المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإمام العلامة محمد الخضر حسين شاعرا - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٥/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(29)«مُلتَقَى الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين في الجَزَائر»

- ‌المقدمة

- ‌حفل افتتاح الملتقى

- ‌كلمة افتتاح الملتقى لوالي ولاية "بسكرة" الأستاذ ساعد أقوجيل

- ‌كلمة رئيس الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية الأستاذ فوزي مصمودي

- ‌كلمة الشيخ عبد القادر عثماني شيخ زاوية (علي بن عمر)

- ‌كلمة الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

- ‌كلمة رئيس الجمعية بتكريم الباحث علي الرضا الحسيني

- ‌كلمة تكريم الباحث علي الرضا الحسيني للأستاذ الأخضر رحموني

- ‌التكريم

- ‌تحية شعرية لعلي الرضا الحسيني بعد التكريم

- ‌محاضرات الملتقى

- ‌ومضات من حياة العلامة محمد الخضر حسين

- ‌الإمام الشيخ محمد الخضر حسين ومنهجه في التراجم

- ‌الإمام العلامة محمد الخضر حسين شاعرا ً

- ‌جهود الأزهر في مواجهة التغريب الإمام محمد الخضر حسين الجزائري نموذجا ً

- ‌الإمام محمد الخضر حسين رجل العلاقات والمؤسسات العلمية

- ‌توصيات الملتقى

- ‌على هامش الملتقى

- ‌بعض عناوين الصحافة الجزائرية عن الملتقى

- ‌ملتقى الإمام محمد الخضر حسين

- ‌في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيغ الأزهر السابق

- ‌بسكرة عاصمة الثقافة باحتفالها بالإمام محمد الخضر حسين إمام العالم الإسلامي، وأستاذ الشيخ ابن باديس

- ‌ربيع في الشتاء

- ‌تذكرة ملتقى الإمام العلامة محمد الخضر حسين

الفصل: ‌الإمام العلامة محمد الخضر حسين شاعرا

محاضرات الملتقى

‌الإمام العلامة محمد الخضر حسين شاعرا ً

للدكتور كمال عجالي (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على. سيدنا محمد، وآله وسلم تسليماً.

عاش محمد الخضر حسين في أسرة وفي عائلة مفعمة بحب الأدب

(1) قدمه رئيس الجلسة بقوله: "الأستاذ كمال عجالي غني عن التعريف، هو أحد الأسماء الباقية معنا هنا، لم ترحل لحسن الحظ، لم تهاجر، بقيت تضيء من حولنا. هو قاموس متكامل حقيقة بالأدب. في وقت فقدت فيه الكلمات مفرداتها، فهو الأستاذ والكاتب والباحث والمحقق، لا بأس أن أقدمه كأكاديمي في بعض الومضات، مقحصل على دكتوراه الدولة في الأدب الجزائري الحديث حول أدب الشيخ الطيب العقبي، متحصل -أيضاً- على شهادة الماجستير حول أدب الشيخ أبي بكر مصطفى بن رحمون، بالإضافة إلى شهادة الليسانس في الحقوق. ومن مؤلفاته: أبو بكر مصطفى بن رحمون حياته وشعره - الفكر الإصلاحي في الجزائر الشيخ العقبي - بين الأصالة والتجديد - الشيخ الطيب العقبي مواقف وآراء - محمد ابن عزوز البرجي وكتابه "قواطع المريد" - ديوان شعر حدث "وإرهاص. وللأستاذ كمال العجالي كتب أخرى تحت الطبع، نذكر منها: آثار الشيخ الطيب العقبي- ديوان أبي بكر مصطفى بن رحمون، ومن أعلام الجزائر. وهو يشتغل الآن -والحمد لله- أستاذاً في التعليم العالي في كلية الآداب بجامعة "باتنة".

ص: 67

والشعر، والثقافة العربية والإسلامية، فلا غرابة أن يقرض الشعر، ويكتب مبكراً من سني عمره.

