المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فوائد ومواعظ وحكم ونصائح وآداب - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٣

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌فوائد ومواعظ وحكم ونصائح وآداب

أَيْنَ الأُولَى شَادُوا مَبَانِيهِمْ

تَهَدَّمُوا قَبْلَ انْهِدَامِ الْبِنَا

لا مُعْدِمٌ يَحْمِيهِ إِعْدَامُهُ

وَلا يَقِي نَفْسَ الْغَنِيَّ الْغِنَى

كَيْفَ دِفَاعُ الْمَرْءِ أَحْدَاثَهَا

فَرْدًا وَأَقْرَانُ اللَّيَالِي ثُنَى

حَطَّ رِجَالٌ وَرَكِبْنَا الذُّرَى

وَعُقْبَةُ السَّيْرِ لِمَنْ بَعْدَنَا

وَالْحَازِمُ الرَّأْيَ الَّذِي يَغْتَدِي

مُسْتَقْلِعًا يُنْذِرُ مُسْتَوْطِنَا

لا يَأْمَنُ الْمَوْتَ عَلَى غِرَّةٍ

وَعَزَّ لَيْثُ الْغَابِ أَنْ يُؤْمِنَا

كَمْ غَارِسٍ أَمَّلَ فِي غَرْسِهِ

فَأَعْجَلَ الْمِقْدَارُ أَنْ يَجْتَنَى

اللهم اسلك بنا سبل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، ومنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌فَوائِدُ وَموَاعِظُ وَحِكِمٌ ونَصَائحُ وآدابٌ

بَيْنَ السَّابقِ واللَاّحِقِ

ثلاثة يثبتن الود في قلب أخيك المسلم أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه.

صحبة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار.

البر شيء هين وجه طلق ولسان لين.

الصديق الكامل مفقود لذا قد يجد الإنسان في مجموع الأصدقاء الكمال المنشود قال صلى الله عليه وسلم إن الله يحب السهل الطلق» .

لا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يترك بينك وبين حبيب صلحا. سوء الظن برهان على سوء أفعال صاحبه.

إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ

وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ

ص: 172

وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عُدَاتِهِ

وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ

قال أحدهم: صحبت المروزي في سفر فقال لي: لا بد في السفر من أمير أتحب أن تكون الأمير أو أنا فقلت بل أنت فأخذ مخلاة عباها وحملها على عاتقه.

فقلت: أنا أحملها قال لا أنا الأمير وعليك الطاعة وسرنا حتى المساء ولما أردنا النوم غطاني بكسائه وسهر يدفع عني المطر وكانت ليلة ماطرة.

فلما أصبحت قلت في نفسي ليتني للم أقل له أنت الأمير لأني كلما طلبت منه أن أحمل رفض وقال أنا الأمير وهكذا أما هو فقال لي إذا صحبت أحدًا في سفر فكن هكذا.

من أمثلة الإخلاص لله عز وجل في الأعمال أن جيشًا مسلمًا حاصر مدينة ذات سور منيع يستدعي شهورًا طويلة.

وفي أحدى الليالي جاء إلى القائد أحد الجنود يقول له لقد نقبت في السور نقبًا يمكننا أن ندخل منه لداخل المدينة ونفتح باب السور فأرسل معي من يدخل النقب فإذا فتحنا الباب أدخل الجيش.

فأرسل معه رجالاً دخلوا مع النقب وفتحوا الباب فدخله القائد واستولوا على المدينة ليلاً.

وفي اليوم الثاني نادى المنادي صاحب النقب ليعطى جائزته على عمله وطلبه القائد فلم يأته أحد.

وفي الثاني والثالث نادى المنادى يطلب حضور صاحب النقب فلم يأته أحد.

وفي اليوم الرابع أتى الجندي صاحب النقب إلى القائد فقال له أنا أدلك على صاحب النقب.

ص: 173

فقال أين هو قال بثلاثة شروط.

الشرط الأول أن لا تكافئه على عمله.

والشرط الثاني أن لا تدل أحدًا عليه.

والثالث أن لا تطلبه ثانية.

