الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: أكل ما غيرت النار هل يوجب الوضوء أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل ما مسته النار، هل يوجب الوضوء أم لا؟
ولما فرغ عن بيان حكم الطهارتين شرع في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب، وما ينقضه وما لا ينقضه.
ص: حدثنا ابن أبي داود، وأحمد بن داود، قالا: ثنا أبو عمر الحَوْضي، قال: نا همام، عن مطر الورّاق، قال:"قلت: عَمَّن أخذ الحسن الوضوء مما غيرت النار؟ قال: أخذه الحسن عن أنس، وأخذه أنس عن أبي طلحة، وأخذه أبو طلحة عن رسول الله عليه السلام".
ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وأبو عمر اسمه حفص بن عمر، ونسبته إلى حوض داود مَحِلَّةٌ ببغداد.
وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري، الصحابي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن عفّان، عن همام
…
إلى آخره نحوه.
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ، قال: حدثني أبي، عن أبيه -وهو محمَّد بن عبد الله القاري- عن أبي طلحة صاحب رسول الله عليه السلام: "أنه أكل ثَوْرَ أقطٍ، فتوضأ منه. قال عمرو: الثور: القطعة.
ش: إسناده صحيح، والقاريّ -بتشديد الياء- نسبة إلى قارة وهم بنو الهُون ابن خريمة.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 53 رقم 552).
ولفظه: "قيل لمطر الوراق وأنا عنده: عمن
…
" إلخ.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): عن علي بن عبد العزيز، عن سعيد بن منصور، عن يعقوب بن عبد الرحمن، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن أبي طلحة
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "ثور أقط" بإضافة ثور إلى أقط، والثور -بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو-: هو القطعة من الأقط ويجمع على أثوار.
وقال الجوهري: والجمع: ثِوَرَة وكذا يجيئ جمع الثور من البقر: ثِوَرَة.
وقال المبرد: يقولون: ثمرة للفرق بين الجَمْعين.
والأقِط -بفتح الهمزة وكسر القاف-: لبن جامد مستحجر، وربما تُسَكَّن القاف في الشعر وتُنقل حركتها إلى ما قبلها.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله عليه السلام قال:"توضئوا مما غَيَّرَتِ النار".
ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي.
وأبو عامر: هو عبد الملك بن عمرو العقدي البصري.
وابن أبي ذئب: هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب.
والزهري هو محمَّد بن مسلم.
وأخرجه النسائي (2): أبنا هشام بن عبد الملك [حدثنا محمَّد](3) ثنا الزبيدي أخبرني الزهري
…
إلى آخره، نحوه سواء.
(1)"معجم الطبراني الكبير"(5/ 155 رقم 4734).
(2)
"المجتبى"(1/ 107 رقم 179).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن النسائي"، ومحمد هو ابن حرب الخولاني كما في الطريق الذي يليه في "سنن النسائي".
قوله: "مما غيرت النار" أي مما غيرته، والمفعول محذوف، وهو يتناول كل شيء تغيره النار من المأكولات.
ص: حدثنا ابن أبي داود وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب
…
فذكر مثله بإسناده.
ش: إسناده صحيح، وعبد الرحمن بن خالد كان أمير مصر لعبد الملك بن مروان، روى له البخاريّ.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، قال: قال محمَّد بن مسلم، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "توضئوا مما مَسَّتِ النار".
ص: حدثنا نصر بن مرزوق، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيْل، عن ابن شهاب
…
فذكر مثله بإسناده.
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وعُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول يقول: "توضئوا مما مَسَّت النار".
(1)"المعجم الكبير"(5/ 128 رقم 4835).
(2)
"مسند أحمد"(5/ 188 رقم 21685).
ص: حدثنا نصر بن مرزوق، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، أنه سأل عروة بن الزبير عن ذلك، فقال عروة: سمعت عائشة رضي الله عنها تقى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
…
فذكر مثله.
ش: إسناده صحيح، وسعيد بن خالد روى له مسلم (1) هذا الحديث فقط، وقال: ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عقيل بن خالد قال: قال ابن شهاب: أخبرني سعيد بن خالد
…
إلى آخره نحوه سواء.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى ابن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أن أبا سفيان بن سعيد بن المغيرة أخبره:"أنه دخل على أم حبيبة زوج النبي عليه السلام فدعت له بسويق فشرب، ثم قالت: يا ابن أخي، توضأ. فقال: إني لم أُحْدِث شيئا! فقالت: إن رسول الله عليه السلام قال: توضئوا مما مست النار".
ش: إسناده صحيح، وأبو سفيان بن سعيد وثقه ابن حبان.
وأم حبيبة اسمها رَمْلَة بنت أبي سفيان، زوج النبي عليه السلام.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سفيان بن المغيرة بن الأخنس:"أنه دخل على أم حبيبة، فسقته سَوِيْقًا، ثم قام يصلي، فقالت له: توضأ يا ابن أخي، فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: توضئوا مما مست النار".
وأخرجه أبو داود (3): ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان، عن يحيى -
(1)"صحيح مسلم"(1/ 272 رقم 351).
(2)
"مسند أحمد"(6/ 327 رقم 26826).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 50 رقم 195).
يعني ابن أبي كثير- عن أبي سلمة، أن أبا سفيان بن سعيد بن المغيرة حدثه:"أنه دخل على أم حبيبة، فسقته قدحا من سويق، فدعى بماء فمضمض، قالت: يا ابن أخي، ألا تتوضأ؟ إن رسول الله عليه السلام قال: توضئوا مما غَيَّرَتِ النار -أو مست النار".
قوله: "مما مست النار" أي: مما أصابته النار.
ص: حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: ثنا إسحاق بن بكر بن مضر، قال: ثنا أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن بكر بن سوادة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس، عن أم حبيبة، مثله، غير أنه قال:"يا ابن أختي".
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وأبو سفيان بن سعيد هو المذكور في الطريق الذي قبله، وهو ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي.
وأخرجه النسائي (1): أنا هشام بن عبد الملك، ثنا ابن حرب، قال: ثنا الزُّبَيْدي، عن الزهري، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره، عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس بن شريق:"أنه دخل على أم حبيبة زوج النبي عليه السلام وهي خالته، فسقته سويقا، ثم قالت له: توضأ يا ابن أختي؛ فإن رسول الله عليه السلام قال: توضئوا مما مست النار".
قوله: "غير أنه قال: يا ابن أختي" هكذا وقع في رواية أبي داود والنسائي كما ذكرنا، ووقع كلاهما في رواية الطحاوي، ووقع في رواية أحمد:"يا ابن أخي" كما ذكرنا، وفي رواية أخرى له:"يا ابن الأخ".
ص: حدثنا ابنُ أبي داود وفهدٌ، قالا: أنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح.
(1)"المجتبى"(1/ 107 رقم 180).
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1) مختصرا: أنا موسى بن عيسى، أنا أبو اليمان، نا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله عليه السلام: "توضئوا مما مسّت النار".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيدُ بن عامر، قال: حدثنا محمَّد بن عَمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "توضئوا مما غيرت النار ولو من ثور أقط".
ش: إسناده حسن جيد.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا يزيد بن هارون، أنا [محمد](3) عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، نحوه سواء.
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "توضئوا من ثور أقط".
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا حسن جَيَّد.
وأخرجه الحديث في "مسنده": ثنا الدراورديّ، عن محمَّد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضئوا مما مست النار ولو من أثوار أقط".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدَّمِيُّ، قال: ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضؤوا مما مست النار ولو من ثور أقط، فقال ابن عباس: يا أبا هريرة، فإنا ندهن بالدهن وقد سخن بالنار! ونتوضأ بالماء وقد سخن بالنار! فقال: يا ابن أخي، إذا سمعت الحديث من رسول الله عليه السلام فلا تضرِبْ له الأمثال".
(1)"المعجم الكبير"(23/ 239 رقم 467).
(2)
"مسند أحمد"(2/ 503 رقم 10549).
(3)
في "الأصل، ك": محمَّد بن، ولفظة:"بن" مقحمة، وليست في "المسند".
ش: إسناده صحيح، والمُقدَّمي هو محمَّد بن أبي بكر بن عطاء بن مقَدَّم- بفتح الدال.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط. قال: فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة، (أتوضأ) (2) من الدهن، (أتوضأ) (3) من الحميم؟! قال: فقال أبو هريرة: يا ابن أخي، إذا سمعت حديثا عن رسول الله عليه السلام فلا تضرب له مثلا".
قوله: "وقد سخن" جملة فعلية وقعت حالا في الموضعين.
قوله: "فلا تضرب له الأمثال" أي لا تصف له الأمثال، يقال: ضرب مثلا. أي وَصَفَ وَبَيَّنَ.
إنما قال له هكذا لأنه فهم منه الإنكار عليه.
"والحَميم" بفتح الحاء: الماء الحار.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا بكر بن مضر.
قال: ثنا الحارث بن يعقوب، أن عراك بن مالك أخبره، قال: سمعت أبا هريرة يَقولُ: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "توضؤوا مما مسّت النار".
ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه السّراج في "مسنده": ثنا الحسن بن عبد العزيز الجَرويُّ، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا بكر بن مضر
…
إلى آخره نحوه سواء.
(1)"جامع الترمذي": (1/ 114 رقم 79).
(2)
كذا في "الأصل، ك" على الإفراد، وفي "جامع الترمذي":"أنتوضأ" بصيغة الجمع.
(3)
سبق تخريجه.
ص: حدثنا ربيع الجيزيّ، قال: ثنا إسحاق بن بكر بن مضر، قال: حدثني أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن بكر بن سَوادة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال:"رأيت أبا هريرة يتوضأ على ظهر المسجد، فقال: قلت أثوارَ أقطٍ فتوضأت؛ إني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: توضئوا مما مست النار".
ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وعمر بن عبد العزيز هو: الخليفة العادل والإمام الصالح.
وأخرجه النسائي (1) وقال: أخبرنا الربيع بن سليمان بن داود، قال: ثنا إسحاق ابن بكر
…
إلى آخره نحوه سواء.
وهذا مما اشترك فيه الطحاوي والنسائي في تخريجه عن شيخ واحد.
قوله: "أثوار أقط" بالإضافة، والأثوار جمع ثور وقد فسرناه.
ص: حدثنا فهد وابن أبي داود، قالا: نا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، فذكر بإسناده مثله.
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن فهد بن سليمان وإبراهيم بن أبي داود البولّسي، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن خالد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن قارظ، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (2): نا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عُقيل بن خالد، قال: قال ابن شهاب: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "الوضوء مما مسّت النار".
(1)"المجتبى"(01/ 105 رقم 173).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 272 رقم 351) وقد تقدم قريبًا.
قال ابن شهاب (1): أخبرني عمر بن عبد العزيز، أن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أخبره، "أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد، فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط كلتها، سمعت رسول الله عليه السلام[يقول]، (2) توضئوا مما مست النار".
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن المُطلب بن حنطب، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
وأخرجه النسائي (3)، أنا إبراهيم بن يعقوب، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا أبي، عن حسين المعلم، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن عَمرو الأوزاعي، أنه سمع المطلب بن عبد الله بن حنطب يقول: قال ابن عباس رضي الله عنه: "أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالا لأن النار مسته؟!
فجمع أبو هريرة حصى فقال: أشهد عدد هذا الحصى أن رسول الله عليه السلام قال: توضئوا مما مست النار".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، عن حسين المعلم، عن يحيى فذكر مثله بإسناده.
ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو المُقْعد البصري شيخ البخاريّ، عن عبد الوارث بن سعيد، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن المطلب بن حنطب، عن أبي هريرة.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 272 رقم 352).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".
(3)
"المجتبى"(1/ 105 رقم 174).
وأخرجه السّراج في "مسنده" من حديث يحيى، عن الأوزاعي، عن المطلب بن حنطب، عن ابن عباس قال:"أتوضأ من طعام أجده حلالًا في كتاب الله عز وجل لأن النار محشته؟! فجمع أبو هريرة حصى وقال: أشهد عدد هذا الحصى، سمعت رسول الله عليه السلام يقول: توضئوا مما غيرت النار".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ عن معاوية بن صالح، عن سليمان أبي الربيع، عن القاسم مولى معاوية، قال:"أتيت المسجد، فرأيت الناس مجتمعين على شيخ يحدثهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سهل بن الحنظلية. فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل لحما فليتوضأ".
ش: إسناده جيد، ويحيى بن معين: الحجة الثبت في الحديث ورجاله.
وسليمان: هو ابن موسى أبو الربيع، الدمشقي الأسدي الأشدق (1)، روى له الجماعة إلَّا البخاري.
والقاسم بن عبد الرحمن الشامي مولى معاوية بن أبي سفيان، وثقه يحيى بن معين والعجلي والترمذي، وضعفه جماعة، وروى له الأربعة.
(1) كذا قال، وهو احتمال بعيد، فلا يعلم أن سليمان بن موسى الأشدق يكنى أبا الربيع، ولما أخرج الإِمام أحمد هذا الحديث قال: هو سليمان بن عبد الرحمن الذي روى عنه شعبة وليث ابن سعد.
كذا قال ويقصد به سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى المترجم في "تهذيب الكمال"(12/ 32) ولكنه يكنى أبا عمرو أو أبا عُمر.
وكذا قال الخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع والتفريق"(2/ 122) في ترجمة سليمان ابن عبد الرحمن الشامي، فقال وهو سليمان أبو الربيع الذي روى عنه معاوية بن صالح
…
إلخ. وأما البخاري فقال في "تاريخه الكبير"(4/ 12): وقال بعضهم: هو ابن عبد الرحمن ولم يصح، ويقال لسليمان: أبو عمر الأسدي.
وكأنه يشير إلى الاختلاف في كنية هذا مع صاحب الترجمة.
وصنيع ابن أبي حاتم في "الجرح "(4/ 152) يوافق صنيع البخاري، وكأنهم ذهبوا إلى تجهيله، والله أعلم.
