المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مصيبات الدنيا وشرورها - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ٣

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ مصيبات الدنيا وشرورها

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

فَصْلٌ: اعلم أيها الأخ أن جميع‌

‌ مصيبات الدنيا وشرورها

وأحزانها كأحلام نوم أو كظل زائل.

إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أو أيامًا ساءت أشهرًا أو أعوامًا وإن متعت قليلاً منعت طويلاً.

وما حصل للعبد فيها من سرور إلا أعقبه أحزان وشرور كما قيل: (من سره زمن ساءته أزمان) .

وقال بعض العلماء لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط به فيها وأعطي حاجته منها.

لأنه يتوقع أفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من قواعده.

أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه.

فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة لما أعطت، والراجعة لما وهبت.

بينما هي تضحك صاحبها إذا هي تضحك منه غيره.

وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه.

وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد.

تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غدًا.

سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفًا وترضى بكل بدلاً.

شِعْرًا:

بِأَمْرِ دُنْيَاكَ لا تَغْفَلْ وَكُنْ حَذِرًا

فَقَدْ أَبَانَتْ لأَرْبَابِ النُّهَى عِبرا

فَأَيُّ عَيْشٍ بِهَا مَا شَابَهَ غَيْرٌ

وَأَيُّ صَفْوٍ تَنَاهَى لَمْ يَصِرْ كَدَرا

كَمْ سَالَمٍ أَسْلَمْتَهُ لِلرَّدَى فَقَضَى

حَتْفًا وَلَمْ يَقْضِ مِنْ لَذَّتِهَا وَطَرا

ص: 255

وَمُتْرَف قَلَبْت ظَهْرا الْمَجَنِّ لَهُ

فَعَادَ بَعْدَ عُلُو الْقَدْرِ مًحْتَقَرا

فَأَبَعْدَنْهَا وَلا تَحْفَلْ بِزُخْرُفْهَا

وَغُضْ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرا

فَكُلُّ شَيْءٍ تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ حَسَنٍ

كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبْقِي لَهُ أَثَرَا

وَاصْحَبْ وَصِلّ وَوَاصِلْ كُلَّ أَونَةٍ

عَلَى النَّبِيِّ سَلامًا طَيِّبًا عَطِرا

وَصَحْبِهِ وَمَنِ اسْتَهْدِي بِهَدْيِهُمُوا

فَهُمْ أَئِمْة مِنْ صَلَى وَمَنْ ذَكَرا

ثم علم أيها الأخ أن من بورك له في عمره أدرك في يسير الزمن من منن الله ما لا يدخل تحت دوائر العبارة.

فبركة العمر أن يرزق الله العبد من الفطنة واليقظة ما يحمله على الجد والاجتهاد على اغتنام أوقات عمره وانتهاز فرصة إمكانه.

فيبادر إلى الأعمال القلبية والأعمال البدنية ويستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية وكل ذلك في عمره قصير وزمن يسير.

والخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إلى الله جل وعلا.

ومن الخذلان أيضًا أن تصدق العوائق والشواغل عن التوجه إلى الله تعالى.

والواجب عليك أن تبادر إلى التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة وأن ترمي بالعوائق والشواغل خلف ظهرك.

شِعْرًا:

مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ مُعَدِّلا

وَأَصْبَحْتَ فِي يَوْمٍ عَلَيْكَ جَدِيدُ

فَإِنْ كُنْتَ بِالأَمْسِ اقْتَرَفْتَ جِنَايَةً

فَثَنِّي بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ

وَلا تَرْجُ فَعْلَ الصَّالِحَاتِ إِلَى غَدٍ

لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ

وقد قيل سيروا إلى الله عرجًا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة والعاقل من بادر إلى الأعمال الصالحة قال الشاعر حاثًا على اغتنام الوقت:

ص: 256

وَخُذْ مِنْ قَرِيبٍ وَاسْتَجِبْ وَاجْتَنِبْ غَدًا

وَشَمِّرْ عَنْ السَّاقِ اجْتِهَادًا بِنَهْضَةِ

وَكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فَالْمَقْتُ فِي عَسَى

وَإِيَّاكَ مَهْلاً فَهِيَ أَخْطَرُ عِلَّةِ

وَسِرْ زَمَنًا وَانْهَضْ كَسِيرًا فَحَظُّكَ الْ

بَطَالَةُ مَا أَخَّرْتَ عَزْمًا لِصِحَّةِ

وَجُذَّ بِسَيْفِ الْعَزْمِ سَوْفَ فَإِنْ تَجُدْ

تَجِدْ نَفْسًا فَالنَّفْسُ إِنْ جُدْتَ جَدَّتِ

ثم أعلم أيها الأخ الحريص على حفظ وقته عن الضياع أنه إن قلت أشغالك وقلت عوائقك ثم قعدت عن الجد والاجتهاد فيما يقربك إلى الله من أنواع الطاعات أن هذا هو الخذلان أعاذنا الله منه.

ففراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة لمن وفقه الله اغتنامها فصرفها في الباقيات الصالحات والويل لمن كفر هذه النعمة بان فتح على نفسه باب الهوى وانجر في قياد الشهوات.

قال صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرون إلا فقرا منسيَا أو غني مضغيَا أو مرضًا مفسدا أو هرمًا مفندَا أو موتًا مجهزَا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» .

وقال بعضهم: الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له فالقلب الخالي من الفكرة خالي من النور مظلم بوجود الجهل والغرور.

ففكر الزاهدين في فناء الدنيا واضمحلالها وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكر زهدًا فيها.

وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطًا عليه ورغبة فيه.

وفكر العارفين في الآلاء والنعماء فيزدادون نشاطًا في جميع أنواع العبادة ويذدادون محبة لله وشكرًا له وحمدًا على نعمه التي لا تعد ولا تحصى قال جل وعلا وتقدس: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا}

شِعْرًا:

مَا لِي أَرَاكَ عَلَى الذُّنُوبِ مُوَاظِبَا

أَأَخَذْتَ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ أَمَانَا

لا تَغْفَلَنَّ كَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَى

وَلَعَلَّ عُمْرُكَ قَدْ دَنَا أَوْ حَانَا

وَمَضَى الْحَبِيبُ لِحَفْرِ قَبْرِكَ مُسْرِعًا

وَأَتَى الصَّدِيقُ فَأَنْذَرَ الْجِيرَانَا

ص: 257

وَأَتوا بِغَسَّال وَجَاءُوا نَحْوَهُ

وَبَدَا بِغَسْلِكَ مَيِّتًا عُرْيَانَا

فَغُسلْتَ ثُمَّ كُسِتْتَ ثَوْبًا لِلْبَلَى

وَدَعُوا لِحَمْلِ سَرِيرَكِ الإِخْوَانَا

وَأَتَاكَ أَهْلَكَ لِلْوَدَاعِ فَوَدّعُوا

وَجَتْ عَلَيْهِمَ دُمُوعَهُمْ غُدْرَانَا

فَخَفِ الإِلَهَ فَإِنَّهُ مَنْ خَافَهُ

سَكَنَ الْجِنَانُ مُجَاوِرًا رِضْوَانَا

جَنَّاتِ عَدْنٍ لا يَبِيدُ نَعِيمُهَا

أَبَدًا يُخَالَطُ رُوحَهُ رَيْحَانَا

وَلِمَنْ عَصَى نَارًا يُقَالُ لَهَا لَظَى

تَشْوِي الْوُجُوهَ وَتُحْرِقُ الأَبْدَانَا

نَبْكِي وَحَقّ لَنَا الْبُكَى يَا قَوْمَنَا

كَيْ لا يُؤَاخِذُنَا بِمَا قَدْ كَانَا

(فَصْلٌ)

ثم اعلم أنه ليس ذكر الموت النافع هو أن يقول الموت فقط فإن هذا قليل الفائدة بل لا بد مع ذلك من تفكر بقلب فارغ عن الشهوات واستحضار لحاله عند الموت وأهواله وشدائده وسكراته ويتفكر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن أعاننا الله على ذلك وجميع المسلمين.

حتى قالوا: إنه أشد من الضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من المفرق إلى القدم ليستل الروح منها.

فلا تسأل عن كربه وألمه ولذلك لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الكرب حيث قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة الاستغاثة أما العقل فقد غشيه وشوشه.

وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه والأطراف فقد ضعفها ووهنها وخدرها فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خوارًا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه واربد وجهه حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله.

وقد جذب منه كل عرق على حدته فالألم منتشر في داخله وخارجه حتى

ص: 258

ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه. وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان وتخضر أنامله فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه.

ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجًا فتبرد أولاً قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم فعند ذلك ينقطع عن الدنيا وأهلها وتعظم حسرة المفرط ويندم حيث لا ينفعه الندم.

هَوُ الْمَوْتُ لا مَنْجَى مِنَ الْمَوْتِ وَالَّذِي

نُحَاذِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَدْهَى وَأَفْظَعُ

آخر:

دَعْ عَنْكَ مَا قَدْ كَانَ فِي زَمَنِ الصِّبَا

وَاذْكُرْ ذُنُوبَكَ وَابْكِهَا يَا مُذْنِبٌ

وَاذْكُرْ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ

لا بُدَّ يُحْصِي مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ

لَمْ يَنْسَهُ الْمَلَكَانِ حِيْنَ نَسِيتَهُ

بَلْ أَثْبَتْاهَ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ

وَالرُّوحُ فِيكَ وَدِيعَةٌ أَوْدَعْتَهَا

سَتُرْدِهَا بِالْغُرْمِ مِنْكَ وَتُسْلَبُ

وَغَرُورُ دُنْيَاكَ الَّتِي تَسْعَى لَهَا

دَارٌ حَقِيقَتُهَا مَتَاعٌ يَذْهَبُ

وَالليْلُ فَاعْلَمْ وَالنَّهَارُ كِلاهُمَا

أَنْفَاسُنَا فِيهَا تُعَدُّ وَتُحْسَبُ

وَجَمِيعُ مَا خَلَّفْتُهُ وَجَمَعْتُهُ

حَقَّا يَقِينًا بَعْدَ مَوْتِكَ يُنْهَبُ

تَبًا لِدَارٍ لا يَدُومُ نَعِيمُهَا

وَمُشَيِّدُهَا عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُبُ

وَعَوَاقِبُ الأَيَّام فِي غُصَاتِهَا

مَضَضٌ يذلُّ لَهَا الأَعَزُّ الأَنْجَبُ

فَعَلَيْكَ تَقْوَى اللهِ فَالْزَمْهَا تَفُزْ

إِنَّ التَّقِيَّ هُوَ الْبَهِيُّ الأَهْيَبُ

وَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا

إِنَّ الْمُطِيعَ لَهُ لَدَيْهُ مُقَرَّبُ

وَاقْنَعْ فِفِي بَعْضِ الْقَنَاعَةِ رَاحَةٌ

وَالْيَأْسُ مِمَّا فَاتَ فَهُوَ الْمَطْلَبُ

وَاخْتَرْ قَرِينَكَ وَاصْطَفيه تَفَاخُرًا

إِنَّ الْقَرِينَ إِلَى الْمُقَارِنُ يُنْسَبُ

َدَعْ الْكَذُوبَ فَلا يَكُنْ لَكَ صَاحِبًا

إِنَّ الْكَذُوبَ لَبِئْسَ خَلا يَصْحَبُ

وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ

فَالْمَرْءُ يَسْلَمُ بِاللِّسَانُ وَيُعْطَبُ

وَزِنِ الْكَلامَ إِذَا نَطَقْتَ وَلا تَكُنْ

ثِرْثَارَةً فِي كُلِّ نَادٍ تَخْطُبُ

ص: 259

وَارْعَ الأَمَانَةَ وَالْخِيَانَةَ فَاجْتَنِبْ

وَاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَطِيبُ الْمَكْسَبُ

وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةِ اللَّئِيم فَإِنَّهُ

يُعْدِي كَمَا يُعْدِي الصَّحِيحَ الأَجْرَبُ

وَاحْذَرْ مِنْ الْمَظْلُومِ سَهْمًا صَائِبًا

وَاعْلَمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُ لا يُحْجَبُ

فَاحْفَظْ هُدِيتَ نَصِيحَةً أَوْلاكَهَا

بَرٌّ نَصُوحٌ لِلأَنَامِ مُجَرَّبٌ

صَحِبَ الزَّمَان وَأَهْلهُ مُسْتَبْصِرًا

وَرَأَى الأُمُورَ وَمَا تَؤُوبُ وَتَعْقَبُ

اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ومما يعين على الاستعداد للموت ذكر مرارته كما فهمته مما سبق ومما يأتي وقد سماه صلى الله عليه وسلم هاذم اللذات وتفكر في الموتى الذين حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة ولا على زيادة حسنة.

ولو قلت لهم: تمنوا وأنطقهم الله لقالوا: نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعة الله لا يريدون ذهبًا ولا فضةً ولا بستانًا ولا فلةً ولا عمارة. ولتعجب منا ومن حالنا وتفريطنا وانهماكنا في الدنيا.

ومما يعين على الاستعداد للموت أيضًا ذكر الموت من فتنة القبر وعذابه أو نعيمه والبعث والحشر والحساب والصراط والميزان والحوض والشفاعة والجنة والنار وما أعد الله لأهلهما أجمالاً وتفصيلاً.

مر رجل على رجل جالسًا في المقابر فقال ما أجلسك هنا فقال:

يَشْتَاقُ كُلُّ غَرِيبٍ عَنْدَ غُرْبَتِهِ

وَيَذْكُرُ الأَهْلَ وَالْجِيرَانَ وَالسَّكَنَا

وَلَيْسَ لِي وَطَنٌ أَمْسَيْتُ أَذْكُرُهُ

إِلا الْمَقَابِرَ إِذْ كَانَتْ لَهُمْ وَطَنًا

شِعْرًا:

مَا زِلْتُ أَفْجَعُ بِالأَحِبَّةِ كُلُّهُمْ

وَفَنَاءُ نَفْسِي فِي الْحَقِيقَةِ أَفْجَعُ

فَوَدِّعْ خَلِيلَ النَّفْسِ قَبْلَ فُرَاقِهِ

فَمَا النَّاسُ إِلا ظَاعِن وَمُوَدَّعُ

ص: 260

آخر:

أَبْقَيْتُ مَالَكَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ

فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أُبْقِي لَكَ الْمَال

الْقَومُ بَعْدَكَ فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ

فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ حَالَتْ بِكَ الْحَالُ

مَالُوا لِبُكَاءٍ فَمَا يَبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ

وَاسْتَحْكَمْ الْقِيلَ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَال

آخر:

اشَتْاقُ أَهْلِي وَأَوْطَانِي وَقَدْ مَلَكْتُ

دُونِي وَأَفْنَى الرَّدَى أَهْلِي وَأَحْبَابِي

فَاسْتَرِيحُ إِلَى رُؤْيَا الْقُبورِ فَفِي

أَمْثَالِهَا حَلَّ إِخْوَانِي وَأَتْرَابِي

وَلَسْتُ أَحْيَا حَيَاةً أَسْتَلَذُّ بِهَا

مِنْ بَعْدِهِمْ وَلِحَاقُ الْقَوْمِ أَوْلَى بِي

آخر:

خَلَتْ دُورُهُمْ مَنْهُمْ وَأَقْوت عراصهم

وَسَاقَهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِر

وَخَلُوا عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا

وَضَمَّهُمْ تَحْتَ التُّرَاب الْحَفَائِر

آخر:

وَفِي ذَكْرِ هَوْلِ الْمَوْت وَالْقَبْرِ وَالْبَلَى

عَنِ اللَّهْوِ وَاللَّذَاتِ لِلْمَرِءِ زَاجِرُ

أَبَعْدَ اقْتِرَابُ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصُ

وَشَيْبُ قَذَالٍ مُنْذِرٌ لِلأَكَابِرُ

كَأَنَّكَ مَعْنِيٌّ بِمَا هُوَ ضَائِرُ

لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ حَائِرُ

آخر:

إِنَّ اللَّيَالِي مِنْ أَخْلاقِهَا الْكَدَرُ

وَإِنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا مَنْظَرُ نَظَر

فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مَمَّا تَغُر بِهِ

إِنْ كَانَ يَنْفَعُ مِنْ غَرَّاتِهَا الْحَذَرُ

قَدْ أَسْمَعْتُكَ اللَّيَالِي مِنْ حَوَادِثِهَا

مَا فِيهِ رُشْدُكَ لَكِنْ لَسْتَ تَعْتَبِرُ

يَا مَنْ يَغُرُّ بِدُنْيَاهُ وَزُخْرُفِهَا

تالله يُوشِكُ أَنْ يُودِي بِكَ الْغَرَرُ

وَيَا مُدلا بِحُسْنِ رَاق مَنْظَرُهُ

لِلْقَبْرِ وَيْحَكَ هَذَا الدَّالُ وَالْفَخَرُ

تَهْوَى الْحَيَاةَ وَلا تَرْضَى تُفَارِقُهَا

كَمَنْ يُحَاوِلُ وردًا مَا لَهُ صَدَرُ

كُلُّ امْرِئٍ صَائِرٌ حَتْمًا إِلَى جَدَثٍ

وَإِنْ أَطَالَ مَدَى آمَاله الْعُمُرُ

آخر:

قُلْ لِلَّذِي فَقَدَ الأَحِبَّةَ وَانْثَنَى

يَسْقِي دِيَارَهُمْ دُمُوعًا تَسْجُمُ

مَاذَا وُقُوفُكَ فِي الدِّيَارِ مُسَائِلاً

عَنْ أَهْلِهَا وَمَتَى يُجِيبُ الأَبْكَمُ

ص: 261

سَلْ عَنْهُمْ صَرْفَ الزَّمَان فَإِنَّهُ

بِهِمْ مِنَ الدَّارِ الْمُحِيلَة أَعْلَمُ

أَفْنَاهُمْ رَيْبَ الزَّمَان وَهَذِهِ

آثَارَهُمْ عِظَةٌ لَمَنْ يَتَوَسَّمُ

وَإِذَا رَأَيْتَ مُحَسَّدَيْنَ فَقَلَّمَا

تَرْجِيهُمْ الأَحْدَاثُ حَتَّى يَرْحَمُوا

وَتَرَى تَقَلُّبُ هَذِهِ الدًّنْيَا بِنَا

وَكَأَنَّنَا فِيهَا سُكَارَى نَوَّمُ

آخر:

وَلَمَّا مَرَرْنَا بِالدِّيَارِ الَّتِي خَلَتْ

فَهُنَّ لِفُقْدَانِ الأَنِيسِ نَوَاحِلُ

فَإِشْرَاقُهَا بَعْد الَّذِينَ تَحَمَّلُوا

ظَلامَ وَضَحْوَاتُ النَّهَارِ أَصَائِلُ

أَثَارَ الْجَوَى عِرْفَانَهَا وَتَبَادَرَتْ

عَلَى أَهْلِهَا مِنَّا الدُّمُوع الْهَوَامِلُ

أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة في المصنف وأحمد بن حنبل وهناد بن السري في الزهد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وصححه والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» . مرتين أو ثلاثًا.

ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر.

ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض.

ص: 262

فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.

قال: فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله؟ فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد البصر.

قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى لأرجع إلى أهلي ومالي.

قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح.

ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان

ص: 263

ابن فلان بأقبح أسمائه التي مكان يسمي بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} .

فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحًا ثم قرأ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري.

فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة» .

شِعْرًا:

لا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبِلَى

لَكِنَّمَا الْمَوْتُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللهْ

كِلاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنَّ ذَا

أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ لِجَحْدِهِ اللهْ

آخر:

وَإِنِّي وَأَهْلِي وَالَّذِي قَدَّمَتْ يَدِي

كَدَاعٍ إِلَيْهِ صَحْبَهُ ثُمَّ قَائِلِ

لأَصْحَابِهِ إِذْ هُمْ ثَلاثَةُ إِخْوَةٍ

أَعِينُوا عَلَى أَمْرٍ بِيَ الْيَوْمَ نَازِلِ

فِرَاقٌ طَوِيلٌ غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ

فَمَاذَا لَدَيْكُمْ بِالَّذِي هُوَ غَائِلِ

فَقَالَ امْرِئٌ مِنْهُمْ أَنَا الصَّاحِبُ الَّذِي

أَطَعْتُكَ فِيمَا شِئْتَ قَبْلَ التَّزَايُلِ

فَأَمَّا إِذَا جَدَّ الْفِرَاقُ فَإِنَّنِي

لِمَا بَيْنَنَا مِنْ خُلَّةٍ غَيْرُ وَاصِلِ

أَمُدُّكَ أَحْيَانًا فَلا تَسْتَطِيعُنِي

كَذَلِكَ أَحْيَانَا صُرُوفُ التَّدَاوُلِ

فَخُذْ مَا أَرَدْتَ الآنَ مِنِّي فَإِنَّنِي

سَيُسْلِكُ بِي مِنْ مَهِيلٍ مِنْ مَهَايِلِ

وَإِنْ تُبْقِنِي لا تَبْقَ فَافْهَمْ مَقَالَتِي

وَعَجِّلْ صَلاحًا قَبْلَ حَتْفِ مُعَاجِلِ

ص: 264

وَقَالَ امْرِؤٌ قَدْ كُنْتُ جِدًّا أُحِبُّهُ

فَأُوثِرُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالتَّفَاضُلِ

غِنَائِيَ أَنِّي جَاهِدٌ لَكَ نَاصِحٌ

إِذَا جَدَّ جِدُّ الْكَرْبِ غَيْرَ مُقَاتِلِ

وَلَكِنَّنِي بَاكٍ عَلَيْكَ وَمَعُولٌ

وَمُثْنٍ بِخَيْرٍ عِنْدَ مَنْ هُوَ سَائِلِ

وَمُتَّبَعُ الْمَاشِينَ أَمْشِي مُشَيِّعًا

أَعِينُ بِرِفْقٍ عُقْبَةً كُلَّ حَامِلِ

إِلَى بَيْتِ مَثْوَاكَ الَّذِي أَنْتَ مُدْخَلٌ

وَحِينَئِذٍ أَرْجِعْ بِمَا هُوَ شَاغِلِ

كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ خُلَّةٌ

وَلا حُسْنُ وُدٍّ مَرَّةً فِي التَّبَادُلِ

وَذَلِكَ أَهْلُ الْمَرْءِ ذَاكَ غِنَاؤُهُمْ

وَلَيْسُوا وَإِنْ كَانُوا حِرَاصًا بِطَائِلِ

وَقَالَ امْرِؤٌ مِنْهُمْ أَنَا الأَخُّ لا تَرَى

أَخًا لَكَ مِثْلِي عِنْدَ جَهْدِ الزَّلازِلِ

لَدَى الْقَبْرِ تَلْقَانِي هُنَالِكَ قَاعِدًا

أُجَادِلُ عَنْكَ فِي رِجَاعِ التَّجَادُلِ

وَأَقْعُدُ يَوْمَ الْوَزْنِ فِي الْكَفَّةِ الَّتِي

تَكُونُ عَلَيْهَا جَاهِدًا فِي التَّثَاقُلِ

فَلا تَنْسَنِي وَاعْلَمْ مَكَانِي فَإِنَّنِي

عَلَيْكَ شَفِيقٌ نَاصِحٌ غَيْرَ خَاذِلِ

وَذَلِكَ مَا قَدَّمْتَ مِنْ صَالِحٍ غَدًا

تُلاقِيهِ إِنْ أَحْسَنْتَ يَوْمَ التَّفَاضُلِ

اللهم اجعلنا بتذكيرك منتفعين ولكتابك ورسولك متبعين وعلى طاعتك مجتمعين وتوفنا ربنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

في صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهو قائل ما كان يقول.

ص: 265

فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقولان له: كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له فيه.

ويقال له: نم فيقول: أرجع إلى أهلي ومالي فأخبرهم. فيقولان له: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.

وإن كان منافقًا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فكنت أقوله. فيقولان له: كنا نعلم أنك تقول ذلك. ثم يقال للأرض التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا احتضر المؤمن أتته الملائكة بحريرة بيضاء، فيقولون: أخرجي أيتها الروح الطيبة راضية مرضيًا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان.

فتخرج كأطيب من ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا حتى يأتون به السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض.

فيأتون به أرواح المؤمنين، فهم أشد فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه ماذا فعل فلان قال: فيقولون دعوة يستريح فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال: أما أتاكم قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: أخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب الله عز وجل فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون بها باب الأرض فيقولون: فما أنتن هذه الريح حتى يأتون بها أرواح الكفار.

وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال: إن المؤمن إذا حضره الموت حظرته

ص: 266

ملائكة الرحمة، فإذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء، فينطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحًا أطيب من هذه. فيقال: ما فعل فلان ما فعلت فلانة، فيقال: دعوه يستريح فإنه كان في غم الدنيا.

وأما الكافر إذا قبضت نفسه، ذهب بها إلى الأرض، فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحًا أنتن من هذه. فيبلغ به إلى الأرض السفلى.

وروى النسائي في سننه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء وشهد له سبعون ألفًا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه» . قال النسائي: يعني سعد بن معاذ.

وقال هناد بن السري: حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي مليكة، قال: ما أجير أحد من ضغطة القبر، ولا سعد ابن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها.

قال: وحدثنا عبده بن عبيد الله بن عمر عن نافع قال: لقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك، لم ينزلوا إلى الأرض قط، ولقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لقد ضم صاحبكم في القبر ضمة» . وقيل فيه رضي الله عنه شِعْرًا:

وَمَا اهْتَزَّ عَرْشُ اللهِ مِنْ أَجْلِ هَالِك

سَمِعْنَا بِهِ إِلا لِسَعْد أَبِي عَمْرِو

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن ابنته جلس عند القبر فتربد وجهه.

ثم سري عنه فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفًا ثم سري فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها ويم الله لقد ضمت ضمة سمعها من بين الخافقين» .

وروي عن إبراهيم الغني عن رجل قال: كنت عند عائشة رضي الله

ص: 267

عنها فمرت جنازة صبي فبكت فقلت لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.

شِعْرًا:

وَتَقْبِضُ كَفَّ الطِّفْل عِنْدَ وِلادَةٍ

دَلِيلٌ عَلَى الْحِرْصِ الْمُرَكَّب فِي الْحَيِّ

وَبَسْطُ يَدَا الإِنْسَانُ عِنْدَ مَمَاتِهِ

دَلِيلٌ عَلَى أَنِّي خَرَجْتُ بِلا شَيْءِ

يَا بَاكِيَ الأَمْوَات إِنَّكَ مَيِّتٌ

فَاجْعَلْ بُكَاءَكَ إِنْ بَكِيتَ عَلَيْكَا

لا تَبْكِ غَيْرَكَ وَابْكِ نَفْسَكَ إِنَّهَا

أَوْلَى النُّفُوسِ بِذَاكَ مِنْ عَيْنَيْكَا

آخر:

تَمُرُّ لَدَاتِي وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ

وَأَعْلَمُ أَنِّي بَعْدُهُمْ غَيْرَ خَالِدِ

وَأَحْمِلُ مَوْتَاهُمْ وَأَشْهَدُ دَفْنَهُمْ

كَأَنِّي بَعِيدٌ مِنْهُمْ غَيْرَ شَاهِدِ

فَهَا أَنَا فِي عِلْمِي بِهِمْ وَجَهَالَتِي

كَمُسْتَيْقِظُ يَرْنُو بِقلة رَاقِدِ!

آخر:

طَوَى الْمَوْتُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ

وَلَيْسَ لَمَا تَطْوِي الْمَنِيَّةِ نَاشِرُ

لَئِنْ أَوْحَشْتَ مِمَّنْ أُحِبُّ مَنَازِلُ

لَقَدْ أنست ممن أحب الْمَقَابِرُ

وَكُنْتُ أَحْذَرُ الْمَوْتَ وَحْدَهُ

فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ عَلَيْهُ أُحَاذِرُ

آخر:

أَيَا آمَن الأَقْدَارُ صَرْفَهَا

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الطَّالِبِينَ حَثاث

خُذْ مِنْ تُرَاثِكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا

شُرَكَاؤُكَ الأَيْام وَالْوَارِثُ

مَالِي إِلَى الدُّنْيَا الْغَرُورَة حَاجَة

فَلْيخز سَاحِرُ كَيْدِهَا النَّفَاثُ

طَلَّقْتُهَا أَلْفًا لأَحْسِمَ دَاءَهَا

وَطَلاق مِنْ عَزَمَ الطَّلاقَ ثَلاثُ

سَكَنَاتُهَا مَحْذُورَة وَعُهُودَهَا

مَنْقُوضَة وَحِبَالُهَا أَنْكَاثُ

إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ رِجَالٍ امْسَكُوا

بِحَبَائِل الدُّنْيَا وَهُنَّ رِثَاثُ

كَنَزُوا الْكُنُوزَ وَأَغْفَلُوا شَهَوَاتَهُمْ

فَالأَرْضُ تَشْبَعُ وَالْبُطُونُ غِرَاثُ

أَتَرَاهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ التُّقَى

أَزْوَادُنَا وَدِيَارُنَا الأَجْدَاثُ؟

اللهم سلمنا شرور أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا وأعذنا من عدوك

ص: 268

واعصمنا من الهوى ومن فتنة الدنيا ومكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وفرح قلوبنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(موعظة)

عباد الله اغتنموا الطاعات فأيام المواسم معدودة وانتهزوا فرض الأوقات فساعات الإسعاد محدودة وجدوا في طلب الخيرات فمناهل الرضوان مورودة وقوموا على قدم السداد واتقوا الله الذي إليه تحشرون.

وكونوا من الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم ينفقون قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ * َمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

فيا سعادة أولى الطاعات الذين اجتباهم مولاهم لدار السلام واصطفاهم لحظيرة قدسه وأوردهم مناهل الإنعام وأولاهم حلاوة الأنس ووالاهم بمواهب الإكرام وسقاهم من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

ويا مسرة من شاهد معالم الرشد فسلك مسالكه وكان من المستبشرين الذين يوم القيامة وجوهم مسفرة ضاحكة لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.

فتدبروا عباد الله الأمر وانظروا بعين الناقد البصير وتذكروا العرض يوم الفزع الأكبر بين يدي رب العالمين العليم الخبير واعلموا أن الظالمين ما لهم

ص: 269

من ولي ولا نصير (يوم يقال) : {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

أَلا يَا نَفْسُ هَلْ لَكَ فِي صِيَامٍ

عَنِ الدُّنْيَا لَعَلَّكَ تَهْتَدِينَا

يَكُونُ الْفِطْرِ وَقْتُ الْمَوْتِ مِنْهَا

لَعَلَّكِ عِنْدَهُ تَسْتَبْشِرِينَا

أَجِبِينِي هُدِيتَ وَأَسْعِفِينِي

لَعَلَّكِ فِي الْجَنَانِ تُخَلَّدِينَا

شِعْرًا:

لا تَبْكِ لِلدُّنْيَا وَلا أَهْلِهَا

وَابْكِ لِيَوْمٍ تَسْكُنِ الْحَافِرَةْ

وَابْكِ إِذَا صِيحَ بِأَهْلِ الثَّرَى

فَاجْتَمِعُوا فِي سَاعَةِ السَّاهِرَةْ

وَيْلَكِ يَا دُنْيَا لَقَدْ قَصَّرَتْ

آمَالُ مَنْ يَسْكُنُكِ الآخِرَةْ

آخر:

وَاذْكُرْ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ

لا بُدَّ يُحْصَى مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ

لَمْ يَنْسَهُ الْمَلَكَانِ حِينَ نَسِيتَهُ

بَلْ أَثْبَتَاهُ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدرنا ويسر أمورنا وألهمنا ذكرك وشكرك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

إذا فهمت ذلك فاعلم أنه ينبغي لمن آيس من حياته بل يستحب له بتأكد أن يكثر من قراءة القرآن والأذكار ويكره له الجزع وسوء الخلق والشتم والمخاصمة والمنازعة في غير الأمور الدينية في الدفاع عنها ويستحب أن يكون شاكرًا لله تعالى بقلبه ولسانه ويستحضر في ذهنه أن هذا آخر أو فاته من الدنيا فيجتهد على ختمها بخير ويكثر من قول لا إله إلا الله.

ص: 270

ويبادر إلى أداء الحقوق إلى أهلها من رد المظالم والعواري والودائع والغصوب ويستحل أهله وزوجته ووالديه وأولاده وغلمانه وجيرانه وأصدقائه وزملاءه وكل من كانت بينه وبينه معاملة أو مصاحبة في سفر أو غيره أو له تعلق بشيء.

وأخرج البيهقي وابن عساكر عن عبادة بن محمد بن عبادة ابن الصامت قال: لما حضرت عبادة رضي الله عنه الوفاة قال: أخرجوا إلي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي فجمعوا له فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا وأول ليلة من الآخرة.

وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء وهو والذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة وأحرج إلى أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني من قبل أن تخرج نفسي فقالوا: بل كنت والدًا وكنت مؤدبًا. قال: وما قال لخادم سواء قط فقال: أعفوتم ما كان من ذلك. قالوا: نعم. قال: اللهم أشهد

الخ.

وورد أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال: انظروا فلانًا فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق فأشهدكم أني قد زوجته.

وينبغي أن يوصي بأمور أولاده إن لم يكن جد يصلح للولاية ويوصي بما لا يتمكن من فعله في الحال من قضاء الديون ونحو ذلك وأن يكون حسن الظن بالله تعالى راجيًا عفوه ومغفرته ورحمته وإحسانه.

ويستحضر في ذهنه أنه حقير في مخلوقات الله تعالى وأن الله تعالى غني عن عذابه وعن طاعته وأنه عبده ولا يطلب العفو والإحسان والصفح والامتنان إلا منه جل وعلا وتقدس ويحث أولاده على الدعاء له والصدقة عنه.

شِعْرًا:

وَإِذَا رَأَيْتَ بِنِيكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ

قَطَعُوا إِلَيْكَ مَسَافَة الآجَال

وَصَلَ الْبَنُونَ إِلَى مَحَلِّ أَبِيهِمْ

وَتَجَهَّزَ الآبَاءُ لِلترْحَال

ص: 271

آخر:

لِي خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةْ

فَإِذَا قُدْوَتُهَا كَانَتْ سَنَةْ

إِنَّ عُمْرَ الْمَرْءِ مَا قَدْ عَمَّرَهْ

فِي التُّقَى وَالزُّهْدِ طُولَ الأَزْمِنَةْ

ويستحب أن يكون مُتَعَاهِدًا نفسه بقراءة آيات من القرآن العزيز في الرجاء وكذلك أحاديث الرجاء يقرؤها أو يجعل من يقرؤها عليه وأن يكون خيره متزايدًا ويحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.

ويجتنب النجاسات ويحرص على التطهر ويصبر على مشقة ذلك وكذا باقي وظائف الدين يحرص على أدائها كاملة مكملة وليحذر من التساهل في ذلك فإنه أقبح القبائح أن يكون آخر عهده من الدنيا التي هي مزرعة الآخرة التفريط فيما وجب عليه أو ندب إليه.

وليجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال ويستحب أن يوصي أهله وأصحابه بالصبر عليه في مرضه واحتمال عما يصدر منه ويوصيهم أيضًا بالصبر على مصيبتهم به ويوصيهم بالرفق بمن يخفه من طفل وغلام وجارية ويوصيهم بالإحسان إلى أصدقائه ويعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهله ود أبيه» .

وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرم صواحبات خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها.

ويوصيهم بتعاهده بالدعاء وفعل ما يقرب إلى الله وينوي الثواب له وذلك كالحج والصدقة والأضحية وطبع المصاحف والكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية والإعانة على بناء المساجد.

وكالعين الجارية ونحو ذلك ويوصيهم بأن لا ينسوه بل تعاهدوه بالدعاء له ولوالديه.

شِعْرًا:

يَا مَنْ سَيَنْأَى عَنْ بَنِيهْ

كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ

مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلهُمْ

جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِهُوهْ

وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ

قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ

ص: 272

آخر:

إِنِّي لأَشْكُو خَطْوبًا لا أُعِيِّنُهَا

لِيَبْرَأُ النَّاسُ مِنْ عُذْرِي وَمِنْ عَذْلِي

كَالشَّمْعِ يَبْكِي فَمَا يَدْرِيِ أَعِبْرَتُهُ

مِنْ صُحْبَةِ النَّارِ أَمْ مِنْ فُرْقَةِ الْعَسَلِ

ويستحب أن يقول لهم في وقت بعد وقت: متى رأيتم مني تقصيرًا في شيء انهوني عنه برفق ولطف لأن النفس تضعف في ذلك الوقت وأدوا إِلَيَّ النصيحة في ذلك فإني معرض للغفلة والسهو والكسل والإهمال فإذا قصرت فنشطوني وعاونوني على التأهب لهذا السفر البعيد والتغرب المخيف.

شِعْرًا:

وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلَّرِحِيلِ وَقَدْ دَنَا

وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكٍ مُسَافِرُ

فَيَا لَهْفَ نَفْسِي كَمْ أُسَوِّفُ تَوْبَتِي

وَعُمْرِي فَانٍ وَالرَّدَى لِي نَاظِرُ

وَكُلُّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحُفِ مُثْبَتٌ

يُجَازِي عَلَيْهِ عَادِلُ الْحُكْمِ قَادِرُ

آخر:

لَهْفِي عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ

فِي كُلِّ مَا أَرْضَى وَيُسْخِطُ مَالِكِي

وَيْلِي إِذَا عَنَتِ الْوُجُوهُ لِرَبِّهَا

وَدُعِيتُ مَغْلُولاً بِوَجْهٍ حَالِكَ

وَرَقِيبُ أَعْمَالِي يُنَادِي قَائِلاً

يَا عَبْدَ سُوءٍ أَنْتَ أَوَلَ هَالِكَ

لَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدِ الْغِوَايَةَ مَنْزِلٌ

إِلا الْجَحِيم وَسُوء صُحْبَةِ مَالِكِ

آخر:

تُخَرِّبُ مَعْمُورًا وَتُعَمِّرُ فَانِيًا

فَلا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلا ذَاكَ عَامِرُ

وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً

وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لِدَى اللهِ عَاذِرُ

أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةَ وَتَنْقَضِي

وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ

آخر:

كَمْ ضَاحِك وَالْمَنَايَا فَوْقَ هَامَتِهِ

لَوْ كَانَ يَعْلَمُ غَيْبًا مَاتَ مِنْ كَمَدِ

مَنْ كَانَ لَمْ يُؤْت عِلْمًا فِي بَقَاءِ غَدٍ

مَاذَا تفكره فِي رِزْقٍ بَعَدَ غَدِ

آخر:

كَفَى حَزَنًا أَنْ لا حَيَاةَ هَنِيَّةٍ

وَلا عَمَلٌ يَرْضَى بِهِ اللهُ صَالِحٌ

فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ وَالأَقْلامُ جَارِيَةٌ

وَالتوب مُقْتَبَلٌ فَاللهُ قَدْ وَعَدَا

ص: 273

لا تَفْخَرَنَّ بِدُنْيَا أَنْتَ تَارِكُهَا

عَمَا قَلِيل تَزُورُ الْقَبْرَ واللَّحْدَا

وإذا حضره النزعة فليكثر من قول لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فياله من ختام ويا له من طابع، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» .

ويستحضر أحاديث الرجال مثل حديث أبي ذر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» . قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» . الحديث متفق عليه.

وحديث ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} . الآيتين _ ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} . الآية ونحو هذه الآية والأحاديث التي سبقت.

شِعْرًا:

إِذَا أَتَى اللهُ يَوْمَ الْحَشْرِ فِي ظُلَلٍ

وَجِيءَ بِالأُمَمِ الْمَاضِينَ وَالرُّسُلِ

وَحَاسَبَ الْخَلْق مَنْ أَحْصَى بِقُدْرَتِهِ

أَنْفَاسُهُمْ وَتَوَفَّاهُمْ إِلَى أَجَلِ

وَلَمْ أَجِدْ فِي كِتَابِي غَيْرَ سَيِّئَةٍ

تَسُوءُنِي وَعَسَى الإِسْلام يَسْلَمُ لِي

رَجَوْتُ رَحْمَةَ رَبِّي وَهِيَ وَاسِعَة

وَرَحْمَةُ اللهِ أَرْجَى لِي مِنَ الْعَمَلِ

اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي

ص: 274

بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فصل: اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن في الجنائز عبر للبصير، وفيها تنبيه، وتذكير لأهل الغفلة، وأكثرهم لا تزيده مشاهدتها إلا قسوة، لأنهم يظنون أنهم أبدًا إلى جنائزهم ينظرون ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون أو يحسبون ولكنهم على القرب لا يقدرون ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا كانوا مثلهم يحسبون فبطل حسبانهم وانقرض على القرب زمانهم.

والبصير لا ينظر إلى الجنائز وإلا ويقدر نفسه محمولاً عليها فإنه محمول عليها على القرب.

الغز بعضهم في النعش الذي يحمل عليه الميت إلى المقبرة:

أَتَعْرِفُ شَيْئًا فِي السَّمَاءِ يَطِيرُ

إِذَا طَارَ هَاجَ النَّاسُ حَيْثُ يَسِيرُ

فَتَلَقَّاهُ مَرْكُوبَا وَتَلَقَّاهُ رَاكِبًا

وَكُلُّ أَمِيرٍ يَعْتَرِيهِ أَسِيرُ

يَحُثُّ عَلَى التَّقْوَى وَيَكْرَهُ قُرْبُهُ

وَتَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَهَوَ نَذِيرُ

وَلَمْ يَسْتَزْرِ عَنْ رَغْبَةٍ فِي زِيَارَةٍ

وَلَكِنْ عَلَى رَغْمِ الْمَزُورِ يَزُورُ

شِعْرًا:

(كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ

يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءِ مَحْمُولُ)

آخر:

فَلِلْمَوْتِ تَغْدُو وَالْوَلِدَاتُ سِخَالهَا

كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تَبْنِي الْمَسَاكِنُ

آخر:

(أَلا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَازَةً

فَأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ

وكان بعضهم إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول. والآخر لا عقل له. وقال آخر: ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به وما هو صائر إليه.

ص: 275

وقال الأعمش: كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزي لحزن الجميع.

وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا مقنعًا باكيًا.

هذا حال السلف والآن انظر إلى مشيعي الجنائز بعضهم يبحث بالعقار وبعضهم يتكلم ويضحك وبعضهم يعدد مخالفاته وينذر أن ترى المتفكر في جنازته إذا وصله الدور وحمل لقب المظلم بيت الوحدة بيت الدود والصديد والهوام.

يَا بَاكِيًا مِنْ خِيفَةِ الْمَوْتِ

أَصَبْتَ فَارْفَعْ مِنْ مَدَى الصَّوْتِ

وَنَادِ يَا لَهْفِي عَلَى فُسْحَةٍ

فِي الْعُمْرِ فَاتَتْ أَيّمَا فَوْتِ

ضَيَّعْتَهَا ظَالِمٌ نَفْسِي وَلَمْ

أُصْغِ إِلَى مَوْتٍ وَلا مَيِّتِ

يَا لَيْتَهَا عَادَتْ وَهَيْهَاتَ أَنْ

يَعُودُ مَا قَدْ فَاتَ يَا لَيْتِ

فَخَلِّ عَنْ هَذِي الأَمَانِي وَدَعْ

خَوْضُكَ فِي هَاتٍ وَفِي هِيتِ

وَبَادِرْ الأَمْرَ فَمَا غَائِبٍ

أَسْرَعُ إِتْيَانًا مِنَ الْمَوْتِ

كَمْ شَائِدٍ بَيْتًا لَيْغَنَى بِهِ

مَاتَ وَلَمْ يَفْرُغْ مِنَ الْبَيْتِ

اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

قال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: يا فلان لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر وساكنه إنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به لو رأيت بيتًا تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الريح وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثياب ثم شهق شهقة خر مغشيًا عليه.

ص: 276

وكان يزيد الرقاشي يقول: أيها المقبور في حفرته والمتخلي في القبر بوحدته المستأنس في بطن الأرض بأعماله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت، وبأي إخوانك اغتبطت، ثم بكي حتى يبل عمامته.

ثم يقول: استبشر والله بأعماله الصالحة، واغتبط بإخوانه المتعاونين على طاعة الله تعالى وكان الحسن بن صالح إذا أشرف على المقابر يقول: ما أحسن ظواهرك إنما الدواهي في بواطنك.