ثم انصرف عنه إلى طلب العلم، ومزيدٍ من التحصيل المعرفي، ولم يعد ينظم الشعر إلا لدواعي الضرورة القصوى، فهو لم يقل الشعر إلا لتهنئة صديق، أو تذكيره بما يربط بينهما من الصلات، أو لرصد ناحية خلقية أو اجتماعية مشاركة منه في إصلاح المجتمع الإسلامي وتهذيبه، ولكن ذلك كله لم يمنعه من أن يقول شعراً كثيراً، وخاصة في السنوات الأخيرة من حياته.

وأكثر شعره جاء في موضوعات متفرقة؛ كوصف منظر، أو رصد موقف، أو تسجيل حكمة، أو التقاط مفارقة، أو تأمل في تجارب الحياة وأخلاق الناس.

يقول في رصد منظر الغروب وتصوير الشفق:

هذا الدُّجى اغْتالَ النَّهارَ ودَسَّهُ

تحتَ التُرابِ مُضرَّجاً بدمائهِ (1)

ما حُمْرَةُ الشَّفَقِ التي تَبْدو سِوى

لَطْخٍ مِنَ الدَّمِ طارَ نحو رِدائهِ (2)

لقد كان الشيخ الحسين مجبولاً على حب الحرية، والعرة النفسية العالية، وقلما سنحت له الفرصة، وكثيراً ما كان يفعل ذلك، إلا ونبّه الأمة إلى الأخذ بأسباب التقدم والازدهار، والعمل على الانعتاق من ربقة الاستعمار.

(1) الدجى: الظلمة.

(2)

الشفق: الحمرة في الأفق من الغروب الى العشاء الآخرة، أو الى قريب العتمة.

اللطخ: اليسير القليل من كل شيء.

ص: 68

يقول في موقف، وهو على فراش المرض بعد أبيات كلها تصبر وثبات على المكاره:

أَطَلَّ عَلَيَّ الموتُ من خَلَلِ الضَّنا

فآنَسْتُ وجْهَ الموْتِ غيرَ كئيبِ (1)

ولوْ جسَّ أَحشائي لخِلْتُ بَنانَهُ

وإنْ هالَ أقْواماً بنانَ طبيبِ

فلا كانَ مِنْ عَيْشٍ أرى فيه أُمَّتي

تُساسُ بِكَفَّيْ غاشمٍ وغريبِ (2)

كما كان الشيخ ودوداً، صائناً للعشرة، محافظاً على الصداقة، مراعياً لآداب الأخوة، ما لم تمس كرامته، أو يطعن في ذمته، لذلك نجده يقول في متفرقاته:

خَلُّوا عِداتي يَمْلَؤونَ بخَيْلِهمْ

وبِرَجْلِهمْ أَكَمَ الثَّرى ووِهادَهُ (3)

لا هَمَّ في الدُّنْيا إذا ظفَرتْ يَدي

بأخٍ عَشِقْتُ ذَكَاءَه ورَشادَهُ

أصْفو لهُ أمدَ الحياةِ وإنْ رَمى

سَمْعي بقَوْلٍ خادِشٍ ما اعْتادَهُ

لستُ المُقاطِعَ إنْ جَفا خِلٌّ ولَمْ

يَكُ قَطْعُ رابطةِ الوِدادِ مُرادَهُ

إن متفرقات الشيخ الخضر كثيرة ومتنوعة ومتداخلة، لا يكاد يحصيها الباحث عدّاً، وعليه: فشعره أغلبه من المقطوعات الشعرية التي تحوي البيتين، أو الثلاثة، أو الستة أبيات. ولا يتجاوز عدد قصائده الطويلة سبعين قصيدة؛ فقد كان الرجل قصير النفس في جلِّ أشعاره، إلا فيما يتصل ببعض المواضيع

(1) الضنا: المرض والهزال، سوء الحال.

(2)

ساس الأمة: قام بها. الغاشم: الظالم والغاصب. الغريب: المستعمر إطلاقاً.