وسهل بن الحنظلية: هو سهل بن عَمرو -والحنظلية أمه- الأنصاري الصحابي.
وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا عبد الرحمن بن مهدي
…
إلى آخره ونحوه.
ولفظه: "دخلت مسجد دمشق" والباقي نحو رواية الطحاوي.
ص: حدثنا ابن خزيمة، ثنا حجاج، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام قال:"كنا نتوضأ مما غيرت النار، ونمضمض من اللبن، ولا نمضمض من التمر".
ش: إسناده صحيح، وحجاج هو ابن المنهال، وحماد هو ابن سلمة، وأيوب هو السختياني، وأبو قلابة: عبد الله بن زيد الجَرمي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) مختصرًا: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من هذيل -أراه قد ذكر أن له صحبة- قال:"يتوضأ مما غيرت النار".
ص: فذهب قوم إلى الوضوء مما غيرت النار، واحتجوا في ذلك بهذ الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، والزهري، وأبا قلابة، وأبا مجلز، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن يعمر.
فإنهم ذهبوا إلى وجوب الوضوء مما غيرت النار، واحتجوا فيه بالآثار المذكورة، وهو قول ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي موسى، وأبي هريرة، وأنس، وعائشة أم المؤمنين، وأم حبيبة أم المؤمنين، وأبي أيوب، وأبي موسى.
وقال ابن حزم: والأحاديث في ذا ثابتة، ولولا أنها منسوخة لقلنا بها (2).
وفي "المغني" لابن قدامة: وأكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال، نيئا ومطبوخا ومشويّا، عالما كان أو جاهلا. وبهذا قال جابر بن سمرة، ومحمد بن
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 54 رقم 561).
(2)
انظر "المحلى"(1/ 243).
إسحاق (1)، وأبو خيثمة، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر (2).
وقال الخطابي: ذهب إلى هذا عامَّه أصحاب الحديث، فإن شرب من ألبان الإبل فالظاهر عن أحمد أنه لا وضوء عليه. وعنه: عليه الوضوء.
وفيما سوى اللحم من أجزاء البعير من كبده وطحاله وسنامه ودهنه ومرقه وجهان، أحدهما: لا ينقض كاللبن، والثاني: ينقض؛ لأنه من الجملة، وما عدا لحم الجزور من الأطعمة لا وضوء فيه لحما أو غير لحم، حلالا أو حراما، مسته النار أو لم تمسه (3).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا وضوء في شيء من ذلك.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، والأوزاعي، وأبا حنيفة، ومالكا، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، وأهل الشام، وأهل الكوفة، والحسن بن حيّ، والليث بن سعد، وأبا عبيد، وداود بن علي، وابن جرير الطبري؛ فإنهم قالوا: لا وضوء في شيء من ذلك، إلَّا أن أحمد يرى نقض الوضوء في لحم الجزور فقط كما ذكرناه.
وقال ابن المنذر: وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعامر بن ربيعة، وأبو أمامة، وأبي بنُ كعب، وأبو الدرداء، لا يرون الوضوء مما مسته النار.
ص: وذهبوا في ذلك إلى ما روي عن رسول الله عليه السلام[من](4) ذلك:
ما حدثنا يونس، قال: أنا بن وهب، أن مالكا حدثه. ح
وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن زيد بن
(1) زاد في "المغني"(1/ 121): وإسحاق. وهو ابن راهويه.
(2)
زاد في "المغني"(1/ 121): وهو أحد قولي الشافعي.
(3)
من "المغني"(1/ 123) بتصرف واختصار.
(4)
في "الأصل، ك": في، وما أثبتناه أليق بالسياق وتم الشرح عليه.
أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ".
ش: أي ذهب هؤلاء الآخرون في عدم وجوب الوضوء مما مسته النار إلى ما روي عن رسول الله عليه السلام من أحاديث تدل على ذلك، منها حديث ابن عباس أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح من وجهين:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس.
وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو المصري، عن القعنبي وهو: عبد الله ابن مسلمة بن قعنب، ونسبته إلى جده، عن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): عن عبد الله بن مسلمة هذا، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه أبو داود (3) عن عبد الله، عن مالك كذلك.
قوله: "كَتْفِ شاة" ذكر ابن سيدة في "المخصص" أنه هو العظم، وهي أنثى والجمع كتاف وفي "المحكم": الكَتِفُ والكِتْفُ كالكَذِبِ والكِذْب: عظم عريض خلف المنكب، وهي تكون للناس وغيرهم، والكتف في الإبل والبغال والحمير وغيرها: ما فوق العضد.
وقيل: الكتفان أعلى اليدين، والجمع كتاف، وقال سيبويه: لم يجاوزوا به هذا البناء، وحكى اللحياني في جمعه: كَتِفَة.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زُرَيع، قال: ثنا رَوح بن القاسم، عن زيد بن أسلم
…
فذكر نحوه بإسناده.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 86 رقم 204).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 273 رقم 354).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 48 رقم 187).
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا محمَّد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام خرج إلى الصلاة، فأتي بكتف من لحم، فانتهسها، ثم مضى إلى الصلاة ولم يمضمض ولم يطَّهر".
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا محمَّد بن الزبير الحنظلي، عن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.
ش: هذا طريق آخر، ومحمد بن الزبير فيه مقال، حتى قال يحيى: ضعيف لا شيء.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عبد الوهاب الخفاف، أنا محمَّد بن الزبير، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عبد الله بن عباس:"أن النبي عليه السلام أتى بكتف مشوية فأكل منها نتفا، ثم صلى ولم يتوضأ".
ص: حدثنا أحمد بن يحيى الصُوريّ، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا ابن ثوبان، عن داود بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.
ش: هذا طريق آخر، وابن ثوبان هو: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العَنْسي، فيه مقال كثير.
وداود بن علي بن عبد الله بن عباس، وثقه ابن حبان وقال: يخطئ.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): ثنا موسى بن هارون، ثنا علي بن الجعد، ثنا ابن ثوبان، عن داود بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده قال:"أكل رسول الله عليه السلام لحما ثم صلى ولم يتوضأ".
(1)"المعجم الكبير"(10/ 311 رقم 10758).
(2)
"مسند أحمد"(1/ 258 رقم 2339).
(3)
"المعجم الكبير"(10/ 280 رقم 10660).
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحَوْضي، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن يحيى بن يَعْمُر، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذا طريق آخر، وهو صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلُّسي، عن [حفص بن عمر](1) أبي عمر الحَوْضي، عن همام بن يحيى إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا بهز، ثنا همام، ثنا قتادة، عن يحيى بن يعمر البصري، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام انتهس من كتف، ثم صلى ولم يتوضأ".
وأخرجه أبو داود (3) أيضًا بهذا الطريق.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبي نعيم -هو وهب بن كيسان- عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: "أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ولحما
…
" ثم ذكر مثله.
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(4): ثنا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، نا أبي، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيْسان، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام أكل كتفا ثم صلى ولم يمسَّ ماء".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5): نا ابن علية، عن أيوب، عن وهب بن كيسان، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام أكل من عظم أو تَعَرَّقَ من ضلع ثم صلى ولم يتوضأ".
(1) في "الأصل، ك": "عمر بن حفص"، وهو خطأ، والصواب حفص بن عمر كما أثبتناه وراجع ترجمته في "تهذيب الكمال".
(2)
"مسند أحمد"(1/ 361 رقم 3403).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 49 رقم 190) من طريق حفص بن عمر، عن همام به.
(4)
"المعجم الكبير"(10/ 323 رقم 10789).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة "(1/ 51 رقم 523).
قلت: "العَرْق" -بفتح العن وسكون الراء- وهو العظم عليه بقيّة اللحم، يقال: عَرَقْتَه وَاعْتَرقْتَه إذا أكلت ما عليه بأسنانك.
وقال الخليل: العُراق عظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عَرْق.
ص: حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء:"أنه دخل عليَّ ابن عباس يومًا في بيت ميمونة، فضرب على يدي وقال: عجبت من ناس يتوضئون مما مست النار، والله لقد جمع رسول الله عليه السلام يوما ثيابه، ثم أُتي بثريد فأكل منها، ثم قام فخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ".
ش: أبو الأسود اسمه: النضر بن عبد الجبار المصري، وعبد الله بن لهيعة فيه مقال.
وأخرجه الطبراني (1): ثنا أبو يزيد القراطيسي، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، حدثني أبي، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال:"دخلت بيت ميمونة -زوج النبي عليه السلام- فوجدت فيه عبد الله بن عباس، فتذاكرنا الوضوء مما مست النار، فقال ابن عباس: كان رسول الله عليه السلام يأكل مما مست النار ثم يصلي ولا يتوضأ، فقلنا: أنت رأيته؟ فأشار إلى عينيه فقال: بصر عيني".
وأخرج مسلم (2): حدثني علي بن حجر، قال: أنا إسماعيل بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن حلحلة، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام جمع عليه ثيابه ثم خرج إلى الصلاة، فأُتيَ بهدية خبز ولحم، فأكل ثلاثة لقم ثم صلى بالناس وما مس ماء".
قوله: "بثريد" الثريد من ثردت الخبز ثردا: كسرتُه، فهو ثريد ومثرود، والاسم: الثُردة -بالضم- وكذلك أثردت الخبز، ويقال: لا يكون ثريد حتى يكون فيه لحم.
(1)"المعجم الكبير"(1/ 324 رقم 10792).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 275 رقم 359).
ص: حدثنا يونس والربيع المؤذنُ، قالا: ثنا أسد، ثنا شعبة. ح
وحدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس. ح
وحدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قالوا: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا عون محمَّد بن عبيد الله الثقفي، يقول: سمعت عبد الله بن شداد بن الهاد، يحدث عن أم سلمة:"أن رسول الله عليه السلام خرج إلى الصلاة فنشلت له كَتِفا، فأكل منها، ثم خرج فصلى ولم يتوضأ".
ش: هذه ثلاث طرق رجالها كلهم ثقات، وأم سلمة اسمها هند بنت أبي أمية.
وأخرجه الطبراني (1): أيضًا من ثلاث طرق: ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا مسلم بن إبراهيم ح
ثنا أحمد بن عمرو القطراني، ثنا سليمان بن حرب ح
ونا أبو خليفة، نا أبو الوليد، قالوا: نا شعبة، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد:"أن أم سلمة رضي الله عنها سئلت عما غيرت النار، فقالت: أكل النبي عليه السلام كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ".
قوله: "فنشلت له كتفا" مِنْ نَشَلْتُ اللحم إذا جذبته من القِدْر، واللحم هو النَشِيل، من نَشَلَ يَنْشُل من باب نَصَر يَنْصُر، ومنه المِنْشَل والمِنْشال، وهو الحديدة التي يُنْشَل بها اللحم من القِدْر.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا مؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان الثوري، عن أبي عون، قال: سمعت عبد اللهَ بن شداد يَقُولُ: "سأل مروان أبا هريرة عن الوضوء مما غيرت النار، فأمر به ثم قال: كيف تسأل أحدا وفينا أزواج النبي عليه السلام؟! فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي عليه السلام فسألوها
…
" ثم ذكر مثل حديث شعبة.
(1)"المعجم الكبير"(23/ 286 رقم 630).
ش: رجاله ثقات، وأبو عون هو: محمَّد بن عبيد الله الثقفي، ومروان هو: ابن الحكم.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا وكيع، نا سفيان، نا أبو عون محمَّد بن عبيد الله الثقفي، عن عبد الله بن شداد، قال: سمعت أبا هريرة يُحدّث مروان قال: "توضئوا مما مست النار، فأرسل مروان إلى أم سلمة فسألها، فقالت: نَهس رسُولُ الله عليه السلام عندي كتفا، ثم خرج إلى الصلاة ولم يَمسّ ماء".
وأخرجه الطبراني (2) أيضًا: عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن الثوري
…
إلى آخره نحوه.
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا عثمان بن عمر، قال: أخبرني ابن جريج، عن محمَّد بن يوسف، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة قالت:"قربت إلى رسول الله عليه السلام جَنْبا مشويّا، فأكل منه ولم يتوضأ".
ش: رجاله رجال الصحيحين ما خلا ابن مرزوق، وابن جريج هو عبد الملك، ومحمد بن يوسف الكندي المدني الأعرج ابن بنت السائب، وسليمان بن يسار -بالياء آخر الحروف- أبو أيوب المدني، مولى أم سلمة.
وأخرجها "النسائي"(3): أنا محمَّد بن عبد الأعلى، نا خالد، قال: نا ابن جريج، عن محمَّد بن يوسف، عن سليمان بن يسار قال:"دخلت على أم سلمة فحدثتني: أن رسول الله عليه السلام كان يُصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم، وحدثنا (بهذا) (4) الحديث أنها حدثته: أنها قربت إلى النبي عليه السلام جَنْبا مشويّا فأكل مثله، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ".
(1)"مسند أحمد"(6/ 306 رقم 26654).
(2)
"المعجم الكبير"(23/ 286 رقم 628).
(3)
"المجتبى"(1/ 108 رقم 183).
(4)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "المجتبى":"مع هذا".
وأخرجه أحمد (1) والطبراني (2): وفي روايتهما: عطاء بن يَسَار موضع سليمان بن يَسَار، وهما أخوان.
وأخرجه البيهقي (3): عن كليهما.
قوله:" قَربتُ" بضم التاء من التقريب، على أنه اختبار عن النفس وفي رواية غيره:"قُربَتْ" على صيغة الغائب.
قوله: "جَنْبا" بفتح الجميع وسكون النون ثم بالباء الموحدة، وجنب الشاة معروف، ويجمع على جنوب.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود الطيالسيّ، قال: نا زائدة بن قدامة، قال: نا عبد الله بن محمَّد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد الله، قال:"أُتينا ومعنا رسولُ الله عليه السلام بطعام فأكلنا، ثم قمنا إلى الصلاة ولم يتوضأ أحد منا، ثم تعشينا ببقية الشاة، ثم قمنا إلى العصر ولم يَمّس أحد منا ماء".
