيَنْهَضُ مَن قَدْ مَاتَ حَيًا يُهَرُّولُ

وصِيحَ بِكُلِّ العَالمِيْنَ فَأُحْضِرُوا

وقِيْلَ قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ لِيُسْأَلُوا

فَذَلِكَ يَوْمٌ لا تُحَدُّ كُرُوْبَهُ

بِوَصْفٍ فَإِنََ الأَمْرَ أَدْهَى وَأَهْوَلُ

يُحَاسَبُ فِيْهِ المَرْءُ عَنْ كُلِّ سَعْيِهِ

وَكُل يُجَازَى بِالذِّي كَانَ يَعْمَلُ

وَتُوْزَنُ أَعْمَالُ العِبَادِ جَمِيعُهَا

وَقَدْ فَازَ مِنْ مِيزَانُ تَقْوَاهُ يَثْقُلُ

وَفِي الحَسَنَاتِ الأَجْرُ يُلْقَى مُضَاعَفًا

وَبِالمِثْلِ تُجْزَى السَّيِئَاتُ وَتُعْدَلُ

وَلا يُدْرِكُ الغُفْرَانَ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا

وَأَعْمَالُهُ مَرْدُوْدَةٌ لَيْسَ تُقْبَلُ

ص: 593

.. وَيَغْفِرُ غَيْرَ الشِّرْكِ رَبِي لِمَنْ يَشَا

وَحُسْنُ الرَّجَا وَالظَّنِ بِاللهِ أَجْمَلُ

وَإِنَّ جَنَانَ الْخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا

مُقِيْمًا عَلَى طَوْلِ المَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ

أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهَ وَيَتَّقِي

وَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَهُوَ مُهَلِّلُ

وَيَنْظُر مَنْ فِيهَا إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ

بِذَا نَطَقَ الوحِيُ المبينُ المنزُّلُ

وإن عَذَابَ النَّار حقٌّ وإنَّهَا

أُعِدَّتْ ِلأَهْلِ الكُفْرِ مَثْوَى وَمَنْزِلُ

يُقِيمُوْنَ فِيْهَا خَالدِيْنَ عَلَى المَدَى

إِذَا نَضِجَتْ تِلْكَ الجُلُودُ تُبَدَّلُ

وَلَمْ يَبْقَ بِإِجْمَاعِ فِيهَا مُوَحِدٌ

ولَوْ كَانَ ذَا ظُلْمٍ يَصُولُ وَيَقْتُلُ

وإنَّ لِخَيْرِ الأَنْبِيَاءِ شَفَاعَةً

لَدَى اللهِ فِي فَصْل القَضَاء فَيَفْصِلُ

وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِينَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ

فَيُخْرِجَهُمْ مِنْ نَارِهمْ وَهِي تُشْعِلُ

فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيُنْبُتُوا

كَمَا فِي حَمِيل السَّيْلِ يَنْبُتُ سُنْبُلُ

وَإِنْ لَهُ حَوْضًا هَنِيْئًا شَرَابُهُ

مِنْ الشَّهْدِ أَحْلَى فَهُوَ أَبْيَضُ سَلْسُلَ

يُقَدِّرُ شَهْرًا فِي المَسَافَةِ عَرْضُهُ

كَأْيِلََةَ مِنْ صَنْعَا وَفِي الطَّوْلِ أَطْوَلُ

وَكِيْزَانُهُ مِثْلُ النُّجُوْمِ كَثِيْرَةٌ

وَوُرَّادُهُ حَقًّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ

مِنْ الأُمَّةِ المُسْتَمْسِكِينَ بِدِينِهِ

وَعَنْهُ يُنَحِّى مُحْدِثُ وَمُبَدِّلُ

فَيا ربِّ هَبْ لِي شَرْبةً مِن زُلَالِهِ

بِفَضْلِكَ يَا مَنْ لَمْ يَزَلْ يَتَفَضَّلُ

اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.

اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضي بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.

اللهم اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمتت بنا أحدَا.

اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عليه.

ص: 594

اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر مَا أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطل والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.

وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك عَلَى كل شيء قدير. وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ)

قال النبي: «من قال حين يصبح ويمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمد عبدك ورسولك. أعتق الله ربعه من النار. فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه. فمن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه. فمن قالها أربعًا أعتقه الله من النار» . رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح ثلاث: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات من ذلك اليوم مات شهيدًا. ومن قالها حين يمسي كَانَ بتلك المنزلة» . رواه أحمد والترمذي عن معقل بن يسار رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا عَلَى عهدك ووعدك مَا استطعت أعوذ بك من شر مَا صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فمات من يومه أو ليلته دخل الجنة» . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن بريدة رضي الله عنه.

ص: 595

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح: اللهم مَا أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر عَلَى ذلك. فقد أدى شكر يومه. ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته» . رواه أبو داود وابن حبان وابن السني والبيهقي عن عبد الله بن غنام رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أدرك مَا فاته فِي يومه ذلك، ومن قالها حين يمسي أدرك مَا فاته فِي ليلته» . رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا. كَانَ حقًّا عَلَى الله أن يرضيه يوم القيامة» . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم ورواه الترمذي عن ثوبان رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا عَلَى الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. إلا كفرت عنه خطاياه ولو كَانَت مثل زبد البحر» . رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. رضيت بالله ربًّا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا. غفر الله له مَا تقدم من ذنبه» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة

ص: 596

التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة» . رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأم سامة «قولي عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك أسألك أن تغفر لي» . رواه الترمذي والطبراني والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صليت الصبح فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: «اللهم أجرني من النار. سبع مرات. فإنك إن مت من يومك. هذا كتب الله لك جوارًا من النار.

وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: اللهم جرني من النار سبع مرات. فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارًا من النار» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن الحارث التيمي رضي الله عنه.

كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي عَلَى دينك» . فقيل له قال: «ليس من آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» . رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو دعي بهذا الدعاء عَلَى شيء بين المشرق والمغرب فِي ساعة من يوم الجمعة لا تستجيب لصاحبه: لا إله إلا أنت يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام» .

رواه الخطيب عن جابر رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد، لو دعوت على من بين السماوات والأرض لا ستجيب لك، فأبشر يا سعد» . يعني «سبحانك لا إله إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام» . رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 597

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم ورزقه من حيث لا يحتسب» . رواه أبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك وإن كنت مغفورًا لك؟ قل: لا إله إلا الله سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم. الحمد لله رب العالمين» .

رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه.

وجاء رجل إِلَى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: يا أبا الدرداء، قَدْ احترق بيتك. فقال: مَا احترق. لَمْ يكن الله عز وجل ليفعل ذلك بكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قلتهن اليوم. ثم قال: انهضوا بنا. فانتهوا إِلَى داره وَقَدْ احترق مَا حولها ولم يصبها شيء.

وهذه هي الكلمات: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح وحين يمسي: مَا شاء الله كَانَ وما لَمْ يشأ لَمْ يكن. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أعلم أن الله عَلَى كل شيء قدير. وأن الله قَدْ أحاط بكل شيء علمًا. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. إن ربي عَلَى صراط مستقيم. لَمْ يصبه فِي نفسه ولا أهله ولا ماله شيء يكرهه» . رواه ابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما لدنياك فإذا صليت الصبح فقل بعد صلاة الصبح: سبحان الله العظيم وبحمده ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثلاث مرات يوقيك الله من بلايا أربع: من الجنون والجذام والعمى والفالج. وأما لآخرتك فقل: اللهم أهدني من عندك، وأفض عليَّ من فضلك، وانشر عليَّ من رحمتك وأنزل من بركاتك. والذي نفسي بيده من وافى بهن يوم

ص: 598

القيامة لَمْ يدعهن ليفتحن له أربعة أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء» . رواه السني عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا من رجل يدعو بهذا الدعاء فِي أول ليله وأول نهاره إلا عصمه الله من إبليس وجنوده: بسم الله ذي الشان، عظيم البرهان شديد السلطان. مَا شاء الله كَانَ. أعوذ بالله من الشيطان» . رواه الحاكم وابن عساكر عن الزبير بن العوام رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليك توكلت وهو رب العرش العظيم. سبع مرات كفاه الله تعالى مَا أهمه من أمر الدنيا والآخرة» . رواه ابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء فِي الأرض ولا فِي السماء وهو السميع العليم. ثلاث مرات لَمْ يصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لَمْ يصبه فجأة بلاء حتى يمسي» . رواه أبو داود وابن حبان والحاكم عن عثمان رضي الله عنه.

معارضة بدء الأمالي

وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:

