الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاضرات الملتقى
جهود الأزهر في مواجهة التغريب الإمام محمد الخضر حسين الجزائري نموذجا ً
الدكتور نجيب بن خيرة (1)
* محمد الخضر حسين
…
في سطور:
- أصله من "طولقة" بالصحراء الجزائرية، ولا تزال أسرته بطولقة، وهي أسرة "عثماني" القائمين على الزاوية العثمانية العامرة، وبلدة "برج ابن عزّوز"؛ حيث أحفاد أخواله هناك، ومنهم: العلامة محمد المكي بن عزّوز رحمه الله.
- ولد في مدينة "نفطة" بتونس (1293 هـ = 1876 م).
- تلقى تعليمه في مسقط رأسه، ثم انتقل إلى تونس العاصمة مع أسرته، والتحق بجامع الزيتونة.
- بعد تخرُّجه في جامع الزيتونة عمل بالخطابة والتدريس والقضاء.
- أسَّس في تونس مجلة لخدمة الفكر الإسلامي بعنوان: "السعادة العظمى".
- في سنة (1329 هـ / 1911 م) وجّهت إليه التهمة ببثّ روح العداء
(1) الدكتور نجيب بن خيرة الأستاذ المحاضر بقسم التاريخ/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية/ قسنطينة - الجزائر.
للغرب، ولاسيما سلطة الحماية الفرنسية، فسافر إلى الآستانة متذرعاً بزيارة خاله السيد محمد المكي بن عزّوز، ولما ظنَّ أن الزوبعة هدأت، عاد إلى تونس بطريق "نابولي" ولما استقر به المقام، رأى أنه لا يطيق البقاء في ذلك الجو الخانق، فازمع الهجرة منه نهائياً، ووقع اختياره على دمشق ليتخذها وطناً ثانياً له.
- تعرض في بلاد الشام -أيضاً- للاضطهاد والسجن بسبب اتهام جمال باشا له بالتآمر على السلطة.
- نزل محمد الخضر حسين القاهرة سنة (1339 هـ = 1920 م)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، وقد ساقت له الأقدار الأستاذ الأديب أحمد تيمور باشا الذي قدّر موهبته، وعرف قدره، فساعده على الاستقرار في القاهرة باختياره مصححاً بدار الكتب المصرية، فسمحت له هذه الوظيفة أن يتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر، وتوثقت علاقته بهم، وتقدم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلامة عبد المجيد اللبان مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمّقت في الأسئلة، وجدت من الشيخ عمقاً في الإجابة، وغزارة في العلم، وقوة في الحجّة، فمنحته اللجنةُ شهادةَ العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالشيخ العالم أن قال:"هذا بحرٌ لاساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟! ".
* إلغاء الخلافة الإسلامية
…
أول الوهن السياسي:
في شهر مارس 1924 م، وقع إلغاء الخلافة الإسلامية نهائياً من طرف الجمعية الوطنية التركية الكبرى، مدعية أن الشعب التركي قد فوض الجمعية
التي تمثله تمثيلاً حقيقياً جميعَ حقوق سيادته وحاكميته .. وقد أثار هذا القرار ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، فكُتبت المقالات المعارضة، وعُقدت المؤتمرات للتشهير بهذا الإلغاء الذي يتعارض مع مذهب أهل السنَّة، الذي يشير إلى أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسةِ دنيا الناس به.
وقد كان الملك فؤاد ملكُ مصر من أكبر المعارضين والحاثّين لرجال الدين وشيوخ جامع الأزهر على التنديد بهذا القرار وبأصحابه؛ ذلك لأنه كان يسعى لتولي خلافة المسلمين، وزعامة العالم الإسلامي.
وقام أنصار الملك فؤاد وأتباعُه بترويج الفكرة، والدفاع عنها باستعمال وسائل عديدة.
وفي خضم هذا الاختلاف الشديد القائم بين المدافعين عن هذه الخطة الإسلامية، وبين المناوئين لها، أصدر الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الأزهر كتابه:"الإسلام وأصول الحكم" في غرة أفريل 1925 م، وأكد فيه أن الخلافة ليست ضرورية لقيام حكومات إسلامية حديثة، وأنها ليست من الدين في شيء
…
وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبرى في أوساط علماء الأزهر، وعدّوه خروجاً على إجماع الأمة، وما ألفته وتلقته بالقبول عبر تاريخها السياسي الطويل.
واغتنم الشيخ محمد الخضر حسين هذه المناسبة للمساهمة في خوض هذه المعركة الدينية والسياسية، فألّف كتاباً ردَّ فيه على الشيخ عبد الرازق سماه:"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ورتّبه نفس الترتيب المتبع
في الأصل المردود عليه (1).
واعتبر الشيخ محمد الخضر حسين أن كتاب علي عبد الرازق مظهر من مظاهر التغريب التي هبّت على المجتمعات الإسلامية تريد النيل من خلافتها، وتأجيج خلافاتها، وتشتيت صفوفها، بعدما كانت تحت مظلة خلافة إسلامية جامعة ..
ولكن الشيخ استطاع أن يحقق مأرباً آخر بتأليفه لهذا الكتاب، وهو: تلبية رغبة القصر الملكي، واستجابة لطلب أنصاره ومؤيديه مما ناله به من حظوة ومكانة عند الملك، ويؤكد ذلك: إهداء الكتاب إلى خزانة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملكِ مصر المعظم، يقول في خاتمته:"تلك المزية (رعاية الدين) التي أصبح بها صاحب الجلالة واسطة عِقْد ملوك الأمم الشرقية قد أخذت في نفسي ماخذ الإكبار والإجلال، ودعتني إلى أن أقدم إلى خزانته الملكية مؤلَّفاً قمت فيه ببعض حقوق إسلامية علمية، وهو: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ورجائي أن يتفضل عليه بالقبول، والله يحرس ملكه المجيد، ويثبت دولته على دعائم العز والتأييد"، ويختم هذا الإهداء بالعبارة التالية:"المخلص في الطاعة: محمد الخضر حسين".
وقد تمكن الشيخ من الحصول على الجنسية المصرية، مما سمح له أن يندمج كلياً في المجتمع المصري، ويحقق ما كان يصبو إليه.
* الخضر حسين
…
ينقض طه حسين!
