الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقض شُبه القاديانية
(1)
كنا كتبنا في مجلة "نور الإسلام"(2) مقالاً نبهنا فيه المسلمين لنزعة غلام أحمد، ومزاعمه الباطلة، فكان له - بحمد الله تعالى- أثر عظيم في إيقاظ من كانوا في غفلة عن هذه النحلة، وما يثيره دعاتها في العالم الإسلامي من فتون وشرور، فتميز أولئك الدعاة غيظاً، وما كان من داعيتهم في فلسطين إلا أن كتب مقالاً يوهم فيه الطائفة الواقعة في حبالتهم أنه يرد على مقالنا. ووقع نظرنا على ذلك المقال المملوء بالتمويه والالتواء عن آداب المناظرة، فبدا لنا أن نعود للكتابة في تلك النحلة، فنزيد حالها إيضاحاً. وكتبنا في مجلة "نور الإسلام" مقالين آخرين نبهنا فيهما لبعض ما في مقال ذلك الداعية من مراوغة وانحراف عن السبل، وسقنا فيها بعض ما نطق به كبيرهم غلام أحمد من زور وهذيان، وحدث بعد هذا أن نشر ذلك الداعية في أوراق يصدرونها في شكل مجلة مقالاً حاول فيه الرد على مقالنا الثاني المنشور في مجلة "نور الإسلام". والواقع أنه لم يأت في مقاله هذا إلا بما يطعن في دعوتهم، ويزيد الناس خبرة بفساد مذهبهم، وقد كان في عرض بعض أقوال غلام أحمد وشيء من مسلكه الكفاية للدلالة على أنه يكيد للأمة
(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزآن السابع والثامن من المجلد الرابع.
(2)
وهو المقال المنشور في هذا الكتاب.
الإسلامية، ويقول على الله غير الحق. ولا حاجة بنا في إبطال دعوة النبوة والرسالة إلى الخوض أن النبوة منقطعة أو باقية؛ فإن تلك الأقوال التي صدرت من غلام أحمد، تنادي بملء حروفها أن النبوة في ناحية اليمين، وهو في ناحية الشمال، ولكنا آثرنا النزول إلى نقض بعض مزاعمهم؛ حذراً من أن تجد أذهاناً غافلة فتعلق بها. وها نحن أولاء نعرض على حضرات القراء قطعاً من مقال داعية القاديانية؛ ليزدادوا علماً بحال تلك النحلة، ومبلغ دعاتها من لبس الحق بالباطل:
رأى غلام أحمد ومن اتبع خطواته أن قوله تعالى في وصف الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] يسد الطريق على من يريد فتنة الناس بدعوى النبوة، فحاولوا تأويل الآية على معنى أنه أفضل النبيين، أو سيد النبيين، وابتغوا هذا التأويل؛ ليتهيأ لهم أن يقولوا على الله ما شاءت أهواؤهم، ويفسدوا على المسلمين أمر دينهم، فقلنا لهم: إن علماء التفسير قد اتفقوا على أن {وَخَاتَمَ} في الآية بمعنى: آخِر، وهو المعنى الذي يذكره علماء اللغة، ويسوقون من شواهده هذه الآية، ومن أراد صرف {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} عن معنى: آخِر النبيين إلى معنى: أفضل النبيين، فعليه بإقامة شاهد، أو نقل كلمة عن بعض علماء اللغة يدل على أن وصف الرجل بكونه خاتماً لقوم، يقصد منه أنه أفضلهم، أو سيدهم، ولكن داعية القاديانية لم يستطع أن يقيم من كلام العرب أو علماء اللغة ولو شاهداً واحداً على أن مثل تركيب {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} قد يستعمل بمعنى: أفضلهم، أو سيدهم.
يقول الداعية في مقالدالجديد: "وكنا سقنا شواهد واستعمالات العرب في كون لفظ الخاتم مضافاً، والقوم أولي المناصب مضافاً إليهم، وكون
استعمال هذا المركب الإضافي، في مقام المدح، ولا يتأتى المعنى في تلك الاستعمالات إلا أن الممدوح أفضل القوم وسيدهم".
