الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: حكم بول ما يؤكل لحمه
ش: أي هذا باب بيان حكم بول مأكول اللحم من الحيوان، وجه المناسبة بين البابين: اشتمال كل منهما على حكم التطهير، على ما لا يخفى.
ص: حدثنا أبو بكرة بكَّار بن قتيية، قال: نا عبد الله بن بكر، قال: نا حميد، عن أنس قال:"قدم ناس من عُرَيْنةَ على النبي عليه السلام المدينة فاجْتَوَوْها، فقال: لو خرجتم إلى ذوْدٍ لنا فشرِبتم من ألبانها"، قال: وذكر قتادة أنه قد حفظ عنه: "أبوالها".
ش: إسناده صحيح، وأخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة، مطولة ومختصرة، فالبخاري (1): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: "قدم ناس من عُكل أو عُرَيْنَةَ فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي عليه السلام بلقاحٍ وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صَحُّوا قتلوا راعي النبي عليه السلام، واستاقوا النَّعم، فجاء الخبر [أول النهار](2) فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِّرَتْ أعيُنُهم، وألقوا في الحَرَّة يستسقون فلا يُسقون.
قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
ومسلم (3): عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن هُشيم واللفظ ليحيى، قال: أنا هشيم، عن عبد العزيز بن صهيب وحميد، عن أنس بن مالك:"أن ناسا من عُرَيْنَه قدموا على رسول الله عليه السلام المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله عليه السلام: "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها فافعلوا،
(1)"صحيح البخاري"(1/ 92 رقم 231).
(2)
ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1296 رقم 1671).
فَصَحُّوا، ثم مالوا على الرِّعاء فقتلوهم، وارتدُّوا عن الإِسلام، وساقوا زَوْدَ رسول الله عليه السلام فبلغ ذلك النبي عليه السلام فبعث في إثرهم، فأُتِيَ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَلَ أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا".
وأبو داود (1): عن سليمان بن حرب .. إلى آخره، نحو رواية البخاري سواء.
والترمذى (2): عن الحسن بن محمَّد الزعفراني، عن [عفان](3) بن مسلم، عن حماد بن سملة، قال: أنا حميد وثابت وقتادة، عن أنس:"أن ناسا من عُرَينة قدموا المدينة فاجتووْها، فبعثهم النبي عليه السلام في إبل الصدقة، وقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
والنسائي (4): عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن يزيد بن زُريع، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، أن أنس بن مالك حدثهم:"أن أناسا -أو رجالا- من عُكَل قدِموا على رسول الله عليه السلام فتكلموا بالإِسلام، فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله عليه السلام بذودٍ [وراع،] (5)، وأمرهم أن يخرجوا فيها [فيشربوا] (6) من ألبانها وأبوالها، فلما صَحُّوا وكانوا بناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعِيَ رسول الله عليه السلام واستاقوا الذَّوْد، فبلغ النبي عليه السلام فبعث الطلب في آثارهم، فأتي بهم، فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، ثم تُركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا".
(1)"سنن أبي داود"(4/ 130 رقم 4364).
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 106 رقم 72).
(3)
في "الأصل": عثمان، وهو تحريف، والمثبت من "جامع الترمذي".
(4)
"المجتبى"(1/ 158 رقم 305).
(5)
في "الأصل": وراعي، بإثبات الياء، وهي لغة، والمثبت من "المجتبى" وهي اللغة الفاشية.
(6)
في "الأصل، ك": فيشربون، وهي لغة -أيضًا- والمثبت من "المجتبى".
وابن ماجه (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة
…
إلى آخره، نحو مسلم.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس، نحو رواية النسائي .. وفي آخره: قال قتادة: "فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3).
قوله: "من عُرَيْنَهَ" بضم العين، وفتح الراء، وسكون الياء آخر الحروف، بعدها نون مفتوحة، وهو ابن نذير بن قَسْر بن عَبْقَر بن أَنْمار بن أراش بن عمرو ابن الغوث بن طيئ بن أُدَدَ، وزعم السكريّ أنه عرينة بن عَرِين بن يزيد.
