الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب مفتوح إلى الأستاذ السيد محمد رشيد رضا
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا (1) صاحب مجلة "المنار" الغراء.
السلام عليكم ورحمة الله.
(1) صدرت مجلة "نور الإسلام" عن الجامع الأزهر في محرم سنة 1349 هـ، واستلم رئاسة تحريرها الإمام الخضر حسين من الجزء الأول فيها حتى ربيع الآخر سنة 1352 هـ. وقدم في الجزء الأول من المجلة شرحاً لسياسة المجلة.
نشر السيد محمد رشيد رضا مقالاً في مجلة "المنار" الجزء الصادر في ربيع الأول، تضمن تقريظاً ونقداً، ولكن بيدو أن النقد هو الغاية المتقدمة، والتقريظ غلاف لها. كما يبدو أن المكانة العلمية التي حفت بالإمام منذ أن حل بالقاهرة، قد أثارت في صدور بعض الناس أشجاناً
…
وضربوا في طريق بعيد عن النهج العلمي.
ولما كان القرآن الكريم هو خلق الإمام محمد الخضر حسين، فقد جاء الرد على النقد والتقريظ في حدود الأدب الإسلامي. وندع الحكم للقارئ في مضمون الرسالة .. ولا نزيد على ذلك ..
نشر الخطاب المفتوح في مجلة "الهداية الإسلامية" الجزء الأول من المجلد الثالث تحت عنوان: "للحقيقة والتاريخ". كما نشر رد تحت عنوان: "لحقيقة والتاريخ - نقد مقال في مجلة المنار" في الجزء الرابع من المجلد الثالث.
أما بعد:
فقد قرأت ما كتبتموه في الجزء الصادر في ربيع الأول من مجلتكم الزاهرة تقريظاً ونقداً لمجلة "نور الإسلام"، فأشكركم على النقد بمقدار ما أشكركم على التقريظ.
وإنا لنعلم أن مجلة كمجلة "نور الإسلام" يراقبها طوائف تختلف مذاهبهم، وتتفاوت أنظارهم، وتتباعد أغراضهم، ليس في استطاعة القائمين بها أن يخرجوها على ما يوافق رغبة الطوائف بأجمعها حتى لا تلاقي إلا رضاً عنها وتقريظاً.
فنحن على اعتقاد يشبه اليقين: أن المجلة ستواجه ضروباً مختلفة، هذا ينقدها في إشفاق ورفق، وذاك ينقدها في قسوة وعنف، وربما كان من الفريقين حسن النية سليم القصد، وما علينا إلا أن ننظر إلى وجه النقد، فنتقبله إن كان في نظر الدين والعلم وجيهاً، فإن رأينا الصواب في جانبنا، قررنا وجهة نظرنا بالتي هي أحسن؛ حرصاً على أن يكون العلم صلة تعارف وائتلاف، فلا عتب علينا إذا كنا قد قرأنا في تقريظكم كلمات معدودة، ألقيتموها بقصد خدمة الحقيقة والتاريخ، فلم تقع الموقع الذي قصدتم إليه، فكانت وجهة نظرنا فيها غير وجهة نظركم، وشعرنا بأن الحقيقة والتاريخ لا يسمحان لنا بالسكوت عنها، وفضيلتكم من أول الداعين إلى إيثارهما على كل ما يقضي الأدب الجميل برعايته.
قلتم في التقريظ: "إن فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي (1) شيخ
(1) محمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي، إمام الجامع الأزهر، وعالم بالتفسير، ولد في "مراغة" من صعيد مصر، وتوفي بالإسكندرية، ودفن بالقاهرة =
الجامع الأزهر قد جعلني مدرساً في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استثنائية". والواقع أن مجلس الأزهر الأعلى قد ندبني للتدريس بقسم التخصص قبل ولاية فضيلة الشيخ المراغي مشيخة الأزهر بنحو سنة، وكان الذي يرأس المجلس الأعلى وقتئذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة (1) مفتي الديار المصرية سابقاً، وكان لذلك الحين رئيساً لقسم التخصص أيضاً.
قلتم: "إنكم عجبتم لي حيث لم أذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبتها في فاتحة العدد الأول من مجلة "نور الإسلام"، مع أن له الفضل في تنفيذ هذا المشروع، كما أن له الفضل علي، وإن لم أكن من أعضاء جمعيته أو حزبه".
إذا لم أذكر اسم فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي، فقد ذكرت أن المجلس الأعلى حينما أخذ ينظر في ميزانية سنة 1929 أدرج فيها مبلغاً للمجلة، ومعلوم من ذكر التاريخ أن المجلس الأعلى الذي قرر هذا المبلغ كان تحت رياسة الأستاذ الشيخ المراغي، فللأستاذ المراغي نصيبه من فضل هذا المشروع، ولا يلزم المندوب لرياسة تحرير المجلة أن يكون على علم من مقدار هذا النصيب حتى إذا لم يتعرض له في فاتحة المجلة عد متهاوناً بحق
= (1298 - 1364 هـ = 1881 - 1945 م، له تصانيف عديدة في تفاسير بعض السور، وبحوث في التشريع الإسلامي.
(1)
عبد الرحمن بن محمود بن أحمد قراعة، من كبار علماء الأزهر، ومفتي مصر، ولد في بندر أسيوط، وتوفي بالقاهرة (1279 - 1358 هـ = 1862 - 1939 م)، له رسالة "بحث في النذور وأحكامها".
التاريخ، أو غير معترف بالفضل.
