الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على هامش الملتقى
ندوة إذاعية (1) الدكتور مجاهد توفيق الجندي الأستاذ علي الرضا الحسيني - الدكتور كمال عجالي
المذيع مقدم الندوة: أيها الأحبة! سأكون سعيداً أن ألقاكم على ضفاف هذا المساء؛ لتناول وجبةٍ علمية، غذاء كامل؛ كما لو أننا سنتناول حلواً تمراً من تمور "طولقة" التي تمور هذا المساء في أحلامها.
الحضرة حضرة علماء، وحينما يحضر العلم، يبطل كل شيء، يبطل كل ما يمت بصلة إلى اللغو.
سأكون سعيداً أن أكون بين حضرات العلماء؛ حيث سكون واحداً من بين الذين يغرفون من بحر هؤلاء.
بداية أيها الأحبة يحضر معنا:
- الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي أستاذ كرسي الحضارة الإِسلامية والتاريخ الإِسلامي، ومؤرخ الأزهر، وعضو اتحاد المؤرخين العرب.
- الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن شقيق المحتفى به العلامة الإمام محمد الخضر حسين، مهتم بتراث العائلة على مدى أربعين عاماً. وكان قد
(1) ندوة إذاعية على الهواء مباشرة من الإذاعة الجزائرية في مدينة "بسكرة" على هامش الملتقى. مساء يوم 26/ 12/ 2007 م.
جمع كل أعمال العلامة والفهَّامة والتكلامة (1) الشيخ محمد الخضر حسين.
- الأستاذ الدكتور كمال عجالي من جامعة "باتنة"، وهو مهتم -أيضاً- بالحضارة الإِسلامية والأدب.
نتحول إلى الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن شقيق المحتفى به الشيخِ محمد الخضر حسين.
أود أن أشير إلى أن العلامة محمد الخضر حسين قد ولد في مدينة "نفطة" بالجنوب التونسي، لو تحدثنا عن نشأته؛ لأنكم كنتم بين الذين اهتموا بتراث العلامة.
الحسيني: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
أريد -قبل الدخول في هذا الحوار- أن أوجه التحية إلى هذه المدينة الرائعة الخالدة، والتي شاءت أن تحتضن هذا الملتقى العظيم.
هذه أبيات قلتها أولَ أمسِ عندما جئت بالطائرة من مدينة الجزائر، أوحَتْها لي هذه المحبة التي أُكنها لهذه المدينة:
لسانُ الوَفا نادَى بصوتٍ مُجلْجِلِ
…
بِسِكْرَةُ ميلادي وأَهْلي ومَنْزِلي
على بابِها يلقاكَ وجْهُ بُطولةٍ
…
وفي ساحها آياتُ نَضرٍ مُحَجَّلِ
إذا نطقتْ أحجارُها أوْقدَتْ لَظًى
…
وكمْ جَحْفَلٍ أفْنَتْهُ في إثْرِ جَحْفَلِ
وفي ثورَةِ التَّحرير هَبَّتْ طليعةً
…
تُذيقُ العِدا قَهْراً بأكْؤُسِ حَنْظَلِ
وفي السِّلْمِ دارٌ للضيافةِ والنَّدى
…
تعانِق رُوّادَ التُّراثِ بِمَحْفِلِ
(1) التكلامة: الجيّد الكلام، الكثيره.
وحَقًا غدَتْ للفِكْرِ مَرْقًى ومُلْتَقًى
…
ومنبرَ إلهامٍ لأِعذَبِ مَنْهَلِ
"بِسِكْرَةُ" يا أُمَّ الكِرامِ تحيةً
…
وقُبْلةَ شُكْرٍ في جبينكِ مِنْ (علي)
قبل "نفطة" نحن نقول: إن أصوله جزائرية من مدينة "طولقة"، والده التقي الشيخ الحسين ابن شيخ الزاوية سيدي علي بن عمر. ووالدته السيدة حليمة السعدية بنت سيدي مصطفى بن عزوز ابن الشيخ محمد بن عزوز في (برج ابن عزوز).
انتقلت العائلة من جنوبي الجزائر - في الواقع لم يكن هناك حدود، ولم يكونوا يعرفون الحدود بين تونس والجزائر.
وكان سبب انتقال الشيخ ابن عزوز سبباً نضالياً، وهو أن يجعل الزاوية في "نفطة" مكان راحة للمجاهدين الجزائريين -بالإضافة إلى دورها الأول في التوجيه الديني-، هذه الحقيقة غابت عن كثير من المؤرخين، ولكن لدي من الوثائق ما يؤكد هذه الحقيقة.
استقر في "نفطة"، وأقبل عليها طلاب العلم من كل حدب وصوب، وخاصة من الجزائر، ثم من بعد، انتقلت العائلة إلى تونس؛ لظروف خاصة؛ فقد توفي الشيخ مصطفى بن عزوز رحمه الله وانتقل الشيخ الحسين إلى مدينة تونس، وأسس هناك زاوية، واستولد هؤلاء العظماء من الشيوخ: الشيخ سيدي محمد الخضر حسين، وسيدي الوالد زين العابدين، والشيخ محمد المكي بن الحسين من رجال العلم، ومن المختصين في اللغة العربية. والمشهود له بذلك، وطبعت كل آثارهم والحمد لله، إلى جانب مهنة المحاماة، مهنةُ المحاماة بالذات قاسية، فكنت أستقطع من الوقت ساعات حتى استطعت أن أجمع هذا التراث خلال أربعين سنة، والحمد لله على هذا.
المذيع: ما علمته من خلال قراءاتي: أن فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين كان قد ترأس تحرير مجلات عديدة في تونس، وفي مصر، ومن أهم هذه المجلات مجلة "الهداية الإسلامية".
الحسيني: أخي الكريم! الشيخ محمد الخضر حسين متعدد المواهب، فإن شئت أن تقرأه صحفيًا، أو فقيهاً، أو مفسراً، أو محدثاً، أو شاعراً، أو لغوياً، أو رحّالة، أو ما شئت قل فيه من الأوصاف؛ فقد وهبه الله هذه الخصال، وعمل عليها بإخلاص، لذلك نجح في حياته.
أما بالنسبة -حسب طلبك- للنواحي الصحفية، فهو أول ما بدأ بالعمل الصحفي، أصدر مجلة "السعادة العظمى" في تونس، أول مجلة صدرت في المغرب، وصدر منها واحد وعشرون عدداً، وتوقفت لأسباب ما جابهه به التقليديون من الشيوخ القدماء؛ لأنه حاول أن يجعل منها دورية إصلاحية، فجابهوه لهذه الناحية؛ مما أدى إلى توقفها، هي لم تغلق، ولكن توقفت؛ مما اضطره إلى الهجرة بعدها إلى الشرق.
ليس إغلاقها هو العامل الوحيد، هناك أسباب أخرى دعته إلى الهجرة إلى الشرق؛ لأنه حاول خلال إقامته في مدينة "بنزرت" كقاضٍ. نزل إلى تونس، وألقى في (جمعية قدماء الصادقية) محاضرة عنوانها:"الحرية في الإِسلام"، وختمها بالحديث عن الاستبداد، فما بالُكَ برجل في عهدِ محتلٍّ قاسٍ غاشم، يتحدث عن الحرية، ويدعو إلى مقاومة المحتل؟! مما جعل عيون المحتل تراقبه، وتضغط عليه، وتلاحقه، في الواقع هذا السبب الأول في انطلاقه إلى الشرق.
لأنه كان يرى أن همته أوسعُ من تونس، ورسالته تضيق في هذا البلد،
فأحب أن ينطلق إلى آفاق، كما قال في مقدمة ديوانه الشعري "خواطر الحياة".
أما بالنسبة لتتمة أعماله الصحفية، أول عمله في مصر كان رئيساً لتحرير مجلة "نور الإِسلام"، والتي هي مجلة الأزهر منذ العدد الأول، وصدر منها أربع سنوات، كان يحرر الافتتاحية، وله مقالات هامة فيها، وفي هذه الأثناء أسس مجلة "الهداية الإِسلامية"، و (جمعية الهداية الإِسلامية)، وصدرت المجلة على مدى ثلاث وعشرين سنة، حتى قيل في مجلة "الهداية الإِسلامية" من كثرة ما كتبت عن المغرب: هذه ليست مجلة مصرية عربية، هذه مجلة مغربية عربية، حتى إن أحد الكتاب المصريين أطلق عليه لفظ:(ابن خلدون عصره)، هذا الرجل هو ابن خلدون عصره.
وإذا رجعنا الآن إلى مجلدات "الهداية الإسلام" فإننا نجد أنه لا يخلو عدد من الأعداد من الحديث عن المغرب، سواء لترجمة رجل من الرجال، أو لوصف جغرافي، أو تاريخي، (مسقطُ الرأس غالي) كما يقولون.
ثم عمل في مجلة "لواء الإِسلام" التي أصدرها السيد أحمد حمزة، وقال في مقدمتها: عندما شاءت الإرادة الإلهية أن نباشر في إصدار هذه المجلة، لم نجد علماً من الأعلام سوى الخضر حسين لترؤُّس هذه المجلة. دام في هذه المجلة حتى عام 1952 م عندما استلم مشيخة الأزهر، وبرغم هذا، لم يتخل عن وفائه لمجلة "لواء الإِسلام"، إنما استمر في الكتابة بها حتى وفاته عام 1958 م.
حتى في السنة التي توفي فيها كتب مقالاً، وما زال مستمراً على هذا، وتوفي عندما سقط القلم من يده.
هؤلاء هم أهل الإيمان والفكر الإِسلامي كما ترى.
المذيع: نتحول إلى الدكتور كمال عجالي، مهتم بالحضارة الإِسلامية والأدب، وله دراسة حول الطيب العقبي.
لما أصدر عميد الأدب العربي طه حسين كتابه: "في الشعر الجاهلي"، لم يجد من يردّ عليه في تلك الأثناء -أثناء حياته- إلا العلامة محمد الخضر حسين، هل هي ثقة بالنفس؟
الدكتور عجالي: في الحقيقة هناك بعض الأسماء التي حاولت الرد على طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، ولكن البحث الحقيقي، أو البحث الذي اعترف به طه حسين، واعترف بنزاهته وموضوعيته، وبحيادية صاحبه هو كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لمحمد الخضر حسين، هذه بشهادة طه حسين، هو الكتاب الذي اعترف بموضوعيته، أما بعض الردود الأخرى، فكان يعتبرها من قبيل التهريج، أو الاندفاع، أو من قبل العواطف، كان ينظر إليها أنها عاطفية أكثر منها عقلانية أو علمية بمعنى الكلمة.
المذيع: دكتور مجاهد توفيق الجندي. . . يقال: إن العلامة محمد الخضر حسين كان نابغة؛ لدرجة أنه لما بُعث في بعثة علمية إلى ألمانيا، كان قد أتقن اللغة الألمانية في ظرف وجيز. ما المسوغ الذي جعله يترأس الأزهر، هل هي الغزارة في العلم؟
هل هي موسوعيته؟
الدكتور الجندي: الشيخ محمد الخضر حسين كان موسوعة، كان من العلماء الموسوعيين، نجده فقيهاً، نجده أديباً، نجده سياسياً، نجده كاتباً، ناقدًا، صحفيًا، متعدد المواهب. وقد خصص نفسه للعلم، ليس عنده مشاغل
أخرى؛ حيث إنه لم ينجب أولاداً (1)، وكان أبناؤه هي الكتب، زوجته ساعدته في حياته؛ بحيث إنه لا يحمل همَّ أي شيء. تزوج من مصر الحاجه زينب مدكور من قبيلة النجمة التي تقطن منطقة الهرم، وجلس معها ثلاثين سنة، وبرغم أنها كانت عاقراً، لم يتزوج عليها، وعاشا سوية عيشة هنية، وبعد وفاتها تزوج ابنة أختها الموجودة الآن الحاجة انشراح مدكور، وابنُها المستشار أحمد البطران رئيسُ محكمة جنوب القاهرة. وهذه جلستْ معه خمس سنوات.
أما كونه قد تعلم اللغة الألمانية، فقد تعلمها فعلاً في ثمانية شهور، وهذا يدل على ذكائه، وعلى عظمة هذه الرجل. ونرجو الله أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويسكنه فسيح جناته.