وأما عكل فهم خمس قبائل، وذلك أن عوف بن عبد مناة ولد قيسا، فولد قيسُ ابن عوف وائلا وعوانة، فولد وائلٌ عوفا وثعلبة، ويقال لثعلبة: ركبة القلوص، فولد عوف بن وائل الحارث وجُشَما وسعدا وعليّا وقيسا وأمهم بنت ذي اللحية، لأنه كان ثَطا (4) بلا لحية، فحضنتهم أمة سوداء يقال لها: عكل -قاله الكلبي- فغلبت عليهم وهم جملة الرباب الذين تحالفوا على بني تميم.
قوله: "فاجتووها" أي كرهوها للمرض الذي أصابهم بها، وأصله من الجَوى -بالجيم- وهو داء الجوف إذا تطاول، وقيل: اجتووها: استوْبلوها، ومنهم من فرق بين اجتووا واستوبلوا؛ فجعل استوبلوا: إذا لم يوافقهم وإن أحَبُّوا، واجتووا: كرهوا الوضع وإن وافق.
وقال ابن الأثير (5): فاجتوو المدينة أي أصابهم الجوى وهو المرض، وداء الجوف
(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 861 رقم 2578) و (2/ 1158 رقم 3503) كلاهما عن نصر بن علي الجهضمي وليس عن أبي بكر بن أبي شيبة، ولعله انتقال نظر من المؤلف.
(2)
"مسند أحمد"(3/ 163 رقم 12690).
(3)
سورة المائدة، آية:[33].
(4)
الثط: هو القليل شعر اللحية، وقيل: هو الخفيف اللحية والعارضين وقيل: هو أيضًا القليل شعر الحاجبين، انظر "اللسان"(ثط).
(5)
"النهاية": (1/ 318).
إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواها واستوخموها، يقال: اجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه، وإن كنت في نعمة.
قوله: "إلى ذَوْدٍ": بفتح الذال المعجمة وسكون الواو، وفي آخره: دال مهملة، وهي: الإبل ما بين الثِّنْتَيْنِ إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، واللفظة مؤنثة (1)، ولا واحد لها من لفظها كالنَّعم.
وقال أبو عُبَيد: الذَّود من الإناث دون الذكور.
فإن قيل: كم كان عدد الإبل التي أرسلهم عليه السلام إليها ليشربوا ألبانها وأبوالها؟
قلت: جاء في رواية ابن سعد مُصرَّحا أنها خمسة عشر لِقْحَة، على ما ذكره في الطبقات (2): وقال: أرسل رسول الله عليه السلام في إثرهم كُرْزَ بن جابر الفهري، وعشرون فارسا، وكان العُرَنِيُّون ثمانية، وكانت اللقاح ترعى بذي الجَدْر، ناحيةَ قُبَاء، قريبا من عَيْر، على ستة أميال من المدينة، فلما عَرَوْا على اللِّقاح، أدركهم يَسار مولى النبي عليه السلام وكان نُوبِيَّا أصابه رسول الله عليه السلام في غزوة محارب، فلما رآه يحسن الصلاة أعتقه - ومعه نفر، فقاتلهم فقطعوا يده ورجْله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ففعل بهم النبي عليه السلام كذلك، وأُنْزِلَ عليه {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) الآية فلم يَسْمُل بعد ذلك عينا.
وكانت اللِّقاح خمس عشرة (4) لِقْحَة غِزَارا، ففقد منها لقحة تُسَمَّى الحناء، فسأل عنها فقيل نحروها، وحُمِل يسارُ مَيْتا، ودفنوه بقباء.
وقال ابن عقبة: كان أمير السرية سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
فإن قيل: قد جاء في رواية: قال لهم النبي عليه السلام "هذه نعم لنا"، وفي رواية: "أنها
(1) وقد تُذَكَّر، انظر:"الفرق بين المذكر والمؤنث"، لابن الأنباري (72).
(2)
"الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 93).
(3)
سورة المائدة، آية:[33].
(4)
في "الأصل، ك" خمسة عشر، تحريف.