(3)

العداة: واحده العادي، وهو العدو. الأكم: جمع أكمة: التل.

ص: 69

الهامة التي يبدو أنها كانت توافق مزاجه؛ مثل: تمجيد العرب والإسلام، وتهئة الأصدقاء، ورثاء الأقارب.

وقد تناول في شعره أغراضاً كثيرة، أهمها: الإخوانيات، والقضايا الوطنية والسياسية، والرثاء، والو صف، والوجدانيات، والاجتماعيات، والإسلاميات.

وقبل الحديث عن شعر الإخوانيات لابد أن نعرف أولاً: ما المقصود بهذا اللون من الشعر؟

وفي الحقيقة يصور هذا اللون من الشعر الاجتماعي الصلات والروابط التي كانت تربط الأصدقاء من الشعراء، ويتحدث هذا الشعر بين سطوره عن الصداقة، والأخوة، والتهنئة، والاعتذا ر، والعتاب، والشكوى، والتعزية، والاستعطاف.

ولقد ساعدت المساجلات والمراسلات الشعرية، واستخدامها استخدام النص على انتشار هذا اللون من الشعر بين الكثير من الشعراء والأدباء، كما يذهب البعض إلى تسميته بشعر المجاملات، أو الشعر الإخواني.

ولكثرة تجوال شاعرنا وأسفاره، ودماثة أخلاقه، فقد اكتسب إخواناً وأصدقاء من الأدباء والشعراء والعلماء في بلدان متعددة، وكان من أبرزهم: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من تونس، وخليل مردم بك من سورية، إلى آخرين غيرهم من أفراد أسرته وأقاربه.

بعث ذات مرة إلى الشيخ عبد القادر بن المبارك الجزائري المقيم في دمشق، بعد أن قزظ كتاب "الخيال في الشعر العربي" للخضر حسين، فقال الشيخ محمد الخضر حسين شاكراً الفضل، وحامداً الصنيع:

ص: 70

أَمْحَضُ الأُستاذَ شُكْراً ساطِعاً

بَيْنَ صافي الوِدِّ والشَّوْقِ المُذيبِ (1)

وسلاماً مِنْ بَعيدٍ كُلَّما

عَزَّ إِلقاءُ سلامي مِنْ قريبِ

وحين تولى الشيخ الطاهر بن عاشور خطة القضاء في تونس، بعث إليه الحسين مهنئاً، فقال:

يا طاهِرَ الهِمَمِ احْتَمَتْ بِكَ خُطَّةٌ

تَبْغي هُدًى ومروءَةً وسَماحا (2)

سحَبَتْ رِداءَ الفَخْرِ واثقةً بما

لكَ مِنْ فؤادٍ يَعْشَقُ الإِصْلاحا

ستشُدُّ بالحَزْمِ الحكيمِ إزارَها

والحَزْمُ أنْفَسُ ما يكونُ وِشاحا (3)

وتذودُ بالعَدْل القَذَى عَنْ حَوضِها

والعَدْلُ أَقْوى ما يكونُ سِلاحا (4)

وفي ردّه على خليل مردم بك الشاعر السوري الشهير، الذي اشتكى أن ينساه الحسين، وينسى أيامه التي قضياها معاً في دمشق، فقال الخضر:

إنّي على ثقةٍ مِنْ أنَّ ذِكْرَكَ لا

ينفَكُّ مُرْتَسِماً في النَّفْسِ كالخُلُقِ

وكيفَ أنسى "خليلاً" قَدْ تضوَّعَ في

حُشاشَتي وِدُّهُ كالعَنْبَرِ العَبِقِ

كان شاعرنا مخلصاً في صداقته، مجدداً تواصله مع أحبائه، متطلعاً إلى

(1) مَحَضَ: أخلص.

(2)

الخطة: الأمر والطريقة. ويطلقها أهل الأندلس على أي منصب من مناصب الحكومة، فيقال: خطة الفتوى، وخطة التعليم.

