الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: حديث عبد الله بن عمر، وهو: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع، فقال:"أنا محمد النبي الأمي -ثلاثاً- ولا نبي بعدي".
ومنها: حديث أبي هريرة: "وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبوة"، إلى غير هذا من الأحاديث الصريحة الصحيحة المختلفة الأسانيد.
وبعد هذه الأحاديث إجماع الأمة على أن من ادعى النبوة بعد رسول الله، فهو من الضالين المضلين، قال الإمام ابن كثير في "تفسير":"قد أخبر الله تعالى في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنّة المتواترة عنه: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل". وذكر بعض من ادعوا النبوة؛ كالأسود العنسي، ومسيلمة، ثم قال:"فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها". وقال الإمام ابن عطية في تفسير آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام، مقتضية نصاً أن لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حزم:"فكيف يستجيز مسلم أن يثبت بعده عليه السلام نبياً في الأرض، حاشا ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآثار المسندة الثابتة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان".
وقال أَبو حيان في تفسيره "البحر": "ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي، فهو زنديق".
*
دفع شبهة يتشبث بها القاديانية:
أورد داعية القاديانية آيات من القرآن الحكيم زاعماً أنها تدل على عدم انقطاع النبوة، منها: ثلاث آيات وردت في إرسال الله الرسل، واصطفائه لهم،
وجاء التعبير فيها بصيغة المضارع، وهي قوله تعالى:
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
وقوله تعالى:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179].
وقوله تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف: 35].
فقال في الآية الأولى: إنها تقتضي استمرار الاصطفاء دائماً، وقال في الآية الثانية: إنها تدل على أن الله يجتبي من رسله من يشاء، وقال في الآية الثالثة: إنها صريحة في بيانها.
كنا قد تعرضنا في المقال السابق لهذا الوجه من تمويههم، وقصرنا البحث على آية:
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
فقلنا: أما المضارع في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي} ، فمحمول على الماضي، واختيار صيغة المضارع للدلالة على أن اصطفاء الله للرسل كان يتجدد حيناً فحيناً، فكتب داعية القاديانية منكراً استعمال المضارع في الاستمرار للماضي فقط، وهذا إنكار منه لمعنى قرره فحول علماء البلاغة؛ كصاحب "المفتاح"، والسيد الجرجاني، والسعد التفتازاني، ولم ينازعهم فيه أحد ممن ينظر في العلم بشيء من العقل.
فالحق أن المضارع يستعمل للدلالة على تجدد الفعل في الماضي، ولاسيما الفعل المتصل بزمان الخطاب؛ كاصطفاء الرسل وإتيانهم، فإن هذه الآيات قد نزلت والوحي الذي تتحقق به الرسالة لم يزل جارياً، والأحكام
التي تنتظم بها الشريعة ويكمل بها الدين ما زالت تنزل على حسب ما تقتضيه الحكمة، وليس استعمال المضارع للدلالة على التجدد في الماضي مختصاً بحال اقترانه بلفظ:"كان "، بل المدار على وجود قرينة تومئ إلى أنه مستعمل في هذا المعنى، ولا فرق بين أن تكون القرينة لفظية أو معنوية، متصلة باللفظ أو منفصلة عنه، وقد صرح طائفة من أئمة البلاغة بأن المضارع يستعمل في الماضي لقصد الدلالة على استمرار الفعل فيما مضى وقتاً فوقتاً. ومن الشواهد التي ساقوها على هذا قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].
فقالوا: إن المضارع -يعني: قوله: {يُطِيعُكُمْ} مستعمل في الماضي للدلالة على استمرار الإطاعة فيما مضى وقتاً فوقتاً، وكلمة:"لو" أفادت هذا الاستمرار التجددي الذي دل عليه المضارع.
فالبيانيون قرروا استعمال المضارع للدلالة على تجدد الفعل في الماضي، ولم يقصروه على موضع، بل جعلوا مدار صحته قيام القرينة، ولا نطيل في الاستدلال على أن المضارع يستعمل لإفادة التجدد في الماضي، إذ يكفي فيه إجماعهم على أن المضارع يستعمل للفعل الماضي خاصة، ومن ذا يستطيع أن ينكر أن المضارع في قوله تعالى:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36].
وقوله تعالى:
{إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} [يوسف: 36].
وقوله تعالى:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127].