والداعية لم يورد في مقاله السابق شيئاً من كلام العرب يشهد بأنه الخاتم إذا أضيف إلى القوم أولي المناصب كان بمعنى: أفضلهم، أو سيدهم، وإنما أورد عبارات لمن لا يحتج عالم في تفسير كتاب الله تعالى بكلامهم، ولا تتجاوز تلك العبارات وصف أحد الرجال بأنه خاتم العلماء، أو الأولياء، أو الشعراء، ما هي إلا أقوال صدرت من بعض رجال القرون المتأخرة، أو القريبة منها، وإنما يحتج في تفسير القرآن الكريم بكلام العربي الصميم.
وهل رأيتم مجادلاً أسخف قولاً ممن يحتج في بيان معنى آية من كتاب الله تعالى بما كتبته المطبعة الأزهرية على أول الصحيفة الأولى من كتاب "الإتقان"؛ أعني قوله: "الجزء الأول من كتاب الإتقان في علوم القرآن لخاتمة المحققين".
ثم إن أمثال هذه العبارات من نحو خاتم المحققين، أو خاتم الأئمة، أو خاتم المجتهدين، قد ينساق إليها قائلها من شدة إكباره لمقام الممدوح، لحد أن يظن بلوغه مرتبة يبعد أن ينالها أحد من بعده، كما قالوا:
هيهات أن يأتي الزمان بمثله
…
إن الزمان بمثله لبخيل
وكما قالوا:
حلف الزمان ليأتين بمثله
…
حنثت يمينك يا زمان فكفِّرِ
وكما قال السيوطي في تقي الدين الحراني: "آخر المجتهدين".
وفسر الداعية في مقاله الأول الخاتم بمعنى: الزينة، ولم يجد شاهداً على هذا من كلام العرب، أو أقوال اللغويين، أو المفسرين، فتعلق بكلمة
للشيخ محمد طريح النجفي (أحد علماء الشيعة) اقتطعها اقتطاعاً، فقال: يقول صاحب "مجمع البحرين" ما نصه: "ومحمد خاتم النبيين يجوز فيه فتح التاء وكسرها، فالفتح بمعنى: الزينة، مأخوذ من الخاتم الذي هو زينه للابسه".
والواقع أن الشيخ النجفي قد صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم آخر النبيين، فقد قال قبل تلك الكلمة التي اقتطعها الداعية:"قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} من [الأحزاب: 40]؛ أي: آخرهم، ليس بعده نبي". ثم قال: "ومحمد خاتم النبيين يجوز فيه فتح التاء وكسرها، فالفتح بمعنى: الزينة، مأخوذ من الخاتم الذي هو زينة للابسه، وبالكسر اسم فاعل بمعنى: آخر".
ولما كان صاحب "مجمع البحرين" يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء ليس بعده نبي، فقصارى أمره أن يكون أخطأ في تأويل {وَخَاتَمَ} على قراءة الفتح بمعنى: الزينة؛ فإنه مخالف لأقوال من هم أدرى منه بتفسير كتاب الله تعالى، وبوجوه استعمال الألفاظ العربية حقيقة أو مجازاً.
وها نحن أولاء نسوق إليكم طائفة من أقوال علماء اللغة والمشاهدة بأن الخاتم - بفتح التاء أو كسرها- بمعنى: الآخِر، قال صاحب "اللسان":"وخاتَمهم، وخاتِمهم: آخِرهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين!. وقال ابن سيده في كتاب "المحكم": "وختام القوم، وخاتَمهم، وخاتِمهم: آخرهم"، وقال: "وفي التنزيل: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]؛ أي: آخرهم". وقال الأزهري في كتاب "التهذيب": "وخاتم كل شيء: آخره، وقوله تعالى:{رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} معناه: آخر النبيين". ولم يذكر أحد من هؤلاء الأئمة أو غيرهم كصاحب "الصحاح"، وصاحب "المصباح"، وصاحب
"القاموس"، وصاحب "أساس البلاغة" أن الخاتم يكون بمعنى: الزينة.
ولعل الداعية يعلم أن القرآن الكريم انما يستشهد في تفسيره بكلام العرب، ويتيقن أن استشهاده بالعبارات التي ينقلها عن بعض الكتاب أو أصحاب المطابع، لا يتقبله أهل العلم، ولكنه يسوقها استهواء لقوم يجهلون آداب البحث، ولا يفرقون بين ما يصح أن يستشهد به في تفسير كتاب الله تعالى، وما لا يصح الاستشهاد به.