لا شك أن حياة الشيخ الخضر في بلاد "الجريد" جعلته يعيش كالنخلة،
(1) انظر: محمد مواعدة، الشيخ محمد الخضر حسين، حياته وآثاره. دمشق: الدار الحسينية، (ص 76 - 82).
أصلُها ثابت، وفرعها ثابت، لا تهزها أعاصيرُ التغريب التي هبت على المؤسسات العلمية التي رعى المستعمر غراسها، واستطاع أن يُلَمِّعَ بعضَ رجالاتها، ومن بينهم: الأديب طه حسين، الذي ألف سنة 1926 م كتاباً سمّاه:"في الشعر الجاهلي"، اعتبر فيه أن الشعر مُنتَحَل، لا يمثل الحياة الدينية أو العقلية أو الاجتماعية فيه، ولا يمكن أن نعتمد على هذا الشعر في تصور اللغة وخصائصها وأساليبها عند الجاهليين، محتجاً بما يرويه الرواة من الخلاف بين لغة الشمال، وبين لغة الجنوب.
ويتناول ذكرَ إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - بكلام أقلُّ ما يوصف به من أنه كُفر بكُتبه ورسله يؤذي إيمانَ المؤمنين، ويفسد عقائد صغار الطلاب الذين ألقي عليهم، فيقول مثلاً:
"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما -أيضاً-، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل ابن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين العرب واليهود من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى"(1).
وواضح من كلام طه حسين مدى التأثير الاستشراقي المتحامل في فكر الرجل، وإعداده بوقاً يردِّد كلاماً طالما ردَّدته كتابات الغربيين من أمثال (مرجليوث)، وغيره.
(1) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ط 8، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1986 م، 298 - 299.
هاج هذا الكتاب الرأي العام، فثار الناس، وتوالت المقالات في نقد الكتاب ومهاجمة مؤلِّفه، وفضح نُقوله عن الكتابات الغربية المغرضة، وقد شارك الشيخ محمد الخضر حسين بتأليف كتاب لا في النقد، بل في نقض كتاب "الشعر الجاهلي"، ولا شك أن كلمة (نقض) أكثر حدة وشمولاً من كلمة (نقد)، "وكان أسلوب الكتاب أدنى إلى أسلوب الأزهر المتبع في الحواشي، والذي يتحرى الدقة في تتبع النص كلمة كلمة. فهو يتناول في نقده طه حسين صفحة صفحة، بل سطراً سطراً. فيقدم بين يدَيْ نقدِه نصَّ الفِقرة أو الجملة التي سيتناولها بالمناقشة، مشيراً إلى رَقْم الصحيفة التي جاءت فيها، ثم يُعقب بمناقشتها، مفيضاً في ذلك ما بدا له، في صبر وحرص واستقصاء. وقد كان كتابه أطولَ ما أُلف في الرد على طه حسين، إذ يقرب من أربع مئة صفحة. وقد ظهر في سنة (1345 هـ / 1926 - 1927 م)(1).
وقد نال هذا الكتاب شهرة واسعة في الأوساط الثقافية والعلمية، وخاصة لدى علماء الأزهر، وبيق غزارة علم الشيخ، وسعة اطلاعه في ميادين اللغة والأدب والدين.
* في ميادين الاصلاح:
لم يرض الشيخ الخضر حسين أن يقضي حياته موظفاً بدار الكتب، يتقاضى المرتب، ويتطلع للترقية في المنصب، ويعيش كيفما اتفق .. بل كانت نفسه تؤاقة تعشق المعالي، ولا ترضى بالخمول والسعي وراء مطالب العيش الرتيب
…
نزل إلى الميدان يبارز التغريب في ميادين العمل الصحفي
(1) المرجع نفسه (ص 302).
والجمعوي .. يلقي الدروس والمحاضرات في الأندية والمجامع، ويحرر المقالات في الصحف والمجلات، وينشئ الجمعيات، ويشترك مع الغيورين على الإسلام في إصلاح أوضاع الأمة التي أنهكها الدخيل، واستولى عليها بقوته وفكره، فأحالها شبحاً لا تصلح للحياة، ولا تصلح الحياة بها! فنفخ الشيخ -عبر مقالاته- في طوايا الأمة العزّةَ والإباء، راجياً منها البرء والشفاء؛ بما أوتي من سعة العلم، وقوة العارضة، وحسن البلاغ.
وهو في طريقه إلى تحقيق هدفه يبحث عن العلل التي لبست الأمم الإسلامية، وقعدت بها في خمول، حتى ضربت عليها الدول الغربية بهذه السلطة الغاشمة، فيقول:"وأنت إذا تدبرت هذه الأسباب، وجدت السبب الحق منها يرجع إلى تهاون هذه الأمم بتعاليم الشريعة، ونكث أيديهم من المشروعات التي عهدت إليهم للقيام عليها، والعلة في ضعف هممهم، وقلة إقبالهم على ما أرشد إليه القرآن -من وجوه الإصلح ووسائل المنعة والعزة- إنما هي تقصيرهم في التواصي بالحق، وعدم استقامة زعمائهم على طريقة الدعوة والإرشاد"(1).
"والشيخ حسين -بحكم هدوء طبعه، وتوازن مزاجه، وقوة ثقافته- عُدّ من "حزب المصلحين المعتدلين" كما وصفه صاحب "المنار" الشيخ رشيد رضا، والعلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور"(2).
(1) محمد الخضر حسين، "الدعوة في الإصلاح"، القاهرة: المطبعة السلفية، 1346 هـ (ص 50).
(2)
محمد مواعدة، الشيخ محمد الخضر حسين .. مرجع سابق، (ص 209).
والظاهر: أن رحلته إلى ألمانيا، وإقامته هناك، وتعلمه اللغة الألمانية، واطِّلاعه من خلالها على الثقافة الغربية، فتحت فكره، وأنضجت أفكاره، ووسَّعت أفقه، وأعطت لمنهج إصلاحه بُعداً حضارياً وعالمياً لم يعهده الكثير من شيوخ الأزهر في عصره.
كما اتجه الشيخ إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، وهو المنهج الذي اختاره أنصار (الجامعة الإسلامية) في التعريف بقضايا الأمة، والدفاع عنها، وجمع كلمتها تحت راية إسلامية واحدة (1).