بِحَمْدِ اللهِ نَبْدَأُ فِي المَقَال

وَنَثْنِي بالمَدِيحَ لِذيِ الجَلال

إلهِ العَالِمَيْنَ وكُلِّ حيٍّ

تَفَرَّد بالعُبُودَةِ والَكَمَالِ

ومَوْصُوفٍ بأوْصَافٍ تَعَالَتْ

عن التَّشبيه أو ضَرْبِ المِثالِ

ومِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ عَلَى نَبِيٍّ

هُوَ المَعْصُوم أحْمَدُ ذُو الجَمَالِ

زَكِيُّ النَّفْسِ مَنْبِعُ كُلِّ خَيْرٍ

كَرِيمُ المُحتَدَى سَامِي المعَالي

فإنِّي قَدْ رَأَيْتُ نِظَامَ شَخْصٍ

تَهوَّر فِي المَقَالَةِ لا يُبالِي

ص: 599

نِظَامًا فِي العَقِيدَةِ لا سَدِيدًا

ولا مَنْظُومُهُ مِثْلُ اللَّئَالِي

كَمَا قَدْ قَالَه فيما قَدْ نَمَاه

وَخَالَ نِظَامَه عَالٍ وحَاِلي

وَقَدْ أَخْطَا بِمَا أَبْدَاهُ مِمَّا

لَهُ قَدْ قَالَ فِي بَعضِ الأَمَالَي

فَبَعْضٌ قَدْ أَصَابَ القَولَ فِيهِ

وبَعْضٌ جَاَءَ بالزُّورِ المُحَالِ

فهذا بعضُ مَا قَدْ قَالَ فِيهَا

مِن الزُّورِ المُلَفَّقِ والضَّلالِ

صِفَاتُ الذَّات والأَفْعَالِ طُرًّا

قَدِيمَاتٌ مَصُونَاتُ الزَّوالِ

فهذا بعضُ حَقُّ وبَعْضٌ

فمِنْ قَوْلِ المُعَطِّلة الخَوالِي

صِفَاتُ الذَّاتِ لَازِمَةٌ وحقُّ

قَدِيمَاتٌ عَدِيمَاتٌ المِثَال

فَخُذْ مِنْهُنَّ أَمْثِلَةً وقُلْ لِي

جُزِيتَ الخَيرَ مِنْ كُلِّ الخِصَالِ

عَليمٌ قَادِرٌ حيٌّ مُرِيدٌ

بَصِيرٌ سَامعٌ لِذَوِى السُؤالِ

وأفْعَالُ الإلهِ فإنَّ فِيهَا

لأِهْلِ الْحَقِّ مِن أهْلِ الكَمَالِ

كَلامًا فَاصِلاً لا رَيْبَ فِيهِ

وَحَقًّا عَنْ أَمَاثِلَ ذِي مَعالِ

قَديمٌ نَوْعُها إِنْ رُمتَ حَقًّا

وآحَادُ الْحَوَادِثِ بالْفِعَالِ

فَيَضْحَكُ ربُّنَا مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ

وَيَفْرَحُ ذُو الجَلالِ وَذُو الجَمَالِ

بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِمَّا جَنَاهُ

وَيَسْخَطُ إِنْ جَنَى سُوءَ الفِعَالِ

وَمُنْتَقِمٌ بِمَا قَدْ شَاءَ مِمَّنْ

تَعَدَى وَاعْتَدَى مِنْ كُلِّ غَالِ

وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ كَيْفٍ

يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ذَوِي النَّوَالِ

وَيَغْضَبُ رَبُّنَا وَكَذَاكَ يَرْضَى

وَأَفْعَالُ الإِلَهِ مِنَ الْكَمَالِ

وَيَخْلُقُ رَبُّنَا وَيَجِي وَيَأَتِي

بِلا كَيْفٍ وَيَرْزُقُ ذُو التَّعَالِي

وَيَنْزِلُ رَبُّنَا مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ

وَيَهْبِطُ ذُو الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ

وَيَقْهَرُ رَبُّنَا ويُرَى تَعَالَى

وَذِي الأَوْصَافِ أَمْثِلةُ الْفِعَالِ

وَلَسْنَا كَالذِّينَ تَأَوَّلُوهَا

بِأَنْوَاعٍ مِنْ القَوْلِ الْمُحَالِ

ص: 600

.. وَلَكِنَّا سَنُجْرِيهَا كَمَا قَدْ

أَتَى فِي النَّصِّ وَالسُّوَرِ العَوَالِي

وَأَهْلُ البَغْيِ مِنْ بَطْرٍ وَغَيٍّ

يُسَمُّونَ الصِّفَاتِ لِذِي الْكَمَالِ

حُلُولَ حَوَادِثٍ بَغْيًا وَقَصْدًا

لِتَنْفِيرِ الوَرَى عَنِ ذِي الفِعَالِ

وَمِمَّا قَالَ فِيمَا كَانَ أَمْلَى

وَذَاتًا عَنْ جِهَاتِ السِّتِ خَالِي

تَعَالَى اللهُ عَمَّا قَالَ هَذَا

فَذَا قَوْلٌ ِلأَرْبَابِ الضَّلالِ

فَإِنَّ اللهَ مِنْ غَيْرِ امْتِرَاءٍ

عَلَى السَّبِعِ الْعُلَى وَالْعَرْشِ عَالِ

عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ

فَإِنَّ اللهَ جَلَّ عَنِ الْمِثَالِ

وَعَنْهَا بَايِنٌ وَلَهُ تَعَالَى

عُلُوُّ الذَّاتِ مِنْ فَوْقِ الْعَوَالِي

وَقَهْرٌ لِلْخَلائِقِ وَالْبَرَايَا

وَقَدْرٌ وَالكَمَالُ لِذِي الْجَمَالِ

وَمَعْنَى بَاطِلٍ لا شَكَّ فِيهِ

وَمِنْهِ اغْتَرَّ أَربَابُ الضَّلالِ

وَلابْنِ القَيِّمِ الثِّقَةِ الْمُزَكَّى

بِإِتْقَانٍ وَحِفْظٍ وَاحْتِفَالِ

كَلامٌ فِي الْبَدَائِعِ مُسْتَبِينٌ

بِتَفْصِلِ لِلَيْلِ الشَّكِّ جَالِ

وَيَعْسُرُ نَظْمُ مَا قَدْ قَالَ فِيهَا

مِنْ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْمَجَالِ

فَقَوَّى قَوْلَ أَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ

وَأَوْهَى قَوْلَ أَهْلِ الاعْتِزَالِ

فَرَاجِعْهُ تَجِدُ قَوْلاً سَدِيدًا

مُفِيدًا شَافِيًا سَهْلِ الْمَنَالِ

وَأَنَّ اللهَ جَلَّ لَهُ صِفَاتٌ

وَأَسْمَاءٌ تَعَالَتْ عَنْ مِثَالِ

وَتَكْفِي سُوْرَةُ الإِخْلاص وَصْفًا