وقد دخل إلى جماعة كبار العلماء في كتاب هو رسالة قيمة "القياس في اللغة العربية". هذه الرسالة دخل بها بجدارة إلى جماعة كبار العلماء، وهيئةُ كبار العلماء في الأزهر هيئةٌ أُنيط بها تحديث الأزهر الشريف، وإدخال العلوم الحديثة في الأزهرة يعني: هيئة كبار العلماء هذه خصصت لتحديث الأزهر الشريف؛ بمعنى: أن الشيخ الفلاني يدرس الرياضة، والشيخ الفلاني يدرس الكيمياء، اختيروا اختياراً، والشيخ محمد الخضر حسين كان من هؤلاء العلماء العظماء.
وقد حصل على الجنسية المصرية، أعطاها له الملك فؤاد؛ لأنه عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه "الإِسلام وأصول الحكم"، نقض الشيخ
(1) أنجب من زوجته الأولى في تونس بنتاً فقط.
محمد الخضر حسين هذا الكتاب، وردَّ عليه رداً مفحماً، وبهذا الرد عطف عليه الملك فؤاد؛ لأن الملك فؤاد كان يريد أن يكون خليفة بعد إسقاط كمال أتاتورك للخلافة.
بهذه الجنسية، وبدخوله جماعة كبار العلماء، اختارته الثورة المصرية لمشيخة الأزهر الشريف. . . حيث زاره ثلاثة وزراء، فيهم: الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان وزيراً للأوقاف في ذلك الوقت، وكان صديقاً للشيخ الخضر، بالإضافة إلى أن أعضاء مجلس قيادة الثورة كان معظمهم معه في (جمعية الهداية الإِسلامية).
المذيع: أعود ثانية إلى ندوة هؤلاء العلماء التي تجمعني بهم. ومعنا في هذه الجلسة -الدكتور مجاهد توفيق الجندي- والأستاذ علي الرضا الحسيني، شاعر، وأستاذ باحث، ابن شقيق المحتفى به، وكان قد جمع آثار العلامة محمد الخضر حسين- ومعنا الدكتور كمال عجالي أستاذ في جامعة "باتنة"، والمختص بالحضارة الإِسلامية والأدب. مرحباً بكم إذن لأعود إلى الأستاذ الدكتور كمال عجالي.
دكتور عجالي! يقال: إن كتاب "القياس في اللغة العربية" هو درّة نادرة
في هذا الظرف؟
الدكتور عجالي: طبعاً كما قال السادة الأساتذة، الشيخ محمد الخضر حسين لغوي بمعنى الكلمة، وهو جدير بهذا المعنى، وقد ألف كتابه هذا "القياس في اللغة العربية" ليبين أن اللغة العربية قادرة على أن تستوعب العصر، وتستوعب مستجدات العصر، وهذا المقصود من الكتاب.
وقد تقدم به كبحث لينال به درجة أحد كبار علماء مصر، وعندما ناقشه
السادة الأساتذة، وكان على رأسهم الأستاذ عبد المجيد اللبان -كما قال الدكتور توفيق- على أن الأساتذة أو اللجنة عندما ناقشت الرجل، وسمعت منه ما طرحه في الكتاب من آراء، ومن نظرات، ومن آفاق للغة العربية، ومن رؤى ثاقبة، قال رئيس اللجنة: هذا بحر لا ساحل له، فكيف ندخل معه في لجاج، أو كيف ندخل معه في حجاج؟! هذا اعتراف من اللجنة، ومن رئيس اللجنة على أن كتاب "القياس في اللغة العربية" كتاب فريد من نوعه، ومن حسن الحظ أن الجزائر شاركت في طبعه، وهي الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وأنا عندي نسخة منه، قرأته مرات عديدة، هذا الكتاب جدير بالقراءة للمتخصصين، وغير المتخصصين.
المذيع: أعود إلى الأستاذ علي الرضا الحسيني.
العلماء، أو أغلب العلماء يُزَجّ بهم في السجون، فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين كان قد زُجّ به في السجن، هلّا حدثتنا عن هذا؟
الحسيني: زُجّ به في السجن في عهد السفاح جمال باشا، وكان الشيخ في مجلس علمي، ويظهر أن أحد المحامين من مدينة طرابلس بلبنان كان حاضراً هذا المجلس، وتحدث عن تشكيل ناد، أو بمعنى جماعة لمقاومة الخلافة العثمانية، أو مقاومة الحكم، هذا الخبر انتقل إلى البوليس التركي، فألقي عليه القبض، وزُجّ به في السجن. وكان السجن في مدينة دمشق، في (خان مردم بك)، وهو الآن سوق تجاري وكان من رفاقه في السجن: المرحوم الرئيس شكري القوتلي رئيس أول جمهورية في عهد الاستقلال، وسعدي بك الملا، وفارس الخوري رئيس الوزراء، وأقام في السجن مدة ستة أشهر، أو يزيد، وما اشتكى من اضطهاد أو تعذيب أو قلة طعام، وإنما اشتكى من
عدم وجود قلم كان يحتاج إليه ليكتب حتى في السجن، ومنعوا عنه الورق. . . قال:
غلَّ ذا الحبْسُ يَدي عن قَلَمٍ
…
كانَ لا يَصحُو عن الطِّرْسِ فَناما
أنا لولا هِمَّةٌ تَحْدو إلى
…
خِدْمةِ الإِسلامِ آثَرْتُ الحِماما
وله بعض أبيات جميلة قالها في السجن عندما جرى نقاش مع الأستاذ سعدي بك الملا الذي أصبح رئيساً للوزراء في لبنان؛ عن أيهما أفضل: البداوة، أم الحضارة؟ وكان الشيخ برأيه أن الحضارة نوع من المدنية، وأما بالنسبة للبداوة، فكان الشيخ قد عاش أول حياته في "نفطة"، وتأثر بالجو الريفي البدوي، وقال شعراً:
جَرى سَمَرٌ يومَ اعْتُقِلْنا بفُنْدُقٍ
…
ضُحانا به لَيْلٌ وسامِرُنا رَمْسُ (1)
وقالَ رَفيقي في شَقا الحَبْسِ إنَّ في الْـ
…
ـحَضارةِ أُنسًا لا يُقاسُ بهِ أُنْسُ (2)
فقلتُ لَهُ: فَضْلُ البَداوةِ راجحٌ
…
وحَسْبُكَ أن البَدْوَ لِيْسَ بهِ حَبْسُ
المذيع: طيب أستاذ حسيني. حدثتنا عن العلّامة محمد الخضر حسين كعالم، ولم نتحدث عنه كشاعر.
الحسيني: الشيخ الخضر شاعر رقيق، قوي السبك، إذا تصفحت ديوانه "خواطر الحياة"، تجده طرق كل فنون الشعر ما عدا الغزل، وقد حَقَّقته، كما حَقَّقه الأستاذ محمد علي النجار من الشيوخ في الأزهر، وأستاذ
(1) الرمس: القبر مستوياً على وجه الأرض.
(2)
رفيق الحبس: الأستاذ سعدي الملّا الذي كان سكرتيراً لشكري الأيوبي وقت الاعتقال، ثم أصبح رئيساً للوزارة اللبنانية.
اللغة العربية فيه. كما نجد في الديوان أبياتاً لا تصدر إلا عن شاعر ذي حس صادق.
لقد قرأت في شعره من أجمل ما قرأت في حياتي، وأنا محب للشعر، وأقوله في بعض الأحيان. لنستمع إلى قوله:
وغلامٍ قرَّبَ السّاعةَ مِن
…
أُذْنِه يَسْمعُ منها النَّقَراتِ
قَالَ ما في جَوْفِها قلتُ له
…
سوسةٌ تقرُضُ أيامَ حَياتي
المذيع: طيب أستاذ حسيني. لا شك أن العلامة محمد الخضر حسين من خلال بيت نرصده له يقول:
ولولا ارْتياحي للنّضالِ عن الهُدى
…
لَفتَّشْتُ عن وادٍ أعيشُ به وَحْدي
في الشطر الثاني يظهر أن العلّامة يجنح إلى الاعتزال بعض الشيء.
الحسيني: لا أستطيع أن أفهم هذا البيت من هذه الوجهة، كان الشيخ اجتماعياً واعتزالياً، هو اجتماعي مع رجال الحق، مع الشيوخ الكرام، مع السياسيين الأباة كان اجتماعيًا. أما عندما يجد أن هذه الطبقة لا تناسبه، فكان يعتزل.
ثم إن الشيخ لا يجلس في مقهى، ولم يدخل في نادٍ، كان همه خدمة الإِسلام، يتنقل من داره إلى (جمعية الهداية الإِسلامية)، إلى كلية أصول الدين، ثم يعود إلى داره، هذا برنامجه اليومي تقريباً.
المذيع: الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق! إذا تتبعنا أعمال العلامة محمد الخضر حسين التي تهتم بالشريعة الإِسلامية، فإننا نرصد أن هذه العلامة كان يهتم بالجانب الإصلاحي. وفي تصوري أن هذا الإحصاء الأولي: الحرية في
الإِسلام -الدعوة إلى الإصلاح- رسائل الإصلاح. هذه كلها عناوين لهذا العلامة. لا شك أنه كان يدعو إلى الإصلاح كثيراً. . . ربما هو امتداد لبعض العلماء الذين سبقوه؟
الدكتور الجندي: بالطبع. هو عالم جليل، عالم موسوعي، كان امتداداً للإمام محمد عبده، بل أنا شخصياً أعتبره مثل الإمام محمد عبده، وربما يفوق الشيخ محمد عبده في سفرياته إلى ألمانيا، وأعماله الأخرى.
إن الإمام محمد عبده ذهب لزيارة إيطاليا وفرنسا، وزار جزيرة إلى جانب إيطاليا التي أصوله منها، ولعلها ليست على ذاكرتي الآن. فالشيخ محمد الخضر حسين -أيضاً- طوّف في سويسرا، وألمانيا، وتركيا، وبلاد الشام، وبلاد المغرب، وزار الجزائر أكثر من مرة، كل هذه دعوات للإصلاح، كل هذا في سبيل نشر العلم، وفي سبيل إصلاح أحوال الأمة الإِسلامية، وإنقاذها من رقدتها؛ لتحارب وتواجه الاستعمار الفرنسي، والاستعمار الإنكليزي، وهذا الرجل يعتبر فلتة من فلتات الزمن، لا يجود بها الزمن كثيراً.
المذيع: نعود إلى الدكتور الأستاذ كمال عجالي.
لا شك أنكم درستم الحركة الإصلاحية في الجزائر، وما جلب انتباهي: أن الرجلين: عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد الخضر حسين كانا إصلاحيين، وكانا قد درسا على العلامة الشهير محمد الطاهر بن عاشور، لعل هذا الأصل هو الذي جعل الرجلين يتفرغان في مذهب الإصلاح إن صح القول؟
الحسيني: أريد أن أصحح في السؤال؛ فالإمام لم يدرس على الشيخ
محمد الطاهر بن عاشور، بل كانا زميلين معاً في الدراسة. والشيخ ابن باديس درس عليهما. أردت فقط أن أوضح هذا.
الدكتور عجالي: في الحقيقة -كما قال السادة الأساتذة- الشيخ محمد الخضر حسين رجل متعدد المواهب، ومتعدد الوظائف؛ كان رجلاً سياسياً، وكان رجلاً إصلاحياً، وكان رجل دين، كان لغوياً، كان شاعراً، كان صحافياً، رحّالة.
وبالنسبة لقضية الإصلاح عند الشيخ محمد الخضر حسين، أنا درست ديوانه "خواطر الحياة"، لا أقول: إني درسته، بل ألقيت عليه نظرة، فوجدت أن الرجل كان يدعو إلى الإصلاح، والتمسك بالأصول من صحيح الدين المتمثلة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية الشريفة، ويدعو إلى الرجوع لهذه الأصول. . . في نفس، الوقت كان -أيضاً- من الذين لا يمانعون من الأخذ من الحضارة، ومن مظاهر المدنية المعاصرة، وبالتالي كان الرجل رجل إصلاح، ورجل انفتاح، وبالتالي كان يدعو إلى الأخذ بالأصول، والأخذ بمستجدات الحياة. وهذه هي نفس النظرة التي دعا إليها الشيخ محمد عبده، ونفس النظرة التي تبناها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، ومنهج (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). فالرجل كان إصلاحياً بمعنى الكلمة، ولا جدال في هذه النقطة.