فقال وافقنا على ذلك فقال الجندي: أنا صاحب النقب نقبته ابتغاء رضوان الله.

ثم ذهب فتعجب القائد وكان إذا صلى ربما دعا الله أن يجعله مع صاحب النقب.

شِعْرًا:

يَا رَبِّ مَا لِي غَيْرَ لُطْفِكَ مَلْجًا

وَلَعَلَّنِي عَنْ بَابِهِ لا أُطْرَدُ

يَا رَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً أَقْضِي بِهَا

دِينًا عَليَّ بِهِ جَلالُكَ يَشْهَدُ

أَنْتَ الْخَبِيرُ بِحَالِ عَبْدِكَ إِنَّهُ

بِسَلاسِلِ الْوِزْرِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ

أَسَفًا عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ

تَحْتَ الذُّنُوبِ وَأَنْتَ فَوْقِي تَرْصُدُ

يَا رَبِّ قَدْ ثَقَلُتْ عَليَّ كَبَائِرٌ

بَإِزَاءِ عِينِي لَمْ تَزَلْ تَتَرَدَّدُ

يَا رَبِّ إِنْ أَبْعَدتُ عَنْكَ فَإِنَّ لِي

طَمعًا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لا تُبْعِدُ

أَنْتَ الْمُجِيبُ لِكُلِّ دَاعٍ يَلْتَجِي

أَنْتَ الْمُجِيرُ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَنْجِدُ

مِنْ أَيِّ بَحْرٍ غَيْرَ بَحْرِكَ نَسْتَقِي

وَلأَيِّ بَابٍ غَيْرَ بَابِكَ نَقْصُدُ

جمع أحد العلماء بعض علامات حسن الخلق فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، وقورًا صدوق اللسان، قليل الكلام إلا في ذكر الله وما ولاه.

كثير العمل للآخرة أو ما هو وسيلة إليها، قليل الفضول، برًا، وصولاً صبورًا، رضيًا شكورًا، حليمًا، رفيقًا، لينًا، عفيفًا شفيقًا.

ص: 174

لا لعان ولا سباب، ولا نمام، ولا مغتاب، ولا جاسوس، ولا عجول، ولا حقود، ولا حسود، ولا بخيل ولا غضوب.

هشاشًا بشاشًا، لطيفًا، ورؤوفًا، وعطوفًا على المؤمنين يحب في الله ويبغض في الله.

حكي عن بعض الزهاد في صفة المؤمن والمنافق وفيه تنبيه على حسن الخلق وسوء الخلق.

فقال المؤمن مشغول بالذكر والعمل، والمنافق مشغول بالحرص والأمل.

والمؤمن آيس من كل احدٍ إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحدٍ إلا من الله.

والمؤمن يقدم ماله دون دينه والمنافق يقدم دينه دون ماله، والمؤمن يحسن عمله ويبكي والمنافق يسيء ويضحك.

والمؤمن يحب الوحدة إذا لم ترجح مصلحة الخلطة عليها والمنافق يحب الخلطة والملاء.

والمؤمن يزرع ويخشى الفساد والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، والمؤمن يامر بالمعروف وينهى عن المنكر فيصلح والمنافق يأمر وينهى للرئاسة فيفسد.

وأحسن ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى احتمال الجفاء.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الاحتمال لكل أذى والصبر لله وقد شرح الله له صدره. وأساء بمن قبله من الأنبياء بقوله جل وعلا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وقال جل وعلا {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}

شِعْرًا:

فِعَالِي قَبِيحٌ وَظَنِّي حَسَنٌ

وَرَبِّي غَفُورٌ كَثِيرُ الْمِنَنْ

تُبَارِزْ مَوْلاكَ يَا مَنْ عَصَى

وَتَخْشَى مِنَ الْجَارِ لِمَا فَطِنْ

رَكِبْتُ الْمَعَاصِي وَشَيْبِي مَعِي

فَوَاللهِ يَا نَفْسُ مَاذَا حَسَنْ

ص: 175

فَقُومِي الدِّيَاجِي لَهُ وَارْغَبِي

وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الْمِنَنْ

وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الرَّجَا

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْفُ عَنِّي فَمَنْ

اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

(فَصْلٌ)

? جاء ثلاثة إلى الحسين بن علي واشتكى الأول قلة المطر والغيث فقال له: أكثر من الاستغفار.