لِرَبِّي ذِي الْمَعَارِجِ وَالجَلالِ

وَمَا قَدْ جَاءَ فِي الآيَاتِ يَوْمًا

عَنْ الْمَعْصُومِ صَحَّ بِلا اخْتِلالِ

وَفِيْمَا قَالَهُ الرَّحْمَنُ رَبِّي

وَمَا أَبْدَى الرَّسُولُ مِنْ الْمَقَالِ

شِفَاءٌ لِلسِّقَامِ وَفِيْهِ بُرْءٌ

وَمُقْنِعُ كُلِّ أَرْبَابِ الكَمَالِ

وَرُؤْيا الْمُؤْمِنِيْنَ لَهُ تَعَالَى

أَتَتْ بِالنَّصِّ عَنّ صَحْبٍ وَآلٍ

عَنْ الْمَعْصُومِ عِشْرِينًا وَبِضْعًا

أَحَادِيثًا صِحَاحًا كَاللَّئَالِي

ص: 601

.. وَفِي القُرآنِ ذَلِكَ مُسْتَبِينٌ

فَيَا بُعْدًا لأَهْلِ الاعْتِزَالِ

لَقَدْ جَاءُوا مِنْ الكُفْرَانِ أَمْرًا

يَهُدُّ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الجِبَالِ

وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَفِي نَعِيمٍ

نَعِيمٍ لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ

وَإِنَّ أَلَذَّ مَا يَلْقَوْنَ فِيهَا

مِنْ الذَّاتِ رُؤْيَةُ ذِي الْجَمَالِ

وَتُؤْمِنُ بِالإِلَهِ الحَقِّ رَبًّا

عَظِيمًا قَدْ تَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ

إِلَهًا وَاحِدًا صَمَدًا سَمِيعًا

بَصِيرًا ذِي الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ

قَدِيرًا مَاجِدًا فَرْدًا كَرِيمًا

عَلِيمًا وَاسِعًا حَكَمَ الْفِعَالِ

لَهُ الأَسْمَاءُ وَالأَوْصَافُ جَلَّتْ

عَنْ التَّشْبِيهِ أَوْ ضَرْبِ الْمِثَالِ

وَنُؤْمِنُ أَنَّمَا قَدْ شَاءَ رَبِّي

فَحَقٌّ كَائِنٌ فِي كُلِّ حَالِ

وَإِنَّ مَا شَاءَهُ أَحَدٌ وَمَا لَمْ

يَشَأْهُ اللهُ كَانَ مِنْ الْمُحَالِ

وَأَقَسَامُ الإِرَادَةِ إِنْ تُرِدْهَا

فَأَرْبَعَةٌ مُوَضَّحَةٌ لِتَالِ

فَمَا قَدْ شَاءَهُ شَرْعًا وَدِينًا

مِنْ العَبْدِ الْمُوَفَّقِ لِلْكَمَالِ

بِمَا وَقَعَ الْمُقَدِّرُ مِنْ قَضَاءٍ

بِذَلِكَ فِي الوُجُودِ بِلا اخْتِلالِ

مِنَ الطَّاعَاتِ فَهُوَ لَهَا مُحِبُّ

إِلَهِي رَاضِيًا بالامْتِثَالِ

فَهَذَا قَدْ أَرَادَ اللهُ دِينًا

وَشَرْعًا كَوْنَه فِي كُلِّ حَالِ

وَرَبُّ العَرْشِ كَوَّنَهَا فَكَانَتْ

وَلَوْلا ذَاكَ مَا كَانَتْ بِحَالِ

وَثَانِيهَا الَّذِي قَدْ شَاءَ دِينًا

مِنْ الكُفَّار أَصْحَابِ الوَبَالِ

مِنَ الطَّاعَاتِ لَوْ وَقَعَتْ وَصَارَتْ

عَلَى وَفْقِ الْمَحَبَّةِ بِالفِعَالِ

وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ فَبَاءُوا

لَعَمْرِي بِالْخَسَارِ وَبِالنَكَالِ

وَثَالُثهَا الذِّي قَدْ شَاءَ كَوْنًا

بِتَقْدِيرِ الحَوَادِثِ لَلْوَبَالِ

كَفِعْلٍ لِلْمَعَاصِي أَوْ مُبَاحٍ

فَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا رَبُّ العَوَالِي

وَلَمْ يَرْضَ بِهَا مِنْهُمْ وَكَانَتْ

عَلَى غَيْرِ الْمَحَبَّةِ لِلْفِعَالَ

ص: 602

.. فإنَّ الله لا يَرْضَى بِكُفْرٍ

ولا يَرْضَى الفَوَاحِشَ ذُو الجَلالِ

فَلَولَا أَنَهُ قَدْ شَاءَ هَذا

وقَدَّرَ خلْقَهُ فِي كُلَّ حَالِ

لَمَا كَانَتْ ولَمْ تُوجَدْ عَيانًا

فَمَا قَدْ شَاءَ كَانَ بلا اخْتِلالِ

ورَابعُهَا الَّذِي مَا شَاءَ رَبِّي

لَهُ كَوْنًا ولا دِينَا بِحَالِ

فَذا مَا لَمْ يَكُن مِن نَوعِ هَذا

ولا هَذَا وهَذَا فِي المِثَالِ

كأَنْواعِ المَعَاصِي أوْ مُباحٍ

فهذا الحَقُّ عنْ أهْلِ الكَمَالِ

فَخُذْ بِالْحَقِّ وَاسْمُ إِلَى الْمَعَالِي

ودَع قَوْلَ المُخبِّطِ ذَا الخَيَالِ

ولِلْعَبْدَ مَشِيئَةِ وَهِيَ حَقُّ

أَتَتْ بالنَّصِّ فِي أيِّ لِتَالِ

وَبَعْدَ مَشِيئَةُ الرَّحْمَنِ فَاعْلَمْ

هُدِيتَ الرُّشْدَ فِي كُلِّ الْخِلالِ

وَأَعْمَالُ الْعِِبَادِ لَهُمْ عَلَيْهَا

لَعمْرِي قُدْرَةٌ بالافْتعَالِ

ومَا الأَفْعَالِ إلَاّ باخْتِيَارٍ

ورَبِّي ذُو الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ

لِذَلِكَ خَالِقٌ ولَهمْ كَمَا قَدْ

أَتَى فِي النَّصِّ فاسْمَعْ لِلْمَقَالَ

ونُؤْمِنُ بالكِتَابِ كَمَا أَتَانَا

وبِالرُّسْلِ الكِرَامِ ذَوِي الكَمَالِ

ونُؤْمِنُ بالقَضَا خَيْرًا وشَرًا

وبالقَدَرِ المُقَدَرِ لا نُبَالي

وأَمْلَاكِ الإلهِ وإنَّ مِنْهم

لَعَمْرِي مُصْطَفَيْنَ لِذِي الجَلالِ

وإنَّ الجنَّةَ العلُياَ مَئَابٌ

لأَهْلِ الخَيرِ مِنْ غَيرِ انْتِقَالِ

وإنَّ النَّارَ حَقَ قَدْ أُعِدَّتْ

لأَهْلِ الكُفْرِ أصْحَابِ الوَبَالِ

وإنَّ شَفَاعَةَ المَعْصُومِ حَقُّ