ش: أبو داود اسمه: سليمان بن داود، والطيالسي نسبة إلى بيع الطيالس جمع طيلسان.
وعبد الله بن محمَّد بن عَقِيل -بفتح العين- فيه مقال مع كثرة علمه.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(4): نا زائدة، عن عبد الله بن محمَّد بن عَقيل، عن جابر قال:"مشيت مع رسول الله عليه السلام إلى امرأة من الأنصار، فذبحت لنا شاة، وأُتينا بالطعام، فأكل رسول الله عليه السلام -وكلنا، ثم قمنا إلى الظُّهر لم يتوضأ أحد منها، ثم أُتينا ببقية الشاة فتعشَّينا منها، فحضرت صلاة العصر، فقام رسول الله عليه السلام وقمنا فصلينا، لم يمس أحدٌ منَّا مَاء".
(1)"مسند أحمد"(6/ 307 رقم 26664).
(2)
"المعجم الكبير"(23/ 285 رقم 626).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 154 رقم 695).
(4)
"مسند الطيالسي"(1/ 233 رقم 1670).
ص: حدثنا يونس، قال: نا علي بن معبد، قال: نا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمَّد
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذا طريق آخر، عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمَّد بن عَقيل، عن جابر.
وأخرجه الحديث في "مسنده": نا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن محمَّد بن عَقيل، سمع جابر بن عبد الله.
ونا سفيان، نا محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "خرج رسول الله عليه السلام وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، ففرشت لنا تحت صَوْر لها -والصَوْر: النخل المجتمعات- وذبحت لنا شاة فأكل منها، وأتته بقناع رُطب فأكل منه، ثم
توضأ للظهر فصلى، ثم انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشاة، فأكل، ثم صلى العصر ولم يتوضأ".
قلت: علالة كل شيء: بقيته، وهو بضم العين وتخفيف اللام.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن المنهال، قال: نا يزيد بن زريع، قال: نا روح بن القاسم، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر قال:"دعتنا أمرأة من الأنصار، فذبحت لنا شاة، ففرشت لنا تحت صَوْرٍ لها فدعى رسول الله عليه السلام، فأكلنا، ثم صلى ولم يتوضأ".
ش: هذا طريق آخر وهو صحيح.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا عبد الله بن عقيل، سمع جابر بن عبد الله.
وقال سفيان: ونا محمَّد بن المنكدر، عن جابر قال:"خرج رسول الله عليه السلام وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، فذبحت له شاة فأكل، وأتته بقناع من رُطَب، فأكل منه ثم توضأ للظهر وصلى، ثم انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشاة، فأكل ثم صلى العصر ولم يتوضأ".
(1)"جامع الترمذي"(1/ 116 رقم 80).
وأخرج أبو داود (1): ثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي، قال: ثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني محمَّد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "قَرَّبْتُ للنبي عليه السلام خبزا ولحما، فأكل [ثم دعى] (2) بوَضُوء فتوضأ، ثم صلى الظهر، ثم دعى بفضل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ".
قوله: "دعتنا امرأة" قال عبد الغني: هذه المرأة: عمرة بنت حَزْم أخت عمرو بن حزم.
قوله: "بقِنَاع" بكسر القاف، وهو طبق من عسب النخل، وكذا القِنع.
ويستفاد منه: جواز الجمع بين الطعامين، والعود إلى فضلة الطعام، وترك الوضوء مما مسته النار، وسنيّة إجابة الدعوة.
ص: حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: ثنا عمارة بن زاذان، عن محمَّد بن المنكدر، قال:"دخلت على بعض أزواج النبي فقلتُ: حدثينى في شيء مما غيرت النار، فقالت: قلّ ما كانَ رسولُ اللهَ عليه السلام يأتينا إلَّا قَلَيْنا له حبَّةً تكونُ بالمدينة، فيأكل منها ويصلي ولا يتوضأ".
ش: رجاله ثقات.
قوله: "في شيء مما غيرت النار" أي في حكم أكل شيء من الأشياء التي غيّرتها النار، هل يجب فيه الوضوء أم لا؟.
قوله: "تكون" صفة للحبة.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا عثمان بن زاذان، عن محمَّد بن المنكدر قال:"دخلت على فلانة -بعض أزواج النبي عليه السلام قد سمّاها ونسيت- قالت: دخل عليّ رسول الله عليه السلام وعندي بطن معلق، فقال: لو طبخت لنا من هذا البطن كذا وكذا، قالت: فصنعناه، فأكل ولم يتوضأ".
(1)"سنن أبي داود" 1/ 49 رقم 191).
(2)
في "الأصل": ثم دعى فدعى. والمثبت من "سنن أبي داود".
ش: إسناده صحيح، ولعل المراد من "بعض أزواج النبي عليه السلام" ها هنا أم سلمة؛ لأن لها روايات كثيرة في هذا الباب، وأراد "بالبطن" ما يحتوي عليه البطن من الأحشاء.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أم حكيم قالت:"دخل عليّ رسول الله عليه السلام فأكل كتفا، فآذنه بلال بالأذان فصلى ولم يتوضأ".
ش: إسناده صحيح، وعمار بن أبي عمار: مولى، بني هاشم، روى له الجماعة إلَّا البخاري.
وأم حكيم صَفية، ويقال: عاتكة، ويقال: ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابن هاشم القرشية بنت عم النبي عليه السلام.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن صالحا أبا الخليل حدثه، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن أم حكيم ابنة الزبير حدثته:"أن رسول الله عليه السلام دخل على ضباعة بنت الزبير، فنهس من كتف عندها، ثم صل ولم يتوضأ من ذلك"، وإسناده أيضًا صحيح.
قوله: "فآذنه" أي: أعلمه.
قوله: "فنهس" بالسين المهملة، النَّهْسُ: أخذ اللحم بأطراف الأسنان، والنهش -بالمعجمة- الأخذ بجميعها، وقال الأصمعي: كلاهما واحد، وقيل: بالمهملة أبلغ منه بالمعجمة، وقيل: النهس سرعة الأكل.
ص: حدثنا ابن مرزوق، وربيعٌ الجيزيُّ، وصالح بن عبد الرحمن قالوا: ثنا القَعْنَبيُّ قال: نا فائد مولى عبيد الله بن علي، عن عبيد الله، عن جده قال: طبُخت لرسول الله عليه السلام بطن شاة، فأكل منها، ثم صلى العشاء ولم يتوضأ".
(1)"مسند أحمد"(6/ 371 رقم 27136)، (6/ 419 رقم 27394).
ش: ابن مرزوق: هو إبراهيم، والقَعْنبي: هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب، وفائد -بالفاء- وعبيد الله بن علي بن أبي رافع مولى النبي عليه السلام، وجده: أبو رافع مولى النبي، ورواية عبيد الله هذا عن جَدّه مرسلة؛ لأنه لم يدرك جده أبا رافع مولى النبي عليه السلام وإنما روايته عن أبيه علي بن أبي رافع.
وحديث أبي رافع أخرجه مسلم (1): من حديث سعيد بن أبي هلال، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي غطفان، عن أبي رافع قال:"أشهد: لكنتُ أشْوِي لرسول الله عليه السلام بطن الشاة، ثم صلى ولم يتوضأ".
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا القعنبي، قال: نا عبد العزيز، عن عمرو ابن أبي عَمرو، عن المغيرة بن أبي رافع، عن أبي رافع، عن رسول الله عليه السلام نحوه، ولم يذكر العشاء.
ش: هذا طريق آخر، وعبد العزيز: هو الدراوردي، والمغيرة بن أبي رافع يقال له: المعتمر أيضًا، وأبو رافع اسمه أسلم أو إبراهيم.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا خالد بن مخلد، نا سليمان بن بلال، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، عن حُنين بن أبي المغيرة، عن أبي رافع قال:"رأيت النبي عليه السلام أكل كتفا، ثم قام إلى الصلاة ولم يَمسَّ ماء".
ص: حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: نا أسد، قال: نا سعيد بن سالم، عن محمَّد بن حميد، قال: حدثتني هند بنت سعيد بن أبي سعيد الخدري، عن عمتها قالت:"زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أكل عندنا كتف شاة، ثم قام فصلى ولم يتوضأ".
ش: أسد: هو ابن موسى، ثقة.
وسعيد بن سالم القَدَّاح أبو عمر المكي، قال ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: محله الصدق.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 274 رقم 357).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 51 رقم 529).
ومحمد بن أبي حميد واسمُه إبراهيم الزّرقي الأنصاري، فيه مقال حتى قال يحيى: ضعيف ليس حديثه بشيء. روى له الترمذي وابن ماجه.
وهند بنت سعيد بن أبي سعيد الخدري، وثقها ابن حبان. وعمة هند بنت سعيد تكنى أم عبد الرحمن، صحابية.
وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني (1): من حديث يعقوب بن حميد، عن عبد العزيز ابن محمَّد، عن محمَّد بن أبي حميد، عن هند بنت سعيد، عن عمتها:"أن النبي عليه السلام زارهم، فأكل كتف شاة، ثم صل ولم يتوضأ".
وأخرجه الطبراني (2): من طرق عن هند بنت سعيد هذه تحدث عن عمّتها قالت: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقدمنا إليه ذراع شاة فأكل، وحضرت الصلاة، فتمضمض ثم صل ولم يتوضأ".
ص: حدثنا ربيعٌ الجيزيّ، قال: نا نضر بن عبد الجبار، قال: نا ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد، عن عبد الله بن الحارث الأسديّ الزُبتدي قال:"أكلنا مع رسول الله عليه السلام طعاما في المسجد قد شُويَ، ثم أقيمت الصلاة، فمسحنا أيدينا بالحَصْباء، ثم قمنا نصلي ولم نتوضأ".
ش: رجاله ثقات إلَّا أن في عبد الله بن لهيعة مقالا، والزُّبَيدي- بضم الزاي، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف.
وأخرجه الطبراني (3): نا المقدامُ بن داود، نا أسد بن موسى. ح
(1)"معرفة الصحابة"(6/ 3593 رقم 8096).
(2)
"المعجم الكبير"(24/ 445 رقم 1093 - 1095).
(3)
هذا الحديث في الجزء المفقود من "المعجم الكبير" للطبراني، وأخرجه الطبراني من طريق آخر بنحوه في "المعجم الأوسط"(6/ 250 رقم 6320).
وأخرجه ابن ماجه في "سننه"(2/ 1097 رقم 3300) مختصرًا من طريق الحضرمي عنه.
وكذا أخرجه الحافظ الضياء في "المختارة"(9/ 207 رقم 191 - 193) من طرق عنه.
ونا عبدان بن أحمد المروزي، نا قتيبة بن سَعيد، قالا: نا ابن لهيعة، نا سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي قال:"أُتينا ونحن مع رسول الله عليه السلام بشواء، وأقيمت الصلاة، فأدخلنا أيدينا في الحصباء ثم صلينا ولم نتوضأ"، وله في رواية أخرى:"كنا نأكل على عهد رسول الله عليه السلام -في المسجد الخبزَ واللحمَ ثم نصلي ولا نتوضأ".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني للراهيم بن سَعْد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية، أن أباه قال:"رأيت رسول الله عليه السلام يأكل ذراعا يَجْتَزُ منها، فدعي إلى الصلاة، فقام فطرح السكين، فصلى ولم يتوضأ".
ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين (1)، والأوَيسي نسْبة إلى أحد أجداد أُوَيس، بضم الهمزة.
وأخرجه البخاري (2): نا يحيى بن بكير، قال: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية، أن أباه أخبره:"أنه رأى النبي عليه السلام يَجْتَزُّ من كتف شاة، فدعي إلى الصلاة فألقى السكين، فصلى ولم يتوضأ".
وأخرجه مسلم (3): نا محمد بن الصباح، قال: نا إبراهيم بن سعد، قال: حدثني الزهري، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضّمْري، عن أبيه قال:"رأيت رسول الله عليه السلام يَجْتَزُّ من كتف يأكل منها، ثم صلى ولم يتوضأ".
قوله: "ذراعا" هو ذراع الشاة، يذكر ويؤنث.
قوله: "يجتز" أي يقطع، وقيل: هو القطع من غير إبانة، يُقال: جززت العود جزّا.
(1) قلت: عبد العزيز بن عبد الله الأويسي لم يخرج له مسلم.
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 86 رقم 205).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 273 رقم 355).
قوله: "فطرح السكين" أي رماها، والسكين يذكر ويؤنث، سميت بذلك لتسكينها حركة المذبوح.
ويستفاد منه:
- جواز قطع اللحم بالسكين لدعاء الحاجة إليه، كصلابة اللحم وكبر القطعة.
فإنْ قيل: قد جاء النهي عنه في بعض الحديث وأمر بالنَّهْش.
قلت: المراد من ذلك كراهة زي العجم واستعمال عادتهم في الأكل بالأخلة والبارجين على مذهب النخوة والترفّه عن مسِّ الأصابع الشفتين والفم، وأما إذا كان اللحم طابقا، أو عضوًا كبيرا كالجنب ونحوه؛ لا يكره قطعه بالسكين، وإصلاحه به والحزّ منه، وإذا كان عراقا ونحوه؛ فنهسُه مستحب على مذهب التواضع وطرح الكبر.
وقال ابن التين: وإنما نهي عن قطع الخبز بالسكين، قاله الخطابي.
قلت: وقد نهي عن قطع اللحم أيضًا.
رواه الطبراني (1) ولكن معناه على ما ذكرنا.
- وألَّا وضوء مما مست النار.
- واستحباب استدعاء الأئمة للصلاة إذا حانت.
- واستحباب إجابة الداعي للصلاة إذا أقيمت وترك الاشتغال بغيرها.
- وقبول الشهادة على النفي إذا كان المنفي محظورا مثل هذا، أعني قوله:"ولم يتوضأ".