فاشترك مع جماعة من الغيورين على الإسلام سنة (1346 هـ = 1928 م) في إنشاء (جمعية الشبان المسلمين)، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محبِّ الدين الخطيب، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام، والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي. ولا تزال هذه الجمعية بفروعها المختلفة تؤدي بعضاً من رسالتها القديمة. وقد كان ميثاق الجمعية يبدأ بهذه الكلمات: "عليّ عهدُ الله وميثاقه، لأقومَنَّ بقدر طاقتي: أولاً - بإحياء هداية الإسلام في عقائده وآدابه، وأوامره ونواهيه ولغته، ومقاومة تيار الإلحاد والإباحية، المهددين لهذه الهداية
…
"، وأصدرت الجمعية العدد الأول من مجلتها في جمادى الأول سنة (1348 هـ / أكتوبر 1929 م).
وكتب يحيى الدرديري المقالة الافتتاحية، مشيراً فيها إلى ما ينشره دعاة الإلحاد من سموم باسم التجديد، داعياً إلى الرجوع للقرآن، واتخاذِه
(1) انظر: عميراوي الحميدة، الأمير خالد وخطاب الحركة الوطنية الجزائرية، ط 1، الجزائر: دار الهدى، 2007 م، (ص 89 - 92).
أساساً ومرشداً ومرجعاً لنهضتها الخلقية التي بدونها لا تصلح أي نهضة أخرى، اجتماعية كانت أو اقتصادية أو غيرها، وجعله المرجع الأول والأخير في تمييز ما يصلح اقتباسه مما ينبغي تركه من المدنية الغربية الحديثة
…
(1).
وقد وصف محب الدين الخطيب الحال في ذلك الوقت، فقال في حديثه عن أول اجتماع عقدته الجمعية في دار "سينما الكوزمو" بدعوة من الشاعر أحمد شوقي، وقد حضره نخبة من الشيوخ والشباب:
"كنت أنا وأحمد تيمور باشا رحمه الله، والسيد محمد الخضر حسين - حريصين على أن تكون هذه المؤسسة الأولى للإسلام في مصر قائمة على تقوى من الله وإخلاص، وكنا حريصين على أن يتولى إدارتها رجال يعرفون كيف يصمدون لتيار الإلحاد الجارف بعد أن استولى على أدوات الثقافة والنشر في العالم الإسلامي، وفي مصر على الخصوص، فكنا نبحث عن هؤلاء الرجال بين من نعرف ومن لا نعرف، ونستقصي الحقائق عن دخائلهم من غير أن يعلموا
…
" (2).
وأنشأ -أيضاً- (جمعية الهداية الإسلامية) التي برز هيكلها إلى الوجود يوم 31 رجب سنة (1346 هـ / جانفي 1928 م)، وكان نشاطها علمياً أكثر منه اجتماعياً، ضمَّت عدداً من شيوخ الأزهرة كالشيخ مصطفى المراغي، والأستاذ عبد الحليم النجار، وطائفة من شباب الأزهر المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبتُه الخاضةُ نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل
(1) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية
…
مرجع سابق، (ص 323 م).
(2)
المرجع نفسه، (ص 324).
الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ.
وكانت تهدف هذه الجمعية إلى:
1 -
السعي لتمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية، وتوثيق الروابط بينها، والقضاء على الخلافات بين الفرق الإسلامية المختلفة.
2 -
التعريف بحقائق الإسلام، ونشرها بأسلوب يلائم روح العصر.
3 -
مقاومة الإلحاد والدعايات المناوئة للدين الإسلامي بطرق علمية.
4 -
السعي لإصلاح شأن اللغة العربية، وإحياء آدابها (1).
وقد استعمل أعضاء الجمعية وسيلتين أساسيتين لتحقيق ذلك، وهما:
1 -
إلقاء المحاضرات والمسامرات في المساجد عقب صلاة الجمعة، وفي بعض النوادي، وخاصة التابعة لفروع جمعية (الهداية الإسلامية).
2 -
إصدار مجلة تحمل اسم الجمعية، يشارك في تحريرها نخبة من العلماء والفقهاء في الدين والأدب واللغة (2).
والجدير بالذكر: أن مجلة "الهداية الإسلامية" لم تكن تهتم بنشر المقالات السياسية، بل كان التركيز فيها على الفكر والأخلاق والقيم، وهذه هي مداخل التغريب إلى قلب الأمة، يريد الشيخ بناء أسوار عالية حولها تحميها من كل غاشم كفور.
ومما يدل على سعة أفق الشيخ في الإصلاح، فإن دور (جمعية الهداية) لم يقتصر على النشاط في مصر فقط، بل أنشئت لها فروع في
(1) مجلة "الهداية الإسلامية"، مج 1، مج 3.
(2)
محمد مواعدة، الشيخ محمد الخضر حسين. مرجع سابق (ص 89).
بلدان عربية؛ مثل: سورية والعراق.
"وقد قضت مجلة "الهداية الإسلامية" عشر سنين متتالية، وهي تدعو إلى الخير والصلاح، وتُواصل البحث عن الحقائق الدينية والعلمية والأدبية، سالكة في جهادها سبيل الحكمة، لا تجمد عن حق، ولا يطيش لها قلم في باطل .. فكبر حجمها، كما أصبحت تحتوي على سبعة عشر باباً، يتناول فيها العلماء والفقهاء في اللغة والدين جميع القضايا التي تتصل بالإسلام والمسلمين؛ مثل: تفسير وشرح الأحاديث النبوية الصحيحة، ونشر الفتاوى والأحكام، والقيام بمقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ومدى تلاؤمهما، ومكافحة بعض البدع والعادات السيئة.
وكان لهذه الأعمال الجليلة نتائجُها المثمرة؛ إذ اهتم جميع المثقفين بهذه المجلة "الإسلامية العلمية الأدبية"، فانتشرت في جميع الأوساط، وابتهج بها القراء المسلمون؛ مما مكنها من القيام بدور كبير في توجيههم وإرشادهم، وفي إصلاح المجتمع الإسلامي بصورة عامة" (1).
ويبدو أن مجلة "الهداية الإسلامية" بعثت في نفوس العلماء والكتّاب عزيمة لا تلين في مقاومة الفكر التغريبي الوافد الذي يتسلل إلى الثقافة الذاتية للأمة، ويعبث بمقدساتها، ويبث الشك والريب في ثوابتها؛ مما جعل السيد عبد العزيز بك محمد المستشارَ بمحكمة الاستئناف، وعضوَ المجلس الأعلى للأزهر يقدم اقتراحاً يقضي بإنشاء مجلة إسلامية، تساهم في تنوير المسلمين، وفضح مخططات أعدائهم، ومكافحة التيارات المنحرفة النابتة بين ظهرانيهم ..