وكان عطاء السلمي إذا جن عليه الليل خرج إلى المقبرة ثم يقول: غدًا عطاء في القبور فلا يزال عطاء ذلك دأبه حتى يصبح ويروى أن فاطمة بنت الحسين نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسين فغطت وجهها وقالت:

وَكَانُوا رَجَاءً ثَمَّ أَمْسُوا رَزِيَّةً

لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتٍ

وَقَالَ مَيمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل عليَّ فقال: يا ميمون هذه قبور أبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشم أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلاث واستحكم فيهم البلى وأصابتهم الهوام مقيلاً في أبدانهم ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحدًا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله، ووجد مكتوب على قبر:

وَقِفْتُ عَلَى الأَحِبَّةِ حِينَ صَفَّتْ

قُبُورُهُمْ كَأَفْرَاسِ الرِّهَانِ

فَلَمَّا أَنْ بَكِيتُ وَفَاضَ دَمْعِي

رَأَتْ عَيْنَايَ بَيْنَهُمْ مَكَانِي

آخر:

وَنَاءٍ عَنِ الدُّنْيَا وَعَنْ أَعْيُنِ الْوَرَى

وَحِيد لأَصْحَابِ الْقُبُورِ مُجَاوِرُ

آخر:

أَبَا غَانِمٍ أَمَا ذراك فَوَاسِعٌ

وَقَبْرُكَ مَعْمُورُ الْجَوَانِبُ مُحْكَمُ

ص: 277

وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْبُورُ عُمْرَانُ قَبْرِهِ

إِذَا كَانَ فِيهِ جِسْمُهُ يَتَهَدَّمُ

شِعْرًا: قصيدة زهدية وعظية سقط بعضها وعوضناها عنه ما بين الأقواس:

لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا

فَالْمَوْتُ لا شَكَّ يَفْنِينَا وَيَفْنِيهَا

وَمَنْ يَكُنْ هَمَّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعُهَا

فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيهَا

لا تَشْبَعُ النَّفْس مِنْ دُنْيَا تُجَمِّعُهَا

وَبُلْغَهٌ مِنْ قَوَامِ الْعَيْشِ تَكْفِيهَا

اعْمَلْ لِدَارِ الْبَقَا رِضْوَانٌ خَازِنُهَا

الْجَارُ أَحْمَدُ وَالرَّحْمَنُ بَانِيهَا

أَرْضٌ لَهَا ذَهَبٌ وَالْمِسْكُ طِينَتُهَا

وَالزَّعْفَرَان حَشِيشٌ نَابِتٌ فِيهَا

أَنْهَارُهَا لَبَنٍ مَحْضٍ وَمِنْ عَسَلٍ

وَالْخَمْرُ يَجْرِي رَحِيقًا فِي مَجَارِيهَا

وَالطَّيْرُ تُجْرِي عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةً

تُسَبِّحُ اللهَ جَهْرًا فِي مَغَانِيهَا

مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً فِي الْعَدْنِ عَالِيَةً

فِي ظِلِّ طُوبَى رَفِيعَاتٌ مَبَانِيهَا

دَلالُهَا الْمُصْطَفَى وَاللهُ بَائِعُهَا

وَجِبْرَئِيلُ يُنَادِي فِي نَوَاحِيهَا

مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ فَي الْفِرْدَوْسَ يَعْمُرُهَا

بِرَكْعَةٍ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيهَا

أَوْ سَدَّ جَوْعَةِ مِسْكِينٍ بِشَبْعَتِهِ

فِي يَوْمِ مَسْبَغَه عَمّ الغَلا فِيهَا

النَّفْسُ تَطْمَعُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ

أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيهَا

وَاللهِ لَوْ قَنَعَتْ نَفْسِي بِما رُزِقَتْ

مِنَ الْمَعِيشَةِ إِلا كَانَ يَكْفِيهَا

واللهِ وَاللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ

ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِينٍ بَعْدَ ثَانِيهَا

لَوْ أَنَّ فِي صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ

فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةً مَلْسٌ نَوَاحِيهَا

رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ

حَتَّى تُؤَدَّى إِلَيْهِ كَلّ مَا فِيهَا

أَوْ كَانَ فَوْقُ طِبَاقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا

لَسَهَّلَ اللهُ فِي الْمَرْقَى مَرَاقِيهَا

حَتَّى يَنَالُ الَّذِي في اللَّوْحِ خَطّ لَهُ

فَإِنَّ أَتَتْهُ وَإِلا سَوْفَ يَأْتِيهَا

أَمْوَالُنَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ نَجْمَعُهَا

وَدَارَنَا لِخَرَابِ الْبُومِ نَبْنِيهَا

لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا

إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْت يَبْنِيهَا

ص: 278

فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ

وَمَنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا

وَالنَّاسُ كَالْحَبِّ وَالدُّنْيَا رَحَى نَصَبَتْ

لِلْعَالَمِينَ وَكَفّ الْمَوْتِ يُلْهِيهَا

فَلا الإِقَامَةَ تُنْجِي النَّفْسَ مِنْ تَلَفٍ

وَلا الْفِرَارُ مِنْ الأَحْدَاثِ يُنْجِيهَا

وَلِلنُّفُوسِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَجَلٍ

مِنَ الْمَنِيَّةِ آمَالٌ تُقَوِّيهَا

فَالْمَرْءُ يَبْسُطُهَا وَالدَّهْرُ يَقْبِضُهَا

وَالْبِشْرُ يَنْشُرُهَا وَالْمَوْتُ يَطْوِيهَا

وَكُلُّ نَفْسٍ لَهَا زَوْرٌ يُصَبِّحُهَا

مِنْ الْمَنِيَّةِ يَوْمًا أَوْ يُمَسِّيهَا

تِلْكَ الْمَنَازِلُ فِي الآفَاقِ خَاوِيَةٌ

أَضْحَتْ خَرَابًا وَذَاقَ الْمَوْتُ بَانِيهَا

كَمْ مِنْ عَزِيزٍ سَيَلْقَى بَعْدَ عِزَّتِهِ

ذُلاً وَضَاحِكَةٌ يَوْمًا سَيَبْكِيهَا

وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ

وَلِلْحِسَابِ بَرَى الأَرْوَاحَ بَارِيهَا

لا تَبْرَحُ النَّفْسُ تَنْعِي وَهِيَ سَالِمَةٌ

حَتَّى يَقُومُ بِنَادِ الْقَوْمِ نَاعِيهَا

وَلَنْ تَزَالُ طِوَالَ الدَّهْرِ ظَاعِنَةٌ

حَتَّى تُقِيمُ بِوَادٍ غَيْرَ وَادِيهَا

أَيْنَ الْمُلُوكِ الَّتِي عَنْ حَظِّهَا غَفَلَتْ

حَتَّى سَقَاهَا بِكَأْسِ الْمَوْتِ سَاقِيهَا

أَفْنَى الْقُرُون وَأَفْنَى كُلّ ذِي عُمْرٍ

كَذَلِكَ الْمَوْتُ يُفْنِي كَلَّ مَا فِيهَا

فَالْمَوْتُ أَحْدَقُ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا

وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ كُلِّ مَا فِيهَا

لَوْ أَنَّهَا عَقِلَتْ مَاذَا يُرَادُ بِهَا

مَا طَابَ عَيْشٌ لَهَا يَوْمًا وَيُلْهِيهَا

نَلْهُوا وَنَأْمَلُ آمَالاً نَسُرُّ بِهَا

شَرِيعَةُ الْمَوْتِ تَطْوِينَا وَتَطْوِيهَا

فَاغْرِسْ أُصُولَ التُّقَى مَا دُمْتَ مُقْتَدِرًا

وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَ الْمَوْت لاقِيهَا

(تَجْنِي الثِّمَارَ غَدًا فِي دَارٍ مُكَرَّمَةٍ

لا مَنْ فِيهَا وَلا التَّكْدِيرُ يَأْتِيهَا)

(فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ دَائِمًا أَبَدًا

بِلا انْقِطَاعٍ وَلا مَنْ يُدَانِيهَا)

(الأُذُنُ وَالْعَيْنُ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَرَهُ

وَلَمْ يَدْرِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مَا فِيهَا)

(فَيَا لَهَا مِنْ كَرَامَاتٍ إِذَا حَصَلَتْ

وَيَا لَهَا مِنْ نُفُوسٍ سَوْفَ تَحْوِيهَا)

(وَهَذْهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا

فَعَنْ قَرِيبٍ تَرَى مُعْجِبُكَ ذَاوِيهَا)

ص: 279

.. (فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ لا يَخْدَعَكَ لامِعُهَا

مِنْ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيهَا)

(خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ

وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيهَا)

(فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوِي طيشٍ

وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْمِ الْمَوتِ أَهْلِيهَا)

اعْتَزَّ قَارُونُ فِي دُنْيَاهُ مِنْ سَفَهٍ

وَكَانَ مِنْ خَمْرِهَا يَا قَوْمَ ذَاتِيهَا

يَبِيتُ لَيْلَتَهُ سَهْرَانٌ مٌنْشَغِلاً

فِي أَمْرِ أَمْوَالِهِ فِي الْهَمِّ يَفْدِيهَا

وَفِي النَّهَارِ لَقَدْ كَانَتْ مُصِيبَتُهُ

تَحُزُّ فِي قَلْبِهِ حَزًّا فَيُخْفِيهَا

فَمَا اسْتَقَامَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَلا قَبِلَتْ

مِنْهُ الْوِدَادَ وَلَمْ تَرْحَمْ مُحِبِّيهَا

(ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمَعْصُومِ سَيِّدِنَا

أَزَكَى الْبَرَيَّةَ دَانِيهَا وَقَاصِيهَا)

(موعظة)

قال الله جل وعلا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء من غير جنسها، والأبصار: العقول والمعنى تدبروا.

إخواني: الدنيا دار عبرة ما وقعت فيها حبرة إلا وردفتها عبرة أين من عاشرناه كثيرًا وألفنا، أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا، أين من ذكرناه بالمحاسن ووصفنا ما نعرفهم لو عنهم كشفنا، ما ينطقون لو سألناهم وألحفنا.

وسنصير كما صاروا فليتنا أنصفنا، كم أغمضنا من أحبابنا على كرههم جفنا، كم ذكرتنا مصارع من فنِيَ من يفنى، كم عزيز أحببنا دفنَّاه وانصرفنا، كم مؤنس أضجعناه في اللحد وما وقفنا، كم كريم علينا إذا مررنا عليه انحرفنا.

ما لنا نتحقق الحق فإذا أيقنا صدفنا، أما ضر أهله التسويف، وها نحن قد سوفنا، أما التراب فلماذا منه أنفنا، ألام ترغنا السلامة وكأن قد تلفنا.

أين حبيبنا الذي كان وانتقل، أما غمسه التلف في بحره وارتحل أما

ص: 280

خلا في لحده بالعمل أين من جر ذيل الخيلاء غافلاً ورفل أما سافر عنا وإلى الآن ما قفل.

أين من تنعم في قصره وفي قبره قد نزل، فكأنه بالدار ما كان وفي اللحد لم يزل، أين الجبابرة الأكاسرة الأول الذين كنزوا العتاة الأول، ملك الأموال سواهم والدنيا دول.

شِعْرًا:

تَنَامُ وَقَدْ أَعَدَّ لَكَ السّهَادُ

وَتُوقِنُ بِالرَّحِيلِ وَلَيْسَ زَادُ

وَتُصْبِحُ مِثْلِ مِا تُمْسِي مُضَيِّعًا

كَأَنَّكَ لَسْتَ تَدْرِي مَا الْمُرَادُ

أَتَطْمَعُ أَنْ تَفُوزَ غَدًا هَنِيًا

وَلَمْ يَكُ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا اجْتِهَادُ

إِذَا فَرَّطْتَ فِي تَقْدِيمِ زَرْعٍ

فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ عَدَمٍ حَصَادُ

اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالأعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ويسن توجيه الميت ومن في النزع إلى القبلة على جنبه الأيمن لأن حذيفة قال: (وجهوني إلى القبلة) . واستحبه مالك وأهل المدينة والأوزعي وأهل الشام وقال صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا. روه أبو داود.

ص: 281

وقول باسم الله وعلى وفاة رسول الله لما روى البيهقي عن بكر بن عبد الله المزني ولفظه وعلى ملة رسول الله ولا بأس بتقبيل الميت والنظر إليه لحديث عائشة وابن عباس أن أبا بكر قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته. رواه البخاري والنسائي.

وقالت عائشة قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه. رواه أحمد والترمذي وصححه.

وغسل الميت فرض كفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه» . متفق عليه وشرط في الماء الذي يغسل فيه الميت الطهورية والإباحة كباقي الاغسال.

وشرط في المغسل للميت الإسلام والعقل والتمييز لأن هذه شروط لكل عبادة شرعية إلا التمييز في الحج والأكمل أن يكون الغاسل للميت ثقة يعرف أحكام الغسل ليحتاط فيه ولقول ابن عمر: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون.

والأولى بغسل الميت وصية العدل لأن أبا بكر الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل.

وإذا شرع في غسله ستر عورته وجوبًا لحديث: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» . رواه أبو داود.

ويحرم مس عورة من بلغ سبع سنين ويستحب أن لا يمس سائره إلا بحائل، أدسوس يدين أو نحوها لما روى أن عليًا غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيده خرقة يمسح بها تحت القميص. ذكره المروزي عن أحمد.

ص: 282

وللرجل أن يغسل زوجته وأمته لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» . رواه ابن ماجة. وغسل عليٌّ فاطمة رضي الله عنهما ولم ينكره منكر فكان إجماعًا.

وللمرأة تغسيل زوجها وابن دون سبع سنين قاله ابن المنذر إجماعًا لحديث أبي بكر السابق وقالت عائشة رضي الله عنها: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه. رواه أحمد وأبو داود.

ولما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم غسله النساء. وحكم غسل الميت كغسل الجنابة لقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته: «ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها» . ولا يدخل في فم الميت الماء ولا في أنفه بل يأخذ خرقة مبلولة فيمسح بها أسنانه ومنخريه ليقوم مقام المضمضة والاستنشاق قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . ويكره الاقتصار على غسله واحدة لقوله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر» .

فإن خرج من الميت المغسل شيء زيد في الغسلات وجوبًا إلى السبع فإن خرج بعد السبع حشي المحل بقطن فإن لم يستمسك فبطن حر ثم يغسل المحل ويوضأ وجوبًا.

وإن خرج بعد التكفين لم يعد الغسل ولا الوضوء لما فيه من الحرج والمشقة ولا يغسل شهيد المعركة ولا يكفن ولا يصلى عليه لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلوا عليهم رواه البخاري.

ص: 283

شِعْرًا:

أَلا ذَكَّرَانِي قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْتُ

وَيُبْنَى لِجُثْمَانِي بِدَارِ الْبِلَى بَيْتُ

وَعَلَّمَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلامَتِي

وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْتُ

وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُوا إِلَى الْبَلَى

فَقُلْتُ أَرَانِي قَدْ قَرُبْتُ فَأُدْنِيتُ

وكذا لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى على المقتول ظلمًا لحديث سعيد بن زيد مرفوعًا من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وصحح.

وقيل يغسل ويصلى عليه لأن ابن الزبير غسل وصلى عليه وهذا القول يترجح عندي لأنه أحوط والله سبحانه أعلم.

فأن قتل وعليه ما يوجب الغسل من نحو جنابة فهو كغيره يجب أن يغسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحدٍ ما بال حنظلة بن الراهب إني رأيت الملائكة تغسله قالوا: إنه سمع الهائعة وهو جنب ولم يغتسل. رواه الطيالسي.

وإن سقط من دابته أو وجد ميتًا ولا أثر به أو تردى من محل رفيع أو حمل فأكل أو شرب أو طال بقاؤه عرفًا غسل وصلى عليه وكذا – لو تكلم أو بال أو عطس لأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل سعد بن معاذ وصلى عليه وكان شهيدًا وصلى المسلمون على عمر وعلي وهما شهيدان والسقط لأربعة أشهر كالمولود حيًا يغسل ويصلى عليه لحديث المغيرة مرفوعًا، والسقط يصلى عليه رواه أبو داود والترمذي وصححه.

ولا يغسل مسلم كافرًا ولو ذميًا ولا يكفنه ولا يصلي عليه ولا يتبع جنازته لأن في ذلك تعظيمًا له وقد قال تعالى {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بل يدفن إن لم يدفنه الكفار كما فعل بأهل القليب يوم بدر. وعن علي رضي الله

ص: 284

عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: «اذهب فواره» . رواه أبو داود.

شِعْرًا:

كَيْفَ احْتِيَالِي إِذَا جَاءَ الْحِسَابُ غَدًا

وَقَدْ حُشِرْتُ بِأَثْقَالِي وَأَوْزَارِي

وَقَدْ نَظَرْتُ إِلَى صُحْفِي مُسَوَّدَةٍ

مِنْ شُؤْمِ ذَنْبٍ قَدِيمٍ الْعَهْدِ أَوْ طَارِي

وَقَدْ تَجَلَّى لِبَسْطِ الْعَدْلِ خَالِقُنَا

يَوْمَ الْمَعَادِ وَيَوْمَ الذُّلِّ وَالْعَارِ

يَفُوزُ كُلُّ مُطِيعٍ لِلْعَزِيزِ غَدًا

بِدَارِ عَدْنٍ وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارِ

لَهُمْ نَعِيمٌ خُلُودٌ لا نَفَادَ لَهُ

يُخَلَّدُونَ بِدَارِ الْوَاحِدِ الْبَارِي

وَمَنْ عَصَى فِي قَرَارِ النَّارِ مَسْكَنُهُ

لا يَسْتَرِيحُ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي النَّارِ

فَابْكُوا كَثِيرًا فَقَدْ حَقَّ الْبُكَاءُ لَكُمْ

خَوْفَ الْعَذَابِ بِدَمْع وَاكِفٍ جَارِي

آخر:

يَا عَجَبًا لِلنَّاسِ كَيْفَ اغْتَدَوْا

فِي غَفْلَةٍ عَمَّا وَرَاءَ الْمَمَاتْ

لَوْ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ لَمْ يَكُنْ

لَهُمْ عَلَى إِحْدَى الْمَعَاصِي ثِبَاتْ

مَنْ شَكَّ فِي اللهِ فَذَاكَ الَّذِي

أُصِيبَ فِي تَمْيِيزِهِ بِالشَّتَاتْ

يُحْيِيهِمُ بَعْدَ الْبَلَى مِثْلَ مَا

أَخْرَجَهُمْ مِنْ عَدَمٍ لِلْحَيَاةْ

اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وتكفين الميت فرض كفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي مات اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه والواجب ثوب يستر جميع الميت لقول أم عطية فلما فرغنا

ص: 285

ألقى إلينا حقوه فقال: «أشعرنها» . ولم يزد على ذلك رواه البخاري.

ولا يستر رأس المحرم ولا وجه المحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي مات: «ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» . متفق عليه. والسنة تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن لحديث عائشة كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس بها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجًا متفق عليه.

والمسنون في حق الأنثى خمسة أثواب إزار وخمارٌ وقميصٌ ولفافتين لحديث ليلى بنت قائف الثقفية قالت كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاتها فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر. رواه أبو داود.

والصبي في ثوبٍ واحد لأنه دون رجل ويباح في ثلاثةٍ، ما لم يرثه غير مكلف، ولصغير قميص ولفافتان، ولخنثى كالأنثى في خمسة أثواب، وأما صفة تهيئة اللفائف ووضع الميت عليها فإنا تبسط بعضها فوق بعض وتجعل اللفافة الظاهرة وهي السفلى من الثلاث أحسنها وذلك بعد تبخيرها بعودٍ ونحوه بعد رشها بما ورد لتعلق رائحة البخور بها ما لم يكن محرما.

فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ

سِوَى حَنُوطٍ غَدَاة الْبِين فِي خِرَقِ

وَغَيْرُ نَفْحَةُ أَعْوَادٍ تَشُبُّ لَهُ

وَقَلَّ ذَلَكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ

وَيَجْعل الحنوط وهو أخلاط من طيب فيما بين اللفائف وذلك بأن يذر بين اللفائف ثم يوضع الميت على اللفائف مستلقيًا ويجعل منه في قطن بين إليتيه ومثانته.

ويجعل الباقي من القطن المحنط على منافذ وجهه ومواضع سجوده جبهته ويديه وركبته وتحت إبطه وسرته لأن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقته بالمسك وإن طيب كله فحسن لأن أنسًا وطُلِيَ بالمسك وطَلَى ابن عمر ميتًا بالمسك.

ص: 286

ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الأيمن على الأيسر ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه ثم يعقدها وتحل في القبر، لقول ابن مسعود إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد. رواه الأثرم.

شِعْرًا:

إِنَّ الَّذِي كَانَ بَعْضُ الأَرْضِ يَمْلِكُهُ

أَمْسَى مِنْ الأَرْضِ قَدْ يَحْوِيهِ مِتْرَانِ

وَغَابَ عَنْ مُلْكِهِ الْمِسْكِينُ وَاقْتَسَمُوا

أَمْوَالَهُ فَاعْتَبِرُوا وَاقْتَدِ بِيَقْظَانِ

آخر:

وَعُري عَنْ ثِيَابٍ كَانَ فِيهَا

وَأُلْبِسَ بَعْدَ أَثْوَابَ انْتِقَالِ

وَبَعْدَ رُكُوبِهِ الأَفْرَاسَ تِيهًا

يُهَادَى بَيْنَ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ

إِلَى قَبْرٍ يُغَادَرُ فِيهِ فَرْدًا

نَأَى مِنْهُ الأَقَارِبُ وَالْمَوَالِي

تَخَلَّى عَنْ مُوَرِّثِهِ وَوَلَّى

وَلَمْ تَحْجُبه مَأْثَرَةُ الْمَعَالِي

موعظة: عباد الله ما هذا التكاسل عن الطاعات وزرع الأعمار قد دنا للحصاد وما هذا التباعد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد، وما هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد.

خَلَتِ الْقُلُوبِ مِنَ الْمَعَادِ وَذِكْرِهِ

وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ وَالأَطْمَاعِ

صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثَهُمْ

فِي الصُّحُفِ وَالتِّلْفَازِ وَالْمِذْيَاعِ

آخر:

تَزَوَّدْ لِلَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ

فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيقَاتُ الْعِبَادِ

يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ

لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ

عباد الله أين الحسرات على فوت أمس أين العبرات على مقاسات الرمس أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

ص: 287

يا من مشيبه أتى وشبابه أضمحل وخبي، متى تتضرع إلى مولاك وتقف بالباب، أما اعتبرت بالراحلين من الأقارب والجيران والزملاء والأحباب؛ أما قرع سمعك {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} الآية.

كيف حالك إذا بلغت الروح التراق وقطعت الحسرات والندم علائق الأكباد ووضعت في بيت الظلمة والدود والوحدة ولا ولي لك من الله ولا ناصر وضوعف العذاب وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون.

كيف أنت إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وكل إنسان ألزم طائره في عنقه يوم النشور وحرر الحساب بين يدي سريع الحساب عالم السر والخفيات والجاليات ونصب الميزان {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} . وقال تعالى {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}

شِعْرًا:

وَلا بَأْسَ شَرْعًا أَنْ يَطَّبِكَ مُسْلِمٌ

وَشَكْوَى الَّذِي تَلْقَى وَبِالْحَمْدِ فَابْتَدِ

وَتَرْكُ الدَّوَا أَوْلَى وَفِعْلُكَ جَائِزٌ

بِمَا لَمْ تَيَقَّنْ فِيهِ حُرْمَةَ مُفْرَدِ

وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ يَأْسِهِ

وَلاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّكَ تَسْعَدِ

وَيُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ فَأْتِهِمْ

تَخُضْ رَحْمَةً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ

ص: 288

فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلائِكَةِ الرِّضَا

تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ مُمْسًى إِلَى الْغَدِ

وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلَ الْيَوْمِ وَاصَلَتْ

عَلَيْهِ إِلَى اللَّيْلِ الصَّلاةَ فَاسْنِدِ

فَمِنْهُمْ مُغِبًّا عُدْ وَخَفِّفْ وَمِنْهُمْ الَّذِي

لَذِي يُؤَثِّرُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَدِّدِ

فَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ

تَعُودُ وَلا تُكْثِرْ سُؤَالاً تُنَكِّدِ

وَذَكِّرُ لِمَنْ تَأْتِي وَقَوِّ فُؤَادِهُ

وَمُرْهُ بِأَنْ يُوصِي إِذَا خِفْتَ وَارْشُدِ

وَنَدِّ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ لِسَانَهُ

وَلَقِّنْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ قَوْلَ الْمُوَحَّدِ

وَلا تُضْجِرَنْ بَلْ إِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَهُ

فَعَاوِدْ بِلَفْظٍ وَاسْأَلْ اللُّطْفَ وَاجْهَدِ

وَيَس إِنْ تُتْلَى يُخَفَّفُ مَوْتُهُ

وَيُرْفَعُ عَنْهُ الإِصْرَ عِنْدَ التَّلَحَّدِ

وَوَجِّهْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ تِلْقَاءَ قِبْلَةٍ

فَإِنْ مَاتَ غَمِّضْهُ وَلَحْيَيْهِ فَاشْدُدِ

وَمَلْبُوسَهُ فَاخْلَعْ وَلَيِّنْ مَفَاصِلاً

وَضَعْ فَوْقَ بَطْنِ الْمَيِّتِ مَانِعَ مُصْعِدِ

وَوَفِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ شَرْعًا وَفَرِّقَنْ

وَصِيَّةَ عَدْلٍ ثُمَّ تَجْهِيزَهُ أُقْصُدِ

ص: 289

ج

إِذَا بِانْخِسَافِ الصُّدْغِ أَيْقَنْتَ مَوْتَهُ

وَمَيْلَ أَنْفِهِ مَعْ فَصْلِ رِجْلَيْهِ وَالْيَدِ

وَلا بَأْسَ فِي إِعْلامِ خِلٍّ وَصَاحِبٍ

وَأَنْسَابِهِ وَاكْرَهْ نِدَاءً وَشَدِّدِ

وَسَارِعْ إِلَى التَّجْهِيزِ فَرْضَ كِفَايَةٍ

فَقَدِّمْ وَصِيًّا بَعْدَهُ الأَبِ فَاعْدُدِ

فَجَدٌّ فَأَدْنَى ثُمَّ أَدْنَى مُنَاسِبٍ

فَمَوْلَى فَأَدْنَى أَقْرِبَيْهِ كَمَا ابْتَدِي

وَمُسْتَتِرًا لِلْغُسْلِ ضَعْهُ مُوَجِّهًا

وَمُنْحَدِرًا تِلْقَاءَ رِجْلَيْهِ فَاعْمِدِ

وَصُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَوْقَ قَمِيصِهِ

بِالأُخْرَى بِلا مَسِّ وَحَيْزٍ بِأَبْعَدِ

وَيَخْتَارُ مَجْدُ الدِّينَ لَفَّةَ غَاسِلٍ

عَلَى يَدِهِ ثَوْبًا لِغُسْلِ مُعَوُّدِ

وَيُشْرَعُ سَتْرُ الْمَيِّتِ عَنْ أَعْيُنِ الْوَرَى

وَغَسْلُكَ تَحْتَ السَّقْفِ أَوْ سِتْرًا اشْهَدِ

وَقَرِّبْهُ مِنْ حَالِ الْجُلُوسِ بِرَفْعِهِ

وَلِلْبَطْنِ فَأَعْصُرْ وَأرْفِقَنْ لا تُشَدِّدِ

وَكَثَّرْ لِصَبِّ الْمَاءِ لِيَذْهَبَ بِالأَذَى

وَفِي وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ غَسِّلْ بِأَبْعَدِ

وَلُفَّ لِتَنْضِيفِ النَّجَاسَةِ خِرْقَةٍ

بِكَفٍّ وَنَجِّيهِ وَعَنْ عَوْرَةٍ حُدِ

ص: 290

وَتَعْمِيمُهُ بِالْمَا اشْتَرِطْ وَبِخَرَقَةٍ

بِيُمْنَ وَسَمِّ وَانْوِ شَرْطًا بِأَجْوَدِ

وَلا تُدْخِلَنَّ الْمَاءَ فَاهُ وَأَنْفَهُ

وَنَظِّفْهُمَا وَاتْمِمْ وُضُوءَ التَّعَبُّدِ

وَمِنْ رُغْوَةِ السِّدْرِ اغْسِلَنْهُ جَمِيعَهُ

وَبِالأَيْمَنِ ابْدَأْ ثُمَّ لِلأَيْسَرِ أُقْصدِ

ثَلاثًا فَإِنَّ لَمْ يُنْقِ أَوْ بَانَ جَمِيعِهُ

فَغَسِّلْ إِلَى الأَنْقَى وَبِالْوِتْرِ جَدِّدِ

إِلَى مُنْتَهَى سَبْعٍ وَفِي كُلِّ غَسْلَةٍ

فَقَلِّبْهُ وَأرْفِقْ وَامْسَحْ الْبَطْنَ بِالْيَدِ

وَفِي الآخِرِ الْكَافُورَ ضَعْهُ فَإِنْ بَدَا

إِذَا بَعْدَ سَبْعٍ مَخْرَجَ الْمَيِّتِ فَأسْدُدِ

بِقُطْنٍ فَإِنْ يَخْرُجِ فَطِينٍ وَقِيلَ لا

تُغَسِّلْ وَوَضِّ بَعْدَ غُسْلِ الأَذَى قَدِ

وَيُكْرَهُ تَسْرِيحُ الشُّعُورِ بَأَوْطَدٍ

وَشَارِبَهُ وَالظِّفْرُ وَالإِبْطَ فَأجْدُدِ

وَغَسِّلْ وَكَفِّنْ بَعْضَ مَيِّتٍ مُغَيَّبٍ

وَصَلِّ عَلَيْهِ مِثْلَ رِجْلٍ بِأَوْكَدِ

وَيُخْتَارُ لِلْغُسْلِ الأَمِينُ وَعَالِمٌ

بِأَحْكَامِ تَغْسِيلٍ وَلَوْ بِتَقَلُّدِ

وَلا تُفْشِ سِرًّا يُؤَثِّرُ الْمَيْتُ كَتْمَهُ

سِوَى ذِي فُجُورٍ وَابْتَدَاعٍ مُعَوَّدِ

ص: 291

وَتَجْهِيزُ مَيِّتٍ خُذْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ

وَقَدِّمْ عَلَى كُلِّ الْحُقُوقِ وَأَكِّدِ

وَوَاجِبُهُ ثَوْبٌ يَلُفُّ جَمِيعَهُ

وَقِيلَ ثَلاثٌ بَلْ مَعَ الدِّينِ أَفْرِدِ

وَيُشْرَعَ فِي بَيْضٍ ثَلاثٍ بَسَطَّتَهَا

طِبَاقًا بِطَيْبٍ وَالدِّثَارَ فَجَوِّدِ

وَحَنِّطْهُ فِيمَا بَيْنَهَا وَاجْعَلَنْ عَلَى

مُلَفَّفِ قُطْنٍ بَيْنَ أَلْيَيْهِ وَاشْدُدِ

وَكَفِّنْهُ وَابْدَأْ بِالْيَسَارِ وَفَوْقَهَا الْـ

يَمِينُ كَذَا الأَطْرَافُ مِنْهَا فَعَقِّدِ

وَمَا عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَفِّرو حُلَّهَا

بِلَحْدٍ وَدَعَ أَكْفَانَهُ لا تُقَدِّدِ

وَيَكْفِي لِفَافٌ مَعَ قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ

وَالأُنْثَى خِمَارٌ مَعَ لِفَافَةٍ ازْدَدِ

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

والصلاة على الميت فرض كفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في الغال صلوا على صاحبكم وقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا على

ص: 292

أطفالكم فإنهم أفراطكم» . وقوله: «إن صاحبكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه» . وقوله صلوا على من قال لا إله إلا الله.

وتسقط الصلاة عليه بمكلف، لأنها صلاة ليس من شروطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد، وشروط الصلاة على الميت ثمانية النية والتكليف واستقبال القبلة وستر العورة واجتناب النجاسة وإسلام المصلي والمصلي عليه وطهارتهما ولو بالتراب وحضور الميت إن كان في البلد.

وأركان الصلاة على الميت سبعة، القيام في فرضها والتكبيرات الأربع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعًا. متفق عليه، وقراءة الفاتحة، لعموم حديث لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن وقال: لتعلموا أنها سنة، أو قال: من تمام السنة. رواه البخاري.

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» . رواه أبو داود والترتيب، والسلام لعموم حديث تحليلها التسليم، وصفة الصلاة على الميت أن ينوي.

ثم يكبر أربعًا يرفع يديه مع كل تكبيرةٍ يحرم بالتكبيرة الأولى ويتعوذ ويسمي ويقرأ الفاتحة ولا يستفتح لأن مبناها على التخفيف، ويكبر التكبيرة الثانية، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي عليه في التشهد، ويكبر في الثالثة ويدعو للميت بأحسن ما يحضر.

ص: 293

وسن بما ورد، ومنه: اللهم اغفر لحينًا وميتنًا وصغيرنًا وكبيرنًا وذكرنًا وأُنْاثنًا إنك تعلم منقلبنًا ومثوانًا وأنت على كل شيء قدير اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه عليهما.

اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره وزوجًا خيرًا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر وأفسح له في قبره ونور له فيه.

وإن كان الميت المصلى عليه صغيرًا أو مجنونًا واستمر قال: اللهم اجعله ذخرًا لوالديه وفرطًا وشفيعًا مجابًا اللهم ثقل به موازينهما وأعظم بع أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفاية إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم وإن لم يعلم إسلام والديه دعا لمواليه.

ويؤنث الضمير على أنثى فيقول: اللهم اغفر لها إلى آخر الدعاة ويشير بما يصلح لهما على خنثى، وما جهل هل هو ذكر أم أنثى فيقول في دعائه اللهم اغفر لهذا الميت ونحوه كهذه الجنازة لأنه يصلح لهما.

ويكبر التكبيرة الرابعة ويقف بعدها قليلاً ولا يدعو ويسلم تسليمة واحدًة عن يمينه ويجوز أن يسلمها تلقاء وجهه ويجوز أن يسلم ثانية.

وتسن الصلاة على الميت جماعة كفعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه واستمر عليه الناس وسن أن لا تنقص الصفوف عن ثلاثة صفوف ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليه ثلاثة صفوف من الناس فقد أوجب» . رواه الترمذي وحسنه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

ص: 294

ويجوز أن يصلى على الميت من دفنه إلى شهر وشيء قليل كيوم ويومين يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان قاله أحمد. وقال: ومن يشك في الصلاة على القبر وقال أكثر ما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم على أم سعد بن عبادة بعد شهر.

ويصلى على الغائب بالنية لصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي والأولى بالصلاة على الميت وصية العدل فسيد برقيقه فالسلطان فنائبه الأمير فالحاكم فالأولى بغسل رجل فزوج بعد ذوي الأرحام.

ومع تساو يقرع بينهم ومن قدمه ولي لا وصي بمنزلته والسنة أن يقف الإمام والمنفرد عند رأس الرجل الميت المصلى عليه وعند وسط الأنثى لما ورد عن أنس أنه صلى على رجل فقام عند رأسه ثم صلى على امرأة فقام وسطها فقال العلاء بن زياد هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم قال: نعم وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة فقام وسطها متفق عليه.

ويسن أن يلي الإمام من كل نوع أفضلهم فأسن فأسبق ثم يقرع فإن كان رجلاً وصبيًا وامرأة وخنثي قدم إلى الإمام الرجل ثم الصبي ثم الخنثي ثم المرأة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة.

ويقضي المسبوق ما فاته من التكبيرات إذا سلم إمام على صفتها فإن خشي رفع الجنازة تابع التكبير رفعت أو لم ترفع وإذا سلم ولم

ص: 295

يقض شيئًا صحت ويجوز دخوله بعد التكبيرة الرابعة ويقضي الثلاث التكبيرات استحبابًا لينال الأجر.

وإن وجد بعض ميت كرجل أو يدٍ فحكمه ككله فيغسل ويصلى عليه بعد ما يكفن وجوبًا لأن أبا أيوب صلى على رجل إنسان قاله احمد وصلى عمر على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس رواهما عبد الله بن أحمد بإسناده.

قال الشافعي ألقى طائر يدًا من وقعة الجمل عرفت بالخاتم وكانت يد عتاب بن أسيد وصلى عليها أهل مكة فإن كانت الميت قد صلى عليه غسل ذلك البعض وكفن وجوبًا وصلى عليه استحبابًا لأن الفرض سقط بالصلاة على أكثر الميت.

وكذا إن وجد الباقي من الميت فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن بجنبه ولا يصلى على ما بان وانفصل من حي كيد وسارق وقاطعٍ طريقٍ ما دام الإنسان حيًا.

ولا يصلى على من في أحد جانبي البلد وان كان البلد كبيرًا ولو لمشقة مطرٍ أو مرضٍ لأنه يمكن حضور الميت للصلاة عليه في البلد ويعتبر انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر.

قال الشيخ تقي الدين وأقرب الحدود ما تجب فيه الجمعة ولا يصلي على كل غائب قال الشيخ تقي الدين لأنه لم ينقل ومن صلى على ميتٍ كره له إعادة الصلاة كالعيد إلا من صلى عليه بالنية إذا حضر.

وكذا إذا وجد بعض ميتٍ صلى على جملته فتسن الصلاة على ذلك البعض.

ص: 296

شِعْرًا:

يَا غَافِلِينَ أَفِيقُوا قَبْلَ مَوْتِكِمْ

وَقَبْلَ يُؤْخَذُ بِالأَقْدَامِ بالأقدام وَاللَّمَمِ

وَالنَّاسُ أَجْمَعُ طَرًّا شَاخِصُونَ غَدًا

لا يَنْطِقُونَ بِلا بُكْمٍ وَلا صَمَمِ

وَالْخَلْقُ قَدْ شُغِلُوا وَالْحَشْرُ جَامِعُهُمْ

وَاللهُ طَالِبُهُمِ بِالْحِلِّ وَالْحَرَمِ

وَقَدْ تَبَدَّى لأَهْلِ الْجَمْعِ كُلِّهِمْ

وَعْدَ الإِلَهِ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالنِّقَمِ

وَكُلُّ نَفْسٍ لَدَى الْجَبَّار شَاخِصَة

لا يَنْطِقُونَ بِلا رُوحٍ مِنَ الزَّحَمِ

اللهم إنا نسألك أن ترفع ذكرنا وأن تضع وزرنا وتصلح أمرنا وتطهر قلوبنا وتنور قبورنا وتغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ولا يصلي الإمام على الغالٍ ولا على قاتل نفسه أما ألغال وهو من كتم شيئًا مما غنمه المسلمون من الكفار ليختص به فلأنه عليه الصلاة والسلام امتنع عن الصلاة على رجل من جهينة غل يوم خيبر وقال: «صلوا على صاحبكم» . رواه الخمسة إلا الترمذي احتج به أحمد وأما قاتل نفسه فلحديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاؤه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصلى عليه. رواه مسلم وغيره.

ص: 297

وللمصلي على الجنازة قيراط من الأجر وهو أمر معلوم عند الله تعالى وله بتمام دفنها قيراط آخر لما ورد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهد حتى تدفن فله قيراطان» . قيل: وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين» . متفق عليه.

ولمسلم حتى توضع في اللحد وللبخاري من حديث أبي هريرة من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقراطين كل قيراط مثل قيراط أحدٍ وحمل الميت لمحل دفنه فرض كفاية.

ويسن التربيع في حمل الجنازة لما ورد عن ابن مسعود قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع. رواه ماجه وصفته أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه اليمنى.

ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم اليمنى المقدمة على كتفه اليسري ثم ينتقل إلى المؤخرة ولا يكره الحمل بين العموديين وهو ما بين القائمتين المقدمتين أو المؤخرتين أو يجعل كل عمودٍ على عاتقٍ.

لما روي أنه عليه الصلاة والسلام حمل جنازة سعد بن معاذ بين العموديين ويسن الإسراع بالجنازة لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى خير وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» . رواه الجماعة.

شِعْرًا:

إِنِّي أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي

وَالْحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ

غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مَرْقَدِي

لَيْلاً فَنَافَرَنِي السُّكُونْ

قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ

فِي الْقَبْرِ كَيْفَ تَرَى تَكُونْ

ص: 298

شِعْرًا:

نُرَاعِ إِذَا الْجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا

وَنَسْكُنُ حِينَ تَخْفَى ذَاهِبَات

كَرَوْعَةِ ثُلَّة لِظُهُورِ ذِئْبٍ

فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ

ولا يكره الحمل على دابة لغرض صحيح كبعد المقبرة ومثل البعير السيارة ونحوها ويستحب كون الماشي قدام الجنازة قال ابن المنذر: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. رواه أحمد. عن ابن عمر ولأنهم شفعاء والشفيع يتقدم المشفوع له.

وسن كون راكب خلف الجنازة لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها. رواه الترمذي. وقال: حسن صحيح لأنه إذا سار أمامها الراكب أذى المشاة والقرب من الجنازة أفضل كالإمام في الصلاة.

ويكره جلوس تابعها حتى توضع بالأرض لحديث أبي هريرة قال فيه حتى توضع بالأرض ورفع الصوت مع الجنازة مكروه لحديث لا تتبع الجنازة بصوتٍ ولا نارٍ رواه أبو داود وقول القائل مع الجنازة استغفروا بدعة وروى سعيد أن ابن عمر وسعيد بن جبير قالا لقائل ذلك لا غفر الله لك.

وكره أن تتبع الجنازة امرأة لحديث أم عطية: نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا وحرم أن يتبعها مع منكر يعجز عن إزالته ويلزم القادر على إزالته أن يزيله ولا يترك إتباعها.

ويستحب القيام للجنازة لما ورد عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع» . رواه الجماعة ولأحمد.

وكان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه وله أيضًا عنه أنه ربما

ص: 299

تقدم الجنازة فقعد حتى إذا رآها قد أشرفت قام حتى توضع واختار هذا القول الشيخ تقي الدين وعن جابر قال مرت بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها» .

وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما إنها من أهل الأرض أي من أهل الذمة فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي فقال: «أليست نفسًا» . متفق عليهما.