المذيع: طيب، الأستاذ علي الرضا الحسيني! ما علمتُه من حضرتكم؛ أن العلامة محمد الخضر حسين يتقن ثلاث لغات أجنبية، هل تحدثنا عن تمكنه وبراعته في إتقان هذه اللغات؟
الحسيني: حسب ما وصلتُ إليه من وثائق أثناء تحقيقي في موضوع
الشيخ: أنه درس الألمانية في برلين عندما قام هناك بأعمال مجيدة، وهي في الغاية: تأليب الجنود المغاربة الذين وقعوا في أسر الألمان؛ ليجندهم للحرب ضد فرنسا في المغرب العربي.
ووجوده في ألمانيا لمدة ستة أشهر في زيارته الأولى، ثم ولمدة أربعة أشهر ويزيد في المرّة الثانية، أتقن اللغة الألمانية على يد مستشرق ألماني اسمه (هاردر)، وأسس مسجداً في برلين، وألقى به خطاباً، يقال: إنه بعد الخطاب ألقاه باللغة الألمانية.
ثم في تركيا عُين في ديوان وزارة الحربية عند أنور باشا، كان هو صديقاً له في ديوان اللغة العربية، فكان مضطراً أن يدرس اللغة التركية، فدرَسها وأتقنها.
ثم في أواخر أيامه، عندما أسس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) في مصر، ومهمتها عبارة عن حرب ضد فرنسا، والدعاية ضدها، فأتى بمصري يتقن الفرنسية، وعلمه اللغة الفرنسية حتى أتقنها.
الشيخ لا يتبجَّح، ولا يُكابر، لا يقول في أي مجلس كذا وكذا، ولكني سمعت ممن أثق بدينه وبقوله أن الشيخ يتقن هذه الثلاث لغات.
المذيع: طيب، أستاذ رضا الحسيني! أنت كنت ملازماً للشيخ محمد الخضر حسين، هل كان يتردد عليه بعض العلماء -مثلاً-؟
الحسيني: يا أخي! أنا لم أكن مقيماً معه، إن إقامتي في دمشق مع الوالد زين العابدين، إنما التقيت بالشيخ عندما استلم مشيخة الأزهر، وأقمت لديه شهراً. وكان يأتينا بين سنة أو ثلاثة إلى دمشق للاصطياف وللتنزه، والترويح عن النفس؛ يعني: يمكن أن أجمع لك الأيام بالنسبة للشيخ بما لا تتجاوز
أربعة أو خمسة أشهر. ولكن عرفت كل شيء عن الشيخ؛ لأن الشيخ لا يخفي شيئاً عن الناس، تراه على طبيعته.
والسادة العلماء يعرفون أكثر مني عن العلماء الذين يترددون عليه في مصر. والشيخ لا يستقبل أحداً في داره. في السيدة زينب شقة تتألف من غرفتين، وفسحة صغيرة، كانت لا تتسع أن يستقبل فيها أحداً، كان يأتيه كبار القوم من العالم الإِسلامي، فكان يتفق معهم على موعد في (جمعية الهداية الإِسلامية)، يستقبلهم هناك مساء، وإذا دعاهم، يدعوهم إلى مطعم، أو يأتيهم بالطعام إلى (جمعية الهداية الإِسلامية). ما كان يستقبل أحداً في بيته.
وعندما استلم مشيخة الأزهر، أصبحت داره أوسع في شارع صفية زغلول، فيها أربع أو خمس غرف. حتى يقال: إن الحبيب بورقيبة عندما فرَّ من تونس إلى مصر، أوقفوه في السلّوم، فقالوا له: من أنت؟ قال لهم: أنا الحبيب بورقيبة، واتصل بالشيخ الذي اتصل بدوره باللواء صالح حرب باشا، كان وزيراً للداخلية وقتها، وكان صديقاً للشيخ. وكان كبار عظماء الرجال في مصر -كما تفضل الأستاذ الجندي- كانوا من أصدقاء الشيخ. كثير من أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا أعضاء في (جمعية الهداية الإِسلامية)، ليسوا بأعضاء عاملين، بل أعضاء مؤازرين. اللواء محمد نجيب كان يترد على الشيخ باستمرار، فلما قامت الثورة، استدعي الشيخ لتسلم مشيخة الأزهر. وكانت (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية) إحدى حركاته النضالية. ومقرها في (جمعية الهداية الإِسلامية)، وكثير من الجزائريين فيها، وكان الفضيل الورتلاني هو الأمين العام للجبهة، والمكي الشاذلي.
أنا عندي الآن وثائق للفضيل الورتلاني أكثر من خمسين مقالة يتحدث فيها عن نضال الجزائر، والقضية الجزائرية، وله كتاب "الجزائر الثائرة"، كتبها في جريدة "المنار"، وكانت تصدر بدمشق.
المذيع: إن الفضيل الورتلاني الذي تحدث عنه الأستاذ علي الرضا الحسيني هو من أكبر المجاهدين، وعضو في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين).
وأخيراً: شكراً للسادة المشاركين في هذه الندوة.
على هامش الملتقى
ندوة إذاعية (1) الدكتور عمار الطالبي - الأستاذ محمد الهادي الحسني الدكتور نجيب بن خيرة - الدكتور محمد مواعدة الدكتور مولود عويمر
المذيع مقدم الندوة: مرحباً بكم إلى هذه الندوة التاريخية العلمية، التي نتناول من خلالها جوانبَ من شخصية العلامة التكلامة محمد الخضر حسين الطولقي الجزائري.
ها هو ذا مساء آخر يفتح أكمامه، ويلقي عصاه في بحر آخر من بحور المعرفة؛ بحثاً عن الحقيقة التاريخية، وما يحوطها من أسرار.
يتجدد الموعد إذن في موسم من مواسم العودة إلى مدن الجنوب، في عرس معارفي تحييه نواميس الحياة، فنجلس معاً في حضرة العلماء، ونتناول ما لذّ وطاب من علم ومعرفة.
أهلاً بكم إلى هذه الجلسة الأثيرية، وهذه الندوة التاريخية العلمية التي يحضر من خلالها معنى:
- فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور عمار الطالبي أستاذ بجامعة الجزائر.
(1) ندوة إذاعية على الهواء مباشرة من الإذاعة الجزائرية في مدينة "بسكرة" على هامش الملتقى. مساء يوم 27/ 12/ 2007 م.
- الأستاذ محمد الهادي الحسني.
- الدكتور نجيب بن خيرة أستاذ في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة.
- الدكتور محمد مواعدة، خبير لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة من تونس.
- الدكتور مولود عويمر أستاذ بجامعة الجزائر.
نتحول إلى فضيلة الشيخ والعلامة الدكتور عمار الطالبي من جامعة الجزائر؛ لنضع هذا السؤال: حياة اللغة العربية -الخطابة عند العرب- القياس في اللغة العربية - دراسات في العربية وتاريخها. هذه العناوين هي للعلامة محمد الخضر حسين. هل هو شعوره القوي بالانتماء؟ الهوية؟ أم دافع التوسع والتطلع إلى مجالات أخرى، واختصاصات أخرى غير الشريعة، جعله يهتم باللغة العربية بهذا الشكل؟
الدكتور الطالبي: إذا ما درسنا أعمال العلامة محمد الخضر حسين من جوانبها اللغوية، فإنا نجده ينشط في هذا المجال لسببين:
السبب الأول: هو سبب نضالي، ودفاع عن اللغة العربية في عصر حوصرت، وضيَّق عليها الاستعمار، وخاصة في الجزائر، وإن كانت تونس بقيت بمنجاة عن كثير مما حلّ بالجزائر من الطمس والاندثار، ويدافع الدفاع عن اللغة العربية وعن وجودها؛ باعتبارها وسيلة لفهم القرآن الكريم، ولفهم الإِسلام، فهو يدافع عنها بكل ما لديه من قوة.
والسبب الثاني: هو دافع علمي، لذلك إنه في أول حياته كان شغوفاً بالدراسات اللغوية والعربية وآدابها، ثم بعد ذلك وقع له تحوّل أساسي، انصرف إلى علوم الشريعة بأسلوب جديد غير الأسلوب التقليدي الذي كان
يألفه الناس في عصره؛ من اختصار الخليل، وشروحه، وحواشيه. والذي نبهّه إلى هذا: هو أبو بكر بن العربي، حينما قرأ مؤلفاته، فهو يدرس الشريعة بذوق عقلي إن صح التعبير، وهذا التعبير قاله ابن رشد: الذوق العقلي، ولم يستعمله غيره؛ لذا أعجب بأسلوب أبي بكر بن العربي، وهو أسلوب قوي في اللغة العربية، وبأسلوبه في تناول الدراسات الحديثية، والدراسات الفقهية، وتفسير القرآن، فانصرف إلى هذا الجانب.
ولكنه لم يتخلّ عن اللغة العربية؛ بدليل أنه لما تقدم إلى جماعة كبار العلماء في القاهرة، قدّم هذا الكتاب، وهو:"القياس في اللغة العربية"؛ لينال به هذه العضوية، التي تشترط بصاحبها أن يقدم بحثاً جديداً فيه أصالة، وفيه تظهر شخصية الباحث، فنال هذه الدرجة لإجماع الذين قبلوا عضويته في هذه الجماعة.
وكذلك الدراسات اللغوية الأخرى انتهى إليها بدافع علمي، وهي الدراسات التي قدمها لمجمع اللغة العربية في القاهرة، وكان عضواً فيه، وكذلك "المجمع العلمي العربي بدمشق. قدّم لهذين المجمعين أبحاثاً لغوية متميزة في وضع المصطلحات، سواء كانت تتعلق بمتن اللغة نفسِها، أو تتعلق بالمدارس الأخرى؛ بتصحيح الروايات التي تتحدث عن مشافهة العرب، واستعمالاتها، وأوضاعها في اللغة.
فهو لا يقبل إلا ما كان صحيحاً في سنده وروايته، ولا يقبل أقوال بعض علماء اللغة الذين لا سند لهم بالطريقة التي يراها هو صحيحة تصل إلى كبار المصادر والموارد اللغوية القديمة؛ كسيبويه، ونفطويه، والسكاكي، والأخفش، ومن إليهم من كبار العلماء.
هو جال جولة عظيمة، ودافع عن اللغة العربية، وعن الشعر الجاهلي ضد طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"؛ لأنه شكَّ في هذا الشعر أنه منحول، ونسب إلى الجاهليين، ولا يمكن أن يستعمل في فهم القرآن؛ لأنه ليس مصدراً موثوقاً به، وهذا ما دفعه للدفاع عن اللغة العربية، والدفاع عن الشريعة في "نقض كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين"، وهو ليس أمراً سهلًا أن تعارض شخصية مثل هذه الشخصية الأدبية اللغوية، الأمر ليس من السهولة في مكان. ولكنه اقتحم، ومع أنه في مصر وليس مصرياً، بمعنى الكلمة، ومع ذلك اقتحم ذلك بجرأة، ولم يخش إلا الله.
وكذلك في كتابه "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، وإن كان الجانب الشرعي غير الجانب اللغوي.
المذيع: أفهم من كلامكم هذا -فضيلةَ الدكتور-: أن العلامة محمد الخضر حسين أراد أن يطبق علمَ الجرح والتعديل على الأسانيد اللغوية؟
الدكتور الطالبي: منهجهُ هو منهج المحدثين في التوثق من رواية الأخبار والمتون اللغوية، أو المتون الحديثية. ولذلك نجده في تراجمه للرجال يعتمد على منهج المحدّثين أكثر مما يعتمد على منهج المؤرخين؛ لأن المؤرخين -كما تعلم- يتساهلون فيما لا يتساهل فيه أهل الحديث؛ لأن الحديث يترتب عليه أحكام شرعية، ولذلك يشترطون شروطاً قاسية ومضبوطة حتى يقبلوا رواية من الروايات. أما المؤرخون، فلا يترتب على الأخبار التي ينقلونها، والروايات التي يوردونها أشياء خطيرة، إلا في أخبار الفتن التي وقعت بين الصحابة، والأحداث الكبرى التي تحيط بالأمة. وسلك في هذا منهجاً هو في الحقيقة منهج أبي بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم".