وما بال فضيلتكم تعجبون لعدم ذكر رئيس المجلس الأعلى الذي قرر المبلغ الذي ينفق على المجلة، وتعدونه استخفافاً مني بحق التاريخ، ونكراناً لفضل ذلك الرئيس علي، ولم يعجب أحد من مريدي صاحبي الفضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ أبي الفضل (1)، والأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة لعدم ذكر اسميهما، وقد كان الشيخ أبو الفضل يرأس المجلس الأعلى الذي قبل اقتراح مشروع المجلة سنة 1926، وكان الأستاذ الشيخ قراعة يرأس المجلس الذي ألف لجنة لوضع تقرير في هذا الاقتراح سنة 1927، وهذا العمل بالنظر إلى كونه الأساس الذي يقام عليه المشروع عمل لا يستهان به.
ولا أرى إلا أن مريدي فضيلة الأستاذين الشيخ أَبى الفضل والشيخ قراعة قرؤوا فاتحة المجلة، وقد حضرهم أن المندوب لرياسة التحرير إذا نسب العمل إلى المجلس الأعلى، مع ذكر تاريخ انعقاده، فقد قضى واجب التاريخ عليه، وليس من واجب التاريخ عليه أن يسمي رئيس المجلس، أو أعضاءه في خلاصة قصد بها الإشارة إلى تاريخ نشأة المشروع والأطوار التي مر عليها، حتى صار عملاً ظاهراً.
وعلى فرض أن كون قد أجملت القول في مواضع تعلمون منها أكثر مما أعلم، كان لفضيلتكم أن تكتبوها للتاريخ في صفاء خاطر، متحامين الكلمات التي يسبق إلى أذهان بعض الناس أنها مصنوعة لتثير غبار فتنة،
(1) محمد أبو الفضل الوراقي الجيزاوي، فقيه مالكي، وشيخ الجامع الأزهر، ولد في وراق الحضر بضواحي القاهرة، وتوفي بالقاهرة (1263 - 1346 هـ = 1847 - 1927 م). من مصنفاته: كتاب على شرح العضد وحاشيتي السعد والسيد.
ومثل هذه الفتنة لو أيقظها غيركم، لكان من واجب الدين وسماحة الأخلاق عليكم أن تبادروا إلى إخمادها، وواجب الدين وسماحة الأخلاق قبل كل داعية.
وأنا لا أستنكف أن يكون للأستاذ المراغي عندي يد، ولكن التدريس الذي تعنونه بقولكم:"كما أن له الفضل عليه نفس" قد عرف الناس أني ندبت له من قبل أن يتولى فضيلته منصب المشيخة، على أني أربأ بكم أن تزنوا العلم بهذا الميزان، وتجعلوه أنقص قدراً من متاع هذه الحياة؛ إذ سميتم ندبي للتدريس فضلاً من النادب علي، بدل أن تجعلوه إخلاصاً منه للمعهد الذي تولى أمره ليدير شؤونه بنصح وأمانة.
وإذا لم أكن من جمعية الأستاذ الشيخ المراغي، فلأني لا أذكر أن أحداً من الناس عرض علي قانون جمعية أو حزب يدعى بهذا الاسم فأعرف مبادئه، والغاية التي تألف من أجلها، ولست ممن يحب أن يحشر نفسه في كل حزب أو جمعية، وإن لم يعرف مبادئها، ويطمئن إلى الغاية التي ترمي إليها.
نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها لا تمس السياسة في شأن، وقلتم: إن هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام، والدفاع عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها، وجواب هذا: أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية، فإن أقلام محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما تراه مخالفاً للدين، ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في مثل هذا على وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج عن دائرة مجلة "نور الإسلام" أن تكتب في إنكار بعض تصرفات يعتدى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية، ولا يخرج عن دائرتها أن تطالب
بنحو إلغاء البغاء الرسمي، أو احترام المحاكم الشرعية فيما إذا خطر لأحد رجال الإدارة أن ينقص مما هو داخل في اختصاصاتها، أو الاحتفاظ باللغة العربية فيما إذا رأى ذو سلطة اهتضام جانبها، إلى غير هذا من الشؤون التي تحفظ على الأمة دينها ولغتها، ويرغب أولو السياسة الرشيدة أنفسهم أن يعلموا حكم الدين في أمثالها.
ونقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من قولنا: "لا تنوي أن تهاجم ديناً بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول"، وحملتم هذه العبارة على معنى أنها لا ترد على المخالفين إذا هاجموا الإسلام، وقلتم:"إن العلماء لا يستطيعون القتال بالسلاح، فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وإن كرهوها".
ولو صدر هذا النقد من غير فضيلتكم، لقلنا: إنما يريد أن يكثر سواد وجوه النقد، ولكن مكانكم أرفع من أن يقصد إلى هذه الغاية، ذلك لأنا نقول في فاتحة المجلة: "تناقش المجلة الأشخاص والجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق، مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
وإذا قالت: إنها لا تنوي أن تهاجم ديناً بالطعن، أو قالت: لا تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول، فإنما تريد الترفع عن بذاءة القول، والخروج عن دائرة البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء، دون أن يكون له في تقرير الحقائق أو إزهاق الباطل أثر كثير أو قليل.
وأظن حضرات قراء مجلة "نور الإسلام" إنما يذهبون في فهم هذه الجمل إلى أننا نظرنا عند صوغها إلى قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. وقد أصبح حكماء الكتاب يصوغون دفاعهم على قدر بيان الحق، أو كشف شبه الباطل، ولا يحسون من أقلامهم نزوعاً إلى السوء من القول، ومن كان في ثروة من الحجج، لا يرى نفسه في حاجة إلى أن يستعين في دفاعه أو هجومه بشيء من اللمز والبذاء.
هذا وظننا في الأستاذ أنه ينقد في إخلاص، ويتلقى الجواب في سكينة وإنصاف، وسلام عليك يوم تقرظ ويوم تنقد، ويوم تكون للحق ولياً.
محمّد الخضر حسين