(3)

الإزار: الملحفة. الوشاح: شيء شبه قلادة تلبسه النساء.

(4)

تذود: تطرد. القذى: ما يقع في العين أو الشراب من تبنة أو غيرها. الحوض: مجتمع الماء.

ص: 71

لقياهم وسماع أخبارهم، ولا غرو في ذلك، فهو قد نظم في موضوع الصداقة والأصدقاء أكثر من عشر قصائد، تعرض في بعض منها إلى أهمية الصداقة، ودورها في حياة الإنسان، وتعرض في البعض الآخر إلى خصال بعض أصدقائه، وصلاته المتينة بهم، وخاصة منهم: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي أفرد له مقطوعات وقصائدَ عديدة تبين مدى الود الذي كان يربط بين الرجلين، والمحبة الخالصة التي كانت تجمع بينهما.

وكما كان الشاعر محباً لأصدقائه، فقد كان محباً -أيضاً- لأمته، مخلصاً لها، محضها الود والإخلاص، والرشدَ والنصيحة طوال حياته، فبعد وعد بلفور المشؤوم في نوفمبر 1917 م، بدا تألُّم الشاعر وتحسّره على ما آلت إليه فلسطين من عصابات الإجرام اليهودية، الذين نخروا في جسمها كالسوس بالمال والمؤامرات والرشاوى، وشراء المواقف في المحافل الدولية، واستنكرَ تباطؤ العرب وتخاذلَهم في نصرة إخوانهم الفلسطينيين بالمال والسلاح، فقال:

لا تُنجِدُوهُمْ بالتَحَشُرِ وَحْدَهُ

إنَ التَحَشُرَ لا يُزيحُ عَناءَ

لا تنهَضُ الأوطانُ من كَبَوَاتها .... إلّا على أيدٍ تَفيضُ سخاءَ

ما سادَ قومٌ أُشْرِبوا شُحّاً وإنْ

بَلَغوا السّماءَ شَجاعةً وذَكاءَ (1)

أمِنَ المُروءةِ أنْ ننُادَى للّتي

فيها النَّجاةُ ولا نُجيبُ نِداءَ

بسطَ اليهودُ إلى اليهودِ أكُفَهُمْ

بالمالِ مِنْ بَيْضاءَ أوْ صَفْراءَ (2)

(1) الشُّح: البخل مع الحرص.

(2)

البيضاء: الفضة. الصفراء: الذهب.

ص: 72

ومتى أرى قَوْمي قَدِ اسْتَبَقوا العُلا

بِسخاء كَفٍّ يكْشِفُ اللأْواءَ (1)

مثلما أحب الشاعر أمته، فلم ينس وطنه الذي ولد فيه، وتربّى في ربوعه، فأشاد به في كل موقف، وتغنّى فيه بكل محفل ومناسبة ذكَّرته به.

ودعا إلى التحرر والاستقلال، والعمل على طرد الباغي الغريب، وحرَّضهم على أن يفعلوا مثلهم مثل إخوانهم في طرابلس الذين يخوضون حرباً ضد الإيطاليين (1911 - 1912 م)، فقال:

رُدّوا على مَجْدنا الذكْرَ الذي ذَهَبا

يَكْفي مَضاجِعنَا نومٌ دَهَى حُقُبا (2)

ولا تعودُ إلى شَعْبٍ مُجادَتُه

إلا إذا غامَرَتْ هِمّاتُهُ الشُّهُبا (3)

حَيّاكُمُ الله قَوْمي إنَّ خَيْلَكُمُ

قَدْ ضُمّرَتْ والسِّباقُ اليومَ قد وَجَبا (4)

وقد ظلت عين شاعرنا ترقب كل كبيرة وصغيرة في الساحة الدولية، فراعه ما كانت تقوم به قوى الاستعمار من أساليب المكر والخداع، ومنها: خدعة التجنيس التي كان يهدف الاستعمار من ورائها إلى احتواء النخبة، وتخلية الوطن من قواه الحية التي يمكن أن يعقد عليها الأمل. فقال الحسين في قصيدته:(صرخة المغرب):

(1) اللأواء: يقال: لأواء العيش شدته. وفي الحديث الشريف: "من كان له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن، كُنَّ له حجاباً من النار".