اللهم وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك ووفقنا للعمل بما يرضيك وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك وبغض من يعاديك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شِعْرًا:

سِهَامُ الْمَنَايَا فِي الْوَرَى لَيْسَ تُمْنَعُ

فَكُلٌّ لَهُ يَوْم وَإِنْ عَاشَ مَصْرَعٍ

وَكُلٌّ وَإِنْ طَالَ الْمَدَى سَوْفَ يَنْتَهِي

إِلَى قَعْرِ لَحْدٍ فِي ثَرَى مِنْهُ يُوَدّع

فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ عَاشَ بَعْدَ قَرِينُهُ

إِلَى مِثْلِهَا عَمَّا قَلِيلٍ سَتَدْفَعُ

فَكُلُّ ابْن أُنْثَى سَوْفَ يُفْضِي إِلَى الرَّدَى

وَيَرْفَعُهُ بَعْدُ الأَرَائِكِ شرجعُ

ص: 300

ج

وَيُدْرِكُهُ يَوْمًا وَإِنْ عَاشَ بُرْهَةً

قَضَاءً تُسَاوَى فِيهِ عَوْد وَمُرْضِعُ

فَلا يَفْرَحَنَّ يَوْمًا بِطُولِِ حَيَاتِهِ

لَبِيبٍ فَمَا فِي عَيْشِهِ الْمَرْءُ مَطْمَعُ

فَمَا الْعَيْشُ إِلا مِثْلُ لَمْحَةِ بَارِقٍ

وَمَا الْمَوتُ إِلا مِثْل مَا الْعَيْنُ تُهْجَعُ

وَمَا النَّاسُ إِلا كَالنَّبَاتِ فَيَابِسٌ

هَشِيمٌ وَغَضَّ إِثْر مَا بَادَ يَطْلَعُ

فَتَبَّا لِدَارٍ مَا تَزَالُ تُعُلُّنَا

أَفَاوِيقَ كَأْسٍ مَرَّةً لَيْسَ تَقْنَعُ

سِحَابُ أَمَانِيهَا جِهَامٌ وَبَرْقُهَا

إِذَا شِيمَ بَرْقٌ خَلْبٌ لَيْسَ يَهْمَعُ

تَغُرُّ بَنِيهَا بِالْمُنَى فَتَقُودُهُمْ

إِلَى قَعْرٍ مَهْوَاةٍ بِهَا بِالْمُنَى فَيُمْتَعُ

فَكَمْ أَهْلَكْتُ فِي حُبِّهَا مِنْ مُتَيِّمٌ

وَلَمْ يَحْظَ مِنْهَا بِالْمُنَى فَيُمْتِعُ

تُمَنِّيه بِالآمَالِ فِي نَيْلِ وَصْلِهَا

وَعَنْ غَيَّهِ فِي حُبِّهَا لَيْسَ يَنْزِعُ

أَضَاعَ بِهَا عُمْرًا لَهُ لَيْسَ رَاجِعًا

وَلَمْ يَنَلْ الأَمْرُ الَّذِي يُتَوَقَّعُ

فَصَارَ لَهَا عَبْدًا لِجَمْعِ حُطَامِهَا

وَلَمْ يَهِنْ فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَجْمَعُ

ص: 301

وَلَوْ كَان ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ

مِنَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُ يَجْشَعُ

إِلَى أَنْ تُوَافِيهُ الْمَنِيَّة وَهُوَ بَالْ

قَنَاعَةِ فِيهَا آمِنًا لا يُرَوَّعُ

مَصَائِبُهَا عَمَّتْ فَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ

شُجَاعُ وَلا ذَوُ ذِلَّةٌ لَيْسَ يَدْفَعُ

وَلا سَابِحٍ فِي قَعْرِ بَحْرٍ وَطَائِرٌ

يَدُومُ فِي بَُوحِ الْفَضَاءِ وَيَنْزِعُ

وَلا ذُو امْتِنَاعٍ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ

لَهَا فِي ذَرَى جَوِّ السَّمَاءِ تَرْفَعُ

أَصارته مِنْ بَعْدِ الْحَيَاةِ بِوَهْدَةٍ

لَهُ مِنْ ثَرَاهَا آخِرُ الدَّهْرِ مَضْجَعٍ

تَسَاوَى بِهَا مِنْ حِلٍّ تَحْتَ صَعِيدِهَا

عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالْمَمِاتِ وَتُبَّعُ

فَسِيَّانِ ذُو فَقْرٍ بِهَا وَذُووا الْغِنَى

وَذُو لَكِنْ عِنْدَ الْمَقَالِ وَمِصْقَعُ

وَمَنْ لَمْ يَخْفَ عِنْدَ النَّوَائِبِ حَتْفَهُ

وَذَو جُبْنٍ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ يَسْرَعُ

وَذُو جَشَعٍ يَسْطُو بِنَابٍ وَخَلَبٍ

وَكُلّ بُغَاثٍ ذَلَّةً لَيْسَ يَمْنَعُ

وَمَنْ مَلَكَ الآفَاقِ بَأْسًا وَشِدَّةً

وَمَنْ كَانَ مِنْهَا بالضَّرُورَةِ يَقْنَعُ

ص: 302

وَلَوْ كَشَفَتْ الأَجْدَاثِ مُعْتَبِرًا لَهُمْ

لِيَنْظُرَ آثَار الْبَلَى كَيْفَ يَصْنَعُ

لَشَاهَدَ أَحْدَاقًا تَسِيلُ وَأَوْجُهًا

مُعَفَّرَة فِي التُّرْبِ شُوْهًا تَفْزِّعُ

غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاقِِ الثَّرَى مُكْفَهِرَّةً

عَبُوسًا وَقَدْ كَانَتْ مِنْ الْبِشْرِ تَلْمَعُ

فَلَمْ يَعْرَف الْمَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ فِيهِمْ

وَلا خَامِلاً مَنْ نَابِهِ يَتَرَفَّعُ

وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا

تَبَيَّنَ مِنْهُمْ مَا لَهُ الْعَيْن تَدْمَعُ

رَأَى مَا يَسُوءُ الطَّرْف مِنْهُمْ وَطَالَمَا

رَأَى مَا يَسُرُّ النَّاظِرِينَ وَيَمْتِعُ

رَأَى أَعْظُمًا لا تَسْتَطِيعَ تَمَاسُكَا

تَهَافَتْ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ

مُجَرَّدَةً مِنْ لَحْمِهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ

لِذِي فِكْرَةٍ فِيمَا لَهُ يَتَوَقَعُ

تَخُونُهَا مَرَّ اللَّيَالِي فَأَصْبَحَتْ

أَنَابِيبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تُسْمَعُ

إِلَى حَالَةٍ مُسَوَّدَةٌ وَجَمَاجِمٍ

مُطَأْطَأَةٍ مِنْ ذِلَّةٍ لَيْسَ تَرْفَعُ

أُزِيلَتْ عَنِ الأَعْنَاقِ فَهِيَ نَوَاكِسٌ

عَلَى التُّرَابِ مِنْ بَعْدِ الْوَسَائِدِ تُوضَعُ

جج

ص: 303

.. عَلاهَا ظَلامٌ لِلْبَلَى وَلَطَالَمَا

غَدًا نُورُهَا فِي حِنْدسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ

كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلا مِفْرقًا لَهَا

نَفَائِسُ تِيجَانٍ وَدُرٍّ مُرَصَّعُ

تَبَاعَدَ عَنْهُمْ وَحْشَةً كُلُّ وَامِقٍ

وَعَافَهُمْ الأَهْلُونَ وَالنَّاسُ أَجْمَعُ

وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ

بِوَصْلِهِمْ وِجْدًا بِهِمْ لَيْسَ يَطْمَعُ

يَبْكِيهِمْ الأَعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ

وَيَرْحَمُهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًّا وَيَجْزَعُ

فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ غَرَّهُ طُولُ عُمْرِهِ

وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفٍ تَخْدَعُ

أَفِقْ وَانْظُرُ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ

تَجِدُ كَلَّ مَا فِيهَا وَدَائِعُ تَرْجِعُ

فَأَيْنَ الْمُلُوكَ الصَّيْد قَدْمًا وَمَنْ حَوَى

مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتِ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ

حَوَاه ضَرِيحٌ مِنْ فَضَاءِ بَسِيطِهَا

يَقْصُرُ عَنْ جُثْمَانِهِ حِينَ يَذْرَعُ

فَكَمْ مَلِكْ أَضْحَى بِهَا ذَا مَذَلَّةٍ

وَقَدْ كَانَ حَيًّا لِلْمَهَابَةِ يُتْبَعُ

يَقُودُ عَلَى الْخَيْلِ الْعِتَاقِ فَوَارِسًا

يَسُدُّ بِهَا رَحْبَ الْفَيَافِي وَيُتْرَعُ

ص: 304

فَأَصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعْمِ فِي ثَرَى

تُوَارِي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ

بَعِيدًا عَلَى قُرْبِ الْمَزَارِ إِيَابُهُ

فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ مَرْجِعُ

غَرِيبًا عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَهْلِ ثَاوِيًا

بِأَقْصَى فَلاةٍ خِرْقَةٍ لَيْسَ يُرْقَعُ

تَلِحُّ عَلَيْهِ السَّافِيَاتِ بِمَنْزِلٍ

جَدِيبٍ وَقَدْ كَانَتْ بِهِ الأَرْضُ تُمْرِعُ

رَهِينًا بِهِ لا يَمْلِكُ الدَّهْرَ رَجْعَةً

وَلا يَسْتَطِيعَنَّ الْكَلامَ فَيَسْمَعُ

تَوَسَّدْ فِيهِ التُّرْبَ مِنْ بَعْدِ مَا اغْتَدَى

زَمَانًا عَلَى فُرْشٍ مِنْ الْخِزِّ يَرْفَعُ

كَذَلِكَ حُكْمُ اللهِ فِي الْخَلْقِ لَنْ تَرَى

مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلَهُ لَيْسَ يُصْدَعُ

اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفًا من كل داء واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 305

(فَصْلٌ)

ثم اعلم الأخ وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لحسن الخاتمة أنه إذا حل بالإنسان الأجل المحتوم ووافته المنية وفاضت روحه وخرجت من الجسد الذي تعمره في الدنيا.

فإن رأيت الناس عامة ومن يلوذون به خاصة كأقربائه وجيرانه وأنسابه وإخوانه وزملائه ومعامليه ما بين شاكٍ وباكٍ ومثنٍ عليه بخيرٍ وداعٍ له وسائلٍ له النجاة من المخاوف وسائلٍ الله له أن يدخله الجنة.

وقد أجمعوا يطلبون له المسامحة والمغفرة من الله لما كان يتجلى لهم من خلق ودينٍ ومعاملةٍ وإحسانٍ ومعروفٍ وسيرةٍ حسنةٍ وكان المثنون عليه من أهل الصلاح والعدالة والورع والتقى والصدق والفضل.

فاعلم أن ثناءهم دليل قوي وبرهان جلي على حسن حال الميت الراحل عن الدنيا إلى الآخرة وإن رأيتهم بالعكس خلاف ما ذكرنا فبدل الثناء والمدح قدح ومكان الترحم والدعاء له الطعن والسب والشتم والاستياء فتجد جيرانه من أهل الصلاح فرحين لانقطاع شره وكذلك من أساء إليهم بمعاملةٍ أو نميمةٍ أو كذبٍ أو أكل حقوقهم أو لما يعلمون عنه من الفسق والفجور والاعتداء والاستطالة على عباد الله بغير حق.

فهذا أيضًا برهان ساطع ودليل واضح على سوء حاله خبث أعماله وفي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 306

«وجبت» . ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرًا. فقال: «وجبت» .

فقال عمر رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذه أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة وهذه أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض» . وفي الحديث الآخر عند الحاكم: «أن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المؤمن من الخير والشر، قلت: ولا يبعد أن الشياطين تنطق على ألسنة الذين يكتبون للفسقة والمجرمين حسن سير وسلوك.

وفي الحديث الذي في المسند: «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» . قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن والثناء السيئ» .

وقال النووي على حديث أنس أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليه خيرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا عليه شرًا فقال وجبت الحديث قال الصحيح أنه على عمومه وأن من مات فألهم الله الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة.

ومما يؤيد ما قاله النووي رحمه الله حديث أنس عند أحمد وابن حبان والحاكم مرفوعًا: «ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلموا منه إلا خيرًا إلا قال الله تعالى قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون» .

وفي حديث البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» . فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة؟ فقلنا: واثنان. قال: «واثنان» . ثم لم نسأله عن الواحد.

ص: 307

وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: ولا يشهد لأحدٍ بالجنة إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم أو اتفقت الأمة على الثناء عليه.

وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهم.

وكان أبو ثورٍ يشهد لأخمد بن حنبل بالجنة وبالتالي فإذا شهد عامة المؤمنين ممن تقبل شهادتهم ويوثق بدينهم وأمانتهم وكلامهم من أهل الصدق والفضل والورع لرجل بالخير فهو برهان ودليل على حسن حاله والله أعلم ولا عبرة بثناء الفسقة والفجرة لأنهم قد يثنون على من كان مثلهم ولا من كان بينه وبين الميت عداوة. لأن شهادة العدو لا تقبل على عدوه.

قال ابن القيم رحمه الله:

لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان، وقيادة النفوس، رأوا الدولة للنفس الأمارة، لجئوا إلى حصن التضرع والإلجاء، كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده.

شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهى، فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خبط الفخ، فطاروا بأجنحة الحذر، وصوبوا إلى الرحيل الثاني (يا ليت قومي يعلمون) .

تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وشمروا للسير في سواء السبيل، فالناس مشتغلون بالفضلات، وهم في قطع الفلوات، وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح.

«وقع ثعلبان في شبكة. فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة» . تالله ما كانت الأيام إلا منامًا فاستيقظوا.

ص: 308

وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما.

كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عم معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مرد، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستول عليه.

فإن تولاه الله وجذبه إليه، انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه، اجتمعت عليه فكانت الهلكة.

شِعْرًا:

أَلا أَخْبِرْ بِمُنْتَزِجِ النَّوَاحِي

أَطَيرُ إِلَيْهِ مَنْشُورَ الْجِنَاحِ

فَأَسْأَلُهُ وَأَلْطفه عَسَاهُ

سَيَأْسُو مَا بِدِينِي مِنْ جِرَاحِ

وَيَجْلُو مَا دَجَا مِنْ لَيْلِ جَهْلِي

بِنُورِ هُدًى كَمُنْبَلِجَ الصَّبَاحِ

فَأَبْصَقَ فِي مُحَيَّا أُمّ دَفْرٍ

وَأهْجُرُهَا وَأَدْفَعُهَا بِرَاحِي

وَأَصْحُو مِنْ حُمَيَّاهَا وَأَسْلُوا

عَفَافًا عَنْ جَاذِرهَا الْمِلاحِ

وَاصْرِفْ هِمَّتِي بِالْكُّلِ عَنَهَا

إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ

أَفِي السِّتِين اهْجِعْ فِي مَقِيلِي

وَحَادِي الْمَوْتِ يُوقِظُ لِلرَّوَاحِ

وَقَدْ نَشَرَ الزَّمَانُ لِوَاءَ شَيْبِي

لَيَطْوِينِي وَيَسْلُبُنِي وِشَاحِي

وَقَدْ سَلّ الْحَمَامُ عَلَيَّ نَصْلاً

سَيَقْتُلُنِي وَإِنْ شَاكَتْ سِلاحِي

وَيَحْمِلُنِي إِلَى الأَجْدَاثِ صَحْبِي

إِلَى ضِيقٍ هُنَاكَ أَو انْفِسَاحٍ

فَأُجْزَى الْخَيْرَ إِنْ قََدَّمْت خَيْرًا

وَشَرًّا إِنْ جُزِيتَ عَلَى اجْتِرَاحِي

وَهَا أَنَا ذَا عَلَى عِلْمِي بِهَذَا

بِطِيءُ الشَّأْوِ فِي سُنَنِ الصَّلاحِ

فَلَوْ أَنِّي نَظَرْتُ بِعَيْنِ عَقْلِي

إِذَنْ لَقَطَعْتُ دَهْرَي بِالنِّيَاحِ

وَلَمْ أَسْحَبْ ذُيُولِي فِي التَّصَابِي

وَلَمْ أُطْرَبُ بِغَانِيَةٍ رَدَاحٍ

ص: 309

وَكُنْتُ الْيَومَ أَوَّابًا مُنِيبًا

لَعَلِّي أَنْ تَفُوزُ غَدًا قُدَاحِي

إِذَا مَا كُنْتُ مَكْبُول الْخَطَايَا

وَعَانِيهَا فَمَنْ لِي بِالْبَرَاحِ

فَهَلْ مِنْ تَوْبَةٍ مِنْهَا نَصُوحٍ

تُطَيِّرُنِي وَتَأْخُذْ لِي سَرَاحِي

فَيَا لَهْفِي إِذَا جَمَعَ الْبَرَايَا

عَلَى حَرْبِي لَدَيْهُمْ وَافْتِضَاحِي

وَلَوْلا أَنِّي أَرْجُو إِلَهِي

وَرَحْمَتُهُ يَئِسْتُ مِنَ الْفَلاحِ

اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وسن أن يعمق القبر بأن ينزل للأرض لقوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» . رواه أبو داود والترمذي وصححه. وقوله للحافر: «أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين» . رواه احمد وأبو داود.

قال أحمد: يعمق إلى الصدر لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك ويكفي ما يمنع السباع والرائحة لأنه يحصل به المقصود وسن أن يسجى قبر لأنثى وخنثي وكره لرجلٍ إلا لعذر.

وسن أن يدخله قبره من عند رجليه إن سهل عليهم لأنه صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه وعبد الله بن زيد أدخل الحارث من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة. رواه أحمد. ويسن قول مدخله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله.

ويجب أن يستقبل به القبلة إذا وضع في القبر لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة

ص: 310

قبلتكم أحيًاء وأمواتًا ولأنه طريق المسلمين بنقل الخلف عن السلف.

ويحرم دفن غيره معه إلا لضرورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل ميت في قبرٍ واحدٍ. وأما عند الضرورة فيجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كثر القتلى يوم أحد كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد ثم يسأل أيهم أكثر للقرآن فيقدمه في اللحد حديث صحيح.

وسن حثو التراب عليه ثلاثًا ثم يهال عليه التراب لحديث أبي هريرة قال فيه: فحثي عليه من قبل رأسه ثلاثًا. رواه ابن ماجه ويستحب الدعاء للميت بعد الدفن لما ورد عن عثمان رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» . رواه أبو داود.

وسن رفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنمًا لقول جابر أن النبي إذا فرغ رفع قبره عن الأرض قدر شبر. رواه الشافعي ويكره رفعه أكثر لقوله لعلي: «لا تدع تمثالاً ألا طمسته ولا قبرًا مشرفًا ألا سويته» . رواه مسلم.

وسن رش القبر بماء لما ورد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ماء ووضع الحصباء. رواه الشافعي.

قال بعض العلماء: ويستحب الدفن فيما كثر فيه أهل الخير والصلاح فيدفنه معهم وينزله بإزائهم ويسكنه بجوارهم وأن يجنبه قبور من يخاف التأذي بهم كما جاء في أثر أن امرأة دفنت في قبر فاتت أهلها ليلاً أي في النوم فجعلت تعتبهم وتقول ما وجدتم أن تدفنوا إلا إلى فرن الخبز.

فلما أصبحوا لم يجدوا بقرب القبر فرن خبز لكن وجدوا رجلاً سافًا لابن عامر دفن بقربها ورأى بعضهم ولده بعد موته فقال: ما فعل الله بك؟ قال: ما ضرني إلا أني دفنت بإزاء فلانٍ وكان فاسقًا فروعني ما يعذب به. أ. هـ.

ص: 311

قصيدة تحتوي على الثناء والشكر والحمد والتضرع على الله عز وجل.

يَا مُلَبِّسِي بِالنُّطْقِ ثَوْبَ كَرَامَةٍ

وَمَكْمَلِي جُودًا بِهِ وَمُقَوِّمِي

خُذْنِي إِذَا أَجَلِي تَنَاهَى وَانْقَضَى

عُمْرِي عَلَى خَطٍ إِلَيْكَ مُقَوِّمِي

وَاكْشِفْ بِلُطْفِكَ يَا إِلَهِي غُمَّتِي

وَاجْل الصَّدَأَ عَنْ نَفْسِ عَبْدِكَ وَارْحَمْ

فَعَسَايَ مِنْ بَعْدِ الْمَهَانَةِ اكْتَسَى

حُلَلِ الْمَهَابَةَ فِي الْمَحَلِّ الأَكْرَمِ

وَأَبُوءُ بِالْفِرْدَوْسِ بَعْدَ إِقَامَتِي

فِي مَنْزِلٍ بَادِ السَّمَاحَةَ مُظْلِمٌ

فَقَدْ اجْتَوَيْتَ ثَواي فِيهِ وَمَنْ تَكُنْ

دَارُ الْغُرُورِ لَهُ مَحَلاً يَسْأَمُ

دَارٌ يُغَادِرُ بُؤْسَهَا وَشَقَاءَهَا

مِنْ حِلِّهَا وَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَمْ

وَيَعُودُ صَافِي عَيْشَهُ وَحَيَاتُهُ

كَدْرًا فَلا تَجْنَحْ إِلَيْهَا تَسْلَمُ

فَبِكَ الْمُعَاذُ إِلَهَنَا مِنْ شَرِّهَا

وَبِكَ الْمَلاذُ مِنَ الْغِوَايَةِ فَاعْصِمِ

وَعَلَيْكَ مُتَّكِلِي وَعَفْوُكَ لَمْ يَزَلْ

قَصْدِي فَوَاخُسْرَاهُ عَنْ لَمْ تَرْحَمِ

يَا نَفْسُ جِدِّي وَادْأَبِي وَتَمَسَّكِي

بِعُرَى الْهُدَى وَعُرَى الْمَوَانِعِ فَافْصُم

لا تُهْمِلِي يَا نَفْسُ ذَاتِكِ إِنَّ فِي

نِسْيَانِهَا نِسْيَانُ رَبِّكِ فَاعْلَمِي

وَعَلَيْكِ بِالتَّفْكِيرِ فِي آلائِهِ

لِتَبُوئِي جَنَّاتِهِ وَتَنَعَّمِي

وَتَيّمَّمِي نَهْج الْهِدَايَةِ إِنَّهُ

مُنْجٍّ وَعَنْ طُرُقِ الضَّلالَةِ أحْجُمِي

لا تَرْتَضِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّة مَوْطِنًا

تُعْلَى عَلَى رُتَبِ السَّوَارِي الأَنْجُمِ

وَتَعَايَنِي مَا لا رَأَتْ عَيْنٌ وَلا

أُذُن إِلَيْهِ وَعَتْ فَجُدِّي تَغْنَمِي

وَتُشَاهِدِي مَا لَيْسَ يُدْرِكُ كُنْهُهُ

بِالْفِكْرِ أَوْ بِتَوَهُّم الْمًتَوَهِمِ

قُدْسٌ يَجُلُّ بِأَنْ يَحُلَّ جَنَابَهُ

يَا نَفْسُ إِلا كُلُّ شَهْمٍ أَيْهَمِ

وَتَجَاوُرِي الأَبْرَار فِي مُسْتَوْطِن

لا دَاثِرٍ أَبَدًا وَلا مُتَهَدِّمِ

يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ شَبّتْ وَلَمْ تَعُدْ

عَمَّا لَهِجْتَ بِهِ وَلَمْ تَتَنَدَّمِ

وَاعْكُفْ عَلَى تَمْجِيدِ مُوجِدُكَ الَّذِي

عَمَرَ الْوُجُودِ الْجُودِ مِنْهُ وَعَظّمِ

ص: 312

فَبِذِكْرِهِ تُشْفَى النُّفُوسُ مِنْ الْجَوَى

فَعَلَيْهِ إِنْ آثَرْتَ بُرْؤُكَ صَمِّمِ

أَكْرِمْ بِنَفْسِ فَتَىً رَأَى سُبُلَ الْهُدَى

تَهْوِي فَمَالَ إِلَى الصِّرَاطِ الأَقْوَمِ

ذَاكَ الَّذِي يَحْظَى بِيَوْمِ مَعَادُهُ

ملكا سَجِيسَ الدَّهْرِ لَمْ يَتَصَرَّم

يَا جَابِرَ الْعَظْمِ الْكَسِيرِ وَغَافِر الْـ

جُرْمَ الْكَبِيرِ لِكُلِّ عَبْدٍ مُجْرِمِ

مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ وَذَرِيعَةٌ

أَنْجُو بِهَا إِلا اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِ

فَاقْبَلْ بِمَنِّكَ تَوْبَتِي مِنْ حَوْبَتِي

فَعَسَى سَعَادَةُ أَوْبَتِي لَمْ أُجْرَمِ

حَمْدًا لَكَ اللَّهُمَّ يُنْمَى مَا جَلا

وَضْحُ الصَّبَاحُ سَوَادَ لَيْلٍ أَسْحَمِ

وَعَلَى نَبِيِّكَ ذِي الثَّنَاءِ وَآلِهِ

السَّادَةِ الأُمَنَاءِ صَلَّ وَسَلِّمِ

وَعَلَى صَحَابَتِهِ الَّذِينَ بِنَصْرِهِ

قَامُوا وَنَارَ الْكُفْرِ لَمْ تَتَضَرَّمِ

اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.

اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.

اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ويحرم إسراج القبر واتخاذ مسجد عليه وتجصيصه وتزويقه والبناء عليه والاستشفاء بترابه وتخليقه وتبخيره وتقبيله والجلوس عليه والوطء عليه والكتابة

ص: 313

عليه والتخلي عليه والطواف به والتمسح به والتخلي بين القبور والصلاة عنده لأجل الدعاء والاتكاء إليه.

ويكره المشي بالنعل إلا لخوف شوك ونحوه وإليك أدلة ما سبق منها حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الخمسة إلا ابن ماجة وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . متفق عليه.

وعن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه. رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي ولفظه نهى أن تجصص القبور أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر» . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي وعن عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا على قبر فقال: «لا تؤذ صاحب القبر أو لا تؤذه» . رواه أحمد.

وعن بشير بن الخصاصية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» . رواه مسلم وعن عقبة بن عامر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن أطأ على جمرةٍ أو سيفٍ أحب إليَّ من أن أطأ على قبر مسلم» . رواه الخلال وابن ماجة.

ويحرم دفن في ملك الغير وينبش ما لم يأذن له المالك للأرض.

ويحرم نبش ميت باق لميت آخر لما في النبش من هتك حرمة الميت ومتى علم أن الميت بلي وصار رميمًا جاز نبشه ودفن غيره فيه.

وإن شك في أنه بلي وصار رميمًا رجع إلى قول أهل الخبرة والمعرفة بذلك فإن حفر فوجد في الأرض عظامًا دفنها موضعها وأبقاها في مكانها وأعاد

ص: 314

التراب عليها كما كان أولاً ولم يجز دفن ميت آخر عليه وحفر في مكان آخر.

شِعْرًا:

محمدُ مَا أَعْدَدْتَ لِلْقَبْرِ وَالْبَلَى

وَلِلْمَلَكَيْنِ الْوَاقِفَينَ عَلَى الْقَبْرِ

وَأَنْتَ مُصِرٌّ لا تُرَاجِعُ تَوْبَةً

وَلا تَرْعَوِي عَمَّا يُذَمُّ مِنَ الأَمْرِ

سَيَأْتِيكَ يَوْمٌ لا تُحَاوِلُ دَفْعَهُ

فَقَدِّمْ لَهُ زَادًا إِلَى الْبَعْثِ وَالنَّشْرِ

آخر:

أَبْقَيْتَ مَالَكَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ

فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أَبْقَى لَكَ الْمَالُ

الْقَوْمُ بَعْدَكَ فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ

فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ دَارَتْ بِكَ الْحَالُ

مَلَّوُا الْبُكَاءَ فَمَا يَبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ

وَاسْتَحْكَمَ الْقِيلَ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَالُ

مَالَتْ بِهِمْ عَنْكَ دُنْيَا أَقْبَلَتْ لَهُمْ

وَأَدْبَرَتْ عَنْكَ وَالأَيَّامُ أَحْوَالُ

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

تسن زيارة قبر مسلم لرجل وأن يقف الزائر أمامه قريبًا منه لما ورد عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها» . رواه مسلم زاد الترمذي: «فإنها تذكر الآخرة» . زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود وتزهد في الدنيا.

ويقول الزائر للقبور والمار بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم.

لما ورد عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية. رواه مسلم.

ص: 315

شِعْرًا:

مَحَلَّةُ سَفَرٍ كَانَ آخِرُ زَادَهُمْ

إِلَيْهِ مَتَاعٌ مِنْ حَنُوطٍ وَمِنْ خِرَقْ

إِلَى مَنْزِلٍ سُوَى الْبَلَى بَيْنَ أَهْلِهِ

فَلَمْ تَسْتَبِينَ فِيهِ الْمُلُوكَ وَلا السُّوَقْ

آخر:

أَتَيْتَ إِلَى خَالِقِي خَاضِعًا

وَخَدِّي فِي الثَّرَى يُوضَعُ

وَإِنْ كُنْتَ وَافِيتَهُ مُجْرِمًا

فَإِنِّي فِي عَفْوِهِ أَطْمَعُ

وَكَيْفَ أَخَافُ ذُنُوبًا مَضَتْ

وَعَفْوُه عَمَّ الْوَرَى أَجْمَعُ

وعن بن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فاقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنت سلفنا ونحن بالأثر. رواه الترمذي.

شِعْرًا:

قِفْ بِِالْقُبُورِ بِأَكْبَادِ مُصَدَّعَة

وَدَمْعَة مِنْ سُوَيْدا الْقَلْبِ تَنْبَعِثُ

وَسَلْ بِهَا عَنْ رِجَالٍ طَالَ مَا رَشَفُوا

ثَغْرَ النَّعِيمِ وَمَا فِي ظِلِّهِ مَكَثُوا

مَاذَا لَقُوا فِي خَبَايَاهَا مَا قَدِمُوا

عَلَيْهِ فِيهَا وَمَا مِنْ أَجْلِهِ ارْتَبَثُوا

وَعَنْ مَحَاسِنِهِمْ إِنْ كَانَ غَيْرِهَا

طُولُ الْمُقَامُ بِبَطْنِ الأَرْضِ وَاللَّبْثُ

وَمَا لَهُمْ حَشَرَاتِ الأَرْضِ تَنْهِشُهُمْ

نَهْشًا تَزُولُ بِهِ الأَعْضَاء وَالْجُثَثُ

وَإِنْ يُجِبْكَ بِمَا لاقَا مُجِيبُهُمْ

وَلَنْ يُجِيبَ وَأَنَّي يَنْطِقُ الْجَدَثُ

فَانْظُرْ مَكَانَكَ فِي أَفْنَاءِ سَاحَتِهِمْ

فَإِنَّهُ الْجَدُّ لا هَزِل وَلا عَبَثْ

وتحرم زيارة القبور للنساء لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه واحتج شيخ الإسلام رحمه الله على تحريمه بلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زورات القبور وصحح الحديث.

وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين إذا كان طريق على حد المقبرة هل يكره

ص: 316

للنساء المرور معه فأجاب إذا كان للناس طريق على المقبرة ومرت معه امرأة وسلمت فلا بأس لأنها لا تسمى زائرة. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

شِعْرًا:

وَلَمَّا حَلَلْنَا مِنْ بِجَايَةَ جَانِبًا

تُصَانُ بِهِ تِلْكَ الْجُسُوم وَتُكْرَمُ

وَجَدْتُ لَهَا طِيبًا وَرُوحًا وَرَاحَةً

كَأَنِّي لأَنْفَاسِ الصِّبَا أَتَنَسَّمُ

فَقُلْتُ لَصْحِبِي مَا الَّذِي أَمْرَجْتُ لَهُ

مَقَابِرُ مِنْهَا لا طِىءٌ وَمُسَنَّمُ

فَأَوْهَمْتُهُمْ أَنّي جَهِلْتُ وَأَنَّنِي

لأَدْرِي بِذَاكَ الأَمْر مِنْهُم وَأَفْهَمُ

فَقَالُوا طَلَبْنَا عِلْمَ ذَاكَ فَلَمْ نَجِدْ

سِوَى رِمَمٍ مِمَّنْ تُحِبُّ وَتُعْظِمُ

تَضَوَّعَ بَطْنُ الأَرْضِ مِنْهَا كَأَنَّمَا

تَفَتَّقَ مِنْ دَارَيْنِ مِسْكٌ مُخَتَّمُ

فَفَاضَتْ دُمُوعِي عِنْدَك ذَاكَ وَرُبَّمَا

تَشْهر بِالدَّمْعِ السّرَارِ الْمُكْتَمُِ

خَلِيلِي مَا بَالِي وَبَالَ مَصَائِبُ

يراع لذاكرَاهَا فؤادِي وَيَكْلَمُ

وَمِمَّا شَجَانِي وَهُوَ أَعْظَمُ أَنَّنِي

قَذَفْتُ بِهَا مُسْوَدَّةَ الْجَوْفِ تَلْطِمُ

وَلَمْ أَدْرِ مَا كَانَتْ تَحِيَّةَ خِصْمِهِ

لَهُ هَلْ بِبُشْرَى أَمْ بِشَعْنَاءِ تَقْصِمُ

وَأَعْظَمُ مِنْهُ مَوْقِعًا وَأَشَدُّهُ

وَمَا خَصَّنِي أَدْهَى عَلَيَّ وَأَعْظَمُ

بِأَنِّي فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ سَالِكٌ

أُسَاقُ إِلَيْهَا إِنْ أَبَيْت وَأُرْغَمُ

وَمَا أَنَا أَدْرِي مَا أُلاقِي وَمَا الَّذِي

عَلَيْهِ إِذَا مَا كَانَ ذَلِكَ أَقْدَمُ

فَهَلْ مِنْ دَمٍ ابْكِيهِ صرفنا فَإِنَّمَا

يَبْكِي عَلَى هَذَا مِنْ الْمُقْلَةِ الدَّمُ

اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 317

(فَصْلٌ)

تسن تعزية المسلم المصاب بالميت لما ورد عن الأسود عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى مصابًا فله مثل أجره» . رواه ابن ماجة والترمذي وحديث عمرو بن حزم مرفوعًا: «ما من مؤمن يعزى أخًا بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الجنة» . رواه ابن ماجه

واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب المصيبة ويخفف حزنه ويهون مصيبته.

وهي مستحبه لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي داخلة قوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} .

وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية ثم التعزية التي هي الأمر بالصبر والرضا بما قدر الله مستحبة قبل دفن الميت وبعده وهو أفضل لأن أهل الميت مشغولون قبل دفنه بتجهيزه ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر هذا إذا لم يظهر منهم جزع فإن تبين له منهم جزع قدم التعزية ليسكنهم.

قال العلماء ويكره الجلوس للتعزية وذلك بان يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية لما في ذلك من استدامة الحزن وقد حدث في زمننا هذا أناس يقبلون المصاب بالميت مع تعزيتهم له ولا أدري ما مسندهم ولا اعلم أن أحدًا من الصحابة أو التابعين فعل ذلك ولا الذين بعدهم على منتصف هذا القرن الرابع عشر.

اللهم اعصمنا عن البدع وأحسن ما يعزى به ما روي في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال أرسلت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله تدعوه وتخبره أن ابنًا لها في الموت فقال عليه الصلاة والسلام للرسول:«ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب» . وذكر الحديث.

ص: 318

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم أن لله ما أخذ أن العالم كله ملك لله ولم يأخذ ما هو لكم بل هو آخذ ما هو له عندكم في معنى العارية وقوله وله ما أعطى أي ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه بل سبحانه يفعل فيه ما يشاء وكل شيءٍ بأجلٍ مسمى.

فلا تجزعوا فإن من قبضه فقد انقضى أجله المسمى فمحال تأخيره أو تقديمه قال تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فإذا علمتم ذلك فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ويقال للمصاب بمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاؤك أو يقول غير ذلك قال الموفق لا أعلم في التعزية شيئًا محدودًا إلا أنه يروى إن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلاً فقال: «رحمك الله وأجرك» . رواه أحمد. ويقول المعزى: استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك ويحرم تعزية الكافر سواء كان الميت مسلمًا أو كافر لأن فيها تعظيمًا للكافر.

وعزى بعضهم أخًا له في ابنه فقال: أحسن عزاهم فيه وأعظم لهم الأجور والهمهم التسليم للمقدور نقول جميعًا كما قال الصابرون {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فالله الله أوصيك أخي إن تتدرع بِالرِّضا وتسلم للقضاء فالمصاب من حرم الثواب.

واذكر آية في كتاب الله تشرح للمؤمن صدره وتجلب له صبرة وتهون خطبة وتذكره ربه قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إلى قوله {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

وقال {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} وفي الصحيح عن

ص: 319

صهيب مرفوعًا: " عجبًا لأمر المؤمن إن أمره خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ".

وقال آخر يعزى بعض إخوانه: المأمول فيكم الصبر والاحتساب والتعزي بعزاء الله فقد قال بعض العلماء إنك لن تجد أهل العلم والإيمان إلا وهم أقل الناس انزعاجًا عند المصائب وأحسنهم طمأنينة واقلهم قلقًا عند النوازل وما ذاك إلا لما أتوا مما حرمه الجاهلون.

قال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبة لأن العبد وأهله وماله ملك لله يتصرف فيه حيث جعله عند عبده عارية.

والمعير مالك قاهر قادر والعبد محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده وملك العبد متعة معارة الثاني أن مصير العبد ومرجعه ومرده إلى مولاه الحق الذي له الحكم والأمر ولا بد أن يخلف ما خوله في هذه الدار وراء ظهره ويأتي فردًا بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ ولكن بالحسنات والسيئات.

ومن هذا حاله لا يفرح بموجود ولا يأسف على مفقودٍ وإذا علم المؤمن علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه المصيبة وأطمأن بأذن الله وقد قيل:

مَا قَدْ قضي يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ

وَلَكَ الأَمَان مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْدَرِ

وَتَعَلَّمِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ كَائِنٌ

يَجْرِي عَلَيْكَ عَذِرْتَ أَمْ لَمْ تُعْذَرِ

ومن صفات المؤمن أنه عند الزلازل وقور وفي الرخاء شكور ومما يخفف المصائب برد التأسي فانظروا يمينًا وشمالاً وأمام وَوَراء فإنكم لا تجدون إلا من

ص: 320

قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها ولم يبق إلا التفاوت في عوض الفائت أعوذ بالله من الخسران.

ولو أمعن البصير في هذا العالم جميعه لم يرى إلا مبتلي إما لفوت محبوبٍ أو حصول مكروهٍ وإن سرور الدنيا أحلام ليلٍ أو كظلٍ زائلٍ إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أساءت دهرًا جمعها على انصداع ووصلها على انقطاع.

إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها حالها انتقال وسكونها زوال غرارة خدوع معطية منوع نزوع ويكفي في هوانها على الله أن لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها.

مع أن المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته كما قال بعض السلف لو مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس والرب سبحانه لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه ولا ليعذبه ولكن امتحانًا لصبره ورضاه عنه واختبارًا لإيمانه وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابة منكسر القلب بين يديه فهذا من حيث المصائب الدنيوية وأما ما جرى عليكم فأنتم به بالتهنئة أجدر من التعزية.

ولعمر الله إن من سلم له دينه فالمحن في حقه منح والبلايا عطايا والمكرهات له محبوبات وأما المصيبة العظمى والخطب الأكبر والكسر الذي لا يجبر والعثار التي لا تقال فهي المصيبة في الدين كما قيل:

(وَكُلُّ كَسْرٍ فِإِنَّ اللهَ يَجْبِرَهُ

وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّين جُبْرَانُ)

آخر:

الدِّينُ رَأْسُ الْمَالِ فَاسْتَمْسِكْ بِهِ

فَضِيَاعُهُ هُوَ أَعْظَمُ الْخُسْرَانِ

آخر:

لَعَمْرِيَ مَا الرَّزِيَّة فَقْدُ قَصُرٍ

فَسِيحٍ مُنْيَةٍ لِلسَّاكِينِنَا

وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِين

يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا

ص: 321

آخر:

لَعَمَرْيَ مَا عُمْرٌ يُعَدُّ بِضَائِعِ

إِذَا كَانَ بِالتَّهْلِيلِ وَالذِّكْرِ يُعْمَرُ

آخر:

إِذَا الْمَرْء لَمْ يُدْرِكْ رِضَى خَالِقُ الْوَرَى

فَمَا حَظُّهُ فِي أَنَّ يَطُولَ بِهِ الْعُمْرُ

آخر:

لِمَنْ تَطْلُبُ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تَرِدْ بِهَا

رِضَى الْمَلِكِ الْقُدُوس رَبِّ الْبَرِيّةِ

آخر:

(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَيَّعْتُهُ عِوَضٌ

وَمَا مِنْ الله عَن ضَيْعَتِهِ عِوَضُ)

وقد مضت سنة احكم الحاكمين لمن أراد به خيرا أن يقدم الابتلاء بين يديه ومن أسباب السلو عن المصائب وأقوى الأدوية بإذن الله تعالى لفاقد الحبيب العلم بأن الدنيا فانية وزائلة وأنها مخلوقة للذهاب والأفول وأن ما فيها يتغير ويتحول ويضمحل ويفنى لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة.

روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كان لسليمان بن داود عليهما السلام ابن يجد به وجدًا شديدًا فمات الغلام فحزن عليه حزنًا شديدًا وروي ذلك في قضائه ومجلسه فبعث الله إليه ملكين في هيئة البشر فقال: ما أنتما؟ فقالا خصمان قال: اجلسا بمجلس الخصوم فقال أحدهما: إني زرعت زرعًا فأتى هذا فأفسده.

قال سليمان عليه السلام: ما يقول هذا؟ قال: أصلحك الله إنه زرع في الطريق وإني مررت به فنظرت يمينًا فإذا الزرع ونظرت شمالاً فإذا الزرع ونظرت قارعة الطريق فإذا الزرع فركبت قارعة الطريق فكان في ذلك فساد زرعه.

فقال سليمان عليه السلام: ما حملك على أن تزرع بالطريق أما علمت أن الطريق سبيل الناس ولابد للناس أن يسلكوا سبيلهم فقال له أحد الملكين أو ما علمت يا سليمان أن الموت سبيل الناس ولابد للناس من أن يسلكوا سبيلهم.

قال: فكأنما كشف عن سليمان الغطاء وهذا من لطيف التعزية لمن حلت به رزية.

ص: 322

أَرَى الدَّهْرَ أَغْنَى خُطْبَة عَنْ خُطَّابُهُ

بِوَعْظٍ شَفَى الْبَابَنَا بِلُبَابِهِ

لَهُ قَلْبٌ تَهْدِي الْقُلُوب صَوَادِيًا

إِلَيْهَا وَتَعْمَى عَن وَشِيكِ انْقِلابِهِ

هُوَ اللَّيْثُ إِلا أَنَّهُ وَهُوَ خَادِرٌ

سَطَا فَأَغَابَ اللَّيْثَ عَنْ أَنْسِ غَابِهِ

وَهَيْهَاتَ لَمْ تَسْلَمْ حَلاوَةَ شَهْدِهِ

لِصَابٍ إِلَيْهِ مِنْ مَرَارَةِ صَابِهِ

مُبِيدٌ مَبَادِيهِ تَغُرُّ وَإِنَّمَا

عَوَاقِبَهُ مَخْتُومَةٌ بِعِقَابِهِ

أَلَمْ تَرَ مَنْ سَاسَ الْمَمَالِكِ قَادِرًا

وَسَارَتْ مُلُوكُ الأَرْضِ تَحْتَ رِكَابِهِ

وَدَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَكَادَتْ تُحِلُّهُ

عَلَى شُهْبِهَا لَوْلا خُمُودُ شِهَابِهِ

لَقَدْ أَسْلَمْتُهُ حَصْنَهُ وَحُصُونُهُ

غَدَاة غَدا عَنْ كَسْبِهِ بِاكْتِسَابِهِ

فَلا فِضَّةٌ أَنْجَتْهُ عِنْدَ انْفِضَاضِهِ

وَلا ذَهَبٌ أَغْنَاهُ عِنْدَ ذَهَابِهِ

سَلا شَخْصِه وَرَّاثُهُ بِتُرَاثِهِ

وَأَفْرَدَهُ أَتْرَابَهُ بِتُرَابِهِ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(فَصْلٌ)

قيل لرجل: إنك تموت؟ قال: وإلى أين يذهب بي؟ قالوا: إلى الله. قال: ما أكره أن يذهب بي إلى من لم أرى الخير إلا منه ولو قال أنا افرح وأسر وأستبشر بذهاب إلى الله.

وعزى رجل آخر بابنٍ له فقال: كان لك من زينة الحياة الدنيا وهو اليوم من الباقيات الصالحات.

ولما احتضر المنصور قال: اللهم إن كنت تعلم أني قد ارتكبت الأمور العظام جرأة مني عليك فإنك تعلم أني قد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مَنًّا منك لا منًّا عليك.

ومات عبد الله بن مطرف فخرج مطرف في ثياب حسنة فأنكر عليه

ص: 323

فقال: أفأستكين لها وقد وعدني عليها ربي ثلاثًا إحداها أحب إلي من الدنيا وما فيها {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

قيل إنه دخل ملك الموت على داود عليه وعلى نبينا السلام، قال: من أنت؟ قال: الذي لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشى.

قال: فإذا أنت ملك الموت ولم استعد بعد قال: يا داود أين جارك فلان أين قريبك فلان، قال: مات. قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد للموت.

عن عائشة رضي الله عنها لما مات عثمان بن مظعون كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه فقبل ما بين عينيه وبكى طويلاً: فلما رفع على السرير قال: «طوباك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها» .

ودخل على المأمون في مرضه وهو يجود بنفسه فإذا هو قد فرش له جل الدابة وبسط عليه الرماد وهو يتمرغ عليه ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه.

وقال عمرو بن العاص لابنه حضره الموت من يأخذ هذا المال بما فيه قال: من جدع الله أنفه فقال: احملوه إلى بيت مال المسلمين.

ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه» . ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إنك أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك فأهل العفو أنت.

وإن تعاقب فبما قدمت يداي «سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين» فمات وهو مغلول مقيد فبلغ الحسن بن علي فقال: استسلم الشيخ حين أيقن بالموت ولعلها تنفعه.

ص: 324

قالت عائشة رضي الله عنها: لا أغبط أحدًا بهوان الموت بعد الذي رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمع أو الدرداء رجلاً يقول في جنازة: من هذا؟ قال: أنت وإن كرهت فأنا.

وسمع الحسن امرأة تبكي خلف جنازة وتقول: يا أبتاه مثل يومك لم أره. فقال لها: بل أبوك مثل يومه لم يره.

