المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيغ الأزهر السابق - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(29)«مُلتَقَى الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين في الجَزَائر»

- ‌المقدمة

- ‌حفل افتتاح الملتقى

- ‌كلمة افتتاح الملتقى لوالي ولاية "بسكرة" الأستاذ ساعد أقوجيل

- ‌كلمة رئيس الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية الأستاذ فوزي مصمودي

- ‌كلمة الشيخ عبد القادر عثماني شيخ زاوية (علي بن عمر)

- ‌كلمة الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

- ‌كلمة رئيس الجمعية بتكريم الباحث علي الرضا الحسيني

- ‌كلمة تكريم الباحث علي الرضا الحسيني للأستاذ الأخضر رحموني

- ‌التكريم

- ‌تحية شعرية لعلي الرضا الحسيني بعد التكريم

- ‌محاضرات الملتقى

- ‌ومضات من حياة العلامة محمد الخضر حسين

- ‌الإمام الشيخ محمد الخضر حسين ومنهجه في التراجم

- ‌الإمام العلامة محمد الخضر حسين شاعرا ً

- ‌جهود الأزهر في مواجهة التغريب الإمام محمد الخضر حسين الجزائري نموذجا ً

- ‌الإمام محمد الخضر حسين رجل العلاقات والمؤسسات العلمية

- ‌توصيات الملتقى

- ‌على هامش الملتقى

- ‌بعض عناوين الصحافة الجزائرية عن الملتقى

- ‌ملتقى الإمام محمد الخضر حسين

- ‌في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيغ الأزهر السابق

- ‌بسكرة عاصمة الثقافة باحتفالها بالإمام محمد الخضر حسين إمام العالم الإسلامي، وأستاذ الشيخ ابن باديس

- ‌ربيع في الشتاء

- ‌تذكرة ملتقى الإمام العلامة محمد الخضر حسين

الفصل: ‌في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيغ الأزهر السابق

على هامش الملتقى

‌في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيغ الأزهر السابق

(1)

الأستاذ محمد مواعدة (2)

مرت خلال الأسبوع الأول من فيفري 2008 م، الذكرى الخمسون لوفاة العلّامة التونسي محمد الخضر حسين شيخِ جامع الأزهر السابق (2 فيفري 1958 - فيفري 2008).

وفي هذا الإطار تعتزم (الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي) بإشراف رئيسها المثقف، والجامعي المتميز الدكتور كمال عمران، تعتزم تنظيمَ ندوة علمية خلال هذه السنة بمشاركة باحثين تونسيين وجزائريين ومشارقة للتعريف بهذه الشخصية العلمية التي تجاوزت الحدود، وبلغت أوج الشهرة والمجد العلمي والثقافي خلال النصف الأول من القرن الماضي.

ولا يحتاج إلى تأكيد أهمية منصب علمي مثل مشيخة جامع الأزهر الشريف، هذه المؤسسة الدينية والعلمية التي كان مجرد الدراسة فيها، والتعلم

(1) جريدة "الصباح" التونسية، العدد الصادر في 24 فيفري (شباط) 2008 م.

(2)

الأستاذ محمد مواعدة من كبار الباحثين والكتاب التونسيين، له مؤلف مشهور "محمد الخضر حسين حياته وآثاره".

ص: 179

بها يعتبر شهادة امتياز وتقدير.

ومما يستحق الإشادة في هذا المجال: أن الشيخ محمد الخضر حسين لم يطلبها ويعمل من أجلها، بل جاءته هذه الخطّة ساعية إليه من خلال الوفد الوزاري الذي أرسله إليه الرئيس جمال عبد الناصر في سبتمبر 1952 م بقيادة الوزير الشيخ الباقوري عارضاً عليه تولي هذه الخطة، فاعتذر، فألحَّ عليه، وهو صديقه القديم بما معناه: إن الثورة تهدف إلى بناء مجتمع جديد، وهو أحد جنودها، ولا يمكن له أن يعتذر عن المساهمة في هذا البناء

فقبل عندئذ تولي مشيخة الأزهر، وبقي يباشرها إلى سنة 1954 م، ثم استقال منها متعللاً بكبر سنه

لكن السبب الحقيقي كان اختلافه مع مجلس قيادة الثورة في قضايا عديدة، منها: وضع المحاكم الشرعية.

ومما يذكر عنه في هذه المرحلة من حياته: أن اللواء محمد نجيب قد زاره في بيته -بحكم العلاقة القائمة بين الرجلين قبل الثورة-، ثم طلب منه بعضُ الأصدقاء القيام بزيارة اللواء نجيب في مقر مجلس قيادة الثورة، فكان جوابه: "شيخ الأزهر لا ينتقل إلى مقر السلطة

بل على السلطة أن تنتقل إليه؛ لأنها هي التي تحتاجه".

* حياته ثرية ونشيطة:

إن كل من تعرف على هذه الشخصية -من خلال البحث والدراسة- يتبين غزارة حياتها وثراءها، إذ هو العالم في القضايا الشرعية، وفي اللغة، والأدب، وهو الشاعر، والمحاضر، والرحالة، وكاتب المقالة، والمناضل المغاربي السياسي.

فقد قال عنه أحد علماء الأزهر الكبار -الشيخ اللبان- عند إلقائه درساً

ص: 180

في "القياس في اللغة العربية" وهو البحث الذي تأهل به للدخول إلى هيئة كبار العلماء

وهي أعلى هيئة علمية بالجامع الأزهر. قال الشيخ اللبان: "هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟! ".

ونظراً إلى أن هذا العلامة هو كما قال عنه أحد زملائه: "هو رجال في رجل"؛ فإننا في هذه المناسبة -الذكرى الخمسين لوفاته- سنكتفي بالإشارة بإيجاز إلى بعض الجوانب (1):

1 -

جذور هذه الشخصية وأصول عائلته هي أصول جزائرية من بلدة "طولقة" من منطقة الزاب على الحدود التونسية

وهي منطقة واحات النخيل المجاورة لمنطقة الجريد بالجنوب التونسي

وهو ما يجعل المتجول في إحدى هذه الواحات لا يستطيع التفريق بين هاتين المنطقتين: نخيلاً، بشراً، عادات، أنواع الأطعمة والمأكولات

إلخ.

2 -

انتقل جده للأم الشيخ مصطفى بن عزوز إلى بلدة "نفطة" خلال النصف الأول من القرن 19 م، واستقر بها، وبنى بها زاويته الشهيرة القائمة إلى اليوم

وانطلاقاً منها قام بنشر الطريقة الرحمانية.