وخلاصة البحث: أن علماء اللغة يقولون: الخاتم بمعنى: الآخر، والمفسرون يقولون:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]؛ أي: آخرهم، وداعية القاديانية يزعم أن {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بمعنى: زينتهم، أو سيدهم، أو أفضلهم. وانتظرنا منه أن يأتي بشاهد على هذا من كلام العرب، أو من كتب اللغة، أو من أقوال أئمة التفسير، فلم يفعل، وذهب يعارض أئمة اللغة والتفسير، بلغو من القول، كأنه لا يشعر أن القرآن الكريم قول فصل، وما هو بالهزل.
يفكر داعية القاديانية أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ويذهب إلى أن {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} في الآية يستعمل بمعنى: أفضل النبيين، أو زينتهم، وأورد في الاستدلال على أن لفظ خاتم يستعمل بمعنى: أفضل، أو زينة حديثاً هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس رضي الله عنه: "أنت خاتم المهاجرين في الهجرة، وأنا خاتم النبيين في النبوة".
وهذا الاستدلال مدفوع بأن الذي ورد في كتاب "أسد الغابة": أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقال له:"يا عم! أقم مكانك الذي أنت به، فإن الله تعالى يختم بك الهجرة كما ختم لي النبوة". وقرأنا في كتاب "الإصابة"؛ أن العباس "هاجر قبل الفتح بقليل"، وقرأنا في غزوة الفتح من
"سيرة ابن هشام": أن العباس رضي الله عنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق، لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض.
فصاحب كتاب "الإصابة" يقول عن العباس رضي الله عنه: إنه هاجر قبل الفتح بقليل، وابن هشام يقول: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة مهاجراً بعياله. فمتى ثبت حديث: "أنت خاتم المهاجرين"، صح أن يكون العباس خاتم المهاجرين بمعنى: آخرهم؛ أي: آخر المهاجرين من مكة إلى المدينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح". وداعية القاديانية لم يأت بشاهد على أن بعض المسلمين قد هاجر بعد العباس حتى يمتنع أن يكون خاتم المهاجرين بمعنى: آخرهم.
وأورد داعية القاديانية على تفسير خاتم بأفضل أو زينة حديثاً عزاه إلى "كتاب الصافي" الذي هو تفسير لأحد علماء الشيعة، وهو "أنا خاتم النبيين، وأنت يا علي خاتم الأولياء"، ولكن صاحب "كتاب الصافي" لم يروه بسند، ولم يسنده إلى كتاب، حتى نبحث في سنده، وتتبين حقيقته، بل قال في تفسير قوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]: آخرهم الذي ختمهم، أو ختموا به- على اختلاف القراءتين-، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا خاتم النبيين،
وعلي خاتم الأولياء".
فصاحب "كتاب الصافي" معترف بأن النبي صلى الله عليه وسلم آخر النبيين، ولا يتم الاستشهاد بقوله:"خاتم الأولياء" إلا أن يذكر سند الحديث، ويكون رجاله ممن يوثق بهم في الرواية، أو يسنده إلى كتاب من الكتب المعروفة بالتحري في رواية الحديث. وكان الأحاديث الموافقة لهذا الحديث في المعنى، وقد
حكم عليها الحفاظ بالوضع: حديث: "كما أني خاتم النبيين، كذلك علي وذريته يختمون الأوصياء إلى يوم الدين"(1). وقال ابن الجوزي: ولفظ: "خاتم الأولياء" باطل لا أصل له، وخاتم الأولياء في الحقيقة: آخر مؤمن بقي من الناس، وليس هو أحسن الأولياء، ولا أفضلهم، بل خيرهم أَبو بكر وعمر رضي الله عنهما (2).
سقنا أحاديث صحيحة كثيرة في معنى انقطاع النبوة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب ذلك الداعية يحرفها عن مواضعها، ويقول فيها قول من لا يقدر الحديث النبوي قدره، ولا يبالي أن يخرج بالكلام العربي عن وجوه دلالته، وقد أريناكم فيما سلف نموذجاً من تأويلهم الباطل لبعض تلك الأحاديث، واليوم نسوق إلى حضراتكم مثالاً تشهدون فيه كيف يعتسفون في غير طريق، ويحاولون إرضاء شهواتهم، ولو بأقبح التأويل:
أوردنا -في جملة ما أوردنا من الأحاديث- ما جاء في "سنن الترمذي"، من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي، ولا نبي"، فشق ذلك على الناس، فقال:"ولكن المبشرات"، قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: "رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة".