وقيل: إنه لما احتضر إبراهيم عليه السلام قال: هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله. قال: اقبض روحي الساعة.

ونعيت إلى ابن عباس بنت له في طريق مكة، فنزل عن دابته فصلى ركعتين ثم رفع يديه وقال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر ساقه الله. ثم ركب ومضى.

وقال رجل لأويس القرني أوصيني. قال: توسد الموت إذا نمت واجعله نصب عينيك إذا قمت. وقال الثوري: ينبغي لمن كان له عقل إذا عقل إذا أتي عليه عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهيئ كفنه.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عمرو بن عبيد يعزيه أما بعد فإنا أناس من أهل الآخرة أسكنا في الدنيا أموات أباء أموات أبناء أموات فالعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميتٍ.

وقيل للحسن فلان في النزع. قال: وما معنى النزع؟ قالوا: القرب. قال: هو في ذلك منذ خلق.

وتوفيت أم قاضي بلخ فقال له حاتم الأصم: إن كانت وفاتها عظة لك فعظم الله أجرك على موت أمك وإن لم تتعظ بها فعظم الله أجرك على موت قلبك.

ص: 325

وقال له: أيها القاضي منذ كم تحكم بين عباد الله؟ قال منذ ثلاثين سنة قال: هل رد الله عليك حكمًا؟ قال: لا قال فإن الله لم يرد عليك أحكامك في ثلاثين وترد حكمًا واحدًا حكم عليك.

وعزى آخر بأخيه فقال له: انظر مصيبتك في نفسك تنسك فقد غيرك واذكر قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} وخذ بقول الشاعر:

تَعز فَكُلُّ سَالِكٍ لِسَبِيلِهِ

وَكُلُّ امْرِئٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ جَازِعٌ

وَنَحْنُ سَوَاءٌ فِي الْمُصَابُ وَإِنْ نَأَتْ

بِنَا الدَّار فَالأَرْحَامُ مِنَّا جَوَامِعُ

وَلا شَكَّ مِنَّا بِالتَّعَزِي وَإِنَّمَا

نُعَزِّيكَ إِذَا جَاءَتْ بِذَاك الشَّرَائِعُ

آخر:

تَفَكَّرْ فَإِنْ كَانَ الْبُكَا رَد هَالِكًا

عَلَى أَحَدٍ فَاجْهَدْ بُكَاء عَلَى عَمْرو

وَلا تَبْكِ مَيِّتًا بَعْدَ مَيِّتٍ أَجِنَّه

عَلي وَعَبّاس وَآل أَبِي بَكْرٍ

آخر:

وَيَبْكِي عَلَى الْمَوْتَى وَيَتْرُكُ نَفْسَهُ

وَيَزْعُمُ أَنْ قَدْ قَلَّ عَنْهُمْ عَزَاؤُهُ

وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلاً وَرَأْيٍ وَفِطْنَة

لَكَان عَلَيْهِ لا عَلَيْهُمْ بُكَاؤُهُ

شِعْرًا:

إِلَهِي عَفْوًا مِنْ ذُنُوبٍ تَثَاقَلَتْ

عَلَى ظَهْرِ عَبْدٍ لا يُطِيقُ لَهَا حِمْلاً

عَصَاكَ فَيَا مَوْلاهُ مِنْ دُونِ رَقَبَةٍ

وَيَخْشَى إِذَا تُبْلَى السَّرَائِرُ أَنْ يُبْلَى

فَإِمَّا إِلى نَارٍ وَإِمَّا لِجَنَّةٍ

وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِفِعْلَتِهِ قُبُلا

وَيَرْكَنُ لِلراحَات قَبْلَ بُلُوغِهَا

وَكَمْ ضَاحِكٍ كَانَ الْبُكَاءُ بِهِ أَوْلاً

فَمَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا لِنَعْصِرَ وَجْهَنَا

وَلا لِنَرَى غَيْرَ اعْتِبَارٍ بِهَا شُغْلاً

فَيَا رَبّ وَفِّقْ للرَّشَادِ مَطَالِبِي

وَيَسِّرْ لِمَا تَهْوَاهُ لِي مِنْ هُدَى فِعْلاً

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 326

(فَصْلٌ)

وكتب ابن السماك إلى هارون الرشيد يعزيه بولده فقال أما بعد فإن استطعت أن يكون شكرك لله عز وجل حيث قبضه كشكرك له حيث وهبه لك فافعل فإنه حيث قبضه أحرز لك هبته.

ولو بقي لم تسلم من فتنة أرأيت جزعك على ذهابه وتلهفك على فراقه أرضيت الدار لنفسك فترضاها لأبيك أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت متعلقًا بالخطر والسلام.

وان شاء قال إذا كان صغيرًا عظم الله أجرك وجبر مصيبتك وأذهب عنك الحزن وجعله لك فرطًا وذخرًا ووسيلة لاكتساب الأجر في الأخرى وأنت خبير بأن الموت مصير كل العباد قال الله جل وعلا وتقدس لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .

ومثلك ولله الحمد لا يحتاج إلى التسلية والنصيحة لأنه ليس بخاف عليك أن الصبر قد حث الله عليه ووعد بكثرة الأجر وأنه أولى ما تمسك به مؤمن واعتصم به محتسب فالتسليم لأمر الله بما قدره وقضاه في سابق علمه يستوجب الثواب الجزيل وحسبنا الله ونعم الوكيل.

شِعْرًا:

كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرّ عَلَى الْفَتَى

وَتَهُونُ غَيْر مُصِيبَةِ فِي الدِّينِ

آخر:

رَأَيْتُ بَنِي الدُّنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا

تَرَحَّلُ وَفْد حَطَّ فِي إِثْرِهِ وَفْدٌ

وَكُلٌّ يَحُثُّ السَّيْرَ عَنْهَا وَنَحْوَهَا

فَيَمْضِي بِذَا نَعْش وَيَأْتِي بِذَا مَهْدُ

آخر:

وَتَأْكُلُنَا أَيَّامُنَا فَكَأَنَّمَا

تَمُرُّ بِنَا السَّاعَاتُ وَهِيَ أُسُودُ

آخر:

وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلُ

يَحُثُّ بِهَا حَاد مِنَ الْمَوْتُ قَاصِدٌ

ص: 327

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا

مَنَازِلُ تُطْوَى وَابْن آدَم قَاعِدُ

أو تقول: بلغني وفاة الأخ العزيز تغمده الله في رحمته التي وسعت كل شيء ووفقنا وإياكم للصبر والاحتساب.

وعلى كل حال فالأخ أولى من يتلقى أمر الله بالقبول والتسليم ويلقى الخطوب الصادعة بقلب سليم وهو أدرى بأن هذه الدار ليست بدار قرار وأن المفقود نزل في جوار الكريم وشتان بين ذاك الجوار وهذا الجوار.

وليس إلا الصبر واحتساب الأجر من المولى الأجل هذا وكل منا يعلم أن الموت منهل لا بد من وروده ومحضر لا بد من شهوده ورسول لا بد منه وأمر لا محيص ولا مفر عنه وما مات أحد قبل أجله الذي قدر له ولا تقدم عنه ولا تأخر قال تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» .

وعن معاوية بن أياس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فقد رجلاً من أصحابه فسأل عنه فقالوا يا رسول الله ابنه الذي رأيته هلك.

فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال: «يا فلان أيما أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدًا بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك» . فقال: يا نبي الله يسبقني إلى الجنة يفتحها لي هو أحب إلي. قال: «فذلك لك» .

فقيل: يا نبي الله هذا له خاصة أم للمسلمين عامة قال: بل للمسلمين عامة. وبلغ الشافعي أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا فبعث إليه الشافعي

يقول يا أخي عز نفسك بما تعز به غيرها واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك.

واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا

ص: 328

مع اكتساب وزر فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك أن تطلبه وقد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبرًا وأحرز لنا ولك بالصبر أجرًا وكتب إليه يقول:

إِنِّي مُعَزِّيَكَ لا أَنِّي عَلَى ثِقَةٍ

مِنَ الْحَيَاةِ وَلَكن سُنَّةُ الدِّينِ

لَيْسَ الْمُعَزِي بِبَاقٍ بَعْدَ مَيْتِهِ

وَلا الْمُعَزِي وَإِنْ عَاشَا إِلَى حِينٍ

وَعَزَّى رَجُلٌ عُمر بن عبد العزيز فقال:

تَعَزَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ

لَمَّا قَدْ تَرَى يُفْدى الصَّغِير وَيُولَدُ

هَلْ ابْنَكَ مِنْ سُلالَةِ آدَم

لَكُلّ عَلَى حَوْضِ الْمَنِيَّةِ مُورِدُ

فقال: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك.

وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه: أما بعد فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنة فإذا قدمه فصلاة ورحمة فلا تحزن على ما فاتك من حزنه وفتنته ولا تضيع ما عوضك الله تعالى من صلاته ورحمته.

وقال محمد بن المهدي لإبراهيم بن سلمة وعزاه بابنه: أسرك وهو بلية وفتنة وأحزنك وهو صلاة ورحمة واعلم يا أخ إن كل المصائب التي تمر على الإنسان تهون إلا مصيبة الدين لا ينجبر كسرها كما قيل:

وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ

وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانٍ

وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه وألهمنا وإياك الرضا بقضائه وقدره ويحرم الندب وهو تعداد محاسن الميت بلفظ النداء مع زيادة ألف وها في آخره واسيداه واجبلاه وانقطاع ظهراه والنياحة هي رفع الصوت بذلك برنة وهي محرمة أيضًا قالت أم عطية: أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوح. متفق عليه.

ص: 329

شِعْرًا:

إِذَا مَاتَ ابْنَهَا صَرَخَتْ عَلَيْهَ

وَمَاذَا تَسْتَفِيدُ مِنَ الصُّرَاخِ

سَتَتْبَعُهُ كَعَطْفِ الْفَاءِ لَيْسَتْ

بِمُهْل أَوْ كَثْم عَلَى التَّرَاخِي

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة ويحرم شق الثوب ونحوه ويحرم لطم الخد والصراخ ونتف الشعر ونشره لما ورد عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» .

وعن أبي بردة قال: وجع أبو موسى وجعًا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطيع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة.

وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه: «من ينح عليه يعذب بما نيح عليه» . وفي صحيح البخاري عن النعمان بن بشير قال: أغمى على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه. فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيل أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه.

وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة: وا عضداه وا ناصراه وا اكسياه جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها» . رواه أحمد.

وسن أن يصلح لأهل الميت طعامًا يبعث به إليهم ويكره لهم فعله للناس لما ورد عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي أبي حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم» . رواه الخمسة إلا النسائي قال الزبير: فعمدت سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى شعير وأدمته بزيت جعل عليه وبعثت به إليهم.

ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: فما زالت السنة فينا حتى تركها

ص: 330

من تركها وسواء كان الميت حاضرًا أو غائبًا وأتاهم نعيه وينوى فعل ذلك لأهل الميت لا لمن يجتمع عندهم فيكره لأنه إعانة على مكروه وهو اجتماع الناس عند أهل الميت نقل المروزي عن أحمد هو من أفعال الجاهلية.

يَسُرُّ الْفَتَى بِالْعَيْشِ وَهُوَ مُبِيدُهُ

وَيَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَمَا هِيَ دَارَهُ

وَفِي عِبَرِ الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ وَاعِظٌ

إِذَا صَحَّ فِيهَا فِكْرهُ وَاعْتِبَارُهُ

فَلا تَحْسَبَنَّ يَا غَافِلَ الدَّهْرِ صَامِتًا

فَأَفْصِحُ شَيْءٍ لَيْلَهُ وَنَهَارُهُ

اصْخِ لِمُنَاجَاةِ الزَّماَنِ فَإِنَّهُ

سَيُغْنِيكَ عَنْ جَهْرِ الْمَقَالِ سِرَارُهُ

أَدَارَ عَلَى الْمَاضِينَ كَأْسًا فَكُلُّهُمُ

أبيحتْ مَغَانِيهُ وَأَقْوَتُ دِيَارِهِ

وَلْمْ يَحْمِهِمْ مِنْ أَنْ يَسْقُوا بِكَأسِهِمْ

تَنَاوُشْ أَطْرَافِ الْقَنَا وَاشْتِجَارِهِ

اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان ووفقنا لمحبتك ومحبة من يحبك وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا من عبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ويجوز البكاء على الميت لما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: شهدت بنتًا للنبي صلى الله عليه وسلم تدفن ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر فرأيت عينيه تدمعان. رواه البخاري.

وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود.

فلما دخل عليه وجده في غشية فقال: «قد قضي» . فقالوا: لا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاءه بكوا فقال:«ألا تستمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم» . وأشار إلى لسانه. متفق عليه.

ص: 331

وأخبار النهي محمولة على بكاء معه ندب أو نياحة. وعن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها في الموت.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب» . فعاد الرسول فقال: إنها أقسمت لتأتينها.

قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل قال: فانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . متفق عليه.

شِعْرًا:

إِنْ كُنْتَ تَرْجُو مِنَ الرَّحْمَنِ رَحْمَتُهُ

فَارْحَمْ ضِعَافَ الْوَرَى يَا صَاحِ مُحْتَرِمًا

وَأَقْصِدْ بْذَلِكَ وَجْه اللهِ خَالِقُنَا

سُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ قَدْ بَرَى النَّسَمَا

وَاطْلُبْ بِذَلِكَ مِنْ مَوْلاكَ رَحْمته

فَإِنَّمَا يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ مِنْ رَحِمَا

آخر:

اصْبِرْ لِمُرّ حَوَادِثٍ تَجْرِي

فَلْتَحْمِدَنَّ مَغَبَّةَ الصَّبْرِ

واجْهَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَيْتَتِهَا

وَاذْخَرْ لِيَوْمِ تَفَاضُلَ الذُّخْرِ

فَكَأَنَّ أَهْلَكَ قَدْ دَعَوْكَ فَلَمْ

تَسْمَعْ وَأَنْتَ مُحَشْرِجَ الصَّدْرَ

وَكَأَنَّهُمُ قَدْ قَلَّبُوكَ عَلَى

ظَهْرِ السَّرِيرِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي

وَكَأَنَّهُمْ قَدْ زَوَدُوَكَ بِمَا

يَتَزَوَّدُ الْهَلْكَى مِنَ الْعِطْرِ

يَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ إِذَا

غُسِلْتَ بِالْكَافُورِ وَالسِّدْرِ

أَوْ لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ عَلَى

نَبْشِ الضَّرِيحِ وَظُلْمَةِ الْقَبْرِ

يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا أَقُولُ إِذَا

وَضِعَ الْكِتَاب صَبِيحَةِ الْحَشْرِ

مَا حُجَّتِي فِيمَا أَتَيْتُ عَلَى

عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَمَا عُذْرِي

ص: 332

ج

يَا سَوْأَتَا مِمَّا اكْتَسَبْتُ وَيَا

أَسَفِي عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عُمْرِي

أَلا أَكُونُ عَقِلْتُ شَأْنِي فَاسْتَقْبَلْتُ

مَا اسْتَدْبَرْتُ مِنْ أَمْرِي

اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

ولما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت: فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه. فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . فلما مات صلى الله عليه وسلم قالت: يا أبتاه أجاب رب دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.

فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فاطمة رضي الله عنها: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب.

ولما بلغت أبا بكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نائمًا عند ابنه خارجة بالسنخ جاء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه ووضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه وخنقه البكاء ثم خرج للناس وعمر يكلمهم فقال: اجلس يا عمر. قال أبو بكر أما بعد:

من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} .

قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. ويقول حافظ إبراهيم في عمر حول هذه

ص: 333

الآية وبيعة أبي بكر وإسراع عمر رضي الله عنه في مبايعة أبي بكر يوم السقيفة وَلَمِّهِ شَعَثَ المسلمين عند الاختلاف.

وَمَوْقِفٍ لَكَ بَعْد الْمُصْطَفَى افْتَرَقَتْ

فِيهِ الصَّحَابَةُ لَمَّا غَابَ هَادِيهَا

بَايَعْتُ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ فَبَايَعُهُ

عَلَى الْخِلافَةِ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا

(وَأَطْفَئْتُ فِتْنَة لَوْلا إِلَهُ غَشّتْ)

بَيْن الْقَبَائِل وَانْسَابَتْ أَفَاعِيهَا

بَاتَ النَّبِيُ مُسَجَّى فِي حَظِيَرِتِهِ

وَأَنْتَ مُسْتَعر الأَحْشَاءِ دَامِيهَا

تَهِيمُ بَيْنَ عَجِيجِ النَّاسِ فِي دَهَشٍ

مِنْ نَبَأة قَدْ سَرَى فِي الأَرْضِ سَارِيَهَا

تَصِيحُ مِنْ قَال نَفْس الْمُصْطَفَى قُبِضَتْ

عَلَوْتَ هَامَتَهُ بِالسَّيْفِ أَبْرِيهَا

أََنْسَاكَ حُبُّكَ طَهَ أَنَّهُ بَشَرٌ

يَجْرِي عَلَيْهِ شُؤُونَ الْكَوْنِ مُجْرِيهَا

وَأَنَّهُ وَارِدٌ لا بُدَّ مَوْرِدَهُ

مِنَ الْمَنِيَّةِ لا يَعْفِيهِ سَاقِيهَا

نَسِيتَ فِي حَقِّ طَهَ آيَةً نَزَلَتْ

وَقَدْ يُذَّكَرُ بِالآيَاتِ نَاسِيهَا

ص: 334

ذَهَلْتُ يَوْمًا فَكَانَتْ فِتْنَةً عَمَمٌ

وَثَابَ رُشْدُكَ فَانْجَابَتْ دَيَاجِيهَا

فَلِسَقِيفَةِ يَوْمًا أَنْتَ صَاحِبُهُ

فِيهِ الْخِلافَة قَدْ شِيدَتْ أَوَاسِيهَا

مَدَّتْ لَهَا الأَوْسُ كَفًا كَي تَنَاوَلَهَا

فَمَدَّتِ الْخَزْرَجُ الأَيْدِي تُبَارِيهَا

وَظَنَّ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ صَاحِبَهُمْ

أَوْلَى بِهَا وَأَتَى الشَّحْنَاء آتِيهَا

حَتَى انْبَرَتْ لَهُمْ فَارْتَدَّ طَامِعُهُمْ

عَنَهَا وَآخَى أَبُو بَكْرٍ أَوَاخِيهَا

وَقَوْلُهُ لِعَلِيٍّ قَالَهَا عُمَرُ

أَكْرِمْ بِسَامِعِهَا أَعْظِمْ بِمُلْقِيهَا

حَرَّقْتَ دَارَكَ لا أُبْقِي عَلَيْكَ بِهَا

إِنْ لَمْ تُبَايِعْ وَبِنْت الْمُصْطَفَى فِيهَا

مَا كَانَ غَيْرُ أَبِي حَفْصٍ يَفُوهُ بِهَا

أَمَامَ فَارِسِ عَدْنَانٍ وَحَامِيهَا

كِلاهُمَا فِي سَبِيلِ الْحَقِّ عَزْمَتُهُ

لا تَنْثَنِي أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ ثَانِيهَا

اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين. اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا

ص: 335

ججولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

موعظة

عباد الله إن القلوب إذا قست واستولى عليها حب الدنيا دواؤها النافع بإذن الله ذكر الله جل وعلا وتلاوة كتابه العزيز وزيارة المقابر لترى فيها بعينك ما صار أليه الأكابر والأصاغر ترى فيها الملوك والوزراء والوجهاء والجبابرة والظلمة والمتكبرين والفسقة صرعى في ضيق تلك الحفائر وقد كانت الدنيا على سعتها تضيق عما لهم من آمال وأماني.

وترى هناك أحباء الله وأولياءه وعباده الصالحين الكل حكم عليه العزيز الحكيم القهار بالموت فلبوا طائعين أو مكرهين وأصبح الكل منفردًا لا أنس له إلا ما قدمه من الأعمال فالمطيع لله الذي امتثل ما أمر الله به وانتهى عما نهى الله عنه في روضة من رياض الجنة وعنده عمله الصالح.

وأما الآخر فلو أنطقه الله لقال لك كلامًا تقطع له القلوب حسرات يقول: إن الحكم العدل جازاني بما استحق وإني بعذاب لا تحتمله الجبال الراسيات وإني مستحق لذلك لأني اغتررت بالدنيا وزخارفها فلم اعبأ بأوامر ربي ولا نواهيه واقتحمت الموبقات لذا صرت إلى ما لو رأيته لصعقت وذهلت وغشي عليك، وملئت رعبًا واشتعل شعرك شيبًا ولم تنتفع بعد قوله بأكل وشرب ورأيت أحداقًا على الخدود سائلة، ورأيت أعظمًا غير متماسكة وأوصالاً متقطعة ورأيت جماجمًا قد علاها الدود

ص: 336

والخشاش كأنها الأنابيب، ورأيت ما كان مجتمعًا متفرقًا رميمًا ورأيت الصديد والقيح يجري فيا له من منظر ما أفزعه ويا له من سفر ما أطوله.

والعجب ممن يزور القبور ويسمع ذلك ويصدق به ويأكل ويشرب وينام مطمئنًا ما كأنه سيساكنهم عن قريب، ماتت القلوب فأصبحت لا تنتفع بالوعظ والتذكير ولا بزاجر الموت وهو أبلغ زاجر للأحياء، فزر يا أخي القبور معتبرًا وانتبه من هذه الغفلة، الموت مهما مد في عمرك لابد أن يأتيك فكن منه على حذر فإنه لا يؤمن أن يفجأك وأنت سارح في أودية الدنيا. وما أكثر موت الفجأة في زمننا بواسطة السيارات والقز والكهرباء والطائرات ونحو ذلك.

شِعْرًا:

تَحُومُ عَلَيْنَا لِلْمَنَايَا حَوَائِمُ

كَأَنَّا حُبُوبُ وَالْحَمَامُ حَمَائِمَ

وَلَمْ أَرَ كَالدًّنْيَا حِبَالَة صَائِدٍ

تَرَى النَّمْلَ فِي إِشْرَاكِهَا وَالضَّرَاغِمُ

وَلَوْ عَلِمَتْ مِنْهُ الْبَهَائِمُ عِلْمَنَا

إِذَا هَزَلَتْ خَوْف الْمَنُونِ الْبَهَائِمُ

حَيَاةٌ وَمَوْتٌ ذَا لِذَاكَ مُبَايِنٌ

وَبَيْنَهُمَا لِلنَّائِبَاتِ تَلازُمُ

فَيَا صَاحِبِي رَافِقْ رَفِيقًا يَمَانِيًّا

فَإِنَّكَ لِلْبَرْقِ الشَّامِي شَائِمُ

وَنَادِمْ نَدَامَاكَ التُّقَا وَصِحَابَهُ

فَإِنَّكَ يَوْمًا لِلْمَنَايِا مُنَادِمُ

ص: 337

آخر:

هُوَ الْمَوْتُ فَاحْذَرْ أَنْ يَجِيئَكَ بِغْتَةً

وَأَنْتَ عَلَى سُوءٍ مِنَ الْفِعْلِ عَاكِفُ

وَإِيَّاكَ أَنْ تَتْرَكَ مِنَ الدَّهْرِ سَاعَةً

وَلا لَحْظَةً إِلا وَقَلْبُكَ وَاجِفُ

وَبَادِرْ بِأَعْمَالٍ يَسُرُّكَ أَنْ تَرَىَ

إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابْ الصَّحَائِفُ

آخر:

فَمَا مِنْ صَبَاحٍ جَاءَ إِلا مُؤَدِّبًا

لأَهْلِ الْعُقُولِ النَّافِذَاتِ الْبَصَائِرُ

أُبِيدَتْ قُرُونُ قَبْلُ قَدْ كُنْتَ بَعْدَهَا

وَأَنْتَ عَلَى لَهْوِ الْقُرُونِ الأَصَاغِرُ

كَأَنَّكَ لَمْ تَدْفِنْ حَمِيمًا وَلَمْ تَكُنْ

لَهُ فِي حِيَاظِ الْمَوْتِ يَوْمًا بِحَاضِرِ

نَسِيتَ لَظَى عِنْدَ ارْتِكَابِكَ لِلْهَوَى

وَأَنْتَ تُوَقَّى حَرَّ شَمْسِ الْهَوَاجِرِ

آخر:

كَأَنَّكَ قَدْ رَحِلْتَ عَنِ الْمَبَانِي

وَوَارَتْكَ الْجَنَادِلُ وَالصَّعِيدُ

وَنَادَاك الْحَبِيبُ فَلَمْ تُجِبْهُ

وَقُرْبُكَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا بَعِيدُ

وَأَصْبَحَ مَالُكُ الْمَجْمُوعُ نَهْبًا

وَعَطَّلَ بعداك القصر المشيد

وَصَارَ بَنُوكَ أَيْتَامًا صِغَارًا

وَعَانَقَ عِرْسَكَ الْبَعَلُ الْجَدِيدُ

وَأَكْبَرَ مِنْهُ أَنَّكَ لَسْتَ تَدْرِي

شَقِيٌ أَنْتَ وَيْحَكِ أَمْ سَعِيدُ

ص: 338

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم في دار القرار. اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

(فَصْلٌ)

وروي أنه لما قبض أبو بكر رضي الله عنه وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستعجلاً مسترجعًا حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر.

فقال: رحمك الله يا أبا بكر فلقد كنت ألف رسول صلى الله عليه وسلم وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره، وكنت أول القوم إسلامًا وأخلصهم إيمانًا وأشدهم لله يقينًا وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأحسنهم صحبة وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابقًا وأرفعهم درجة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقًا وفضلاً وهديًا وسمتًا وأكرمهم عليه فجزاك الله عن رسوله وعن الإسلام والمسلمين خيرًا.

صَدَّقْتَ رسول الله حين كذبه الناس وواسيته حين بخلوا وقمت معه حين قعدوا وكنت عنده بمنزله السمع والبصر وسماك الله في كتابه صديقًا فقال {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} .

وصحبته في الشدة أكرم صحبة ثاني اثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة.

ص: 339

وخلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتدوا فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي نهضت حين وهن أصحابه وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا.

ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت خليفة رسول الله حقًا لن تنازع ولن تضارع برغم المنافقين وكبت الحاسدين قمت بالأمر حين فشلوا واتبعوك فهدوا كنت أخفضهم صوتًا وأقلهم كلامًا وأصدقهم منطقًا وأبلغهم قولاً وأشجعهم نفسًا وأشرفهم عملاً.

كنت للمؤمنين رحيمًا حين صاروا عليك عيالاً، حملت أثقال ما عنه ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وعلمت ما جهلوا، وصبرت إذا جزعوا ورجعوا برأيك رشدهم فظفروا ونالوا برأيك ما لم يحتسبوا.

كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك وكنت كما قال ضعيفًا في بدنك قويًا في أمر الله عز وجل متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله عز وجل جليلاً في أعين الناس كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عندك سواء.

وأقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم، شأنك الحق وبالصدق والرفق اعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان فسبقت والله سبقًا بعيد واتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا رضينا عن الله قضاءه وقدره وسلمنا له أمره.

والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 340

بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا وحرزًا وكهفًا فألحقك الله بنبيك صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك. فسكت الناس حتى قضى كلامه ثم بكوا حتى علت أصواتهم. وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما مرض أبو بكر رضي الله عنه ترك التطبب تسلمًا لأمر الله تعالى فعاده الصحابة رضي الله عنهم فقالوا: ألا ندعوا لك طبيبًا ينظر إليك فقال: نظر إلي. قالوا: وما قال؟ قال: إني فعال لما أريد. واستخلف في مرضه عمر بن الخطاب بمشاورة جماعه من الصحابة.

شِعْرًا:

لِلْمَوْتِ فَاعْمَلْ بِجِدٍّ أَيُّهَا الرَّجُلُ

وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ مُرْتَحِلِ

إِلِى مَتَى أَنْتَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ

تُمْسِي وَتُصْبِحُ فِي اللذَاتِ مُشْتَغِلُ

كَأَنَّنِي بِكَ يَا ذَا الشَّيْبِ فِي كُرَبٍ

بَيْنَ الأَحِبَّةِ قَدْ أَوْدَى بِكَ الأَجَلُ

لَمَّا رَأَوْكَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ جَزَعُوا

وَوَدَّعُوكَ وَقَالُوا قَدْ مَضَى الرَّجُلُ

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ

مَا دَامَ يَنْفَعُكَ التِّذْكَارُ وَالْعَمَلُ

إِنَّ التَّقِيَّ جِنَانُ الْخُلْدِ مَسْكَنُهُ

يَنَالُ حُورًا عَلَيْهَا التَّاجُ وَالْحُلَلُ

ص: 341

ج

وَالْمُجْرِمِينَ بِنَارٍ لا خُمُودَ لَهَا

فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ تَشْتَعِلُ

روي أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله باع دارًا بمأتيين ألف درهم فقيل له لو اتخذت من هذا المال ذخرًا فقال أنا أجعل هذا المال ذخرًا لي عند الله واجعل الله سبحانه ذخرا لولدي ثم تصدق بالمال كله.

شِعْرًا:

تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَا فِإِنَّنِي

أَرَى كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءَ غِطَاؤء

وَقَارِنْ إِذَا قَارَنْتَ حُرًّا فِإِنَّمَا

يُزَيِّنُ وَيَزْرِي بِالْفَتَى قناؤه

وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرُءِ فِي النَّاسِ بُخْلَهُ

وَيَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤه

آخر:

وَقَائِلَةٌ مَا بَالَ مالك نَاقِصًا

وَأَمْوَال كُلّ الْعَالَمِينَ تَزِيد

فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي أَجُودُ بِمَا حَوَتْ

يَدِي وَبَعْضُ النَّاسِ لَيْسَ يَجُودُ

آخر:

الْمَالُ يَغْشَى رِجَالاً لا سَمَاحَ لَهُمْ

كَالسَّيْلِ يَغْشَى أُصُولَ الدَّمْدَمِ الْبَالِي

أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لا أُدَنِّسُهُ

لا بَارَكَ الله بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمالِ

أَحْتَالُ لِلْمَالِ إِنْ أَوْدَى فَأَكْسَبُهُ

وَلَسْتُ لِلْعِرْضِ إِنْ أَوْدَى بِمُحْتَالٍ

جاءت امرأة إلى الليث بن سعد بإناء صغير تطلب منه عسلاً وقالت: إن زوجي مريض فأمر لها بقربة ملآنة عسلاً فقيل له إنها طلبت قدحًا صغيرًا فقال إنما طلبت على قدرها ونحن أعطيناها على قدرنا. وجاء رجل إلى سعيد بن العاص يسأله شيئًا فأمر له بخمسمائة وأطلقه فقال الرجل مستفهمًا من سعيد هذه دنانير أو درهم فقال سعيد ما أردت إلا الدراهم ولكن حيثما ترددت أنت في ذلك فغيرها دنانير فجلس الرجل يبكي فقال سعيد: ما يبكيك. فقال: أبكي على رجل مثلك ينزل تحت التراب.

ص: 342

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وقال أبو بكر رضي الله عنه نعم الولي عمر أما أنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن عمر رآى لينًا فاشتد ولو كان واليًا للان لأهل اللين ثم دعا بعثمان بن عفان رضي الله عنه.

فقال له: اكتب هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد فإني قد استخلفت عليكم ثم أغمي عليه فكتب عثمان عمر بن الخطاب لما سمع منه قبل ذلك ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر فقال: جزاك الله عن الإسلام وأهله خيرًا.

ثم رفع أبو بكر يديه فقال: اللهم إني وليت خيرهم ولم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم الفتنة وفعلت فيهم ما أنت أعلم وقد حضرني في أمري ما قد حضر فاجتهدت لهم والرأي ووليت عليهم خيرهم، هو أقواهم عليهم وأحرصهم على رشدهم ولم أرد محاباة عمر وأنا خارج من الدنيا وداخل في الآخرة فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك.

أصلح لهم واليهم عمر، واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبيه نبي الرحمة وهدى الصالحين بعده وأصلح له أمر رعيته، وكتب بهذا العهد إلى أمراء الأجناد إني قد وليت عليكم خيركم ولم آل نفسي ولا المسلمين خيرًا

ص: 343

ثم دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني مستخلفك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر إن لله حقًا في الليل لا يقبله في النهار وحقًا في النهار لا يقبله في الليل وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بأتباعهم الحق وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً.

وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا، يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا فلا ترغب فتتمنى على الله فيها ما ليس لك ولا ترهب رهبة تلقى فيها ما بيدك.

يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوء أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون من هؤلاء.

وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت أي عمل من أعمالهم أعمل فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، وهو نازل بك وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه.

وكان رضي الله عنه يقول: اعلموا عباد الله إن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم وأخذ على ذلك مواثيقكم واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه ولا يطفئ نوره فصدقوا قوله واستنصحوا كتابه واستضيئوا منه ليوم الظلمة.

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما مرض أبو بكر مرضه

ص: 344

الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي فنظرنا فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه وإذا ناضج كان يسقي بستانًا فبعثناهما إلى عمر فبكى عمر.

وقال: رحمة الله على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أكيس الكيس التقوى فذكر الحديث وفيه فلما أصبح غدا إلى السوق فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق قد جاءك ما يشغلك عن السوق.

قال: سبحان الله يشغلني عن عيالي. قال: نفرض بالمعروف. قال: ويح عمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا. قال: فانفق في سنتين أخرى ثمانية آلاف درهم.

فلما حضره الموت قال: قد كنت قلت لعمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا فغلبني فإذا أنا مت فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال قال فلما أتى عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا.

وأخرج بن سعد عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره فتمثلت بهذا البيت:

لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءَ عَنِ الْفَتَى

إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

آخر:

وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَمْ تُثْنِهَا

خَيْلٌ مُطَهَّمَةٌ وَلا أَمْوَالُ

فنظر إليها ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين ولكن:

{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} إني كنت

ص: 345

نحلتك حائطًا في نفسي منه شيئًا فرديه إلى الميراث. قالت: نعم. فرددته. فقال: إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا ولكننا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندي من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضج وجرد هذه القطيفة فإذا مت فابعثي بهن على عمر وابرئي منهن. ففعلت.

فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده يا غلام ارفعهن. فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر حبشيًا وبعيرًا ناضحًا وجرد قطيفة ثمن خمسة دراهم.

قال: فما تأمر؟ قال: تردهن على عياله. فقال: لا والذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق:- أو كما حلف - لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا خرج أبو بكر منهن عند الموت وأردهن أنا على عياله، الموت أقرب من ذلك

آخر:

تِلْكَ الرِّجَالُ وَغَبَنٌ أَنْ يُقَالُ لِمَنْ

لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَالِي وَصْفُهُمْ رَجُلٌ

والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم.

موعظة

ابن آدم كأنك بالموت وقد فجأك وألحقت بمن قد سبقك من الأمم ونقلك من الفلل والعمائر إلى بيت الوحدة والوحشة والظلم ومن ذلك

ص: 346

إلى عسكر الموتى مخيمة بين الخيم مفرقًا من مالك ما اجتمع ومن شملك ما انتظم وليس لك قدرة فتدفعه بكثرة الأموال ولا بقوة الخدم وندمت على التفريط ولات ساعة ندم.

فيا عجبًا لعين تنام وطالبها مجد في طلبها لم ينم، متى تحذر مما توعد وتهدد، ومتى تضرم نار الخوف في قلبك وتتوقد، إلى متى حسناتك تضمحل وسيئاتك تتجدد، وإلى متى لا يهو لك زجرًا الواعظ وإن شدد وإلى متى وأنت بين الفتور والتواني تردد متى تحذر يومًا تنطق فيه الجلود وتشهد ومتى تقبل على ما يبقى وتترك ما يفنى وينفد.

متى تهب بك في بحر الوجد ريح الخوف والرجا متى تكون في الليل قائمًا إذا سجى أين الذين عاملوا مولاهم بالإخلاص وانفردوا وقاموا في الدجى فركعوا وسجدوا وقدموا إلى بابه في الأسحار ووفدوا وصاموا هواجر النهار فصبروا واجتهدوا، لقد ساروا وتخلفت وفاتك ما وجدوا وبقيت في أعقابهم وإن لم تسرع وتجتهد بعدوا.

فتنبه وتيقظ يا مسكين قبل أن يفاجئك هادم اللذات فلا تقدر على استدراك لما فات، قال الله جلا وعلا {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .

وَمُسْنَدُونَ تَعَاقَرُوا كَأْسَ الرَّدَى

وَدَعَا بِشُرْبِهِمْ الْحَمَامُ فَأَسْرَعُوا

بَرَكَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمُوا بِجُرَّانِه

وَهَفَتْ بِهِمْ رِيحُ الْخُطُوبِ الزَّعْزَعُ

خُرْسٌ إِذَا نَادَيْتَ إِلا أَنَّهُمْ

وَعَظُموا بِمَا يَزعُ اللَّبِيبِ فَأْسَمَعُوا

وَالدَّهْر يَفْتِكُ بِالنُّفُوسِ حَمَامُهُ

فَلِمَنْ تُعَدُّ كَرِيمةٌ أَوْ تُجْمَعُ

عَجَبًا لَمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالَهُ

وَيَظَلُّ يَحْفَظُهُنَّ وَهُوَ مُضَيِّعُ

وَلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِّ ثَنِيّةِ

مُلْقًى لَهُ بَطْنُ الصَّحَائِفِ مَضْجَعُ

أَتَرَاهُ يَحْسُبُ أَنَّهُمْ مَا أَسْأَرُوا

مِنْ كَأْسِهِ أَضْعَافَ مَا يَتَجَرَّعُ

اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم،

ص: 347

ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ)

وقال ابن القيم: أعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، وقال الله تعالى (39: 22) {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} .

وقال {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} .

فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر.

ومنها النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من القلب ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصبعه.

وقد روى الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» . قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» .

ص: 348

فنصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النور الحسي والظلمة الحسية، هذه تشرح الصدر وهذه تضيقه.

ومنها العلم فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع.

وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم وأطيبهم عيشًا.

قلت ولله در القائل:

اجْعَلْ جَلِيسَكَ دَفْتَرًا فِي نَشْرِهِ

لِلْمَيِّتِ مِنْ حُكْمِ الْعُلُومِ نُشُورُ

فَكِتَابُ عِلْمِ لِلأَدِيبِ مُؤَآنِسٌ

وَمُؤَدَّبٌ وَمُبَشِّرُ وَنَذِيرُ

وَمُفِيدَ آدَابَ وَمُؤْنِس وَحْشَة

وَإِذَا انْفَرَدْتَ فَصَاحِبٌ وَسَمِيرٌ

وَمِنْهَا الإِنَابَة إلى الله تعالى، ومحبته بكل القلب والإقبال عليه، والتنعم بعبادته فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك حتى ليقول أحيانًا إن كنت في الجنة في مثل هذه الحال فإني إذا في عيش طيب.

وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم لا يعرفه إلا من له حس به.

وكلما كانت المحبة أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح، ولا

ص: 349

يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن فرؤيتهم قذى عينه، ومخالتطهم حمى روحه.

ومن أعظم أسباب ضيق الصدر، الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئًا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير.

فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشًا ولا أتعب قلبًا.

فهما محبتان محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ونعيم الروح وغذاؤها، ودواؤها، بل هي حياتها، وقرة عينها، وهي محبة الله وحده، بكل القلب، وانجذاب قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلها إليه.

ومحبة هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سوى الله سبحانه.

ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه، وحبسه وعذابه.

ومنها الإحسان على الخلق ونفعهم، بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرًا وأنكدهم عيشًا وأعظمهم همًا وغمًا.

وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلاً للبخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد، كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت، حتى يجر ثيابه ويعفي أثره

ص: 350

وكلما هم البخيل بالصدقة لزقت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه.

فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق، وانفساح قلبه، ومثل ضيق صدر البخيل، وانحصار قلبه.

ومنها الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان، أضيق الناس صدرًا واحصرهم قلبًا، لا فرحة ولا سرور، ولا لذة، ولا نعيم، إلا جنس الحيوان البهيم.

ومنها اخراج دغل القلب من الصفات المذمومة، التي توجب ضيقه، وعذابه، وتحول بينه وبين البرء.

ومنها ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع والمخالطة والأكل والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب تحصره، وتحبسه، وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها.

فلا إله إلا الله، ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم، وما أنكد عيشه، وما أسوء حاله، وما أشد حصر قلبه، ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها.

فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى (83: 13) : {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وبينهما مراتب متفاوتة، ولا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى.

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب وقرة العين، وحياة الروح فهو أكمل الخلق في هذا الشرح وقرة العين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 351

فائدة عظيمة النفع

وقال رحمه الله: ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى.

وهي أمور ذاتية للرب وذات الرب سبحانه، مستلزمة للحكمة والخير والجود.

وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه.

فمن أراد الله به خيرًا أعطاه هذا الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة.

ومن أراد به شرًا أمسكه عنه وخلاه، ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح.

وليس منعه لذلك ظلمًا منه سبحانه فإنه فضله وليس من منع فضله ظالمًا لاسيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به.

وأيضًا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلي بينه وبين نفسه وهذا محض فعله وفضله.

وهو سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر به ويزكو. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الأنعام (35) .

فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر النعمة ويشكره عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع والذل

ص: 352

والمحبة. فمن لم يعرف النعمة. بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.

ومن عرفها لم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها.

ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضي به وعنه لم يشكرها أيضًا.

ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته هو الشكر لها.

فلا بد في شكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل على المنعم ومحبته والخضوع له.

كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة» .

فقوله: «أبوء لك بنعمتك علي» . يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته. فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه.

فهو معبوده وهو مستعانه لا صلاح له إلا بعبادته ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته.

ومن العلوم أن أجل نعمه على عبده نعمة الإيمان به ومعرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته.

ص: 353

ومن المعلوم أيضًا أن الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث منه ومنها الطيب. وبين ذلك وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي والقلب الخسيس الخبيث.

وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم وإبداعها عندها ويزكو بذرها فيها فيكون تخصيصه لها بهذه النعمة كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر.

فليس من الحكمة أن يبذر البذر في الصخور والرمال والسباخ وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال. فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثًا.

فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه. ومن لا يصلح لذلك.

وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوارثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم.

فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته وتوحيده حبب إليه ذلك ووضعه فيه وكتبه في قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك.

ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أحسن من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه.

فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به فيزداد العبد به معرفة وله محبة وإليه إنابة وعليه توكلاً. ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه.

ص: 354

وهذا هو الذي عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها في مرضاته.

اقتضت حكمة الرب وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر في هذا القلب نور الإيمان والمعرفة وسقاه بالعلم النافع والعمل الصالح وأطلع عليه من نوره شمس الهداية وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة.

فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم فمن لم ينبت قلبه شيئًا من الخير البتة فهذا من أشقى الأشقياء.

فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاء والعصمة في كلامه وفي أمثاله.

والمقصود أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه ومن يصلح لها ومن لا يصلح وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.

وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحًا وجعله أهلاً وقابلاً فمنه الإعداد والإمداد ومنه السبب والمسبب.

وقال رحمه الله كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين إما أن تكون طبيعته يابسة غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها.

وإما أن تكون لينة منقادة سلسلة القيادة لكنها غير ثابتة على ذلك بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب.

فمتى رزق العبد انقيادًا للحق وثباتًا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقال: صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها

ص: 355

وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته.

واستحدثت همة أخرى وعلومًا أخر وولد أخرى نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه فيولد قلبه ولادة حقيقة وكما أن بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة.

فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أن قال: يا بني إسرائيل إنكم لن تلجوا من ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين.

ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها فضلاً عن أن يصدقوا بها فيقول القائل كيف يولد الرجل الكبير أو كيف يولد القلب لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة إذا كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد.

والمقصود أن صدق التأهب لقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية مقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعماله القلوب والجوارح.

فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله المفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه

شِعْرًا:

وَأَهْوَى مِنَ الشُّبَّانِ كُلَّ مُجَنَّبٍ

عَنِ اللَّهْوِ مِقْدَمًا عَلَى كُلِّ طَاعَةِ

لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مُحَرَّمٌ

وَذَوُ رَغْبَةٍ فِيمَا يَقُودُ لِجَنَّةِ

ص: 356

تَمَسَّكَ بِهِ أَنْ تَلْقَهُ يَا أَخَا لِتَلْقَى

تَمْسُّكَ ذِي بُخْلٍ بِتِبْرٍ وفضَّةِ

وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

(فَصْلٌ)

وقال رحمه الله: طوبى لمن أنصف فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته.