(1) المرجع نفسه، (ص 92 - 93).
ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر محمد الأحمدي الظواهري، كان أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه المجلة، فأخذ يدبر بجد وحكمة حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه .. فقرر المجلس الأعلى- بعد دراسة الموضوع - تخصيصَ مبلغ مالي ينفق على المجلة، التي تحمل اسم "نور الإسلام"، وأسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ محمد الخضر حسين. وذلك في (المحرم من عام 1349 هـ = 1931 م)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام.
وقد أوضح الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله تعالى- في أول افتتاحية عدد منها أسبابَ إصدارها، ومبيناً خطتها، فيقول: "خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن، وقصارى مجهودها: أن تعمل على نشر آداب الإسلام، وإظهار حقائقه نقية من كل لَبْس، وتكشف عما أُلصق بالدين من بِدَع ومحدَثات، وتنبه على ما دُسَّ في السنَّة من أحاديث موضوعة، وتدفع الشُّبه التي يحوم بها مرضى القلوب على أصل من أصول الشريعة، وتعنى- بعد هذا - بسِيَرِ العظماء من رجال الإسلام، وإن في سيرهم لتذكرةً لقوم يفقهون، ويضاف إلى هذا: ما تدعو فائدته إلى نشره من المباحث القيمة، علمية كانت أو أدبية
…
والمجلة ليست منقطعة عن الحركة الفكرية في عصرها، بل تابعت ذلك عن ما يجيء في الصحف الأجنبية من مباحث علمية، أو مقالات تتحدث فيها عن الإسلام، غير أننا لا نضع أمام القراء مقالة في الإسلام من غير منصِف، إلا أن نصلها بما يستبين بها خطأُ كاتبها، ناقلاً كان أو مدَّعياً
…
هذا غرض المجلة، وهو -بلا ريب- غرض نبيل، وهذه خطتها، وهي
كما عرفت خطة من يمشي على سواء السبيل، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل" (1).
ويشير الشيخ محمد الخضر حسين في تقديمه العدد الأول من السنة الثالثة (المحرم 1351 هـ / مايو 1932 م) إلى خطر الذين يتخفّون في زِيِّ المسلمين، ويتظاهرون بالدفاع عنه، من فاسدي العقيدة الذين ينشرون سمومهم باسم الباحث العلمي، فيقول: "لاحظت المجلة أن من المُضلّين مَنْ يكشف الغطاء عن سريرته، ويركب الصراحة في دعايته، ومنهم من يدس الباطل في عبارات يصبغها بما يشبه لون الحق، فيكون أثره في نفوس بعض الأحداث أشد من أثر الداعي إلى الضلالة علانية. فلم تقصُر المجلة جهادها على دفاع ما يصدع به المبطلون من آرائهم المردية، وعُنيت بنقد المقالات أو المؤلفات التي تصدر تحت اسم: البحث العلمي، أو الدعوة إلى التجديد، وهي تنطوي على روح لا يأتي على نفس غافلة إلا أطفأ نورها، وخالطها من الحيرة أو الجحود ما كان بعيداً عنها
…
" (2).
* محمد الخضر حسين
…
وجهالات دعاة التنوير:
اصطدمت مجلة "نور الإسلام" منذ بداياتها بالكتابات المنحرفة عن الإسلام، والتيار الإلحادي القويّ آنذاك، الذي كان ينادي بأن يتحكم العقل والعلم في مسيرة الحياة، دون أيّ تدخّل من النصوص الشرعية، أو سيطرة للدين على شؤون الحياة.
(1) مجلة "نور الإسلام"، العدد الأول، محرم 1349 هـ / 1930 م، المجلد الأول.
(2)
محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية
…
مرجع سابق، (ص 326).
فهاجم الشيخ محمد الخضر حسين دعاة العَلْمانية، وأنصارَ فصل الدين عن الدولة؛ بدعوى أن الجمع بين السلطتين الدينية والزمنية سبب لتأخر المسلمين، وأرجع سبب محاربة هذا التيار للدين إلى الإعجاب غير المتعقّل بالغرب، عبرَ وسائل الغزو الفكري في المجتمعات الإسلامية، ويرى أن الصورة في ذهن الشرقي عن أوروبا صورة مبالغَ فيها نحو الكمال والرقي الإنساني؛ بفضل الدعاية الثقافية والأدبية التي تقوم بها الأفلام السينمائية، ومدارس الإرساليات الأجنبية، والنشرات التي تحمل طابع البحث العلمي.
وقد كتب رحمه الله مقالاً في افتتاحية "نور الإسلام"(1) بعنوان: "ضلالة فصل الدين عن السياسة" ردّ فيه ردّاً علمياً منصفاً على مقال خرجت به إحدى المجلات تحت عنوان: "داء الشرق ودواؤه"، وفيه دعاية إلى فصل الدين عن السياسة، زعم فيه صاحبه: أن سبب تأخر المسلمين عدمُ فصل الدين عن السياسة، ورذ عليه فقرة فقرة، موضحاً زَيْفَ ما ورد فيه من أباطيل، وما نفخ فيه من نفاثات الفكر الغربي وفلسفته في الحكم والسياسة، مستمداً رده العلمي من آي القرآن، وسنّة المصطفى، وسير السلف الصالحين.
وعندما قال صاحب المقال: "ولو رزق المسلمون رجالاً ينظرون بعين الناقد البصير، من قبل قرنين، وفصلوا الدين عن السياسة، لكان للإسلام اليوم من الشأن والسيادة في الممالك التي اغتصبتها الدول الأورويية ما لا يقل عما للفاتيكان، وما كان خطر الاستيلاء عليهم عظيماً
…
".
رد عليه الشيخ بقوله: "إن فصل الدين عن السياسة هدمٌ لمعظم حقائق
(1) الجزء الخامس، مج 2، جمادى الأولى، 1350 هـ.
الدين، ولا يُقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقلَّ مما يعتدي به الأجنبي على الدين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فصلوا الدين عن السياسة عَلَناً كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتَلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدين ممن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال الكاتب لو ملكت قوة، لألغت محكم يُقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تُدَرَّس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهدِ لغوِ ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجدَ يذكر فيها اسمُ الله تَصَرُّف من لا يرجو الله وقاراً.