قد أشار الشيخ إبراهيم خريف (والد الأديبين البارزين: مصطفى خريف، والبشير خريف) في كتابه "المنهج السديد في التعريف بقطر الجريد" - (مخطوط) إلى الحظوة الكبيرة، والعناية الفائقة التي استقبل بها علماء "نفطة" ورجالها الشيخ مصطفى بن عزوز.

(1) محمد مواعدة: "محمد الخضر حسين: حياته وآثاره"، ط 1، تونس 1974 م، قريباً طبعة جديدة مفصلة في جزأين.

ص: 181

وكان لهذا الشيخ مكانة خاصة ومتميزة لدى العلماء والشيوخ في مختلف أنحاء البلاد التونسية، وكذلك لدى سلطة البايات، وهو ما أهله للقيام بدور فاعل للوساطة بين باي تونس وعلي بن غذاهم، أشار إليها بتفصيل ابن أبي الضياف في ج 5 من كتاب "الإتحاف".

3 -

كان -أيضاً- جد محمد الخضر حسين للأب علي بن عمر من علماء "طولقة" وشيوخها، وله -حالياً- زاوية باسمه في هذه المدينة، هي من أكبر الزوايا التي زرتها أخيراً بمنطقة الزاب

وبها مكتبة ثرية جداً بالمخطوطات العلمية والأدبية النادرة

ويشرف على شؤونها عالم جليل هو الشيخ عبد القادر عثماني.

4 -

إذن كانت العائلة التي ينتسب إليها علامتنا من أعظم العائلات وأعرقها علماً وورعاً

إذ -إضافة إلى ما ذكرنا- فإن الشيخ محمد بن عزّوز والد الشيخ مصطفى بن عزوز

هو العالم والورع المتصوف المعروف بـ "نور الصحراء"، وزاويته الشهيرة قائمة إلى اليوم.

ومن أبرز أبناء هذه العائلة -أيضاً- الشيخ المكي ابن عزوز (خال محمد الخضر) الذي كان من علماء جامع الزيتونة، وأحد قضاة مدينة "نفطة"

والذي ارتحل فيما بعد إلى "الآستانة" واستقر بها للتدريس

وكان من أبرز وجهائها إلى أن توفي بها، ودفن هناك.

5 -

ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة "نفطة" يوم (26 رجب سنة 1293 هـ / 21 جويلية سنة 1873 م)، واسمه الأصلي: محمد الأخضر ابن حسين، وقد حدث تحوير في الاسم على مرحلتين:

الأولى: منذ طفولته، عندما أبدل لفظ "الأخضر" بـ "الخضر"؛ تيمناً

ص: 182

بـ "الخضر" الذي رفعه القرآن إلى درجة الأنبياء، ويحظى عند رجال التصوف بمكانة خاصة.

أما التحوير الثاني الذي حدث في صيغة الاسم، فبحذف لفظ "الابن"، وذلك عندما هاجر إلى المشرق العربي، واستقر بـ"دمشق، ثم القاهرة" مسايرةً لأسلوب المشارقة في التسمية؛ مثل: طه حسين

6 -

تلقى تعلمه الابتدائي "بنفطة" على يد خاله الشيخ محمد المكي ابن عزوز، وعلى مؤدبين وشيوخ من أبرز مؤدبي وشيوخ "نفطة" في ذلك العهد.

وتجدر الإشارة إلى أن مدينة "نفطة" التي كانت تسمى بالكوفة الصغرى (في كتب الرحالة العرب)، ومنطقة الجريد عامة: توزر، دقاش، كانت كلها زاخرة بالعلماء والأدباء والشعراء.

7 -

عندما بلغ محمد الخضر سن 13 من عمره انتقلت العائلة سنة (1307 هـ / 1886 م) إلى العاصمة تونس؛ لتمكينه وإخوته من مواصلة الدراسة بجامعة الزيتونة

وكان خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز مدرساً متطوعاً بالجامع الأعظم، وصاحبَ منزلة وتقدير لدى أبرز شيوخ هذه المؤسسة العلمية.

8 -

تخرج محمد الخضر حسين من جامع الزيتونة بنجاحه في شهادة التطويع سنة (1316 هـ / 1898 م)، وكان لهذه المرحلة الزيتونية من حياته شديدُ التأثير في مساره العلمي والفكري والأدبي، أشاد به في عديد المناسبات. (انظر كتابه:"تونس وجامع الزيتونة")، وخاصة انبهاره وتعلقه بشيوخه الكبار:

ص: 183

- الشيخ سالم بو حاجب (ت: 1343 هـ / 1925 م).

- الشيخ عمر بن الشيخ (ت: 1329 هـ / 1911 م).

- الشيخ محمد النجار (ت: 1329 هـ / 1911 م).

أشار العلامة محمد الخضر حسين إلى مراحل حياته في مناسبات عديدة، وهي ثلاثة:

- المرحلة التونسية:

وقد امتدت طيلة 40 سنة، من ولادته بمدينة "نفطة" بالجريد سنة 873 م إلى هجرته النهائية إلى المشرق العربي سنة 1912 م.

وقد قال العلامة محمد الفاضل بن عاشور عن هذه المرحلة التأسيسية لشخصية صاحبنا:

تميزت هذه المرحلة الأولى من حياته التي قضاها بتونس بالتعلم والتثقف، فتكونت شخصيته، ونضجت أفكاره، واشتهر في الأوساط العلمية باعتداله، وهدوء طبعه، وخلوص نيته، وسعة علمه، وبراعة قلمه.

ولئن باشر التدريس بالجامع الأعظم خلال هذه المرحلة، وكذلك بالمعهد الصادقي، وتقلد خطة القضاء بمدينة "بنزرت" تلبية لطلب صديقه الحميم العلامة محمد الطاهر بن عاشور، ثم استقال منها سريعاً؛ لعدم تلاؤم شخصيته وبيئته العائلية والعلمية مع ضوابط الوظائف الرسمية وحدودها، وانشغاله الأساسي بالعلم والأدب والثقافة درساً وتعلماً وتعليماً.

لئن قام بكل ذلك وبغيره خلال هذه المرحلة التونسية، فإننا نعتقد -تأكيداً لما قاله العلامة محمد الفاضل بن عاشور- أن من أهم ما يستحق الإشادة والذكر في هذه المناسبة الخمسينية:

ص: 184

أ - بداية بروزه في مجال الدعوة إلى إصلاح المجتمع الإسلامي من خلال المسامرات والمحاضرات والتي من أشهرها:

- "الحرية في الإسلام": التي ألقاها بنادي (جمعية قدماء الصادقية) سنة 1906 م، ونشرت سنة 1909 م، ونالت اهتمام جميع الأوساط العلمية والثقافية في ذلك العهد.