مستعمل في فعل مضى لوجه من البلاغة، وما على المعبر بالمضارع عن الفعل الماضي سوى أن يقيم الدليل على ما يريد من الصيغة، وقد قلنا في المقال السابق: إن الأدلة التي تدعونا إلى حمل الاصطفاء في قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي} [الحج: 75] على ما كان يتجدد في الماضي، قوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، والأحاديث الصريحة في أن لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
واعترض داعية القاديانية جعل آية {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} مبينة لقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي} ، فقال: كلنا يعرف أن قرينة الكلام ما يصاحبه ويدل على المراد ول، وأن آية:{اللَّهُ يَصْطَفِي} مكية، وآية:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} مدنية.
وجواب هذا: أن تأخير آية {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} لا يمنع من أن تعد بياناً للمراد من قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي} . أما على مذهب من يجيز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فالأمر واضح؛ إذ مقتضاه أن يدل المضارع حال الخطاب على أن اصطفاء الرسل شأن من شؤون الخالق - جلّ وعلا -، فيسقط به اعتقاد من ينكر بعثة الرسل، أو ينكر أن يكون في البشر رسول، ويثبت أن الله تعالى قد بعث رسلاً من البشر، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حين ادعى الرسالة لم يدع أمراً يخالف حكمة الخالق، ويبقى صرف اصطفاء الرسل عن المستقبل إلى أن تظهر الحاجة إلى تعليم الناس أن لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وأما على مذهب من يمنع تأخير البيان عن الخطاب، فنعتمد أن يكون لدى من تلقوا آية:{اللَّهُ يَصْطَفِي} عند نزولها دليل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفها عن المستقبل، وجاءت آية:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} مؤيدة للحديث، وورود الآية بعد الحديث لا يمنع من عدها في جملة ما يبين الآية الأولى،
وما زال كبار الأئمة يسمّون المتأخر: بياناً لما سبقه بمدة، كما جعلوا إعطاء سلب القتيل للقاتل في الحرب مخصصاً لقوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41].
وهذه الآية نزلت في غزوة بدر، والحديث ورد بعد هذه الغزوة بزمن غير قليل.
وقال داعية القاديانية يحاول رد ما ذكرنا من أن المضارع في آية: {اللَّهُ يَصْطَفِي} [الحج: 75]، مصروف عن المستقبل:"إن الآية تبين اصطفاء الله رسلاً من الجنسين: الملائكة، والناس، فإن كان يصطفي بمعنى اصطفى، ويلزم منه أن لا يصطفي الله رسلاً بعد نزول هذه الآية من الناس، للزم أن لا يصطفي الله رسلاً من الملائكة أيضاً، وإذا كان هذا صحيحاً، فهل للمشايخ أن يقولوا لنا: من أنزل آية: {اللَّهُ يَصْطَفِي} إلخ وغيرها من السور التي نزلت بعدها على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجبريل أم لا؟ ".
أليس في هذا الهذيان شاهد على أنا نخاطب من لا يفقه للكلام العربي معنى، ولا يعرف للمنطق وجهاً؟! فنحن إذا فهمنا الاصطفاء في الآية على ما كان يقع فيما مضى، فللأدلة القائمة على أن الله لا يبعث بعد محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً من البشر، ولم نقل: إن الآية دليل على أن الله لا يبعث رسولاً، حتى يقال: إننا نفينا إرسال الله الملائكة في أمر يدبره، وغاية الأمر: أن إرسال الملائكة بعد هذا الخطاب يبقى مسكوتاً عنه، فيرجع في إثباته أو نفيه إلى الأدلة، ولكن داعية القاديانية لا يفرق بين قولك: إن الآية لا تدل على بقاء الرسالة في البشر، وهو موضع حديثنا، وبين قولك: إن الآية تدل على انقطاع إرسال الله رسلاً من الملائكة أو البشر، وهذا ما لم نقله، فداعية القاديانية اشتبه
عليه إبطال استدلالهم بالآية على أن الله يصطفي رسلاً بعد بعثه أفضل الخليقة، بالاستدلال بها على نفي اصطفاء رسل من البشر أو الملائكة، وليس هذا الاشتباه على أمثاله بغريب.
وأورد داعية القاديانية مستدلاً على ما يزعم من عدم انقطاع النبوة قوله تعالى:
فقال: "وعد الله في هذه الآية بجعل الإمامة في ذرية إبراهيم ما عدا الظالمين منها، فهل يظن المشايخ أن ذرية إبراهيم كلها صارت في زمرة الظالمين، لا سيما الأمة المحمدية، فحرمت من الإمام الموعود بها؛ أي: من النعمة الاجتماعية، ولا يظنن أحد من المشايخ -لأن غيرهم لا يتطرق إليه هذا الظن- أن المراد من الإمامة بالصلاة أو غيرها دون النبوة؛ لأن هذه الإمامة إمامة إبراهيمية، وهي النبوة دون شك كما كان هو إماماً بها عليه السلام، فالنبوة باقية في ذرية إبراهيم سوى الظالمين".