(2)

دهاه: أصابه بأمر عظيم. الحُقُب: ثمانون سنة، ويقال أكثر من ذلك.

(3)

مجادته: عزته وشرفه. غامرت: قاتلت، ولم تبال بالموت. هماته: جمع همّة، وهي العزم القوي. الشهب: شعلة من نار ساطعة، أو كل شيء مضيء متولد من نار.

(4)

ضمّرت: ضمَّر الخيل: ربطها وأكثر ماءها وعلفها حتى تسمن، ثم قلَّل ماءها وعلفها مدّة وركّضها في الميدان حتى تهزل. ومدة التضمير عند العرب أربعون يوماً.

ص: 73

لاذَ بالتجْنيسِ والقَوْمُ أَبَوْا

خَوْفَ أنْ يَصْلَوْا بهِ النَّارَ الحِراقا (1)

وبَنو المغربِ عُرْب شِيَماً

ولِساناً، لا ادِّعاءً واخْتِلاقا

وما دام بنو المغرب مسلمين، رفضوا التجنيس، وخافوا أن يصلَوا النار، فواقعُ الحال يدعو فرضاً أن يكسروا هذه القيود، ويحطموا تلك السدود التي ينصبها لهم المستعمر الغاشم، فقال مخاطباً تونس:

يا شاطِئَ المرْسى إلامَ الهُجودْ

فُكَّ القُيودْ (2)

وكُنْ كما كُنْتَ لعهدِ الجُدودْ

غِيلَ الأُسودْ (3)

يَمْرَحُ فيكَ العزُّ بين الجُنودْ

ضافي البُرودْ

فأنت لا تَزْهى بِتَلْحينِ خُودْ

ونَقْرِعودْ (4)

إن تحرير الأوطان يتطلب تضحية وفداء، ولا بدَّ أن تراق الدماء القانية في طريق الحرية، وتروى الدروب بدماء الشهداء، وتغسل الأرض من درن الاستعمار وأوضاره، لذلك قال الخضر:

حديثُ عنقاء شَعْبٌ أنقذَ الوطنا

ولم يسلَّ سيوفاً أو يَهُزَّ قَنا (5)

(1) التجنيس: فتح باب التجنيس بالجنسية الفرنسية. الحراق: التي لا تبقي شيئاً.

(2)

المرسى: بلدة في ضواحي تونس فيها متنزهات تجمع بين منظر البحر الأبيض، والحدائق الأنيقة، وطالما تمتع الشاعر بالتنزّه فيها؛ إذ هي مقر صديقه منذ عهد طلب العلم العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. الهجود: النوم.

(3)

الغيل: الشجر الكثير الملتف، ويقصد به: العرين.

(4)

الخود: الحسنة الخَلْق.

(5)

العنقاء: طائر معروف الاسم، مجهول الجسم لا يعرف، ويراد بحديث عنقاء: =

ص: 74

إلى أن يقول:

عُسْفُ العدا دَرَنٌ فاسْكُبْ عليه دماً

مِنَ الدّماءِ الغَوالي تَغْسِلُ الدَّرَنا (1)

ولا يَروعَنْكَ جُنْدٌ شنَّ غارَتَهُ

على البُغاثِ فَلاقى الجُبْنَ والوَهَنا (2)

إن الصُّقورَ إذا انْفضَّتْ تُنافحُ عَنْ

أوْكارِها لم تَهَبْ جُنْداً ولا ثَكَنا (3)

وعزة الأوطان غالية، وأغلى منها مهرُها الذي يتجسد في أرواح شبابها حين يتقدمون إلى ساح الوغى فداء وتضحية مع الاستعداد وإعداد العدة، فقال:

عِزَّةُ الأُمَّهِ في نَشْءٍ إذا

نَشَبتْ في خَطرٍ كانوا فِداها

وجَناحا فَوْزِها اسْتِمْساكُها

بِهُدى الله وإرهافُ قَناها

ولما كان شاعرنا من دعاة الجامعة الإسلامية الذين كانوا يعمدون إلى العمل السياسي المنظم الشامل، وسعوا إلى الوحدة العامة بين الأقطار الإسلامية، وكان منطلقهم الأول: أن الإسلام صالح لنهضة المسلمين المطلوبة لكل زمان،

= الأمر لا حقيقة له. قال الشاعر:

الجود والغول والعنقاء ثالثة

أسماء أشياء لم توجد ولم تكن

وقال آخر:

ثلاثة ليس لها وجودُ

الغول والعنقاء والودود

(1)

العسف: الظلم. الدرن: الوسخ.

(2)

البغاث: طائر لا يصطاد، ولا يرغب في صيده، شرار الطير.

(3)

الثكن: جمع ثكنة: مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم، وإن لم يكن هناك لواء ولا عَلَم.

ص: 75

لكل ذلك تأثر شاعرنا بالضربة القاصمة التي وجهها كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية حين ألغاها، فازدادت آلام شاعرنا أضعافاً مضاعفة، إلى جانب ما كان يقاسيه من معاناة بسبب استعمار أوطانه العربية التي دعاها مرات ومرات إلى الثورة وفك القيود.

كان الخضر حسين مدركاً الخلافة الإسلامية، فقال:

حتى تحكَمَ فيهِ رَهْطٌ بَدَّلوا

خَبَثَ الحديدِ بِعَسْجَدِ مَسْبوكِ (1)

نزَغاتُ وَسْواسِ تَخَبَّطَهُمْ فَما

لَبِثوا أنِ اغْتَرّوا بِوَحْيِ أَفوكِ (2)

وتبلغ الحسرة مداها، فيتمنى شاعرنا لو يقيض الله لهذه الأمة رجلاً يجمع شملها، ويعيد لها وحدتها؛ مثل: صلاح الدين الأيوبي الذي أبلى البلاء الحسن في سبيل نصرتها، ولمِّ شملها، وتحرير أوطانها. وها هي ذي اليوم قوى الاستعمار تمرح في ربوعها:

جاسُوا المَدائنَ والقفارَ وأَرْصَدوا

في كلِّ وادٍ غاشمٍ فَتّاكا (3)

يا لَيْتَني أدري ومِثْلُكَ يُقْتَدى

بمثالِهِ بينَ الوَرى ويُحاكى

أَيُتاحُ للشَّرْقِ المعذَّبِ ذائدٌ

يَرْمي ويَبْلُغُ في النِّضالِ مَداكا

ومن أهم عناصر كيان الأمة: الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحسنة التي دعا إليها شاعرنا بأكثر من موقف، وفي أكثر من مناسبة، وهاجم الآفات الاجتماعية، والأمراض الخلقية، وكل ما تفشَّى في المجتمعات العربية

(1) الرهط: قوم الرجل وقبيلته. خبث الحديد: ما نفاه الكير.

(2)

الوسواس: الشيطان. أفوك: كاذب، ويعني به: الشيطان.

(3)

المدائن: جمع المدينة. أرصدوا الرقيب: نصبوه في الطريق.

ص: 76

والإسلامية من جراء تقليدها للحياة الأوربية المستجدة. وانتقد ما تقدمه المدارس الحكومية من علوم ومعارف مجافية لروح الدين، وكرَّ كرّة عنيفة على دعاة الإلحاد والتفسخ، وكشفَ مخاطر البهائية والبابية والقاديانية التي تدَّعي الإسلام، والإسلامُ منها براء.