- "حياة اللغة العربية": والتي ألقاها بنادي الجمعية نفسها خلال سنة 1909 م.

ب - إصدار مجلة "السعادة العظمى"(1)، والتي هي في نظرنا أهم إنجاز قام بتحقيقه في مرحلته التونسية، والتي قال عنها العلامة محمد الفاضل بن عاشور: "

كان ظهورها في معمعة تلك الخلافات كطلوع الحكم العادل، تنزهت به المجادلات عن الفحش، وتطهرت من الهمز واللمز، وتسامت عن التشهير والأذى الشخصي".

ويقصد شيخنا ابن عاشور بهذا القول: محاولةَ مجلة "السعادة العظمى"، وبالتالي صاحبها الشيخ محمد الخضر حسين التعاملَ بهدوء ورصانة مع الخلاف الذي كان وقتها محتدماً بين الإصلاحيين والمحافظين حول قضايا فكرية ودينية عديدة؛ مما جعل أصحاب التيارين وأنصارهم "المتطرفين" يخاصمون المجلة، وصاحبها، (وهو موضوع يحتاج إلى بحث خاص)

باستثناء صديقه الوفي العلامة محمد الطاهر بن عاشور. وقد كانت بينهما

(1) نجاة الحامي بوملالة: مجلة "السعادة العظمى"، بحث جامعي متميز عن هذه المجلة وظروف صدورها وتوجهاتها الدينية والفكرية.

ص: 185

مودة استمرت طيلة حياتهما

هذه المودة التي تبرز في الرسائل التي كان يوجهها إمام الجامع الأزهر إلى إمام الجامع الأعظم جامعِ الزيتونة

وأغتنمُ هذه المناسبة؛ لأشير إلى أن هذه المودة والوفاء والتقدير قد لمستها شخصياً خلال إعداد كتابي عن الخضر حسين والجلسات العديدة التي خصصها لي المرحوم العلامة محمد الطاهر بن عاشور ببيت ابن عاشور العامر بالمَرْسى

وتمكيني من معلومات وتدقيقات علمية وتاريخية نادرة لم تكن متوفرة لغيره من العلماء والشيوخ والمؤرخين

فله منا رحمه الله كامل الثناء والتقدير، ولهذه العائلة -آل ابن عاشور- التي مكنت تونس والعالم الإسلامي -وما زالت- من خيرة العلماء والباحثين في عديد المجالات العلمية والثقافية والفكرية والقانونية

إلخ.

ج - العناية البارزة بمجال الإصلاح الديني والاجتماعي والتربوي: وقد تجلى ذلك بالدعوة إلى الإصلاح من خلال المحاضرات والمسامرات والمقالات

أما في الميدان التربوي، فقد كان منشغلاً بإصلاح التعليم الزيتوني منذ حياته الطالبية

وبعد تخرجه من الجامع الأعظم كان من بين شيوخ الزيتونة وعلمائها العاملين على تطوير التعليم مضموناً وأسلوباً ومنهجاً.

وفي هذا الإطار شارك في تكوين جمعية (تلاميذ جامع الزيتونة) سنة (1324 هـ / 1906 م)، إضافة إلى نخبة من العلماء، في مقدمتهم: العلامة محمد الطاهر بن عاشور

وخلال سنة (1325 هـ / 1907 م) انحلت هذه الجمعية وتكونت جمعية جديدة باسم (الجمعية الزيتونية)، تولى رئاستها الشيخ ابن عاشور، وعضويتها العلماء: الطاهر النيفر، محمد رضوان، محمد النخلي،

ص: 186

محمد الخضر حسين، أبو حسن النجار

وفي هذا الإطار الإصلاحي التربوي يتنزل كتاب (أليس الصبح بقريب) لشيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور.

- المرحلة السورية:

وهي المرحلة الثانية من حياة العلامة محمد الخضر حسين، والتي امتدت طيلة 8 سنوات، من سنة (1912 م إلى سنة 1920 م).

وقد كانت -حسب تعبير العلامة محمد الفاضل بن عاشور- مرحلة التنقل والترحال والاكتشاف

والنضال السياسي.

وتجدر الإشارة -في هذا الإطار- إلى أن أسباباً عديدة دفعت بالشيخ الخضر حسين إلى الهجرة إلى المشرق العربي، منها: انتقال عائلته إلى دمشق، والاستقرار بها سنة 1911 م، وهي حالياً من أشهر العائلات علماً وورعاً وقيمة ثقافية، وفي مقدمة هذه الأسرة التونسية السورية: الأستاذ الكبير والمحامي المتميز والأخ العزيز علي الرضا الحسيني التونسي، الذي سخّر جهوده العلمية والمعرفية، وكل إمكانياته المادية لتحقيق وجمع ونشر آثار عمه العلامة الخضر حسين، وكذلك آثار والده الشيخ زين العابدين بن الحسين، وأعمال آل عزّوز، والحسين، وهي الجهود التي من أجلها قلّده الرئيس زين العابدين ابن علي وساماً ثقافياً متميزاً، ومن أجلها استحق كامل التقدير من أبرز الجامعيين والمثقفين العرب والمسلمين المعنيين بتراث هذه الأمة، وبرجالها الأجلاء مثل: علامتنا محمد الخضر حسين.

قد كانت هذه المرحلة السورية مليئة بالنشاط العلمي والثقافي، والتنقل والترحال، وبالخصوص بالنضال السياسي.

ص: 187

ونظراً إلى ضيق المجال، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى أبرز ما تميزت به هذه المرحلة:

1 -

منذ حلوله بالعاصمة السورية دمشق، واسعقراره عند إخوته وعائلته، واصلَ نشاطه العلمي والثقافي بالتدريس بالمدرسة (السلطانية)، وهي من أبرز المعاهد العلمية، ومن أشهر من درّس بها الإمام محمد عبده.

كما واصل إلقاء المحاضرات في الجامع الأموي، وكتابة المقالات بالصحف السورية.

ومن الجدير بالذكر: أن قدومه إلى الشام وجد حظوة كبيرة لدى العلماء والمثقفين السوريين.

2 -

كان من أبرز الداعين إلى تمتين الروابط بين العرب والأتراك في إطار الأمة الإسلامية، وسخر جهده الإعلامي والثقافي في هذا الإطار، وهو ما عبر عنه في قصيدته الشهيرة:"بكاء على مجد ضائع".

3 -

كان حاكم سورية في تلك المرحلة التركي جمال باشا المعروف بتعسفه وجبروته، وقد أدخل العديد من العلماء والمفكرين السجن، منهم: الشيخ الخضر حسين.