أنكر كثيراً من الروايات التاريخية، ولم يصدق إلا ما رواه الطبري، والثقات من المحدّثين؛ لأن السيرة -مثلاً- إما أن نأخذها من كتب التاريخ، وإما أن نأخذها من كتب الحديث، فالسيرة الصحيحة إنما تعتمد على السند الحديثي، وهو أكثر وثاقة من السند التاريخي، والمحدثون هم ابتدعوا هذا الطريق، وهذا المنهج النقدي، ثم تبعهم بعد ذلك المؤرخون، حتى الأدباء يروون النصوص الأدبية بطريق السند. أظن أن هذا منهج متشدد فيه.
المذيع: نتحول إلى الدكتور محمد مواعدة: لا شك أن الشيخ محمد الخضر حسين كانت نشأته الأولى في "نفطة" من الجنوب التونسي، ومعلوم أن هذا العلامة كان موسوعياً متعدد المواهب، كان شاعراً، مفكراً، رجل دين، وكان إعلامياً.
بتصوري هل هذه المواهب كانت قد تشكلت مع إقامته الأولى في الجنوب التونسي، أو في تونس بالأحرى، وحتى درس في جامعة الزيتونة؟
الأستاذ مواعدة: أشكر إذاعة "بسكرة" على هذا اللقاء الحميم مع نخبة من المثقفين من الجزائر الشقيقة، ومع نخبة ليست فقط مهتمة بالشيخ محمد الخضر حسين، بل مهتمة بقضية الهوية والانتماء.
الملاحظة الأولى: أن قيمة الشيخ محمد الخضر حسين هو بحر، وكما قال أحد الإخوان في الندوة: هو رجال في رجل. ولكن أقول شيئاً آخر: إنه من الشخصيات العديدة بين الجزائر وتونس التي وحَّدت، تجاوزت الحدود المصطنعة الاستعمارية، وأكدّت أن هذه الشعوب هي شعب واحد، هي أمة واحدة.
ومن "طولقة" كأصول، إلى "نفطة" نشأة وتكوين، إلى تونس، إلى
الأزهر؛ يعني: أنه أصبح رجل الأمة الإِسلامية انطلاقاً من إطار محدود جداً. هذا نوع من الشخصيات التي تتجاوز الإطار الجغرافي إلى الإطار الحضاري.
الذي أثر أولاً في شخصيته، أعتقد: الأساس الجذور، هو مثل النخلة، النخيل جذورها عميقة، ورؤوسها في السماء مرتفعة إلى أبعد الحدود، وهذا هو نوع الشخصية التي يرمز إليها الشيخ الخضر حسين.
لا شكَّ أن انتماءه إلى جذوره له أثره: الشيخ مصطفى بن عزوز جدّه لجهة الأم، وعلي بن عمر من جهة الأب، العائلة في جذورها في مدينة "طولقة" بسكرة عاصمة الزيبان، له أهمية كبيرة أن ينشأ الإنسان في عائلة محاطة بجو ديني شرعي، ثم باهتمام لغوي. والاهتمام اللغوي -كما قال الدكتور عمار- هو أساس الاهتمام بالنصوص الدينية.
وحوله خاله المرحوم الشيخ محمد المكي بن عزوز في "نفطة".
قلت للإخوان ونحن أطفال صغار، ونسمع بالشيخ محمد الخضر حسين، ومن منا لا يزور زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز؟!. ونعرف أن الشيخ مصطفى ابن عزوز جاء من منطقة "طولقة"، والعائلة كلها منحدرة منها.
إن العلاقات العائلية بين "نفطة" في الجريد -مثلاً- وبين هذه المنطقة -الزيبان- علاقات لا تحصى. بل يستحيل أن لا تجد هنا وهناك عائلة من هنا وهناك.
المذيع: حتى بعض العلماء هنا -في منطقة الزاب الكبير-، كانوا قد درسوا في "نفطة"، ومنهم: العلامة الشيخ العربي التبسّي، وغيره. ومؤسس (زاوية الهامل).
الأستاذ مواعدة: صحيح، كثيرون من الجزائريين تلقوا العلم في زاوية "نفطة". ثم بعد ذلك البيئة التي عاشها في "نفطة"، وتسمى: الكوفة الصغرى في ذلك الوقت نتيجة الدروس والمعاهد العلمية. عندنا مثل يقول: بين كل جامع وجامع هناك جامع، وبين كل مسجد ومسجد هناك مسجد. وهذا طبعاً له تأثيره.
ثم الانتقال إلى جامع الزيتونة في تونس في المرحلة الموالية، مع إخوته بطبيعة الحال. والعائلة انتقلت إلى تونس للتمكين، والمزيد من التعمق في جامع الزيتونة. وقد سبقه قبل ذلك خالهُ الشيخ محمد المكي بن عزوز، والعديد من أقاربه.
عاش الشيخ الخضر، واستفاد من ذلك الجو العلمي، وليس فقط العلمي، بل العلمي والأدبي؛ لأنه هو يذكر عن نفسه في تاريخه: أنه من الطفولة اهتم بالشعر، وبدأ يقول الشعر، ويقول: عندما كبرت، اهتممت بالجانب العلمي أكثر من الجانب الأدبي الذوقي الشعري، إضافة إلى الجانب الأدبي، وإضافة إلى الجانب العلمي. ووصل في جامع الزيتونة إلى درجة رفيعة -كما هو معلوم - فهو من كبار علماء جامع الزيتونة، قبل أن ينتقل -طبعاً- إلى الشرق.
ومن المعلوم: أنه أحدث أول مجلة عربية في الساحة المغربية، هي مجلة "السعادة العظمى"، التي تعتبر نموذجاً لذلك الوقت، نموذجاً للمحتوى العلمي، ولمحتواها العقائدي والفكري، والمحتوى الأدبي. كانت تنشر الشعر، وكان في ذلك الوقت نوع من الشعر العصري الذي هو شعر رصين رقيق، ومن النوع الرفيع من حيث الصياغة، ولكن في الوقت نفسه من حيث
المضمون هو حداثي، يدعو للاستفادة من الجانب الحديث. وكانت من بين المجلات القليلة التي نشرت هذا النوع من الشعر الذي يسمى بالشعر العصري.
إذن. بيئته وأصوله وجذوره، ينتمي إلى عائلة لها قيمة في "طولقة" منها أجداده وأخواله. ثم البيئة في "نفطة" هي نفس البيئة -تقريباً- مع البيئة في المدينة التي عاش فيها، كل ذلك له تأثير كبير جداً، وله تأثير -فيما بعد - على مستقبله العلمي ومكانته.
المذيع: نتحول إلى الدكتور نجيب بن خيرة من جامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة:
بلا شك -دكتور نجيب - أن العالم أو الدارس الذي يستطيع أن يعلق ويشرح كتاب "الموافقات" للشاطبي، لا شك أنه وصل إلى هامة عالية من العلم، وما بلغني، وما أطلعت عليه: أن فضيلة الشيخ الخضر حسين كان قد علّق، أو لديه تعليقات على كتاب "الموافقات" في عام 1923 م؟
الدكتور بن خيرة: الحقيقة ما أجيب به لن يكون أكثر مما يقوله الدكتور عمار الطالبي، وهو متخصص في مجال الفقه والأصول والفلسفة. ما كتبه الشيخ الخضر حسين عندما كتب عن "الموافقات" للشاطبي، هذا دليل على الزاد الشرعي الذي كان يحمله من خلال الرحلة العلمية التي تلقاها عبر جامع الزيتونة، وقبل ذلك في الكتاتيب.
كانت المعارف اللغوية، والمعارف الفقهية التي تعتبر آليات لفهم علم الأصول. . . ونعرف أن الإمام الشاطبي كان من أواخر من كتب في المقاصد الشرعية، بعد أن استكمل دراسة علم الأصول، كتب كتاب "الموافقات" الذي
هو في مقاصد العلوم الشرعية. والذي يشرح هذا الكتاب يعني: ألمَّ بعلوم، الفقه، وأصول الفقه، والمنطق، ودلالة الألفاظ، وأقيسة اللغة. كل هذه درسها، وتمكن فيها، ورسخت قدمه في جوانبها، ثم بعد ذلك يتناول كتاباً مثل "الموافقات" للإمام الشاطبي.
وأظن أن هذه الكتابة، وهذا التخصص يأتي دائماً كتتويج للمعارف الشرعية التي يدرسها العالم، ويدرِّسها. وبعد جهد جهيد يؤلف في ميدان مثل ميدان المقاصد، أو يشرح كتاب "الموافقات" للشاطبي الذي نحن الآن في هذا العصر هناك "أطروحات دكتوراه" كثيرة في جامعات إسلامية في جوانب من الشاطبي. ولا يكتب عن الشاطبي إلا ضليع في الفقه والأصول. وليس في نظرية المقاصد فقط. والخضر حسين كان سباقاً في شرح "الموافقات" للشاطبي، وشرح الموافقات التي يلدّ فهمها إلا على الألبّاء من العلماء الفطاحلة والفقهاء.
الدكتور الطالبي: ما تفضل به بن خيرة. كتاب "الموافقات" طبع أول ما طبع في تونس، لجنة من العلماء صحّحوه على مخطوطات موجودة في تونس، ولكنه لما ذهب إلى مصر الشيخ محمد الخضر حسين، أراد أن ينشر هذا النص المحقق؛ لأن عبد الله دراز كان قد علق عليه، وطبعه، ولكن هذه النشرة يتولاها هو والشيخ بخيت المطيعي، وهو مفتي الديار المصرية، والذي أجاز الشيخ ابن باديس في منزله في حلوان.
أنا قرأت هذه التعليقات، وأعجبت بأسلوبه، ليس كأسلوب القدماء في التعليق، بل أسلوب حديث، وأسلوب التعبيرات السياسية، تشمّ منه رائحة النضال السياسي في أصول الفقه ومقاصده. تجد هذه التعليقات في غاية القوة،
وفي غاية الحداثة. لهذا يختلف تماماً عن تعليقات اللجنة التي حققته في تونس. وكان لهذا الكتاب الذي أوحى بالاهتمام به الشيخُ محمد عبده نفسه، وقدم له بمقدمات مهمة مع تعليقات، ولكن تعليقات الشيخ لها طابعها الخاص. كما لاتجاهه طابعه الخاص، ليس هو اتجاه البخيتي، والشيخ البخيتي مفتي وفقيه، ولكن طريقة القدماء. أما صاحبنا، فهو واقعي، عينه في الواقع أكثر من عينه في النص.
الدكتور بن خيرة: اطلعت بالأمس على مجلة "نور الإِسلام"، فوجدت أن مقالات الشيخ التي يستهل بها المجلة كلها في الأخلاق، وفي تربية النشء؛ لأن الجيل يتعرض للمسخ، والهوية تتعرض للطمس، فهو ليس لديه الوقت على أن يتتبع دقائق التفسير، ودقائق الأقوال والأدلة والمذاهب.
الأستاذ الحسني: ربما حصل في هذا الوقت التيار التغريبي، لم يستطع أن يواجه الأمة بالتنكر للإسلام مباشرة، وإنما هذا التيار بمصطلح المثالية: مثالية الإِسلام، والمقصود: أن هذا الكلام الذي تقولونه جميل جداً، لكنه لا يصلح للواقع، فكان الشيخ الخضر وغير الشيخ الخضر ردّ عليهم.
المذيع: الأستاذ محمد الهادي الحسني! باعتباركم أنكم إعلامي كبير، لا شك أنكم مهتمون بالجانب الإعلامي: فضيلة الشيخ الخضر حسين -إلى جانب أنه عالم- كان قد أسس بعض المجلات. . . مجلة "السعادة العظمى"، مجلة "الشبان المسلمين"، مجلة "نور الإِسلام"، مجلة "الهداية الإِسلامية"، وغيرها، وكنت اطلعت له على مقال له في مجلة "الهداية الإِسلامية" في المجلد السابع، كان قوياً في كتابته، وكان رقيقاً، كان إعلامياً يوصل المعلومة إلى قارئها من حيث لا يدري؟
الأستاذ الحسني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يظهر لي أولاً بالتعليق على "السعادة العظمى" حتى خاله محمد المكي بن عزوز قال له: هذه مستواها عالي كثيراً -عندما راسله-. لكن يظهر لي هناك أمران: يريدان أن يثبت؛ كما يقول المثل العربي: (إن في بني عمك رماحاً)، يريد أمرين: هذا تحليل، وليس نتيجة دراسة واستنتاج، يريد أن يضع المنبهرين بمجلة "المنار" أننا يمكن أن ننشئ منارنا هنا، ويمكن أن يضع الذين يعارضون اتجاهه وتياره بأن ما أعرضه عليكم فيه جدوى، وفيه فائدة من حيث المبنى، ومن حيث المعنى، يعني: من حيث الشكل، وإلا من حيث المضمون.