وانتقد الرؤساء والحكام المتخاذلين والمتقاعسين لنصرة شعوبهم، وإصلاح أمر مجتمعهم؛ بحجة قوة الاستعمار وغلبته:

لاخَيْرَ في الرُّؤساءِ إنْ لَمْ يَنْهَضوا

بالشَّرْقِ حتى يَخْلُفَ الدّاءَ الشِّفاءُ

قالوا: حَوالَيْنا غَريبٌ رُبَّما

يُبْدي رَغائبَ قَدْ تُعارِضُ ما نَشاءْ (1)

قُلْنا: الرئيسُ الحرُّ لا يُثْنيِه عَنْ

إِصلاحِ شَأْنِ الشَّعْبِ خَوف أوْ رَجاءُ

كان الخضر حسين في كل مناسبة يدعو إلى إصلاح المجتمع، ويحث على التمسك بعرا الدين القويم، ويستنهض الهمم، ويضرب الأمثال بالنماذج وأصحاب السير الخالدة الذين تركوا بصماتهم في الحياة، وكانوا النبراسَ المضيء لشعوبهم، كما دعا إلى الحفاظ على اللغة العربية؛ لكونها عنصراً مهماً في حياة الأمة العربية والإسلامية، وشجع على تعلم الآداب والفنون، وأرشد الأدباء وأصحاب الأقلام إلى تسخير طاقاتهم الإبداعية لخدمة مجموعتهم وملّتهم الغراء.

وبيَّن أن العلم في عصرنا واجب وفرضٌ طلبُه، واللغة العربية التي استطاعت مواكبةَ كل تطور قادرةٌ على استيعاب علوم العصر، ولا تقدُّم للشعوب إلا بالعلوم والمعارف والأخلاق والآداب والثقافة (التكنولوجيا)، والذي

(1) الغريب: يقصد به المستعمر إطلاقاً.

ص: 77

رام التقدم من غير هذا السبيل أضاع عمره سدى.

كان محمد الخضر حسين شاعراً وعالماً، ومصلحاً منفتحاً على العصر وعلومه، يأخذ منه كل ما يعتقد أنه مفيد لأمته؛ شريطة أن لا يتصادم مع أصول الدين الإسلامي الحنيف. وهذا الذي يعبر عنه بالانفتاح، ونعني به: الانفتاحَ الحضاري للاستفادة من المعطيات الحضارية الغربية الجديدة؛ باقتباس علوم الطبيعة، وعلوم التمدن المدني والعلمي؛ مثل: علوم الزراعة والحيوان، وعلوم الصناعة والحرف والتجارة، وعلوم الطب والصيدلة، ووسائل الاتصال والمواصلات، وعلوم طبقات الأرض وأنواعها ومعادنها، والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلك، وعلم الجغرافية والبحار والملاحة، وما إلى ذلك من المعارف التي تتصل بعلوم المادة وظواهرها.

وبقدر ما كان الخضر حسين ذا شخصية قوية معبرة ذات أنفة وكبرياء، فقد كان رقيق القلب، شفيقاً رؤوفاً، ويبدو أن نفس الشاعر كانت مشوبَة بحزن وألم دائمين، مما جعله يجيد فن الرثاء، ويعبر عن أحاسيسَ وعواطفَ تتجاوز المرء إلى أبعاد أعمقَ وأشمل، فقد رثى خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي توفي بالآستانة، وزوجته الثالثة المتوفاة سنة 1953 م في القاهرة، ورثى صديقه الحميم أحمد تيمور باشا الذي كانت تربطه به صداقة متينة، وودٌّ متين.

وأبلغُ مرثياته في نظرنا: هي التي قالها في والدته التي توفيت بدمشق سنة 1917 م، وكان وقتئذ في البلاد الألمانية.

وأبّن الشيخ علي محفوظ أحدَ علماء الأزهر الكبار، ورثى أستاذه سالم بو حاجب من تونس.