وعند إطلاق سراحه -بعد ثبوت براءته- عاد إلى التدريس والمحاضرات العلمية والثقافية.

4 -

سافر إلى عاصمة الخلافة العثمانية الآستانة؛ حيث عمل منشئاً عربياً بوزارة الحربية.

5 -

كان استقرار خاله وأستاذه الشيخ محمد المكي بن عزوز بالآستانة، والمكانة التي كان يتمتع بها لدى الباب العالي، ولدى أبرز العلماء والساسة

ص: 188

بعاصمة الخلافة الإسلامية وقتئذ، كل ذلك ساعد الخضر حسين على حصوله على ثقة الباب العالي؛ مما جعل السلطة التركية تعهد له مهمة في ألمانيا التي كانت في الحرب العالمية الأولى حليفة لتركيا ضد فرنسا.

6 -

سافر الخضر حسين إلى ألمانيا، واستقر ببرلين صحبةَ عدد من العلماء المسلمين، منهم: الشيخان: صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي. وكان الهدف من هذه البعثة العلمية: تحقيق رغبة السلطة العثمانية في تكوين تنظيمات ثورية شعبية من المغاربة المقيمين بألمانيا ضد الاستعمار الفرنسي في بلدان شمال إفريقيا.

وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى صلة الشيخ الخضر حسين بالأخوين المناضلين: محمد، وعلي باش حامبة، واتفاقهم مع بقية المغاربة المقيمين وقتها بالآستانة وبرلين على ضرورة الدفاع عن الخلافة الإسلامية، ومجابهة الاستعمار الفرنسي.

وفي هذا الإطار يندرج تكوين (اللجنة التونسية الجزائرية) التي وجهت إلى مؤتمر الصلح المنعقد بباريس سنة 1917 م تقريراً مفصلاً تحت عنوان: (مطالب الشعب الجزائري التونسي)، ويإمضاء مجموعة من المناضلين المغاربيين، منهم: محمد باش حامبة، محمد الخضر حسين، صالح الشريف

7 -

عندما سقطت تركيا في أيدي الحلفاء، عاد الشيخ الخضر صحبة عدد من زعماء الحركة الإسلامية من ألمانيا إلى الآستانة، ومنها إلى دمشق. وقد أثر هذا الحدث في نفسه التأثير البالغ؛ لما كان يعلقه من آمال عريضة على الباب العالي في مساعدة القضايا الوطنية التحريرية بالعالم العربي، وخاصة بشمال إفريقيا، وكذلك لما كان يؤمن به من ضرورة تدعيم الخلافة

ص: 189

الإسلامية وتقويتها؛ لما في ذلك من دعم للدين الإسلامي، وتقوية له.

8 -

عند عودته إلى دمشق واصلَ نشاطه العلمي والثقافي والإعلامي، كما وقع تعيينه عضواً للمجمع العلمي العربي بدمشق، الذي عقد جلسته الأولى يوم 30 جويلية 1919 م. وبقي عضواً عاملاً بهذا المجمع مدة إقامته بالعاصمة السورية، ثم أصبح عضواً مراسلاً عند انتقاله إلى القاهرة، واستقراره بها سنة 1920 م.

9 -

عند احتلال الجيش الفرنسي لسورية إثر معركة ميسلون يوم 24 جويلية 1920 م، أصبحت إقامة الخضر حسين بدمشق معرضة للخطر، وهو المتابَع من السلطات الفرنسية من تونس، ثم لنشاطه السياسي بالآستانة وبرلين. ولذلك برغم حنينه إلى وطنه تونس، فقد قرر الانتقال إلى مصر، والاستقرار بها. فقد كانت القاهرة مقر الجامع الأزهر، وكعبة العلماء والباحثين، ولذلك قال في مقدمة كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم":"وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئاتها، هبطت مصر، فلقيت على ضفاف وادي النيل علماً زاخراً، وأدباً جماً".

- المرحلة المصرية:

هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من حياة العلامة محمد الخضر حسين امتدت طيلة 37 سنة، من سنة 1920 م إلى وفاته سنة 1958 م. وهي المرحلة التي أطلق عليها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور بمناسبة أربعينية الشيخ الخضر في مارس 1958 م:"مرحلة المجد الثقافي والشهرة العلمية".

ولذلك كانت من أغزر مراحل حياته إنتاجاً علمياً وثقافياً وإعلامياً،

ص: 190

وأبرزها مكانة وشهرة وفاعلية. وبرغم هذه الأهمية، فإننا نكتفي بالإشارة إلى ما يلي:

1 -

تنقسم هذه المرحلة بدورها إلى ثلاث فترات:

أ - ما قبل توليه مشيخة الأزهر (1920 م - 1952 م).

ب - مدة توليه مشيخة الأزهر (1952 م - 1954 م).

ج - بعد استقالته من الأزهر إلى وفاته (1954 م - 1958 م).

2 -

مما يستحق الذكر في أيامه الأولى بالقاهرة هو: اعتماده على نفسه، وهو الوحيد البعيد عن الأهل والأقارب والأصدقاء، وتحمله لشتى الأتعاب والمشاق

فقد كان ذا شخصية قوية، وأنفة وكبرياء، وشعور بعزة النفس

ولا غرابة، وهو سليل عائلة علم وورع، وتجرَّد لخدمة الإسلام وقيمه وأهدافه الإنسانية.

وقد اختار شعاراً لحياته:

ولَوْلا ارتياحي للنِّضالِ عنِ الهُدى

لفتَّشتُ عن وادٍ أعيشُ به وحدي

ومن المعلوم بداهة: أن الذين يختارون طريق النضال من أجل أهداف وطنية وإنسانية عالية، ويسخّرون حياتهم ووجودهم كله لتحقيق هذا المطمح النبيل، هؤلاء يكونون دائماً عن وعي عميق بما يستحقه ذلك من تضحيات، وما يطرحه من استعداد لتحمل التبعات، مهما كانت شاقة وقاسية.

3 -

منذ أيامه الأولى بالقاهرة قام بالاتصال بالطلبة المغاربة بالجامع الأزهر، ورُواقُ المغاربة بهذه المؤسسة العلمية ما زالت آثاره بارزة إلى اليوم، برغم زوال الرواق نفسه، وبقية الأروقة الأخرى. كما تمكن من الحصول على خطة مصحّح ومراجع النصوص بدار الكتب المصرية بتدخل من صديقه

ص: 191

الحميم الذي بقي يُكِنُّ له كامل التقدير والاعتراف بالجميل إلى آخر حياته، وهو العلامة أحمد تيمور.