لكن صراحة نقول: إنني لم أطلع على كل ما كتب، لكن "السعادة العظمى" قرأتها من أولها إلى آخرها، والكثير منها استغلق عليَّ فعلاً، حتى الذين جاؤوا من بعده، وأتيحت لهم ظروف للانفتاح، لم يصلوا إلى مستوى دقة كثير من المقالات تقرؤها في الجرائد في الثلاثينات والأربعينات، لا ترقى أبداً لمستواها. ويبدو لي أن هذه اللغة مطواعة له، يكتب في الشعر، يكتب في الدين، يكتب في الأمور الاجتماعية، في الأخلاق، فمستواه لا ينزل، لا يُسِفّ، هذا يعني: أن فيه الاستعداد الفطري، وفيه اكتساب، الرجل درَس وقرأ. . . هذا درسٌ لنا ولأبنائنا الشبان: أن الثقافة لا تأتي من صحيفة، ولكن من أمهات الكتب، أن تقضي معها الأوقات. فتقدر أن تقول ما يقول ابن مالك على ابن معطي. حتى ولو الذين جاؤوا بعد الشيخ الخضر حسين نبغوا وكتبوا، ولكنه الرائد له الريادة، فهو أول من أصدر مجلة في شمال إفريقيا، ولذلك -كما قال ابن مالك- فهو مستحق التفضيلة بهذه الريادة. ولكن حتى الريادة، من طبيعة الأشياء: أن الرائد دائماً يكون عمله فيه نقص،
ولكنه كان في مستوى رفيع جداً وعالي.
وننبه على فكرة: الشيخ الخضر لم يدرس على الشيخ الطاهر بن عاشور، بل درسا معاً، وهما زميلان، وإنما الشيخ ابن باديس تتلمذ على الاثنين.
الدكتور الطالبي: الأسلوب الجديد عنده في الصحافة والكتابة نتحرى فيه أمرين: الأمر الأول: المحسنات اللفظية، والأسلوب اللفظي. والأمر الثاني: المضامين. مضامين جديدة تتناول الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والأخلاقية، والدفاع عن اللغة العربية. هذا شيء مهم، وحرر الصحافة بشمال إفريقيا بهذا الأسلوب، وابن باديس حررها هنا. وأتى بأسلوب جديد يخالف أسلوب القدماء. .
المذيم: الدكتور عويمر! كأني بالرجل يتقن الفنون الثلاثة: علم البيان، علم المعاني، وعلم البديع.
الدكتور عويمر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قضية الصحافة في المشروع الإصلاحي للشيخ محمد الخضر. هو لم يدخل الصحافة كصحافي، هو عالم ومصلح، واستغل هذه الآلة الجديدة التي ابتكرت في الغرب وسيلة يستطيع من خلالها أن يوصل أفكاره إلى شعوب، وإلى أقوام، وإلى المسلمين، لا يستطيع أن يحققها من خلال الكتب، أو من خلال المسجد. هذا الخطاب الذي يحمله يمكن أن يمر عن قناة ووسيلة أنجح.
وعندما يكتب الشيخ الخضر المقالة، يكتب وهو يحافظ على هويته، هويته المثلى، هوية العالم، هوية المفكر، ولا يتقمص شخصية الصحافي. بدليل: أن هذه الصحافة في الحقيقة هي صحافة علمية. هو لم يؤسس جريدة، هو أسس مجلة، المجلة هي علم، هي كتاب. المجلة طابعها أنها تحمل
مقالات ليست مقالات صحفية، ولكن مقالات علمية بشكل مبسط.
الأستاذ مواعدة: المجلة -أحياناً- كان يكتبها وحده كاملة. العدد الأول يحدد وجهة المجلة وسياستها. فنجده كتب العدد الأول كاملاً فيه مجموعة من الاستطلاعات، هو رجل كان يريد إصلاح المجتمع من خلال نظرته للشريعة. فاستعمل كل الوسائل: المجلة، والجرائد، والمحاضرات، والكتب، واللقاءات. في كل المجالس يتحدث عن الإِسلام، والشريعة، وإصلاح المجتمع. حتى اللقاءات الخاصة في البيوت، وإلي آخره.
المذيع: أتحول إليك الدكتور عويمر مرة أخرى. ما لاحظته من خلال أعمال الخضر حسين أنها تنقسم إلى شقين: هناك الجانب الإصلاحي الذي تناول الشريعة، وهناك الجانب اللغوي. وربما حذا في دربه هذا حذو محمد عبده، أليس كذلك؟
الدكتور عويمر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. في الحقيقة أن الشيخ محمد الخضر حسين ابنُ زمانه، لا يمكن أن نفصل أي عالم من زمانه، فليس هناك فاصل بين الاهتمام باللغة، وبين الاهتمام بالإصلاح، فاللغة هي وسيلة.
وكما تفضل الدكتور عمار الطالبي أن هذه اللغة كانت مهددة، لا ننسى أنه في فترة العشرينات والثلاثينات قامت صيحات داخل العالم العربي تنادي إلى القضاء على اللغة العربية، وتعميم ونشر العامية، وفيه جدال وسجال كبير في داخل الأزهر، وفي الساحة الثقافية العربية، وخاصة بعد أن حاول كمال أتاتورك أن يقضي عليها، ويضع اللغة اللاتينية بدل اللغة العثمانية المكتوبة بالحروف العربية.
إذن. فإن مسألة اللغة كانت مطروحة بقوة في العالم العربي، وهي
موضوع اشتغل به المصلحون، اللغة والهوية والتربية والتاريخ والقرآن والتفسير، كل هذه المواضيع دخل منها العلماء والمصلحون في بداية النصف الأول من القرن العشرين للاشتغال بالإصلاح، ومحاولة تغيير هذا المجتمع الإِسلامي.
فليس هناك فاصل بالاهتمام باللغة العربية؛ بحيث يهتم باللغة العربية فترة معينة، ثم يشتغل بقضايا اجتماعية وسياسية، ثم يعود إلى اللغة العربية، فلا أرى فاصلًا، وإنما فيه تكامل. هذه النظرة هي نظرة شمولية تكاملية إلى القضايا الأساسية المطروحة على الساحة الفكرية. . . وهذه هي رسالة المفكر، كلما طرحت قضية شائكة ومهمة في المجتمع، لا بدَّ أن يتصدى لها، ويناقشها، ويقدّم تصوره حول هذه المشكلة، خاصة إذا تزاحمت الأفكار، وغلبت الأفكار الخاطئة الأفكار الصحيحة، وكان هذا هو دور الشيخ محمد عبده، ودور الشيخ ابن باديس، ودور الشيخ محمد الخضر حسين.
المذيع: نتحول إلى فضيلة الشيخ الدكتور عمار الطالبي. يبدو من أن الذي يدرس فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، من الوهلة الأولى، يبدو أنه كان حضارياً، أي: بكلمة أخرى: حدثياً؛ أي: بمعنى أنه كان مسايراً إلى ما يحدث في الغرب، وهكذا العلامة محمد الخضر حسين، أليس كذلك؟
الدكتور الطالبي: أعتقد بأن محمد الخضر حسين متأثر بابن خلدون، كما كان ابن باديس أيضاً، ويدرِّسه لطلبته. وابن خلدون رجل واقعي، ويهتم بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس رجلاً يحلق في المستوى الخيالي. وهذه الواقعية التي أكسبته هذا المنهج التجريدي التاريخي النقدي.
نجد أن هناك قدراً مشتركاً -كما أشار الإخوان-: محمد عبده لم
يهتم بإصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية، اهتم بإصلاح اللغة، فرجع، وأصدر قرارات في التعليم بالأزهر، وأدخل "نهج البلاغة" و"شرحه"، كما أدخل العديد من الكتب -أيضاً- من عبد القادر الجرجاني، ومنها:"مقدمة ابن خلدون"، عرضها على الأزهريين، وبعضهم امتنع من تدريسها. والشيخ له هذا الجانب -أيضاً- اهتم باللغة، وبالقياس اللغوي، وبمصادر اللغة. وهو أول من أراد أن يجعل الحديث حجة في اللغة العربية، الحجة في الشعر الجاهلي، وصدر الإسلام، والجماعة الذين رووا عن العرب في البادية، وعن المناطق البعيدة عن التأثر بالرومان والفرس.
وابن خلدون أتى بمنهج جديد في التاريخ، نقد الأخبار، ولم يقبل كثيراً من الروايات التاريخية التي تعتمد على الخرافة، وعلى ما لا حجة فيه ولا سند. وهو يريد أن يعيد المؤرخين إلى الناحية الواقعية، وإلى الأسباب، كما أنه أكد في دراسة الظواهر الاجتماعية، منهج واقعي يقوم على المشاهدة، وليس على التخيل. وفيه شبه بين ابن خلدون والشيخ الخضر: ابن خلدون كان يرحل ويكتب، وهذا الرجل كان يرحل، رحّالة ينتقل في بلاد الله، وكلاهما استقر به المقام في مصر، وانتهى أمره في البلاد المصرية، ودفن هناك.
فهذا المنهج الواقعي الاجتماعي والتربوي لابن خلدون؛ لأن ابن خلدون تحدث عن التربية، وتأثيرها في تكوين الذهنيات العلمية، وأما صاحبنا الشيخ محمد الخضر حسين، فهو متصل بالتربية العلمية في النوادي، ويخاطب الشباب، ويعطيهم التوجيهات، إن في الواقع، وإن في التاريخ، وإن في السلوك الأخلاقي والسلوك اللغوي.
فكان الرجل لا يتكلم عن التربية، وإنما يطبقها. نجد -مثلاً-: أن محمد عبده تكلم عن التربية، وتغيير المناهج في تونس، وحاول أن يطبق دراسته ومنهجه في الأزهر، إلا أنه فشل إلى حد ما. والشيخ الطاهر بن عاشور كتب "أليس الصبح بقريب" في التربية، نهج منهج محمد عبده، ولكن تفسيره يختلف عن تفسير محمد عبده. ابن عاشور رجل مهندس اللغة، ويأتي بأشياء مبتكرة لا تجدها في القواميس، رجل بحاثة، ويغوص في هذا.
والشيخ محمد الخضر حسين يناقش القدماء، ويناقش المحدثين في مناهجهم اللغوية، وآرائهم اللغوية، كما ناقش طه حسين، وله صولة وجولة في مصر، لا يسمع لمن ينتقده. ولم يخشى الشيخ الخضر القوى التي كانت وراء طه حسين. ولكن دافع بجوأة عن اللغة، وعن الشعر الجاهلي، واعتبره مصدراً من مصادر اللغة العربية يحتج به.
وتجوُّله في أوريا أعطى له بعداً حضارياً، ورأى أشياء لم يعهدها شيوخ الأزهر. ولعل تكلمه اللغة الألمانية ساعده على معرفة ما يكتبه الغربيون. ولذلك نحمد لشيخنا دفاعَه المستميت عن اللغة وصحة متونها وصحة أساليبها، والدفاع ضد كل من يحاول أن (يخربش) فيها.
المذيع: نتحول للدكتور مواعدة. فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين كان قد درس في جامع الزيتونة في عام 1889 م، وفي ذلك الوقت كان جامع الزيتونة منارة تضاهي جامع الأزهر الشريف؛ أي: بمعنى أن الخضر حسين لما انتقل إلى مصر، كان قد شبع علماً، أليس كذلك؟
الأستاذ مواعدة: ملاحظة أحببت الرجوع إليها. هل كان يعرف ما يدور في الغرب؟ أعتقد أن الشيخ الخضر حسين ومن معه كانوا يواجهون تيارين
متناقضين، والاثنان سلبيان، أحدهما: الغرب الذي كان يشكك في الحضارة العربية الإسلامية واللغة، وله أنصاره، والتيار الآخر: التقليد والانغلاق. هناك تياران متناقضان، وليسا في صالح الأمة العربية الإسلامية؛ لأنه إذا انتصر أحدهما على الآخر -لا سمح الله- لا يمكن لهذه الأمة أن تواصل وتحافظ على هويتها. طبعاً جامع الزيتونة جامع معروف، ولكن الإطار الزيتوني وقتها كان إطاراً تقليدياً، ولذلك نجد الشيخ الخضر حسين اعتبرها قضية جوهرية، ومع علاقته بالطاهر بن عاشور، هما كانا معاً يقودان هذا التيار، وهو تيار للمطالبة بإصلاح التعليم الزيتوني، كان هذًا الهاجس هو تطوير التعليم، درس في جامع الزيتونة، ولكنه وجد أن هذا الإطار إذا بقي على هذه الصورة، لا يمكن أن يساهم في التطوير والمحافظة على الهوية، خاصة إزاء هذه الهجومات من جانب الاستعمار الغربي، وما حوله من مثقفين وأنصار، ومن جانب أن الإطار التقليدي ليس قادراً على هذه المواجهة. هنا يأتي دوره في إصلاح النظام التعليمي.