لأَصْحَابِ الكَبَائِرِ عَنْ نَكَالِ

وَنُؤْمنُ بالحِسَابِ وَذَاكَ حَقُ

وَكُلُّ سَوْفَ يُجْزَى بانْتِحَالِ

وَكُلُّ سَوْفَ يُؤتَى يَوْمَ حَشْرٍ

كِتَابًا بِالْيَمِينِ أوِ الشِّمَالِ

ونُؤْمِنُ أنَّ أعْمالَ البَرايَا

سَتُوزَنُ غَيْرَ أصْحَابِ الضَّلالِ

فَلَيْستْ تُوزنُ الأَعْمَالُ مِنْهُم

كَأَهْلِ الخَيْرِ مِنْ أهْلِ الكَمَالِ

ص: 603

.. ولَكِنْ كَيْ لِتُحْصَى ثُمَّ يُلْقَى

إلى قَعْرِ النُّهى بِذَوِي النّكَالِ

ونُؤْمِنُ أَنَّنَا لا شَكَّ نَجْرِي

عَلَى مَتْنِ الصِّرَاطِ بكُلُّ حَالِ

فَنَاجٍ سَالٌم مِنْ كُلِّ شَرٍّ

وهَاوٍ هَالِكٌ لِلنَّارِ صَالِ

وأنَّ البَعْثَ بَعْدَ الموتِ حَقُّ

لِيَومِ الحَشْرِ مَوْعِدُ ذِي الجَلالِ

وَمِعْرَاجُ الرَّسُول إِلَيْهِ حَقُّ

بِذَاتِ المُصْطَفَى نَحْوَ العَوَالِ

وَفِي الْمِعْرَاجِ رَدٌّ مُسْتَبِينٌ

عَلَى الْجَهْمِيَّةِ المُغَلِ الغَوَالِي

وَمَنْ يَنْحُو طَرِيْقَتَُهْم بِبَغْيِ

وَعُدْوَانٍ وَقَوْلٍ ذِي وَبَالِ

بِتَأْوِيلٍ وَتَحْرِيفٍ وَهَذَا

هُوْ التَعْطِيلُ عِنْدَ ذَوِي الكَمَالِ

وَأَنَّ الْحَوْضَ لِلْمَعْصُومِ حَقُّ

لأَهْلِ الْخَيْرِ لا أَهْلِ الضَّلالِ

وَنُؤْمِنُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ

سَيَأْتِي الْفَاتِنَانِ بِكُلَّ حَالِ

إِلَى الْمَقْبُورِ ثِمَّةَ يَسْألانِهِ

فَنَاجٍ بِالثَّبَاتِ بِلا اخْتِلالِ

سِوَى مَنْ كَانَ يَوْمًا ذَا مَعَاصٍ

سَيَلْقَى غِبَّهَا بَعْدَ السُّؤَالِ

إِذَا مَا لَمْ تُكَفَّرْ تِلْكَ عَنْهُ

بِأَشْيَاء مُمَحَّصَةٍ بِحَالِ

وَآخَرُ بالشَّقَاوَةِ سَوِفَ يَلْقَى

عَذَابَ القَبْرِ مِنْ سُوءٍ الفِعَالِ

ونُؤمِنُ بالَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ

خِيارُ النَّاسِ مِنْ صَحْبِ وآلِ

كَذَاكَ التَّابُعونَ وتَابِعُوهُمْ

عَلَى دِينِ الْهُدَى والانْتِحَالِ

وإِنَّ الفَضْلَ لِلْخُلَفَاءِ حَقُّ

وتَقْدِيمَ الْخِلافَةِ بالتَّوَالِي

أَبُو بَكْرٍ فَفَارُوقُ البَرايَا

فَذُو النُّورَينِ ثُمَّ عَليُّ عَالِ

عَلى مَنْ بَعْدَه وهُمُوا فَهُمْ هُمْ

نُجُومُ الأَرْضِ كَالدُّرَرِ الغَوالِي

وكَالأَعْلامِ لِلْحَيْرَانِ بَلْ هُمْ

هُدَاتٌ كَالرَّعَانِ مِنْ الجِبالِ

وكُلِّ كَرَامَةِ ثَبَتَتْ بِحَقٍّ

فَحَقُّ لِلْولِّي بلا اخْتلالِ

نَوالٌ مِن كَرَيِمٍ حَيْثُ كَانُوا

بِطَاعَةِ رَبِّهم أَهْلَ انْفِعَالِ

ص: 604

.. ولَيْسَ لَهُمْ نَوالٌ أوْ حِبَاءٌ

لِمَنْ يَدعُوهُموا مِن كُلِّ عَالِ

وإن الخَرْقَ لِلْعَادَاتِ فاعْلَمْ

عَلَى نَوعَيْنِ واضِحَةِ المِثَالِ

فَنَوعٌ مِن شَيَاطِينٍ غُوِاةٍ

لِمَنْ وَالاهُمُو مِنْ ذِي الخَيَالِ

ونَوعٌ وهُوَ مَا قَدْ كَانَ يَجْرِي

لأَهْلِ الخَيرِ مِن أهْلِ الكَمَالِ

مِن الرَّحمنِ تَكْرِمَةً وفَضْلاً

لِشَخْصٍ ذِي تُقَى سَامِي المَعَالي

وَلَكِنْ لَيْسَ يُوجِبْ أَنْ سَيُدْعَى

وَيُرْجَى أَوْ يُخَافُ بِكُلِّ حَالِ

فَمَا فِي العَقْلِ مَا يَقْضِي بِهَذَا

وَلا فِي الشَّرْعِ يَا أَهْلَ الوَبَالِ

وَفَارقُ ذَلِكَ الْمَعْصُوْمِ حَقًّا

وَتَوْحِيدٌ بِإِخْلاصِ الفِعَالِ

فَمَنْ يَسْلُكَ طَرِيْقَتَهُ بِصِدْقٍ

فَمِنْ أَهْلِ الوِلا لا ذِي الضَّلالِ

وَمَنْ يَسْلُكَ سِوَاهَا كَانَ حَتْمًا

بِلا شَكٍّ يُخَالِجُ ذَا انْسِلالِ

وَنُؤْمِنُ أَنَّ عِيْسَى سَوْفَ يِأَتِي

لِقَتْلِ الأَعْوَرِ البَاغِي الْمُحَالِ

وَيَقْتُلُ لِلْيَهُودِ وَكُلٌّ بَاغٍ

وَيَحْكُمَ بِالشَّرِيعَةِ لا يُبَالِي

وَرَبِّي خَالِقٌ مُحْيٍ مُمِيتٌ

هُوَ الْحَقُّ الْمَقدرُ ذُو التَّعَالِي

وَبِالأَسْبَابِ يَخْلُقُ لا كَقَوْلٍ

لِقَوْمٍ عِنْدَهَا قَوْلُ الضَّلالِ

وَفِي الْقُرْآنِ ذَلِكَ مُسْتَبِينٌ

فَأَنْبَأَنَا بِهِ وَالْحَقُّ جَالِ

لِرَيْبِ الشَّكِّ عَنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ

صَحَيْحٍ عَنْ أَمَاثِلَ ذِي مَقَالِ

عَلَى هَذَا ابْنُ حَنْبَلَ وَهْوَ قَوْلٌ

لأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ

وَمَنْ يَنْسِبُ إِلَيْهِ غَيْرَ هَذَا

فَقَدْ أَخْطَا خَطَاءً ذَا وَبَالِ

وَمِمَّا قَالَ فِيْمَا زَاغَ فِيهِ

وَأَعْنِي فِي القَصِيْدَةِ ذَا الأَمَالِي

وَمَا أَفْعَالُ خَيْرٍ فِي حِسَابٍ

مِنْ الإِيْمَانِ فَاحْفَظْ لِي مَقَالِي