وهذا الحديث صريح في انقطاع النبوة بعد البعثة المحمدية، ولكن الداعية القادياني حاول صرف هذا النص عن معناه، وذهب في تأويله، والخروج على حجته مذهب التعنت، حتى زعم أنه معارض لبعض آيات القرآن الكريم،
(1) انظر: "اللآلئ المصنوعة".
(2)
"تذكرة الموضوعات".
فقال: "إن القرآن المجيد يقرر نزول الملائكة على المؤمنين، وتبشيرهم إياهم بنصرتهم في الدنيا والآخرة، وذلك قوله تعالى:
ويقول في مقام آخر: إن الملائكة وجبريل أيضاً تنزل كل ليلة قدر:
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 3 - 4].
وكلام الملائكة مع البشر وحي في اصطلاح القرآن المجيد:
فإذا ثبت وجود الوحي من حيث القرآن المجيد، فلا بد من تأويل في معنى الحديث".
وليس في هاتين الآيتين ما يعارض الحديث، أما الآية الأولى، فتفسيرها عند بعض السلف على أن تنزل الملائكة، وقولهم للذين استقاموا:{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} يكون عند الموت، وهذا ما يقوله مجاهد، والسدي، ومنهم من يقول: إن الآية إخبار عما يكون عند البعث، وهو قول مقاتل، ومنهم من يقول: إنها إخبار عما يكون عند الموت، وفي القبر، وهذا قول زيد بن أسلم.
وذهب آخرون في تفسيرها إلى أن الملائكة تمد صدور المؤمنين بما يشرحها، ويدفع عنها الخوف، على طريقة الإلهام، كما أن الشياطين تغوي الكافرين بتزيين القبائح، وتوسوس لهم بما يثير في قلوبهم الخوف
والحزن، قال تعالى:
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24].
وقال تعالى:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268].
وقال تعالى:
[{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121].
فليس بين حديث الترمذي وآية:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30].
تعارض أو ما يشبه التعارض، إلا في نفوس باضت فيها الأهواء وفرّخت، ولم يكن للحكمة ولا للموعظة الحسنة عليها من سلطان.
ولو صح هذا الذي يقوله داعية القاديانية في تفسير الآية، لوجب أن يكون كل مؤمن مستقيبم نبياً يوحى إليه، ولا أقوى إيماناً من الخلفاء الراشدين، ولا أقوم منهم سيرة، وما ادَّعى أحد منهم أنه نبي أو رسول. أو أنه تأتيه الملائكة بالوحي، وما كان أحد من المسلمين يصفهم بالنبوة أو الرسالة، أفيزعم داعية القاديانية أنهم لم يقولوا: ربنا الله، ولم يستقيموا؟! أو أنهم لم يبلغوا في الاستقامة مبلغ غلام أحمد الذي أوغل في الضلالة، وأثار فتنة صادفت في بعض الناس غفلة أو جهالة، فكانوا لنارها حطباً!.
وأما آية:
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4].
فليس فيها ما يدل على أن الملائكة يخاطبون المؤمنين على طريق الوحي الذي هو من خصائص الأنبياء عليهم السلام. وأئمة التفسير من السلف
والخلف يقطعون بكذب دعوى النبوة بعد البعثة المحمدية، ولا يجدون في هذه الآية ما يعارض الأحاديث الواردة في انقطاع النبوة.
ومن الوجوه التي تساعدها البلاغة، وتطابق بها الآية سائر النصوص: أن يكون تنزل الملائكة من أجل الأمور التي عهد إليهم بتدبيرها {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، فإن حمل الأمر في الآية على معنى الحكم الشرعي، كانت إخباراً عن تنزلهم ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن الحكيم. والتعبير بالمضارع لاستحضار ذلك التنزل بصورته البديعة، وهو من أحسن الطرق المعهودة في البيان.
وزعم الداعية القادياني أن حديث الترمذي: "إن النبوة والرسالة قد انقطعت" يعارض الحديث الذي يقول: إن المسيح الموعود "يوحى إليه: أن حَوِّزْ عبادي إلى الطور؛ فإني قد أنزلت عباداً لي لا يَدانِ لأحد بقتالهم".