أعطيك مثالاً: وهو ما زال في طور الدراسة، وجه الشيخ الخضر رسالة، قال: لماذا الإنشاء غير موجود في التعليم؟ وأهمية القلم عنده في توجيه الإصلاح أساسية؛ لأن الذي ساعده في الإصلاح هو الإنشاء والتحرير والكتابة الجيدة.
المذيع: نتحول إلى الدكتور نجيب بن خيرة من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة. ربما حتى لا أقول بأن الرجل كان متصلباً، بل كان متشبثاً بأسلوب فكره، وبهويته، وبدفاعه عن القضية الإسلامية. لذلك زُجَّ به في السجن، أليس كذلك؟
الدكتور بن خيرة: زُجَّ بالعلماء في السجون في أواخر الحكم العثماني في بلاد العالم الإسلامي، وخاصة في مصر والشام، وليس الشيخ محمد الخضر حسين لوحده. كثير من العلماء بقسنطينة عارضوا نماذج رديئة للحكام العثمانيين الأواخر، الذين كانت سياستهم السبب في سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية. وهذا السجن ضريبة يدفعها كل عالم حر، وكل أبيٍّ شهم، عندما يعرض آراءه بقوة، ويريد أن يواجه تيارات التغريب، بل الامتيازات التي كانت تعطى للدول الأجنبية في العالم الإسلامي، هذه الامتيازات التي وقف ضدها العلماء الأحرار؛ لأن هذه الامتيازات الأجنبية هي التي كانت في العالم الإسلامي مطايا ذُلُلاً ركبها الاستعمار، ودخل بها، ووجد الأبواب مشرعة أمامه للدخول إلى بلاد العالم الإسلامي.
لذلك؛ الشيخ محمد الخضر حسين، سواء في بلاد الشام، أو غيرها، ظل صليب الرأي، شامخاً في مواقفه؛ مما جعله يدفع ثمن ذلك بدخوله إلى السجن في بلاد الشام، وهي فترة ليست طويلة جداً، وإنما هي فترة قليلة، بعدها غادر إلى مصر، واستقر به المقام هناك. كانت مصر أكثر حرية من بلاد الشام من ناحية التيارات الفكرية والوطنية والثقافية، والرأي والرأي الآخر.
الدكتور الطالبي: اتهم في الشام بالمؤامرة ضد السلطة التركية، مع أنه -في واقعه- يريد أن يجمع بين العرب والأتراك، ويتشبث بالخلافة العثمانية، ويدافع عن الجامعة الإسلامية، ولكن هذا خلط للأوراق، واتهم باطلاً.
المذيع: نتحول إليكم الأستاذ محمد الهادي الحسني: بما أنكم إعلامي،
الشيخ محمد الخضر حسين ربما إتقانهُ لثلاث لغات -كما بلغتي أمس: أنه يتضمن اللغة الألمانية، والتركية، والفرنسية- هذا ما مكنه على التفتح على الحضارة الغربية، والإعلام الغربي، وما جعل هذا الرجل يكون متمكناً إعلامياً؟
الأستاذ الحسني: هو هكذا -كما أشار الإخوة - هو لم يهيئ نفسه ليكون إعلامياً؛ كما أنه لم يقرأ عن الإعلام
…
القضية في رأيي ليست قراءة فن من الفنون، فالإنسان إخلاصُه، وإيمانه بالقضية التي يدافع عنها، وإخلاصه لها. ولذلك لو غير الشيخ الخضر حسين، ربما يستنكف أن يعترف بأنه ينهج نهجاً خاطئاً. أما الشيخ - الخضر، انتقد نفسه عندما حضر درس الشيخ عبد القادر المجاوي في "جوهرة التوحيد" ماذا يقول؟ يقول: نستحسن من دروس هذا الشيخ: اقتصاره في كل فن على تقرير مسائله التي يشملها موضوعه، وعدم خلط بعضها ببعض، وقد كنت -عافاكم الله- ممن ابتلي درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، وأتوكأ على أدنى مناسبة، حتى أفضى الأمر إلى أن لا أتجاوز في الدرس شطر بيت من "ألفية ابن مالك" -مثلاً-، ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج، عقيمة عن الإنتاج، وأقلع عنها.
فالرجل كان بين أمرين: الشيء الذي يهمه، وأعز شيء عنده هو الإسلام، ولغة هذا الإسلام، ويرى أن هذا الشيء العزيز الثمين النفيس يتعاوره خصمان: خصم من الداخل، والآخر من الخارج، وكلا الخصمين -حتى الخصم الداخلي- مدعوم من الخارج الذي هو ذو بأس شديد. عندما يجد (مارسينيون) إلى جانبه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ويكيد للغة العربية.
لكن الجوهر الذي نستفيده من الشيخ محمد الخضر حسين وأمثاله، هؤلاء الذين بفضلهم - والحمد لله - الأمة أولاً. زرع رغم ما أحاطه من مصاعب وقوى، وربما لو رأى أحد هذه القوى تناوشه من كل جانب، ربما ييأس ويستسلم. أما هذا الرجل الشيخ الخضر، يواجه علي عبد الرازق، وما أدراك بعائلة ثرية مدعومة؟! ويواجه طه حسين، وهو لا عصبة له. فالشيخ ثقته بنفسه، ثقته بمصير الأمة قوية، وبعض الناس وقفوا مع الشيخ؛ لأنهم يعرفون أنه يحاول ويدافع عن مشروع مشترك للأمة كلها.
ولكن النقطة التي نحب أن أشير إليها: هي السجن. في هذه الفترة ظهرت نبتة، جرثومة، ميكروب، هي: القومية الطورانية. ولهذا جنح كل الجزائريين الموجودين في المشرق، والذين قرأت عنهم وعرفتهم، نبذوا ضد هذه الفكرة دون أن يمسوا الدولة العثمانية، حاربوا جماعة الطورانيين القومية التركية، لكنهم -في الوقت نفسه- حافظوا، ودعوا إلى الجامعة الإسلامية، ويتردد أسماء الشيخ محمد الخضر حسين، وصالح الشريف، وغيرهم، حتى الأمير خالد في المؤتمر العربي في عام 1913 م لم يحضر مع الذين حضروا في فرنسا، وبعث برسالة قال: أرجو أن لا يكون هذا المؤتمر ضد الدولة العثمانية، ننتقد تجاوزات المسؤولين الحكام والولاة في الأقاليم، أما أن نضرب الدولة العثمانية، فهذا سيقلب الأمر علينا.
المذيع: نتحول إلى الدكتور عويمر. ما يلحظه القارئ -في تاريخ تلك الحقبة التي كان قد عاش فيها فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين-: أنه كان مستنداً للحركات التحررية في المغرب العربي بصورة أخص، فكان قد ساعد الجهاد في ليبيا، واتصل بالزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي،
وربما تلقى عبد الكريم الخطابي توجيهات، أو ربما نصائح من قِبَل الشيخ الخضر حسين، وحتى إن الشيخ الخضر كتب كتاباً عن تاريخ الاحتلال في تونس، يبدو لي أن الرجل كان سياسياً -أيضاً-؟
الدكتور عويمر: نعم، بالنسبة للشيخ محمد الخضر حسين، أنا لا أقول: سياسي، وإنما أقول: المصلح السياسي، أو المفكر السياسي. وهو لم يؤسس حزباً، ولم يدخل الانتخابات، وإنما كان يطرح أفكاراً سياسية، ويدافع عن إصلاح السياسة. وكان أستاذ السياسة الشرعية في جامعة الأزهر عدة سنوات.
واهتمامه بقضايا المغرب العربي، سواء بالاحتلال البريطاني لليبيا، أو بحرب الريف في المغرب، أو مؤتمر أفخارست في تونس، أو الاحتفالات بالذكرى المئوية في الجزائر، والظهير البربري في المغرب عام 1930 م، كل اهتماماته بهذه القضايا ليست اهتماماً بما تحمله هذه الكلمة من معنى، وإنما السياسة جزء من نشاطه، بمعنى: أنه يقدم تصوراً لهذه القضايا، ويساندها. لا يساندها فقط بخطاب، أو كلام مكتوب في الجرائد أو الكتب، وإنما أيضاً بتأسيس جمعيات. فهو عندما أسس جمعية "الهداية الإسلامية" في القاهرة في جانفي 1922 م، وأسس (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، هذه المؤسسات جعلها منابر لكل الزعماء السياسيين المغاربة، وغيرهم الذين كانوا في مصر، ومن بينهم: الحبيب بورقيبة، الذي عندما دخل مصر اعتُقل للتأكد من جنسيته، فتدخل الشيخ محمد الخضر حسين، وكان عنده وزن لدى السلطة المصرية، فأفرج عنه، وكان يبيت في دار الشيخ حتى هيا له مكاناً للإقامة.
و-أيضاً- الشيخ محمد الخضر حسين هو الذي استقبل الزعيم عبد الكريم
الخطابي عندما جاء ماراً بمصر وأرادت فرنسا أن ترجعه من منفاه إلى المغرب، فكثير من الزعماء زاروه في الباخرة، وتعاونوا على تهريبه من الباخرة الفرنسية حتى لا يذهب، ويقع تحت الإقامة الجبرية في المغرب، ومن بينهم كان الشيخ الخضر في استقباله. وكان الزعيم الخطابي عضواً في (جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية)، ويوجد بيانات ونشريات كلها تحمل إمضاءات الأمير عبد الكريم الخطابي، والحبيب بورقيبة، ومحيي الدين القليبي، والشاذلي المكي، والبشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني.
فهو دائماً يعتبر النضال من أجل التحرر قضية من القضايا الأساسية في مشروعه الإصلاحي، الإصلاح ليس فقط إصلاح الأفكار، وإصلاح الأنظمة، وإنما كان عنصر التحرر في مشروعه الإصلاحي.
وكان يستعمل منابر أخرى؛ مثل: جمعية (الشبان المسلمين) التي كان العضو المؤسس لها في مارس 1927 م. وأنا قرأت للدكتور أبي القاسم سعد الله: أنه في جمعية الشبان المسلمين كنا نتدرب على العمل العسكري.
فكان الشيخ الخضر، هذا الرجل كان حقيقة فعالاً في المجتمع، كان يحمل هموم هذه الأمة عبر عمره الطويل، هذا الرجل الموسوعة علمياً، وهذا الرجل الشامل نضالياً.
المذيع: أعلن انتهاء الندوة.
على هامش الملتقى
أعلام من الزيبان (1) الحسين بن علي بن عمر (والد الإمام محمد الخضر حسين)
الأستاذ صيد: مستمعيَّ الكرام! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
مرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي (أعلام من الزيبان)، هؤلاء الأعلام الذين شرّفوا المنطقة بعملهم وعلمهم، منهم من مكث في الزيبان حتى توفي، ودفن فيها، ومنهم من هاجر إلى دول عربية أخرى، وذلك نظراً لأسباب سياسية واجتماعية.
من هؤلاء الأعلام: رجل عالم، وولي صالح من بلدة "طولقة"، ولد ونشأ وترعرع في هذه البلدة، ثم شاء له القدر الإلهي الهجرة إلى تونس الشقيقة، التي عاش فيها إلى آخر حياته.
هذا العالم -مستمعيَّ الأفاضل- هو الشيخ العالم الصالح الحسين بن علي بن عمر الطولقي النفطي والتونسي، ولأجل التعرّف عليه، والوقوف على أهم المحطات التاريخية في حياته، استضفتُ حفيدَه الأستاذ الفاضل علي الرضا الحسيني، وهو أديب وشاعر ومؤلف معروف، أصله من "طولقة"،
(1) برنامج إذاعي من إعداد وتقديم الأديب الأستاذ عبد الحليم صيد من إذاعة مدينة "بسكرة" جرى على الهواء مباشرة في 26/ 12/ 2007 م الساعة السابعة مساءً.