فإن أخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤخذه رأى فضله.

وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فإن قبلها فمنه وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به.

وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلان له، وإمساك عصمته، وذلك من عدله فيه.

فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.

ونكتة المسألة وسرها أنه لا يرى ربه إلا محسنًا ولا يرى نفسه إلا مسيئًا ومفرطًا أو مقصّرًا.

فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوءه من ذنوبه.

وقال من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن الله خلق في صدرك بيتًا وهو القلب. ووضع في صدره عرشًا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى، فهو مستو على سرير القلب، وعلى سرير بساط من الرضا. ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه بابًا من جنة رحمته، والأنس به، والشوق إلى لقائه.

وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه من أصناف الرياحين والأشجار

ص: 357

المثمرة، من أنواع الطاعات والتهليل وللتسبيح والتحميد والتقديس.

وجعل في وسط البستان شجرة معرفته، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة، والخشية والفرح به، والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة، ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه، والعمل بوصاياه.

وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته، وإيمان به وتوحيده، فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.

ثم أحاط عليه حائطًا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان، فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرسًا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه.

ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائمًا همه إصلاح السكن ولَمَّ شعثه ليرضاه الساكن منزلاً.

وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه، خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن، ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين.

كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب، وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلاً لإلقاء الأنتان، والقاذورات فيه.

فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن ولا حافظ لها. وهي معدة لقضاء الحاجة، مظلمة الأرجاء، منتة الرائحة، وقد عمها الخراب، وملأتها القاذورات. فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام.

ص: 358

الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط الجهل وتخفق فيه الأهواء، وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات.

وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة، والركون إلى الدنيا، والطمأنينة بها، والزهد في الآخرة.

وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع، ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل، والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات، من الزوائد والانتدابات، والنوادر والهزليات والمضحكات، والأشعار الغزليات، والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات، وتزهد في الطاعات.

وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون، والذهاب مع كل ريح، وإتباع كل شهوة.

ومن ثمرها الهموم والغموم، والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها. فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق، ومعيشة ضنك.

وأجري إلى هذه الشجرة ما يسقيها من إتباع الهوى، وطول الأمل والغرور.

ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان، ولا مؤذ ولا قذر.

فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت، فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه، وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه

ص: 359

ومن جهل ذلك، جهل نفسه وأضاع سعادته. والله الموفق.

وقال: أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع فاقترفوا فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.

وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.

فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت، صاروا على النعيم المقيم، وقرة الأعين كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة الدنيا.

فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم. فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل منهما، ومن تقابل؛ إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين، فأنت مع أحدهما لا محالة.

فقسم استغشوا الهوى فخالفوه، واستنصحوا العقل فشاوروه وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا وجوارحهم للعمل بما أمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة.

واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال وسكنوا الدينا وقلوبهم مسافرة عنها.

واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها.

ص: 360

فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها، أن آنسهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوقهم على لقائه، ونعمهم بقربه.

وفرغ قلوبهم مما ملأ به قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها، والغم من خوف ذهابها.

فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم.

فائدة: قال رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته.

وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله على نفسه.

فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.

فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره.

فكل من أعرض عن عبوديته الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.

قال تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} .

قال سفيان بن عيينة: لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن.

ص: 361

فقال له قائل فأين في القرآن أعط أخاك تمرة فإن أبى فجمرة.

فقال في قوله تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية.

شِعْرًا:

وَفِي السِّقَمِ وَالآفَاتِ أَعْظَمُ حِكْمَةٍ

مُيَقَّظَةٍ ذَا اللُّبِّ عِنْدَ التَّفَقُّدِ

يُنَادِي لِسَانُ الْحَالِ جِدُّوا لِتَرْحَلُوا

عَنِ الْمَنْزِلِ الْغَثِّ الْكَثِيرِ التَّنَكُّدِ

أَتَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ بِالسِّقَمِ مُخْبِرًا

بِأَنَّكَ تَتْلُو الْقَوْم فِي الْيَوْمِ أَو غَدِ

فَخُذْ أُهْبَةً فِي الزَّادِ فَالْمَوْتُ كَائِنٌ

فَمَا مِنْهُ مِنْ مَنْجَا وَلا عَنْهُ عُنْدَدِ

فَمَا دَارُكُمْ هَذِهِ بِدَارِ إِقَامَةِ

وَلَكِنَّهَا دَارُ ابْتِلا وَتَزَوُّدِ

أَمَا جَاءَكُمِ مِنْ رَبِّكُمْ وَتَزَوَّدُوا

فَمَا عُذْرُ مَنْ وَافَاه غَيْرَ مُزَوَّدِ

وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلٌ

تُقَرِّبُ مِنْ دَارِ اللِّقَا كُلّ مُبْعَدِ

وَمَنْ سَارَ نَحْوَ الدَّارِ سِتِّينَ حِجَّةً

فَقَدْ حَانَ مِنْهُ الْمُلْتَقَى وَكَأَنَ قَدْ

وَمَا النَّاسُ إِلا مِثْلَ سَفْرٍ تَتَابَعُوا

مُقِيمٌ لِتَهْوِيمٍ عَلَى إثْرِ مُغْتَدِي

ص: 362

وَمَنْ يَكُ عِزْرَائِيلُ كَافِلَ رُوحِهِ

فَإِنْ فَاتَهُ فِي الْيَوْمِ لَمْ يَنْجُ مِنْ غَدِ

وَمَنْ رُوحُهُ فِي الْجِسْمِ مِنْهُ وَدِيعَةٌ

فَهَيْهاتَ أَمْنٌ يُرْتَجَى مِن مُرَدِّدِ

فَمَا حَقُّ ذِي لُبٍّ يَبِيتُ بِلَيْلَةٍ

بِلا كَتْبِ إِيصَاءِ وَإِشْهَادِ شُهَّدِ

وَوَاجِبُ الإِيصَا عَلَى الْمَرْءِ إِنْ يَكُنْ

عَلَيْهِ حُقُوقٌ وَاجِبَاتُ التَّرَدُّدِ

وَلا بَأْسَ أَنْ يَخْبَا الْفَتَى كَفَنًا لَهُ

لِحِلٍّ وَآثَارِ الرِّضَى وَالتَّعَبُّدِ

فَبَادِرْ هُجُومَ الْمَوْتِ فِي كَسْبِ مَا بِهِ

تَفُوزُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاجْهَدِ

فَكَمْ غَبْنُ مَغْبُونٍ بِنَعْمَةِ صِحَّةِ

وَنِعْمَةِ إِمْكانِ اكْتِسَابُ التَّعَبُّدِ

فَنَفْسُكَ فَاجْعَلْهَا وَصِيَّكَ مُكْثِرًا

لِسَفْرَةِ يَوْمِ الْحَشْرِ طِيبَ التَّزَوُّدِ

وَمِثْلُ وُرُودِ الْقَبْرِ مَهْمَا رَأَيْتُهُ

لِنَفْسِكَ نَفَّاعًا فَقَدِّمْهُ تَسْعَدِ

فَمَا نَفَعَ الإِنْسَانُ مِثْلُ اكْتِسَابِهِ

بِيَوْمٍ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ كُلِّ مُحْتَدِ

كَفَى زَاجِرًا لِلْمَرْءِ مَوْتٌ مُحَتَّمٌ

وَقَبْرٌ وَأَهْوَالٌ تُشَاهَدُ فِي غَدِ

ص: 363

وَنَارٌ تَلَظَّى أَوْعَدَ اللهُ مَنْ عَصَى

فَمِنْ خَارِجٍ بَعْدَ الشَّقَا وَمُخَلَّدِ

وَيُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ الْفَتَى عَنْ نَبِيِّهِ

وَعَنْ رَبِّهِ وَالدِّينِ فِعْلَ مُهَدِّدِ

فَمَنْ ثَبَّتَ اللهُ اسْتَجَابَ مُوَحِّدًا

وَمَنْ لَمْ يُثَبَّتْ فَهُوَ غَيْرَ مُوَحِّدِ

وَتِلْكَ لَعَمْرِي آخِرُ الْفِتَنِ الَّتِي

مَتَى تَنْجُو مِنْهَا فُزْتَ فَوْزَ مُخَلَّدِ

فَنَسْأَلُهُ التَّثْبِيتَ دُنْيَا وَآخِرًا

وَخَاتِمَةَ تَقْضِي بِفَوْزٍ مُؤَبَّدِ

اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

في الحياء

الحياء هو انقباض النفس عن القبائح وهو صفة من صفات النفس الممدوحة لن اشمئزاز النفس عن القبائح يستلزم تركها والانصراف عنها وهو من أفضل صفات النفس وأجلها قدرًا.

وسئل بعضهم عن الحياء فقال: شيء يتولد بين رؤية النعماء ورؤية التقصير.

وقال الفضيل: علامة الشقاوة خمسة، قلة الحياء، وقسوة

ص: 364

القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل. أ. هـ.

فالحياء خلق الكرام وسمة أهل المروءة والشرف، وعنوان الفضل والنبل، ولقد صدق أهل اللغة حيث قالوا الاستحياء من الحياة، واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب والذم.

والحياء باعثه إحساس رقيق، وشعور دقيق في العين مظهره وعلى الوجه أثره، ومن حرمه حرم الخير كله، ومن تحلى به ظفر بالعزة والكرامة، ونال الخير أجمع وهو زينة النفوس يصدها عن فعل ما يشينها ويحملها على التحلي بجميل الخصال فهو أبدًا لا يأتي إلا بخير، وكفى خيرًا أن يكون على الخير دليلاً وكفى بضده البذاء أن يكون على الشر دليلاً وإليه سبيلاً ومن الحكم قولهم: من كساه الحياء ثوبه لم يرى الناس عيبه:

وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي

وَبَيْنَ رُكُوبِهَا إِلا الْحَيَاءُ

ويقول الآخر:

وَعَقْلُ الْمَرْءِ أَحْسَنُ حِلْيَتَيْهِ

وَزِينُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا الْحَيَاءُ

آخر:

وَإِنِّي لأَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أُرَى

حَلِيفَ غَوَانٍ أَوْ أَلِيفَ أَغَانِي

إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ

وَلا أَدَبُ فَذَاكَ هُوَ الْحِمَارُ

تَرَاهُ فِي ذَوِي الأَلْبَابِ ضَجْرًا

وَمُلْتَجِئًا إِلَى جَنْبِ الْجِدَارِ

أما انقباض النفس عن الفضائل فلا يسمى حياء بل هو خور وجبن فإذا كان الإنسان عند أحد العظماء من الناس الذين يتركون الصلاة ويأتون المنكرات، أو عند من يتركون صلاة الجماعة وانقبضت نفسه عن

ص: 365

فعل الخير وانبسط معهم لفعل الشر مجازاة ومطايبة لهم كان فعله جنبًا وخورًا ومداهنة ونفاقًا لا حياء ومثل ذلك ما يفعله بعض الناس من مجاملة بعضهم بعضًا في سماع المنكرات ورؤيتها وسماع الغيبة ونحوها فهذا جبن مذموم كل الذم وصاحبه شريك في الإثم عن لم ينكر أو يفارقهم.

والحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان فهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه فعندما ترى الإنسان يشمئز ويتحرج من فعل ما لا ينبغي أو ترى حمرة الخجل في وجهه صابغة إذا بدر منه ما لا يليق فاعلم أنه حي الضمير نقي المعدن زكي العنصر وإذا رأيت الرجل لا يكترث ولا يبالي فيما يبدر منه فهو امرؤ لا خير فيه وليس وازع يمنعه من ارتكاب الجرائم، واقترف الآثام الدنايا.

وينقسم الحياء على قسمين حياء من الله عز وجل لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «استحيوا من الله حق الحياء» . قالوا: إنَّا نستحي يا نبي الله والحمد لله.

قال: «ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» . رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث غريب.

والقسم الثاني: الحياء من الناس وهو بقسيمه رأس الفضائل وأساس مكارم الأخلاق لأنه يترتب عليه ما يترتب على العدل والعفة ولذا ورد عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» . متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «الحياء خير

ص: 366

كله» . أو قال: «الحياء كله خير» .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال صلى الله عليه وسلم: «دعه فإن الحياء من الإيمان» . متفق عليه.

وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» . متفق عليه. وكان صلى الله عليه وسلم أرق الناس طبعًا وأنبلهم سيرة وأعمقهم شعورًا بالواجب ونفورًا عن المحارم.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. متفق عليه. وعن زيد بن طلحة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء» . رواه مالك مرسلاً ورواه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس وابن عباس.

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» . وفي رواية ابن عباس: «فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر» . رواه البيهقي في شعب الإيمان. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت رواه البخاري.

ص: 367

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار» . رواه أحمد والترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «الحياء والعي من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» . رواه أحمد والترمذي وقال صلى الله عليه وسلم: «الحياء نظام الإيمان» .

هذا بعض ما قاله صلى الله عليه وسلم في الحياء وهو كما ترى يتضمن وعد من اتصف بالحياء بالجنة ووعيد من اتصف بضده من البذاء والجفاء بالنار. ولا شك في أن ذلك من أجل الحكم وأفضل المواعظ فما من أحد يستمسك بالحياء ولا يحيد عنه إلا عاش في دنياه عيشة سعيدة حميدة راضية مرضية وظفر في آخرته بالسعادة الدائمة إذا وفقه الله لذلك.

وقد علمت أن الحياء ينقسم إلى قسمين حياء من الناس فأما الحياء من الله فإنه يترتب عليه كل الفضائل، التي يسعد بها الناس في دنياهم وآخرتهم فإن الذي يستحي من الله لا يفعل المعاصي بل يحفظ جوارحه كلها عنها ولا يترك واجبًا ما دام يؤمن بأن الله مطلع عليه لا تخفى عليه خافية من أمره.

وأنه لا بد أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما قال تعالى {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وأنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وسواه كما قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} وأنه الذي أمده بنعمه كما قال تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}

ص: 368

وقال {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} وقال {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} .

وأنه الذي فضله على كثير من خلقه كما قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} وأنه مدين لله في وجوده وبقائه وفنائه وبعثه وأنه محتاج إلى الله في جميع حركاته وسكناته بل مضطر إليه ضرورة مستمرة.

وأنه إذا فكر في نفسه وأدرك ما انطوت عليه من دقيق الصنع وبديع التركيب كما أشار إليه قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} وعلم أنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فلا بد أن يستحي من عصيان ذلك الخالق العظيم الحكيم ولا بد أن يفعل ما أمره الله به وينتهي عما نهاه عنه وذلك هو الخير كله كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق.

وهذا واضح لأن الذي يطيع الله فيما أمر يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات فلا يظلم ولا يتكبر ولا ينافق ولا يكذب ولا يرابي ولا يرائي ولا يخون ويتجنب جميع سفساف الأمور، ويعمل بمعالي الأخلاق من العدل والتواضع والحلم والصدق والصبر والعفة ونحو ذلك.

ومن يفعل ذلك فهو ذو فضل عظيم وخير كثير على نفسه وعلى غيره يعيش في هذه الدنيا عيشة راضية ويحيا حياة هنية طيبة في الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

وقال صالح بن عبدوس:

ص: 369

إِذَا قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ

وَلا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إِذَا قَلّ مَاؤُهُ

حَيَاؤُكَ فَاحْفَظْ عَلَيْكَ فَإِنَّمَا

يَدُلّ عَلَى فِعْلَ الْكَرِيمِ حَيَاؤُهُ

اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة والإخلاص والخشوع والمراقبة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وأما الحياء من الناس فهو قسمان: الأول أن يستحي المرء من الناس وهو جازم بأنه لا يأتي هذا المنكر ولا يفعل هذه الرذيلة خوفًا من الله تعالى وحياء منه أيضًا ولو لم يطلع عليه أحد من خلق الله وهذا هو الحازم الذي عرف كيف يستفيد من صفة الحياء، ويأخذ أجرها كاملاً لأن الحياء إنما يمدح من جميع جهاته إذا ترتب عليه الكف عن القبائح التي لا يرضاها الدين الإسلامي في جميع الأحوال.

وروي أن حذيفة بن اليماني أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق عن الناس وقال لا خير فيمن لا يستحي من الناس.

إِذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا

وَتَسْتَحِي مَخْلُوقًا فَمَا شِئْتَ فَاصْنَعْ

ويقال خمسة أشياء تقبح في خمسة أصناف قلة الحياء في ذوي الأحساب والحدة في السلطان، والبخل في ذوي الأموال، والفتوة في

ص: 370

الشيوخ، والحرص في العلماء والقراء.

الثاني: أن يترك القبيح حياء من الناس بحيث لو لم يطلع عليه أحد لفعله، وهذا يحتاج إلى علاج لأنه ما دام عنده شيء من الحياء وهو حياؤه من الناس فقط فما دام لا يفعل القبائح بينهم فإنه يسهل تذكيره بعظمة ربه وجلاله وأنه أحق أن يستحيا منه لأنه القادر المطلع الذي بيده ملكوت كل شيء ويبين له لنه لا يليق بالمؤمن أن يستحي من الناس ولا يستحي من الله وليس من العقل ولا من المروءة أن يضيع ثواب ترك القبيح بانصرافه عن ملاحظة خالقه ومراقبة ربه.

أما الذي يجاهر بالمعاصي ولا يستحي من الله ولا من الناس، فهو من شر ما منيت به الفضيلة لأن المعاصي داء الانتقال لا تلبث أن تسري إلى النفوس الضعيفة فيعم شر معصية المجاهر ويتفاقم خطبها ويصعب علاجها فضلاً عما في المجاهرة من انتهاك حرمة الفضيلة والقضاء عليها فشره على نفسه وعلى الناس عظيم وخطره على الفضائل كبير.

شِعْرًا:

إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبَهَمْ

فَلا عَيْبَ إِلا دُونَ مَا مِنْكَ تُذْكَرُ

مَتَى تَلْتَمِسْ لِلنَّاسِ عَيْبًا تَجِدْ بِهِمْ

عُيُوبًا وَلَكن رُبَّمَا فِيكَ أَكْثَرُ

شِعْرًا:

إِذَا حَرَّمَ الْمَرْءُ الْحَيَاءَ فَإِنَّهُ

بِكُلِّ قَبِيحٍ مِنْهُ كَانَ جَدِير

لَهُ قِحْة فِي كُلِّ أَمْرٍ وَسِرُّهُ

مُبَاح وَخِدنَاهُ خنًا وغرُورُ

يَرَى الشَّتْمَ مَدْحًا وَالدَّنَاءَةَ رِفْعَةً

وَلِلسَّمْعِ مِنْهُ فِي الْعَطَاءِ نُفُورُ

فَرَجِ الْفَتَى مَا دَامَ حَيًّا فَإِنَّهُ

إِلَى خَيْرِ حَالاتِ الْمَبِيتِ يَصِيرُ

آخر:

إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي

وَلَمْ تَسْتَحِيي فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ

فَلا وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ

وَلا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ ُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بَخَيْرٍ

وَيَبْقَى الْعَوْد مَا بَقي الْحَيَاءُ

ص: 371

آخر:

إِذَا الْمَرْءُ وَافَى الأَرْبَعِين وَلَمْ يَكُنْ

لَهُ دُونَ مَا يَهْوَى حَيَاء وَلا سِتْرُ

فَدَعْهُ وَلا تنفس عَلَيْهِ الَّذِي أَتَى

وَإِنْ جَرَّ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ لَهُ الدَّهْرِ

ومن الناس من يتلذذون بذكر فسوقهم ومعاصيهم ويتبجحون بتعداد جرائمهم وجناياتهم فيذيعون لجلسائهم ما ستره الله عليهم فيعرضون أنفسهم لعقوبة الدنيا وللحرمان من عفو الله ورحمته، وفي هؤلاء وأمثالهم يقول صلى الله عليه وسلم كل أمتي معافي إلا المجاهرون فيجب أن لا يتركوا أولئك الذين يجاهرون بارتكاب الموبقات يعيشون بينهم بل يجب على كل واحد أن يبذل مجهودًا في ردهم عن غيهم بكل ما يستطيع من النصيحة والإرشاد وغيرها.

وخير علاج للقضاء على هؤلاء مقاطعتهم وعدم مخالتطهم وعدم إجابة دعوتهم والابتعاد عنهم واحتقارهم في مجالسهم والانصراف عن حديثهم عن ابتلى بهم حتى يرجعوا عن غيهم ويكفوا عن المجاهرة بجرائمهم.

ومن الأسف أن المجاهرة بالمعاصي قد فشت في زماننا بدون حياء من الله ولا من الناس فلا شاب ينزجر ولا شيخ يرعوي ولا رجل تدركه الغيرة ولا امرأة يغلب عليها الحياء فتتحفظ وتتستر، وهذا مؤذن بعقوبة، والله أعلم لأن الأمم تحيا حياة طيبة بالتمسك بالفضائل، وتعيش عيشة سعيدة باجتناب الرذائل فإذا انتهكت المحارم، وغلبت الشهوات، وضاع الحياء فماذا يرتجى بعد ذلك من عيش وراءه سخط الله وعقابه ومقته وعذابه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

شِعْرًا:

فَشَرُّ الْعَالَمِينَ ذَوُو نِفَاقٍ

وَإِشْرَاكٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَا

وَخَيْرُ النَّاسِ ذَوُ دِينٍ مَتِينٍ

وَتَعْظِيمٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَا

ص: 372

موعظة

عباد الله إن الحياء كما علمتم من الإيمان وإنه لا يأتي إلا بخير وأنه خلق الإسلام وذلك أنه يجر إلى الكمالات وإلى الفضائل فمن لم يكن من أهل الحياء حقيقة فليقتدي بهم وليتشبه بهم لأنهم خاصة الفضلاء.

فذو الحياء الخلقي يمنعه حياؤه من العدوان على المخلوقات ذو الحياء لا تبدر بادرة بينها وبين الفضائل تنافي ذو الحياء لا يقدم على الزنا بل ولا على مغازلة النساء التي هي مفتاح الفسوق ولا يقدم على معاملة في الربا لعلمه أن متعاطي الربى العالم بتحريمه محارب لله ورسوله.

ذو الحياء لا يغش أخاه المؤمن لعلمه بتحريم الغش وأن من غشنا فليس منا، ذو الحياء لا يعثو في لحوم الغوافل، ذو الحياء لا ينقل كلام مؤمن على أخيه لقصد الإفساد بينهم، ذو الحياء لا يعق والديه ولا يقطع ما أمر الله به أن يوصل ولا يشهد بالزور ولا يؤذ جيرانه.

صاحب الحياء يبتعد عن أكل الحرام وعن المجاهرة بالمعاصي فلا يحلق لحيته لأنه يعلم أنه بذلك عاص لله ولرسوله ولا يخنفس ولا يجعل تواليت لعلمه أن ذلك تشبه بالإفرنج ولا يستعمل الملاهي بأنواعها من تلفزيون أو سينما أو مذياع أو كرة أو بكم أو عود أو فيديو أو نحو ذلك من البدع المحرمات التي حدثت في زماننا كالمذكورات.

صاحب الحياء لا يشرب الدخان أو إن بلي به فلا يشربه في

ص: 373

الأسواق ومجامع الناس لعلمه أنه إذا جاهر به في ذلك ازداد إثمه وعظم جرمه، ذو الحياء لا يخلو بأمره لا محرم معها لا في بيت ولا في سيارة ولا في أي محل لعلمه أن خلوة بالأجنبية محرم للأحاديث الواردة في ذلك.

صاحب الحياء لا يبيع ويشتري في صور ذوات الأرواح مجسدة أو غير مجسدة ولا يبيع آلات اللهو كالتلفزيون والسينما والمذياع لعلمه أن ذلك محرم وأنه بتعاطيه ذلك يكون معينًا على نشر المعاصي في أرض الله بل ولا يصلحها لأن ذلك مساعدة على المعاصي.

والأجرة حرام التي تأتي مقابل تصليح آلات اللهو والفسوق وقس على ذلك باقي المحرمات فصاحب الحياء الخلقي يستحي من الله، ومن استحيا من الله لم يغضبه. صاحب الدين والحياء لا يعمر قصور للأعراس ولا يشارك في عمارتها لعلمه أن ذلك يصادم تخفيف الصداق الذي هو سبب لتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين عن عمارتها والمشاركة فيها اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء؛ فإذا نزع منه الحياء لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا، فإذا لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلفه إلا خائنًا مخونًا، فإذا لم تلفه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلفه إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه رِبْقَةِ الإسلام. رواه ابن ماجه.

قال العلماء على هذا الحديث: وهذا ترتيب دقيق في وصفه لأمراض النفوس وتتبعه لأطوارها وكيف تسلم كل مرحلة خبيثة على أخرى أشد نُكرًا فإن الرجل إذا مزق جلباب الحياء عن وجهه ولم يتهيب على علمه حسابًا ولم يخش في سلوكه لومة لائم مد يد الأذى للناس

ص: 374

وطغى على كل من يقع في سلطانه.

ومثل هذا الشخص الشرس لن تجد له قلبًا يعطف عليه بل يغرس الضغائن في القلوب وينميها وأي شخص جريء على الله وعلى الناس ولا يرده عن الآثام حياء فإذا صار الشخص بهذه المثابة لم يؤتمن على شيء قط إذ كيف يؤتمن على أموال لا يخجل من أكلها أو على أعراض لا يستحي من فضحها أو على موعد لا يهمه أن يخلفه أو على واجب لا يبالي أن يفرط فيه أو على بضاعة لا يتنزه عن الغش فيها.

فإذا فقد الشخص حياءه وفقد أمانته أصبح وحشيًا كاسرًا ينطلق معربدًا وراء شهواته ويدوس في سبيلها أزكى العواطف فهو يغتال أموال الفقراء غير شاعر نحوهم برقة وينظر إلى المنكوبين والمستضعفين فلا يهتز فؤاده بشفقة فهو لا يعرف إلا ما يغويه ويغريه بالمزيد.

ويوم يبلغ امرؤ هذا الحضيض فقد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام، وللحياء مواضع يستحب فيها، فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش وأن ينزه لسانه عن العيب وأن يخجل من ذكر العورات فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها ومن الحياء أن يقتصد المسلم في الكلام في تحدثه في المجالس. انتهى.

شِعْرًا: هذه قصيدة مملوءة حكمًا رائعة لا يستغني عنها اللبيب:

أَحْسِنْ جَنَى الْحَمْد تَغْنَمُ لَذَّةَ الْعُمْرِ

وَذَاكَ فِي بَاهِرِ الأَخْلاقِ وَالسِّيَرِ

ص: 375

ج

همُ الْفَتَى الْمَاجِدُ الْغَطْرِيفِ مَكْرمةٌ

يَضُوع نَادِي الْمَلا مِنْ نَشْرِهَا الْعِطْر

وَحِلْيَة الْمَرْءِ فَي كَسْبِ الْمَحَامِد لا

فَي نَظْمِ عَقْدٍ مِنَ الْعِقْيَانِ وَالدُّرَرِِ

تَكْسُو الْمَحَامِدُ وَجْه الْمَرْءِ بَهْجَتهَا

كَمَا اكْتَسَى الزَّهْرُ زَهْرَ الرَّوْضِ بِالْمَطَرِ

يَخْلُدُ الذِّكْر حَمْدًا طَابَ مَنْشؤه

وَلَيْسَ يَمْحُو الْمَزَايا سَالِفَ الْعَصْرِ

تَميز النَّاس بِالْفَضْلِ الْمُبِينِ كَمَا

تَمَيَّزُوا بَيْنَهُمْ فِي خَلْقِهِ الصُّورِ

بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الإِنْسَان قِيمَتُهُ

وَبِالْفَضْلِ كَانَ الْفَرْقُ فِي الْبَشَرِ

مَا الْفَضْلُ فِي بَزّةِ تَزْهُو بِرَوْنَقِهَا

وَأَيُّ فَضْلٍ لا برِيزٍ عَلَى مَدَرِ

وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي عِلْمٍ وَفِي أَدَبٍ

وَفِي مَكَارِمٍ تَجْلُو صِدْق مُفْتَخَرِ

فَلا تَسَاو بِأَخْلاقٍ مُهَذَّبَة

أَخْلاق سُوءٍ أَتَتْ مِنْ سَارِحِ الْبَقَرِ

وَخُذْ بِمَنْهَجِ مَنْ يَعْصِي هَوَاهُ وَقَدْ

أَطَاعَ أَهْلَ الْحِجَا فِي كُلِّ مُؤْتَمَرِ

إِنَّ الْهَوَى يُفْسِدُ الْعَقْلَ السَّلِيمِ وَمَنْ

يَعْصِي الْهَوَى عَاشَ فِي أَمْنٍ مِنَ الضَّرَرِ

ص: 376

وَجَاهِدِ النَّفْسَ فِي غَيٍ يُلَمُّ بِهَا

كَيْلا تُمَاثِل نَذْلاً غَيْر مُعْتَبَرٍ

وَفِي مُعَاشَرَةِ الأَنْذَالِ مَنْقَصَةٌ

بِهَا يَعُمُّ الصَّدَا مِرْآة ذِي فِكْرٍ

وَلَيْسَ يَبْلُغُ كُنْهَ الْمَجْد غَيْرَ فَتَى

يَرَى اكْتِسَابَ الْمَعَالِي خَيْرَ مُتَّجَرِ

إِنَّ الْكَرِيمَ يَرَى حَمْلَ الْمَشَقَّة فِي

نَيْلِ الْعُلَى مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ فَاصْطَبِرِ

فَالصَّبْرُ عَوْنُ الْفَتَى فِيمَا تَجَشَّمَهُ

إِنَّ السِّيَادَةَ نَهْجٌ وَاضِحُ الْوَعِرِ

وَأَفْضَلُ الصَّبْرِ صَبْرَ عَنْ مُهْيَأَةٍ

مِنَ الْمَعَاصِي لِخَوْفِ اللهِ فَازْدَجِرِ

وَاصْبِرْ عَلَى نَصْبِ الطَّاعَاتِ تُحْظَ بِمَا

أَمَّلْتَهُ مِنْ عَظِيمِ الصَّفْحِ مُغْتَفَرٍ

نَيْفٌ وَسَبْعُونَ مِنْ آيِ الْكِتَاب أَتَتْ

فِي الصَّبْرِ فَاعْمَلْ بِهَا طُوبَى لِمُصْطَبَرِ

وَعِشْ مَحَلاً بِأَخْلاقٍ مَحَاسِنُهَا

تُجْلِي عَلَى أَوْجُهِ الأَيَّامَ كَالْغُرَرِ

دِينٌ بِهِ عِصْمَةٌ مِنْ كُلِّ فَاحِشَة

وَكُلّ مَا اسْتَطَعْتَ مِنْ بِرٍّ فَلا تَذَرِ

إِنَّ الْعَفَافَ حِمَى لِلنَّسْلِ صُنْهُ بِهِ

إِذَا أَضعت الْحِمَى يَرْعَاهُ كُلَّ جَرِي

ص: 377

قَدْ قِيلَ عُفُّوا تَعُفنَّ النِّسَاء وَفِي

مِثْقَالِ خَيْرٍ فَشَرّ أَوْضَحُ النّذرِ

وَمِنْ جَمَالِ الْفَتَى صِدْقُ الْعَفَافِ فَكُنْ

بِهِ مُحَلًّى خَلِيقًا مُنْتَهى الْعُمْرِ

وَالْزَمْ فَوَائِد تَقْوَى اللهِ تَعْلُ بِهَا

إِنِّي سَأُورِدُهَا عَنْ مُحْكَمِ الزّبر

فَبِالتُّقَى مَخْرَجُ مِنْ كُلِّ حَادِثَةٍ

وَالْحِفْظِ مِنْ صَوْلَةِ الأَعْدَا مَعَ الظَّفَر

وَالرِّزْق فِي دِعَةِ بِالْحِلّ مُقْتَرِن

وَحُسْنُ عَاقِبَة فِي خَيْر مُدَّخَر

وَجَاءَ نُورٌ بِهِ تَمْشِي وَمَغْفِرَةٌ

مِنَ الذُّنُوبِ وَمَنْجَاةٌ مِنَ الْحَذَر

بِهِ الْبُشَارَة فِي الدُّنْيَا وَضُرَتُهَا

بِهِ النَّجَاة مِنَ الأَهْوَالِ وَالشَّرَرِ

وَرَحْمَةُ اللهِ تَغْشَى الْمُتَقِي وَلَهُ

قُبُولُهُ وَلَهُ الإِكْرَامُ فَاعْتَبِر

وَبِالتُّقَى تَغْنَمْ الإِصْلاحُ فِي عَمَلٍ

وَتَسْتَفِيدُ بِهِ عِلْمًا بِلا سَهَرْ

وَنَفْعُ ذَلِكَ لا يُحْصَى لَهُ عَدَدٌ

وَنَصُّ ذَلِكَ فِي آيِ الْكِتَابِ قُري

وَخَيْرُ مَا يَقْتَنِي الإِنْسَانُ إِنْ كَرُمَتْ

أَخْلاقُهُ وَاسْتَفَادَتْ رِقَةُ السّحرِ

ص: 378

وَمِنْ مَكَارِمِهَا عَشْرٌ عَلَيْكَ بِهَا

فَإِنَّهَا حِكَمٌ تُرْوَى عَنِ الأَثَرِ

صِدْقُ الْحَدِيثِ فَلا تَعْدِلْ بِهِ خُلُقًا

تَبْلُغُ مِنَ الْمَجْدِ أَبْهَى بَاذِخُ السُّرَرِ

وَكُنْ خَلِيقًا بِصِدْقِ الْبَأْسِ يَوْم وَغَى

فَشَرُّ عَيْبِ الْفَتَى بِالْجبْنِ وَالْخُورِ

أَجِبْ مُنَادِي الْعُلَى فِي خَوْضِ غَمْرَتِهَا

فَالْعِزّ تَحْتَ ظِلالِ الْبِيضِ وَالسّمرِ

بِالصَّبْرِ يَكْتَسِبُ الْمِقْدَامُ نُصْرَتُهُ

وَيَلْبِسُ الضِّدَّ مِنْهُ ثَوب مُنْذَعِرِ

وَلا يُدْنِّي لَهُ الإِقْدَامُ مِنْ أَجَلٍ

يَكْفِي حِرَاسَتُهُ مُسْتَأْخِرُ الْقَدَرِ

وَاحْرِصْ عَلَى عَمَلِ الْمَعْرُوفِ مُجْتَهِدًا

فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْجَى كُلّ مُنْتَظِر

وَلَيْسَ مِنْ حَالَةْ تَبْقَى كَهَيْئَتِهَا

فَاغْنَمْ زَمَان الصَّفَاء خَوْفًا مِنَ الْكَدَرِ

وَلا يَضِيعُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ

مَعْرُوف مُسْتَبْصِرٍ أُنْثَى أَوْ الذَّكَرِ

إِنْ لَمْ تُصَادِفْ لَهُ أَهْلاً فَأَنْتَ إِذًا

كُنْ أَهْلُهُ وَاصْطَنِعْهُ غَيْر مُقْتَصَر

أَغِثْ بِإِمْكَانِكَ الْمَلْهُوفِ حَيْثُ أَتَى

بِالْكَسْرِ فَاللهُ يَرْعَى حَالَ مُنْكَسِر

ص: 379

وَكَافِئْنَ ذَوِي الْمَعْرُوفِ مَا صَنَعُوا

إِنَّ الصَّنَائِعَ بِالأَحْرَارِ كَالْمَطَر

وَلا تَكُنْ سَبخًا لَمْ يِجِدْ مَاطِرَهُ

وَكُنْ كَرَوْضٍ أَتَى بِالزَّهْرِ وَالثَّمَرِ

وَاذْكُرْ صَنِيعةَ حُرٍّ حَازَ عَنْكَ غِنَى

وَقَدْ تَقَاضَيْتَهُ فِي زِيّ مُفْتَقَرِ

وَاحْفَظْ ذِمَام صَدِيقٍ كُنْتَ تَأْلَفُهُ

وَذِمَّةَ الْجَارِ صُنْهَا عَنْ يَدِ الْغَيْرِ

وَصْلْ أَخا رَحِمٍ تَكْسَبْ مَوَدَّتُهُ

وَفَي الْخُطُوبِ تَرَاهُ خَيْر مُنْتَصِر

وَوَصْلُهُ قَدْ يَجُرُّ الْوَصْلَ فِي عَقِبٍ

وَقَدْ يَزْادُ بِهِ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ

وَجُدْ عَلَى سَائِلٍ وَافَى بِذِلَّتِهِ

وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلِ النَّفْع مُحْتَقَر

وَاحْفَظْ أَمَانَة مَنْ أَبْدَى سَرِيرَتُهُ

مَالاً وَحَالاً لِحُسْنِ الظَّنِ وَالنَّظَرِ

وَاقرِ الضُّيُوفَ وَكُنْ عَبْدًا لِخِدْمَتِهِمْ

وَهُشُّ بِشَّ وَلا تَسْأَلْ عَنِ السَّفَرِ

وَبَادِرْنَ إِلَيْهِمْ بِالَّذِي اقْتَرَحُوا

عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِلا مَنٍّ وَلا كَدَرِ

وَخُضْ بِهِمْ فِي فُنُونٍ يَأْنَسُونَ بِهَا

مِنْ كُلِّ مَا طَابَ لِلأَسْمَاعِ فِي السَّمَر

ص: 380

لِكُلِّ قَوْمٍ مَقَامٍ فِي الْخِطَابِ فَلا

تَجْعَلْ مُحَادَثَةَ الأَعْرَابِ كَالْحَضَرِ

وَاعْرِفْ حُقُوقَ ذَوِي الْهَيْئَاتِ إِذَ وَرَدُوا

وَلِلصَّعَالِيكَ فَاحْذَرْ حَالَةَ الضَّجَرِ

وَالْزَمْ لِدَى الأَكْلِ آدَابًا سَأُورِدُهَا

تَعِشْ حَمِيدَ الْمَسَاعِي عِنْدَ كُلَّ سَرِي

كُنْ أَنْتَ أَوَّلُ بَادٍ بِامْتِدَادِ يَدٍ

إِلَى الطَّعَامِ وَسَمِّ اللهَ وَابْتَدِرَا

وَاشْرَعْ بِأَصْفَى حَدِيثٍ فِي مُنَاسَبَةٍ

بِالزَّادِ أُنْسًا وَتَرْغِيبًا بِلا هَذَرِ

لا تُؤْثِرَنَّ بِشَيْءٍ لَذَّ مَطْعَمُهُ

نَفْسًا وَلا وَلَدًا فَالضَّيْفُ فِيهِ حَرِي

وَكُنْ إِذَا قَامَ كُلُّ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ

وَغُضَّ عَنْ مَدِ أَيْدِي الْقَومَ بِالبَّصَرِ

وَمَنْ أَقَامَكَ أَهْلاً لِلضِّيَافَةَ قُمْ

بِشُكْرِهِ وَاسْتَزِدْ إِنْعَامَ مُقْتَدِرِ

وَرَأْسُ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ الْحَيَاءِ فَكُنْ

مِنَ الْحَيَاءِ بِأَوْفَى بَاهِرِ الْحِبَرِ

لا دِينَ إِلا لِمَنْ كَانَ الْحَيَاءُ لَهُ

إِلْفًا قَرِينًا فَيَسْمُو كُلّ مُسْتَتِرِ

فَاسْتَحِي مِنْ خَالِقٍ يَرْعَاكَ فِي مَلأٍ

وَفِي خَلاءٍ وَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرِ

ص: 381

وَالْعَاقِلُ الشَّهْمُ مَنْ يَأَبَى الرَّذَائِلُ بَلْ

يَخْتَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَطْيَبَ الْخَبَرِ

بِالْعَقْلِ تُدْرِكُ غَايَاتِ الْكَمَالِ كَمَا

بِهِ تُمَيِّزُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ

لَوْلاهُ لَمْ نَعْرِفُ اللهَ الْكَرِيمَ وَلا

نَمْتَازُ يَوْمًا عَنِ الأَنْعَامِ فِي الْفِطْرِ

فَاسْتَعْمِلِ الْعَقْلَ فِي كُلِّ الأُمُورِ وَلا

تَكُنْ كَحَاطِبِ لَيْلٍ أَعْمَشَ الْبَصَرِ

دَلِيلُ عَقْلِ الْفَتَى بَادِي مُرُوَءَتِهِ

فَمَنْ تَجَنَّبَهَا فَالْعَقْلُ مِنْهُ بَرِي

عَارِي الْمُرُوءَةِ نَكْسٌ لا خَلاقَ لَهُ

وَذُو الْمُرُوءَةِ مَحْبُوبٌ لَدَى الْبَشَرِ

أَخُو الْمُرُوءَةِ يَأْبَى أَنْ يَرُدَّ ذَوِي ال

آمَالِ مِنْ فِضْلِهِ فِي حَالِ مُنْكَسِرِ

والْجُودُ أَشْرَفُ مَا تَسْمُو الرِّجَالُ بِهِ

وَقَدْ يَنَالُ بِهِ مُسْتَجْمَعُ الْفَخْرِ

وَبِالسَّخَاءِ لِحِفْظِ النِّعْمَةِ اعْتَمَدُوا

يَا حَبَّذَا عَمَلٍ بِالْحِفْظِ صَارَ حَرِي

لا يَصْلُحُ الدِّينُ إِلا بِالسَّخَاءِ أَتَى

إِنَّ السَّخَاءَ مِنَ الإِيمَانِ فَاعْتَبِرِ

وَالْجُودُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّاتِ فَاحْظَ بِهِ

وَخُذْ بَغِصْنٍ أَتَى مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ

ص: 382

يُحِبُّ مَوْلاكَ حُسْنُ الْخُلُقِ مُقْتَرِنًا

بِالْجُودِ لَمْ يَبْقِيَا لِلذَّنْبِ مِنْ أَثَرِ

إِنَّ السَّخِيَّ حَبِيبٌ لِلإِلَهِ لَهُ

قُرْبٌ مِنَ اللهِ هَذَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ

وَلا تَرُحْ بِلَئِيمٍ سَرْحَ عَارِضَةٍ

تَرِدْ بِهِ فِي ظَمَا مِنْ حَافَةِ النَّهْرِ

وَلا تَغُرَّنْكَ مِنْهُ طُولَ مِكْنَتِهِ

حَلْفَاءَ عَارٍ بِلا ظِلٍّ وَلا ثَمَرِ

بَذْلُ النَّفِيسِ عَلَى نَفْسِ الْخَسِيسِ عَنًا

فِعْلُ الْجَمِيلِ لَدَيْهُ مُوجِبُ الضَّرَرِ

وَمَنْ يَؤُمُّ لَئِيمًا عِنْدَ حَاجَتِهِ

يَعُضُّ كَفَّيْهِ كَالْكُسْعِي وَسْطَ قرِي

وَاسْلُكْ سَبِيلَ كِرَامٍ أَصْفِيَاءٍ مَضَوْا

بِكُلِّ حَمْدٍ عَلَى الآفَاقِ مُنْتَشِرِ

وَاحْذَر طَبَائِعَ أَهْلِ اللَّوْمِ إِنَّ لَهُمْ

ذَمًا يُدُومُ عَلَى الآصَالِ وَالْبُكْرِ

وَاغْنَمْ مَكَارِمَ تُبْقِيهَا مُخَلَّدَةٌ

فِي أَلْسُنِ النَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَمِنْ حَضَرِ

فَخَيْرُ فِعْلِ الْفَتَى فِعْلٌ يُبَلِّغُهُ

مِنَ الْمَحَامِدِِ مَا يُبْقَى عَلَى الأَثَرِ

فَالْمَرْءُ يَفْنَى وَيَبْقَى الذِّكْرُ مِنْ حَسَنٍ

وَمِنْ قَبِيحٍ فَخُذْ مَا شِئْتَهُ وَذَرِ

ص: 383

وَهَذِهِ حِكَمٌ بِالنُّصْحِ كَافِلَةٌ

بِالنَّقْلِ جَاءَتْ وَعَنْ مَصْقُولَةِ الْفِكَرِ

اللهم أنظمنا في سلك عبادك المخلصين ووفقنا للقيام بأركان دينك القويم ونجنا من لفحات الجحيم وأسكنا في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

قال في مختصر منهاج القاصدين: واعلم أنا قد ذكرنا جملة من نعم الله على خلقه ونعمة البدن واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية فلو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة لم نقدر عليها ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئًا من الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التدريج لا على سبيل الاستقصاء.

