الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاضرات الملتقى
ومضات من حياة العلامة محمد الخضر حسين
الأستاذ علي الرضا الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الحفل الكريم!
ماذا أُحاضِرُ بينكم أو أَخْطُبُ
…
في مُلْتقَى الأَفذاذِ أَمْرٌ يصعُبُ
ومُحَمَّدُ الخِضْرُ الحُسَينُ شعارُهُ
…
ذاكَ الإمامُ المَغْرِبيُّ الكَوْكَبُ
عُذْرًا فقد يكبو الجوادُ بفارسٍ
…
إِنَّ الحروفَ مِنْ المهَابةِ تَهْرُبُ
يقف المرء أمام بحر لا ساحل له، ويتساءلُ مع فكره وقلمه من أين يسبرُ غوْرَه، ويغوص في أعماقه، ويستطلعُ مكنوناتِه؟؟
هل يُقدِّمُ الإمامَ محمدَ الخضر حسين مفكراً مغربياً إسلامياً؟ أَمْ مفسّراً؟ أم محدّثاً؟ أو وطنياً مكافحاً؟ أم داعية؟ أم خطيباً؟ أم محاضراً؟ أم قاضياً؟ أم مصلحاً؟ أم لغوياً؟ أم أديباً شاعراً؟ أم رحّالة؟ أم صحفياً؟ أم إماماً للأزهر؟
كل هذه الصفات كان من عمادها، وانتمى إليها، وعَمِل لها بإخلاص، فقد أودع الله سبحانه وتعالى فيه من المواهب المتعددة التي قلّما نجدها في عَلَم من أعلام الإسلام.
في كلِّ أَصْقاعِ البلادِ مآثِرٌ
…
تُنْبيكَ أنَّهُ شَمْسُها لا تَغْرُبُ
أمضيتُ ما يزيد عن أربعين عاماً بين آثاره وآخرين من أعلام الأسرة وغيرهم بحثاً ونشراً. وإذ ألتفتُ اليومَ إلى الماضي وما فعلتُ، أجدني مقصَّراً فيما أنجزتُ، وفي كُلِّ حالٍ ومآل، أحمد الله سبحانه وتعالى على نعمائه، بما استطعتُ أن أُثري المكتبة الدينية الإسلامية بهذا التراث القيَّمِ.
هذه وَمَضات من حياة الإمام تلمعُ كلمح البصر، وتظهرُ للعيان:
في مدينة "طولقة" الطاهرة، وشقيقتها "البرج" المباركة، تفتحت عائلتان شريفتان، وتصاهرتا، وتفرعتا إلى شجرتين باسقتين، امتدت فروعهما في العالم الإسلامي، وضُرِبَتْ جذورُهما في أعماقِ التُّراب الجزائري المقدَّس، فأينعتا ثماراً طيّبة، منها: الإمام محمد الخضر حسين -رضوان الله عليه-.
أبوهُ التّقي الزاهد الحسينُ ابن الولي الصالح علي بن عمر، وأمه السيدةُ الفاضلة حليمة السعدية بنتُ الولي الصالح مصطفى بن عزّوز ابن الولي الصالح محمد بن عروز.
الجَدُّ والأبوانِ مَنْبَتُ "طولْقَةٍ"
…
فترابُها مِسْكٌ شَميمٌ طَيِّبُ
مَن كانَ في تُرْبِ الجزائرِ جَذْرُهُ
…
فإلى المعالي والمفاخرِ يُنسَبُ
وهنيئاً للإمام بأصوله الجزائرية.
* الانتقال إلى تونس:
انتقل الشيخ مصطفى بن عزّوز من "طولقة" إلى مدينة "نفطة" في الجنوب التونسي سنة 1257 هـ - 1837 م لتأسيس زاوية علمية فيها، بناء على توجيه شيخه علي بن عمر، وتزوج الشيخ الحسين بابنة شيخه السيدةِ حليمةَ السعدية. وقامت الزاوية بتعليم القرآن والعلوم الشرعية، وأعمال الجهاد ضد المستعمر، كما تشهد بذلك الوثائق التاريخية.
ولد الإمام في مدينة "نفطة" في 29 من رجب 1293 هـ، وعرفت بالكوفة الصغرى، لما اشتهر بها من العلماء والفقهاء، واكتسب شرفَ الانتساب إلى الدوحة النبوية الطاهرة من الجهتين: أبيه، وأمه:
نالَ الوصولَ بآلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ
…
شَرَفاً فما لي في صِفاتهِ أُطنِبُ
بدأ في تعلّم القرآن وحِفْظِه في الخامسة من عمره، وتلقى العلوم الشرعية على أيدي كبار الشيوخ، وساهمت والدته في تربيته، كما يروي عن محفوظاتها في المعارف الإسلامية.