هذا ما يقوله الداعية في الاستدلال بهذه الآية على عدم انقطاع النبوة، ونحن لا نمانع من أن يكون المراد من الإمامة: النبوة، ولكننا نفهم الآية على معنى أن إبراهيم عليه السلام قد طلب من الله تعالى أن يجعل من ذريته أئمة؛ أي: أنبياء، إذ قال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، ولم يقل:(وذريتي)، فأجابه الله تعالى بقوله:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . وفي هذا عدة له بأنه سيجعل من ذريته غير الظالمين أنبياء؛ فإنه نفى أن ينال العهد -الذي هو الإمامة- الظالمين، ولو قال فى الجواب:"نعم"، لأفاد أنه سيجعل من ذرية إبراهيم عليه السلام -
أنبياء، ومن غير دلالة على أنهم سيكونون من المؤمنين، ولو قال في الجواب:"ينال عهدي المؤمنين" -مثلاً-، لم يكن فيه نص على أن الظالمين ليسوا بأهل للإمامة، فقوله تعالى:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] نص على أن الظالمين ليس بأهل للإمامة، ويؤخذ منه -على طريق دلالة المفهوم-: أن النبوة تنال المؤمنين من ذريته، وقد قامت الأدلة القاطعة على أن من لم يكونوا ظالمين قد يرفعهم الله تعالى إلى مقام النبوة، كما رفع إليه إسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمداً - عليهم الصلاة والسلام -، وقد يبقى في منزلة دونها؛ ككثير من الصالحين الذي طهرهم الله تعالى من الظلم، ولم يدعوا النبوة في حال، فقول داعية القاديانية: "فهل يظن المشايخ أن ذرية إبراهيم كلها صارت ظالمة
…
إلخ" ضرب في غير مفصل، ورمي الكلام في غير مرمى؛ فإن المشايح يقولون: إن الآية واردة للدلالة على أن النبوة تجعل في غير الظالمين، ويقولون مع هذا: الله أعلم أين يجعلها؟ ومتى يجعلها؟ وليس في الآية دليل على بقاء النبوة في سائر العصور، حتى في العصر الذي يستغنى فيه عن النبوة والرسالة بالكتاب الذي أودع الله تعالى فيه جلائل الهداية ودقائقها، وتكفل بحفظه وحمايته من أن يدخله تحريف، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وقال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ومن نفى عن أمة النبوة لعدم حاجتها إليها، ولقيام الأدلة على انقطاعها، لم يلزمه الحكم عليها بأنها كلها صارت ظالمة، ومن ألزمه هذا الحكم، فقد خرج عن أدب البحث، ومشى في غير طريق.
وأورد داعية القاديانية في الاستدلال على بقاء النبوة قوله تعالى:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7].
فقال: "هذا الدعاء يبشرنا بأن الله يجعل المؤمنين في مقام الذين أنعم عليهم سابقاً، ويعطيهم كل نعمة أعطاها للأولين، ويتمها عليها، والنعمة نعمتان: دينية ونهايتها النبوة، ودنيوية ونهايتها الحكومة والسلطة".
غاب هذا الداعية عن الصواب، وكانطلق يتحدث في غير علم، ومن ذا الذين يعرف شيئاً من العربية الصحيحة أو المعتلة، ويقرأ قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، ويفهم منها أن المناجي لله بهذه السورة يطلب أن يكون هو أو غيره من المؤمنين في مقام النبوة، والآية لا تدل على أكثر من أن المؤمن يدعو الله تعالى في جملة المؤمنين بأن يهديه طريق من أنعم عليهم. ومن استقام على واجبات الدين وسننه جهد استطاعته، فقد اهتدى طريق المنعم عليهم، ولا يلزم من اهتدائه لطريق المنعم عليهم من النبيين أن يرزق ما رزقوه من نعمة النبوة التي لا ينالها الناس بكثرة أعمالهم الصالحة؛ إذ النبوة مقام يختص به الله من يشاء من عباده.
وما قاله هذا الداعية في هذه الآية أصله لكبيرهم الذي علمهم اللعب واللغو في تفسير القرآن الحكيم؛ إذ قال في خطبته الإلهامية: "وأنا المنعم عليه الذي أشير إليه في الفاتحة عند ظهور الحزبين المذكورين"؛ يعني: المغضوب عليهم، والضالين، وقال:"إن سورة الفاتحة لتؤذن إيذاناً بأن بعض الأفراد من هذه الأمة سيظهرون بمظهر الأنبياء من كل الوجوه".
ومن نكد الدنيا أن نشتغل بحكاية أمثال هذا اللغو، وننفق وقتاً في التنبيه على أنه هذيان في هذيان.