واشتكى الثاني العقم فقال له: أكثر الاستغفار.

واشتكى الثالث جدب الأرض وقلة النبات فقال له: أكثر الاستغفار.

فقال له أحد جلسائه يا ابن رسول الله كل الثلاثة مختلف الشكاية وأنت وحدت الجواب بينهم.

فقال رضي الله عنه: أما قرأتم قول الله جل وعلا {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .

خطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة ثم قطعها وبكى ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة وإن قليل عفوك أعظم منها.

اللهم فاصفح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك الحسن البصري فبكى. وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام.

قيل لخالد بن يزيد وكان رجل زاهد وصلاح فيما يظهر ما أقرب الأشياء قال: الأجل، قيل فما أبعد الأشياء؟ قال: الأمل. قيل: فما أوحش الأشياء؟ قال: الميت.

قال أحد العلماء: ازهد الناس في الدنيا وإن كان عليها حريصًا من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب مع حفظ الأمانات.

ص: 176

وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضًا من لم يبال من أين ما كسبه منها حلالاً كان أو حرامًا.

وإن أجود الناس بالدنيا من جاد بحقوق الله عز وجل وحقوق خلقه وإن رآه الناس بخيلاً فيما سوى ذلك.

وإن ابخل الناس من بخل بحقوق الله عز وجل وما عليه من حقوق الخلق وإن رآه الناس كريمًا جوادًا فيما سوى ذلك.

وقال بعضهم إن امرئ أذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة.

وقال آخر إذا سألت رجلاً كريمًا حاجًة فأمهله يفكر فإنه في الغالب لا يفكر إلا بخير.

وإذا سألت لئيمًا حاجة فلا تمهله لأنه إلى الردى أقرب وطبعه إلى المنع أحرى.

من كثرت نعم الله عنده كثرت حوائج الناس إليه.

فإن قام بشكر الله وأدى ما يجب لله فيها عليه عرضها للبقاء وإن لم يقم بذلك عرضها للزوال وعرض نفسه للذم.

قال بعضهم موصيًا ابنه يا بني إذا مر بك يوم وليلة قد سلم فيهما دينك وجسمك ومالك فأكثر من الشكر لله تعالى.

فكم من مسلوب دينه ومنزوع ملكه ومهتوك ستره ومقصوم ظهره في ذلك اليوم وأنت في عافية.

قيل لبعضهم أي الكنوز أعظم قدرًا قال العلم الذي خف محمله فثقلت مفارقته وكثرت مفارقته وخفي مكانه وأمن عليه من السرقة.

فهو في الملاء جمال وفي الوحدة أنيس ويرأس به الخسيس ولا يقدر حاسدك نقله عنك.

قيل فالمال قال ليس كذلك محمله ثقيل والهم به طويل إن كنت في ملاء شغلك الفكر فيه وإن كنت في خلوة أتعبتك حراسته.

ص: 177

قيل لبعضهم من أضعف الناس قال من ضعف عن كتمان سره، قيل فمن أقواهم، قال من قوي على غضبه، قيل فمن أصبرهم قال من ستر فاقته، قيل فمن أغناهم قال من قنع بما يسره الله له.

وقال آخر من توفيق الله للقاضي أن يكون فيه خمس خصال الحلم والنزاهة عن الطمع، وجودة العقل، والاقتداء بالعلماء المتبعين للكتاب والسنة، ومشاورة أهل الرأي من ذوى العقول الراجحة.

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ)

قال بعض العلماء: اعلم أن بني آدم طائفتان طائفة نظروا إلى شاهد خيال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير.

وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها سالم إيمانهم.

وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم ويبقى عليهم وباله ونكاله.

وهذه الفكرة واجبة على كافة الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيرًا ما أزعجوا قلوب الخلق وأدخلوا في قلوبهم الرعب.