(1)"المعجم الكبير"(23/ 285 رقم 624) من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف. ورواه أبو داود في "سننه"(3/ 349 رقم 3778) وذكره النسائي في "الكبرى"(2/ 96 رقم 2551) وفي "المجتبى"(4/ 171 رقم 2243) وعده من منكرات أبي معشر نجيح، والبيهقي في "الكبرى"(7/ 280 رقم 14403) كلهم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وقال أبو داود: ليس بالقوي.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن بشَيْر بن يَسار مولى بني حارثة، أن سُوَيد بن النعمان حدثه:"أنه خرج مع رسول الله عليه السلام عام خيبر، حتى إذا كان بالصهباء -وهي من أدنى خيبر- نزل فصلى العصر، ثم دعى بالأزواد، فلم يُؤت إلَّا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل وكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ".
ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال مسلم، وبشُير -بضم الباء الموحدة، وفتح الشين المعجمة- ويسار بفتح الياء آخر الحروف، والسين المهملة.
وأخرجه البخاريّ (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
والنسائي (2): عن محمَّد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه، عن ابن القاسم، عن مالك
…
إلى آخره.
قوله: "عام خَيْبر" قال ابن سعد: كانت في جمادى الأولى سنة سبع، وسمِّيت خيبر باسم رجل من العماليق نزلها، واسمه خيبر بن فانية بن مهلاييل، وبينها وبين المدينة ثمانية برد، واختلف في فتحها، فقيل: صلحا، وقيل: عنوة، وقيل: جلا أهلها عنها بغير قتال، وقيل: بعضها صلحا وبعضها عنوة، وبعضها جلا أهلها عنها بغير قتال، وعلى كل ذلك تدل الأحاديث الواردة.
قوله: "بالصهباء" وهي موضع على روحة من خيبر.
وقال البكري: على بريد، على لفظ تأنيث أصهب.
قوله: "ثم دعى بالأزواد" أبي طلبها، وهي جمع زاد، وهو طعام يتخذ للسفر، تقول: زودت الرجل فتزود، والمِزود: ما يجعل فيه الزاد.
قوله: "بالسويق" قال صاحب "المحكم": يقال فيه: السويق، والجمع أسوقة.
قال الفارسي: سمّي به لانسياقه في الحلق، والقطعة منه سويقة.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 86 رقم 206).
(2)
"المجتبى"(1/ 108 رقم 186).
وقال أبو حاتم: إن عملوا الغَريضَة -وهو ضرب من السويق- صرموا من الزرع ما يريدون حين يَسْتفرك، ثم يُسَهّمُونه -وتسهيمه أن يسخن على المِقْلى حتى يَيْبَس- وإن شاءوا جعلوا على المقلى النوذنج وهو أطيب لطعمه، وعاب رجلٌ السويقَ بحضرة أعرابي فقال: لا تعبه؛ فإنه عدة المسافر، وطعام العجلان، وغذاء المبكّر، وبلغة المريض، وهو يسر فؤاد الحزين، ويرد من نفس المحرور، وجيّد في التسمين، ومنعوت في الطب، وقفاره يحلق البلغم، ومَلتونه يصلي الدم، وإن شئت كان شرابا، وإن شئت كان طعاما، وإن شئت كان ثريدا، وإن شئت كان خبيصا (1).
والسويق يتخذ من الشعير أو القمح، يُدقّ فيكون شبه الدقيق، إذا احتيج إلى أكله خلط بماء أو لبن أو رُبَّ ونحوه.
وقال قوم: هو الكعك. قال السفاقسي: قال بعضهم كان ملتوتا بسمن، وقال الداودي: هو دقيق الشعير والسُلْت (المقلوّ)(2).
ويّردّ على من قال: هو الكعك؛ قول ابن عمر: يا حبذا الكعك بلحم مَثرود وخُشْكُنَان (مع سويق)(3) مقنود.
قوله: "فثُرِّيَ" من ثريت السويق: صبَبْت عليه ماء ثم لَتَتْتَّه، وفي "مجمع الغرائب": ثَرى تُثْرِي تَثْرِيَة: إذا بُلَّ التراب، ويقال: ثَرَّ المكان: أي رشَّشَهُ، وإنما بَلَّ السويق لما كان لحقه من اليُبْس والقدم.
ويستنبط منه أحكام:
- إباحة الزاد في السفر خلافا لمن يمنع ذلك.
- وألَّا وضوء مما مست النار.
- ونظر الإِمام لأهل العسكر عند قلة الأزواد وجمعها؛ ليقوت من لا زاد له.
(1) انظر "لسان العرب"(مادة: غرض) و"عمدة القاري"(3/ 103).
(2)
المَقْل: الغمس، انظر "لسان العرب" (مادة: مقل).
(3)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "لسان العرب" (مادة: كعك): بسويق.
- وأن القوم إذا فَنِي زاد أكثرهم، فالواجب أن يتواسوا في زاد من بقي.
- وأن المضمضة منه إنما كانت لاحتباس شيء منه بين الأسنان؛ فربما تشغل المصلي.
واستدل أبو عمر وغيره على أن هذا الحديث ناسخ لما تقدم من الحظر، وفيه نظر؛ لأن من جملة رُواة الحظر أبا هريرة، وإسلامه بعد خيبر، وهذا الحديث عن مسيرهم إليها، فافهم.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن يحيى
…
فذكر نحوه بإسناده، غير أنه لم يقل:"وهي من أدنى خيبر".
ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بشُير بن يَسار، أن سويد بن النعمان
…
فذكر نحوه.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): نا علي بن عبد العزيز، نا حماد بن زيد، نا يحيى بن سعيد، نا بشُير بن يَسار الأنصاري مولى الأنصار، أن سويد بن النعمان وهو من أصحاب النبي عليه السلام أخبره:"أنهم خرجوا مع رسول الله عليه السلام إلى خيبر، قال حتى إذا كنا بالصهباء -وهي على رَوْحة من خيبر- دعا رسول الله عليه السلام بطعام فلم يوجد غير سويق، فأكلنا ثم شربنا عليه من الماء، ثم مضمض رسول الله عليه السلام فقام فصلى".
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا يحيى بن سعيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، حدثني بشير بن يَسار، عن سويد بن النعمان:"أن رسول الله عليه السلام نزل بالصهباء عام خيبر، فلما صلى العصر دعا بالأطعمة، فلم يؤت إلَّا بسويق، قال: فلكنا -يعني أكلنا- منه، فلما كانت المغرب تمضمض وتمضمضنا معه".
(1)"المعجم الكبير"(7/ 88 رقم 6458).
(2)
"مسند أحمد"(3/ 488 رقم 16033).
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: نا مَكِّيّ بن إبراهيم، قال: نا الجُعَيد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن عبد الله بن عبيد الله، أن عمرو بن عبيد الله حدثه قال:"رأيت رسول الله عليه السلام أكل كَتِفا، ثم قام فصلى ولم يتوضأ".
ش: مكي بن إبراهيم شيخ البخاري.
والجُعيد بن عبد الرحمن المدني، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.
والحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد الطلب، أبو عبد الله المدني، ضعفّه أحمد وابن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، روى له الترمذي وابن ماجه.
وعمرو بن عبيد الله الحضرمي، قال ابن الأثير: إنه رأى النبي عليه السلام.
وقال أبو نعيم: لا تصح له رؤية.
والأول أصح.
وأخرجه أحمد (1): نا مكيّ بن إبراهيم
…
إلى آخره نحوه، وفيه:"أن عمرو ابن عبيد الله صاحب النبي عليه السلام".
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا بشر بن عُمر، قال: حدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن ثابت وغيره من مشيخة بني عبد الأشهل، عن أم عامر بنت يزيد (امرأة) (2) ممن بايعت رسول الله عليه السلام:"أنها جاءت إلى رسول الله عليه السلام بعَرْق في مسجد بني عبد الأشهل، فَعَرَقَهُ ثم قام فصلى ولم يتوضأ".
ش: إبراهيم بن إسماعيل وثقه أحمد، وضعفه يحيى بن معين (3).
(1)"مسند أحمد"(4/ 347 رقم 19075)، وليس في المطبوع:"صاحب رسول الله".
(2)
تكررت في "الأصل".
(3)
هو ابن أبي حبيبة، وقال مرة: صالح. كما في "الجرح"(2/ 83)، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث. وقال البخاري في "تاريخه الكبير" (1/ 271): منكر الحديث، وضعفه الدارقطني.
وعبد الرحمن بن عبد الرحمن بن ثابت بن صامت الأشهاري، ومنهم من يقول: عبد الرحمن بن ثابت بن صامت، قال أبو حاتم: ليس عندي منكر الحديث، وأدخله البخاري في الضعفاء (1).
وأم عامر: بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهلية.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا أبو عامر، نا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، نا عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأشهلي، عن أم عامر ابنة يزيد، امرأة من المبايعات:"أنها أتت النبي عليه السلام بعرق في مسجد بني فلان فتعرقه، ثم قام فصل ولم يتوضأ".
وأخرجه الطبراني (3): أيضًا عن ابن المبارك (4)، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن
…
إلى آخره.
قوله: "من مشيخة" جمع شيخ، قال الجوهري: جمع الشيخ: شيوخ، وأَشْيَاخ، وشِيَخَة، وشيِخَان، ومَشْيَخَةٌ، ومشايخُ ومَشْيُوخَاء، والمرأة (شيخة)(5).
وبنو عبد الأشهل بطن من الأنصار كبير، وعبد الأشهل بن جُشم بن الحارث ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.
قوله: "بعَرقٍ" فتح العين وسكون الراء، وقد فسرناه في هذا الباب.
(1) وقال أبو حاتم في "الجرح"(5/ 219): يحول حديثه من هناك.
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والحديث في "مسند أحمد"(6/ 372 رقم 27144).
(3)
"المعجم الكبير"(25/ 148 رقم 357).
(4)
هو علي بن المبارك الصنعاني شيخ الطبراني.
(5)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "مختار الصحاح" (1/ 148): والمرأة شَيْخُوخَة، وَشَيَخًا أيضًا بفتح الياء.
وانظر "لسان العرب"، (مادة: شيخ).
قوله: "فَعَرقَه" من عَرَقْتَ العظم، واعترقته وتعرقته: إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك.
فهذا كما قد رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث ترك الوضوء مما مست النار عن اثني عشر صحابيا وهم: ابن عباس، وأم سلمة، وجابر بن عبد الله، وبعض أزواج النبي عليه السلام وأم حكيم، وأبو رافع، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن الحارث، وعمرو بن أمية، وسويد بن النعمان، وعمرو بن عبيد الله، وأم عامر.
وفي الباب عن عثمان، وابن مسعود، ومحمد بن سلمة، وعبد الله بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، ورافع بن خديج، وأبي هريرة.
ص: ففي هذه الآثار ما يَنْفي أن يكون أكل ما مست النار حدثا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ منه، وقد يجوز أن يكون ما أمر به من الوضوء في الآثار الأول هو وضوء الصلاة، ويجوز أن يكون غسل اليد لا وضوء الصلاة، إلَّا أنه قد ثبت عنه بما روينا أنه توضأ وأنه لم يتوضأ، فاردنا أن نعلم ما الآخر من ذلك؟
فإذا ابنُ أبي داود وأبو أمية وأبو زرعة الدمشقي قد حدثونا قالوا: نا علي بن عياش، قال: نا شعيب بن أب حمزة، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال:"كان آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام هو ترك الوضوء مما مسّت النار".
حدثنا محمد بن خزيمة، نا حجاج، نا عبد العزيز بن مسلم، عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ثوْرَ أقطٍ فتوضأ، ثم أكل بعده كتفا فصلى ولم يتوضأ".
فثبت بما ذكرنا أن آخر الأمرين عن رسول الله عليه السلام: هو ترك الوضوء مما غيرت النار، وأن ما خالف من ذلك فقد نسخ بالفعل الثاني، هذا إذا كان ما أمر به من الوضوء يريد به وضوء الصلاة، وإن كان لا يريد وضوء الصلاة فلم
يثبت بالأحاديث الأُول أن أكل ما غيرت النار حدث، فثبت بما ذكرنا بتصحيح هذه الآثار أن أكل ما مسّت النار ليس بحدث.
ش: أراد بهذه الآثار ما رواه عن اثني عشر صحابيا بنفي الوضوء مما مست النار.
قوله: "وقد يجوز
…
إلى أخره" تحريره: أن الوضوء المذكور في الأحاديث الأُول يحتمل الوضوء الشرعي الذي هو وضوء الصلاة، ويحتمل الوضوء اللغوي وهو أن يُريد به غسل اليد والفم من دسمه وزهومته، فإن كان المراد الثاني؛ لم يثبت بالأحاديث الأول كون كل ما غيرت النار حدثا؛ لأنه إنما يكون حدثا إن لو كان المراد بالوضوء الوضوء الشرعي.
وقد روى الطبراني في "الكبير"(1) بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه قال: "إنما أمر النبي عليه السلام بالوضوء مما غيرت النار بغسل اليدين والفم للتنظيف، وليس بواجب".
وفي إسناده مُطرف بن مازن وقد نُسب إلى الكذب.
وقال أبو عمر: ذهب بعض من تكلم في تفسير حديث النبي عليه السلام: "توضؤوا مما مست النار" أنه عني به غسل اليد؛ لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة، فكأنه قال: نظفوا أيديكم من غَمر ما مسته النار، ومن دَسَم ما مسته النار، وهذا لا معنى له عند أهل العلم، ولو كان كما ظن هذا القائل؛ لكان دَسم ما لم تمسه النار وَوَدك ما لم تمسه النار لا يتنظف منه ولا تغسل منه اليد، وهذا لا يصح عند ذي لُبٍّ، بل المراد منه الوضوء المعهود للصلاة لمن أكل طعاما مسته النار، ولكن هو منسوخ على ما نبينه (2).
وقيل: وضوءه عليه السلام من ذلك يحتمل أن يكون لشيء آخر اقتضاه، أو لنقض الطهارة أو تجديدها، وقيل: كان أمره بذلك أولًا لِمَا كانت عليه الجاهلية والأعراب من قلة التنظيف، فأراد النبي عليه السلام تغيير ذلك وعلّق لهم شريعة
(1)"المعجم الكبير"(20/ 71 رقم 134).