في دَوْحَةِ التّقوى وفي أَظْلالِها
…
يُسْقى منَ العِلْم الرّفيعِ وَيشْرَبُ
انتقلت العائلة إلى مدينة تونس، ودخل الإمام الجامع الأعظم جامعَ الزيتونة في 4 من شهر رجب 1307 هـ، وحصل على شهادة التطويع يوم الأحد 14 صفر عام 1316 هـ، وأخذ عن كبار شيوخه؛ كالشيخ سالم بو حاجب، وعمر بن الشيخ، وأحمد بو خريص، وخالهِ الشيخ محمد المكي بن عزوز، والشيخ محمد بن يوسف، والطيب النيفر.
يا قلعةَ الإسلامِ يا زيتونةً
…
وبِحِضْنِها شَمَخَ الإمامُ الأَنجبُ
وفي سنة 1325 هـ تولى وظيفة التدريس فيه، وفي نفس العام عُيّنَ مدرساً في الصادقية لدرس الإنشاء.
وعُيِّنَ عضواً في لجنة لتأليف كتابٍ شامل لتاريخ المملكة التونسية.
وأجازه خاله العلامة محمد المكي بن عزوز بِخَطّه في دفتر التلامذة الخاص بالإمام، قال فيها:"وممن تأهل لها -أي: الإجازة- وكان أحق بها وأهلَها: ابننا الألمعيُّ الماجد، ذو الخلال الفاخرة والمحامد، الدرّاكةُ الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد الخِضْر ابن الناسك الأوّاه، العارف بالله، الأستاذ الشيخ سيدي الحسين، الشريف العلوي العزّوزي، سارَ على الدَّربِ فَوصَلْ، ودَأب بحزم فأصبح والمقصودُ لديه حَصل، جانَبَ الكسَلَ، فاشْتار العَسَلْ، جافى الرّاحة، فملأ الرّاحة، بشهادة جهابذة الجامعِ، وحذّاقِ كِرامِ المجامع".
تقلّد الإمام منصب القضاء في مدينة "بنزرت"، والخطابة والتدريس في الجامع الكبير في ربيع الثاني 1323 هـ، وأقام له الإمام محمد الطاهر بن عاشور في داره بالمرسى حفلاً مساء يوم 15 رييع الثاني، وألقى كلمة تدلُّ على سُموٍّ وصفاء الصداقة والأُخوةِ بينهما رضي الله عنهما، واستمر سنة وسبعة أشهر، وكان مِثالاً للقاضي النّزيهِ العادلِ:
زانَ القضاءَ عَدالةً ونزَاهةً
…
والعَدْلُ في كَفَّيهِ نَبْعٌ صَيِّبُ
ولما أحسَّ أن عمله في القضاء هو أقلّ مما تسعى إليه هِمَّتُه، استقالَ، وعادَ للتَّدريس في جامع الزيتونة.
وألقى محاضرته الشهيرة: (الحرية في الإسلام) يوم السبت في 17 ربيع
الثاني 1324 هـ، وهو القاضي بمدينة "بنزرت"، وهذه المحاضرة هي المجابهة الأولى بينه وبين المحتل الفرنسي.
والحديث عن الحرية، والدعوة لها جهاراً - في أرض يتسلّط على رقاب أبنائها سيفُ الاستعمار الرهيب، وفي ظلِّ حكومة تَعَفَّر جبينُها تحت أقدام الغزاة إرضاءً لشهواته- لا يقل جرأة وأثراً عن مجابهة المحتلّ في ساحات القتال، ومقاومته بالحديد والنار. هذه المحاضرة دلّت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الإسلام؛ لذا نجد أن الإمام بعدها أصبح مطلوباً من المتسلّط المحتل، ومراقباً من عيونه وأعوانه.
* الهجرة إلى الشام:
هاجرت العائلة المكوَّنة من ثلاثة وثلاثين فرداً -بين شيوخ ونساء وأطفال- إلى دمشق؛ للاستقرار فيها، تتقدم الطليعةَ المهاجرةَ: السيدةُ حليمة السعدية بنتُ الشيخ مصطفى بن عزّوز والدةُ الإمام، وذلك عام 1913 م.