فان لله ملكا يعرف بملك الموت لا مهرب لأحد من مطالبته.

وكل موكلي ملوك الدنيا يأخذون جعلهم ذهبًا وفضًة وطعامًا.

وملك الموت لا يأخذ سوى الروح.

وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا إذا جاء لقبض الروح لا تنفع عنده الشفاعة.

وكثير من الموكلين يمهلون من يوكلون به اليوم والساعة.

ص: 178

وهذا الموكل لا يهمل ولا نفسًا واحدًا قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .

ويروي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيمًا وأحتشد من كل نوع خلقه الله تعالى من الدنيا ليرفه نفسه ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعمًا طائلة وبني قصرًا عاليًا مرتفعًا ساميًا يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء وركب عليه بابين محكمين.

وأقام عليه الغلمان والحراسة والأجناد والبوابين كما أراد وأمر بعض الأنام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده.

وجلس على سرير مملكته واتكأ على وسادته وقال: يا نفس قد جمعت أنعم الدنيا بأسرها فالآن افرغي لذلك وكلي هذه النعم مهنأةً بالعمر الطويل، والحظ الجزيل.

فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب خلقة ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق حلقة الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزلزل القصر وتزعزع السرير.

وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا يا ضيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر إلى أن نأكل ونعطيك مما يفضل.

فقال لهم قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم وأمر ملم فقالوا له: تنح أيها الضيف من أنت حتى نأمر صاحبنا بالخروج إليك.

فقال: أنتم عرفوه ما ذكرت لكم فلما عرفوه قال: هلا نهرتموه وجردتم عليه وزجرتموه.

ثم طرق حلقة الباب أعظم من طرقته الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصى والسلاح وقصدوه ليحاربوه فصاح بهم صيحة.

ص: 179

وقال: الزموا أماكنكم فأنا ملك الموت فطاشت حلومهم وارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم.

فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلاً مني وعوضًا عني فقال: ما آخذ إلا روحك ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حوتها وخزنتها.

فتنفس الصعداء وقال لعن الله هذا المال الذي غرني وأبعدني ومنعني من عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي.

فأنطق الله تعالى المال حتى قال لأي سبب تلعني العن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدق بي على الفقراء وتزكي بي على الضعفاء.

ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون عونا لك في اليوم الآخر فجمعتني وخزنتني وفي هواك أنفقتني ولم تشكر الله في حقي بل كفرتني فالآن تركتني لأعدائك وأنت بحسرتك وبلائك.

فأي ذنب لي فتسبني وتلعنني ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام فسقط عن سريره صريع الحمام.

وقال يزيد الرقاشي: كان في بني إسرائيل جبار من الجبابرة وكان في بعض الأيام جالسًا على سرير مملكته فرأى رجلاً قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة فاشتد خوفه من هجومه وهيئته وقدومه فوثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل ومن أذن لك في الدخول إلى داري.

فقال أذن لي صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن ولا أرهب سياسة السلطان ولا يفزعني جبارٌ ولا لأحدٍ من قبضتي فرار فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده.

ص: 180

وقال: أنت ملك الموت قال: نعم قال أقسم عليك بالله إلا أمهلتني يومًا واحدًا لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأورد الأموال التي أودعتها خزائني إلى أربابها ولا تحمل مشقة عذابها.

فقال: كيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة وأوقاتها مكتوبة فقال أمهلني ساعة، فقال إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وأنقصت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحدٌ.

فقال من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي فقال لا يكون عندك سوى عملك فقال ما لي عمل؟ فقال لا جرم يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار.

وقبض روحه فخر عن سريره وعلا الضجيج من أهل مملكته وارتفع ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكائهم عليه أكثر وعويلهم أوفر.