وردت أحاديث صحيحة في نزول المسيح عليه السلام، ولم يجد أهل العلم بينها ويين الأحاديث الصريحة في انقطاع النبوة معارضة، والراسخون في فهم الأحاديث النبوية، العارفون بوجوه استعمال الألفاظ العربية في حدود وضعها، وعرف البلغاء من الناطقين بها يقولون: إن الأحاديث الواردة في انقطاع النبوة تنفي وقوع نبوة بعد البعثة المحمدية، ولا تتناول عيسى- عليه السلام؛ لأن النبوة ثابتة له من قبل. ومن هؤلاء من يحمل الأحاديث على امتناع بعثة نبي بعد البعثة المحمدية على وجه عام، ويستثنى من هذا العموم عيسى عليه السلام؛ للأحاديث الواردة في نزوله آخر الزمان. ومن حمل النصوص الواردة في انقطاع النبوة على نفي النبوة التشريعية؛ كالملّا علي قاري، لا يقصد فتح باب النبوة غير التشريعية بإطلاق، حتى توضع دعوى
غلام أحمد النبوة موضع النظر، واحتمال أن تكون صحيحة، وإنما يقصد لوجه في تفسير الآية أو الحديث يتفق به مع الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام.
فعلماء الإسلام -على اختلافهم في تفسير الآية والأحاديث- يتفقون على أن لا نبي ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم، إلا ما ورد من نزول عيسى- عليه السلام.
وقد يأتي داعية القاديانية إلى عبارات بعض من ذهبوا في تفسير الآية أو الأحاديث إلى معنى نفي النبوة التشريعية ابتغاء الجمع بينها وبين الأحاديث الأخرى، ويأخذ منها ما يقولونه من أن الآية أو الحديث في نفي النبوة التشريعية، ويدع بقية كلامهم الصريح في أنهم ارتكبوا هذا التأويل لقصد خاص: هو أن لا تكون آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وما يوافقها من الأحاديث نافية بمقتضى عمومها مجيء عيسى عليه السلام، وقد نبهنا في مقال سابق على هذا النوع من التزوير في كلام نقله عن الشيخ عبد القادر الكردستاني.
وإليك مثالاً آخر من هذا القبيل: قال الداعية: يقول المحقق الملّا علي قاري: "فلا يناقض قوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}؛ إذ المعنى: لا يأتي نبي ينسخ ملته، ولم يكن من أمته".
والواقع أن الملا علي قاري أورد حديث؛ "لو عاش إبراهيم، لكان نبياً"، وحديث:"لو كان بعدي نبي، لكان عمر بن الخطاب"(1). ثم قال:
(1) رواه أحمد، والحاكم.
لو عاش إبراهيم، وصار نبياً، وكذا لو صار عمر بن الخطاب رضي الله عنه نبياً، لكان من أتباعه عليه السلام؛ كعيسى، والخضر، وإلياس عليهم السلام، فلا يناقض قوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، إذ المعنى: أنه لا يأتي نبي بعده ينسخ ملته، ولم يكن من أمته.
فهذا التأويل، مع عدم الحاجة إليه في تحقيق معنى الآية، إنما ارتكبه الملا علي قاري ليدفع به ما يقال من أن حديث:"لو عاش إبراهيم" يقتضي أنه لو عاش، وصار نبياً، لزم أن لا يكون نبينا عليه السلام خاتم النبيين، ولا حاجة إلى هذا التأويل، فإن حديث عمر بن الخطاب حجة على انقطاع النبوة بعده عليه الصلاة والسلام.
وأما حديث: "لو عاش إبراهيم، لكان نبياً"، فقد أورده الداعية في شبهة، وقال:"فلو بقي إبراهيم عائشاً، ما كان ثمة مانع من صيرورته نبياً، لا آية: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، ولا أي حديث".
وهذه الشبهة مدفوعة بأن هذا الحديث قد أنكر وروده طائفة من أهل الحديث، كما أنكره ابن عبد البر في كتاب "التمهيد"، وقال الإمام النووي في "تهذيبه":"هذا الحديث باطل، وجسارة على الكلام بالمغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم". والأحاديث الموضوعة أو الضعيفة لا تقف في وجه الأدلة القطعية، ومن أراد أن يعقد بينها وبين القطعية وفاقاً، فليبق الأدلة القطعية بحالها، ويذهب في تأويل الضعيف أو الموضوع -على فرض ثبوته- ما شاء.