يقول الكاتب: "لو فصلوا الدين عن السياسة، ما كان خطر الاستيلاء الأجنبي عليهم عظيماً"، يقول هذا كأنه لا يدري أن السياسة الطاغية لا تهاب إلا حديداً أشدَّ بأساً من حديدها، وناراً أشد حرّاً من نارها، فليس من المعقول أن تردها عن قصدها سلطةٌ دينية ليس في كِنانتها سهم، ولا في كفها حُسام، أما قياسه حال السلطة الدينية الإسلامية -على فرض صحة إقامتها- بحال السلطة الكاثوليكية في احترام مؤسساتها، وإطلاق يدها في عمل يرفع أهل ملتها، فمغالطةٌ أو غفلة عن الفرق بين سلطة دينية يجد فيها الاستعمار مؤازرة أو موافقة على أي حال، وسلطة دينية قد يكون في بعض أصولها ما لا يلائم طبيعة الاستعمار.
ولو ربط المسلمون سياستهم بالدين من قبل قرنين ربطاً محكماً، لم يجد الغاصب للعبث بحقوقهم مدخلاً، ولو أعلنوا فصل الدين عن السياسة، لظلوا بغير دين، ولوجد فيهم الغاصب من الفشل أكثرَ مما وجد، فليست
مصيبة المسلمين في تركهم السياسة، مربوطة بالدين كما زعم الكاتب، وإنما هي ذُهولهم عن تعاليم دين لم يدع وسيلة من وسائل النجاة إلا وصفها، ولا قاعدة من قواعد العدل إلا رفعها".
بهذه الروح ظل الشيخ محمد الخضر حسين يدافع عن حقائق الإسلام، ويرد أباطيل خصومه، بقلم صلب على الحق، ماض غير هياب ..
وقد تعرضت مجلة "نور الإسلام" -أيضاً- إلى فضح أنشطة التنصير في العالم الإسلامي، وكشف مخططاته الرامية لهدم الدين الإسلامي، وإزالته بشتى الوسائل الخبيثة من قلوب المسلمين، فنقلت عن مجلة "العالم الإسلامي" التي يحرّرها القس "زويمر" مخطّطاتِ التنصير في العالم الإسلامي، تحت غطاء المستشفيات والمدارس والأعمال الخيرية، وخير مثال على ذلك هو مستشفى "هنري" في أسيوط.
وكذلك قامت المجلة بعرض الشُّبهات التي يقذفها المنصِّرون والمستشرقون في مؤلفاتهم إلى المسلمين البسطاء بغيةَ زعزعة الدين في قلوبهم، وتولّت المجلة الردّ على هذه الشبهات بأساليب منهجية علمية، وممن تولّى الردّ عليهم في هذا السبيل: الكاتب "محمد فريد وجدي"، فقد ردّ على "أندريه هارفيه" ما كتبه في جريدة "كوكب الشرق" المصرية من شبهات كاذبة على الإسلام.
وكذلك تولّى وجدي الردّ على المستشرق "فرنك فرستر" الذي كتب سلسلة عن تاريخ الإسلام، فنبذ الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض التهم الكاذبة، وكشفَ زيفَها وبطلانها بحجج قوية متينة.
وخاضت المجلة العديد من المعارك الفكرية على الكثير من الجبهات،
وعبر العديد من المحاور الفكرية، إلا أن الباحث الدكتور "جمال النجار" في دراسته القيمة عن صحافة الاتجاه الإسلامي في مصر بين الحربين العالميتين يُجمل القول عن أبرز اهتمامات مجلة "نور الإسلام" -كما يراها- على النحو التالي:
1 -
تفسير آيات من القرآن الكريم، وبيان ما في الذِّكر الحكيم، والسنّة النبوية المشرفة من أصول الأخلاق الفاضلة، وقواعد الأدب الكريمة التي يجدر بالمسلم أن يتبعها.
2 -
متابعة الحركة الفكرية العالمية، وترجمة بعض ما يجيء في الصحف الأجنبية من مباحث علمية، أو مقالات صحفية تتحدث عن الإسلام، ومقاومة تيار الإلحاد ودعاتِه من العلمانيين والملحديين الذين يروّجون لفصل الدين عن شؤون الحياة العامة.
3 -
مهاجمة التبرج والتعري والسُّفور، والاختلاط بين الجنسين، ومهاجمة الدعوة إلى تقليد المرأة المصرية للمرأة الأجنبية في كل أنماط الحياة، والدفاع عن الشرعية الإسلامية وأصولها، وبيان فساد النظريات والمذاهب الوضعية التي تتعارض معها.
4 -
التصدي لحركة التبشير النصراني في العالم الإسلامي، وفضح خطط وتآمر المبشرين على المسلمين، ودحض الشبهات التي يُثيرها المستشرقون ضد الإسلام.
5 -
الدعوة إلى إدخال الدين في المدارس الحكومية، ومحاربة المدارس الأجنبية، والدفاع عن اللغة العربية، وبحث مسألة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، والتصدي للمذاهب الضالة، والحركات الهدامة المنتسبة
إلى الإسلام؛ كالصوفية، والقاديانية، والبابية، والبهائية".
والذي يتتبع افتتاحيات الأعداد الأولى من مجلة "نور الإسلام" التي كان يحررها الشيخ محمد الخضر حسين بقلمه يتبين له مدى حرصه على صناعة أجيال جديدة تضبط حركتها في الحياة على أوامر الدين ونواهيه، وتشريعاته وقيمه، كما تتطلع إلى مستقبلها بكل عزيمة وإرادة مثلما تتطلع إليه الأمم التي تأخذ بأسباب السعادة والتقدم والنهوض.
وهذه بعض عناوين هذه المقالات:
- الانحراف عن الدين - علله - آثاره - دواؤه -. (العدد 2 مج 1 صفر 1349 هـ).
- العلماء والإصلاح. (العدد 3، مج 1، ربيع الأول 1349 هـ).
- المدينة الفاضلة الإسلامية. (العدد 4، مج 1، ربيع الثاني 1349).
- أصول سعادة الأمة. (العدد 5، مج 1، جمادى الأولى 1349 هـ).