مَا لِنَفْسِي عَنْ مَعَادِي غَفَلَتْ

أَتَرَاهَا نَسِيتَ مَا فَعَلَتْ

أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي لَهْوِ الْهَوَى

كُلُّ نَفْسٍ سَتَرَى مَا عَمِلَتْ

أُفٍّ لِلدُّنْيَا فَكَمْ تَخْدَعْنَا

كَمْ عَزِيزٍ فِي هَوَاهَا خَذَلَتْ

رُبَّ رِيحٍ بِأُنَاسٍ عَصَفَتْ

ثُمَّ مَا إِنْ لَبَثَتْ أَنْ سَكَنَتْ

أَيْنَ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَفْلَتِهِ

فِي سُرُورٍ وَمُرَادَاتِ خَلَّتْ

أَصْبَحَتْ آمَالُه قَدْ خَسِرَتْ

وَدِيَارُ لَهْوِهِ قَدْ خَرِبَتْ

فَغَدَتْ أَمْوَالُهُ قَدْ فُرِّقَتْ

وَكَانَ دَارَهُ مَا سَكَنَتْ

جُزْ عَلَى الدَّارِ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ

ثُمَّ قُلْ يَا دَارُ مَاذَا فَعَلَتْ

أَوْجهٌ كَانَتْ بُدُورًا طُلِّعَا

وَشُمُوسًا طَالَمَا قَدْ أَشْرَقَتْ

قَالَتْ الدَّارُ تَفَانُوا فَمَضُوا

وَكَذا كُلُّ مُقِيمٍ إِنْ ثَبَتْ

عَايَنُوا أَفْعَالَهُمْ فِي تُرْبِهِمْ

فَاسْأَلِ الأَجْدَاثَ عَمَّا اسْتُودِعَتْ

اللهم أحي قلوبنا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك

ص: 181

وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

قال بعض العلماء ليس في العالم منذ كان إلى يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرحه عن نفسه.

فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم.

بحثث عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له فلم أجد إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة.

وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم.

وإنما طلب الصيت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها.

وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل.

وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه.

وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب واكتنز من اكتنز وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من تودع.

ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم.

وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لابد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها.

ص: 182

وقال رحمه الله وجدت العمل للآخرة سالمًا من كل عيب خالصًا من كل كدرٍ موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة.

ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر.

إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون على ما يطلب وزائد في الغرض الذي إياه يقصد.

ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم إذ ليس مؤآخذًا بذلك فهو غير مؤثر يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر.

وإن نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصلٍ أبدًا وغيره بخلاف ذلك أبدًا.

وقال رحمه الله تعالى: ولو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسليط الجهال.

ومن الهم بمغيب الحقائق عنه ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره.

لزاد حمدًا وشكرًا وذكرًا لله عز وجل وغبطة بما لديه من العلم ورغبة في المزيد منه.

أجل العلوم ما قربك إلى خالقك جل وعلا وما أعانك على الوصول إلى رضاه.

العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد الضعيفة.

وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفيه من كل آفة وتهلك ذا العقل الضعيف.

ص: 183

العاقل في الدنيا متعب ومن جهة أخرى مستريح.

ووجه ذلك أنه متعبٌ ومتكدرٌ فيما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته وبما يخال بينه من إظهار الحق.

وأما وجه راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا.

إذا حققت أمر لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل بين زمانين فقط.

وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن.

فمن أضل ممن يبيت باقيًا خالدًا بمدة هي لأقل من كر الطرف.

من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كغارس الأثل والسدر في الأرض التي يجود ويزكوا فيها النخيل والتين والموز والعنب.

نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والسكر والتمر من به مرض السكر ومن به احتراق وحمى.

وكتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع الصفراء، أو به شقيقة وهو وجع نصف الرأس.

من أراد الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأعمال والأخلاق والآداب كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتدي بمحمد صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره.

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ)

وقال رحمه الله منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويستمع الثناء الحسن فيرغب في مثله والثناء الردى فينفر منه.