فنقول: من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس التي هي آلة للإدراك.

فأولها حاسة اللمس وهو أول حس يخلق للحيوان وأنقص دراجات الحس أن يحس بما يلاصقه فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم تدرك به الرائحة من بعد ولكن لا تدري من أي ناحية جاءت الرائحة فتحتاج أن تطوف أي تدور كثيرًا، حتى تعثر على الذي شممت رائحته وربما لم تعثر عليه.

فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصدها

ص: 384

بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصًا إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب فربما قصدك عدو بينك وبينه حجاب وقرب منك قبل أن ينكشف الحجاب فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من الحجرات عند جريات الحركات ولا يكفي ذلك لو لم يكن لك حسن ذوق إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك بخلاف الشجرة فإنه يصب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذبه وربما يكون ذلك سبب جفافها وتلافها.

ثم أكرمك تعالى بصفة أخرى هي أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك الأطعمة ومنفعتها وما يضر في المال وبه تدرك طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها فتنتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك وهي أدنى فوائد العقل والحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى.

وما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الإدراكات ولا تظن أننا استوفينا شيئًا من ذلك فإن البصر واحد من الحواس والعين آلة له وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية مختلفة.

ولكل واحدة من الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وتدبير وتركيب لو اختلفت طبقة واحدة منها أو صفة واحدة لاختل البصر، وعجز عنه الأطباء كلهم فهذا في حس واحد وقس حاسة السمع وسائر الحواس ولا يمكن أن يستوفى ذلك في مجلدات فكيف في جميع البدن.

ثم انظر بعد ذلك في خلق الإرادة والقدرة وآلات الحركة من أصناف النعم وذلك أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به

ص: 385

الطعام ولم يخلق لك في الطبع شوقًا إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البصر معطلاً فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له ولا يقدر على تناوله لعدم الشهوة له فخلق الله لك شهوة الطعام وسلطها عليك كالمتقاضي الذي يضطر إلى تناول الغذاء.

ثم هذه الشهوة لو لم تكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام لأسرفت وأهلكت نفسك فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، وكذلك القوة في الشهوة للوقاع لحكمة بقاء النسل.

ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء وغيره، منها اليدان وهما مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات وتمتد وتنثني ولا تكون كخشبة منصوبة.

ثم جعل رأس اليد عريضًا وهو الكف وقسمة خمسة أقسام وهي الأصابع وتمد الأصابع وجعلها مختلفة في الطول والقصر ووضعها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ويدور على الأصابع البواقي ولو كانت مجتمعة متراكمة لم يحصل تمام الغرض.

ثم خلق لها أظفارًا وأسند إليها رؤوس الأصابع لتقوى بها ولتلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها إلا الأصابع ثم هب أنك أخذت الطعام باليد فلا يكفيك حتى يصل إلى باطنك فجعل لك الفم واللحيين خلقهما من عظمين وركب فيهما الأسنان وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام فبعضهما قواطع كالرباعيات وبعضها يصلح للكسر كأنياب وبعضها طواحن كالأضراس.

وجعل اللحي الأسفل متحركًا حركة دورية واللحي الأعلى ثابتًا لا يتحرك فانظر على عجيب صنع الله تعالى الذي أتقن كل شيء وأن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى إلا هذه الرحى التي هي صنع الله سبحانه وتعالى فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء الشريفة التي يحتوي عليها.

ثم انظر كيف أنعم عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى هذا مع ما فيه من عجائب

ص: 386

قوة النطق ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته فما تقدر على الابتلاع إلا بأن يتزلق على الحلق بنوع رطوبة فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينًا يفيض منها اللعاب وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام.

ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم فإنه لا يمكن إيصاله باليد فهيأ لك المريء والحنجرة وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام فيهوي في دهليز المريء على المعدة فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح أن يصير لحمًا وعظمًا ودمًا على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخًا تمامًا فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة.

وهي الكبد من جانبها الأيمن والطحال من جانبها الأيسر والثرب من أمامها ولحم الصلب من خلفها فينضح الطعام بإذن الله ويصير مائعًا متشبهًا يصلح للنفوذ في تجاويف العروق ثم ينصب الطعام من العروق

ص: 387

إلى الكبد فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثفل ثم يندفع.

فانظر إلى نعم الله عليك لتقوى على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل وهي أبسطها ثم لا تعرفه منها إلا أنك تجوع فتأكل والبهيمة أيضًا تعرف أنها تجوع وتأكل وتتعب فتنام وتشتهي فتجامع وإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر الله تعالى.

قال: واعلم أن الأطعمة كثيرة مختلفة ولله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى وهي تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها فنتكلم على بعض الأغذية فنقول إذا كان عندك شيء من الحنطة فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعًا فما أحوجك إلى عمل ينمو به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفيء بتمام حاجتك وهو زرعها وهو أن تجعل في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها فيصير طينًا.

ثم لا يكفي الماء والتراب إذ لو تركت في أرض ندية صلبة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها، ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح يحرك الهواء ويصرفه بقهر على الأرض حتى ينفذ فيها ثم كل ذلك وحده لا يغني فيحتاج على حرارة الربيع والصيف فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت.

ثم انظر إلى الماء الذي تحتاج إليه هذه الزارعة كيف خلقه الله تعالى فجر العيون وأجرى منها الأنهار ولما كان بعض الأرض مرتفعًا لا يناله

ص: 388

الماء أرسل إليه الغيوم وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم وهي سحب ثقال ثم يرسله على الأرض مدرارًا في وقت الحاجة.

وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء تتفجر منها العيون تدريجًا، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره، وانظر كيف سخر الشمس وخلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة لها في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إليه والحر عند الحاجة إليه، وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء فهو لنوع فائدة.

ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم الحرص على جمع المال مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شيء بل يجمعون الأموال فإما أن تغرق بها السفن أو تنتهبها قطاع الطريق أو يموتون في بعض البلاد فتأخذها السلاطين وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا.

فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح في ركوب البحار وركوب الأخطار فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك فأكثر من حمد الله وشكره.

سَيْرُ الْمَنَايَا إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبٌ

فَمَا تَبيْنُ ولا يَعْتَاقهَا نَصَبُ

كَيْفَ النَّجَاءُ وَأَيْدِيهَا مُصَمَّمَتٌ

بِذَبْحِنَا بِمُدًّى لَيْسَتْ لَهَا نُصُبُ

وَهَلْ يُؤْمَلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا

سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٌ عَجَبُ

وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزِلٍ هَتَفَتْ

فِيهِ بِنَا مُذْ سَكَنا رِبْعةُ نُوَبُ

وَآذَنَتْنَا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ

بِأَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ دَاثِرٌ خَرِبُ

أَزَرْتَ بِنَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ

إلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرَبُ

هَذَا وَلَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةٌ

وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلُّهُ نُصُبُ

وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعَ الْبَلاءِ بِهَا

قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌّ وَمُرْتَقِبُ

أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي ابْتِنَائِهِمْ

صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا

ص: 389

اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين. وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

واعلم أن الخلق لم يقصروا عن شكر نعمة الله إلا للجهل والغفلة فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم ولا يتصور شكر النعمة بدون معرفتها ثم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه الحمد لله والشكر لله ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكم التي أريدت بها وهي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

شِعْرًا:

تَعَلَّمْتُ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا

وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا

آخر:

(وَلَوْ أَنَّ لِي فِي كُلِّ عُضْوٍ وَشَعْرَةٍ

لِسَانًا يُؤَدِّي الشُّكْر للهِ قَصَّرَا)

آخر:

دَعِينِي أَجُدُ السَّعْيَ فِي شُكْرِ مَنْ لَهُ

عَلَيَّ بِأَصْنَافِ النَّعِيم تَفَضُّلا

أما الغفلة عن النعم فلها أسباب: أحدها أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكر من نعم الله التي تفضل بها على خلقه لأنها عامة للخلق مبذولة لهم في جميع أحوالهم فلا يرى منهم اختصاصًا به فلا يعده نعمة.

ولذلك لا تجدهم يشكرون الله على روح الهوا ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ولو حبسوا في بئر أو حمام ماتوا غمًا

ص: 390

فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا قدر ذلك نعمة يشكر الله عليها.

وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفًا على أن تسلب عنهم النعمة ثم ترد إليهم في بعض الأحوال فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر فلا ترى البصير يشكر نعمة البصر وصحته إلا أن يعمى فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها وعدها نعمة وهو مثل عبد السوء يضرب دائمًا فإذا ترك ضربه ساعة شكر وتقلد ذلك منه وإن ترك ضربه أصلاً غلبه البطر وترك الشكر فصار الناس لا يشكرون إلا المال الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع نعم الله عليهم.

شِعْرًا:

إِذَا شِئْتَ أَنْ تَبْقَى من الله نِعْمَة

عَلَيْكَ فَأَكْثِرْ حَمْدَهُ مَعَ شُكْرِهِ

وَلا تَعْصِيَنَّ اللهَ فِيمَا رَزَقْتُهُ

فَيَنْزِعْ عَنْكَ اللهُ وَاسِعَ رِزْقَهُ

آخر:

مَا أَحْسَنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالُهَا

إِذَا أَطَاعَ اللهَ مَنْ نَالَهَا

مَنْ لَمْ يُؤَالِي شُكْرَ إِلَهَهُ

عَرَّضَ لِلإِدْبَارِ إِقْبَالَهَا

فَاحْذَرْ زَوَالَ الْفَضْلِ يَا مَانِعًا

زَكَاةَ أَمْوَالٍ لَهُ نَالَهَا

كما روي أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة وأظهر شدة اغتمامه بذلك فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم قال لا قال أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف قال لا قال أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفًا قال لا قال أيسرك أنك ومجنون ولك عشرة آلاف درهم قال: لا قال أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفًا.

ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة فبكى ودعا بماء في قدح فقال: يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها أكنت

ص: 391

تفديها قال: نعم. قال: فاشرب ريًا بارك الله فيك فلما شرب قال له يا أمير المؤمنين. أرأيت لو منعت أخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفتدي ذلك قال نعم قال فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه. وهذا يبين أن نعمة الله تعالى على العبد في شربة عند العطش أعظم من ملك الأرض ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة.

ثم اعلم أنه ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى عليه من نعم الله نعمًا كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس بل قد يشاركه في ذلك يسير منهم من ذلك العقل فما من عبد إلا وهو راض عن الله سبحانه في عقله يعتقد أنه أعقل الناس وقلما يسأل الله العقل وإذا كان ذلك اعتقاده فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك.

ومن ذلك الخلق فإنه ما من عبد إلا ويرى من غيره عيوبًا يكرهها وأخلاقا يذمها ويرى نفسه بريئًا منها فينبغي أن يشكر الله على ذلك حيث أحسن خلقه وابتلى غيره.

شِعْرًا:

أَيَا ابْنُ آدَمَ وَالآلاء سَابِغَةٌ

وَمُزْنَهُ الْجُودِ لا تَنْفَكُّ عَنْ دِيَمِ

هَلْ أَنْتَ ذَاكِرٌ مَا أُولِيتَ مِنْ حَسَنٍ

وَشَاكِرٌ كُلَّ خُوِّلْتَ مِنْ نِعَمِ

بَرَاكَ بَارِئُ هَذَا الْخَلْق مِنْ عَدَمٍ

بَحْتٍ وَلَوْلاهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْعَدَمِ

أَنْشَأَكَ مِنْ حَمَأ وَلا حِرَاكَ بِهِ

فَجِئْتَ مُنْتَصِبًا تُمْسِي عَلَى قَدَمِ

مُكَمَّلُ الأَدَوَاتِ آيَةً عَجَبًا

مُوَفَّرَ الْعَقْلِ مِنْ حَظٍّ وَمِنْ فَهْمِ

تَرَى وَتَسْمَعْ كُلا قَدْ حُبِيتَ بِهِ

فَضْلاً وَتَنْطِقُ بِالتَّبْيِينِ وَالْكَلم

هَدَاكَ بِالْعِلْمِ سُبُلَ الصَّالِحِينَ لَهُ

وَكُنْتُ مِنْ غَمَرَاتِ الْجَهْلِ فِي ظلمِ

مَاذَا عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ غَمَرَتْ

كُلَّ الْجِهَاتِ وَلَمْ تَبْرَحْ وَلَمْ تَرِمِ

غَرَّاءُ كَالشَّمْسِ قَدْ أَلْقَتْ أَشِعَّتهَا

حَتَى لَيُبْصِرهَا عَلَيْكَ كُلُّ عَمِيْ

ص: 392

فَاشْكُرْ وَلَسْتَ مُطِيقًا شُكْرهَا أَبَدًا

وَلَوْ جَهِدْتَ فَسدِّدْ وَيْكَ وَالْتَزِمِ

رِزْقٌ وَأَمْن وَإِيمَانٌ وَعَافِيَةٌ

مَتَى تَقُومُ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ

آخر:

إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ

عَلَى نِعَمٍ مِنْهَا الْهِدَايَةُ لِلْحَمْدِ

صَحِيحًا خَلَقْتَ الْجِسْمَ مِنِّي مُسَلَّمًا

وَلُطْفُكَ بِي مَا زَالَ مُذْ كُنْتُ فِي الْمَهْدِ

وَكُنْتُ يَتِيمًا قَدْ أَحَاطَ بِي الرَّدَى

فَأَوَيْتَ وَاسْتَنْقَذْتَ مِنْ كُلِّ مَا يُرْدِي

وَهَبْتَ لِي الْعَقْلَ الَّذِي بِضِيَائِهِ

إِلَى كُلِّ خَيْرٍ يَهْتَدِي طَالِبُ الرُّشْدِ

وَوَفَّقْتَ لِلإِسْلامِ قَلْبِي وَمَنْطِقِي

فَيَا نِعْمَةً قَدْ جَلَّ مَوْقِعُهَا عِنْدِي

وَلَوْ رُمْتُ جُهْدِي أَنْ أُجَازِي فَضِيلَةً

فَضَلْتَ بِهَا لَمْ يَجُزْ أَطْرَافُهَا جَهْدِي

أَلَسْتَ الَّذِي أَرْجُو حَنَانَكَ عِنْدَمَا

يُخَلِّفُونَ الأَهْلُونَ وَحْدِي فِي لَحْدِي

فَجُدْ لِي بِلُطْفِكَ مِنْكَ يَهْدِي سَرِيرَتِي

وَقَلْبِي وَيُدْنِينِي إِلَيْكَ بِلا بُعْدِ

ومن ذلك أنه ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به ولو كشف الغطاء عنه حتى اطلع عليه أحد

ص: 393

من الخلق لا افتضح فكيف لو اطلع عليه الناس كافة فَلِمَ لا يشكر الله على ستر مساويه أظهر الجميل وستر القبيح.

وأيضًا ما من عبد إلا وقد رزقه الله في صورته وأخلاقه أو صفاته أو جاهه أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو سائر محابه أمورًا لو سلب ذلك منه وأعطى ما خصص به من ذلك غيره لكان لا يرضى وذلك مثل أن الله جعله مؤمنًا لا كافرًا وحيًا لا ميتًا وإنسانًا لا بهيمة وذكرًا لا أنثى وصحيحًا لا مريضًا وعاقلاً لا مجنونًا وسليمًا لا معيبًا فإن هذه خصائص فعليه أن يشكر الله جل وعلا في كل ساعة ولا يغفل.

شِعْرًا:

إَذَا أَنَا لَمْ أَشْكُرْ لِرَبِي دَائِمًا

وَلَمْ أُصْفِ مِنْ قَلْبِي لَهُ الْوُدَّ أَجْمَعَا

فَلا سَلَمَتْ نَفْسِي مِنَ السُّوءِ سَاعَة

وَلا نَظَرَتْ عَيْنِي مِنَ الشَّمْسِ مَطْلَعَا

شِعْرًا:

تَبَارَكَ مَنْ لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ

وَمَنْ لَمْ يَزَلْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيُذْكَرُ

عَلا فِي السَّمَواتِ الْعُلَى فَوْقَ عَرْشِهِ

إِلَى خَلْقِهِ فِي الْبِرِّ وَالْبَحْرِ يَنْظُرُ

سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ وَمُدَبِّرٌ

وَمَنْ دُونُهُ عَبْدٌ ذَلِيلٌ مُدَبَّرُ

يَدَاهُ لَنَا مَبْسُوطَتِانِ كِلاهُمَا

يَسِحَّانِ وَالأَيْدِي مِنَ الْخَلْقِ تَقْتُرُ

وَإِنْ فِيهِ فَكَّرْنَا اسْتَحَالَتْ عُقُولُنَا

وَأُبْنَا حَيَارَى وَاضْمَحَلَّ التَّفْكُّرُ

ص: 394

وَإِنْ نُقِرُ الْمَخْلُوقَ عَنْ عِلْمِ ذَاتِهِ

وَعَنْ كَيْفَ كَانَ الأَمْرُ تَاه الْمُنَقِّرُ

وَلَوْ وَصَفَ النَّاسُ الْبَعُوضَةَ وَحْدَهَا

بِعِلْمِهُمُوا لَمْ يُحْكِمُوهَا وَقَصَّرُوا

فَكَيْفَ بِمَنْ لا يَقْدِرُ الْخَلْقُ قَدْرُهُ

وَمَنْ هُوَ لا يَفْنَى وَلا يَتَغَيَّرُ

اللهم اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار ووفقنا للتوبة والاستغفار واحطط عنا ثقل الأوزار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار يا عزيز يا غفار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وقال في كتاب التوحيد المسمى الأدلة على الحكمة والتدبير:

تأمل هذه القوى التي في النفس وموقعها في الإنسان أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الحفظ وحده كيف تكون حاله وكم من خلل يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجارته إذا لم يحفظ ماله وما عليه وما أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به وما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ولا يحفظ علمًا ولو درسه عمره ولا يعتقد دينًا ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى بل كان حقيقًا خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية فانظر إلى الإنسان في هذه الخلال وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع.

وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فلولاه لما سلا أحد عن مصيبة ولا تَقَضَّتْ له حسرة ولا مات له حقد ولا

ص: 395

استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ولا رجا غفلة من سلطان ولا فترة من حاسد أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان وجعل في كل واحد منها قسمًا من المصلحة.

ثم انظر إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعنى الحياء فلولا هذا الحياء الذي خص الله به الإنسان لم يقر ضيفًا ولم يوف بالعدة ولم تقض الحوائج ولم ينجز الجميل ولم ينكب القبيح في شيء من الأشياء حتى إن كثيرًا من الأمور المفروضة أيضًا إنما تفعل للحياء فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم ولم يؤد أمانة ولم يعف عن فاحشة أفلا ترى كيف وفي الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره.

وتأمل ما أنعم الله جل وعلا وتقدست أسماؤه على الإنسان به من هذا المنطلق الذي يعبر به عمَّا في ضميره وما يخطر بباله وفي قلبه وينتجه فكره به يفهم عن غيره ما في نفسه ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء ولا تفهم عن مخبر شيئًا.

وكذلك الكتابة التي بها تعيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات ولولاها لانقطع بعض الأزمنة عن بعض وأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم وما روي لهم مما لا يسعهم جهله.

وانظر لو لم يكن للإنسان لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور

ص: 396

لم يكن ليتكلم أبدًا ولو لم يكن له كف مهيأة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدًا واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل وعلا وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب ومن كفر إن الله غني عن العالمين.

وفكر فيما أعطي الإنسان علمه وما منع منه فإنه أعطى علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فأما صلاح دينه فهو معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة وزكاة وصيام وحج ومن العدل بين الناس كافة وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانة ومواساة أهل الخلة وأشباه ذلك.

وكذلك أعطي ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراسة واستخراج ما في الأرضيين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط الماء ومعرفة العقاقير التي يستشفي بها بإذن الله من ضروب الأسقام والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار.

فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب وعلم ما في السماء وما تحت البحار وأقطار العالم وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب على الناس علمه فانظر كيف أعطى علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيه صلاحه.

ثم تأمل ما ستر عنه علمه من مدة حياته فأنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع رقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه

ص: 397

وأيقن به وإن كان طويل العمر وعرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي وعمد أن يبلغ من شهوته ثم يتوب في آخر عمره وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله.

قلت: ومما يستعان به على معرفة قدر نعم الله على العبد التفكر فيها وبالتفكر في حال نفسه قبل وجودها فينظر إذا كان غنيًا إلى حال فقره المتقدم حسًا أو معنًى وينظر إذا كان صحيحًا إلى حاله حينما كان مريضًا وينظر إذا كان مطيعًا لله وقت عصيانه لله حيث من الله عليه بضد تلك الحالة.

وينظر إذا كان ذاكرًا لله على الدوام أيام كان غافلاً لاهيًا وينظر إذا كان قارئًا أيام أن كان لا يقرأ ولينظر إذا كان عالمًا إلى وقت جهله وينظر إذا كان له أولاد صالحين أيام إن لم يكن له أولاد وينظر إذا كان في مسكن واسع مناسب أيام أن كان يستأجر أو في بيت ضيق لا يرتضيه.

وهكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها الذي كان موجودًا قبل ذلك فلا شك أن من عمل بهذا يعرف قدرها فيشكرها فتدوم عليه بإذن الله تعالى لأن الله جل وعلا يقول وهو أصدق قائل {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} فمن شكر نعمة الله زاده الله منها وقيل الشكر قيد الموجود وصيد المفقود.

شِعْرًا:

تَعْصِي الإلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ

هَذَا مُحَالٌ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ

إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

فِي كُلِّ يَوْمٍ يَبْتَدِيكَ بِنَعْمَةٍ

مِنْهُ وَأَنْتَ لِشُكْرِ ذَاكَ مُضَيِّعُ

وفي أثر إلهي: يقول الله عز وجل أهل ذكري أهل مجالسي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم

ص: 398

من رحمتي إن تأبوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ابتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب وقيل من كتم نعمة فقد كفرها ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده» .

قلت: وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب الناسك النظيف» . فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر كما يحب أن يرى عليه الجمال الباطن بالتقوى ونظافة الظاهر مع نظافة الباطن نور على نور قال بعضهم لمن انتقده في تحسين ثيابه:

حَسِّنْ ثِيَابَكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهَا

زِينُ الرِّجَالٍ بِهَا تَعُزُّ وَتُكْرَمُ

فَرَثَاثُ ثَوْبِكَ لا يَزِيدَكَ رِفْعَةً

عِنْدَ الإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْرِمُ

وَجَدِيدُ ثَوْبِكَ لا يَضُرُّكَ بَعْدَ أَنْ

تَخْشَى الإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ

آخر:

تَجَمَّلْ بِالثِّيَابِ تَعِشْ حَمِيدًا

فَإِنَّ الْعَيْنَ قَبْلَ الاخْتِبَارِ

فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ

لَقَالَ النَّاسُ يَا لَكَ مِنْ حِمَارِ

وتأمل حكمة عدم تشابه الناس بخلاف سائر الحيوان فإنك ترى السرب من الظباء والقطا يتشابه حتى لا يفرق بين واحد منها وبين الآخر وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صورة واحدة والعلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا

ص: 399

بأعيانهم وحُلاهم لما يجري بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه.

ألا ترى أن التشابه في الطير والوحش لا يضرها شيئًا وليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأمان تشابهًا شديدًا فتعظم المؤنة على الناس في معاملتها حتى يؤخذ أحدهما بذنب الآخر فتبارك الله أحسن الخالقين.

وتأمل لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطف على الناس أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربه في العافية وبسط يده في الصدقة. انتهى.

اللهم طهر قلوبنا من الحسد والحقد والبغض لعبادك المؤمنين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

موعظة: عباد الله لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة، وجاد علينا بخيرات وفيرة غفلنا عنها، وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، أعطانا جل وعلا العقل، وميزنا به عن الحيوانات، وأرسل إلينا الرسل، يرشدوننا للحق وخالص الإيمان، منحنا القوة والعافية، وصحة البدن، وسلامة الأعضاء.

وجعل لنا السمع، والبصر، واللسان، والشفتين، وعلمنا البيان والإفصاح، عن ما نقصد بالكلام، خلقنا في أحسن تقويم، وجعل لنا الأرض فراشًا، والسماء بناء، وأنبت لنا في الأرض النخيل، والأعناب والزرع وسائر ما نحتاج إليه من الثمار، ونستخرج منها المعادن، والخامات.

وأجرى لنا فيها الأنهار، وأنبع لنا الماء الزلال، وخلق الشمس والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره تمدنا بالأنوار، والمنافع، للأبدان

ص: 400

والثمار، والنباتات، وفيها من الإتقان، والجمال، والاتزان فِي سيرها مدى الليالي والأيام، مَا تشهد لله بالوحدانية، والحكمة، والقدرة الباهرة، والعلم، وسائر صفات الكمال.

ولله نعم أخرى لا تعد، ولا تحصى، كما قال تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إذًا يجب علينا شكره تعالى عَلَى نعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه، كما قال جل وعلا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وليس لله فِي شكرنا منفعة تعود إليه، وليس فِي كفر نعمه ضرر عليه، إنما تعود منفعة الشكر إِلَى الشاكر كما قال تعالى:{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .

إنما الذي ينتظر الشكر مخلوق مثلنا وأنت إذا شكرت الله إنما تبرهن عَلَى فهمك لنعمة الله، وتقديرك له إن شكرت فقد وجهت النعمة وجهة الخير، والنفع، واستعملتها فيما يسعدك فِي الدنيا والآخرة، وإن كفرت فقد برهنت على سوء فهمك، وعدم تقديرك لربك، وعَلَى تعمقك فِي اللؤم والرداءة.

وإذا تأملت الكثير من الناس وجدته مهملاً للشكر الذي هو صرف النعم فيما خلقت له، واستعمالها فيما شرعت لأجله، لتظهر فائدتها وتتم حكمتها، ويجني العباد منافعها، فالشاكر بلسانه وقلبه، وعمله من الفائزين، ولكنه قليل، كما قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} الأكثر كما تقدم صروفها فيما يعود عليهم، وعَلَى أولادهم، وأهلهم، وأمتهم بالضرر.

أنعم عليهم بالمال فقسم خزنوه ومنعوا حقوقه فلم يخرجوا زكاته،

ص: 401

ولم يساهموا فِي مشاريع دينية، كبناء مساجد، وقضاء دين عن مدين ومساعدة فقير، وإجراء مياه للمسلمين، والمساعدة على نشر الإسلام وطباعة مصاحف طباعة جيدة وتوزيعها عَلَى التالين لكتاب الله، وطباعة الكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية، وبناء بيوت لمن لا مساكن لهم، ونحو ذلك.

وقسم أنفقوا المال فِي الملاذ والملاهي، والمنكرات، وسائر المحرمات، أذهبوها فِي الحياة الدنيا، واستمتعوا بها، ولم يراقبوا الله فيها، أنعم عليهم فِي الصحة والفراغ المفروض أن تغتنم فِي طاعة الله.

ولكن يا للأسف صرفت فِي السهر، وفي الفساد، وفي المجون والكسل والتكسع، والخمول أو التطاول بالقوة عَلَى الضعفاء، والمساكين، وإعانة الظلمة والفاسقين، ونحو ذلك، من المفاسد والشرور.

وقس عَلَى ذلك باقي النعم من السمع والبصر واللسان والرجل فلم يبق نعمة إلا وقلبوها، ولا هبة من الله إلا وجحدوها فنزلوا بعد الرفعة وذلوا بعد العزة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقال بعضهم فِي مدح اللطيف الخبير جل وعلا وذكر بعض ألطافه:

أَحَاطَ بِتَفْصِيلِ الدَّقَائِقِ عِلْمُهُ

فَأَتْقَنَهَا صُنْعًا وَأَحْكَمَهَا فِعْلا

فَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظَ الْجَنِينِ وَصَوْنُهُ

بِمُسْتَوْدَعٍ قَدْ مَرَّ فِيهِ وَقَدْ حَلا

تَكَنَّفَهُ بِاللُّطْفِ فِي ظُلُمَاتِهِ

وَلا مَالَ يُغْنِيهِ هُنَاكَ وَلا أَهْلا

ص: 402

وَيَأْتِيهِ رِزْقٌ سَابِغٌ مِنْهُ سَائِغٌ

يَرُوحُ لَهُ طَوْلاً وَيَغْدُو لَهُ فَضْلا

وَمَا هُوَ يَسْتَدْعِي غِذَاءً بِقِيمَةٍ

وَلا هُوَ مِمَّنْ يُحْسِنُ الشُّرْبَ وَالأَكْلا

جَرَى فِي مَجَارِي عِرْقِهِ بِتَلَطُّفٍ

بِلا طَلَبٍ جَرْيًا عَلَى قَدْرِهِ سَهْلا

وَأَجْرَى لَهُ فِي الثَّدْيِ لُطْفَ غِذَائِهِ

شَرَابًا هَنِيئًا مَا أَلَذَّ وَمَا أَحْلا

وَأَلْهَمَهُ مَصًّا بِحِكْمَةِ فَاطِرِ

لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ الْجَزِيلُ بِمَا أَوْلا

وَأَخَّرَ خَلْقَ السِّنَّ عَنْهُ لِوَقْتِهَا

فَأَبْرَزَهَا عَوْنًا وَجَاءَ بِهَا طَوْلا

وَقَسَّمَهَا لِلْقَطْعِ وَالْكَسْرِ قِسْمَةً

وَلِلطَّحْنِ أَعْطَى كُلَّ قِسْمِ لَهَا شَكْلا

وَصَرَّفَ فِي لَوْكِ الطَّعَامِ لِسَانَهُ

يُصَرِّفُهُ عُلْوًا إِذَا شَاءَ أَوْ سُفلا

وَلَوْ رَامَ حَصْرًا فِي تَيَسُّرِ لُقْمَةٍ

وَأَلْطَافِهِ فِيمَا تَكَنَّفَهَا كَلا

فَكَمْ خَادِمٍ فِيهَا وَكَمْ صَانِع لَهَا

كَذَلِكَ مَشْرُوبٌ وَمَلْبَسُهُ كلا

وَكَمْ لُطْفٍ مِنْ حَيْثُ تَحْذَرُ أَكرَمَتْ

وَمَا كُنْتَ تَدْرِي الْفَرْعَ مِنْهَا وَلا الأَصْلا

ص: 403

وَمِنْ لُطْفِهِ تَكْلِيفُهُ لِعَبَادِهِ

يَسِيرًا وَأَعْطَاهُمْ مِن النِّعِمِ الْجَزْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ تَوْفِيقُهُمْ لإِنَابَةٍ

تُوَصَّلُ لِلْخَيْرَاتٍ مِنْ حَبْلِهِمْ حَبْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ بَعْثُ النَّبِي مُحَمَّدًا

لِيَشْفِعَ فِي قَوْمِ وَلَيْسُوا لَهَا أَهْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظُ الْعَقَائِدِ مِنْهُمُوا

وَلَوْ خَالَفَ الْعَاصِي الْمُسِيءُ وَإِنْ زَلا

وَمِنْ لُطْفِهِ إِخْرَاجُهُ عَسَلاً كَمَا

تُشَاهِدُ مِمَّا كَانَ أَوْدَعَهُ النَّحْلا

وَإِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ مُجَاوِرٍ

دَمًا لَبَنًا صِرْفًا بِلا شَائِبٍ رِسْلا

وَإِخْرَاجُهُ مِنْ دُودَةٍ مَلْبَسًا لَهُ

رُوَاقًا عَجِيبًا أَحْكَمَتْهُ لَنَا غَزْلا

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا خَلْقُهُ الْقَلْبَ عَارِفًا

بِهِ شَاهِدًا أَنْ لا شَبِيهِ وَلا مِثْلا

وَأَلْطَافُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فَخُذْ بِمَا

بَدَا لَكَ وَأَشْهَدْهَا وَإِيَّاكَ وَالْجَهْلا

وَصَلِّ عَلَى الْمُخْتَارِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ

على خَالِصِ الْعِرْفَانِ بِاللهِ قَدْ دَلا

ص: 404

اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

في المروءة

المروءة بمعنى الإنسانية لأنها مأخوذة من المرء وهي تعاطي مَا يستحسن وتجنب مَا يسترذل قال بعضهم: حد المروءة رعي مساعي البر، ورفع دواعي الضر والطهارة من جميع الأدناس، والتخلص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوم، ولا يلحق به ذم.

وقيل: هي آداب نفسية تحمل مراعاتها الإنسان عَلَى الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. وقيل: هي قوة للنفس مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها المستتبعة للمدح شرعًا وعقلاً وفرعًا وكلها قريبة المعنى. وقيل: هي الصدق والشرق والاستقامة والشجاعة والحمية.

وقال بعضهم: المروءة كلمة لفظها كمعناها حلو جميل إن قرعت السمع فعظمة وجلال وإن نفذت عَلَى القلب فنبل وسمو وشعور بالكرامة والكمال ولست أعدل عن الحق إن قلت إن المروءة هي جماع الفضائل ورأس المكارم وعنوان الشرف بها يسمو المرء ويرتفع ذكره وبفقدها يفقد كل كرامة وفضل.

فهي ميزان الرجال وأصل الجمال وحد المروءة تجمل النفس بما يزينها وتحصينها مما يشينها بحيث تكون للمحامد أهلاً وعن المذام# بمنأى ولا يكون إلا لمن راض نفسه عَلَى التخلف بالخلق الحسن من الصفات والتجمل بجميل العادات حتى يصبح التطبع جبلة والتعود غريزة وليس يستطيع ذلك إلا من جاهد نفسه ونازع هواه رغبة فِي حسن الأحدوثة والذكرى الجميلة. كما قيل:

لَقَدْ أَسْمَعُ الْقَوْلَ الذِّي كَادَ كُلَّمَا

تُذَكِّرُنِيْهِ النَّفْسُ قَلْبِيْ يُصَدَّعُ

فَأُبْدِي لِمَنْ أَبْدَاهُ مِنِّي بَشَاشَةٍ

كَأَنِّي مَسْرُورٌ بِمَا مِنْه أَسْمَعُ

ص: 405

ج

وَمَا ذَاكَ مِنْ عُجْبٍ بِهِ غَيْرَ أَنَّنِي

أَرَى أَنْ تَرَكَ الشَّرِ لِلْشَّرِ أَقْطَع

آخر:

وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيْثٌ بَعْدَهُ

فَكُنْ حَدَيْثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى

مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْتُهُ

وَالْمَرْءُ يَبْقَى بَعْدَهُ حُسْنُ الثَّنَا

وَقَدْ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كلمت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته» . وقال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة المروءة تجنب الدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال.

فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه، واجتباه الثمار مِنْه بسهولة ويسر، ومروءة الخلق سعته وبسطه للحبيب والبغيض.

ومروءة المال الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا.

ومروءة الجاه بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه، فهذه مروءة البذل.

وأما مروءة الترك، فترك الخصام والمعاتبة والممارات، والإغضاء عن عيب مَا يأخذه من حقك وترك الاستقصاء فِي طلبه والتغافل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد مِنْهُمْ عثرة، والتوقير للكبير، وحفظ حرمة النظير، ورعاية أدب الصغير قال: وهي عَلَى ثلاث درجات الدرجة الأولى مروءة الإنسان مع نفسه، وهي أن يحملها قسرًا عَلَى مَا يجمل ويزين وترك مَا يدنس ويشين، ليصير لها ملكة فِي جهره وعلانيته.

شِعْرًا:

وَهَلْ يَنْفَعُ الْفِتْيَانَ حُسْنُ وُجُوْهِهِمْ

إِذَا كَانَتِ الأعْرَاضُ غَيْرُ حِسَانِ

فَلا تَجْعَلِ الْحُسْنَ الدَّلِيْلَ على الْفَتَى

فَمَا كُلُّ مَصْقُوْلِ الْحَدِيْدِ يَمَانِي

ص: 406

آخر:

كَالثُّوْرِ عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيْسِ مَعْرِفَةً

فَلا يُفْرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْفَنَدِ

الْجَهْلُ شَخْصُ يُنَادِي فَوْقَ هَامَتِهِ

لا تَسْألَ الرَّبْعَ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أحَدِ

آخر:

خَلِيْلَيَّ كَمْ ثَوْبٍ وَكَمْ مِنْ عَبَاءَةٍ

عَلَى جَسَدٍ مَا فِيهِ عِلْمٌ وَلا عَقْلُ

وَكَمْ لِحْيَةٍ طَالَتْ عَلَى خَدِّ جَاهِلٍ

فَأَزَرَى بِهَا مِنْ بَعْدَمَا طَالَتَ الْجَهْلُ

وَكَمْ رَاكِبِ بَغْلاً لَهُ عَقْلُ بَغْلَهِ

تَأَمَلْ تَرَى بَغْلاً عَلَى ظَهْرِهِ بَغْلُ

آخر:

كُلُّ الأنَامِ بَنُوْأَبٍ لَكِنَّمَا

بِالْفََضْلِ تَعْرِفُ قِيْمَةُ الإنْسَانِ

فلا يكشف عروته فِي الخلوة، ولا يتجشأ بصوت مزعج مَا وجد إِلَى خلافه سبيلا، ولا يخرج الريح بصوت ولا يجشع وينهم عند أكله وحده وبالجملة فلا يفعل خاليًا مات يستحي من فعله فِي الملإ إلا مَا يحظره الشرع والعقل إن وافق الشرع ولا يكون إلا فِي الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك.

الدرجة الثانية المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم مَا يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس المتمشين مع الشريعة المطهرة فِي أقوالهم وأفعالهم مرآة لنفسه فكل مَا كرهه ونفر عنْه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله.

وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيء الخلق وحسنه، وعديم المروءة وغزيرها، وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيء الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق.

وكان لآخر زوجة حمقاء بذيئة اللسان تشتمه بل وتلعنه باستمرار وتدعو عليه من دون داع فقيل له: كيف تصبر عليها وهذه سيرتها معك غفر الله لك.

فقال: أدرس عليها مكارم الأخلاق وبالأخص الحلم والصبر وأريد أن تبرز زلاتي فأتجنبها وكان كثيرًا مَا يتمثل بهاذين البيتين:

ص: 407

عُدَاتِيَ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَةٌ

فَلا أَذْهَبَ الرَّحْمَنُ عَنِّيَ الأعَادِيَا

هَمُّوْا بَحَثُوْا عَنْ زُلَتِيْ فَأَجْتَنَبْتُهَا

وَهَمْ نَافِسُوْنِي فَاكتَسَبْتُ الْمَعَالِيَا

وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق فِي ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس عَلَى مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه ولكن مَا يفعل ذلك إلا القليل الذين قَدْ وطنوا أنفسهم.

كما قيل:

النَّاسُ مِثْلُ بُيُوتِ الشَّعْرِ كَمْ رَجُلٍ

مِنْهُمْ بِأَلْفٍ وَكَمْ بَيْتٍ بِدِيوَانِ

آخر:

وَكَمْ للهِ مِنْ عَبْدٍ سَمِيْنٍ

كَثِيْرَ اللَحْمُ مَهْزُوْلِ الْمَعَالِي

كَشِبْهِ الطَّبْلِ يُسْمَعُ مِنْ بَعِيْدٍ

وَبَاطِنُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ خَالِي

الدرجة الثانية المروءة مع الحق بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك فِي كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان إنه قَدْ اشتراها منك وأنت ساع فِي تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من المروءة تسليمه عَلَى مَا فيه من عيوب وتقاضي الثمن كاملاً أو رؤية منته فِي هذا الإصلاح وأنه المتولي له لا أنت.

والاشتغال بإصلاح عيوبك نفسك عن التفاتك إِلَى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحه. أ. هـ.

عَلَيْكَ نَفْسَكَ فَتِّشْ عَنْ مَعَايِبِهَا

وَخَلِّي مِنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ لِلنَّاسِ

ومما تقدم يتبين لنا أن مراعاة النفس عَلَى أكمل الأحوال وأفضلها هي المروءة وإذا كانت فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها إلا من وفقه الله وسهل عليه المشاق ويود كل أحد لو حصلت له المروءة ولكن كما قيل:

وَكُلَّ يَرَى طُرُقَ الشَّجَاعَةِ وَالنَّدَى

وَلَكِنْ طَبْعُ النَّفْسِ لِلنَّفْسِ قَائِدُ

ص: 408

آخر:

فَلا تَحْسَبُوْا أَنَّ الْمَعَالِي رَخِيْصِةً

وَلا أَنَّ إِدْرَاكَ الْعُلَى هَيِّنٌ سَهْلُ

فَمَا كُلُّ مَنْ يِسْعَى إِلَى الْمَجْدِ نَالَهُ

وَلا كُلُّ مِنْ يَهْوَى الْعَلا نَفْسُهُ تَعْلُو

قال العلماء: والداعي إِلَى استسهال المشاق شيئان علو الهمة وشرف الله فأما علو الهمة فيدعو إِلَى التقدم وَقَدْ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره دنيها وسفسافها» . قال المناوي: معالي الأمور وأشرافها هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية. أ. هـ.

وأما سفساف الأمور فهو حقيرها ورديؤها، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تصغرن هممكم فإني لَمْ أر

اقعد عن المكرمات من صغر الهمم.

حَاوِلْ جَسِيْمَاتِ الأمُوْرِ وَلا تَقُلْ

إنَّ الْمَحَامِدَ وَالْعُلَى أَرْزَاقُ

آخر:

يَسْتَقْرَبُ الدَّارَ شَوْقًا وَهْيَ نَازِحَةٌ

مَنْ عَالَجَ الشَّوْقُ لَمْ يَسْتَبْعِدَ الدَّارَا

آخر:

فَإِنَّ عَلِيَّاتِ الأمُوْرِ مَشُوْبَةٌ

بِمُسْتَوْدَعَاتٍ فِي بُطُوْنِ الأسَاوُدِ

آخر:

بَصُرْتَ بِالْحَالِةِ الْعُلْيَا فَلَمْ تَرْهَا

نُتَنَالُ إلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

آخر:

وَلَمْ أَرَى فِي عُيُوْبٍ النَّاسَ شَيْئًا

كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ على التَّمَامِ

ويقول:

تُرِيْدِيْنَ لُقْيَانَ الْمَعَالِي رَخِيْصَةً

وَلا بُدَّ دُوْنَ الشَّهْدِ مِنْ إبَرِ النَّحْلِ

وقال بعض العلماء: إذا طلب رجلان أمرًا ظفر به أعظمهما مروءة لكثرة وجاهته ووسائطه عند ذوي الأمر، وأما شرف النفس فيدعو إِلَى الشهامة وهي الحرص عَلَى مَا يوجب الذكر الجميل، والاحتمال وهو إتعاب النفس فِي الحسنات كما قيل:

وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا

فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيْلُ

فباتعا بها يكون التأديب واستقرار التقويم والتهذيب لأنها ربما تركت الأفضل وهي به عارفة، ونفرت عن التأنيب وهي له مستحسنة،

ص: 409

لأنها عليه غير مطبوعة غير ملائمة، وَقَدْ قيل: مَا أكثر من يعرف الحق ولا بطبعه، وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة فإذا خالط شرف النفس الآداب صادف طبعًا ملائمًا فنما واستقر بإذن الله تعالى.

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوْسُ كِبَارًا

تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأجْسَامُ

اللهم احمنا عن الميل والركون إِلَى أعدائك وارزقنا بغضهم وسأعوانهم والمؤيدين لهم اللهم شتت شملهم ودمرهم أجمعين وانصر من نصر الإسلام والمسلمين وأحب فيك وأبغض فيك يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

قال العلماء: وللمروءة شروط فِي نفس المرء وشروط فِي حق غيره فأما شروطها فِي حق نفسه بعد التزام مَا أوجبه الشرع من أحكامه فيكون بثلاثة أمور وهي العفة والنزاهة والصيانة.

فأما العفة فنوعان أحدهما العفة عن المحارم، والثاني العفة عن المآثم.

شِعْرًا:

فَيَا نَفْسُ صَبْرًا إِنَّمَا عِفَّةُ الْفَتَى

إِذَا عَفَّ عَنْ لَذَّاتِهِ وَهُوَ قَادِرُ

فأما العفة عن المحارم فنوعان، أحدهما: ضبط الفرج عن الحرام كالزنا واللواط.