وهذا الاعتراف هو الذي جعل الشيخ محمد الخضر حسين يوصي بدفنه في مقبرة آل تيمور بالقاهرة بجانب صديقه الوفي. وقد زرتُ شخصياً هذه المقبرة خلال زيارتي الأخيرة للقاهرة في جانفي الماضي 2008 م، حيث لاحظت قبر المرحوم علامتنا ضمن المبنى المخصص للعائلة، بل وفي مقدمة قبور أسرة تيمور، وبمبنى ضخم مكتوب عليه العديد من الآيات القرآنية، وفي أعلاه لوحة رخامية تُشيد بصاحب القبر، وبقيمته العلمية، وخاصة مشيخة الأزهر.

4 -

خلال السنوات الأولى من هذه المرحلة ساهم في تأسيس (جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية) التي تألفت من عدة شخصيات مغاربية؛ من تونس، والجزائر، والمغرب، وليبيا، وقد تحمل مسؤولية رئاستها. وكان هدفها: الرفع من مستوى هذه الجاليات مادياً واجتماعياً وثقافياً.

وتجدر الاشارة في هذا المجال إلى: أن اهتمام الشيخ الخضر حسين بالمغرب العربي وقضاياه قد استمر طيلة حياته، ومساعدته للزعماء المغاربة ولعلمائه تواصلت إلى آخر أيام حياته.

5 -

كانت له مساهمات هامة وفاعلة في المناظرات، بل الصراعات الفكرية والدينية والأدبية خلال هذه المرحلة المصرية، وأبرز هذه المساهمات:

أ - تأليفه كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، الصادر في أفريل 1925 م، إثر صدور قرار إلغاء الخلافة في مارس 1924 م.

ص: 192

وقد كان لنقض الخضر حسين الصدى الكبير في الأوساط الإسلامية، وخاصة في مصر. ونال حظوة متميزة لدى الملك فؤاد ملك مصر. وقد كان حكم مصر يسعى إلى اغتنام الفرصة لتحل القاهرة محل الآستانة عاصمة للأمة الإسلامية.

ب - تأليفه كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، الصادر سنة 1926 م.

وقد نال هذا الكتاب -أيضاً- شهرة كبيرة، وخاصة لدى علماء الأزهر، ورجال الدين عموماً.

وقد قال العلامة محمد الفاضل بن عاشور عن هذا الكتاب: إن الدكتور طه حسين يعتبر كتاب الشيخ محمد الخضر حسين من أهم الردود، وأشدها حجّة.

6 -

إن المتابع لنشاط الشيخ محمد الخضر حسين -طيلة حياته الزاخرة بالأعمال الجليلة- يلاحظ مدى اهتمامه بتكوين الجمعيات في مختلف مجالات الإصلاح الديني والاجتماعي والتربوي والسياسي.

وفي هذا الإطار نراه يقوم بتأسيس "جمعية الهداية الإسلامية" بتاريخ 6 جانفي 1928 م، وذلك صحبة نخبة من أبرز، العلماء، منهم: الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر، والشيخ عبد الحليم النجار.

لم تكتف هذه الجمعية بتنظيم المحاضرات والمسامرات، وتكوين الفروع داخل مصر وخارجها. بل قامت بإصدار مجلة "الهداية الإسلامية" الشهرية، وذلك منذ أكتوبر 1928 م.

ومن الملاحظ: أن هذه المجلة تنشر أخباراً عن تونس، كما تقوم بالتعريف

ص: 193

بأبرز الشخصيات العلمية؛ مثل: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وتنشر -أيضاً- بحوثًا ومقالات لعلماء تونسيين، أمثال: الشيخ ابن عاشور، والشيخ محمد النيفر، وكان من مراسليها الشيخ محمد المكي بن الحسين.

وقد نالت هذه المجلة حظوة خاصة لدى علماء الإسلام مغرباً ومشرقاً، نذكر منهم: الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة "المنار" الذي حثّ المسلمين على قراءتها

ومما قاله عن الشيخ الخضر حسين: "هو صديقنا الأستاذ التونسي الزيتوني الأزهري، العالم الفاضل، الكاتب الخطيب المتفنن"(مجلة "المنار" م 29، ج 9، ص 720).

هذا برغم أن العلاقة بين العالمين الخضر حسين، ورشيد رضا لم تبق على هذا الود؛ إذ انقلبت إلى خصومة فكرية وشخصية لاذعة، بدأها صاحب "المنار"، ولم يتجاوزها صاحب "السعادة العظمى" و "الهداية الإسلامية"، وهذه قضية تحتاج وحدها إلى مقال تحليلي ليس هذا مجاله.

7 -

إن تواصل نشاط الخضر حسين، وكثافة هذا النشاط العلمي والثقافي والإعلامي أكد حضوره البارز والمتميز في المجتمع المصري، وخاصة لدى علماء الأزهر.

ولذلك وقع انتدابه للتدريس في قسم التخصص بهذه المؤسسة العلمية سنة 1927 م بصورة مؤقتة، ثم بصورة رسمية سنة 1928 م عندما أصبح صديقه الشيخ المراغي شيخاً للأزهر.

وفي هذه المرحلة من حياته العلمية، أصدر الأزهر مجلة "نور الإسلام"(محرم 1349 هـ / جوان 1930 م)، التي تولى الشيخ الخضر رئاسة تحريرها.

8 -

تأسيس "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة بمرسوم ملكي أصدره الملك

ص: 194

فؤاد الأول في 14 شعبان سنة (1351 هـ / 13 ديسمبر 1932 م).

ثم صدر مرسوم ثان تَمَّ بموجبه تعيين الأعضاء العاملين بالمجمع، وهم من أبرز العلماء والمستشرقين، منهم:

"الشيخ محمد الخضر حسين، الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، والمستشرقون: هملتون جيب، ونالينو مارسينيون

وقد ترأس الشيخ محمد الخضر لجنة اللهجات، وشارك في أعمال عدة لجان علمية، وألقى عديد البحوث نشرت بمجلة المجمع؛ كما مَثَّل هذه المؤسسة اللغوية في مؤتمرات دولية عديدة.

9 -

أصبح الشيخ محمد الخضر عضواً بهيئة كبار العلماء سنة 1950 م إثر تقديمه بحث "القياس في اللغة العربية"، وهي أكبر هيئة علمية في مصر.