شِعْرًا:

لا تَيْأَسَنَّ أَخَا الإِخْلاصِ فِي الْعَمَلِ

عَلَى خُمُولِكَ أَنْ تَرْقَى عَلَى الْفَلَكَ

بَيْنَا تَرَى الذَّهَبَ الإِبْرِيزِ مُطَّرَّحًا

فِي الأَرْضِ إِذْ صَارَ إِكْلِيلاً عَلَى الْمَلِكِ

ص: 184

آخر:

لا تَحْسَبَنْ حَسَبَ الآبَاءِ مكرمَةً

لِمَنْ يُقْصِّرُ عَنْ أَعْلا الْمَقَامَاتِ

حُسْنُ الرِّجَالِ بِتَقْوَاهم وَطَاعَتِهِمْ

للهِ لا بِجَمَالِ الْوَجْهِ وَالذَّاتِ

آخر:

لا تَحْقِرِ الْمَرْءَ إِنْ رَأَيْتَ بِهِ

دَمَامَةً أَوْ رَثَاثَةَ الْحُلَلِ

فَالنَّحْلُ لا شَيْءَ مِنْ ضُؤولَتِهِ

يَشْتَارُ مِنْهُ الْفَتَى جَنَى الْعَسَلِ

آخر:

دَعِ التَّكَاسُلَ فِي الْخَيْرَاتِ تَطْلُبُهَا

فَلَيْسَ يَسْعَدُ فِي الْخَيْرَاتِ كَسْلانِ

آخر:

الْعِلْمُ زَيْنٌ وَتَقْوَى اللهَ حَلْيتُهُ

فَمَنْ خَلا مِنْهُمَا فَاعْدُدْهُ فِي البَقَرِ

آخر:

وَمَا أَدْرَاكَ الْمَطْلُوبَ فِي كُلِّ وَجْهَةٍ

مِنَ النَّاسِ إِلا مَنْ أَجَدَّ وَشَمَّرَا

فعلى هذه المقدمات وجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة.

وقال وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى مالا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليلٌ جدًا.

ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة.

وفساد العلانية والسيرة شرار الخلق وهذا كثير جدًا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى.

وقال من جالس الناس لم يعدم إثمًا وهما يؤلم نفسه وغيظًا ينضج كبده وذلا ينكس همته.

فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم واندمج معهم.

وإنما يندم ويحزن ويتحسر على ذلك في معاده.

فالعز والسرور والأنس والراحة والسلامة في الانفراد عنهم.

ولكن اجعلهم كالنار تدفأ بها ولا تخالطها.

وقال آخر من مضار مجالسة الناس ومخالطتهم الانهماك في الغيبة.

ثانيًا: ضياع الوقت في الآثام.

ص: 185

ثالثاً: فوات الأعمال النافعة في الآخرة أو الأعمال الدنيوية التي يعود نفعها في الآخرة ولا سبيل إلى السلامة من ذلك إلا بالانفراد عن مجالستهم جملة.

من جنب الناس يسلم من غوائلهم

وعاش وهو قرير العين جذلان

وقال: لا تحقرن شيئًا من عمل غدٍ بأن تخففه وتعجله اليوم وإن قل فان من قليل الأعمال يجتمع كثيرها.

لا تحقرن من الأمور صغارها

فالقصر منه تدفق الخلجان

وربما أن الأعمال إذا لم تخفف يعجز أمرها فيبطل الكل.

ولا تحقر شيئًا مما تثقل به ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن وإن قل.

فإنه يحط عنك كثيرًا لو اجتمع لقذف بك في النار.

اجتهد في أن تستعين في أمورك بمن يريد منها لنفسه مثل ما تريد منها لنفسك.

أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك لأنه نبه على نقصك.

وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك ولقد انتصر لك من نفسك بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.

ولو علم الناقص نقصه لكان كاملاً إذا عدله.

من عيب حب الذكر أنه ربما يحبط الأعمال إذا أحب أن يذكر بها لأنه يعمل لغير الله عز وجل.

وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حبًا للخير لكن ليذكر به.

من أفضل نعم الله على العبد أن يجيب إليه العدل يوفقه للعمل به ويجيب إليه الحق وإيثاره والعمل به.

ومن قلة توفيق العبد وخذلانه أن يطبع على الجور واستسهاله وعلى الظلم واستخفافه.

ومن كان كذلك فلييئس من أن يصلح نفسه أو يقوم طباعه أبد إلا أن يشأ الله.

ص: 186