وسبب الهجرة -حسب ما توصلت إليه-: أولاً: رغبة الإمام في الانتقال إلى الشرق، بعد أن ضاق عليه الخناق في تونس، وملاحقة السلطات الاستعمارية له، وحيث مجالُ عمله الإسلامي أوسعُ نطاقاً، وأفسح ميداناً، وسبب آخر هو: نظرة المغاربة إلى بلاد الشام، ويدعونها:(الشام الشريف).
* إخوة الإمام:
إخوة الإمام، وهم من الرجال:
الشيخ محمد الجنيدي، وعاد إلى تونس، ثم الجزائر، وهو دفين مدينة "طولقة".
والشيخ محمد العروسي، وتوفي بدمشق، وابنته متزوجة من المرحوم قدور خمّار من بسكرة، ومقيمة حتى اليوم في الجزائر، وقد قاربت المئة عام -حفظها الله-.
والعلّامة اللغوي المعروف محمد المكي بن الحسين، عاد إلى تونس، ودفن فيها.
وسيدي الوالد زين العابدين بن الحسين، ودفن في دمشق، وكان عالماً ومؤلفًا، ولا أدلّ على شهرته ومكانته: أن وزارة التربية أطلقت اسمه على أكبر ثانوية في حي الميدان، ووزارة الأوقاف على مسجد حديث وكبير في حي الميدان -أيضاً- حيث سكناه.
وهناك الشقيقات: زبيدة، وميمونة، وفاطمة الزهراء، ودُفِنَّ في دمشق.
* الرحلات:
قام الإمام برحلات علمية باعتبارها وسيلةً لترقية العلوم والآداب، وتهذيب النفوس، وإصلاح حال الاجتماع، وكتبَ عن الرحلات وأثرها في الحياة العلمية والأدبية:
رَحّالةٌ كالبَدْرِ طافَ على الدُّنا
…
بضيائهِ لا يَخْتفي أو يُحْجَبُ
له: "الرحلة الجزائرية" نشرها في العددين الأول والثاني من مجلة "السعادة العظمى" سنة (1321 هـ - 1903 م)، وعاد لزيارتها 1322 هـ - 1904 م.
وله: "خلاصة الرحلة الشرقية" سنة (1320 هـ - 1912 م) زار خلالها مالطة، والإسكندرية، والقاهر، ويافا، وحيفا، ودمشق، وييروت، وإستانبول، وعاد إلى تونس، ودامت قرابة خمسة أشهر. وفي عام 1913 م عاد والتحق
بالعائلة في دمشق؛ حيث المقر الثاني له بعد تونس، وزار سويسرا، وإيطاليا لأغراض سياسية.
وهناك رحلته من دمشق إلى القاهرة، وهي المقر الثالث والأخير للإمام عام (1339 هـ -1920 م)، وهناك سطع نجمه، ويرز علمه، وفي كل المدن التي زارها في رحلاته المتعددة كان يلقي الدروس الدينية في مساجدها، والمحاضرات في نواديها في مختلف الفنون.
* في معتقل جمال السفاح بدمشق:
والسِّجْن للأحرارِ خيرُ شهادةٍ
…
تُهدَى لأِمْثالِ الإمامِ وتُكْتَبُ
من صفحات الجهاد الإسلامي التي نقرؤها في سجل حياة الإمام محمد الخضر حسين: اعتقاله في شهر رمضان (1334 هـ - 15 آب 1916 م)، وحتى 29 كانون الثاني 1917 م وجرت محاكمته أمام المجلس العرفي العسكري. وطلب المدعي العام من هيئة المحكمة إنزال عقوبة الإعدام بالإمام؛ بحجة أنه حضر مجلساً خاض فيه أحد المحامين في سياسة الدولة، وسعى إلى تأسيس جمعية تدعو إلى الانفصال عن الدولة العثمانية، والخروج عنها. ثم إن إدارة البوليس رأته مسؤولاً عن عدم إبلاغ الحكومة في حينه.
ودام الاعتقال ستة أشهر، وأربعة عشر يوماً في (خان مردم بك) بدمشق، وهو مكان مخصّص لاعتقال رجال السياسة في عهد جمال باشا. ومن رفاقه في السجن: الرئيس شكري القوتلي، الذي شغل منصب رئيس الجمهورية السورية، وفارس الخوري رئيس وزرائها، وسعدي بك الملا الذي أصبح رئيساً للوزارة في لبنان.