والثاني: كف اللسان عن الأعراض كالقذف والسعاية والنميمة والغيبة والكذب والاستهزاء ونحو ذلك. مما قَدْ كثر فِي زماننا بسبب التلفزيون والفيديو والتلفون المذياع فلهذا ينبغي الابتعاد عن الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح قال بعضهم:

لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيْدُ شَيْئًا

سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيْلَ وَقَالَ

فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إِلا

لأخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إِصْلاحِ حَالِ

ص: 410

آخر:

النَّاسِ دَاءٌ دَفِيْنٌ لا دَوِاءَ لَهُ

الْعَقْلَ قَدْ حَارَ مِنْهُمْ فَهُوَ مُنْذَهِلُ

إِنْ كُنْتَ مُنْبَسِطًا سُمِّيتَ مَسْخَرَةً

أَوْ كُنْتَ مُنْقَبِطًا قَالُوْا بِهِ ثِقَلُ

وَإِنْ تُوَاصُلِهُمْ قَالُوا بِهِ طَمَعٌ

وَإِنْ تُقَاطِعَهُمْ قَالُوْا بِهِ مَلَلُ

وَإِنْ تَهَوَّرَ يَلَقُوْهُ بِمَنْقَصَةٍ

وَإِنْ تَزْهَدْ قَالُوْا زُهْدُهُ حِيَلُ

آخر:

لِقَاءُ أَكْثَرُ مَنْ تَلْقَاهُ أَوْزَارُ

فَلا تُبَالِ أَصَدُّوا عَنْكَ أَوْزَارُوْا

لَهُمْ لَدَيْكَ إِذَا جَاؤُكَ أَوْ طَارُ

فَإِنْ قَضَوْهَا تَنَحُّوْا عَنْكَ أَوْ طَارُوا

فأما ضبط الفرج عن الحارم فلأن عدمه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معرة فاضحة وإثم واضح، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من وقي شر ذبذبة ولقلقة وقبقبة فقد وقي» . وفي رواية: «فقد وجبت له الجنة» . والمراد بالذبذب الفرج وبلقلقه لسانه، وبقبقبة بطنه.

والداعي إِلَى الوقوع فِي الحرام شيئان إرسال الطرف والثاني إتباع الشهوة وَقَدْ تقدم الكلام عَلَى النظر المحرم فِي (ص 209) :

شِعْرًا:

لَيْسَ الظَّرِيْف بِكَامِلٍ فِي ظُرْفِهِ

حَتَى يَكُونَ عَنْ الْحَرَامِ عَفِيفَا

فَإِذَا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمَ رَبِّهِ

فَهُنَاكَ يُدْعَى فِي الأنَامِ ظَرِيْفَا

ومن ذلك ترغيب النفس فِي الحلال عوضًا عن الحرام وإقناعها بالمباح بدلاً من المحرم فإن الله مَا حرم شيئًا إلا وأغنى عنه بمباح ليكون ذلك الإغناء عونًا عَلَى الطاعة، وحاجزًا عن المخالفة، قال عمر رضي الله عنه: مَا أمر بشيء إلا وأعان عليه، ولا نهى عن شيء إلا وأغنى عنه.

مَا أَقْبَحَ الْعِرْضُ مَدْنُوسًا بِفَاحَشَةٍ

يَخُطُّهَا اللَّوْحُ أَوْ يَجْرِي بِهَا الْقَلَمُ

وَالْحُسْنُ لا حُسْنَ فِي وَجْهٍ تَأَمَّلُهُ

إِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهُ الأخْلاقُ وَالشِّيَمُ

وَلِلْشَّبِيْبَةِ بُنْيَانُ تُكَمِّلُهُ

لَكَ الثَّلاثُوْنَ عَامًا ثُمَّ يَنْهَدِمُ

ص: 411

ومن ذلك إشعار النفس تقوى الله فِي أوامره، واتقاؤه فِي زواجره وإلزامها مَا ألزم من طاعته، وتحذيرها مَا حذر من معصيته وإعلامها أنه لا يحفى عليه فِي الأرض ولا فِي السماء ولا بينهما كما قال تعالى:{عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .

وأنه يجازي المحسنين بإحسانه كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وأنه يجزي المسيء بما عمل كما قال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وبذلك نزلت الكتب وبلغت الرسل.

وَقَدْ ورد أن آخر مَا نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قال فِي مِنْهاج اليقين شرح أدب الدنيا والدين: فإذا أشعر صاحب الشهوة مَا وصفت من الأمور انقادت أي النفس إِلَى الكف وأذعنت بالاتقاء فسلم دينه من دنس الريبة وظهرت مروءته.

وأما كف اللسان عن الوقوع فِي الأعراض، فالوقوع فيها ملاذ السفهاء، وانتقام أهل الغوغاء والسفلة. قلت: وإلى هذا أشار أبو الطيب فِي قوله: مع أنه لَمْ يعمل بقوله فقد اغتاب وقذف الأبرياء.

وَأَكْبِرَ نَفْسِي عَنْ جَزَاءٍ بِغِيبَةٍ

وَكُلُّ اغْتِيَابٍ جُهْدُ مَنْ لا لَهُ جُهْدُ

وهو مستسهل الكلف إذا لَمْ يقهر نفسه عنه برادع كاف وزاجر ساد تلبط بمعارة وتخبط بمضاره فهلك وأهلك ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِي الحرمة بين سفك الدم، وهتك العرض، لما فيه من إيغار الصدور بالحقد وإبداء الشرور وإظهار البذاء.

قال بعض الحكماء: إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال.

ص: 412

وأما العفة عن المأثم فنوعان: أحدهما الكف عن المجاهرة بالظلم والثاني: زجر النفس عن الأسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك، وطغيان متلف للمجاهر.

قال الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله تعالى يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا فإن الله يقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} » .

والباعث عَلَى المجاهرة بالظلم الجرأة والقسوة، والصاد عن ذلك رؤية آثار غضب الله تعالى فِي الظالمين، وأن يتصور عواقب ظلمهم وأما الاستسرار بالخيانة فدناءة ولآمة.

وأما النزاهة فنوعان أحدهما: النزاهة عن المطامع الدنية. والثاني: زجر النفس عن الإسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو وطغيان.

شِعْرًا:

عَلَيْكَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا

وَبِرِّ ذَوِي الْقُرْبَى وَبِرِّ الأبَاعِدِ

وَلا تَصْحَبَنْ إِلا تَقِيًّا مُهَذَّبًا

عَفِيفًا زَكِيًّا مُنْجِزًا لِلْمَوَاعِدِ

وَقَارِنْ إِذَا قَارَنْتَ حُرًّا مُؤْدَّبًا

فَتَى مِنْ بَنِي الأحْرَارِ زَيْنِ الْمَشَاهِدِ

وَكُفَّ الأذَى وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاتَقِي

فَدِيَّتُكَ فِي وُدِ الْخَلِيْلِ الْمُسَاعِدِ

وَغُضَّ عَنْ الْمَكْرُوْهُ طَرْفَكَ وَاجْتَنِبْ

أَذَى الْجَارِ وَاسْتَمْسِكْ بِحَبْلِ الْمَحَامِدِ

ص: 413

ج

وَكُنْ وَاثِقًا بِاللهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ

يَصُنْكَ مَدَى الأيَامِ مِنْ شَرِّ حَاسِدِ

وَبِاللهِ فَاسْتَعْصِمْ وَلا تَرْجُ غَيْرَهُ

وَلا تَكُ لِلنَّعْمَاءِ عَنْهُ بِجَاحِدِ

وَنَافِسْ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي طَلَبِ الْعُلَى

بِهِمَّةِ مَحْمُودِ الْخَلائِقِ مَاجِدِ

وَلا تَبْنِ فِي الدَّنْيَا بِنَاءَ مُؤَمِّلٍ

خُلُودًا فَمَا حَيٌّ عَلَيَهَا بخَالِدِ

وَكُلُّ صَدِيقٍ لَيْسِ للهِ وُدُّهُ

فَنَادِ هَلْ بِهِ مِنْ مُزَايِدِ

اللهم استر مَا بدا منا من العيوب وأمنا يوم الشدائد والكروب، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

فِي بر الوالدين وتحريم عقوقهما

البر: الصلة والحسنة والخير، وفي المطالع فِي قوله صلى الله عليه وسلم:«وإن الصدق يهدي إِلَى البر» . البر اسم جامع للخير، وعق الولد أباه إذا آذاه وعصاه وخرج عليه: بر الوالدين فريضة لازمة وعقوقهما حرام، ولا ينكر فضل الوالدين إلا المتوغل فِي النذالة والآمة.

ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات عَلَى مَا قاموا به نحوهم من الطفولة إِلَى الرجولة من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالد مملوكًا فيشتريه فيعتقه كما فِي حديث أبي هريرة قال

ص: 414

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» . رواه مسلم.

فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه عَلَى العباد نعم، لا تحصى كما قال تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الايلاد والتربية الصالحة، والعناية التامة بالأولاد، وأكبر الخلق وأعظمهم نعمة عَلَى الإنسان بعد رسل الله والده اللذان جعلهما الله سببًا لوجوده واعتنيا به منذ كان حملاً إِلَى أن كبر.

فأمه حملته شهورًا تسعًا قي الغالب تعاني به فِي تلك الأشهر مَا تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل فإذا آن وقت الوضع وأجاءها المخاض، شاهدت الموت، وقاست من الآلام مَا الله به عليم فتارة تموت، وتارة تنجو ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع كان الأمر سهلاً ولكن يكثر النصب ويشتد بعده قال الله تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ثم ترضعه حولين كاملين غالبًا فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، تضيق أحشاؤها وقت حمله بالطعام والشراب. وتضعف عند الوضع أعضاؤها.

ثم بعد ذلك صياح بالليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما، ويتعب قلبيهما، ويذرف دموعهما، ومرض يعتري الولد من وقت لآخر، تنخلع له قلوبهما انخلاعًا وتنهد به أبدانهما هدًّا.

وتعهد من الأم لجسمه بالغسل، ولثيابه بالتنظيف، ولإفرازاته بالإزالة، لا يومًا ولا يومين، ولا شهرًا ولا شهرين ولا سنةً ولا سنتين هي به ليلها ونهارها فِي متاعب ومشاق، تصغر بجانبها متاعب المؤبدين فِي الأعمال الشاقة.

ص: 415

يضاف إِلَى ذلك امتصاصه دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لك يكن مِنْه لهدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها إلا هذا الامتصاص لكفى.

فإذا شب وبرزت أسنانه، وقويت معدته عَلَى قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له، انفتح لوالديه باب الفكر والكد لجلب طعامه وشرابه وسائر شؤونه، وبرما احتملا ألم الغربة والسفر إِلَى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد.

وكثيرًا مَا يضحي الوالدان براحتهما فِي سبيل راحة الأبناء والبنات، والطفل يعرف أمه ويحبها قبل كل أحد فإذا غابت صاح حتى تأتيه وإذا أعرضت عنه دعاها وناحها بما يقدر عليه من كلام أو غيره وإذا أصابه شيء يؤلمه استغاث وناداها، يظن أن الخير كله عندها وأن الشر لا يخلص إليه مَا دامت تضمه عَلَى صدرها وترعاه بعينها وتذب دونه بيديها.

ولذلك هي مقدمة فِي الحضانة إذا فراقها زوجها ولم تتزوج حتى يميز ويختار من شاء مِنْهمَا كما فِي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: يا رسول الله أن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له جواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينتزعه مني فقال:«أنت أحق به مَا لَمْ تنكحي» . رواه أحمد وأبو داود.

ثم الولد لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش به أن خرج تعلق به وإذا حضر قعد عَلَى حجره، مستندًا عَلَى صدره، وإذا غاب سأل عنه وانتظره، يرى أنه إذا رضي أعطاه مَا يريد وإذا غضب ضربه وأدبه، يخوف من يؤذيه بأبيه، وأي حب واحترام بعد هذا،

ص: 416

ولكن يا للأسف سرعان مَا ينسى الجميل وينكر المعروف ويلتفت إِلَى زوجته وأولاده.

ولذلك لا يحتاج الآباء إِلَى توصية بالأبناء إنما يحتاج الأولاد إِلَى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب والديهم نحوهم.

شِعْرًا:

قَضَى اللهُ أَنْ لا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ حَتْمًا

فَيَا وَيْحَ شَخْصٍ غَيْرَ خَالِقِهِ أَمَّا

وَأَوْصَاكُمُوا بِالْوَالِدَيْنِ فَبَالِغُوا

بِبِرِّهِمَا فَالأجْرَ فِي ذَاكَ وَالرَّحْمَا

فَكَمْ بَذَلا مِنْ رَأْفَةٍ وَلَطَافَةٍ

وَكَمْ مَنَحَا وَقَتْ احْتِيَاجِكَ مِنْ نُعْمَا

وَأُمُّكَ كَمْ بَاتَتْ بِثِقْلِكَ تَشْتَكِي

تُوَاصِلُ مِمَّا شَقَّهَا الْبُؤْسَ وَالْغَمَّا

وَفِي الْوَضْعِ كَمْ قَاسَتْ وَعِنْدَ وِلادِهَا

مُشَقًّا يُذِيْبُ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ وَالْعِظْمَا

وَكَمْ سَهِرَتْ وِجْدًا عَلَيْكَ جُفُونِهَا

وَأَكْبَادُهَا لَهْفًا بِجَمْرِ الأسَا تَحْمَى

وَكَمْ غَسَّلَتْ عَنْكَ الأذَى بِيَمِيْنِهَا

حُنُوًّا وَإشْفَاقًا وَأَكْثَرَتِ الضَّمَّا

فَضَيَّعْتَهَا لَمََّا أَسَنَّتْ جَهَالَةً

وَضِقْتَ بِهَا زَرْعًا وَذَوَّقْتُهَا سُمَّا

وَبِتَّ قَرِيْرَ الْعَيْنِ رَيَّانَ نَاعِمًا

مُكِبًّا عَلَى اللَّذَاتِ لا تَسْمَعُ اللَّوْمَا

ص: 417

وَأُمُّكَ فِي جُوْعٍ شَدِيْدٍ وَغُرْبَةٍ

تَلِيْنُ لَهَا مِمَا بِهَا الصَّخْرَةُ الصَّمَا

أَهَذَا جَزَاهَا بَعْدَ طُوْلِ عِنَائِهَا

لأَنْتَ لَذُوْ جَهْلِ وَأَنْتَ إِذًا أَعْمَى

آخر:

فَلا تُطِعْ زَوْجَةً فِي قَطْعِ وَالِدَةٍ

عَلَيْكَ يَا ابْنَ أَخِيْ قَدْ أَفْنَتِ الْعُمُرَا

فَكَيْفَ تُنْكِرُ أُمًّا ثُقْلُكَ احْتَمَلَتْ

وَقَدْ تَمَرَّغْتَ فِي أَحْشَائِهَا شُهُرَا

وَعَالَجَتْ بِكَ أَوْجَاعَ النِّفَاسِ وَكَمْ

سُرَّتْ لَمَّا وَلَدَتْ مَوْلُدِهَا ذَكَرَا

وَأَرْضَعَتْكَ إِلَى حَوْلَيْنِ مُكْمِلَةً

فِي حَجْرِهَا تَسْتَقِيْ مِنْ ثَدْيِهَا الدُّرَرَا

وَمِنْكَ يُنْجِسُهَا مَا أَنْتَ رَاضِعُهُ

مِنْهَا وَلا تَشْتَكِي نَتْنًا وَلا قَذَرَا

وَقُلْ هُوَ اللهُ بِالآلافِ تَقْرَؤُهَا

خَوْفًا عَلَيْكَ وَتُرْخِي دُوْنَكَ السُّتُرَا

وَعَامَلَتْكَ بِإِحْسَانٍ وَتَرْبِيَةٍ

حَتَى اسْتَوَيْتَ وَحَتَى صِرْتَ كَيْفَ تَرَى

فَلا تُفَضِّلْ عَلَيْهَا زَوْجَةً أَبَدًا

وَلا تَدَعْ قَلْبُهَا بِالْقَهْرِ مُنْكَسِرَا

وَالْوَالِدُ الأصْلُ لا تُنْكِرْ لِتَرْبِيَةٍ

وَاحْفَظْهُ لاسِيَّمَا إِنْ أَدْرَكَ الْكِبَرَا

ص: 418

فَمَا تُؤَدِّيْ لَهُ حَقًّا عَلَيْكَ وَلَوْ

على عُيُوْنِكَ حَجُ الْبَيْتِ وَاعْتَمَرَا

اللهم وفقنا لحبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إِلَى حبك وألهمنا ذكرك وشكرك وأعمر أوقاتنا بطاعتك وحل بيننا وبين معاصيك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وَقَدْ أمر الله جل شانه بالإحسان عَلَى الوالدين فِي آيات من القرآن الكريم قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} .

وَقَدْ فضل سبحانه وتعالى مَا يجب من الإحسان إِلَى الوالدين بقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} الآيتين المعنى إذا وصل الوالدان أو أحدهما إِلَى الكبر حال الضعف والعجز وصارا عندك فِي آخر العمر كما كنت عندهما فِي أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف لهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه على أن الفضل للمتقدم.

ويتجلى ذلك بأن تتبع معها أمورًا خمسة أولاً تتأفف من شيء تراه وتشمه من أحدهما أو مِنْهمَا مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك فِي

ص: 419

صغرك واحذر الضجر والملل القليل والكثير وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

ثانيًا: أن لا تنغض ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما به وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول عَلَى سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما.

ثالثًا: أن تقول لهما قولاً كريمًا أي حسنًا طيبًا مقرونًا بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة كأن تقول: يا أبتاه أو يا والدي ويا أماه أو يا والدتي ولا تدعهما بأسمائهمَا ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك بل يكون نظرك إليهما نظر لطف وعطف وتواضع.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يتل القرآن من لَمْ يعمل به، ولم يبر والديه من أحد النظر إليهما فِي حال العقوق أولئك برآء مني وأنا مِنْهُمْ بريء» . رواه الدارقطني.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة فِي قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال: إن أغضباك فلا تنظر إليهما شزرًا، فإنه أول مَا يعرف به غضب المرء شدة نظره إِلَى من غضب عليه.

وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قيل له: إِلَى مَا ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحد النظر إليهما. واعلم أن النظر إليهما بعين الحنو والعطف والشفقة والتفقد لما يكرهان فهذا لا بأس به كما أن غض الطرف عنهما كراهة عقوق قال الشاعر فِي ابنه:

ص: 420

يَوَدُّ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ

وَلَوْ مُتُّ بَانَتْ لِلْعَدُوِّ مَقَاتِلُهْ

إِذَا مَا رَآنِيْ مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ

كَأْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِيْ يُقَابِلُهُ

رابعًا: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة كفاء رحمتها لك وجميل شفقتهما عليك.

خامسًا: أن تتواضع لهما وتذلل وتطيعهما فيما أمراك به مَا لَمْ يكن معصية لله وتشتاق وترتاح إِلَى بذل مَا يطلبان منك من حطام الدنيا الفانية رحمة منك بهما وشفقة عليهما إذ هما قَدْ احتاجا إِلَى من كان أحوج الناس إليهما أيام كان فِي غاية العجز عن أي مصلحة من مصالحه بحيث لو غفل عنه والده قليلاً من الزمن لهلك.

وعَلَى الجملة فقد أكد جل وعلا التوصية بهما من وجوه كثيرة، وكفاها أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما فِي سلك القضاء بهما معًا، وَقَدْ ورد فِي بر الوالدين أحاديث كثيرة، من ذلك أن رجلاً جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه فِي الجهاد معه فقال:«أحيٌّ والداك» ؟ قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» .

ومن ذلك مَا رواه مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ومن ذلك مَا روي عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إِلَى الله ورسوله قال: «الصلاة عَلَى وقتها» . قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» . قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد فِي سبيل الله» .

ص: 421

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة» . رواه مسلم.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك عَلَى الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال: «فهل من والديك أحد حي» ؟ قال: نعم بل كلاهما. قال: «فتبتغي الأجر من الله تعالى» ؟ قال: نعم. قال: «فارجع إِلَى والديك فأحسن صحبتهما» . متفق عليه.

وأخرج ابن ماجة عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله مَا حق الوالدين عَلَى ولدهما؟ قال: «هما جنتك ونارك» .

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يمد له فِي عمره ويزاد فِي رزقه فليبر والديه وليصل رحمه» . رواه أحمد والبيهقي بسند رجاله رجال الصحيح، وأصله فِي الصحيحين باختصار.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك عَلَى الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» . رواه أبو داود.

قال الناظم:

وَيَحْسُنُ تَحْسِيْنٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ

وَلاسِيَّمَا لِلْوَالِدِ الْمُتَأَكْدِ

ص: 422

وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ

سِوَى فِي حَرَامٍ أَوْ لأمْرٍ مُؤَكَّدِ

كَتِطْلاب عِلْمٍ لا يَضُرُّهُمَا بِهِ

وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدِ

وَأَحْسِنْ إِلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ

فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ

وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» . وعن وهب ابن منبه قال: إن الله تعالى أوحى إِلَى موسى صلوات الله وسلامه عليه يا موسى وقر والديك، فإن من وقر والديه مددت فِي عمره، ووهبت له ولدًا يوقره ومن عق والديه قصرت فِي عمره ووهبت له ولدًا يعقه.

وذكر فِي الآداب الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما رد الله عقوبة سليمان عن الهدد لبره كان بأمه. وقال عكرمة: إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد إنه كان بارًا بوالديه ينقل إليهما الطعام فيرزقهما. انتهى.

وقصة الهدهد على مَا قيل عنها هي أنه لما توعده سليمان بقوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وذلك أنه لما فقده لأجل الماء، فدعا سليمان عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه.

ص: 423

ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليَّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله، وقال: بحق الذي قواك وأقدرك عليّ إلا رحمتيني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إن نبي الله حلف ليعذبنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى. قال: {لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} .

فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا فلما دنا مِنْه أخذ رأسه فمده إليه، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان عليه السلام وعفا عنه. انتهى.

والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وسلم.

(فَصْلٌ)

وبر الأم مقدم على بر الأب لما سيأتي من الأحاديث، وذلك أنها تنفرد عن الأب بأشياء مِنْهَا مشقة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع وكثرة الشفقة والخدمة والحنو.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أبوك» .

وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني اشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. قال: «هل بقي من والديك أحد» ؟ قال: أمي. قال: «قابل الله فِي برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد» . رواه

أبو يعلى والطبراني فِي الصغير والأوسط وإسناد هما جيد.

ص: 424

وعن طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أريد الجهاد فِي سبيل الله قال: «أمك حية» ؟ قلت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألزم رجلها فثم الجنة» . رواه الطبراني.

وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وَقَدْ جئت أستشيرك، فقال:«هل لك من أم» ؟ قال: نعم. قال: «فألزمها فإن الجنة عند رجلها» . رواه ابن ماجة والنسائي واللفظ له والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

ورواه الطبراني بإسناد جيد ولفظه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره فِي الجهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألك والدان» ؟ قلت: نعم. قال «ألزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما» .

وعن أبي الدرداء أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع هذا الباب أو احفظه» . رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«طلقها» . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابن حبان فِي صحيحه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

شِعْرًا:

زُرْ وَالَدَيْكَ وَقِفْ لي قَبْرَيْهِمَا

فَكَأَنَّنِيْ بِكَ قَدْ نُقِلْتَ إِلَيْهِمَا

مَا كَانَ ذَنْبَهُمَا إِلَيْكَ فَطَالَمَّا

مَنَحَاكَ مَحْضَ الْوِدِّ مِنْ نَفْسَيْهِمَا

كَانَا إِذَا مَا أَبْصَرَا بِكَ عِلَّةً

جَزَعًا لِمَا تَشْكُوْهُ شَقَّ عَلَيْهِمَا

كَانَا إِذَا سَمِعَا أَنِيْنَكَ أَسْبَلَا

دَمْعَيْهِمَا أَسَفًا على خَدَّيْهِمَا

ص: 425

ج

وَتَمَنَّيَا لَوْ صَادَفَا لَكَ رَاحَةً

بِجَمِيْعِ مَا يَحْوِيِهِ مُلْكُ يَدَيْهِمَا

أَنَسِيْتَ حَقَّهُمَا عَشِيَّةَ أُسْكِنَا

دَارَ الْبَلا وِسَكَنْتَ فِي دَارَيْهِمَا

فَلَتَلْحَقَّهُمَا غَدًا أَوْ بَعْدَهُ

حَتْمًا كَمَا لَحِقَا هُمَا أَبَوَيْهِمَا

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الله فِي رضا الوالد وسخط الله فِي سخط الوالد» . رواه الترمذي ورجح وقفه وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقالا: صحيح على شرط الشيخين.

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال:«نعم صلي أمك» . رواه البخاري ومسلم.

قال بعضهم:

لَئِنْ كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُقَدَمًا

فَمَا يَسْتَوِيْ فِي بِرِّهِ الأبُ وَالأمُ

وَهَلْ يَسْتَوِي الْوَضْعَانِ وَضْعُ مَشَقَةٍ

وَوَضْعُ التِّذَاذٍ ذَاكَ بُرْءٌ وَذَا سُقْمُ

إِذَا التَّفَتَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ بِطَرْفِهَا

فَكُنْ حَذِرًا مِنْ أَنْ يُصِبْ قَلْبَكَ السَّهْمُ

وَفِي آيَةِ التَّأْفِيفِ لِلْحُرِّ مُقْنِعٌ

وَلَكِنَّهُ مَا كُلُّ عَبْدٍ لَهُ فَهْمُ

وروى وهب بن منبه فِي حديث طويل أن فتى كان برًا بوالديه وكان يحتطب على ظهره فإذا باعه تصدق بثلثه وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه

ص: 426

ثلثه، فقالت له أمه: إني ورثت من أبيك بقرة فتركتها فِي البقر على اسم الله، فإذا أتيت البقر فادعها باسم إله إبراهيم.

فذهب فصاح بها، فأقبلت فانطقها الله، فقالت: اركبني يا فتى. فقال الفتى: إن أمي لَمْ تأمرني بهذا فقالت: أيها البر بأمه لو ركبتني لَمْ تقدر عليّ فانطلق فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله معك لانقلع لبرك بأمك.

فلما جاء بها قالت أمه: بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني فبعث الله ملكًا فقال: بكم هذه؟ قال بثلاثة دنانير على رضىً من أمي، قال: لك ستة ولا تستأمرها، فأبى وعاد إِلَى أمه فأخبرها فقال: بعها بستة على رضىً مني، فجاء الملك فقال: خذ اثني عشر ولا تستأمرها فأبى وعاد إِلَى أمه فأخبرها فقالت: يا بني ذاك ملك فقل له: بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال: يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل فِي بني إسرائيل.

وفي رواية فقال له الملك: اذهب إِلَى أمك وقل لها امسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل فِي بني إسرائيل فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصفت لهم تلك البقرة مكافأة على بره بوالدته فضلاً من الله ورحمة.

وعن أسير بن جابر رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه إذ أتى أمراء اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى عليه

ص: 427

فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت مِنْه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم.

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ مِنْه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» . فاستغفر لي، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال ألا أكتب لك إِلَى عاملها؟

قال: أكون فِي غبراء الناس أحب إلي. فانظر المنزلة التي بلغها هذا البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يقول لعمر: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل إذا أتى» . ثم حرص عمر رضي الله عنه على السؤال عن أويس ليطلب مِنْه الاستغفار له.

رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً قَدْ حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت والله يثيبك على القليل كثيرًا.

وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إِلَى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم قال رجل مِنْهم:

ص: 428

اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما.

اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا مَا نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج معه قال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها. فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها.

اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا مَا نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج مِنْها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت مِنْه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلّي أجري فقلت: كل مَا ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك مِنْه شيئًا.

اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا مَا نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» . والشاهد من الحديث لما نحن فيه قصة الأول الذي هو البار بوالديه.

ص: 429

قال بعضهم:

لأمِّكَ حَقٌّ لَوْ عَلِمْتَ كَبِيْرُ

كَثِيْرُكَ يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيْرُ

فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثُقْلِكَ تَشْتَكِي

لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّهُ وَزَفِيرُ

وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْكَ مَشَقَّةٌ

فَكَمْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ

وَكَمْ غَسَّلَتْ عَنْكَ الأذَى بِيَمِينِهَا

وَمِنْ ثَدْيِهَا شُرْبٌ لَدَيْكَ نَمِيرُ

وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْكَ قُوْتِهَا

حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا وَأَنْتَ صَغِيرُ

فَضَيَّعْتَهَا لَمَّا أَسَنَّتْ جَهَالَةً

وَطَالَ عَلَيْكَ الأَمْرُ وَهُوَ قَصِيرُ

فَآهًا لِذِيْ عَقْلٍ وَيَتَّبِعُ الْهَوَى

وَوَاهًا لأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ

فَدُوْنَكَ فَارْغَبْ فِي عَمِيْمِ دَعَائِهَا

فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُوْ إِلَيْهِ فِقِيرُ

اللهم علمنا مَا ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا اللهم قوي معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا وتمعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

ص: 430

(فَصْلٌ)

وليس بر الوالدين مقصورًا على الحياة فقط فقد ورد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما.

قال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» . رواه أبو داود وابن حبان فِي صحيحه، وزاد فِي آخره، قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه. قال: «فاعمل به» .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب وهو يرضون باليسير فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» . رواه مسلم.

وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لَمْ أتيتك؟ قال: قلت لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يصل أباه فِي قبره فليصل إخوان أبيه بعده» . وإنه كان بين عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك. رواه ابن حبان فِي صحيحه.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت

ص: 431

الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان كذلكم البر كذلكم البر» . وكان أبر الناس بأمه. رواه فِي شرح السنة والبيهقي فِي الشعب شعب الإيمان.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح مطيعًا لله فِي والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة وإن كان واحدًا فواحدًا ومن أمسى عاصيًا لله فِي والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار وإن كان واحدًا فواحدٌ» . قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: «وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه» .

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من ولد بار ينظر إِلَى والديه نظر رحمة إلا كتب له بكل نظرة حجة مبرورة» . قالوا: وإن نظر كل يوم مائة مرة؟ قال: «نعم الله أكبر وأطيب» . رواهما البيهقي فِي شعب الإيمان (فوائد) .

ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي المشهور بكى عليها فقيل له فِي ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إِلَى الجنة فغلق أحدهما وكان رجل من المتعبدين يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يومًا على أصحابه فسألوه فقال: كنت أتمرغ فِي رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات.

وقيل لعلي بن الحسين: إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك فِي صحفة فقال: أخاف أن تسبق يدي يدها إِلَى مَا تسبق إليه عيناها فأكون قَدْ عققتها. ويا للأسف نحن فِي جيل أكثر أهله لا يرى للوالدين حقًّا بل يستهين بهما وينتقصهما وربما شتمها أو مَا هو أعظم من ذلك من فلذلك

ص: 432

إذا رأيت الوالدين فِي هذا الوقت المظلم ورأيت خدمتها لولدهما رحمتها وربما ذرفت عيناك وتألم قلبك.

وتجد هذا المخدوم ربما أنه لا يصلي أصلاً أو لا يشهد الجماعة أو من أهل الفساد والأسكار وشرب الدخان أو ممن يشتبه باليهود والنصارى والمجوس بحلق لحيته أو يجعل خنافس أو تواليت أو ممن يعكف عند المحرمات والملاهي وسائر المنكرات طوال ليله عبد فم وفرج.

شِعْرًا:

هَذَا الزَّمَانُ الذِّيْ كُنَّا نُحَاذِرُهُ

فِي قَوْلِ كَعْبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُوْدِ

دَهْرٌ بِهِ الْحَقُّ مَرْدُوْدٌ بِأَجْمَعِِهِ

وِالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ فِيهِ غَيْرُ مَرْدُوْدِ

إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ غَيْرٌ

لَمْ يُبْكِ مَيْتٌ وَلِمْ يَفْرَحْ بِمَوْلُوْدِ

آخر:

إِلَى اللهِ أَشْكُوْ وِحْدَتِي فِي مَصَائِبِي

وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ لَوْ كُنْتَ حَازِمَا

عَلَيْكَ بِالاسْتِرْجَاعِ إِنَّكَ فَاقِدٌ

حَيَاةَ الْعُلَى وَابْغِ السُّلُوَّ مُنَادِمَا

قال أحمد رضي الله عنه: بر الوالدين كفارة الكبائر وكذا ذكر ابن عبد البر عن مكحول، ويشهد لهذا مَا رواه الترمذي واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا فهل لي

ص: 433

من توبة؟ فقال: «هل لك من أم» . وفي رواية ابن حبان والحاكم «هل لك والدان» ؟ قال: لا. قال: «فهل لك من خالة» . قال: نعم، قال:«فبرها» . ومن الفوائد أن أبا هريرة رأى رجلاً يمشي خلف رجل فقال: من هذا؟ قال: أبي قال: لا تدعه باسمه، ولا تجلس قبله، ولا تمشي أمامه.

وذكر فِي الحديث فِي تفسير قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} عنه صلى الله عليه وسلم قال: «المصاحبة بالمعروف أن يطعمهما إذا جاعا ويكسوهما إذا عريا» .

ومن حقوقهما خدمتهما إذا احتاجا أو أحدهما على خدمة وإجابة دعوتهما، وامتثال أمرهما مَا لَمْ يكن معصية لله فلا طاعة لمخلوق فِي معصية الخالق. ومن حقوقهما التكلم معهما باللين واللطف، ومن ذلك أن لا يدعوهما باسمهما، وأن يمشي خلفهما، وأن يدعو الله لهما بالمغفرة والرحمة. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(موعظة)

عباد الله أحسنوا إِلَى الوالدين مَا أمكن لكم الإحسان، وإن حسبتم أنكم كافأتموهم فِي ذلك الإحسان، وكنوا معهما فِي غاية الأدب والاحترام، واحذروا سوء الأدب عندهما وإلا هويتم فِي هوة شقاء مَا لها من قرار وكونوا معهما فِي إجلال واحترام، وتقدير تام وإن حصل منهما لك ظلم.

لأنهما اللذان لولا الله ثم لولاهما لَمْ تخرج على هذا الوجود ولأنهما اللذان سخرهما الله لك فصبرًا على مَا رأيا من الأهوال، وسخرهما لتربيتك والعناية بك فِي هذه الحياة. تذكر زمن حمل أمك

ص: 434

بك وأنت فِي بطنها علة من أكبر العلل، وتذكر وقت أن كانت تلدك وهي مما بها من الأحياء ولا من الأموات وتذكر مَا خرج عقب ولادتك من النزيف الدم الذي هو نفسها.

وتذكر أنك تمص دمها مدة الرضاع، وسرورها بك تقصر عن شرحه العبارات. وتذكر تنظيفها لبدنك وملابسك من الأقذار، وتذكر فزعها عندما يعتريك خوف أو مرض أو نحو ذلك، وتذكر دفاعها عنك إذا اعتدى عليك معتدي.

وتذكر حرصها الشديد على أن تعيش لها ولو حرمت لذة الطعام والشراب وتذكر سهرها عليك عندما يؤلمك شيء من جسدك، وتذكر كد والدك عليك فِي تحصيل مَا به تحيا بإذن الله، لا يهدؤ عن ذلك والدك مدى الليالي والأيام، وكلما خشِيَ أن تجوع تقحم الشدائد وهام على وجهه في الدنيا لا يرده إلا يرده إلا أن يراك فِي يسارٍ.

وتذكر عنايته بك فِي تعليمك وتوجيهك إِلَى مَا فيه صلاح دينك ودنياك وتذكر حياطته ونصحه لك ومقاسات الشدائد لراحتك، وتذكر فرحه واستبشاره بمحبتك ونجاحك، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك فِي مظنة أوقات الإجابة أن يصلحك الله ويوفقك.

وتذكر قلقهما والأدلاج فِي البحث عنك إذا تأخرت عن وقت المجيء، وتأمل وتذكر بشاشتها فيمن يعز عليك لسرورهما بما يسرك، من أجل ذلك أكد الله وشدد عليك بالوصية بهما.

وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنهما جنتك ونارك، وقدم برهما

ص: 435

على الجهاد، ودعا أن يرغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، وأخبر بأكبر الكبائر فذكر عقوقهما بعد الإشراك بالله.

شِعْرًا:

فَكَمْ وَلَدٍ لِلْوَالِدَيْنِ مُضَيَّعٌ

يُجَازِيْهِمَا بُخْلاً بِمَا نَحْلاهُ

طَوَى عَنْهُمَا الْقُوتَ الزَّهِيدَ نَفَاسَةً

وَجَرَّاهُ سَارَا الْحُزْنَ وَارْتَحَلاهُ

وَلامَهُمَا عَنْ فَرْطِ حُبِّهِمَا لَهُ

وَفِي بُغْضِهِ إِيَاهُمَا عَذْلاهُ

أَسَاءَ فَلَمْ يَعْدِلْهُمَا بِشِرَاكِهِ

وَكَانَا بِأَنْوَارِ الدُّجَى عَدَلاهُ

يُعِيْرُهُمَا طَرَفًا مِنْ الْغَيْظِ شَافِنًا

كَأَنَّهُمَا فِي مَا مَضَى تَبِلاهُ

يَنَامُ إِذَا مَا ادْنَفَا وَإِذَا سَرَى

لَهُ الشَّكُوْبَاتَ الْغُمْضَ مَا اكْتَحَلاهُ

إِن ادَّعَيَا فِي وُدِّهِ الْجُهْدَ صُدِّقَا

وَمَا اتُّهِمَا فِيْهِ فَيَنْتَحِلاهُ

يَغُشُّهُمَا فِي الأَمْرِ هَانَ وَطَالَمَا

أَفَاءَا عَلَيْهِ النُّصْحَ وَانْتَحَلاهُ

يَسُرُّهُمَا أَنْ يَهْجُرَ الْقَبْرَ دَهْرَهُ

وَأَنَّهُمَا مِنْ قَبْلِهِ نَزَلاهُ

ص: 436

وَلَوْ بِمُشَارِ الْعَيْنِ يُوْحِيْ إِلَيْهِمَا

لَوْ شَكْ اعْتِزَالِ الْعَيْشِ لاعْتَزَلاهُ

يَوَدَّانِ إِكْرَامًا لَوْ انْتَعَلَ السُّهَا

وَإِنْ حَذِيَا السَّلاءَ وَانْتَعَلاهُ

يَذُمُّ لِفَرْطِ الْغَيِّ مَا فَعَلا بِهِ

وَأَحْسِنْ وَأَجْمِلْ بِالذِّي فَعَلاهُ

يَعُدَّانِهِ كَالصَّارِمِ الْعَضْبِ فِي الْعِدَا

بِظَنِّهِمَا وَالذَّابِلَ اعْتَقَلاهُ

وَيُؤْثِرُ فِي السِّرِّ الْكَنِينِ سَوَاءَهُ

فَيَنْقُلُهُ عَنْهُ وَمَا نَقَلاهُ

اللهم اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

في تحريم العقوق

اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وجنبنا وإياك متا يسخطه ولا يرضاه، أن العقوق من كبائر الذنوب وحده بعضهم بأنه صدور مَا يتأذى به الوالد من قول أو فعل.

وقال بعضهم: ضابط العقوق هو أن يحصل للوالدين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفًا فسبهما وعصيانهما والتلكؤ فِي قضاء شؤونهما،

ص: 437

ومد اليد بالسوء إليهما، ولعنهما وغيبتهما، والكذب عليهما.

كل ذلك عقوق ونكران للجميل، وكذلك نهرهما وقهرهما وتوبيخهما والتأفف منهما والدعاء عليهما، كقوله: أراحنا الله مِنْه، أو أخذه الله أو عجل الله بزوالكم والتكبر عليهما.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر الناس، ثلاثة متكبر على والديه يحقرهما، ورجل سعى بين الناس بالكذب حتى يتباغضوا، ورجل سعى بين رجل وامرأته بالكذب حتى يغيره عليها بغير حق حتى فرق بينهما ثم يخلفه عليها من بعد» . رواه أبو نعيم.

وأخرج البخاري فِي الأدب المفرد قال: حدثنا زياد بن مخراق قال: حدثني طيسلة بن مياس قال: كنت مع النجدات فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر فذكر ذلك لابن عمر قال: مَا هي؟ قلت: كذا وكذا.

قال: ليس هذه الكبائر هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم وإلحاد فِي المسجد، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق، قال لي ابن عمر: أتفر من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: أي والله. قال: أحي والداك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة مَا اجتنبت الكبائر. وأخرج فيه أيضًا قال: حدثنا موسى حدثنا حماد بن سلمة عن زياد بن مخراق عن طيسلة: أنه سمع ابن عمر يقول: بكاء الوالدين من العقوق والكبائر.

ص: 438

وبعض الناس لا يكتفي بالتقصير فِي الواجب فِي حق أبويه بل يسمع والديه مَا يسوؤهما، وتضيق به صدورهما، وينكد عليهما معيشتهما، فتجد الوالد يكره معه الحياة، ويتمنى لأجله أنه لَمْ يكن له ولد وربما تمنى أنه كان عقيمَا.

فكلام الابن العاق تئن له الفضيلة، ويبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتدين، لأن فعله منكر عظيم، وَقَدْ لا يسب العاق أباه مباشرة، ولكن يسب أبا هذا وأم هذا، فيسبون أمه وأباه، ويصبون على والديه من اللعنات أضعاف مَا صدر مِنْه، والبادي هو الظالم وما أكثر السب والشتم واللعن فِي وقتنا هذا، وما أسهله عندهم.

وما أكثر الاحتقار للآباء والأمهات فِي البيوت والأسواق وفي كل محل، ونسأل الله العافية.

ومما جاء فِي العقوق وجرمه وقبحه وإثمه مَا رواه البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال» .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ؟ ثلاثًا قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين» . وكان متكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور» . فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

ص: 439

وللبخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس» . وللبخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين» . متفق عليه.

شِعْرًا:

إلى اللهِ أُهْدِي مِدْحَتِيْ وَثَنَائِيَا

وَقَوْلاً رَصِينَا لا يَنَيْ الدَّهْرَ بَاقِيَا

إلى اِلمَلِكِ الأَعَلَى الذي لَيْسَ فَوْقَهُ

إِلهٌ ولا رَبٌ يَكُوْنُ مُدَانِيا

ألا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِيَّاكَ والرَّدَى

فَإِنَّكَ لَا تَخْفَى مِنْ اللهِ خَافِيا

وَإِيَّاكَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ

فَإِنَّ سَبِيلَ الرُّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا

إلى أن قال:

وَأَنْتَ الذِي مِنْ فََضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ

بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولاً مُنَادِيَا

فَقَلْتَ لَهُ فَاذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوا

إلى اللهِ فَرْعَوْنُ الَّذِي كَانَ طَاغِيَا

وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ

بِلاِ وَتَدٍ حَتَّى اطَمَأنَّتْ كَمَا هِيَا

ص: 440

وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ رَفَعْتَ هَذه

بِلَا عَمَدٍ أرْفُقْ إِذَا تَكُ بَانِيَا

وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا

مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّهُ اللَّيْلَ هَادِيَا

وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشَّمْسَ غَدْوَةً

فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنْ الأَرْضَ ضَاحِيَا

وَقُولَا لَهُ مَنْ يَنْبِتُ الحَبَّ فِي الثَّرَى

فَيُصْبِحَ مِنْه البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا

وَيُخْرِجُ مِنْه حَبَّهُ فِي رُؤُسِه

فَفِي ذَاكْ آيَاتُ لِمنْ كَانَ وَاعِيا

وَأَنْتَ بِفَضَلِ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا

وَقَدْ بَاتَ فِي بَطْنِ لِحُوتِ لَيَالِيَا

اللهم إنا نسألك الثبات فِي الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتبه إِلَى أهل اليمن وبعث به مع عمرو بن حزم «وأن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار فِي سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة وتعلم السحر، وأكل الربا،

ص: 441

وأكل مال اليتيم» . الحديث رواه ابن حبان فِي صحيحه.

وأخرج النسائي والبزار واللفظ له بإسناد جيدين والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء» .

وأخرج أحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق، والديوث الذي يقر الخبث فِي أهله» .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله عز وجل مِنْهُمْ صرفًا ولا عدلا، عاق ومنان ومكذب بقدر» . رواه ابن أبي عاصم فِي كتب السنة بإسناد حسن. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف» . رواه الطبراني فِي الكبير.

وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان، وأديت الزكاة، وحججت البيت، فماذا لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فعل ذلك كان مع

ص: 442

النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه» . رواه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح ورواه ابن خزيمة وابن حبان فِي صحيحهما.