وخلال مناقشة اللجنة لصاحب البحث، قال الشيخ اللبّان رئيس اللجنة عبارتَه المشهورة التي ما زال شيوخ الأزهر يرددونها إلى اليوم، وقد سمعتها منهم شخصياً خلال زيارتي الأخيرة إلى الجامع، واستقبالي من طرفهم بتقدير لن أنساه. وقد شاركت بالمناسبة في نقاش علمي بكلية اللغة العربية يوم 16 جانفي 2008 م.

أما عبارة الشيخ اللبّان، والتي أشرتُ إليها في بداية هذا المقال، فهي:"هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟! ".

10 -

تولى خطة شيخ الجامع الأزهر -كما أشرت إلى ذلك في بداية المقال - في سبتمبر 1952 م. هذا وقد تحصل على الجنسية المصرية خلال سنة 1932 م حتى يتمكن من تحمل مسؤوليات في مؤسسات وهيئات علمية مصرية مثل هذه الخطة.

ص: 195

وقدم استقالته من مشيخة الأزهر في جانفي 1954 م لكبر سنه؛ إذ تجاوز الثمانين من العمر، ولتدهور حالته الصحية، ولخلافات عديدة بينه وبين مجلس قيادة الثورة، وهو العالم الجليل صاحب الشهرة الكبيرة، والشخصية القوية، والكبرياء والأنفة، والذي لا يخشى في قول الحق لومة لائم، ولو كان سلطاناً متسلطاً.

ومما يذكر عنه في أثناء توليه مشيخة الأزهر قوله: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أُسلِّمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذ لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص"، وكان كثيراً ما يردد:"يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء".

11 -

واصل بعد الأزهر نشاطه في (المجمع اللغوي)، وفي (هيئة كبار العلماء)، وكتابة المقالات والبحوث الدينية في بعض المجلات؛ مثل:"لواء الإسلام" التي صدر له فيها آخر مقال. وقد وافته المنية، ورجعت نفسُه إلى ربها راضية مرضية بعد ظهر يوم الأحد (13 رجب سنة 1377 هـ، فيفري 1958 م).

وقد نعاه العلامة محمد علي النجار بكلمة تأبينية، مما جاء فيها:

"

إن الشيخ اجتمعت فيه من الفضائل ما لم تجتمع في غيره إلا في الندرى؛ فقد كان عالماً ضليعاً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظًا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما، وما يصدر من الأفكار منابذاً لهما، قوي الحجّة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم

" (محاضر جلسات مجمع اللغة العربية، ج 21، القاهرة).

ص: 196

لقد فارق عالمنا هذا إلى العالم الآخر، وقد ترك من جليل الأعمال والآثار الشيء الكثير الكثير؛ مما أغنى المكتبة العربية والإسلامية، وبالتالي حضارة هذه الأمة بكنوز لا تفنى، وموارد لا تنضب.

حرصنا في هذه المناسبة - الذكرى الخمسون لوفاة العلامة محمد الخضر حسين - على التعريف بإيجاز شديد بهذه الشخصية التي نشأت على أرض تونس - بنفطة - وواصلت حياتها بثبات ومثابرة جعلتها تبلغ أعلى الدرجات العلمية في مجالات عديدة، في مغارب العالم العربي والإسلامي ومشارقه.

على أن هنالك جوانبَ عديدة تستحق الإشارة والتحليل إزاء هذه الشخصية، وخاصة منها الجوانب التي حولها خلاف بين الباحثين، منها: جنسيته، علاقته بالزعيم الحبيب بورقيبة، وموقفه من الإصلاح الاجتماعي والديني والسياسي، نضاله السياسي

إلخ.

لكن المجال لا يسمح بذلك، وفي الوقت نفسه نرى لزاماً علينا للأمانة والتاريخ ضرورة الإشارة إلى بعضها على الأقل، وبإيجاز شديد، وتوضيح القليل مما يشوبها من غموض.

* الخضر حسين والزعيم بورقيبة:

مرت العلاقة بين الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة والعلامة الزيتوني الأزهري محمد الخضر حسين بحالات مد وجزر، تعود أسبابها إلى عوامل عديدة لا يسمح المجال بتعدادها وتحليلها، لذلك سنكتفي بالإشارة إلى ما يلي:

تناول بورقيبة شخصية الخضر حسين بالحديث في مناسبات عديدة

ص: 197

ومختلفة، أحياناً بالاحترام والتقدير، وأحياناً أخرى بالتنقيص والاحتقار -مع الأسف-.

والمهم في هذا الإطار: أن أول مناسبة جمعت بين الرجلين كانت زيارة بورقيبة إلى المشرق، وتوقفه بمنطقة السلُّوم على الحدود الليبية المصرية، وعدم تمكنه من دخول الأراضي المصرية؛ لجهل حرس الحدود المصريين بالزعيم الوطني التونسي في تلك الفترة، وإشارته لهم بمعرفته بالشيخ التونسي الخضر حسين، ونظراً إلى العلاقة المتينة التي كانت تربط وقتئذ وزير الداخلية المصري وبين الخضر حسين، وضمان علامتنا في زعيمنا الوطني، ومساندته له، تمكن بورقيبة من دخول مصر، والاتجاه إلى بيت الخضر حسين.

وخلال زيارتي إلى القاهرة (جانفي 2008 م) أكَّدت لي شخصياً زوجةُ الخضر حسين الأخيرة: أنهما استقبلوا الزعيم بورقيبة في بيتهم ليلاً، وبقي معهم عدة أيام إلى أن أوجدوا له مقراً للإقامة، كما أكدت لي: أن الشيخ الخضر كان شديد الاحترام والتقدير للزعيم الوطني والمناضل الكبير الحبيب بورقيبة.

لكن هذا التقدير المتبادل لم يستمر على هذه الحال، ونترك التفاصيل التاريخية والدينية إلى الفصل الذي سنخصصه لهذه القضية في الطبعة الجديدة القادمة لكتابنا عن الخضر حسين.

ومن بين هذه التفاصيل: ما دار في اللقاء الذي دعانا إليه الزعيم بورقيبة إثر صدور كتابنا المذكور سنة 1974 م، والذي حضره نخبة من الجامعيين التونسيين، نذكر منهم: أساتذتنا وأصدقاءنا الأفاضل: المنجي الشملي، وعبد القادر المهيري، وجعفر ماجد

إلخ، إضافة إلى السيدين المحترمين:

ص: 198

الشاذلي القليبي، ومحمد الصياح.

على أن ما يمكن الإشارة إليه بايجاز شديد جداً في هذه المناسبة هو: أن ما سمعناه مباشرة من الزعيم بورقيبة عن الإسلام وشيوخه، والخضر حسين أحدهم، وهو موضوع اللقاء، يساهم إلى حد كبير في توضيح الكثير من الجوانب؛ مما يجعل ما نقرؤه حالياً من تحاليل وكتابات عن بورقيبة والإسلام يحتاج إلى كثير من التصحيح والتدقيق

وهذه قضية أخرى قد نعود إليها في مناسبة لاحقة.