- صدق العزيمة أو قوة الإرادة. (العدد 6، مج 1، جمادى الثانية 1349 هـ).
- الغيرة على الحقائق والمصالح. (العدد 7، مج 1، رجب 1349 هـ).
- كبر الهمة في العلم. (العدد 8، مج 1، شعبان 1349 هـ).
- الدهاء والاستقامة. (العدد 9، مج 1، رمضان 1349 هـ).
وفي معركته مع التغريب وآثاره البادية في أخلاق المجتمع، وما طرأ عليها من الانحراف المبين، الذي أخذ يدب في نفوس الناشئة دبيبَ السم الناقع في جسم اللسيع، أرجع الشيخ سبب ذلك كله إلى زيغ في العقيدة، وزيغُ العقيدة مصدر الأخلاق المرذولة في كل حين، واعتبر أن الدعاية إلى القبائح لم تبلغ علانيتها ما بلغته في أيامه، واعتبر أن دعاة التنوير والتحرير
والفن الجميل كثيراً ما يخادعون الشباب بهذه الشعارات الخادعة. وقد كتب -رحه الله- مقالا استهل بهه مجلة "نور الإِسلام"(1)، بعنوان: التعليم الديني في مدارس الحكومة: "ولم تتفش - الرذيلة وزيغ العقيدة وقبائح الأخلاق-؛ لأن وسائل ساعدت على سريان وبائه لم توجد قبل، وأمهات هذه الوسائل ثلاثة أمور:
أحدها: هذه المدارس التي يفتحها الأجانب في أوطاننا باسم العلم، ويغفل بعض المسلمين عن سريرتها، فتأخذم بظاهرها، حتى يسلِّموا أطفالهم وهم على الفطرة إلى من يصبغ هذه الفطر بسواد، وينزع منها روح الأدب الذي يجعلهم أولياء لعشيرتهم، نصحاءَ لأمتهم.
ثانيها: تهاون بعض الآباء بواجب أبنائهم؛ إذ يرسلون الناشئ إلى معاهد العلم بأوربا قبل أن يتلقن من علوم الدين ما يجعل عقيدته مطمئنة، فيلاقي في أثناء الدراسة هنالك، أو في بعض المحادثات شُبَهاً لا يجد في نفسه من الحجج ما يدفعها، وإذا تواردت الشبه على الناشئ، رانت على قلبه، وأصبح يبصر وجهَ الحق أسود قاتماً، فيعود إلى وطنه وهو يحمل لأبويه عقيدة أنهما في ضلال قديم، وذلك جزاء من يستهين بهدى الله، ولا يهمه إلا أن يكون لابنه رزق واسع، أو منصب في أحد الدواوين وجيه.
ثالثها: أن كثيراً من الحكومات الإِسلامية ضعف فيها روح الاعتزاز بالدين الحنيف، فاستباح واضعو برامج التعليم العام في مدارسها أن لا يضربوا
(1) الجزء السادس، جمادى الآخرة، المجلد الثاني، مطبعة المعاهد الدينية الإسلامية، 1350 هـ / 1931 م، (ص 395 - 401).
لعلوم الدين بسهم، ومن يضرب لهم، فبسهمٍ لا يغني من جهل، والتعليم الذي يُهضم فيه جانب العلوم الدينية، لا يرجى منه تهيئة لنشء تتساقط عليهم الشُّبه فيطردونها، أو توسوس إليهم الشياطين فيستعيذون منها".
لذلك حرص الشيخ محمد الخضر حسين على الدعوة إلى تعميم التعليم الديني في جميع المراحل والتخصصات؛ لأنه يدرك أن هذا النوع من التعليم هو صمّام الأمان الذي يحمي الأجيال الناشئة من حملات التغريب الهاجمة على عقلها وفكرها، فمنه تستمد المنهج، ومن خلاله تعرف الأحكام والتشريعات، وتترقى بتوجيهاته في مدارج الرقي الخلقي المنشود، وما ينبغي أن يحرم طلاب العلوم الحديثة من هذا كله، لتتوحد الرؤى والمنهل بين الطلاب جميعاً، فيقول رحمه الله:"ولو كان التعليم الديني آخذاً حقه في جميع مدارسنا، لم ير الناس ما يرونه فيها من التجافي بين أفراد نشؤوا في مدارس دينية، وآخرين نشؤوا في مدارس ليس للدين فيها نصيب، ولا منشأ لهذا التجافي إلا بُعد ما بين النشأتين، وإدخال العلوم الحديثة في المعاهد الدينية يذهب بجانب من هذا التجافي، فإذا عُنيت وزارة المعارف بدراسة علوم الدين درساً جديًا، اتحد أبناؤنا في أصل التربية، فيكون فضل المعاهد الدينية والمدارس الرسمية على الشرق في إخراجهما نشئاً يتقارب شعورهم، وتتدانى عواطفهم، فيتسابقون إلى أعباء الحياة بكواهل ملتئمة، ويرمون في وجوه العظائم عن قوس واحدة".
لم يقتصر النشاط الإصلاحي للشيخ محمد الخضر حسين على مواجهة التغريب، وكشف أساليبه، وفضح مؤامراته، بل تعدى ذلك إلى الكشف عن خطر الحركات التي تبرقعت باسم الدين، ولبست لبوس الإِسلام، ورفعت
شعارات توهم الغافلين أنها من صميم القرآن، وحقائق التشريع، وهم -في حقيقة الأمر- من الدجاجلة المفسدين الذين ادّعوا كذباً وزوراً أنهم مهبط الوحي، وأنبياء العصر، ورسل رحمة للعالمين، فكتب رحمه الله كتاباً فضح فيه ثلّة من هؤلاء، وهم "طائفة القاديانية"، وذكر في مقدمته:
"لقد دلنا التاريخ الصادق أن الدين الحنيف يُبتلى في كل عصر بنفوس نزّاعة إلى الغواية، فتتنكب عن الحقائق، وتمشي في تحريف كلمه مُكبّةً على وجهها، وليس هذا الإغواء بمقصور على من يدّعون التفقه في الدين، ولم يتفقهوا؛ ككسر من زعماء الفرق المنحرفة على الرشد، بل يتعداهم إلى فئة تسول لهم نفوسهم ادعاء أنهم مهبط الوحي، وأنهم يتلقون ما يقولونه بأفواههم من الله تعالى بدون وسيلة كتابه الحكيم، وحديث رسوله الكريم. . . ومن هذا الصنف غلام أحمد مبتدعُ النِّحلَة القاديانية، وكثيراً ما وردتنا رسائلُ من البلاد العربية وغيرها؛ كأمريكا يسأل كاتبوها عن أصل هذه النحلة، ومبلغ صلتها بالإِسلام، وبالأحرى: بعد أن ظهر المقال الذي كشفنا فيه الغطاء عن النحلة البهائية، ونشرناه في الجزء الخامس من المجلد الأول من مجلة "نور الإِسلام"، ووردتنا رسائل أخرى مطوية على ما يصرح به دعاة هذه النحلة من الآراء، ويقترح مرسلوها نقد هذه الآراء، وتحذير المسلمين من الوقوع في مهالكها، ولم نشأ التعرض للكتابة في شأنها قبل اليوم؛ إذ لم يكن لدينا من كتب أصحابها ما نطلع به على أساسها، ونعرف منه حال واضعها.