(2)
انظر "التمهيد"(3/ 330).
الوضوء، فلما رأى استقرار النظافة فيهم والتزامهم له؛ نسخ ذلك بتخفيف الحرج في لزومه لهم. انتهى.
وإن كان المراد الأول -أعني الوضوء الشرعي- كما مال إلى هذا جمهور العلماء؛ يكون آخر الأمرين من فعله عليه السلام ناسخًا للأول كما يشهد له حديث جابر وأبي هريرة على ما نبينه عن قريب -إن شاء الله- فإن حديثهما يَشْهد أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ترك الوضوء مما غيرت النار، وأن كل ما روي [مما](1) يخالف ذلك فقد نسخ بالفعل الثاني.
وقال البيهقي في "المعرفة"(2): قال الشافعي: وإنما قلنا: لا يتوضأ منه؛ لأنه عندنا منسوخ، ألا ترى أن عبد الله بن عباس -وإنما صحبته بعد الفتح- روي عنه:"أنه رآه عليه السلام يأكل من كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ"؟ وهذا عندنا من أبين الدلالات على أن الوضوء منه منسوخ، وأن أمره بالوضوء منه للتنظيف، والثابت عنه أنه لم يتوضأ. انتهى.
وفيه نظر؛ كيف لم يثبت عنه [أنه توضأ](3) وقد روى عنه جماعة من الصحابة أنه توضأ من ذلك؟ ولهذا قال الطحاوي: إلَّا أنه قد ثبت عنه بما روينا أنه عليه السلام توضأ، وثبت عنه عليه السلام أنه لم يتوضأ، ففي مثل ذلك نحتاج إلى علم الآخر منهما، وقد دل حديث جابر وأبي هريرة أن آخر الأمْرَين تركُ الوضوء، فصار الأول منسوخا.
وقال البغوي في "شرح السنة": هو منسوخ عند عامة أهل العلم.
وقال الترمذي في "جامعه" بعد أن روى حديث جابر: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام والتابعين ومن بعدهم مثل: سفيان، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ رأوا ترك الوضوء مما مست النار، وهذا آخر الأمرين
(1) في "الأصل، ك": ما، وما أثبتناه أليق بالسياق.
(2)
"معرفة السنن والآثار"(1/ 250 - 251).
(3)
في "الأصل، ك": لم يتوضأ. وما أثبتناه هو أقرب إلى الصواب، والله أعلم.
من رسول الله عليه السلام وكان هذا الحديث ناسخا للحديث الأول -حديث الوضوء مما مست النار- انتهى.
قلت: هذا بيان المخلص من المعارضة من حيث التاريخ، وهو أن يُعلم بالدليل التاريخ فيما بَين النصين، فيكون المتأخر منهما ناسخا للمتقدم.
فإن قيل: الخبر المثبت أولى من النافي؛ لأن المثبت أقرب إلى الصدق من النافي، ولهذا قبلت الشهادة على الإثبات دون النفي، فلا يحتاج إلى طلب المخلص بالتاريخ؛ لعدم تحقق المعارضة.
قلت: الخبر الموجب للنفي معمول به كالموجب للإثبات وما يستدل به على صدق الراوي في الخبر الموجب للإثبات فإنه يستدل بعينه على صدق الراوي في الخبر الموجب للنفي، فحينئذ تتحقق المعارضة؛ فإذا تحققت المعارضة يُحتاج إلى طلب المخلص، وقد علم من الأصول أن طلب المخلص أولا من نفس الحجة، فإن لم يكن فمن الحكم، فإن لم يكن فباعتبار الحال، فإن لم يوجد فبمعرفة التاريخ نصّا، فإن لم يوجد فبدلالة التاريخ.
وقال أبو عمر: وأشكل ذلك على طائفة كثيرة من أهل العلم بالمدينة وبالبصرة، ولم يقفوا على الناسخ في ذلك من المنسوخ، ولم يعرفوا منه غير هذا الوجه الواحد، وكانوا يوجبون الوضوء مما مسّت النار، ويتوضؤن من ذلك، وممن رُوي عنه ذلك: زيد بن ثابت، وابن [عمرو](1) وأبو موسى، وأبو هريرة، وعائشة، وأم حبيبة، واختلف فيه عن أبي طلحة الأنصاري، وعن ابن عمر وأنس بن مالك وقال به: خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن عبد الملك، ومحمد بن المنكدر، وعمر بن عبد العزيز، وابن شهاب الزهري، فهؤلاء كلهم مدنيون.
(1) في "الأصل، ك": عُمر، والمثبت من "التمهيد" لابن عبد البر، وسيأتي ذكر الخلاف عن ابن عمر في هذه المسألة، انظر "التمهيد"(3/ 330، 331).
وقال به من أهل العراق: أبو قلابة، وأبو مجلز، والحسن البصري، ويحيى ابن يعمر، وهؤلاء كلهم بصريون، وكأن ابن شهاب قد علم الوجهين جميعًا في ذلك وروى الحديثين المتعارضين في هذا الباب، وكان يذهب إلى أن قوله: عليه السلام: "توضؤوا مما غيرت النار" ناسخ لفعله المذكور في حديث ابن عباس [هذا](1) ومثله.
وهذا مما غَلط فيه الزهري مع سعة عمله، وقد ناظره أصحابه في ذلك وقالوا: كيف يذهب الناسخ على أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعلي، وهم الخلفاء الراشدون؟! فأجابهم بأن قال: أعيى الفقهاء أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله عليه السلام من منسوخه.
وقال أبو عمر (2): أظن أن ابن شهاب كان يقول: إن أمهات المؤمنين لا يخفى عليهن الآخر من فعله عليه السلام؛ فبهذا استدل -والله أعلم- على أنه الناسخ، وعن عائشة:"كان آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام الوضوء مما مسّت النار".
ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام أيضًا.
حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن جابر.
وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر.
وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر.
وحدثنا أبو بكرة، قال: نا إبراهيم بن بشار، قال: نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر.
وحدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن عمرو، عن جابر.
(1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد"(3/ 332).
(2)
"التمهيد"(3/ 334 - 337) نحوه باختصار وتصرف.
وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا زائدة، قال: نا عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن جابر قال:"أكلنا مع أبي بكر رضي الله عنه خبزا ولحما، ثم صلى ولم يتوضأ".
وفي حديث عبد الله بن محمَّد خاصّة: "وأكلنا مع عمر خبزا ولحما ثم قام إلى الصلاة ولم يمس ماء".
ش: أي وقد روي ترك الوضوء عن أكل ما مسّته النار عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ما روى جابر بن عبد الله عنه ذلك.
وأخرجه الطحاوي من عشر طرق:
[الأول](1): عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن رباح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن جابر.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:"أكل أبو بكر الصديق رضي الله عنه كتف لحم -أو ذراع- ثم قام فصلى لنا ولم يتوضأ".
قال عطاء: وحسبت أن جابرا قال: "ولم يمضمض ولم يغسل يده" قال: حسبت أنه قال: "مسح بيده".
الثاني: عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
(1) تكررت في "الأصل، ك".
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 167 رقم 647).
وأخرجه ابن أبي شيبة (1) في "مصنفه": نا هُشَيم، أنا عمرو بن دينار وأبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال:"أكلت مع أبي بكر خبزا ولحما، فصلى ولم يتوضأ".
الثالث: عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن سليمان بن قيس اليشكري البصري، عن جابر.
وهؤلاء ثقات، لكن قيل: إن سليمان بن قيس مات في حياة جابر، ولم يسمع منه أبو بشر.
الرابع: عن أبي بكرة، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن جابر.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله يقولُ:"أكل أبو بكر خبزا ولحما ثم صلى ولم يتوضأ".
الخامس: عن يونس بن عبد الأعل، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر. وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق (3) عن مَعْمر والثوري، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال:"أكلنا مع أبي بكر خبزا ولحما، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ".
قال معمر: ثم أحسبه قال: "إلَّا أنه تمضمض".
السادس: عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن زائدة بن قدامة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب عن جابر.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 52 رقم 532).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 167 رقم 648).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 167 رقم 649).
وفي عبد الله هذا مقال.
قوله: "وفي حديث عبد الله بن محمَّد
…
" إلى آخره: أشار به إلى أن ذكر عمر رضي الله عنه جاء في روايته خاصة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابرا وظننته سمعه (من ابن عقيل)(2) عن جابر: "أن النبي عليه السلام أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ، وأن أبا بكر أكل (لبنا) (3) فصلى ولم يتوضأ، وأن عمر رضي الله عنه أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن المنهال، قال: نا يزيد زريع، قال: نا رَوْح بن القاسم، عن محمَّد بن المنكدر عن جابر، عن أبي بكر وعمر رضي الله عنه مثله.
ش: هذا الطريق السابع، وهو صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن أبي داود إبراهيم.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): نا هشيم، أنا علي بن زيد، نا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال:"قلت مع رسول الله عليه السلام ومع أبي بكر وعمر وعثمان خبزا ولحما، فصلوا ولم يتوضئوا".
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن أبي نُعَيْم وهب ابن كيسان، أنه سمع جابر بن عبد الله يَقُولُ:"رأيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه أكل لحما، ثم صلى ولم يتوضأ".
ش: هذا الطريق الثامن، ورجاله كلهم رجال مسلم وغيره.
(1)"مسند أحمد"(3/ 307 رقم 14338).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند أحمد": من ابن عقيل وابن المنكدر وعبد الله بن محمد بن عقيل.
(3)
كذا في "الأصل، ك" وبعض نسخ "المسند"، وفي المطبوع من "المسند": لحمًا".
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 51 رقم 521).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا ابن عُلَيّة، عن أيوب، عن وهب بن كيْسان، عن جابر:"أن أبا بكر أكل خبزا ولحما فما زاد على أن مضمض فاه وغسل يديه ثم صلى".
وأخرجه البيهقي (2): عن أبي عبد الله الحافظ، عن أبي العباس محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: نا همام، قال: نا قتادة، قال: قال لي سليمان بن هشام: وإن هذا لا يَدَعنا -يعني الزهري- أن نأكل شيئْا إلَّا أمَرنا أن نتوضأ منه، فقلت: سألت عنه سعيد بن المسيب، فقال: إذا أكلته فهو طيب ليس عليك فيه وضوء فإذا خرج فهو خبيث عليك فيه الوضوء. قال: ما أراكما إلَّا قد اختلفتما، فهل بالبلد من أحد؟ فقلت: نعم؛ أقدم رجل في جزيرة العرب. قال: مَنْ هو؟ قلت: عطاء. فأرسل، فجيء [به] (3) فقال: إن هذين قد اختلفا عليّ فما تقول؟ فقال: حدثنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه
…
" ثم ذكر عن أبي بكر مثله.
ش: هذا الطريق التاسع، وأبو عُمر الحوضي حفص بن عمر وقد تكرر ذكره، وهمام بن يحيى العوذي، وقتادة بن دعامة السَّدُوسي، وعطاء بن أبي رباح، وكلهم أئمة أجلاء ثقات.
وسليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، وكان أميرا في عهد أبيه ولم يل الخلافة، قتله السفاح فيمن قَتَل من بني أمَيَّة، سنه ثلاث وثلاثين ومائة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(4): ثنا عفان وبهز، قالا: نا همام، قال بهز: نا قتادة
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 52 رقم 534).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 157 رقم 705).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"، و"مسند أحمد" كما سيأتي.
(4)
"مسند أحمد"(3/ 363 رقم 14962).
قال: قال لي سليمان
…
إلى آخره نحوه، وفي آخره:"قال: قال لعطاء: ما تقول في العمرى؟ قال: حدثني جابر أن النبي عليه السلام قال: العمرى جائزة".
قوله: "لا يدعنا" أي: لا يتركنا.
قوله: "في جزيرة العرب" من جهة الغرب بحر القلزم من أطراف اليمن إلى أيلة، وأيلة من جزيرة العرب، ومن جهة الشرق إلى البصرة، ومن الجنوب بحر الهند إلى آخر اليمن من جهة الحجاز إلى حد الجهة الغربية، وفي الشمال بعض الشام إلى بَالِس على الفرات إلى الرحَبة وعَانة.
ص: حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: نا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء، قال: حدثني جابر: "أنه رأى أبا بكر فعل ذلك".
ش: هذا الطريق العاشر، عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون أبي بكر السكري الإسكندراني، وثقه ابن يونس، وروى عنه أبو داود والنسائي.
والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن يحيى بن ربيعة، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: أخبرني جابر بن عبد الله: "أن أبا بكر أكل كتف شاة -أو ذراع- ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقيل له: نأتيك بوَضوء؟ فقال: إني لم أحدث".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو الوليد، قال: نا شعبة، عن حماد ومنصور وسليمان ومغيرة، عن إبراهيم:"أن ابن مسعود وعلقمة خرجا من بيت عبد الله بن مسعود يُريدان الصلاة، فجيء بقصعة من بيت علقمة فيها ثريد ولحم فأكلا، فمضمض ابن مسعود وغسل أصابعه، ثم قام إلى الصلاة".
ش: أبو الوليد: هشام بن عبد الملك، وحماد: هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، ومنصور: هو ابن المعتمر، وسليمان: هو الأعمش، ومغيرة: هو ابن مقسم الضبّي،
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 171 رقم 664).
وإبراهيم: هو ابن يزيد النخعي، وعلقمة: هو ابن قيس النخعي، وهؤلاء كلهم أئمة أجلاء أَثْبات.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة:"أُتِينا بجفنة ونحن مع ابن مسعود، فأمر بها فوضعت في الطريق، فأكل منها وأكلنا معه، وجعل يدعو مَنْ مَرَّ به، ثم مضينا إلى الصلاة، فما زاد على أن غسل أطراف أصابعه، ومضمض فاه، ثم صلّى".
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق
…
إلى آخره.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن الحجاج، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إليّ من أتوضأ من اللقمة الطيبة".