وعودة إلى العلاقة بين بورقيبة والخضر حسين: فبرغم تأرجح موقف الزعيم من العلامة الزيتوني الأزهري بين التقدير والاحترام والإشادة حيناً، ومحاولة الاستنقاص حيناً آخر، فإن بورقيبة لم يتردد بمجرد علمه بوفاة الخضر حسين من تكليف سفير تونس بالقاهرة السيد الطيب السحباني وقتئذ من السعي إلى نقل رفات المرحوم لدفنها بتونس، لكن وصية الخضر حسين بدفنه بجانب صديقه الحميم أحمد تيمور بمقبرة التيمورية بالقاهرة حالت دون ذلك.

* المحافظ "المصلح":

من الجوانب الخلافية بين الباحثين: موقع العلامة الخضر حسين من الإصلاحيين والمحافظين في المجتمع الإسلامي، فهل هو محافظ متزمت منغلق ومتعصب، وبالتالي هو معارض عنيد لكل إصلاح ديني واجتماعي وسياسي في المجتمع الإسلامي، أم هو مصلح يمكن اعتباره من بين المصلحين العاملين على تطوير الأمة الإسلامية في مختلف المجالات الدينية والاجتماعية والفكرية والسياسية؛ مثل: الأفغاني، وعبده، وخير الدين التونسي، والطاهر الحداد؟

ص: 199

ودون الدخول في تفاصيل لا يسمح المجال بذكرها، وهي عديدة جداً ومعقدة، فإننا نكتفي بالتأكيد، وهذا هو موقفنا الثابت نتيجة درس وتمحيص لهذه الشخصية العلمية الفذة، التأكيد على: أن العلامة الخضر حسين ليس من الصنف المحافظ المنغلق المعارض لكل إصلاح وتطوير، وليس -أيضاً- من الصنف الإصلاحي على غرار زعماء الإصلاح المعروفين، إنه في منزلة بين المنزلتين؛ كما يقال عند المعتزلة.

ولهذا السبب عارضه أنصار التيارين معاً عند صدور مجلة "السعادة العظمى"، ولم يجد سنداً إلا صديقه الوفي العلامة محمد الطاهر بن عاشور؛ إذ هو مثله المصلح المعتدل؛ فقد ساعده على مواصلة إصدار المجلة، والتي اضطرت إلى التوقف - حسب رأينا - لأسباب مادية؛ كما يبدو في أعدادها الأخيرة، وبالخصوص العدد المزدوج 19 و 20، وعدد 21 الأخير الصادر في جانفي 1905 م.

وللمزيد من التدقيق، وضمن ترتيب "المنزلة بين المنزلتين"، هل هو "محافظ مصلح"، أم "مصلح محافظ"، ما دام أنه ليس "محافظاً صرفاً"، ولا "مصلحاً صرفاً"؟

إننا نعتقد أنه محافظ مصلح، -وخاصة في المجالين الديني والاجتماعي- كثرَ منه مصلحاً محافظاً

وهذا لا يقلل أبداً من شأنه، بل إنه ما كان يتميز به من وضوح في المواقف، ومن جرأة في التعبير عنها، والتدليل عليها: إن كل ذلك يؤكد ما يستحقه من مكانة وقيمة علمية ودينية وفكرية على مستوى الأمة الإسلامية جمعاء.

ويجدر التذكير -في هذا الإطار- بمجهوده المتميز في مجال الإصلاح،

ص: 200

والدعوة إليه - حسب مفهومه وتصوره له - بالتآليف والكتابة والمسامرات والمحاضرات في مختلف المحافل الدينية والاجتماعية والتربوية، وخلال جميع رحلاته المتعددة في البلاد الإسلامية مغرباً ومشرقاً.

* هل هو: تونسي

أم جزائري

أم مصري؟

خلال الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 2007 م قامت (الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية) بمدينة "بسكرة" بالجزائر الشقيقة بتنظيم ندوة علمية موضوعها: "العلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري"، وذلك بالرعاية السامية لمعالي وزير الثقافة، والسيد والي بسكرة.

وأغتنم هذه المناسبة للإشادة بجهود الجمعية الثقافية النشيطة بإشراف رئيسها الباحث والإعلامي المتميز الأستاذ فوزي مصمودي، وهي جهود قلما نجد مثيلاً لها على الساحة الثقافية العربية.

وقد شرفتني هذه الجمعية بالدعوة إلى المشاركة في هذه الندوة العلمية صحبة الأخوين العزيزين: الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن أخي الخضر حسين، وناشرُ آثاره، والأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي مؤرخ الأزهر، وأستاذ كرسي الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وعضو العديد من الهيئات العلمية العربية والإسلامية.

وقد شارك في هذه الندوة نخبة من خيرة الباحثين والجامعيين الجزائريين، وقد كانت -فعلاً- من أهم اللقاءات العلمية العربية التي شاركتُ فيها خلال هذه السنوات.

وإضافة إلى عنوان الندوة: "العلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري"؛ أي: من بلدة "طولقة" من منطقة الزاب

لاحظت أن هذه الندوة

ص: 201

قد سبقتها ندوات سابقة خلال سنوات مضت، وتأكدتُ من مدى تمسك الإخوة في الجزائر الشقيقة بجزائرية العلامة محمد الخضر حسين. ونظراً إلى دراستي الشاملة والمتواصلة لهذه الشخصية المتميزة، ونظراً إلى إيماني العميق والدائم بأن العلم لا يعرف المجاملات، فقد أكدت في البحث المطول الذي قدمته في هذه الندوة على الجوانب التاية:

1 -

إن أصول محمد الخضر حسين وجذوره العائلية هي فعلاً جزائرية. فجده للأم الشيخُ الجليل مصطفى بن عزوز صاحب الزاوية الشهيرة بمدينة "نفطة"، وهو -فعلاً- من منطقة الزاب؛ حيث توجد زاوية والده الشيخ الورع (نور الصحراء) محمد بن عزّوز.

وكذلك جده للأب الشيخ علي بن عمر هو -أيضاً- من "طولقة"، وزاويته قائمة حالياً بإشراف الشيخ عبد القادر عثماني العالم الجليل، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر الشقيقة. وقد وجدنا منه ومن عائلة الخضر حسين الأصيلة بطولقة وبرج ابن عزوز خلال زيارتنا لهذه الزاوية (ديسمبر 2007 م) كامل التبجيل والاحترام، فلهم منا جليل الشكر.