وقد انساق إلينا اليوم من كتب مبتدعها غلام أحمد، وبعض دعاتها ما جعلنا على بينة من أمرها، وها نحن أولاء نضع أمام حضرات القراء فصولاً فيما تقوم عليه هذه النحلة من المزاعم الخاطئة، ونلقي عليهم كلمات في
نشأة واضعها؛ ليكونوا على بصيرة من أنها دعوى زائغة، ولا يغيب عنهم أن دعاتها الذين يجوسون خلال ديار الإِسلام إنما يثيرون في نفوس شبابنا فتنة، والفتنةُ أشد من القتل" (1).
وهكذا استطاع الشيخ محمد الخضر حسين أن يكشف زيف نحلة خطيرة ظلت حيناً من الدهر مطية ذلولًا للمستعمر الدخيل في بلاد الإِسلام، وأغرت بالدين حتى جعلت الناس -وخاصة في بلاد الهند- يعتقدون أن صاحبها مجددٌ من دعاة الإِسلام الحق، وأعلامه المصلحين!!.
"لقد عاش الشيخ الخضر حي الضمير، شديد الحساسية؛ فقد رأى الأجنبي يحاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون تهيم بالإِسلام، كما يبذل قوته الحاشدة لتشويه اللغة العربية، والحكم عليها بالجمود والتقهقر؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد، وأحاديثِ نبيهم الكريم، ثم تنقطع صلاتهم بأصحاب الذخائر العلمية الرائعة من ورثة الأنبياء وهداة المصلحين.
لذلك أنشأ صحيفة "السعادة العظمى" على نمط "العروة الوثقى"؛ لتنشر محاسن الإِسلام، وتفضح أساليب الاستعمار، وكانت خطة السيد منذ حمل لواء الدعوة في صباه إلى أن لقي الله في شيِخوخته واضحة مفهومة، فهو يعتقد أن فساد الأمم الإِسلامية يرجع -في أصح أسبابه- إلى انصراف المسلمين عن هدي الشريعة الإِسلامية، ويرى أن السيطرة الأوروبية لم تملك زمام الأمور في الشرق إلا حين اعتصمت بالعلم، واستضاءت بالعقل، وأن الشلل العقلي لم تتمهد وسائلُه المؤسفة، وأسبابُه القاتلة في ربوع الدين
(1) طائفة القاديانية: الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986 م، (ص 5 - 7).
الحنيف، إلا حين استطاع الدخلاء أن يَلْبِسوا الحق بالباطل، فيصِموا الإِسلام بما هو براء منه من الجمود والتزمت والاستسلام، والأخذ بالخرافات والبدع والغيبيات؛ المزعومة مما لم يأت به وحي سماوي، أو هَدْي نبوي.
ولذلك كانت مهمة "السعادة العظمى" شاقة خطيرة؛ إذ أخذت تحارب القوة والمال والنفوذ بعزم واثق، وجهد صابر أمين" (1).
ومن يطالع روائع قلمه، وبخاصة ما كتبه في "رسائل الإصلاح" بأجزائه الثلاثة، يدرك مدى اعتزاز الشيخ الخضر بأمجاد أمته، وافتخاره بتراثها العريق، والشموخ بحضارتها الزاهرة، وكان ذلك أمراً لا بد منه في عصر تتبرج فيه الأفكار والفلسفات؛ لتدل بأفضالها على الناس بحق أو بغير حق، وتُلحق بالشرق كل ضعف ونقيصة، وتنعت الغرب بجميل النعوت، وكمالِ الأوصاف.
وقد جاء في مقدمة كتابه "نقض الشعر الجاهلي" ما يلي: "نهضت الأمم الشرقية فيما سلف نهضة اجتماعية، ابتدأت بطلوع كوكب الإِسلام، واستوثقت حين سارت هدايته سيرها الحثيث، وفتحت عيون هذه الأمم في طريقة الحياة المثلى، سادت هذه النهضة، وكان لها الأثر الأعلى في الأفكار والهمم والآداب.
ومن فروعها: نهضة أدبية لغوية، جعلت تأخذ مظاهرها العلمية لعهد بني أمية، واستوت على سوقها في أيام بني العباس.
(1) محمد رجب البيومي، النهضة الإِسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ط 1، دمشق: دار القلم، 1995 م، 1/ 55.
تمتع الشرق بنهضته الاجتماعية والأدبية حُقُباً، ثم وقف التعليم عند غاية، وأخذ شأناً غير الشأن الذي تسمو به المدارك، وتنمو نتائج العقول، فإذا غفوة تدبُّ إلى جفون هذه الأمم، ولم تكد تستفيق منها، إلا ويدٌ أجنبية تقبض على زمامها.
التفت الشرق إلى ما كان في يده من حكمة، وإلى ما شاد من مسجد، وإلى من شبَّ في مهده من أعاظم الرجال، وأخذ ينظر إلى ماضيه؛ ليميِّز أبناؤه بين ما هو تراث آبائهم، وبين ما يقتبسونه من الغرب، ويشعروا بما كان لهم من مسجد شامخ، فتأخذهم العزة إلى أن ينضموا إلى التالد طريفاً، وليذكروا أنهم ذريّة أولئك السراة، فلا يرضَوا أن يكونوا للمستبدين عبيداً" (1).
هذا هو المجال الذي انطلق فيه يراع الشيخ محمد الخضر حسين طوال حياته: مجال التذكير بالأمجاد عن دراسة وتنقيب، وكشف الخداع عن بهارج الغرب في استشفاف ونفاذ، ووضع العلاج لأدواء الشرق في بصر وتشخيص.