وحكم المجلس العرفي بالبراءة، وقرر المجلس طلب المكافاة للإمام
على ما أصابه، ولكن الإمام يقول:"لم أتشبث بهذا القرار، وقنعت بما ظهر للدولة والأمة من طهارة ذمتي، وعدم تسرُّعي إلى النفخ في لهب الفتنة على غير هدى".
ومن شعره في السجن:
جَرى سَمَرٌ يَوم اعْتُقِلْنا بفندُقٍ
…
ضُحانا به لَيلٌ وسامِرُنا رَمْسُ
فقالَ رفيقي في شَقا الحَبْس إنّ في الـ
…
ـحضارَةِ أُنساً لا يُقاسُ به أُنْسُ
فَقُلتُ له فَضلُ البداوةِ راجِحٌ
…
وحَسبُكَ أنّ البدوَ لَيسَ بهِ حَبسُ
ومن شعره في السجن -أيضاً-:
غَلَّ ذا الحبسُ يَدي عَنْ قَلَمٍ
…
كانَ لا يَصْحُو عَن الطِّرسِ فَناما
أنا لوْلا هِمَّةٌ تحدو إلى
…
خِدْمةِ الإسلام آثرْتُ الحِماما
* جهاد الأمام في برلين:
سلْ عنهُ "برلينَ" التّي عَجِبتْ لَهُ
…
والشَّيْخُ في لَهبٍ يَجيءُ ويذْهَبُ
تحت دويِّ القاذفات والمدمرات، وفي الأَتُّون المشتعل لهباً وسعيراً، في ذلك الجوّ المرعب الرهيب، وقف الرجل المؤمن الصابر، يدعو الجنود المغاربة الذين وقعوا أسرى الألمان إلى الثورة ضد فرنسا.
زجَّ الاستعمار الفرنسي مئات الآلاف من أبناء شمال إفريقيا في حرب لا تعنيهم، وساقهم إلى مذابح الحرب، ودفع بهم إلى الخطوط الأولى من المعارك التي يخوضها مع ألمانيا، ووقع في الأسر عدد كبير من الجزائريين والتونسيين خاصة، فكان الإمام يتصل بهم ويؤانسهم، ويحرّضهم على القتال ضد فرنسا، وليس معها؛ لأن بلادهم تحتاج إليهم في هذا الموقف.
أقام في ألمانيا تسعة أشهر في عام 1917 م، ومرة ثانية مدة سبعة أشهر عام 1918 م مع رفقة من المجاهدين المغارية. شارك في نشاط (اللجنة التونسية الجزائرية) لتحرير بلاد المغرب، والدفاع عن قضاياها، وكتب المقالات في الصحف، وألقى المحاضرات.
تعلّم اللغة الألمانية وأجادها، ودرس المجتمع الألماني، وعاداتِ الأمة وأخلاقَها، كما درس علوم الكيمياء والطبيعة على يد البروفسور الألماني (هاردر) أحدِ العلماء الألمان المستشرقين، وكتب:"مشاهد برلين".
وأصدرت السلطات الفرنسية حكماً عليه بالإعدام غيابياً، لتحريض المغاربة على الثورة ضد المستعمر، كما صدر الأمر المؤرخ في 15 جوان 1917 م، والذي تضمن:"حُجزت بقصد بيعها أملاكُ الأخضر بن الحسين المدرس السابق في الجامع الأعظم الذي ثبت عصيانه"، ونشر الأمر في "الرائد التونسي" النسخة الفرنسية الصادرة في 20/ 6/ 1917 م.
* في الميدان الصحفي:
أصدر في تونس مجلة "السعادة العظمى" مجلة علمية أدبية إسلامية تصدر في غرّة كل شهر، وفي سادس عشرة.
صدر العدد الأول في 16 محرم 1322 هـ حتى العدد 21 الصادر في غرّة ذي القعدة 1322 هـ، وللمجلة تاريخ حافل في ميدان الإصلاح.
- وفي القاهرة أصدر مجلة "الهداية الإسلامية" عن "جمعية الهداية الإسلامية" التي يرأسها، وصدر العدد الأول في جمادى الثانية 1347 هـ على مدى ثلاثة وعشرين مجلداً.
- ترأس تحرير مجلة "نور الإسلام" مجلة جامع الأزهر، وشعارها:
المجلة الدينية العلمية الأخلاقية التاريخية الحكمية. وهي المعروفة اليوم باسم مجلة "الأزهر"، وصدر العدد الأول في شهر (محرم 1349 هـ - جوان 1930 م)، واستمر في تحريرها حتى عام 1935 م.