وولد سنة 1932 م في دمشق عاصمة سورية، وما يزال مقيماً بها.
للأستاذ الحسيني العديد من التآليف التاريخية، والروايات الأدبية، والدواوين الشعرية، أذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر-:"محمد المكي ابن عزوز حياته وشعره" - وديوان شعر بعنوان "تونسيات"، كما أن له كتاباً عن الشيخ محمد بن عزوز البرجي، وآخر عن زاوية الشيخ علي بن عمر في "طولقة".
الأستاذ الفاضل علي الرضا الحسيني! مرحباً بك في "بسكرة"، وإذاعة بسكرة.
الأستاذ الحسيني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الحديث عن هذا الناسك المربي حديث يطول، ولكن سنختصر ما أمكننا الحديث عنه.
هو العالم الزاهد المرَبِّي السالك، شيخ شيوخ الطريقة الخلوتية، والرجل الفاضل الكامل، ولد عام 1246 للهجرة في مدينة "طولقة" ما يعادل سنة 1830 ميلادية، وتوفي عام (1309 هـ -1893 م) في مدينة تونس.
هذا التقي النقي الصالح كان هَمُّه في الحياة أن يدعو الناس إلى الموعظة الحسنة، واشتهر بسعيه لتأليف القلوب بالحسنى، والدعوة إلى الخير، ومساعدة الفقراء، إلى جانب هدفه السامي في نشر الطريقة الخلوتية في القطرين الجزائري والتونسي.
صحيح أنه انتقل إلى "نفطة"، وأقام بتونس، لكن له إقامات ورحلات متعددة إلى الجزائر، ويعرف كل الولايات الجزائرية، ومن الممكن أن نقول:
إن إقامته في الجزائر هي أكثر من إقامته في تونس.
الأستاذ صيد: أي بعد هجرته من الجزائر لم ينقطع عنها؟
الأستاذ الحسيني: يقضي في الجزائر الأشهر الطوال، وهو يدعو إلى الطريقة، ويصلح بين الناس، ويبث العلم والفضيلة. ولد -كما قلنا- في مدينة "طولقة" بالجنوب الجزائري في بلاد الزاب، والدُه الولي الصالح الصادق الشيخ علي بن عمر صاحب الزاوية المشهورة، وفي رحاب تلك الزاوية - التي يتردد فيها ذكر الله ليلاً ونهاراً -كانت ولادته، وفيها تعلم القرآن الكريم، وأخذ عن كبار الشيوخ والعلماء، وخاصة علامة عصره الشيخ محمد المدني بن عزوز، أخذ عنه علوم التوحيد، والفقه، واللغة، والأدب. وفي ذاك البيت الطاهر نشأته، وتدرّجه ومعيشته التي يحيط بها الإيمان من كل جانب.
انتقل إلى مدينة "نفطة" عام 1259 هـ برفقة شيخه مصطفى بن عزوز، واعتنى الشيخ عناية فائقة به، وأسكنه إلى جواره، واعتمد عليه في بناء الزاوية وعمرانها، وأدى فريضة الحج معه، واتخذه صاحباً ومعاوناً ورفيقاً في السفر والإقامة، ومبعوثاً له إلى كافة المريدين والمحبين في أنحاء البلاد، يظهر ذلك ملياً من رسائل الشيخ مصطفى بن عزوز إلى الشيخ الحسين، كان يراسله في أية ولاية جزائرية.
أعطيك فكرة عن هذا الرسائل: من الرسائل المخطوطة للشيخ مصطفى أبن عزوز - التي بعث بها إلى أهل "سوف" في الجزائر - يتحدث فيها عن أخلاق الشيخ الحسين، ومدى محبته واحترامه له: "الحمد لله. وصلى الله على سيدنا محمد كثيراً كثيراً. من محبكم في الله خديم الخلق مصطفى بن
عزوز مقدّم علي بن عمر إلى كافة أهل المحبة الصافية في وطن "سوف". عمَّركم الله آمين، وأحسن عافيتكم دنيا وآخرى، وبعد:
بلغنا أن السيد وابنَ سيدنا ذا الرأي الرشيد، والرأي المستقيم، الأجلّ الذّاكر سيدي الحسين بن مولانا الزاهد الصادق بربه، مولانا علي بن عمر بلغكم، وفرح به وطن "سوف" كله، جازاكم الله خيراً، وأحسن إليكم، وأنكم لم تقصّروا جميعاً، وحُقّ لكم ذلك؛ لأنه ولد المصطفى صلى الله عليه وسلم أولاً، وثانياً ولد القطب الأكبر، والغوثِ الأشهر مولانا علي بن عمر رحمه الله".
هذه أمثولة من الرسائل التي كان يرسلها إلى الشيخ الحسين في أنحاء القطرين.
الأستاذ صيد: طيب، أستاذنا الحسيني! زاوية "نفطة" التي أسسها الشيخ مصطفى بن عزوز، نريد أن نعرف بعض النشاطات التي كانت تقوم بها، على اعتبار أن مؤسسها جزائري.
الأستاذ الحسيني: صحيح. هذه الناحية كانت تحتاج من سنوات إلى التحقيق والتوسع في معرفتها. استطعت من خلال البحث في الوثائق القومية الموجودة في المركز القومي بتونس أن أصل إلى أشياء عجيبة عن هذه الزاوية.
قد يكون من الظاهر: أن غاية هذه الزاوية: الدعوة إلى الدين، وإلى الطريقة، ولكن تبين لي أنها ليست فقط للتعليم، إنما اتخذ التعليم الديني غطاء لما كانت تهدف إليه هذه الزاوية من الأعمال الجهادية للجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، فكانت محطة. تعرف أن المُدافع والمجاهد يحتاج إلى خط خلفي يستريح فيه، ويتهيأ فيه، وأسس هذه الزاوية لهذه الغاية.
حتى إن القنصل الفرنسي في تونس، هناك وثائق أرسلها بخطه إلى وزير خارجية فرنسا في باريس، يقول فيها ويؤكد: أن هذه الزاوية خطر على الوجود الفرنسي في الجزائر، وهناك تقارير أكثر من واحد.
الأستاذ صيد: مما يؤكد كلامكم هذا: أن المؤرخ الكبير في الجزائر الدكتور يحيى بوعزيز رحمه الله ذكر في كتابه "ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين" أن زاوية "نفطة" -زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز - كانت ملجأ للهاربين والمضطهدين والمطلوبين من الجزائريين الذين هربوا من الاستعمار الفرنسي.
وحتى نربط الكلام بموضوع حلقتنا اليوم، وهو الحسين بن علي بن عمر، فقد كان هذا الشيخ الذراع الأيمن للشيخ مصطفى بن عزوز.
نواصل الحديث عنه: هل أضاف شيئاً جديداً إلى جانب الزاوية، أم لا؟
الأستاذ الحسيني: لديَّ بعض الرسائل التي كان يرسلها له الشيخ مصطفى، وأجد بين السطور أشياء لم يكتبها الشيخ مصطفى، ويفهم عليه الشيخُ الحسين. مثلاً: يقول له في إحدى رسائله: "أرسلنا لك عشرة أحمال من الجمال". ما اشتغل الشيخ مصطفى بالتجارة، ولا الشيخ الحسين غايتُه التجارة، والحمولة غير معروفة، "أرسلت لك مع فلان عشرة أحمال إلى المنطقة الفلانية في الجزائر، أو سبعة أحمال
…
وهكذا".
أفترض إما أنها سلاح، أو ربما مواد تموينية تعين الثوار المجاهدين ..
ثم لا ننسى أن كثيراً من الإخوة الجزائريين درسوا في "نفطة": الشيخ العربي التبسّي، وعاشور الخنقي، والشيخ العربي كمجاهد وعالم، ومن كبار جمعية العلماء الجزائريين المسلمين، تربّى في "نفطة".
أما عن أخلاق الشيخ الحسين، فقد قال فيه الشيخ محمد المكي بن عزوز بن الشيخ مصطفى:"كان طلق المحيا، جميل الملتقى، عارفاً بمقتضيات الأحوال، ليّن الجانب، كان ذا فطنة قوية، غيوراً على أهل الله".
أحببت أن أذكر هذه الأوصاف؛ لأخذ صورة عن هذا الرجل الصالح.
"حازماً في أموره، منصفاً، صاحب بلاغة في مراسلاته، ملاطفاً في مخاطباته، مهاباً، معظّم الجانب، حريصاً على إطفاء الفتن، مثابراً على إزالة الشحناء".
كان من مهمة رجال الدعوة الصالحة الصادقة المعتدلة أنهم يصلحون بين الناس وبين الأعراش، وخاصة في القبائل التي تصل فيها الأحقاد إلى درجة قد يستخدم فيها السلاح والقوة، وكان يتدخل الشيخ الحسين في هذا الخلاف، ويجري الموضوع صلحاً.
الأستاذ صيد: وذلك نظراً لمكانته الاجتماعية.
الأستاذ الحسيني: مثلما يقولون في الشام: إنه "تنطبش برأس كام خاروف" تذبح بعض الخرفان، وتتم الوليمة، فتزول الفتنة بين العشيرتين، وهذا نوع من إصلاح ذات البين، وُيستغنى عن القضاء، وإطالة الأعمال في القضاء.
الأستاذ صيد: إذن، أستاذ الحسيني! هناك زاوية "نفطة"، وأظن أن الشيخ الحسين أنشأ زاوية أخرى، أو مسجداً تقام فيه الصلوات في "نفطة".
الأستاذ الحسيني: بعد وفاة شيخه أحبَّ أن يترك زاوية مصطفى بن عزوز لأبناء الشيخ مصطفى، وهذا كرم أخلاق منه، وحتى لا يكون هناك
شيء ما، فإن لكل شيخ من شيوخ الزاوية طريقه في الدعوة، وأسلوبه الخاص به.
فانتقل إلى مكان آخر مقابل الزاوية، واتخذ له مسجداً، وفي هذا المسجد الذي مازال قائماً حتى الآن في "نفطة" ولد في دار إلى جانبه الشيخُ محمد الخضر حسين، وما زال مدخل الدار نفس الدار والمسجد، وقد زرت هذا المسجد مراراً.
الأستاذ صيد: إذن، كل هذه الأعمال التي تحدثنا عنها تنبئ: أن هذه الشخصية العلمية والدينية والاجتماعية كانت تتمتع بهذه الصفات الجليلة.
(فاصل موسيقي).
الأستاذ صيد: ما زلنا معكم -مستمعيَّ الكرام- مع شخصية هذه الحلقة، وهو الحسين بن علي بن عمر الطولقي. وبعد أن تعرفنا على جوانبه العلمية، وومضات من حياته الاجتماعية -أيضاً-، والدور الذي كان يقوم به بالإصلاح بين ذات البين.
أستاذي الكريم الحسيني! ننتقل إلى الجانب العلمي في شخصية هذا الرجل. لا شك أنه كان رجلاً عالماً ومؤلفاً، فما هي الآثار التي تركها وراءه؟
الأستاذ الحسيني: في الواقع لم يترك آثاراً كثيرة؛ لأنه كان منصرفاً إلى التوجيه والإصلاح، إنما -حسب ما وصل إلينا- له رسالة لطيفة في التصوف، سماها:"فاكهة الحلقوم في نبذة قليلة من أحوال القوم"، رسالة في التصوف، فيها نوع من الهداية.
لكن الشيخ لم يكن له آثار علمية كبيرة كأولاده -مثلاً- الذين تفرغوا للكتابة. هؤلاء الرجال الصالحون -غالباً- ما يكتفون بالتوجيه في اللسان. هذه الرسالة طويلة، ولكن أحب أن أقدم بعضاً منها.
الأستاذ صيد: هذه الرسالة أين نشرتها؟
الأستاذ الحسيني: نشرتها في كتاب: "أعلام زاوية مصطفى بن عزوز"، وجعلته هو من أحد الأعلام. وأغلب أعلام زاوية مصطفى بن عزوز هم جزائريون، ومن ولادات الجزائر، إلا النادر منهم.