ص: 78

ولقد كان أعمقَ عاطفة، وأرقَّ أسلوباً في مراثيه، التي قالها في والدته التي كانت تمثل له شيئاً كبيراً، وقيمة ثمينة؛ بما كانت تغرسه فيه وفي إخوته من قيم ومُثُل، فقال:

(بِنْتَ عَزّوزَ) لَقَدْ لَقَّنْتِنا

خَشْيَةَ الله وأنْ نَرْعى الذِّماما (1)

وَدَرَيْنا مِنْكِ أنْ لا نَشْتري

بِمعالينا مِنَ الدُّنْيا حُطاما (2)

وَدَرَيْنا منكِ أنَّ الله لا

يَخْذِلُ العَبْدَ إذا العَبْدُ اسْتَقاما (3)

ودرينا كيفَ لا نَعْنو لَمِنْ

حاربَ الحَقَّ وإنْ سَلَّ الحُساما (4)

كُنْتِ نوراً في حِمانا مِثْلَما

نَجْتَلي البَدْرَ إذا البَدْرُ تَسامى

أَفَلَمْ تُحْييه بالقرآنِ في

رِقّةِ الخاشِعِ ما عِشْتِ لِزاما

كُنْتِ لي رَوْضَةَ أُنْسٍ أَيْنما

سِرْتُ أهْدَتْ نَفْحَ وَرْدٍ وخُزامى (5)

والدارس لمرثيات الحسين يلاحظ أن الرجل يمجد قيماً، ويبكي خصالاً وسجايا حميدة في الأشخاص الذين رثاهم، سواء كانوا أقارب، أو غيرهم. ويدعو ضمنياً إلى التخلق بتلك الصفات، والتشبت بتلك القيم؛ لما فيها من

(1) بنت عزوز: السيدة البارة المرحومة حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى بن عزوز، والدة الشاعر، ومن الشهيرات بالتقى والعلم والصلاح. ولدت بتونس سنة 1270 هـ، وتوفيت بدمشق سنة 1335 هـ. الذمام: الحق والحرمة.

(2)

الحطام: ما تكسر من اليبس. ويقصد الشاعر: مال الدنيا وزخرفها.

(3)

خذل الرَّجُلَ: ترك نصرته وإعانته.

(4)

نعنو: عنا له: خضع وذل.

(5)

الخزامى: نبت زهره أطيب الأزهار نفحة، ويتمثل به في الطيب.

ص: 79

النفع والفائدة لصالح الأفراد والجماعات.

بالإضافة إلى ما سبق: نجد الشاعر يُعمل فكره في الحياة، وسلوك الخَلْق، ويتأمل ويخلُص إلى أخذ العبرة مما وصل إليه من عظات وعبر في شؤون الناس والحياة، وما رصد من مفارقات تستلفت نظر الإنسان وتتطلب منه.

وشعر الخضر حسين شعر تقليدي إذا ما قيس بمقاييس المعاصرة، وإن عدّه البعض شعراً عصرياً أو جديداً، إلا أن الروح المحافظة المسيطرة عليه جعلت النزعة التقليدية لديه أقوى.

يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في هذا المضمار: ويظهر أن نشأة الطريقة الشعرية المصورة للنزعة الفكرية والقومية إنما ظهرت في سبك متين، ومنطق رصين على يد الشيخ محمد النخلي، ثم سمت وأشرقت على يد الشيخ الخضر، إلا أنهما لم يلتزما.

خلاصة القول التي يمكن أن نختم بها: إن هذا الديوان "خواطر الحياة" لصاحبه محمد الخضر حسين وثيقة هامة، تفيد الباحث في التعرف على كثير من المعطيات التاريخية، والنظريات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي كانت تشغل بال هذا العالم، وبالَ غيره من المثقفين المعاصرين له، والمهتمين بشؤون العالم الإسلامي وقضاياه.

كما يبيّن هذا الديوان قيمة صاحبه الشعرية، وهو ديوان يحتاج إلى دارسة علمية أكاديمية متأنية، وما قدمناه اليوم لا يكاد يتجاوز حد الانطباع، أو قلْ: هو خطرات حول ديوان "خواطر الحياة".

وشكراً لكم.

ص: 80