- ترأس تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وصدر العدد الأول في أول رمضان (1366 هـ الموافق 19 يوليو 1947 م)، وحتى عام 1953 م، وانقطع عنها؛ لارتقائه مشيخة الأزهر.
وكتب في العديد من الصحف والمجلات في العالمين العربي والإسلامي.
وكَسا الصَّحافةَ وجْهَها (بسعادةٍ
…
عُظمى) ففازَ معَ السِّباقِ المغربُ
* الإمام اللغوي:
من العلوم التي برع فيها الإمام محمد الخضر حسين، وصال فيها، وجال في ميادينها الواسعة: علومُ اللغة العربية وآدابها. أَحبَّ اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، وخدمها خدمة المؤمن الصادق.
ومن أوائل المحاضرات اللغوية التي تحدثت عنها الأندية الأدبية: مسامرتُه حول "حياة اللغة العربية" التي ألقاها في الجمعية الصادقية بتونس في جمهور غفير من الأدباء، وأساتيذ اللغة العربية سنة 1327 هـ.
وفي دمشق كان عضواً في (المجمع العلمي العربي) الذي عقد جلسته الأولى في 7/ 30/ 1919 م، وعيِّن الأمام عضواً عاملاً فيه طوال الفترة التي قضاها في سورية، ثم أصبح مراسلًا للمجمع عند انتقاله للسكنى نهائياً في القاهرة.
والمَجْمَعانِ بمصرَ أو في جِلَّقٍ
…
دارانِ فُصحى وهو بينَهُما الأبُ
والإمام من الأعضاء المؤسسين في (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) بالقاهرة، والذي عرف فيما بعد بمجمع اللغة العربية، تأسس بمرسوم أصدره الملك فؤاد في (14 شعبان 1351 هـ - 13 كانون الأول 1932 م)، وصدر مرسوم بتعيين الإمام عضواً عاملاً فيه في 16 جمادى الثانية (1352 هـ - 6 تشرين الأول 1933 م)، وساهم الإمام بكل جهد في أعمال المجمع حتى آخر حياته المباركة، وترأس لجنة اللهجات، وشارك في لجان الآداب والفنون:"المعجم الوسيط"، "الأعلام الجغرافية"، "دراسة معجم المستشرق فيشر" المتعلق بالألفاظ القرآنية، وله العديد من البحوث المنشورة في مجلة "المجمع".
وأصدرتُ له كتابين: "دراسات في العربية وتاريخها"، و"دراسات في اللغة".
ولا بدَّ هنا من الإشارة إلى بحثه اللغوي القيِّم "القياس في اللغة العربية" الذي نال بموجبه عضوية هيئة كبار العلماء بالقاهرة.
* معاركه الفكرية:
قَلَمُ الإمامِ هِدايةٌ ومَعارِكٌ
…
وعلى الغِوايةِ مِثْلُ نارٍ تُسْكَبُ
خاض الإمام معارك الفكر مع عدد من أصحاب الأقلام المعروفة:
- وفي المقدمة: طه حسين، الذي ردَّ عليه في كتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، وردّ على بحثه "حقيقة ضمير الغائب في القرآن".
- وردَّ على علي عبد الرازق في كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، وعلى مقالاته "العظمة"، وعلى "ملاحظات على مقال مولد النبي صلى الله عليه وسلم".
- وردَّ على الشيخ محمود شلتوت حول "الهجرة وشخصيات الرسول".
- وردَّ على محمد خلف الله في مقاله "الفن القصصي في القرآن".
- وردَّ على محمد أبو زيد الدمنهوري في كتابه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن"، وعنوان بحث الإمام "كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد".
- وله ردٌّ تحت عنوان: "كتاب يلحد في آيات الله" ردَّ فيه على كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" تأليف الطاهر حداد من تونس.
- وردُّه "تحريف آيات الحدود عن مواضعها" على مقال عبد المتعال الصعيدي.
- و"نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة" ردَّ به على أحمد أمين.
- و"ملاحظات على البحث المقدم عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى، ردَّ على الأستاذ فريد أبو حديد. وله نقد آخر لآرائه.
- و"حول تبسيط قواعد النحو والصرف والرد عليها" رد على اللجنة المؤلفة من طه: حسين، وأحمد أمين، وعلي الجارم، ومحمد أبي بكر إبراهيم في (مجمع اللغة العربية بالقاهرة).
وله ردود أخرى على الشيخ رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وغيرهم.
* جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية:
أسس الإمام (جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية) سنة (1342 هـ، جوان 1924 م)، وسنَّ قانوناً لها، ويقول عنها:"تأسست هذه الجمعية لتنهض بجاليات إفريقيا الشمالية، حتى يسيروا مع إخوانهم المصريين جنباً إلى جنب، يسايرونهم في أفكارهم، في آدابهم، في معارفهم، في كل شأن من شؤون حياتهم الاجتماعية".
وقد ساهمت الجمعية في نشاط ثقافي، وشكلت لجنة تنشر آداب إفريقيا الشمالية، وكانت برئاسة الإمام، ومن أعضائها الجزائريين: الدكتور محمد عبد السلام العيادي، ومحمد الرزقي.
* جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية:
من الصفحات المشرقة والمشرّفة في سيرة الإمام: دعوته لتنظيم جاليات المغرب العيلي المقيمة في القاهرة في جبهة واحدة متراصة، غايتها: الدفاع عن شعوب شمال إفريقيا: تونس، والجزائر، والمغرب، وليبيا.
نظر الإمام إلى حال دول شمال إفريقيا، وما آلت إليه الأمور على يد المستعمر من محاربة شرسة عنيفة للغة القرآن، ونشر ويلات الجهل والفقر، و (فَرْنسَة) المعاهد العلمية، والمؤسسات الحكومية، ونقل البلاد إلى الجنسية الفرنسية من عروبتها وإسلامها، وتحويل المساجد إلى ثكنات عسكرية. وكسرت فرنسا الأقلام الحرة، وكممّت الأفواه، ولم تعد الأذن تسمع إلا قرقعة السلاح، والدعوات إلى اعتناق الأفكار الأجنبية الخبيثة، وفي اعتقادهم أن هذا الأسلوب يقود المغرب إلى أن يصبح قطعة من فرنسا، ولم يعلموا أن القرآن حافظ للغة، وأن الإسلام سيبقى إلى اليوم المشهود.
نظر إلى هذا كله، فلم يطق صبراً، وخفقت الروح بين جنبيه، والإمام من أكثر الناس شعوراً بإرهاب فرنسا التي لاحقته من تونس إلى دمشق، وإستنبول وبرلين، ثم إلى دمشق والقاهرة، وحكمت عليه بالإعدام، وأمرت بمصادرة أمواله في تونس.
لبت الجاليات المغربية دعوته المباركة، والتفَّت حوله في مشهد رائع، واتخذت مقراً لها دار "جمعية الهداية الإسلامية"، ولم تتخذ لنفسها مكتباً مستقلاً
في البناء؛ حفظاً على مال الجبهة، وفي بناء الجمعية متسعٌ لكل عمل إسلامي ووطني.
عقدت الجبهة اجتماعها الأول في شهر ذي الحجة 1363 هـ، وتم انتخاب الإمام رئيساً، ومثّل الجزائرَ فيها المناضلُ الكبير الفضيل الورتلاني، والأمير مختار الجزائري.
قامت الجبهة برسالتها خير قيام، وقامت بأقصى جهد للتعريف بقضايا المغرب، وعقدت المؤتمرات واللقاءات مع المسؤولين العرب والأجانب، وشرحت ما تتعرض له شعوب المغرب، وعملت على مساندة المقاومة بالقوتين المادية والمعنوية. وانضم إلى الجبهة أكثر اللاجئين السياسيين المقيمين في مصر، ونخبة من المناضلين المغارية، ومن جمعيات العلماء المسلمين الجزائريين، وحزب الشعب الجزائري.
وأطلق عليه أحد الباحثين اسم: (ابن خلدون العصر)؛ لأن في سيرة الرجلين تشابها كبيراً في مراحل حياتهما وإنتاجهما العلمي.
* عضويته في جماعة كبار العلماء:
تقدم الإمام برسالته "القياس في اللغة العربية" لعضوية جماعة كبار العلماء، وتشكلت لجنة من قساة الممتحنين، وكان العالم الفاضل الشيخُ عبدُ المجيد اللبّان رئيساً للجنة، فأبدى الشيخ من الرسوخ والتمكُّن ما أدهش، ويهرهم بغزارة علمه، وفاض عليهم بما وهبه الله من معارف؛ حتى إن الشيخ اللبّان صاح إعجاباً قائلاً:
هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟! ونص القرار على أن اللجنة امتحنت الشيخ محمد الخضر، فوجدته بحراً لا ساحل له.