يَزِيدُ بِطَاعَةِ الإِنْسَانِ يَوْمًا

وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي ذِي الوَبَالِ

وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحَقِّ مِمَنْ

هُمْ الأَعْلامُ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ

ص: 605

.. وَدَعْنِي مِنْ خِرَافَاتٍ وَهَمْطٍ

لأَرْبَابِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلالِ

وَإِنَّ السُّحْتَ رِزْقٌ لا حَلالٌ

وَلَكِنْ مَنْ أَتَى كَفْرًا بَوَاحًا

وَتَكْفِيرٌ بِذَنْبٍ لا نَرَاهُ

لأَهْلِ القِبْلَةِ الْمُثْلَى بِحَالِ

وَلَكِنْ مَنْ أَتَى كَفْرًا بَوَاحًا

وَأَشْرَكَ فِي العِبَادَةِ لا نُبَالِي

وَإِنَّ الْهِجْرَةَ الْمُثْلَى لِفَرْضٌ

عَلَى ذِي قُدْرَةٍ بِالانْتِقَالِ

وَلَمْ تُنْسَخْ بِحُكْمِ الفَتْحِ بَلْ ذَا

بِذَاكَ الوَقْتِ والإِسْلامُ عَالِ

فَإِنْ عَادَتْ وَصَارَتْ دَارَ كُفْرٍ

فَهَاجِرْ لا تَطفِّف بِاعْتِزَالِ

لأَنَ الْمُصْطَفَى قَدْ قَالَ مَا قَدْ

رَوَى الإِثْبَاتُ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ

بِذكْرٍ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ مُقِيمٍ

بِدَارِ الْكُفْرِ بَيْنَ ذَوِي الضَّلالِ

وَذَا مِنْ مُسْلِمٍ إِذْ جَاءَ ذَنْبٌ

كَبِيرٌ بِالإِقَامَةِ لا يُبَالِي

رَوَى ذَا التِّرْمِذِيُّ كَذَاكَ جَاءَتْ

بِهِ الآيَاتُ وَاضِحَةُ لِتَالِ

وَجُمْلَةُ كُلِّ مُعْتَقَدٍ صَحِيحٌ

رَوَاهُ النَّاسِ عَنْ صَحْبٍ وَآلِ

وَعَنْ سَلَفٍ رَوَى خَلَفٌ ثِقَاتٌ

لَنَا بِالنَّقْلِ عَنْهُمْ بِاحْتِفَالِ

فَإِنَّا بَاعْتِقَادٍ وَاحْتِفَالٍ

لَهُ بِالأَخْذِ فِي كُلِّ الْخَلالِ

فَإِنْ رُمْتَ النَّجَاةَ غَدًا وَتَرْجُو

نَعِيمًا لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ

نَعِيمًا لا يَبِيدُ وَلَيْسَ يَفْنَى

بِدَارِ الْخُلْدِ فِي غُرَفٍ عَوَالِ

وَحُوْرًا فِي الْجِنَانِ مُنَعَّمَاتٍ

مَلِيْحَاتِ التَّبَعُّلِ وَالدَّلالِ

فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا

فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا

وَلا تَذْهِبْ إِلَى الأَمْوَاتِ جَهْلا

لِنَفْعٍ أَوْ لِضَرٍّ أَوْ نَوَالِ

وَلا تَجْعَلُ وَسَائِطَ تَرْتَجِيهِمْ

فَإِنَّ اللهَ رَبِّكَ ذُو الكَمَالِ

عَلِمٌ قَادِرٌ بَرُّ كَرِيمٌ

بَصِيرٌ سَامِعٌ لِذَوِي السُّؤَالِ

وَلَيْسَ بِعَاجِزٍ فَيُعَانُ حَاشَا

وَلَيْسَ بِغَائِبٍ أَوْ ذِي اشْتِغَالِ

ص: 606

.. فَلا يَدْرِي بِأَحْوَالِ البَرَايَا

فَتَدْعُو مَنْ يُخَبِرَّ بِالسُؤَالِ

فَتَجْعَلُهُ الوَسَاطَةُ إِنَّ هَذَا

لَعَمْرِي مِنْ مَزَلاتِ الضَّلالِ

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ رَبِّي

مُرِيدَ النَّفْعِ أَوْ بَذْلَ النَّوَالِ

وَلا الإِحْسَانُ إِلا مِنْ شَفِيعٍ

يُحَرِّكُهُ فَيَعْطِفُ ذُو الْجَلالِ

لِحَاجَتِهِ وَرَغْبَتِهِ إِلَيْهِ

وَهَذَا لا يَكُونُ لِذِي الكَمَالِ

أَلَيْسَ اللهُ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ

وَمَالِكُهُ وَرَبُّكَ ذُو التَّعَالِي

وَمَنْ ذَا شَأْنُهُ وَلَهُ البَرَايَا

بِأَجْمَعِهَا الأَسَافِلُ وَالأَعَالِي

أَكَانَ يَكُونُ عَوْنًا أَوْ شَفِيعًا

يُخَبِّرُ بِالْغَوَامِضِ وَالفِعَالِ

وَيُكْرهُهُ عَلَى مَا لَيْسَ يَرْضَى

تَعَالَى ذُو الْمَعَارِجِ وَالْمَعَالِي

أَكَانَ يَكُونُ مَنْ يَخْشَانُ رَبِّي

وَيَرْجُوهُ لِتَبْلِيغِ الْمَقَالِ

وَيَشْفَعُ عَنْدَهُ كرهًا عَلَيْهِ

كَمَا عِنْدَ الْمِلُوكِ مِنْ الْمَوَالِي

لِحَاجَتِهِمْ وَرَغْبَتَهُمْ إِلِيْهِمْ

لِخَوْفٍ أَوْ رَجَاءٍ أَوْ نَوَالِ

تَعَالَى اللهُ خَالِقَنَا تَعَالَى

تَقَدَّسَ بَلْ تَعَاظَمَ ذُو الْجَلالِ

أَلَيْسَ اللهُ يَسْمَعُ مَنْ يُنَاجِي

كَمَنْ يَدَعُو بِصَوْتٍ بِالسُّؤَالِ

وَأَصْوَاتُ الْجَمِيْعِ كَصَوْتِ فَرْدٍ

وَأَصْوَاتُ الْجَمِيْعِ كَصَوْتِ فَرْدٍ

فَلا يَشْغَلْهُ سَمْعٌ عَنْ سَمَاعٍ

لِمَنْ يَدْعُو وَيَهْتِفُ بِابْتِهَالِ

وَلا يَتَبَّرمُ الرَّحْمَنِ رَبِّي

بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ الْمَوَالِي

وَلا يُغْلِطْه كِثْرَةُ سَائِلِيهُ

جَمِيعًا بِالتَّضَرُّعِ وَالسُّؤَالِ

بِكُلِّ تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ مِنْهُم