وعن علي عليه رضوان الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله ثم تولى غير مولاه، ولعن الله العاق لوالديه، ولعن الله من نقص منار الأرض» . رواه الحاكم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله سبعة من فوق سبع سمواته وردد اللعنة على واحد مِنْهُمْ ثلاثًا ولعن كل واحد مِنْهُمْ لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمَل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله ملعون من عق والديه، ملعون من أتى شيئًا من البهائم، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غير حدود الأرض ملعون من ادعى إِلَى غير مواليه» . رواه الطبراني فِي الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا محرز ويقال محرر بالإهمال ابن هارون أخي محرر، وقال: صحيح الإسناد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة الساخط عليه أبواه غير ظالمين له» . رواه أبو الحسن ابن معروف فِي كتاب فضائل بني هاشم.

وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

ص: 443

وسلم: «كل الذنوب يؤخر الله مِنْهَا مَا شاء إِلَى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه فِي الحياة قبل الممات» . رواه البخاري فِي الأدب المفرد والطبراني فِي الكبير والحاكم فِي المستدرك والأصبهاني فِي الترغيب.

وذكر أن شابًا كان مكبًا على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين كثيرًا مَا يعظ هذا الابن ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته فإن لله سطوات ونقمات مَا هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد فِي العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام ألح على ابنه بالنصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده فخرج حتى انتهى إِلَى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وانشأ يقول:

يَا مَنْ إِلَيْهِ أَتَى الحُجَّاجُ قَدْ قَطَعُوا

عَرْضَ المَهَامِهِ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعُدِ

إنِّي أَتَيْتُكَ يَا مَنْ لا يُخَيِّبُ مَنْ

يَدْعُوهُ مُبْتَهِلاً بالوَاحِدِ الصَّمدِ

هَذَا مُنَازِلُ لَا يَرْتَدُّ مِنْ عَقَقِي

فَخُذْ بِحَقِي يَا رَحْمَنُ مِنْ وَلَدِي

وَشُلَّ مِنْه بِحَوْلٍ مِنْكَ جَانِبُهُ

يَا مَنْ تَقَدَّسَ لَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَلِدِ

وقيل: إنه استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن. نعوذ بالله

ص: 444

من العقوق، ومن قساوة القلوب، ومن جميع المعاصي والذنوب وكان يقال: كدر العيش فِي ثلاث الولد العاق والجار السوء والمرأة السيئة الخلق لأنك لا تنفك فِي عناء وشغب وتعب فإن سكن العاق برهة من الزمن مَا سكن الجار السوء وأهله وأولاده وإن سكنا لَمْ تسكن العلة الداخلية المرأة السوء سيئة الخلق فأنت فِي هذه الحال غرض لثلاثة سهام موجهة إليك فِي أربع وعشرين ساعة نسال الله العافية مِنْها.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات «لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ولا تتركن صلاة متكوبة متعمدًا فإن من ترك صلاة متكوبة متعمدًا فقد برئت مِنْه ذمة الله، ولا تشربن الخمر فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن المعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وإذا أصاب الناس موت، وأنت فيهم فاثبت.

وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا وأخفهم فِي الله» . رواه أحمد والطبراني فِي الكبير وإسناد أحمد صحيح إلا أن فيه انقطاعًا لأنه من رواية عبد الرحمن ابن جبير عن معاذ وهو لَمْ يسمع مِنْه.

وعن عمرو بن ميمون قال: رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش فغبطه بمكانه فسأل عنه، فقالوا: نخبرك بعمله، لا يحسد الناس على مَا آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعق والديه، قال: أي رب ومن يعق والديه؟ قال: يتسبب لهما حتى يسبا. رواه أحمد فِي الزهد.

شِعْرًا:

صَافِي الكَرْيَمِ فَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتَهُ

مَنْ كان ذا دَاينٍ وكان عَفِيفَا

ص: 445

وَاحْذَرْ مُؤاخَاةَ اللَّئْيمِ فإنَّهُ

يُبْدي الَقبِيحَ وَيُنِكّرُ المَعْرُوفَا

آخر:

تَمسَّكْ بَوَصْلِ الْمُمْسِكِ الدِّينِ واجْتَنِبْ

وصَالَ سِوَاهُ مِنْ قَرِيبٍ وشاسِعِ

فَذُو الدِّينِ أَدْنَى النَاسِ مِنْكَ قَرابةً

فَصِلْهُ فَمَا وَصْلُ البَعِيدِ بِضَائعِ

آخر:

أَخُو الفِسْقِ لا يَغْرُرْكَ مِنْه تَوَدُدٌ

فَكُلُ حِبَالُ الفاسِقِينَ مَهِينُ

وَصَاحِبْ إِذَا مَا كُنْتَ يَوْمًا مُصَاحبًا

أَخَا الدِينِ مِن بالغِيْبِ مِنْكَ أَمِينُ

آخر:

وَلَيْسَ خَلِيلِي بالملُولِ ولا الَّذِي

إِذَا غِبْتُ عَنْهُ باعَنِي بِخَلِيلِ

ولكنْ خَلِيلِي مَنْ يِدُومُ وِصَالُهُ

وَيَحْفَظُ سِرِّي عندْ كُلِّ خَلِيلِ

آخر:

يَمْضِي أَخُوكَ فلا تَلْقَى لَهُ عِوَضٌ

والمالُ بَعْدَ ذَهَابِ المالِ يُكْتَسَبُ

اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وفيما ذكرنا من الأدلة على تحريم العقوق كفاية ولو لَمْ يكن للعاق من العقوق إلا مَا يرى من سوء حاله لكفى فإنك تراه غالبًا فِي أبأس الحالات وآلامها وأشدها وتراهم بعيدين عن عطف القلوب عند من علموا حالهم

ص: 446

لا يحنو عليهم صديق ولا شفيق ولا قريب، ولا يأخذ بيدهم كريم فِي كربة، ولا يرغبون فِي مصاهرته خشية أن يجذبوا أولادهم فيكونوا مثلهم عاقين.

بخلاف البارين فإنك تراهم ونراهم محببين إِلَى القلوب يتمنى كل من يعرفهم ويفهم برهم وصلتهم أن يتقدم إليهم بما يحبون وتجدهم إذا وقعوا فِي شدة يترحم الناس عليهم، ويدعون لهم بالخروج مِنْهَا على أيسر الأحوال وأقربها، هذا حالهم فِي الدنيا التي ليست هي دار الجزاء فكيف فِي الآخرة دار الجزاء؟

ومن أقبح مظاهر العقوق أن يتبرأ الولد من والديه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما كأن يكونا فلاحين أو نجارين أو صناعيين وهو يعيش فِي ترف ويتسنم بعض الوظائف الكبار فيخجل من وجودهما فِي بيته عند زملائه برثاثتها وزيهما القديم.

وربما سئل بعضهم عن أبيه من هذا الذي يباشر فقال: هذا خادم عندنا مستأجر لشئون البيت لأنه يتوهم أن هذه الهيئة واللباس تتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير وهذا بلا شك برهان على سخافة عقله وقلة دينه والنفس العظيمة الشريفة تفتخر وتعتز بمنيتها وأصلها أبيها وأمها مهما كانت حياتهما ونشأتهما وبيئتهما وهيئتهما.

ولا يبعد أن يوجد من النساء اللاتي يقال لهن متعلمات إذا سئلت عن أمها من هذه أن تقول هذه فراشة عندنا أو طباخة أو خدامة نعوذ بالله من الانتكاس وعمى البصيرة ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

وذكر بعضهم أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة يتمنى أن يرزق ولدًا،

ص: 447

وينذر عليه حتى ولد له فسر به غاية السرور وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إِلَى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد ولم يؤخر ممكنا من الإحسان عنه، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره.

فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة فقال الشيخ وهو يضرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان.

وأراد بالاستغفار أن الله تعالى حذره فلم يحذر من ابنه وبقوله: صدق الله قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فجمع فِي هذه الكلمات كل مَا يحتاج إليه فِي هذه الحال.

قال بعضهم ممن تضرر بأقربائه ومعارفه:

جَزَى اللهُ عَنَّا خَيْرَ مِن لَيْسَ بَيْنَنَا

ولا بَيْنَهُ وَدٌ بِهِ نَتَعرَّفُ

فما سَامَنَا ضَيْمًا ولا شَفَّنًا أذَى

مِن الناس إلَاّ مَن نَوَدُّ وَنأْلَفُ

آخر:

أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ

أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ

وَمَا مَدْحِي لَهَا حُبًّا وَلَكِنْ

عَرَفْتُ بِهَا عَدْوِّي مِن صَدِيقِي

أَرَانِي وقَوْمِي فَرَّقَتْنَا مَذَاهِبُ

وإنْ جَمَعَتْنَا فِي الأَصُوُّل المَنَاسبُ

فأقصَاهُمُ أَقصَاهُم عَنْ مَسَاءَتِي

وَأَقْرَبُهُمْ مِمَّا كَرِهْتَ الأَقَارِبُ

نَسِيبُكَ مَن نَاسَبْتَ بالود قَلْبَهُ

وجَارُكَ مَن صَافَيْتَهُ لَا المُصَاقِبُ

وأعَظَمُ أَعْدَاء الرِّجَالِ ثِقَاتُهَا

وأَهْونُ مَن عَادَيْتَهُ مِنْ تُحَاربُ

وقال آخر:

وما زِلْتُ مُذْ نَمَّ العِذَارُ بِوَجْنَتي

أُفَتِّشُ عن هَذَا الوَرَى وأُكَشِّفُ

فَمَا سَاءَنِي إِلَاّ الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ

جَزَا الله خَيرَا كُلَّ مَن لَيْسَ نَعْرِفُ

وقال بعض الآباء الذين ذاقوا عقوق الأولاد لابن له:

ص: 448

.. غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعِلْيُكَ يَافِعًا

تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي إِلَيْكَ وَتُنْهَلُ

إِذَا لَيْلَةٌ نَابَتْكَ بالسُّقْم لَمْ أَبِتْ

لِذِكْرِكَ إِلَاّ سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ

كَأَنِّي أنَا المَطْرُوقُ دُونْكَ بِالَّذِي

طُرِقْتَ بِهِ دُونِي وَعَيْنِي تُهْمِلُ

تَخافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا

لَتَعْلَمُ أَنَّ المَوْتَ حَتْمٌ مُؤًَجَّلُ

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالغَايَةَ الَّتِي

إليَها مَدَى مَا كُنتُ فِيكَ أُؤُمِّلُ

جَعَلْتَ جَزَائِي مِنْكَ جَبْهًا وَغِلْظَةً

كَأَنَكَ أَنْتَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ

وَسَمْيَّتَنِي بِاسْمِ المُفَنَّدِ رَأَيُه

وَفِي رَأْيِكَ التَّفْنِيدُ لَوْ كُنْتُ تَعْقِلُ

تَراهُ مُعدًّا لِلْخَلافِ كَأَنَّه

بردٍّ على أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ

فَلَيْتَكَ إذْ لَمْ تَرْعَ حقَّ أُبُوَّتِي

فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المُجَاوِرُ يَفْعَلُ

فَأَوَلَيْتَنِي حَقَّ الجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ

عَليَّ بِمَالِي دُونَ مَالَكَ تَبْخَلُ

وقال آخر ممن ذاق وتجرع ألم العقوق:

يَوَدُ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأيهِ

وَلو مُتُّ بَانتْ لِلعْدُوِّ مَقَاتِلُه

إذَا مَا رَآنِي مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ

كَانَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِي يُقَابِلُه

(مواعظ وفوائد)

رب مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك وَقَدْ حق له فِي كتاب الله عز وجل أنه من وقود النار. من الغرور ذكر الحسنات ونسيان السيئات.

وقال بلال بن سعد: يا أولي الألباب ليتفكر متفكر فيما يبقى له وينفعه. أما مَا وكلكم الله عز وجل به فتضعونه. وأما مَا تكفل لكم به فتطلبونه مَا هكذا نعت الله عباده المؤمنين.

أذووا عقول فِي طلب الدنيا ويله عما خلقتم له فكما ترجون الله بما تؤذون من طاعته فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصيه.

ص: 449

وقال: عباد الله اعلموا أنكم تعملون فِي أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد.

ومن لَمْ يعمل على اليقين فلا يتعن.

عباد الله هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئًا من أعمالكم تقبل منكم أو شيئًا من أعمالكم غفر لكم.

قال أبو عمرو الأوزعي: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يومًا فيومَا وساعةً فساعة.

ولا تمر به ساعة لَمْ يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسه عليها حسرات فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم إِلَى يوم لَمْ يذكر الله فيها فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا له من أسف وحزن طويل.

ابن آدم اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا الله ثم عمله، وتوكل رجل لا يصيبه إلا مَا كتبه الله له.

شِعْرًا:

ومن يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي غَيرِ طَاعَةٍ

لِخَالِقِهِ فَهْوَ السَّفيه الْمُضِيِّعُ

اللهم يا منور قلوب العارفين، يا قاضي حوائج السائلين يا قابل توبة التائبين ويا مفرجًا عن المكروبين والمغمومين، تب علينا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

فِي صلة الرحم

الرحم القرابة، سميت بذلك لأنها داعية التراحم بين الأقرباء وصلة الرحم موجبة لرضا الرب عن العبد وموجبة لثواب الله للعبد فِي الآخرة، وَقَدْ ورد أنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه وسبب لطول العمر، وهذه الأشياء من الأمور المحبوبة على العبد.

ص: 450

وذلك حق فإن الله تعالى هو الخالق للأسباب والمسببات، وَقَدْ جعل لكل مطلوب سببًا وطريقًا ينال به، وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته ورحمته جعل الجزاء من جنس العمل فكما أن الإنسان وصل رحمه بالبر والإحسان، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره وبسط فِي رزقه ووسعه وفتح له من أبواب الرزق مَا لَمْ يكن له على بال وبارك له.

فكم من إنسان وهبه الله قوة فِي جسمه ورزانة فِي عقله ومضاء فِي عزيمته وبركة فِي علمه وعمله كانت حياته حافلة بالأعمال الطيبة، فهذا حياته حياة طويلة وإن كانت فِي الحساب قصيرة، لأن المقياس الحقيقي للحياة المباركة هي جلائل الأعمال، وكثرة الآثار ليس الشهور والأعوام كما قال بعضهم:

فَتًى عَاشَ أَعْمَالاً جِسَامًا وَإِنَمَا

تُقَدَّرُ أَعْمَارُ الرِّجَالِ بِأَعْمَالِ

وقال آخر:

الْعِلْمُ أَنْفَسُ شَيْءٍ أَنْتَ ذَاخِرُهُ

مَنْ يَدْرُسُ الْعِلْمَ لَمْ تَدْرُسْ مَفَاخِرُهُ

أَقْبِلْ على الْعِلْمُ وَاسْتَقْبِلْ مَبَاحِثَهُ

فَأَوَّلُ الْعِلْمِ إِقْبَالُ وَآخِرُهُ

وانظر إِلَى من مضى من العلماء والمصلحين الذين عاشوا زمنًا قليلا كأنهم لبثوا قرونًا كثيرة لكثرة مَا عملوا وعظم مَا خلفوا بينما ترى آخرين يعيشون زمنًا طويلاً ويذهبون ولا يبقى لهم أثر ولا ذكر كما قيل:

كَأَنَّهُمْ قَطُّ مَا كَانُوا وَمَا خُلِقُوا

وَمَاتَ ذِكْرُهُمُوا بَيْنَ الْوَرَى وَنُسُوا

ومن أسباب البركة فِي العمر والله أعلم التفرغ من الشواغل والشواغب فمن كثرت شواغله، وشواغبه قليل البركة فِي العمر أو معدومها لأنه منع من تصريفه فِي طاعة الله بمتابعة شعواته وملذاته وتحصيل مناه

ص: 451

من دنياه ومن تفرغ من الشواغل ولم يقبل على طاعة الله فهو أيضًا مخذول ومصروف عن طريقة الاستقامة والهدى ولا بركة فِي عمره.

وإذا تأملت أكثر الناس وجدت الذي حبسهم عن طاعة الله والإقبال عليه وتصريف أعمارهم فِي التوجه إليه بأنواع الطاعات هو كثرة أشغالهم فاشتغلت جوارحهم بخدمة الدنيا ليلاً ونهارًا شهورًا وأعوامًا حتى انقرض العمر كله فِي اللهو والبطالة والتقصير.

ومن الناس من قلت شواغلهم فِي الظاهر لوجود من قام بها عنهم لكن كثرة علائقهم وتفكراتهم فِي الباطن لكثرة مَا تعلق بهم من الشواغب فهم مستغرقون دائمًا فِي التفكير والتدبير والاختيار والتقديرات والاهتمام بأمور من تعلق بهم من الأنام.

لاسيما من كان له جاه ورياسة وخطة أو سياسة فهذا بعيد عن تصريف العمر واستغراقه فِي أنواع طاعة الله والإقبال عليه بقلبه وقالبه والحاصل أن الخير يكون غالبًا بإذن الله فِي التخفيف من الشواغل والعوائق التي تجذبه وتحفظه عن الطاعة إذا هم بها ويكون لا بركة فِي عمره أو قليل البركة فيه.

وإنما رتبت البركة فِي العمر على صلة الرحم لأن المرء إذا وصل رحمه أرضى ربه فأجله أقرباؤه واحترموه، فامتلأت نفسه سرورًا وشعر بمكانة عالية من أجل مَا وفقه الله له من صنيعه الذي صنع، والسرور منشط، كما أن الحزن مثبط، والشعور بالتعظيم عن أعمال مجيدة داع للإكثار مِنْهَا، وبذل الجهد فِي سبيلها.

وإن لَمْ يفعل لَمْ يحصل له ذلك كما قيل:

وَكَيْفَ يَسُودُ الْمَرْءُ مَنْ هُو مِثْلُهُ

بِلا مِنْةٍ مِنْه عَلَيْهِ وَلا يَدِ

ص: 452

آخر:

أَخُو ثِقَةٍ يُسَرُّ بِحُسْنِ حَالِي

وَإِنْ لَمْ تُدْنِهِ مِنِّي قَرَابَةْ

أَحَبُّ إِلَى مِنْ أَلْفَى قَرِيبٍ

تَبِيْتُ صُدُورُهُمْ لِي مُسْتَرَايَهْ

وقال بعض من تضرر بالأقارب:

يَقُولُونَ عِزُّ فِي الأقَارِبِ إِنْ دَنَتْ

وَمَا الْعِزُّ إِلا فِي فُرَاقِ الأقَارِبِ

تَرَاهُمْ جَمِيْعًا بَيْنَ حَاسِدِ نِعْمَةٍ

وَبَيْنَ أَخِي بُغْضٍ وَآخَرَ عَائِبِ

وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر، فكذلك صلة الرحم جعلها الله سببًا ربانيًا من أسباب طول العمر.

قال البلباني: والمراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم وتأكيد المبادرة إِلَى صلحهم عند عداوتهم والاجتهاد فِي إيصال كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم والإسراع إِلَى مساعدتهم ومعاونته عند حاجتهم.

ومراعاة جبر قلوبهم مع التعطف والتلطف بهم وتقديمهم فِي إجابة دعوتهم والتواضع معهم فِي غناه وفقرهم وقوته وضعفهم ومداومة مودتهم ونصحهم فِي كل شؤنهم والبداءة بهم فِي الدعوة والضيافة قبل غيرهم وإيثارهم فِي الإحسان والصدقة والهدية على من سواهم لأن الصدقة عليهم صدقة وصلة.

وفي معناها الهدية ونحوها ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح المبغض عساه أن يعود ويرجع عن بغض إِلَى مودة قريبة ومحبته انتهى.

وفي النهاية: قَدْ تكرر فِي الحديث صلة الرحم وهي كناية عن الإحسان إِلَى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم والرعاية لأحوالهم وكذلك إن بعدوا وأساءوا، وقطع الرحم ضد ذلك كله.

وفي الفتح قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة فالعامة رحم الدين، وتجب مواصلتها بالتودد والتناصح والعدل والإنصاف

ص: 453

والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، وأما الرحم الخاصة فتزيد النفقة على القريب، وتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم وتتفاوت مراتب استحقاقهم فِي ذلك كما فِي الحديث الأقرب فالأقرب.

آخر:

مَاذَا عَلَيَّ وَإِنْ كُنْتُمْ ذَوِي رَحمِي

أَنْ لا أحُبُّكُمُوا إنْ لَمْ تُحِبُونِي

لا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ظَمَائِرِهُمْ

مَا فِي ضَمِيرِي لَهُمْ مِنْ ذَاكَ يَكْفِينِي

آخر:

مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْشَى الأبَاعِدَ نَفَعُّهُ

وَيَشْقَى بِهِ حَتَى الْمَمَاتِ أَقَارِبُهُ

فِإِنْ كَانَ خَيْرًا فَالْبَعِيدُ يَنَالُهُ

وِإِنْ كَانَ شَرًا فَابْنُ عَمِّكَ صَاحَبُهُ

آخر:

وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا

وَإِذَا يُحَاخسِ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ

هَذَا لَعَمْرُ كُمُوا الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ

لا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلا أَبُ

وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة.

وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة فإن كانوا كفارًا أو فجارًا فمقاطعتهم فِي الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد فِي وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا بأن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا على الطريق المثلى.

شِعْرًا:

وَلَقَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ ثَمَّ خَبَرْتُهُمْ

وَعَلِمْتُ مَا مِنْهُمْ مِنْ الأسْبَابِ

فَإِذَا الْقَرَابَةُ لا تُقَرِّبُ قَاطِعًا

وَإِذَا الدِّيَانَةُ أَقْرَبُ الأسْبَابِ

ومن اللطائف أن ابن المقري كتب لوالده حين امتنع عن النفقة عليه:

لا تَقْطَعَنَّ عَادَةَ بِرٍ وَلا

تَجْعَلْ عِتَابَ الْمَرْءِ فِي رِزْقِهِ

ص: 454

فَِإنْ أَمْرَ الإِفْكِ مِنْ مِسْطَحٍ

يَحُطُّ قَدْرَ النَّجْمِ مِنْ أُفْقِهِ

وَقَدْ جَرَى مِنْهُ الذِّي قَدْ جَرَى

وَعُوتِبَ الصَّدِيقُ فِي حَقِّهِ

فأجابه والده مبينًا له السبب لذلك المنع:

قَدْ يُمْنَعُ الْمُضْطَرُّ مِنْ مَيْتَةٍ

إِذَا عَصَى فِي السِّيْرِ فِي طُرْقِهِ

لأَنَهُ يَقْوَى على تَوْبَةٍ

تُوْجِِبُ إِيْصَالاً إِلَى رِزْقِهِ

لَوْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ مِسْطَحٌ

مَا عُوتِبَ الصَّدِيقُ فِي حَقَّهِ

ومما يدخل فِي صلتهم تعهدهم بالتربية والتوجيه حين يكونون صغارًا محتاجين على توجيههم إِلَى الدين الحنيف والأخلاق الفاضلة ومما يدخل المبادرة فِي علاجهم عندما يمرضون وزيارتهم إذا غابوا عنه، وعيادتهم عندما يمرضون، وإشعارهم أنه معهم دائمًا.

اللهم هب لنا مَا وهبته لأوليائك وتوفنا وأنت راض عنا وَقَدْ قبلت اليسير منا واجعلنا يا مولانا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ)

وَقَدْ ورد فِي الحث على صلة الرحم والتحذير عن قطيعتها آيات وأحاديث كثيرة، نذكر طرفًا مِنْهَا، قال الله تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي قرابتك من أبيك وأمك والمراد بحقهم برهم وصلتهم.

ص: 455

وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} المراد الرحم والقرابة.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» .

وأخرج أبو يعلى بإسناد جيد عن رجل من خثعم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو فِي نفر من أصحابه فقلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: «نعم» . قلت: يا رسول الله أي الأعمال أحب إِلَى الله؟ قال: «الإيمان بالله» . قلت: يا رسول الله ثم مه.

قال: «ثم صلة الرحم» . قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أبغض إِلَى الله؟ قال: «الإشراك بالله» . قال: يا رسول الله ثم مه؟ قال: «ثم قطيعة الرحم» . قال: قلت ثم مه قال: «الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي أيوب رضي الله عنه أن أعرابًا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فِي سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله أو يا محمد أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر فِي أصحابه ثم قال: «لقد وفق أو لقد هدي» . قال: كيف قلت؟ قال: فأعادها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» .

وفي رواية: «وتصل ذا رحمك» . فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تمسك بما أمرته دخل الجنة» . وأخرجا أيضًا عن عائشة

ص: 456

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» .

وأخرج أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق خلقًا حتى إذا فرغ مِنْهُمْ قامت الرحم» . زاد رواية البيهقي «فأخذت بحقوَى الرحمن فقال: مه؟ فقالت: هذا مقام العائد بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال فذاك لك» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} .

وعن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال:«لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهيرًا عليهم مل دمت على ذلك» . رواه مسلم.

وعن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب.

فلما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بخ ذلك مال رابح، وَقَدْ سمعت مَا قلت، وإني أرى أن تجعلها فِي الأقربين» . فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة فِي أقاربه وبني عمه متفق عليه.

ص: 457

وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنه أنها أعتقت وليده ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال: «أو فعلت» ؟ قلت: نعم. قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» . متفق عليه.

وفي حديث أبي سفيان فِي قصة هرقل أنه قال لأبي سفيان مَا يأمركم به يعني النبي صلى الله عليه وسلم قلت يقول: «اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة» . متفق عليه.

وأخرج الإمام أحمد بإسناد جيد قوي وابن حبان فِي صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرحم شجنة من الرحمن تقول يا رب إني قطعت إني أسيء إليَّ يا رب إني ظلمت يا رب يا رب فيجيبها ألا ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك» .

وَذِي رَحِمٍ قَلَّمْتُ أَضْفَارَ ضِغْنِهِ

بِحِلْمِي عَنْهُ وَهْوَ لَيْسَ لَهُ حُلْمُ

يُحَاوِلُ رَغْمِي لا يُحَاوِلُ غَيْرَهُ

وَكَالْمَوْتِ عِنْدِي أنْ يَحِلَّ بِهِ الرَّغْمُ

فَإِنْ أَعْفُ عَنْهُ أَغْضِ عِيْنًا على قَذَى

وَلَيْسَ لَهُ بِالصَّفْحَ عَنْ ذَنْبِهِ عِلْمُ

وَإِنْ انْتَصِرْ مِنْه أَكُنْ مِثْلَ رَائِشٍ

سِهَامَ عَدُوٍّ يُسْتَهَاضُ بِهَا الْعَظْمُ

صَبَرْتُ على مَا كَانَ بَيْنِي وِبَيْنَهُ

وَمَا تَسْتَوِي حَرْبُ الأَقَارِبُ وَالسِّلْمُ

ص: 458

وَبَادَرْتُ مِنْه النَّأَيَ وَالْمَرْءُ قَادِرٌ

عَلَى سَهْمِهْ مَا دَامَ فِي كَفِّهِ السَّهْمُ

وَيَشْتِمُ عِرْضِي فِي الْمَغَيَّبِ جَاهِدًا

وَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي هَوَانٌ وَلا شَتْمُ

إِذَا سُمْتُهُ وَصْلَ الْقَرَابَةِ سَامَنِي

قَطِيعَتَهَا تِلْكَ السَّفَاهَةُ وَالإِثْمُ

وَإِنْ أَدْعُهُ لِلنِّصْفِ يَأْبَى وَيَعْصِنِي

وَيَدْعُو لِحُكْمِ جَائِر غَيْرُهْ الْحُكْمُ

فَلَوْلا اتِّقَاءُ الله وَالرَّحِمِ اللَّتِي

رِعَايَتُهَا حَقٌّ وَتَعْطِيلُهَا ظُلْمُ

إِذَا لِعُلاهُ بَارِقِي وَخَطْمَتُهُ

بِوَسْمِ شِنَارٍ لا يُشَابِهُهُ وَسْمُ

وَيَسْعَى إِذَا أَبْنِي لِهَّدْمِ مَصَالِحِي

وَلَيْسَ الذِّي يَبْنِي كَمَنْ شَأْنُهُ الْهَدْمُ

يَوَدُّ لَوْ أَنِّي مُعْدِمٌ ذُوْ خَصَاصَةٍ

وَأَكْرَهُ جُهْدِي إِنْ يُخَالِطَهُ الْعُدْمُ

وَيَعْتَدُ غَنْمًا فِي الْحَوَادِثِ نَكْبَتِي

وَمَا إِنْ لَهُ فِيْهَا سَنَاءٌ وَلا غُنْمُ

وَمَا زِلْتُ فِي لَيْنِي لَهُ وَتَعَطُفِيْ

عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو على الْوَلَدُ الأُمُّ

وَخَفْضٍ لَهُ مِنِّي الْجَنَاحَ تَأَلُفًا

لِتُدْنِيَهُ مِنّي الْقَرَابَةُ وَالرَّحْمُ

ص: 459

.. وَقُولِي إِذَا أَخْشَى عَلَيْهِ مُلِمَّةً

أَلا اسْلَمْ فِدَاكَ الْخَالُ ذُوْ الْعَقْدِ وَالْعَمُ

وَصَبْرِي على أَشْيَارَ مِنْه تُرِيْبُنِي

وَكَظْمِ على غَيْظِي وَقَدْ يَنْفَعُ الْكَظْمُ

لأَسْتَلَّ مِنْ الظَّعْنَ حَتَّى اسْتَلَلْتُهُ

وَقَدْ كَانَ ذَا ضِغْنٍ يَضِيْقُ بِهِ الْجَرْمُ

رَأَيْتُ إِنْثَلامًا بَيْنَنَا فَرَقَعْتُهُ

بِرِفْقِي وَإِحْيَائِي وَقَدْ يُرْقَعُ الثَّلْمُ

وَأَبْرَأْتُ غِلَّ الصَّدْرِ مِنْهُ تَوَسُّعًا

بِحِلْمِي كَمَا يُشْفَى بِالأَدْوِيَةِ الْكَلْمُ

فَدَوَايْتُهُ حَتَى ارْفَأَنَّ نِفَارُهُ

فَعُدْنَا كَأَنَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا جُرْمُ

وَأطْفَأَ نَارَ الْحَرْبِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ

فَأَصْبَحَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَهُوَ لَنَا سِلْمُ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(فَصْلٌ) : وأخرج الأمام أحمد أيضًا بإسناد رواته ثقات والبزار عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من أربى الربا الاستطالة فِي عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل فمن قطعها حرم الله عليه الجنة» .

وأخرج البزار بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرحم شجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان ذلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تبارك وتعالى أنا الرحمن الرحيم وإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بكتها بكته) .

ص: 460

شِعْرًا:

إِنِي لَيَمْنَعُنِي مِنْ قَطْعِ ذِي رَحِمٍ

مَا جَاءَ فِي الذِّكْرِ مَعْ مَا جَاءَ فِي السُّنَنِ

إِنْ لانَ لِنْتُ وَإِنْ دَبَّتُ عَقَارِبُهُ

إِلَيَّ جَازَيْتُهُ بِالصَّفْحِ لا الظَّغْنِ

إِذَا هَجَرُوا عِزًا وَصَلْنَا تَذَلُلاً

وَإِنْ بَعُدُوا يَأْسًا قَرَبْنَا تَعَلُلا

وَإِنْ أَغْلَقُوا بِالْهَجْرِ أَبْوَابَ وَصْلِهِمْ

وَقَالُوا أُبْعُدُوا عَنَّا طَلَبْنَا التَّوَصَلا

وَإنْ مَنَعُونا أنْ نجُوزَ بأَرْضِهِم

وَلم يَسْمَعُوا الشكوى وَرَدُّوا التَّوَسُّلَا

أَشَرْنا بِتَسْلِيمٍ وَإنْ بَعُدَ المَدَى

إلَيْهِمْ وَهَذا مُنْتَهَى الوَصْل أكْمَلَا

وأخرج الطبراني وابن خزيمة فِي صحيحه والحاكم وقال: على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» . يعني أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة وهو فِي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وتصل من قطعك» .

قال الناظم:

وَكُنْ وَاصِلَ الأَرْحَامِ حَتَّى لِكَاشِحِ

تُوَفَّرُ فِي عُمٍْر وَرِزْقٍ وَتَسْعَدُ

وَلَا تَقْطِعِ الأَرْحَامَ أنَّ َقِطِيعَةً

لِذِي رَحِمٍ كُبْرَى مِنْ اللهِ تُبْعِدُ

فَلَا تَغْشَى قَوْمًا رَحْمَةُ اللهِ فَيهِمُ

ثَوَى قَاطِعِ قَدْ جَاءَ ذَا بِتَوَعُّدِ

ص: 461

وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواصل الأعمال فقال: «يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك» . وفي لفظ: «واعف عمن ظلمك» .

وأخرج الطبراني عن علي رضوان الله عليه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وأن تعفو عمن ظلمك» . ورواه البزار عن عبادة بن الصامت مرفوعًا بلفظ: «ألا أدلكم على مَا يرفع الله به الدرجات» ؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له رزقه وينسأ له فِي أثره، فليصل رحمه» . وللبخاري عن أبي هريرة: «من سره أن يبسط له فِي رزقه، وينسأ له فِي أثره، فليصل رحمه» .

ورواه الترمذي بلفظ: «تعلموا من أنسابكم مَا تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة فِي الأهل، مثراة فِي المال منساة فِي الأثر» . ومعنى (مثراة فِي المال) أي زيادة فيه ومعنى (منسأة فِي الأثر) النسأ أي زيادة فِي عمره أي يؤخر له فِي أثره وهو الذكر الحسن فيه يكتسب صاحبه حسنات وهو فِي القبر بالدعاء الصالح له أو الإقتداء به فِي صالح عمله.

ذِكْرُ الفَتَى عُمْرهُ الثانِي وحَاجَتُهُ

ما قَاتَهُ وفُضُولُ العَيْشِ أَشْغَالُ

آخر:

دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ

إنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعدْ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا

فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِي

ص: 462

وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد فِي زوائده والبزار بإسناد جيد والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يمد له فِي عمره، ويوسع له فِي رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه» .

وأخرج البزار بإسناد لا بأس به والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مكتوب فِي التوراة من أحب أن يزاد فِي عمره، ويزاد فِي رزقه فليصل رحمه» .

وأخرج الطبراني بإسناد حسن والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضًا لهم» . قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «بصلتهم لأرحامهم» .

اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

فَصْلٌ: ثم اعلم أن لصلة الرحم فوائد جمة وثمرات محققة ونتائج حسنة فِي حياة المسلم ويعد وفاته وَقَدْ رتب النبي صلى الله عليه وسلم على صلة الرحم أمرين محققين هما بسط الرزق وسعته والإنساء فِي الأثر ومساعدة ذوي القربى وصلتهم واجب ديني ندب الله إليه وجاءت الأحاديث مبينة أنه من آكد واجبات المرء فِي حياته يدعوك له الشفقة والحنان والعطف والرحمة على ذوي قرباك.

وليس من البر مساعدة الخامل الكسلان وتشجيعه على البطالة والكسل وإنما البر والصلة فِي مساعدة من فقد أسباب العمل ولم تتهيأ له طرق المكاسب وعليك أن تعاملهم معاملة الرفق واللين فتحترم كبيرهم وتجله وتحسن إِلَى صغيرهم وتتجاوز عن هفواتهم وتغض الطرف عن زلاتهم وتقابل المسيء مِنْهُمْ بالإحسان لا بالاستكبار والاستنقاص لأنهم أقاربك وأولى الناس بمودتك وعطفك ورحمتك ومما يولد المحبة والحنان الهدايا قال بعضهم:

هَدَايَا الناسِ بَعْضُهُمُ لِبَعْضٍ

تُوُلِّدُ فِي قُلُوبِهِمُ الوِصَالَا

ص: 463

.. وتَزْرَعُ فِي الضَّمِيرِ هَوَي وَوُدًا

وَتَكْسُوكَ المَهَابَةَ والجَلَالَا

آخر:

فَلاتَكُ مِنَّانًا بِخَيْرٍ فَعَلْتَهُ

فَقَدْ يُفْسِدُ المَعْرُوفَ بِاْلمَّنِ صَاحِبُهْ

وهم لأقرب الناس بعد أصولك وفروعك وحواشيك يتمنون سعادتك هناءك ويرجون لك الخيرات فجدير بك أن تسارع إِلَى مواساتهم وعيادتهم إذا مرضوا والسلام على من قدم مِنْهُمْ وتوديعه إذا سافر ومشاركتهم فِي أفراحهم وإظهار السرور لهم ومشاطرتهم فِي أتراحهم وتخفيف آلام الحزن عنهم والإسراع فِي قضاء حوائجهم ونحو ذلك من الأعمال الطيبة والمظاهر الشريفة تضيف قوتك على قوتهم فيسرعون على إجابتك ودفع الأذى عنك فِي ملماتك. أ. هـ.

وأخرج ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد فِي العمر إلا البر» .

وروى الإمام أحمد عن عائشة مرفوعًا: «صلة الرحم، وحسن الجوار، أو حسن الخلق، يعمران الديار، ويزيدان فِي الأعمار» .

وأخرج الطبراني وابن حبان فِي صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير أوصاني أن لا انظر إِلَى من هو فوقي، وأن انظر إِلَى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين والدنو مِنْهم، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت، وأوصاني أن لا أخاف فِي الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كَانَ مرًا، وأوصاني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة.

شِعْرًا:

الذِّكْرُ أَصْدَقُ مِنْ سَيْف ومِنْ كُتُبِ

فاعْمَلْ بِهِ تُحْرِزْ الأعَلَى من الرُّتَبِ

فيه جَمِيعُ الذِي يَحْتَاجُه البَشَرُ

وَسُنّةُ المُصْطَفَى من بَعْدِه تُصِبِ

ص: 464

آخر:

العِلْم فيما أَتَى بِالذِكرِ مَطْلَبُهُ

وَمَا عن المُصْطَفَى قَدْ جَاءَ فِي الكُتُبِ

وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» .

وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة فِي الدنيا مع مَا يدخر له فِي الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر» . رواه ابن حبان وغيره.

وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرع الخير ثوابًا البر وصلة الحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم» . رواه ابن ماجة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم» . رواه أحمد ورواته ثقات.

وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون فقال: «يا معشر المسلمين اتقوا الله وصلوا أرحماكم فإنه ليس ثواب أسرع من صلة الرحم وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة بغي وإياكم وعقوق

ص: 465

الوالدين، فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار أزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله رب العالمين» .

شِعْرًا:

خَفِّضْ هُمُومَكَ فَالحَيَاةُ غَرُورُ

وَرَحَى المَنُونِ على الأنَامِ تَدُورُ

وَالْمَرْءِ فِي دَارِ الفَنَاءِ مُكَلَّفٌ

((لَا مُهْمَلٌ فِيْهَا وَلَا مَعْذُورُ))

وَالنَّاسُ فِي الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلِ

كُلُّ إِلَى حُكْمِ الْفَنَاءِ يَصِيرُ

فَالنَّكْسُ وَالمَلِكُ المُتَوَّجُ وَاحِدٌ

لا آمِرٌ يَبْقَى وَلَا مَأْمُورُ

عَجَبًا لِمَنْ تَرَكَ التَّذَكُّرَ وَانْثَنَى

في الأمْرِ وَهُوَ بِعَيْشِهِ مَغْرُورُ

وَإِذَا الْقَضَاءُ جَرَى بَأَمْرٍ نَافِذِ

غَلِطَ الطَّبِيبُ وَأَخْطَأَ التَّدْبِيرُ

إِنْ لُمْتُ صَرْفَ الدَّهْرِ فيه أجَابَنِي

أبَتِ النُّهَى أنْ يُعْتَبَ الْمَقْدُورُ

أَوْ قُلْتَ لَهْ أيَنْ المُؤْيَّدُ قَالَ لِي

أَيْنَ الْمُظفَّرُ قَبْلَ وَالمَنْصُورُ

ص: 466

أَمْ أَيْنَ كِسْرَى أَزْدَ شِيرُ وَقَيْصَرٌ

وَالهُرْمُزَانُ وَقَبْلَهُمْ سَابُورُ

أَيْنَ ابْنُ دَاوُدَ سُلَيْمَانُ الذِي

كَانَتْ بِجَحْفَلِهِ الْجِبَالُ تَمُورُ

وَالرِّيحُ تَجْرِي حَيْثُ شَاءَ بأَمْرهِ

مُْنَقادَةً وَبِهِ البِسَاطُ يَسِيرُ

فَتَكَتْ بِهِمْ أَيْدِي الْمَنُونِ وَلَمْ تَزَلْ

خَيْلُ الْمَنُونِ على الأَنَامِ تُغِيرُ

لَوْ كَانَ يَخْلُدُ بالفَضَائِل مَاجِدٌ

مَا ضَمَّتِ الرُّسُلَ الكِرَامَ قُبُورُ

إِنَي لأَعْلَمُ وَاللَّبِيبُ خَبِيرُ

أَنَّ الحَيَاة وَإنْ حَرِصْتَ غَرُورُ

وَرَأَيْتُ كُلاًماً يُعَلِّلُ نَفْسَهُ

بِتَعِلَّةِ وَإلى الفَنَاءِ يَصِيرُ

والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.

موعظة

عباد الله إن النصيحة غالية ذات أهمية عظيمة عند ذوي الألباب والفهوم لأنها إرشاد إلى الصواب وتوجيه نحو العمل الصالح والأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة وهداية إِلَى مَا يعود نفعه وفائدته على المنصوح. بالسعادة والعز والنصيحة تبصير بالمضار حتى لا يقع فيها من لا يعرفها.

ص: 467

ولذلك ينبغي أن الناصح ذا رأي ثاقب وعقل راجح قَدْ جرب الأمور وعركته الأيام والليالي وذاق حلوها ومرها وانتفع بما رآه فيها من عسر ويسر وفرح وسرور وخلص قلبه من هم قاطع وغم شاغل ليسلم رأيه وتخلص نصيحته من الشوائب المكدرة.

فيا عباد الله إن الدين هو النصيحة يسدها المؤمن لإخوانه بل يبغي عليها جزاء ولا شكورَا إلا من ربه وخالقه يبذلها خالصة لوجه الله قاصدًا بها نفع عباد الله والأخذ بأيديهم إِلَى طرق السداد سار على ذلك الأنبياء والمؤمنون والاتقاء.

قال تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} وعن هود: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} وعن صالح: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} وعن شعيب: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} وعن مؤمن آل فرعون ينصح قومه: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} الآيات فالنصيحة علامة الحب والإخلاص والوقار.

فإذا علمت أن شرًا سينزل بمؤمن غافل عنه فواجب عليك أن تنبهه وتحذره ليأخذ حذره من الكائدين وأسرع بأخباره كما حذر رجل موسى عليه السلام قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

وإن رأيت إنسانًا تردى فِي المعاصي وانغمس فِي الموبقات وأتبع شيطانه وهواه وركب رأسه وخالف مولاه فخذ بيده على طريق الرشاد

ص: 468

وادعه بالتي هي أحسن إِلَى المتاب وطاعة رب العباد وذكره بالموت وسكراته والقبر والحساب ومناقشاته والصراط وعثراته والنار وعذابها وما أعد الله لأهلها من ألوان العذاب وذكره بالضريع والزقوم وويل وغساق وغسلين.

وذكره بالجنة ونعيمها وما أعد الله لأهلها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلعل الله أن يهديه بسببك.

وان استنصحك أخوك المسلم فِي زواج من كنت تعرف فوضح له وبين مَا تعرف من العيوب فإن كتمت العيوب وأظهرت المحاسن فأنت من الخائنين وان استنصحك فِي مساهمة أو شراء عقار أو بيت أو شراء سلعة فأحب له مَا تحب لنفسك وشر عليه بما تحب أن يشار عليك به لو كنت فِي مكانه.

فان غررت به فأنت من المنافقين. وإن طلب منك مشورة فِي دين أو دنيًا فرجح له مَا ترى فيه الصلاح ولا تنتظر حتى يطلب منك النصح فإذا رأيت فِي خطأ فوجهه وابذل النصيحة لكل مسلم.

ابذله للأب كما فعل الخليل ابذله لأبنائك وكن كما كَانَ لقمان الحكيم لابنه وقل له مثل مَا قاله له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}

انصحهم عن قرناء السوء وعن مجالس اللهو والفسوق والعصيان كمجالس التلفزيون والسينما والكورة ومجالس الغيبة والكذب والسخرية

ص: 469