وفي 29 أبريل من سنة 1951 م صدر أمر ملكي برقم 22 بتعيين الشيخ محمد الخضر حسين عضواً في جماعة كبار العلماء، وكانت هذه العضوية سبيله إلى عرض اسمه على مجلس الوزراء، عندما أراد المجلس اختيار شيخ الأزهر من كبار العلماء.
* الإمام في مشيخة الأزهر:
كان موسوعة علمية، يضرِب في جميع العلوم بسهم وافر، وقد جاهد في سبيل الله بقلمه ولسانه ونفسه.
جاءته مشيخة الأزهر تسعى إليه بنفسها، دون أن يطلب هذا المركز يوماً، فهو أزهد الناس بالمناصب والألقاب.
وافته مشيخة الأزهر اعترافاً بفضله العميم، وعلمه الغزير، وسيرته النقية التي غدت مضرب الأمثال في التقوى والنضال والدعوة.
لم تكن لديه في القاهرة عشيرة تكون له سنداً، ولا حرب يدفع عنه، ولا أخ يشد أزره، ولا ولد يرفع عن كاهله عبء الحياة.
ولكن الله سبحانه وتعالى كان معه، ومن كان الله معه، فقد بلغ أقصى مراتب السؤدد، ولأمثاله تعقد ألوية الدعوة والإصلاح، ولأمثاله تعقد القيادات الإسلامية.
ويروي الشيخ: أنَّ أمه حينما ولدته، وكَبُرَ، قالت له: إنها كانت تربِّت عليه وهو صغير، وتقول له: إن شاء الله يا أخْضَرْ، تكبر وتروح الأزهرْ.
واستجابت السماء لدعوة الأم الطاهرة، وإذا بأصيل "طولقة"، ووليد "نفطة" يجوب العالم داعية للإسلام، وتنتهي به رحلة الإيمان إلى أن يصبح
إماماً وشيخاً في الجامع الأزهر. وهكذا يكرِّم الله أولياءه الصالحين في الدنيا قبل ثواب الآخرة.
الأزْهَرُ المَعْمورُ سُرَّ بِشيخِهِ
…
لَمَّا اعتلاهُ من التُّقاةِ مُجرِّبُ
وفي مشيخة الأزهر قال: "إن كانت جنّة، فقد دخلتها، وإن كانت ناراً، فقد خرجت منها".
بعد اختيار الإمام شيخاً للأزهر، زاره الرئيس محمد نجيب في مكتبه بالأزهر للتهنئة، وبعد أيام على هذه الزيارة، أتاه السيد حسين الشافعي عضوُ قيادة الثورة، وأخبره أن الرئيس محمد نجيب يطلبه لأمر ما، فغضب الإمام -وقلّما يغضب -، وأخرج ورقة من درج مكتبه، وكتب عليها استقالته، وقال للشافعي:"قل لسيادة الرئيس: إن شيخ الأزهر لا ينتقل إلى الحاكم".
هنأه الشاعر الجزائري الكبير محمد العيد بقصيدة طويلة ومطلعها:
بارقٌ مِنْ بوارِق الرُّشْدِ لاحا
…
جَرَّ للشَّرْقِ غِبْطَةً وفَلاحا
وفيها يقول:
وحَبا الأزْهَرَ الشريفَ رئيساً
…
عَبقرياً ومُصْلِحاً مِسْماحاً
وإماماً محدِّثاً مَغْرِبيّاً
…
رفعَ المغرِبَ المهيضَ جَناحا
واستقال من المشيخة في (2 جمادى الأولى 1373 هـ - 8 جانفي 1954 م)، وتفرَّغ للعلم والكتابة.
* آثاره العلمية:
حدِّثْ عن نبع لا ينضُب، وفكر لا يتعَب، وقلم أوقفه صاحبه لخدمة
الإسلام، وآثارُه العلمية كلها طُبعت بحمد الله وعونه، وهي تزيد عن ثلاثين كتاباً.
آثارهُ تَروي لنا في طَيِّهَا
…
أَنَّ الإمامَ الخِضرَ عَصْرٌ مُذْهَبُ
* مشاهد من حياته الخاصة:
أخْلاقهُ القرآنُ ترسُمُ سيْرَه
…
ومكارمُ الأَخلاقِ منه تَصَبَّبُ
فإذا مَشَى فالأرضُ لا تَدْري بهِ
…
وخُطاهُ تَمضْي هِينَةً لا تَضْرِبُ
أمّا على قِمَمِ المنَابرِ فارْتَقِبْ
…
أَسدًا يُزمْجِرُ في العَرينِ وُيرْعِبُ
- الكتابُ رفيقه وجليسه، يضعه إلى جانبه إذا خاض في حديث، ويمسك به للمطالعة إذا خلا بنفسه.