لقاح النبي عليه السلام" وفي رواية: "أنها إبل الصدقة"، وفي رواية: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل النبي عليه السلام"، فكيف وجه هذه الروايات؟
قلت: طريق الجمع: أن النبي عليه السلام كانت له إبل من نصيبه من الغُنْم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترص مع إبل الصدقة، فأخبره مرة عن إبله، ومرة عن إبل الصدقة لاجتماعهما في موضع واحد.
فإن قيل: ما وجه الترديد في رواية البخاري وغيره: "من عُكْل، أو عُرَيْنَة"، فهل هم كانوا من عكل كما صرح به الطحاوي في روايته، أو كانوا من عرينة، أو كانوا منهم ومنهم؟
قلت: قالوا: إنهم كانوا سبعة: أربعة من عرينة، وقيل: كانوا ثمانية، على ما صرح به ابن سعد في روايته على ما ذكرناه أيضا، وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وجاء في رواية عبد الرزاق:"كانوا من بني فزارة" وفي كتاب ابن الطلاع (1): أنهم كانوا من بني سُليم.
وفيه نظر؛ لأن هؤلاء القبيلتين لا يجتمعان مع عرينة.
فإن قيل: متى كانت قضية العرنيين؟
قلت: كانت في شوال سنة ست من الهجرة.
فإن قيل: قال الطبري (2): نا محمَّد بن خلف، نا إسحاق بن حماد، عن عمير ابن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمَّد بن إبراهيم، عن جرير، قال:"قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صَحُّوا واشتدوا، قتلوا رعاة اللقاح، ثم خرجوا باللقاح، فبعثني رسول الله عليه السلام فلما أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلادهم -إلى أن قال-: فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله عليه السلام يقول: النار النار".
(1) هو أبو عبد الله محمَّد بن الفرج القرطبي المالكي مولى محمَّد بن يحيى بن الطلاع، له كتاب في أحكام النبي، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء "(19/ 199).
(2)
"تفسير الطبري"(6/ 207).
قلت: هذا مشكل على تقدير صحته؛ لأن إسلام جرير كان في السنة العاشرة، وقضية العرنيين كانت في سنة ست على ما ذكرنا، ولكن ذكر الطبراني في "الأوسط" وابن قانع أن جريرا أسلم قديما، فإن صح ما قالاه فلا إشكال.
قوله "سمرت أعينهم" وفي رواية: "سملت" قيل: هما معنى واحد، والراء بدلت من اللام، وقيل اللام للشوك وغيره، وقد تكون بحديدة محماة تُدني من العين. وقد تكون مسمارا لتتفق الروايتان.
قوله: "وألقوا في الحرَّة" بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وهي الأرض ذات الحجارة السود، وتجمع علي حَرّ، وحِرَار (1) حرّات وحَرين وإحرين، وهو من المجموع النادرة كثُبِين، وقلين في جمع ثبة وقلة، وزيادة الهمزة في أوله بمنزلة الحركة في أرضين وتغيير أول سنين، وقيل: إن واحد إحرين: إحرة (2).
والحرة هذه أرض بظاهر المدينة، بها حجارة سود كثيرة، وكان بها الوقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية. قوله:"أهل ضْرع" الضَّرْع لكل ذات ظلف أو خُفّ، أراد به أنهم كانوا أهل إبل وغنم.
قوله: "ولم نكن أهل ريف" الريف كل أرض فيها زرع ونخل، أرادوا أنهم كانوا من أهل البادية، لا من أهل المدن.
ص: حدثنا عبد الله بن محمد بن خُشيش، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا حماد بن سلمة، عن ثابت وقتادة وحميد، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله وقال:"من أبوالها وألبانها".
ش: هذا طريق أخر، وهو أيضا صحيح.
وأخرجه الترمذي (3) نحوه، وقد ذكرناه.
(1) حِرَار: ضبطت في "الأصل، ك" بفتح الحاء، وهو تحريف، والتصويب من المعاجم.
(2)
انظر "النهاية في غريب الحديث"(1/ 365).
(3)
"جامع الترمذي"(4/ 281 رقم 1845).
ص: فذهب قوم إلى أن بول ما يؤكل لحمه طاهرٌ وأن حكم ذلك حكم لحمه، وممن ذهب إلى ذلك محمَّد بن الحسن، وقالوا لما جعل ذلك النبي عليه السلام دواء لما بهم، ثبت أنه حلال؛ لأنه لو كان حراما لم يُدَاوِهم به؛ لأنه داء وليس شفاء.