ما كان هناك فرق بين تونس والجزائر، أو بين "نفطة" و"بسكرة"؛ أعني: أن الواحد كان يغادر صباحاً إلى نفطة، ويتغذى، ويعود إلى واد "سوف"، ويتعشى، ويبيت في "طولقة"، أو "بسكرة"؛ لقرب المسافة، وطبيعة وحدة العشائر.
وجدت كثيراً من العائلات في "نفطة" من أصول جزائرية من "بسكرة"، يأتي أحدهم، ويتزوج من بسكرة، ويعيش في نفطة، أو العكس. هناك علاقات وثيقة بين البلدين، وكأنهما مدينة واحدة. وبودّي أن تتم التوءمة بينهما.
الأستاذ صيد: هذه الرسالة كم عدد صفحاتها؟
الأستاذ الحسيني: عدد الصفحات لا تتعدى العشرين، هذه الرسالة وجدتها ناقصة، ويقول أبو القاسم سعد الله: إنه وجدها كاملة في مخطوطات المغرب.
الأستاذ صيد: ولكن الأستاذ أبا القاسم سعد الله ينسبها إلى الأب، وهو علي بن عمر.
الأستاذ الحسيني: هذا خطأ. ومن المؤكد أنها للشيخ الحسين. من المؤكد للابن، والحكم بيننا قول الشيخ نفسه:"وبعد: فيقول العبد الفقير المضطر، الحسينُ بن علي بن عمر" إذن، هي لسيدنا الحسين. ويقول:"المقصود من كتابة هذه الرسالة: التعريفُ على سبيل الاختصار لمن أراد أن يعرف أحوال السند ورجاله".
تعرف -الأستاذ عبد الحليم- أن هناك أربع عشرة زاوية حصرتها في تونس، تابعة لزاوية "نفطة". يعني: أن الشيخ مصطفى ما قَصَر عمله على نفطة فقط، إنما انتشرت حتى العاصمة.
حتى إن سيدي الحسين أسس زاوية في العاصمة تونس، وعاش فيها الشيخ، وهاجر من نفطة إلى تونس وأولاده صغار، والشيخ الخضر عمره أربع عشرة سنة.
الأستاذ صيد: لعل هذه الهجرة سببها القرب من جامع الزيتونة.
الأستاذ الحسيني: السيدة حليمة بنت الشيخ مصطفى بن عزوز كانت ترغب أن يدرس أولادها في جامع الزيتونة، وهي السيدة التي أشرفت على تربية أولادها، وتعليمهم من الصغر، وتلقينهم مبادئ علوم الدين واللغة.
هناك طرفة لطيفة من المناسب أن نقولها في هذا اللقاء: إن السيدة حليمة والدةَ الإمام الخضر كانت تُرَبِّت على كتفه وهو صغير، وتقول: إن شاء الله يا أخضر، تكبر وتروح الأزهر. وهي قالت له ذلك عندما كبر، فاستجاب الله سبحانه وتعالى لدعاء تلك الأم النقية الصالحة. وأصبح الشيخ الطولقي الأصل، المولد نفطة، الدراسة في تونس، ثم انتقل في أنحاء
العالم من دمشق إلى إستنبول إلى برلين، وكان جهاده الكبير فيها، وهذا يحتاج إلى شرح طويل، ثم عاد إلى دمشق، وانتقل إلى القاهرة، وإذ به يصبح شيخاً للأزهر، وهذا دليل على أن الله تعالى يكرم أولياءه في حياتهم، إلى جانب ما هو مكتوب لهم من الجزاء في الآخرة.
الأستاذ صيد: يذكر الأستاذ نويهض في كتابه: أن للشيخ الحسين كتاباً آخر اسمه: "دقائق النكت".
الأستاذ الحسيني: لم أطلع على هذا الكتاب، وإن كان قد سمعت به.
الأستاذ صيد: إن للشيخ الحسين تراجم في كثير من الكتب، له ترجمة في كتاب "معجم المؤلفين"، وغيره، وهذا دليل على أنه علم من الأعلام.
الأستاذ الحسيني: الشيخ الحسين علم من أعلام التصوف في عصره، وهو معروف.
الأستاذ صيد: يعني: أنه جمع بين العلم والتصوف.
الأستاذ الحسيني: أقول: إنه في التصوف أكثر، من أجل أن نكون صادقين في جلستنا.
هو رجل صالح فاضل، تقي نقي، إنما هو في التصوف متعمق، بينما أولاده أحرزوا التقدم البعيد في العلم، والإمام محمد الخضر حسين انتقل إلى دمشق سنة 1913 م مع كافة العائلة، ووضع هدفه أن تكون القاهرة إقامته، وميدان نشاطه العلمي والسياسي، وأن خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز كان قد سبقه في الهجرة إلى إستنبول، ووصل إلى رتبة علمية عالية، كادت أن توصله إلى شيخ الإسلام في تركيا، وكان مدرساً في دار الحديث
التي هي بمثابة جامعة إستنبول اليوم، كما كان مدرساً في جامع (الفاتح)، ومساجد أخرى، وكان مقرباً من السلاطين من ناحية الاستشارات الدينية هو والشيخ إسماعيل الصفايحي، والشيخ صالح الشريف.
الأستاذ صيد: نعود الآن إلى أبناء الشيخ الحسين، من هم الأبناء الذين تركهم؟
الأستاذ الحسيني: منهم: الشيخ محمد الجنيدي، رجل فاضل صالح، وهو مدفون هنا في "طولقة" في زاوية سيدي علي بن عمر، والرجوع إلى الأصل فضيلة إن لم نقل فريضة، وأعتقد أن أغلب الشيوخ الذين هاجروا كانوا يرغبون بالعودة إلى المغرب، وكثير منهم عاد إليه، لكن إذا ارتبط بأسرة خارج المغرب، ولا سيما إذا استولد أولاداً، صار من الصعوبة العودة إلى بلده الأصلي.
ثم من أبناء الشيخ: الإمام محمد الخضر حسين، الذي وصل إلى إمامة الأزهر.
والأخ الآخر هو: الشيخ محمد المكي بن الحسين، عالم اللغة الشهير، وقد أصدرتُ له ثمانية كتب في اللغة من تأليفه، كان ينشر في الصحافة التونسية والمصرية، ولاسيما في مجلة "الهداية الإسلامية".
والشيخ المكي بن الحسين أقام أربع سنوات في دمشق، ودرّس في المعهد السلطاني، وله دراسات في بعض مجلات دمشق، وكلها دراسات لغوية، ولم يكتب بغير اللغة، كانت كل أبحاثه منصرفة إلى اللغة.
لقد زرت مرة تونس، وسألت: أين آثار العم الشيخ المكي بن الحسين؟ فقيل لي: في مدرسة في سيدي البشير، وهو حي من أحياء تونس، وقد ضاقت
الدار عن هذه الأوراق، فأرسلناها إلى المدرسة. وانتقلت إلى المدرسة التي رحب مديرها، ووجدت في إحدى الغرف المهملة أكواماً من الأوراق، بدأ السوس يقرضها، وكلها مخطوطة غير مطبوعة، فنقلتها جميعاً إلى مكان آمن، وأصلحت فيها، وأصدرت له من الكتب:"عادات عربية - نوادر في اللغة - نوادر في الأدب - أسماء لغوية - أمثال عربية - حكم وأخلاق عربية - كلمات للاستعمال - لغويات - المستدرك"، وكل كتاب يزيد عن مئتي صفحة.
ومن أبنائه -أيضاً-: محمد العروسي، وعلي بن عمر، وعبد العلي، وله ولدان توفيا صغيرين: العروسي، وعبد اللطيف.
الأستاذ صيد: هذا مجهود كبير تُشكر عليه، وأريد أن أنتقل بك إلى الوالد الكريم، وهو ابن الشيخ الحسين -أيضاً- الأستاذ زين العابدين رحمه الله.
الأستاذ الحسيني: والله! أنا أخجل أن أتحدث كثيراً عن الوالد، والواقع أنه يحرج الإنسان أن يتحدث عن والده؛ لأنه في الشام قبل شهر دُعيت من قبل هيئة تبحث عن أعلام الرجال، وطلبوا مني أن أعمل محاضرة عن الشيخ الوالد زين العابدين، فقلت لهم: أفضِّل أن تجدوا شخصاً آخر يتحدث عنه؛ لأنني قد أخجل من قول الحقيقة كلها.
الأستاذ صيد: إن الذي أعرفه عن والدكم: أنه مؤلف كبير، ولغوي ونحوي، وله مؤلفات كثيرة، له معاجم في الصرف، وفي النحو، وفي اللغة، وغيرها.
الأستاذ الحسيني: سأقول لك عناوين مؤلفاتهِ: "المعجم المدرسي - المعجم في الكلمات القرآنية - المعجم في النحو والصرف - دروس الوعظ
والإرشاد - الدين والقرآن - القرآن القانون الإلهي، وغيرها".
وسأترك لك الحكم والقول في الوالد.
الأستاذ صيد: هل قيل في الشيخ الحسين رثاء من بعض الشعراء؟ حبذا لو نسمع شيئاً منه.
الأستاذ الحسيني: رثاه الكثيرون من شعراء تونس، منهم: العلامة الشيخ محمد الصادق المحرزي، والشاعر أحمد الأمين بن عزوز، والشاعر الحسين بن الشيخ، والشاعر أحمد الأديب، وغيرهم.
ولعل أهم المرثيات: مرثية للعلامة محمد المكي بن مصطفى بن عزوز، أسمعك منها بعض الأبيات:
ما ثمَّ موعظةٌ لكلِّ مُشاهِدِ
…
مثل المنيَّةِ وهي أَرْصَدُ راصدِ
وهو اليقين المشبهُ الشكَّ الذي
…
عنه تغافَلْنا كأزهدِ زاهدِ
كمْ من أبٍ وأخٍ ونَجْلٍ منجب
…
وأخي ودادٍ من رفاقِ شدائدِ
واراهُمُ المرُّ القسيُّ وراح في
…
لهوٍ عن المنبوذِ تحت جلامدِ
يغدو المغفَّلُ باتِّباعِ جنازةٍ
…
ويَبيت معتنقاً لصدرِ خرائدِ
يا وَيْحَ مَنْ وافاهُ يومُ حِمامِهِ
…
ولقلبه غُلُفٌ كغُلْفِ الراقدِ
والفوزُ للمتأهبينَ على رجا
…
مثل الرِّضا الأسنى الحُسَيْنِ الماجدِ
حاوي الفضائلِ من زكا جرثومةً
…
من آلِ بيتٍ للمكارمِ شائدِ
جَمُّ الخلالَ الفاخراتِ يَحوطُها
…
زينُ التواضعِ من شَكورٍ حامدِ
كم نالَ مضطرٌّ به ما يرتجي
…
كم أرشدَ المحتارَ حسنَ مواردِ
فجزاؤه عدنٌ ومن هو في الورى
…
زرعَ الرشادَ يكون أنجحَ حاصدِ
آهٍ على تلك اللطافةِ والوفا
…
آهٍ على الحزمِ النبيهِ السائدِ
آهٍ على مرضي الأحّبة أنسهم
…
آهِ على حامي الذّمار الزائدِ
أَبَنيهِ صبراً والرّضا عند القضا
…
سبَبٌ لرضوانِ الإلهِ الواحدِ
الخطبُ خطبٌ هائلٌ لا مسّكم
…
أَسَفٌ يَشُقُّ من ارتحالِ الوالدِ
سيروا على منهاج أصلِكُمُ الذي
…
منه سرَتْ في الناس خيْرُ محامدِ
لا تُشغلوا أوقاتكم بتأسّفِ
…
عمَّنّ ثوى الفردوسَ بين فرائدِ
ربَّ البريّةِ كُنْ له في رَمْسهِ
…
وابعثْ له بالفضل بُشرى الواردِ
وارْحَمْه رحمةَ من تحبُّ ورَقِّهِ
…
في ظِلِّ عَرْشٍ يومَ حشرٍ حاشدِ
وأَنِلْهُ في الجنَّاتِ عَيْشاً ناعماً
…
بدلاً عن الفاني بأفخر آبدِ
فجزيلُ فضلِكَ لا يُحدّ نهايةً
…
لا سيّما في مُرْتجيكَ الوافدِ
الأستاذ صيد: في الختام نشكر الأستاذ علي الرضا الحسيني على هذه الإضاءة التي قدمنا فيها عالماً نقياً من "طولقة" في الجزائر، وامتدت آثاره ومعارفه إلى تونس.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.