وَأَصْنَافَ اللُّغَاتِ بِلا اخْتِلالِ

فَيُعْطِي مَنْ يَشَاءِ مَا قَدْ يَشَاءُ

وَيَمْنَعُ مَا يَشَاءُ مِنْ النَّوَالِ

أَلَيْسَ اللهُ يُبْصِرُ كُلَّ شَيْءٍ

بِلا شَكٍّ وَيُبْصِرُ ذُو الْجَلالِ

ص: 607

.. دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَا تَعَالَى

وَأَعْطَى تِلْكَ فِي ظُلْمِ اللَّيَالِي

عَلَى صَخْرٍ أَصَمَّ ذَوِي سَوَادٍ

شَدِيدٍ حَالِكٍ مِثْلُ الكُحَالِ

وَمُجْرِي القُوْتَ فِي الأَعْضَاءِ مِنْها

وَأَعْضَاءِ البَعُوضِ بِكُلِّ حَالِ

وَمَدَّ جَنَاحَهِ فِي جُنْحِ لَيْلٍ

وَأَعْرَاقُ النِّيَاطِ بِلا اخْتِلالِ

وَيَعْلَمُ مَا أَسَرَّ العَبْدُ حَقًّا

وَأَخْفَى مِنْه فَاسْمَعْ لِلْمَقَالِ

فَمَنْ ذَا شَأْنُهُ أَيَصَحُّ شَرْعًا

وَعَقْلاً أَنْ يُشَارِكَهُ الْمَوَالِي

مَعَاذَ اللهِ مَا هَذَا بِحَقٍّ

وَلا فِي العَقْلِ عِنْدَ ذَوِي الكَمَالِ

أَفِي مَعْقُولِ ذِي حُجْرٍ عُدُولٍ

إِلَى مَيْتٍ رَمِيمٍ ذِي اغْتِفَالِ

عَدِيمِ السَّمْعِ لَيْسَ يَرَاهُ يَوْمًا

عَدِيمَ العِلْمِ لَيْسَ بِذِي نَوَالِ

وَيَتْرُكُ عَالِمًا حَيًّا قَدِيرًا

بَصِيرًا سَامِعًا فِي كُلِّ حَالِ

كَرِيمًا مُحْسِنًا بَرًّا جَوَادًا

رَحِيمًا ذُو الفَوَاضِلِ وَالنَّوَالِ

لَعَمْرِي إِنَّ مَنْ يَأْتِي بِهَذَا

لَذُو خَبَلٍ مِنْ الإِسْلام ِخَالِ

وعَقلٌ يَرْتَضِي هَذَا لَعَمْرِي

سَقِيمٌ زَائِغٌ وَاهِ المَقَالِ

وأَهلُوَه أضلُّ النَّاس طُرًّا

وأسفهُهُم وأولى بالنَّكَالِ

فلا يَغُرُوكَ إقرارٌ بِمَا قَدْ

أَقرَّ الْمُشْرِكُونَ ذَوُوا الضَّلالِ

بأَنَّ الله خَاِلقُ كُلِّ شيء

ومَالِكُه وذا بالاقْتِلالِ

ورَزَّاقٌ مُدَبِّرُ كُلِّ أَمْرٍ

وَحيٌ قَادِرٌ رَبُّ العَوَالِي

فَهََا قَدْ أَقَرَّ بِهِ قُرَيْشٌ

فَلَمْ يَنفَعْهُمُوا فاسْمَعْ مَقالِي

وهُمْ يَدْعُونَ غَيرَ اللهِ جَهْرًا

وَجَهْلاً بِالْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ

وَلِلأَشْجَارِ وَالأَحْجَارِ كَانَتْ

عِبَادَتُهُمْ بِذَبْحٍ مَعْ سُؤَالِ

وَلِلأَمْوَاتِ هَذَا كَانَ مِنْهُمْ

بِخَوْفٍ مَعْ رَجَاءٍ وَانْذْلالِ

وَنَذْرٍ وَاسْتِغَاثَةَ مُسْتَضَامٍ

فَبَاءُوا بِالْوَبَالِ وَبِالنِّكَالِ

ص: 608

.. وَإِنَّ الْحَقَّ إِنْ تَسْلُكْهُ تَنْجُو

مِنْ الإِشْرَاكِ ذِي الدَّاءِ الْعُضَالِ

طَرِيْقُ الْمُصْطَفَى الْمَعْصُومِ حَقًّا

بِتَوْحِيدِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الكَمَالِ

بِأَفْعَالٍ لَهُ وَحْدِهُ فِيْهَا

وَبِالأَفْعَالِ مِنْكَ بِلا اخْتِلالِ

بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةَ مِنْ رَجَاءٍ

وَخَوْفٍ وَالتَّوَكُّلُ وَالسُّؤَالِ

وَذَبْحٍ وَاسْتِغَاثَةِ مُسْتَغِيْثٍ

وَنَذْرٍ وَاسْتِعَانَةِ ذِي الْجَلالِ

وَلا تَخْضَعْ لِغَيْرِ اللهِ طُرًّا

وَلا تَخْشَاهُ فِي كُلِّ الْفِعَالِ

وَبِالرَّغْبَاءِ وَالرَّهْبَاءِ مِنْهُ

بِتَعْظِيْمٍ وَحُبٍّ وَانْذِلالِ

لِرَبِّكَ لا لِمَخْلُوقٍ وَمَيِّتٍ

ضَعَيْفٍ عَاجِزٍ فِي كُلِّ حَالِ

فَوَحِّدْهُ وَأَفْرِدْهُ بِهَذَا

وَدَعْنَا مِن مَزَلاتِ الضَّلالِ

وَأَوْضَاعٍ لأَفَّاك جَهُولٍ

حِكَايَاتٍ مُلَفَّقَةٍ لِغَالِي

وَكُلُّّ طَرِيقَةٍ خَرَجَتْ وَزَاغَتْ

عَنْ الْمَشْرُوعِ بِالْقَوْلِ الْمُحَالِ

فَإِنَّا مِنْ طَرَائِقِهِمْ بَرَاءٌ

إِلَى اللهِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ

فَتَبْرَأُ مِنْ ذَوِي الإِشْرَاكِ طُرًّا

وَمِنْ جَهْمِيَّةٍ مُغْلٍ غَوَالِ

وَمِنْ كُلِّ الرَّوَافِضِ حَيْثُ زَاغُوا

فَهُمْ أَهْلُ الْمَنَاكِرِ وَالضَّلالِ

وَمِنْ قَوْلَ النَّوَاصِبِ حَيْثُ ضَلَّتْ

حُلُوْمُهُمُوا بِقَوْلٍ ذِي وَبَالِ

وَمِنْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ قَدْ بَرِئْنَا

وَيَا بُعْدًا لأَهْلِ الاعْتِزَالِ

بِمَا قَالُوْهُ وَانْتَحَلُوهْ مِمَا

يُخَالِفُ دِيْنَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ

فَقَدْ جَاءُوا مِنْ الْكُفْرَانِ أَمْرًا

عَظَيْمًا وَاجْتِرَاءً بِالْمُحَالِ

وَنَبْرَأُ مِنْ أَشَاعِرَةٍ غُوَاةٍ

قَفَوْا جَهْمًا بِرَأْيٍ وَانْتِحَالِ

وَمِنْ جُبْرِيَّةٍ كَفَرَتْ وَضَلَتْ

وَنَبْرَأُ جَهْرَةً مِنْ كُلِّ غَالِ

كُنَا فِي قُدْرَةِ الرَّحْمَنِ رَبِّي

وَتَقْدِيرِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ

وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ كُلَاّبِ بَرِئْنَا

فَلَسْنَا مِنْهُمُوا أَبَدًا بِحَالِ

ص: 609

.. وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ وَمِمَنْ

نُمِي بِالاقْتِرَانِ ذَوِي الضَّلالِ

وَأَهْلُ الْوَحْدَةِ الْكُفَّارِ إِذْ هُمْ

أَضَلُّ النَّاسِ فِي كُلِّ الْخَلالِ

وَمِنْ أَهْلِ الْحُلُولِ ذَوِي الْمَخَازِي

فَقَدْ جَاءُوا بِقَوْلٍ ذِي وَبَالِ

وَمِمَّنْ قاَلَ شَرْعَ أَحْمَدَ ذِي الْمَعَالِي

وَأَصْحَابٍ كِرَامٍ ثُمَّ آلِ

وَنَبْرَأُ مِنْ طَرَائِقَ مُحْدَثَاتٍ

مَلاهٍ مِنْ مَلاعِبِ ذِي الضَّلالِ

بِأَلْحَانِ وَتَصْدِيَةٍ وَرَقْصٍ

وَمِزْمَارٍ وَدُفٍّ ذِي اغْتِيَالِ

وَأَذْكَارٍ مُلَفَقَّةٍ وَشِعْرٍ

بِأَصْوَاتٍ تَرُوقُ لِذِي الْخَبَالِ

فَحِينًا كَالْكِلابِ لَدَى انْتِحَالِ

وَحِينًا كَالْحَمِيرِ أَوْ الْبِغَالِ

وَتَلْقَى الشَّيْخَ فِيْهِمْ مِثْلَ قِرْدٍ

يُلاعِبُهُمْ وَيَرْقُصُ فِي الْمَجَالِ

بِأَيِّ شَرِيعَةٍ جَاءَتْ بِهَذَا

فَلَمْ نَسْمَعْهُ فِي الْعُصُرِ الْخَوَالِي

فَأَمَا عَنْ ذَوِي التَّقْوَى فَحَاشًا

فَهُمْ أَهْلُ التُّقَى وَالابْتِهَالِ

وَأَهْلُ الإِتْبَاعِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ

لَعَمْرِي ذُو ابْتِدَاعٍ فِي انْتِحَالِ

وَكَانَ سُلُوكُهُمْ حَقًّا عَلَى مَا

عَلَيْهِ الشَّرْعُ دَلَّ مِنَ الْكَمَالِ

بِأَذكَارٍ وَأَوْرَادٍ رَوَوْهَا

عَنْ الإِثْبَاتِ عَنْ صَحْبٍ وَآلِ

وَحَالٍ يَشْهَدُ الشَّرْعُ الْمزَكَّي

لَهُ باِلاقْتِضَا فِي كُلِّ حَالِ

وَمَعْ هَذَا إِذَا مَا جَاءَ حَالٌ

بِأَمْرٍ وَارِدٍ لِذَوِي الْكَمَالِ

مِنَ النُّكَتِ الَّتِي لِلْقَوْمِ تُرْوَى

وَتُعْرَضُ فِي الْفَنَا فِي ذَا الْمَجَالِ

أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهَا ذَاكَ إِلا

بِحُكْمِ الشَّاهِدَيْنِ بِلا اخْتِلالِ

كِتَابُ اللهِ أَوْ نَصُّ صَحِيحٌ

صَرِيحٌ وَاضِحٌ لِذَوِي الْمَعَالِي

وَقَدْ قَالُوا وَلا يَغْرُرْكَ شَخْصٌ

إِلَى الآفَاقِ طَارَ وَلا يُبَالِي

وَيَمْشِي فَوْقَ ظَهْرِ الْمَاءِ رَهْوًا

وَيَأْتِي بِالْخَوَارِقِ بِالْفِعَالِ

وَلَمْ يَكُ سَالِكًا فِي نَهْجِ مَنْ قَدْ

أَتَى بِالشَّرْعِ فِي كُلِّ الْخِصَالِ

ص: 610

.. فَذَلِكَ مِنْ شَيَاطيِنِ غُوَاةٍ

لِمَنْ وَالاهُمُوا مِنْ كُلِّ غَالِ

فَدَعْ عَنْكَ ابْتِدَاعًا وَاخْتِرَاعًا

وَسُرْ فِي إِثْرِ أَصْحَابِ الْكَمَالِ

وَلَمْ نَسْتَوْعِبْ الْمَفْرُوضَ لَكِنْ

ذَكَرْنَا جُمْلَةً فِي ذَا الْمَجَالِ

فَأَحْبِبْ فِي الإِلَهِ وَعَادِ فِيهِ

وَأَبْغِضْ جَاهِدًا فِيهِ وَوَالِ

وَأَهْلَ الْعِلْمِ جَالِسْهُمْ وَسَائِلْ

وَلا تَرْكَنْ إِلَى أَهْلِ الضَّلالِ

وَلا يَذْهَبْ زَمَانُكَ فِي اغْتِفَالِ

بِلا بَحْثٍ وَفِي قِيلٍ وَقَالِ

وَمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَنْهَ عَنِ الْمَنَاهِي

فَذَا مِنْ شَأْنِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ

دَعَانِي وَاقْتَضَى نَظْمِي لِهَذَا

قَرِيضٌ قَدْ رَأَيْتُ لِذِي الأَمَالِي

وَحَقُّ إِجَابَةٍ لِسُؤَالِ خِلٍّ

وَقَدْ سَاعَفْتُهُ بِالامْتِثَالِ

فَعَارَضْتُ الَّذِي لا نَرْتَضِيهِ

وَأَبْقَيْتُ الَّذِي لِلشَّكِّ جَالِ

وَزِدْنَا فِيهِ أَبْحَاثًا حِسَانًا

عَلَيْهِ النَّاسِ فِي الْعَصْرِ الْخَوَالِي

فَيَا ذَا الْعَرْشِ ثَبِّتْنِي وَكُنْ لِي

نَصِيرًا حَافِظًا وَلِمَنْ دَعَالِي

وَحَقِّقْ فِيكَ آمَالِي وَجُدْ لِي

بِعِلْمٍ نَافِعٍ يَا ذَا الْجَلالِ

وَصِلْ حَبْلِي بِحَبْلِكَ وَاعْفُ عَنِّي

جَمِيعَ السُّوءِ مِنْ كُلِّ الْفِعَالِ

وَصَلِّ اللهُ مَا قَدْ صَابَ وَدْقٌ

وَلاحَ الْبَرْقُ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي

عَلَى الْمَعْصُومِ أَحْمَدَ ذِي الْمَعَالِي

وَأتباعِ وَأَصْحَابٍ وَآلِ

تم هذا الجزء الثالث بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين وان يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من فِي صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من فِي هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا عَلَى كل خير ويعصمنا وإياهم من كل شر

ص: 611