ش: رجاله ثقات، وحجاج الأول: هو ابن المنهال، والثاني: هو بن أرْطاة النخعي الكوفي، وحماد: هو ابن سلمة، والأعمش: هو سليمان، ووالد إبراهيم: هو يزيد بن شريك التيمي.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): نا علي بن عبد العزيز، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن الحجاج، عن الأعمش
…
إلى آخره نحوه.
"والخبيثة": الرديَّة، من خَبُثَ الشيء خباثة، وخَبُثَ الرجل خبثا فهو خبيث أي رديء، وأصل الخبيث خلاف الطيب.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب أن مالكا حدثه، عن محمَّد بن المنكدر وصفوان بن سليم، أنهما أخبراه عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 168 رقم 650).
(2)
"المعجم الكبير"(9/ 250 رقم 9234).
(3)
"المعجم الكبير"(9/ 248 رقم 9223).
التَيْمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير:"أنه تعشى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم صلى ولم يتوضأ".
ش: إسناده صحيح، وربيعة بن عبد الله: عم محمَّد بن المنكدر.
وأخرجه محمَّد بن الحسن في "موطأه"(1): عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن ضَمْرة بن سعيد المازني، عن أبان بن عثمان:"أن عثمان رضي الله عنه أكل خبزا ولحما، وغسل يديه ثم مسح بهما وجهه، ثم صلى ولم يتوضأ".
ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه محمَّد بن الحسن في "موطأه"(2): عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(3): عن أبي علي الروذباري، عن أبي النضر الفقيه، عن عثمان بن سعيد، عن يحيى بن بكير المصري، عن مالك
…
إلى آخره.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا أيوب بن سليمان بن بلال، قال: حدثني أبو بكر بن أبي أُوَيْس، عن سُليمان، عن عُتبة بن مسلم، عن عبيد بن حُنيْن، قال:"رأيت عثمان رضي الله عنه أُتي بثريد فأكل، ثم تمضمض، ثم غسَل يَديْه، ثم قام فصلى للناس (4) ولم يتوضأ".
ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأيوب بن سليمان: شيخ البخاري، وأبو بكر اسمه: عبد الحميد بن عبد الله بن أَويس المدني، وسليمان هو: ابن بلال القرشي المدني، وعتبة بن مسلم: التيمي مولاهم المدني، وعبيد بن حنين: المدني مولى آل زيد بن الخطاب. وهؤلاء كلهم مدنيّون.
(1)"موطأ مالك": رواية محمد بن الحسن (1/ 38 رقم 31).
(2)
"موطأ مالك": رواية محمَّد بن الحسن (1/ 39 رقم 32).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 157 رقم 707).
(4)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": بالناس.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو الوليد، قال: نا شعبة، عن أبي نوفل بن أبي عَقْرب الكناني قال:"رأيت ابن عباس رضي الله عنه أكل خبزا رقيقا ولحما حتى سال الوّدك على أصابعه، فغسل يديه وصلى المغرب".
ش: إسناده صحيح، وأبو الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسيّ، وأبو نوفل قيل: اسمه مسلم، وقيل: عمرو بن مسلم بن أبي عقرب، وقيل: معاوية بن مسلم، والكناني: نسبة إلى كنانة بن خزيمة وهي عدة قبائل.
قوله: "رقيقا" ضد الثخين، قال الجوهري: الخبز الرُّقاق -بالضم-: الخبز الرقيق، و"الوَدك" -بفتحتين-: دسم اللحم، يقال: دجاجة وديكة: أي سمينة.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا عثمان بن عمر، قال: نا إسرائيل، عن طارق، عن سعيد بن جُبَير:"أن ابن عباس أُتي بجفنة من ثريدٍ ولحم عند العصر فأكل منها، فأُتي بماء فغسل أطراف أصابعه، ثم صلى ولم يتوضأ".
ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة، وإسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي.
قوله: "بجفنة" وهي كالقصعة، والجمع جفان وجفنات.
"والثريد" خبز أو رقاق مُفتّت، مسقي بالودك، عليه لحم مقطع، وقيل: لا يكون الثريد حتى يكون فيه لحم، ولكن عطف اللحم هنا على الثريد يردّ هذا القول.
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن جبير قال:"دخل قوم على ابن عباس فأطعمهم طعاما، ثم صلى بهم على طِنفسه، فوضعوا وجوههم وجباهم وما توضؤا".
ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله.
قوله: "طِنْفَسة" -بكسر الطاء وفتحها وسكون النون وفتح الفاء-: وهي البساط الذي له خمل رقيق، وجمعه طنافس.
وقال ابن الأثير: الطنفسة بكسر الطاء والفاء وبضمهما، وبكسر الطاء وفتح الفاء.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا المسعودي، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه قال: "قال ابن عمر لأبي هريرة: ما تقول في الوضوء مما غيرت النار؟ قال: توضأ منه، قال: ما تقول في الدهن والماء المسخن، نتوضأ منه؟ فقال: أنت رجل من قريش وأنا رجل من دوس، قال: يا أبا هريرة لعلك تلتجئ إلي هذه الآية {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (1).
ش: إسناده صحيح، وأبو داود: سليمان بن داود الطيالسي، وقد تكرر، والمسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وثقه أحمد ويحيى، واستشهد به البخاري، وروى له الأربعة.
وسعيد بن أبي بردة، واسم أبي بردة: عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري.
قوله: "قال: ما تقول" أي قال ابن عمر لأبي هريرة: ما تقول، وهذا القول منه إلزام لأبي هريرة، واعتراض عليه فيما ذهب إليه من إيجابه الوضوء مما غيرته النار.
قوله: "أنت رجل من قريش" أراد به أبو هريرة: أنك رجل شريف لأنك قرشي وأنا رجل وضيع لأني دوسيّ، فكيف أقاومك في الجواب والمعارضة؟! ثم إن ابن عمر رضي الله عنه فهم من كلامه أنه ينسبه بهذا الكلام إلى اللجاجة والخصام، وقال له: لعلك تلتجئ إلى هذه الآية {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (1).
ص: حدثنا روْح بن الفرج، قال: نا يوسف بن عديّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حُصَين، عن مجاهد، قال ابن عمر:"لا نتوضأ من شيء تأكله".
ش: إسناده صحيح، ويوسف بن عدي: شيخ البخاري.
(1) سورة الزخرف، آية:[58].
وأبو الأحوص سلّام بن سُليم الكوفي، روى له الجماعة.
وحُصين -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السُلمي الكوفي، روى له الجماعة.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: نا حماد، عن أبي غالب، عن أبي أمامة:"أنه كل خبزا ولحما فصلى ولم يتوضأ، وقال: الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل".
ش: حمّاد: هو ابن سلمة.
وأبو غالب: البصري صاحب أبي أمامة، اختلف في اسمه فقيل: اسمه حَزَوَّر، وقيل: سعيد بن الحَزَوَّر، وقيل: نافع، ضعفه النسائي، ووثقه الدارقطني.
وأبو أمامة صُدَيْ بن عَجْلان الباهلي الصحابي.
قوله: "الوضوء مما يخرج" أي: يجب من أجل خروجه من السبيلن، أو من غيرهما إذا كان نجسا نحو: الدم والقيح، وليس مما يدخل أي: من أجل ما يدخل في باطن [ابن](1) آدم من الأكل والشرب، وهذا كله خلاف حكم الصوم.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فهؤلاء الِجلَّة من أصحاب رسول الله عليه السلام لا يَروْن في أكل ما غيرت النار وضوءا.
ش: أشار بهؤلاء إلى الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي أمامة الباهلي، الذين روي عنهم أنهم لا يرون الوضوء مما مست النار.
"والِجلّة" -بكسر الجميع وتشديد اللام-: جمع جَليل، كَصِبْية جمعُ صبي، والجليل بمعنى العظيم، وأراد هؤلاء الأكابر والأعاظم من الصحابة رضي الله عنهم.
ص: وقد روي عن آخرين منهم مثل ذلك ممن قد رُوي عنه عن رسول الله عليه السلام أنه أمر بالوضوء مما غيرت النار.
(1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.
ش: أي وقد رُوي عن جماعة آخرين من الصحابة مثل ما رُوي عن هؤلاء الِجلَّة من الذين قد رُوي عنهم عن رسول الله عليه السلام أنه أمر بالوضوء مما غيرت النار، وأراد بهذا: تأكيد ما قاله فيما مضى من انتساخ الأمر بالوضوء مما غيرت النار؛ لأن رواية من رَوى ترك الوضوء منه بعد روايته أنه أمر بالوضوء منه أول دليل على نسخ الحكم الأول؛ لأن الصحابة محفوظون من أن يرووا شيئًا عن النبي عليه السلام ثم يقولون أو يفعلون بخلافه إلَّا بعد ثبوت النسخ عندهم.
ص: فمن ذلك: ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا بشْر بن بكر، قال: نا الأوزاعي، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد الأنصاري، قال: حدثني أنس بن مالك، قال:"بينا أنا وأبو طلحة الأنصاري وأبي بن كعب أُتينا بطعام سخن فأكلنا، ثم قمت فتوضأت، فقال أحدهما لصاحبه: أَعِرَاقيةٌ؟! ثم انتهراني، فعلمتُ أنهما أفقه مني".
ش: أي فمن هذا الذي ذكرنا من قولنا: "وقد روي عن آخرين منهم .... " إلى آخره.
قوله: "ما حدثنا" مبتدأ، و"من ذلك" مقدما خبره و"ما" موصولة، و"حدثنا" صلتها.
وإسناده حسن ورجاله ثقات، والأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): أنا أبو أحمد عبد الله بن محمَّد، أنا أبو بكر محمَّد بن جعفر المزكي، نا محمَّد بن إبراهيم العبدي، نا بُكير، نا مالك، عن موسى بن عقبة، عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري:"أن أنس بن مالك قَدِمَ من العراق، فدخل عليه أبو طلحة وأبي بن كعب، فقَرب إليهما طعاما قد مسّته النار، فأكلوا منه، فقام أنس فتوضأ، فقال له أبو طلحة وأبي بن كعب: ما هذا يا أنس، أعِراقية؟! فقال أنسٌ: ليتني لم أفعل. وقام أبو طلحة وأبي بن كعب فَصَلَّيَا ولم يتوضئا".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 158 رقم 711).
قوله: "بينا" أصله: "بين" أشبعت فتحتها بالألف، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة، وكذلك "بينما" ويضافان إلى جملة، ويحتاجان إلى جواب، والأفصح في جوابهما ألَّا يكون فيه "إذ" ولا "إذا".
وقوله: "أنا" مبتدأ، وخبره محذوف و"أبو طلحة وأبي بن كعب" عطفا عليه، والتقدير: بينا أنا قاعد أو جالس، وأبو طلحة وأبي قاعدان.
قوله: "أُتِينا" على صيغة المجهول، جواب "بينا" وقد وقع على شرط الفصاحة.
قوله: "أعراقية" الهمزة للاستفهام على وجه الإنكار، والمعنى، هل هذه الفعلة التي فعلها أنس عراقية؟ يعني منسوبة إلى العراق، فكأنهما استغربا ذلك عن أنس ونسباه إلى العراق، فكأنه تعلّم هذا في العراق ثم أتى به إلينا.
قوله: "ثم انتهراني" أي زجراني ومنعاني عن ذلك، يقال: نهرته، وأنتهرته، بمعنى.
قوله: "فعلمت أنهما" أي أن أبا طلحة وأبي بن كعب "أفقه" أي أعلم بهذه المسألة مني، فهذا يدل على أن ما فعله أنس من قبل من الوضوء مما مسته النار لعدم وقوفه على النسخ، فلما علمه منهما؛ رجع عما كان يفعله، ولهذا قال في رواية البيهقي:"ليتني لم أفعل" وكذلك أبو طلحة هو الذي روى الوضوء مما مسته النار، ثم تركه؛ لما علم بانتساخه.
ص: حدثنا يونس، قال: نا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن موسى بن عقبة، عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري: "أن أنس بن مالك قدم من العراق
…
، ثم ذكر مثله، وزاد:"فقام أبو طلحة وأبي فصليا ولم يتوضئا".
ش: هذا طريق آخر وهو صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه مالك في "موطأه"(1).
(1)"موطأ مالك"(1/ 27 رقم 56).
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني إسماعيل بن رافع ومحمدُ بن النيل، عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري، عن أنس بن مالك قال:"أكلت أنا وأبو طلحة وأبو أيوب الأنصاري طعاما قد مسته النار، فقمتُ لأن أتوضأ، فقالا لي: تتوضأ من الطيبات؟! لقد جئت بها عراقية".
فهذا أبو طلحة وأبو أيوب قد صليا بعد أكلهما ما غيرت النار ولم يتوضئأ، وقد رويا عن رسول الله عليه السلام أنه أمر بالوضوء من ذلك فيما قد روينا عنهما في هذا الباب، فهذا لا يكون عندنا إلَّا وقد ثبت نسخ ما قد روَياه عن النبي عليه السلام من ذلك عندهما، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: هذا وجه آخر في الحديث المذكور، يَرْويه عن إبراهيم بن أبي في أوفى، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي، وهو ثقة، روى له الجماعة.
وإسماعيل بن رافع بن عُوَيْمر المدني، قال يحيى: ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث.
ومحمد بن النَيْل الفهري المصري، ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه، وقال الدارقطني: شيخ من أهل مصر، والنيل: بفتح النون وسكون الياء آخر الحروف كذا ضبطه الدارقطني، وقال الصاغاني في "العباب": وأبو النيل الشامي، ومحمد بن نيل الفهري من أصحاب الحديث يُقَالان بفتح النون وكسرها، ذكره في مادة النون والياء -آخر الحروف- واللام، ومَنْ ضَبطَه بالنون والباء الموحدة فقد صحّف.
ويحيى بن أيوب الغافقي يَرْوي عن إسماعيل بن رافع ومحمد بن النيل هذا، وكلاهما يَرْويان عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري، قال أبو حاتم: ما بحديثه بأس.