وقد ألّح في ذلك إلحاحاً جعل فريقاً من المؤرخين يفهمون رسالته الإصلاحية على غير وجهها الصحيح.
فالأستاذ (ولفريد كانتويل) أستاذ الدراسات الإِسلامية بجامعة (مونتريال) يضع كتاباً عن الإِسلام في التاريخ الحديث، يتعرض فيه إلى مجلة "الأزهر"، موازنًا بين رئيسي تحريرها السابقين: محمد الخضر حسين، ومحمد فريد وجدي، فيجعل الأول ممثلاً للمدرسة السلفية فقط، والثاني مجدداً عصرياً
(1) محمد الخضر حسين، "نقض الشعر الجاهلي".
تسير طريقتُه في التجديد على قواعد المعرفة الحديثة، وهذا شَطَط بالغ تنّبه إليه الأستاذ عباس العقاد حين تعرّض لنقد الكتاب، فقال (1):
"ويقول صاحب الكتاب في مقابلته بين منهج الشيخ الخضر، ومنهج الأستاذ وجدي: إن أولهما يعتبر الإِسلام وحياً تاماً، قد تنزل على صورته الكاملة عند عصر الرسالة الإِسلامية، فلا إضافة إليه، ولا زيادة عليه، ولا تحوير فيه، وإنما الإيمان بالإِسلام هو الذي يحتمل القوة والضعف، كما يحتمل زيادة المعرفة، أو النقصَ فيها، أو يحتمل المراجعة من عصر إلى عصر لتفقّد الآثار العصوية فيه، وليس الأستاذ الخضر -كما يرى المؤلف- من أنصار الحنين إلى الماضي، بل هو من أنصار الدعوة التي لا زمان لها؛ لأنها صالحة لكل زمان، ومهما تتجدد مذاهب المعرفة، فالمسلم يسلم أمره إلى إرادة الله كما هَدَته معارفه إلى فهم تلك الإرادة الإلهية بالدرس والإلهام، وقد تساوى في نظر الشيخ الخضر كلا الطرفين من المسلمين في الحاجة إلى التصحيح والإصلاح، وهما -على تعبير المؤلف-: طرف اليسار من المتعلمين الذين جاوزوا حدود الإِسلام، وطرف اليمين من الجامدين وأتباع الطرق الصوفية الذين ضيقوا حدوده عليهم، وإن لم يجاوزوه".
كما تولى رئاسة تحرير مجلة "لواء الإِسلام" سنة (1366 هـ = 1946 م)، وتحمَّل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتفَّ حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير، وثقافته الواسعة، وعندما أنشئ (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة سنة (1350 هـ = 1932 م)، كان من الرعيل الأول الذين اختيروا
(1) مجلة "الأزهر"، رجب، سنة 1381 هـ.
لعضويته، كما اختير عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية.
* مشيخة الأزهر:
نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة "القياس في اللغة العربية" سنة (1370 هـ = 1950 م)، ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخاً للجامع الأزهر في (26 ذي الحجة 1371 هـ = 16 سبتمبر 1952 م)، وكان الاختيار مفاجئاً له، فلم يكن يتوقعه أو ينتظره بعدما كبر في السن، وضعفت صحته، لكن مشيئة الله أبت إلا أن تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح؛ حيث اعتلى أكبر منصب ديني في العالم الإِسلامي.
وكان في ذهن الشيخ -حين ولي المنصب الكبير- وسائلُ لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، ويرامجُ للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، ثم لم يلبث أن قدّم استقالته احتجاجاً على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإِسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع، وكانت استقالته في (2 جمادى الأولى 1372 هـ = 7 يناير 1954 م)، ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته:"إن الأزهر أمانة في عنقي، أُسلمها حين أُسلمها موفورةً كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل الأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقلَّ من أن لا يحصل له نقص"، وكان كثيراً ما يردد: "يكفيني كوبُ لبن،
وكسرةُ خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء".
* مؤلفاته:
كان الشيخ عالماً، فقيهاً، لغوياً، أديباً، كاتباً من الرعيل الأول، أسهم في الحركة الفكرية بنصيب وافر، وترك لقراء العربية زاداً ثرياً من مؤلفاته، منها:
- "رسائل الإصلاح"، وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإِسلامية، ووسائل النهوض بالعالم الإِسلامي.
- "الخيال في الشعر العربي".
- "آداب الحرب في الإِسلام".
- "تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي".
- ديوان شعر "خواطر الحياة".
بالإضافة إلى بحوث ومقالات نشرت في مجلة "الأزهر"، و"نور الإِسلام"، و"لواء الإِسلام"، و"الهداية الإسلامية".
وقد جمع ابن أخيه الأستاذ الباحث علي الرضا الحسيني تراث عمه في مؤلفات بلغت الأربعة عشرة كتاباً، قدمها باقة للمكتبة العربية، وذخراً للأجيال، تسطر حياة وفكر وجهاد عَلَم من أعلام النهضة الإِسلامية المعاصرة.
* وفاته:
وبعد استقالة الشيخ محمد الخضر حسين من المشيخة، تفرغ للبحث والمحاضرة، حتى لبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377 هـ = 28 من فبراير 1958 م)، وصُلي عليه في الجامع الأزهر، ومشى في موكب جنازته علماء الأزهر، وأعيان الأمة، والمنتسبون إلى العلم، حتى بلغ
النعش (باب الخلق)، والموكب متصل فيما بينه وبين الأزهر، ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله:"إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في النّدْرَى؛ فقد كان عالماً ضليعاً بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصدُ الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظاً على العروبة والدين، يردّ ما يوجَّه إليهما، وما يصدُر من الأفكار منابذاً لهما، قويَّ الحجة، حسنَ الجدال، عفَّ اللسان والقلم. . ."(1).
(1) أحمد تمام (الخضر حسين). ذكرى توليه مشيخة الأزهر، 26 ذي الحجة 1371 هـ موقع إسلام أون لاين - محب الدين الخطيب، شيخ الأزهر السابق السيد محمد الخضر حسين، مجلة "الأزهر"، الجزء الثامن، مج 29، شعبان 1377 هـ / فيفري 1958 م، (ص 736).