2 -

لكن محمد الخضر حسين شخصياً ولد بمدينة "نفطة" التونسية، ونشأ بها، وتربى وتلقى تعليمه القرآني والابتدائي العام بها إلى أن بلغ سن 13 من العمر، ثم انتقل إلى العاصمة، ودرس بجامع الزيتونة المعمور إلى آخر المرحلة التونسية من حياته؛ كما أشرنا إليها بشيء من الإيجاز والتدقيق في هذا المقال.

3 -

إن الشيخ الخضر بقي متعلقاً بوطنه تونس طيلة مراحل حياته، سواء عند انتقاله إلى سورية، أو الآستانة، أو برلين، وأخيراً استقراره بالقاهرة.

ص: 202

ويبرز هذا التعلق المتين والدائم في كتاباته وأشعاره في ديوانه "خواطر الحياه"، وفي متابعاته الدقيقة لما يجري في وطنه من أحداث. كما يبرز -أيضاً- في مراسلاته المتعددة والمتوالية مع صديقه العلامة الطاهر بن عاشور. وقد أكدت لنا هذا الموقف زوجتُه الفاضلة عند زيارتنا لها ولابنها (من زوجها الثاني) المستشار القانوني رئيس محكمة جنوب القاهرة حالياً الأخ الفاضل أحمد البطران.

هذا برغم حصول الشيخ الخضر على الجنسية المصرية سنة 1932 م، وتحمله لعديد المسؤوليات العلمية، وفي مقدمتها: مشيخة الأزهر، هذه الخطة الرفيعة والمتميزة التي لا يتحملها إلا علماء مصر، وكبارُ شيوخها، وهو ما أثاره بقدر كبير من الاستفزاز والتوتر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب "المنار" عند بروز خلافه الشديد مع الخضر حسين.

على أن ما يستحق الإشادة بهذه المناسبة هو: تقدير علماء مصر وكبار رجالها في مختلف المجالات للعلامة التونسي (هذا البحر الذي لا ساحل له)، وهو ما لاحظتهُ خلال زيارتي الأخيرة للقاهرة، وللأزهر الشريف.

4 -

قام الشيخ الخضر بزيارتين إلى الجزائر خلال سنتي (1903 - 1904 م)، ولئن لم نعثر على نص رحلته الأولى، فإن رحلته الجزائرية الثانية التي نشرها في الأعداد الأخيرة من "السعادة العظمى" لم يشر فيها أبداً إلى جذوره الجزائرية، ولا إلى زيارة موطن أجداده وأهله، وهو ما أثار استغرابنا خلال دراسة هذا الجانب من حياة علامتنا الجليل.

5 -

وبهذه المناسبة يجدر التذكير بمدى اعتزاز أهل "نفطة" بالشيخ الخضر، وبوالده (سيد الحسين) صاحب المسجد المعروف بحي الشرفة،

ص: 203

جوار حي المواعدة، وتجلى هذا الاعتزاز بتكوين جمعية سنة 1947 م هي (جمعية شباب الخضر حسين النفطي)(هكذا)، والتي كانت تُعنى بالتلاميذ والطلبة المعوزين، ويمساعدتهم على مواصلة دراستهم في أحسن الظروف.

كما تجلى هذا الاعتزاز بحدث لن أنساه أبداً، وهو: أننا بعد أسابيع قليلة من وفاته رحمه الله في 2 فيفري 1958 م، قمنا نحن تلاميذ تلك الفترة بتنظيم ندوة ألقيتُ فيها بحثاً عن حياة هذا العلامة، وهي أول محاضرة ألقيتها في حياتي، ولم أتجاوز 20 سنة

وحضرتها نخبة مدينة "نفطة"، وفي مقدمتهم: المعلمون الذين درسنا عنهم في المرحلة الابتدائية، وما زلنا نذكرهم بكل الاحترام والتقدير.

ولا شك أن هذا الاعتزاز هو الذي دفعني إلى إعداد بحث جامعي - بإشراف الأستاذ الفاضل المنجي الشملي - عن هذا العلامة، والذي صدر في كتاب سنة 1974 م.

وفي ختام هذا المقال التعريفي - بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاة محمد الخضر حسين - يجدر التأكيد على: أن هذا العلامة مثلُ علامتنا التونسي النشأة والتكوين الأساسي ابنِ خلدون، وأمثالهما كثيرون، وخاصة بين الشعبين الشقيقين تونس والجزائر، وما يجمعهما من تواصل تاريخي ونضالي وثقافي، اهتم به المثقف الموسوعة الدكتور محمد صالح الجابري، الذي نعتبره - دون منازع - المرجعَ الثقة في هذا المجال، ومؤلفاته وأبحاثه الغزيرة والممتعة لأكبر دليل على ذلك، منها - على سبيل المثال لا الحصر -:(النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس 1900 م - 1962 م)، الصادر بكل من تونس والجزائر سنة 1983 م.

ص: 204

وبالخصوص كتابه "التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس" الصادر عن دار الحكمة بالجزائر سنة 2007 م، والذي جاء في بداية مقدمته:"الصلات الفكرية والثقافية بين تونس والجزائر تعتبر نموذجاً فريداً وطريفاً لما يمكن أن ينشأ من صلات حميمة بين قطرين شقيقين، كما تعتبر مثالاً نادراً لعلاقات الجوار الإيجابي الخصيب بين الأقطار العربية التي تجمع بينها حدود مشتركة". إن هذا التواصل الحضاري والثقافي يدعم أسسه رجالٌ مثل: الخضر حسين الجزائري الأصول، التونسي النشأة والتكوين والبروز، المشرقي الإسلامي الشهرة والمجد؛ حسب عبارة العلامة محمد الفاضل بن عاشور. هؤلاء هم جسور هذا التواصل مما يجعلهم يتجاوزون الحدود العائلية والجغرافية إلى الفضاءات الحضارية والثقافية الرحبة واللانهائية.

ولذلك، فلا غرابة أن يتواصل الاهتمام بالخضر حسين، وبعلمه وآثاره، ودوره الديني والفكري في الجزائر، وتونس، ودمشق، والقاهرة، وأن تنعقد الندوات العلمية هنا وهناك؛ فالرجل هو (رجال في رجل)، وهو (بحر لا ساحل له

)، يتسع للجميع، ويستوعب الجميع، ويحتضنهم، وما يختزنه من كنوز وجواهر يمكِّن الجميع من إثراء معارفهم وترسيخ هويتهم الحضارية.

ص: 205