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن محمَّد بن راشد، قال: أخبرني عثمان بن عمرو التيمي، عن عقبة بن زيد، عن أنس بن مالك قال:"قدمت المدينة فتعشيتُ مع أبي طلحة قبل المغرب، وعنده نفر من أصحاب النبي عليه السلام منهم أبي بن كعب، فحضرت المغرب، فقمت أتوضأ، فقالوا: ما هذه العراقية التي أحدثتها؛ من الطيبات تتوضأ؟! فصلوا المغرب جميعًا ولم يتوضؤا".
قوله: "أنتوضأ" الهمزة فيه للاستفهام "من الطيبات" أي: من المواكيل الطيّبات.
قوله: "لقد جئت بها" أي بهذه الفَعْلة يعني الوضوء مما مسته النار.
قوله: "عراقية" بالنصب على الحال، من الضمير الذي في "بها".
قوله: "وقد رويا" جملة وقعت حالا، أي والحال أنهما -أي أبا طلحة وأبا أيوب- قد رَوَيَا عن رسول الله عليه السلام أنه أَمَر بالوضوء مما مَسّته النار، أما حديث أبي طلحة فهو ما رواه في أول الباب:"أنه عليه السلام أكل ثوْرَ أقطٍ فتوضأ منه"(2).
وأما حديث أبي أيوب فهو ما رواه النسائي في "سننه"(3): وقال: أخبرنا عَمرو بن علي ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو، قال حدثني محمَّد القاري، عن أبي أيوب قال: قال النبي عليه السلام: "توضئوا مما غيرت النار".
والطحاوي لم يَرو حديث أبي أيوب في هذا الكتاب، وإنما رواه في غيره، ولكن في هذا الباب -يعني باب حكم ما مّسته النار- فلذلك قال: فيما قد روينا عنهما في هذا الباب.
قوله: "فهذا لا يكون عندنا
…
" إلى آخره إشارة إلى بيان وجه النسخ، وذلك لأن الصحابي إذا روى شيئًا ثم عمل أو أفتى بخلافه يدلّ ذلك على أنه قد ثبت النسخ عنده فيما رواه لأنا لا نظن بالصحابة إلَّا كل خير.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 170 رقم 659).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
"المجتبى"(1/ 106 رقم 176).
ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا هذه الأشياء التي قد اختلف في أكلها أنه ينقض الوضوء أم لا إذا مستها النار، فقد أجمع كلٌ أن أكلها قبل مُمَاسَّةِ النار إياها لا يَنقُض الوضوءَ، فأردنا أن نَنظُرَ، هل للنار حكمٌ يجب في الأشياء إذا ماستها فَيُنُقَل به حكمُها إليها؟ فرأينا الماء القَراح تُؤدَّى به الفروض، ثم رأيناه إذا سُخِّنَ فصار مما قد مَسّته النار أن حكمه في طهارته على ما كان عليه قبل مماسة النار إياه، وأنَّ النار لَمْ تُحْدِثُ فيه حكمًا يَنتقلُ به حكمُه إلى غير ما كان عليه في البدْء، فلما كان ما وصَفْنا كذلك كان في النظر أن الطعام الطاهرَ الذي لا يكون أكله قبل أن تمسه النار حدثا؛ إذا مسَّته النارُ لا تَنقله عن حاله فلا يُغيَّر حكمَه، ويكون حكمه بعد مَسِيس النار إياه كحكمه قبل ذلك، قياسا ونظرا على ما بَيّنا، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمهم الله.
ش: بَنَى هذا القياس على مقدمتين مُسلمتين:
الأولى: أن كل الطعام قبل مماسة النار إياه لا ينقض الوضوء بلا خلاف.
والثانية: أن الماء القراح الطاهر إذا سخن بالنار لا تُحدث فيه النار شيئا، ولا تُغير حكمه عما كان عليه، فالنظر عليه كون الطعام كذلك بعد مماسة النار إياه، أنها لم تُحدث فيه شيئًا ولم تغير حكمه عما كان عليه.
فإن قلت: كيف تقول إن النار لم تحدث فيه شيئًا، فإنه قبل مماسة النار إياه يُسمّى: نيّا، وبعدها يسمى نضيجا، أليس هذا إحداث؟
قلت: هذا الإحداث لا يضرنا شيئا؛ لأن المراد إحداث أمر شرعيّ متعلق به الحكم، وهذا ليس بأمر شرعي؛ لأن الطعام يباح كله قبل مسّ النار وبعده، وإنما يمنع أكل بعض الطعام قبل مسّ النار من جهة الطب لا من جهة الشرع، والنار لا تحل شيئًا ولا تحرّمه، وإنما تأتي بلذة المطعوم وتزيده طيبا، ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنه:"إنما النار بركة الله، وما تُحِلّ من شيء ولا تحرّمه، ولا وضوء مما مسّته النارُ، ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج من الإنسان".
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج، عن عطاء عنه.
وأخرجه عنه أيضًا (2): أنه قال: "ما زاده النار إلَّا طيبا، ولو لم تمسّه النار لم تأكله".
قوله: "الماء القراح" بفتح القاف، وهو الماء الخالص الذي لا يَشُوبه شيء، ومنه سُمّيت المزرعة التي ليس عليها بناء ولا شجر قراحا، والجمع أقرحة.
قوله: "في البدءْ" أي في الابتداء.
ص: وقد فرق قومٌ بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، فأوجبوا في أكل لحوم الإبل الوضوءَ ولم يوجبوا ذلك في لحوم الغنم.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، ويحي بن يحيى وآخرين.
وفي "المغني": أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال، نيّا ومطبوخا و (مشويّا)(3) عالمًا كان أو جاهلا، وبهذا قال جابر بن سمرة، ومحمد بن إسحاق، وإسحاق بن راهوية، وأبو خيْثمة، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر.
وقال الخطابيّ: ذهب إلى هذا عامّة أصحاب الحديث.
وقال ابن حزم فى "المحلى"(4): وكل لحوم الإبل عمدًا -يعني ينقض الوضوء- نيَّة ومطبوخة ومشويّة، وهو يدري أنه جمل أو ناقة. ولا يُنتَقض الوضوء بأكل شحومها محضة، ولا أكل شيء منها غير لحمها، فإن كان يقع على بطونها ورءوسها وأرجلها اسم لحم عند العرب؛ نقض أكلها الوضوء وإلَّا فلا، ولا ينقض الوضوءَ كل شيء مَسته النارُ غير ذلك، وبهذا يقول أبو موسى الأشعري وجابر بن سمرة،
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 168 رقم 653).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 169 رقم 656).
(3)
ليست في "المغني"(1/ 121).
(4)
"المحلى"(1/ 241) بتصرف.
ومن الفقهاء: أبو خيْثمة زهير بن حرب، ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: نا مُؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان، قال: نا سماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة قال:"سئل رسول الله عليه السلام: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. قيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا".
ش: أي احتج هؤلاء القوم في وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، وعدمه من أكل لحم الغنم.
بحديث جابر بن سمرة هذا، ورجاله ثقات، والحديث صحيح، وقال ابن مّندة: حديث جابر بن سمرة صحيح، وكذا قال البيهقي. وأخرجه مسلم (1) أيضًا: نا أبو كامل الجحدري، ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة:"أن رجلًا سأل رسول الله عليه السلام أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم؛ فتوضَأْ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا".
وأخرجه ابن ماجه (2): نا محمَّد بن بشار، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا زائدة وإسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، قال:"أمرنا رسول الله عليه السلام أن نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم".
ص: حدثنا علي بن مَعبد، قال: نا معاوية أبي عَمرو، قال: نا زائدة، عن سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جده جابر، عن النبي عليه السلام نحوه.
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح على شرط مسلم.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 275 رقم 360).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 166 رقم 495).
قوله: "عن جدّه" قيل: من قبل أمّه، وقيل: من قبل أبيه.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): نا يوسف القاضي، نا سليمان بن حرب، نا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور بن جابر بن سمرة، عن جده جابر بن سمرة:"أن رجلًا قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم (من لحوم) (2) الغنم؟ قال: إن شئت فعلت وإن شئت لم تفعل. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبَات الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبَات الإبل؟ قال: لا".
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا الحجاج، نا حماد، عن سماك بن حرب، عن جعفر، عن جده جابر بن سمرة: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فعلت وإن شئت لم تفعل. قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم".
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): نا بهز، نا حماد، عن سماك .... إلى آخره نحوه.
ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موْهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وأبو عوانة الوضاح اليشكري.
وأخرجه مسلم (4) من هذا الطريق كما ذكرنا.
(1)"المعجم الكبير"(2/ 210 رقم 1860).
(2)
تكررت في "الأصل، ك".
(3)
"مسند أحمد"(5/ 92 رقم 20899).
(4)
تقدم تخريجه.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1) أيضًا: نا معاذ بن المثنى، نا مسدد. ح
ونا طالب بن قرة الأذني، نا محمَّد بن عيسى بن الطباع. ح
ونا أبو حصين القاضي، نا يحيى الحماني، قالوا: نا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر قال: "كنت جالسا عند رسول الله عليه السلام فَسُئِل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فقال: نعم، فتوضئوا من لحوم الإبل. فقالوا: نصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.
[قالوا](2): أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ.
[قالوا]: نصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم".
واحتج هؤلاء القوم بحديث جابر بن سمرة فيما ذهبوا إليه.
وقال ابن قدامة في "المغني": ولنا في هذا الباب حديث جابر بن سمرة وحديث البراء. وقد قال أحمد: فيه حديثان صحيحان عن النبي عليه السلام حديث البراء وحديث جابر بن سمرة. وكذلك قال إسحاق. وحديثهم لا أصل له إنما هو قول ابن عباس.
قلت: أراد به ما استدل به الحنفية والشافعية والمالكية من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: "الوضوء مما يخرج لا مما يدخل".
ثم قال: فإن قيل: الوضوء ها هنا غسل اليد؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضي غسل اليد كما كان عليه السلام يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده. وخص ذلك بلحوم الإبل لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في لحوم الغنم؛ قلنا: هذا فاسد؛ فإنه نوع تأويل يخالف الظاهر من وجوه أربعة:
أحدها: أنهم حملوا الأمر على الاستحباب، ومقتضاه الوجوب.
والثاني: أنهم حملوا الوضوء على غير موضوعه في الشرع، ولفظ الشارع عند الإطلاق إنما يحمل على الموضوعات الشرعية.
(1)"المعجم الكبير"(2/ 212 رقم 1866).
(2)
في "الأصل، ك": قال، والمثبت من "معجم الطبراني الكبير" وهو الموافق للسياق.
الثالث: أنهم جمعوا بين ما نهى النبي عليه السلام عنه وبين ما أمر به، فإن النبي عليه السلام أمر بالوضوء من لحوم الإبل، ونهى عن الوضوء من لحوم الغنم، ومتى حُمل الأمر على استحباب غسل اليد فهي مستحبة فيهما جميعًا بدليل الحديث الذي رووه.
الرابع: أن السائل سأل عن الوضوء من لحومها والصلاة في مباركها، والوضوء المقرون بالصلاة لا يفهم منه غير المشروع لها، ومخالفة هذه الظواهر كلها لا يجوز بمثل هذا التأويل الضعيف الذي ليس له أصل، وَمِنَ العجب أن مخالفينا أوجبوا الوضوء فيما يخالف القياس بأحاديث ضعيفة، فبعضهم أوجبه بالقهقهة في الصلاة، والخارج من غير السبيل، وبعضهم أوجبه من لمس الذكر بحديث مختلف فيه لا يقارب هذه الأحاديث في الصحة، والتأويل فيه أسهل من التأويل ها هنا، وقد عارضه حديث قيس بن طلق، وقد قال أحمد: ما أعلم به بأسا. وقال: الوضوء من أكل لحم الجزور أقوى من الوضوء من مس الفرج؛ لصحة الحديث فيه، ثم عدلوا عن هذا الحديث مع صحته وظهور دلالته لمخالفته القياس الطردي. انتهى (1).
والجواب عن الحديث: أنه منسوخ بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "كان آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام ترك الوضوء مما مسته النار".
ويتناول ذلك لحوم الإبل وغيرها، والجواب عن قوله:"وحديثهم لا أصل له إنما هو من قول ابن عباس": غير صحيح؛ لأن الحديث له أصل.
وقد أخرجه الطبراني (2) بإسناده عن أبي أمامة قال: "دخل رسول الله عليه السلام على صفية بنت عبد المطلب فَغَرفَت له -أو فقربت له- عرْقا فوضعته بين يديه ثم غرفت -أو قربت- آخر فوضعته بين يديه فأكل ثم أتى المؤذن فقال: الوضوء الوضوء. فقال: إنما الوضوء علينا (مما) (3) خرج وليس علينا (مما) (3) دخل" ولئن
(1)"المغني" لابن قدامة (1/ 122) بتصرف واختصار.
(2)
"المعجم الكبير" للطبراني (8/ 210 رقم 7848).
(3)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "معجم الطبراني":"فيما".
سلمنا ذلك، أو قلنا بضعف حديث الطبراني؛ لكون عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد في إسناده وهما ضعيفان، حتى قيل: لا يحل الاحتجاج بهما، فنقول: قول ابن عباس صحيح، قد روي عنه من وجوه كثيرة:
منها ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا ابن عُلَيّة، عن أيوب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"الوضوء مما خرج وليس مما دخل" وهذا إسناد صحيح.
ومنها ما رواه أيضًا (2): نا هشيم، عن حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عباس قال:"الوضوء مما خرج وليس مما دخل ولا مما أوطي" وهذا أيضًا إسناد صحيح.
ومنها ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع ابن عباس يقول:"ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج" وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وقد روي هذا عن غير ابن عباس؛ فروى عبد الرزاق (4)، عن الثوري، عن وائل بن داود، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود قال:"إنما الوضوء مما خرج، والصوم مما دخل وليس مما خرج".
عبد الرزاق (5): عن معمر، عن قتادة، عن ابن المسيب قال:"إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل؛ لأنه يدخل وهو طيب، لا عليك منه، ويخرج وهو خبيث عليك منه الوضوء والطهور".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 52 رقم 35).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 52 رقم 38).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 168 رقم 653).