- كان مهداءً لكتبه، يقدمها إلى كل زائر، ويبعث بها إلى معارفه من الشيوخ والعلماء في المعاهد الدينية، ولم يستفد مالاً من عائداتها، لقد وجدْتُ كتبه المهداة في كل بلد عربي زرته.
- لم يكن يتقاضى من (جمعية الهداية الإسلامية) بصفته رئيساً لها، أو من مجلة "الهداية الإسلامية" بصفته رئيساً لتحريرها، ولا عن محاضراته في الجمعية أيَّ أجر - وهذا مبلغ علمي.
- كان مشّاءً يحب السير على قدميه، فينتقل من سكناه في حي السيدة زينب إلى دار الجمعية في شارع مجلس النواب بالقاهرة ماشياً.
- سكناه بسيطة، يتجلى فيها زهدُ الإمام وورعه، شقة بالكراء من غرفتين، وفسحة بينهما، وفرش متواضع، لذا نراه يستقبل كبار زوّارِه في دار (جمعية الهداية) لا لسبب إلا لضيق داره.
- وذكرت لي زوجته: أن الحبيب بورقيبة عندما لجأ إلى تونس، نام ليلته الأولى في مطبخ دار الشيخ، حتى هيأ له غرفة في اليوم التالي لدى إحدى الجمعيات.
- فُطوره قطعة من الخبز، وكوب من الحليب، ووجباته لا تتعدى لقيمات من لون واحد من الطعام.
- يغتسل بالماء البارد طوال السنة، وهي عادة اتخذها منذ أن كان في "برلين".
- راتبه الضئيل لم يتجاوز ثلانين جنيهاً، يقتطع نصفه لمعاشه، والنصف الآخر يرسله مجزّأً إلى أقاربه في دمشق وتونس مساعدة لهم.
- لم يقتن سيارة في حياته، ولم يمتلك عقاراً، وعند وفاته لم يترك إلا مكتبته التي أهداها إلى دار الكتب المصرية، وآثاره العلمية التي ينتفع بها الناس.
* مذكرات الإمام:
وضع مذكراته في ثلاث مجلدات تحت عنوان: "مراحل الحياة"، وتهافتت عليه المجلات المصرية، وكاد الاتفاق أن يتم مع جريدة "المصري" إلا أن الإمام قال:
"استخرت الله، ووجدت أن نشرها يعتبر حديثاً عن النفس، وفيه تزكية لنفسي، وأنا لا أريد أن أزكّي نفسي، وليستفد من شاء بما شاء من كتاباتي"، ومزّقها.
وتحت يدي بعض منها.
* انتقاله إلى الرفيق الأعلى:
ولما أحبَّ الإمامُ لقاءَ الله، أحبَّ البه لقاءه. انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد ظهر يوم الأحد (13 رجب 1377 هـ، الموافق 2 فيفري 1958 م)، ودفن إلى جوار صديقه المرحوم أحمد تيمور باشا جانب مسجد الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقاهرة.
رحم الله الإمام، وأنزله منزل الأنبياء والصدّيقين، والشهداء والأبرار والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
وختاماً: حيّاكم الله وبيّاكم يا شعبَ الجزائر المظفرَّة، يا أهل ووالي بسكرة، يا رئيس وأعضاء الجمعية الخلدونية المزهرة، ملتقاكم مفخرة المفخرة:
القَوْلُ لا يوفي الجزائرَ حَقَّها
…
والشِّعْرُ يَعْجِزُ واللِّسانُ مُجَلْبَبُ
حيِّ الجزائرَ والعُلا تاريخُها
…
يا أَطْهَرَ الأَرَضِينَ عَيْشُكِ مُخْصِبُ
وُاذكُرْ بِسِكْرَةَ وانتَخِبْ جَمْعِيَّةً
…
هيَ لابْنِ خَلْدونَ المؤرِّخِ تَقْرُبُ
وقبل ختم الكلمة، أتمنى على الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية لولاية بسكرة، أن تضع في برنامجها المستقبل ثلاثة من عظماء الأمة:
الحسن بن عزّوز، ومحمد المكي بن عزّوز، والفضيل الورتلاني.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.