(4)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 170 رقم 658).
(5)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 171 رقم 663).
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا هشيم، عن حصين، عن عكرمة قال:"الوضوء مما خرج وليس مما دخل".
وقد عرف في علم الأصول أن قول الصحابي المجتهد حجة لاحتمال السماع وزيادة الإصابة في الرأي ببركة صحبة النبي عليه السلام فابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم لا شك في اجتهادهما وكثرة علمهما واتساع فقههما، والخلاف في قول التابعي؛ لأنهم رجال ونحن أيضًا رجال، ومع هذا لا يتم الإجماع بخلاف التابعي عندنا؛ خلافا للشافعي.
وأما قوله: "قلنا هذا فاسدة؛ فإنه نوع تأويل
…
إلى آخره" ففاسد لأن هذا التأويل لا يخالف الظاهر؛ لأن الظاهر (أن) (2) الوضوء له سبب وهو إرادة الصلاة مع الحدث، ولم يوجد هذا السبب عند أكل لحم الإبل حتى نقول: إن الأمر بالوضوء منه هو الوضوء الشرعي، وإنما معنى الأمر فيه منصرف إلى غسل اليد لوجود سببه وهو الزهومة والغَمر، فمعنى الوضوء يتأول على الوضوء الذي هو النظافة ونقاء الزهومة، كما روي: "توضؤوا من اللبن فإن له دَسَما" (3).
قلت: "فبعضهم أوجبه بالقهقهة في الصلاة" غمز على الحنفية، وكذلك قوله:"والخارج من غير السبيل".
قلت: "وبعضهم أوجبه من لمس الذكر" غمز على الشافعية، والجواب عن هذا:
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 52 رقم 539).
(2)
تكررت في "الأصل".
(3)
رواه ابن ماجه (1/ 167 رقم 500)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 59 - 60 رقم 628)، والروياني في "مسنده"(2/ 224 رقم 1086)، والطبراني في "الكبير"(6/ 125 رقم 5721)، كلهم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، ولكن بلفظ:"مضمضوا من اللبن فإن له دسمًا".
ورواه ابن ماجه في "سننه"(1/ 167 رقم 498) من حديث ابن عباس مثله، وأصله في "الصحيحين" حكايته فعل:"أنه صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا ثم دعا بماء فتمضمض، وقال: إن له دسمًا"، البخاري (1/ 87 رقم 208)، ومسلم (1/ 274 رقم 358)، وروي عن أم سلمة مرفوعًا مثله. أما لفظ الوضوء فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 60 رقم 637) عن أبي سعيد قال:"لا وضوء إلا من اللبن؛ لأنه يخرج من بين فرث ودم".
وأخرجه أيضًا (1/ 60 رقم 638) من حديث أبي هريرة قال: "لا وضوء إلا من اللبن".
أن حديث القهقهة أخرجه الدارقطني (1): عن أبي العالية الرياحي: "أن أعمى تردّى في بئر، والنبي عليه السلام يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي مع النبي عليه السلام فأمر النبي عليه السلام من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء والصلاة جميعًا".
فإن قيل: هذا الحديث مرسل أرسله أبو العالية الرياحي، وقد قيل: إنه كان لا يبالي من أين كان يأخذ الحديث. وقال ابن عدي: إنما قيل في أبي العالية ما قيل لهذا الحديث، وإلَّا فسائر أحاديثه صالحة.
قيل له: روى البيهقي (2): عن ابن شهاب: "أن النبي عليه السلام أمر رجلًا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة" قال الشافعي: لم نقبله لأنه مرسل.
فلم يذكر فيه علة سوى الإرسال، فدل على صحة إرساله، وأما أبو العالية فهو عدل ثقة، وقد اتفق على إرسال هذا الحديث معمر وأبو عوانة وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بَشير، فرووه عن قتادة، عن أبي العالية، وتابعهم عليه ابن أبي الزيال وهؤلاء جميعهم ثقات، فإن صح عن أبي العالية أنه كان لا يبالي من أين أخذ الحديث، قلنا: لكنه إذا أرسل الحديث لا يُرسله إلَّا عمن يقبل روايته؛ لأن المقصود من رواية الحديث ليس إلَّا التبليغ عن رسول الله عليه السلام وخاصة إذا تضمن حكمًا شرعيّا، فإذا أرسل الحديث ولم يذكر من أرسله عنه مع علمه أو ظنه بعدم عدالته كان غاشّا، للمسلمين وتاركا لِنصيحتهم، فتسقط عدالته، ويدخل في قوله: عليه السلام: "مَن غش فليس منا"(3) وقد ثبتت عدالته ورواه الثقات عنه مرسلا؛ فدل على أنه أرسله عن عدل، ولأن المُرسِلُ شاهد على الرسول عليه السلام بإضافة الخبر إليه، فلو لم يكن ثابتا عنه بطريق تقارب العلم لما أرسله، ولكان أَسْنَدَهُ لتكون العهدة على غيره، وهذه عادة غير مدفوعة؛ أن من قوي ظنه بوجود شيء أعرض عن إسناده، فهذه مسألة تفرد بها أصحابنا اتباعا لهذا الحديث، وتركوا القياس من أجله، وهذه شهادة ظاهرة لهم أنهم يقدمون الحديث على القياس، وهم أتبع للحديث من سائر
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 163 رقم 5).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 146 رقم 663).
(3)
أخرجه مسلم في "صحيحه"(1/ 99 رقم 102) من حديث أبي هريرة.
الناس (1)، وروى محمَّد في "آثاره" (2) وقال: أخبرنا أبو حنيفة، قال: حدثنا منصور ابن زاذان، عن الحسن البصريّ، عن معبد، عن النبي عليه السلام أنه قال:"بينما هو في الصلاة؛ إذْ أقبل رجل أعمى من قِبل القبلة يريد الصلاة، والقوم في صلاة الفجر فوقع في (زُبْيَة) (3) فاستضحك بعض القوم حتى قهقه، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان قهقه منكم فليعد الوضوء والصلام".
محمَّد قال: أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم:"في الرجل يُقهقه في الصلاة قال: يعيد الوضوء والصلاة ويستغفر ربه؛ فإنه أشد الحدث"(4).
قال محمَّد: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة.
وذكر هذا الحديث الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الأمالي" مسندا إلى معبد الحمْصي عن النبي عليه السلام في باب الميم.
فإن قيل: قد قال الدارقطني: روى هذا الحديث أبو حنيفة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن معبد الجهني مرسلًا عن النبي عليه السلام وهم فيه أبو حنيفة على منصور، وإنما رواه منصور بن زاذان عن محمَّد بن سيرين عن معبد، ومعبد هذا لا صحبة له، ويقال: إنه أول من تكلم في القدر من التابعين، حدث به عن منصور، عن ابن سيرين، غيلان بن جامع وهشيم بن بشير، وهما أحفظ من أبي حنيفة للإسناد.
قلت: هذا تحامل من الدارقطني على أبي حنيفة، وليس هو من أهل هذا الكلام في مثل أبي حنيفة الذي هو معظم أركان الدين، وأعظم أئمة المسلمين، وذكر ابن الأثير
(1) هذا الكلام فيه نظر، والإجابة عنه مبسوطة في كتب مصطلح الحديث وكتب الأصول عند الكلام على المرسل والاحتجاج به، فليراجع هناك.
(2)
انظر كتاب "الآثار" لأبي يوسف (1/ 28 رقم 135).
(3)
الزبية: هي الحفرة التي لا يعلوها الماء، وتحتفر ليقع فيها الصيد من الذئاب والأسود وغيرها، وتحتفر للشواء أيضًا، انظر "لسان العرب" (مادة: زبي).
(4)
أخرجه أبو يوسف في "الآثار"(1/ 32 رقم 161) عن أبي حنيفة بنحوه.
معبدا في الصحابة وقال: مَعبد بن (صبح)(1) بصري روى عنه الحسن البصري، أخبرنا أبو موسى كتابَة، أنا أبو علي، أنا أبو نعيم، ثنا الحسن بن علان، نا عبد الله ابن [أبي](2) داود، ثنا إسحاق بن إبراهيم، نا سعد بن الصلت، نا أبو حنيفة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن معبد:"أن النبي عليه السلام بينما هو في (الصلاة) (3) إذ أقبل أعمى فوقع في زُبْيَة، فضحك بعض القوم حتى قهقه، فلما سلَّم النبي عليه السلام قال: من كان منكم قهقه فَلْيُعِدْ الوضوء والصلاة".
وقال مكي: عن أبي حنيفة، عن معبد بن أبي معبد.
أخرجه أبو عمر وأبو موسى، وقد أخرجه ابن منده وأبو نعيم فقالا: معبد بن أبي معبد الخزاعي، ورويا له هذا الحديث، (وأتى)(4) النبي عليه السلام وهو صغير لما هاجر، ورويا له أيضًا حديث جابر أنه قال:"لما هاجر رسول الله عليه السلام وأبو بكر رضي الله عنها مرَّ بخباء أم معبد، فبعث النبي عليه السلام معبدا وكان صغيرا فقال: ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام، هات فَرقا. فأرسلت أن لا لبن فيها، فقال النبي عليه السلام: هات، فمسح ظهرها فَاجْرَت ودَرَّت، ثم حلب فشرب، وسقى أبا بكر وعامرا ومعبد بن أبي معبد، ثم رد الشاة".
وقال أبو نعيم عقيب حديث الضحك في الصلاة: رواه أسد بن عمرو عن أبي حنيفة فقال معبد بن (صبح)(5). أخرجه الثلاثة وأبو موسى (6).
(1) كذا في "الأصل، ك" وهو صواب، ويقال له: ابن صبيح أيضًا.
وفي المطبوع من "أسُد الغابة"(5/ 219): مَعْبد بن صبيح.
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "أسد الغابة"، و"معرفة الصحابة" لأبي نعيم (5/ 2529).
(3)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "أسد الغابة"، و"معرفة الصحابة": صلاته.
(4)
كذا في "الأصل، ك "، وفي "أسد الغابة": رأى.
(5)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "أسد الغابة"، و"معرفة الصحابة": صبيح.
(6)
كذا في "أسد الغابة"، ورمز له في أول الترجمة بـ (ب د ع س).
أي أبو عمر بن عبد البر، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو موسى المديني، وكلهم أخرجه في كتابه في الصحابة.
فإن قيل: روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا وضوء إلَّا من صوت أو ريح"(1) فدلّ أنه لا وضوء في القهقهة.
قلت: ظاهر هذا الحديث متروك بالإجماع؛ لأنه في البول والغائط يجب الوضوء وإن لم يوجد الصوت أو الريح، وكذا في الدم والقيح إذا خرجا من المخرج المعتاد، ولا سيما على مذهب الشافعي فإن عنده يجب الوضوء من مس الذكر ومس المرأة فلا صوت ثمة ولا ريح، فلما لم يدل هذا الحديث على نفي الوضوء في هذه الصور، فكذا لا يدل على نفيه في القهقهة أيضًا.
قوله: "في زُبْية" بضم الزاي المعجمة وسكون الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف: حفرة محفورة، وفي الأصل حفرة يحفرونها للأسد.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب الوضوء للصلاة بكل شيء من ذلك.
ش: أي خالف القوم المذكورين، جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة والشافعي ومالكا وأصحابهم، وهو أيضًا مذهب الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبي الدرداء وأبي طلحة وعامر بن ربيعة وأبي أمامة رضي الله عنهم وجماهير التابعين، وقد ذكرناه مستقصى.
قوله: "بأكل شيء من ذلك" أي من لحوم الإبل وغيرها.
فإن قيل: ما حكم البقر في ذلك؛ لأنه لم يذكر في الحديث؟.
قلت: روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال:"ليس في (لحوم) (3) الإبل والبقر والغنم وضوء".
(1) رواه الترمذي في "جامعه"(1/ 109 رقم 74) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (1/ 172 رقم 515)، وأحمد في "مسنده"(2/ 471 رقم 10095) وغيرهم.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 51 رقم 520).
(3)
في "مصنف ابن أبي شيبة": لحم.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون الوضوء الذي أراده النبي عليه السلام هو غسل اليد، وفرق بين لحوم الإبل ولحوم الغنم في ذلك لما في لحوم الإبل من الغلظ ومن غلبة ودكها على يد آكلها، فلم يرخص في تركه على اليد وأباح ألَّا يتوضأ من لحوم الغنم لعدم ذلك منها، وقد روي في الباب الأول في حديث جابر رضي الله عنه:"إن آخر الأمرين من رسول الله عليه السلام ترك الوضوء مما غيرت النار" فإذا كان ما تقدم منه هو الوضوء مما مست النار ومن ذلك لحوم الإبل وغيرها، كان في تركه ذلك ترك الوضوء من لحوم الإبل وغيرها، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار.
ش: أي وكان من الحجة والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه من عدم وجوب الوضوء مطلقا من أكل اللحوم، وقد حققنا الكلام فيه عن قريب.
قوله: "وأباح" أي النبي عليه السلام.
قوله: "في الباب الأول" أراد به الفصل الأول. وأراد بـ"جابر" جابر بن عبد الله لا جابر بن سمرة.
ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنَّا قدر رأينا الإبل والغنم سواء في حلّ بيعهما وشرب لبنهما وطهارة لحمهما، وأنه لا تفترق أحكامهما في شيء من ذلك؛ فالنظر على ذلك أنهما في كل لحومهما سواء، فكما كان لا وضوء في كل لحوم الغنم فكذلك الوجوب في كل لحوم الإبل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: ملخصه: أن الإبل كالغنم في حِلِّ البيع، وشرب اللبن، وطهارة اللحم، والسؤر، وصفة النجاسة في البول والروث، وجواز التضحية، وحِلِّ ذبحهما للمحرم، ووجوب الزكاة فيهما، فأكل لحم الغنم لا يوجب الوضوء، فالنظر كذلك، أي لا يوجب أكل لحم الإبل قياسا عليه.