ش: أراد بالقوم المذكورين: الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والحكَم بن عتيبة والثوري، فإنهم استدلوا بالحديث المذكور على طهارة بول ما يؤكل لحمه وممن ذهب إلى ذلك محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة، والإصطخري والرُّويَانيُّ من أصحاب الشافعي، وإليه ذهب مالك وأحمد.
وقال في داود وابن عُليَّة: بول كل حيوان ونَجْوه -وإن كان لا يؤكل- طاهر غير بول الآدمي.
ص: كما قال في حديث علقمة بن وائل بن جُحْر؛ حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا يحيى بن حسان، قال: نا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن طارق بن سُوَيد الحضرمي، قال:"قلت: يا رسول الله، إن بأرضنا أعنابا نعتصرها أفنشرب منها؟ فقال: لا. فراجعته، فقال: لا. فقلت: يا رسول الله إنا نستشفي بها للمريض، قال: ذاك داء وليس شفاء".
ش: إشار به إلى الاستدلال بأن الحرام لا يجوز أن يداوى به، ولو كانت أبوال الإبل ونحوها حراما، لَمَا أمرهم عليه السلام أن يتداوو به، والدليل عليه حديث طارق بن سويد، فإنه يدل على أن التداوي بالحرام غير جائز، ألا ترى كيف قال رسول الله عليه السلام:"ذاك داء وليس شفاء" حتى قال له طارق: "أنا نستشفي بها للمريض"؟ فلو كانت أبوال الإبل ونحوها حراما؛ لما أمر النبي عليه السلام بالتداوي به، فأَمْرُه بذلك دَلَّ على أنه حلال، فيكون طاهرا.
ثم إنه أخرج حديث طارق من طريقين صحيحين:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن يحيى بن حسان التنيسي، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل بن حجر الكوفي، عن طارق بن سويد -ويقال: سويد بن طارق- الحضرمي، ويقال: الجُعْفي الصحابي.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا بهز وأبو كامل، قالا: ثنا حماد بن سلمة .. إلى آخره نحوه.
وأخرجه مسلم (2): ولفظه: "أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي عليه السلام عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها [قال إنما أصنعها] (3) للدواء- فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء".
وأخرجه أبو داود (4): ولفظه: "أنه سأل النبي عليه السلام عن الخمر، فنهاه، ثم سأله فنهاه، فقال: يا نبي الله، إنها دواء. فقال النبي عليه السلام: "لا، ولكنها داء".
وأخرجه الترمذي (5): ولفظه: "أنه شهد النبي عليه السلام وسأله سويد بن طارق -أو طارق بن سويد- عن الخمر، فنهاه، فقال: إنا نتداوى بها، فقال رسول الله عليه السلام إنها ليست بدواء ولكنها داء".
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البُرُلُّسِي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة
…
إلى آخره.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(6): عن زكريا بن يحيى الساجي، عن هُدْبة بن خالد، عن حماد بن سلمة .. إلى آخره نحو رواية أحمد سواء.
(1)"مسند أحمد"(4/ 311 رقم 18809).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1573 رقم 1984).
(3)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح مسلم".
(4)
"سنن أبي داود"(4/ 7 رقم 3873).
(5)
"جامع الترمذي"(4/ 378 رقم 2046).
(6)
"المعجم الكبير"(8/ 323 رقم 8212).
قوله: "أفنشرب منها" الهمزة فيه للاستفهام.
قوله: "فراجعته" وفي رواية: "فعادوته" وكذا في رواية أحمد.
"نستشفي "أي: نطلب الشفاء بها.
ص: وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره من أصحاب النبي عليه السلام:
حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا وهب، قال: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: قال عبد الله: "ما كان الله ليجعل في رجس -أو فيما حرم- شفاء".
حدثنا حسين بن نصر، قال: نا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال:"اشتكى رجل مِنَّا، فَنُعِتَ له السَّكَرُ، فأتينا عبد الله فسألناه، فقال: إن الله عز وجل لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود، عن عطاء، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "اللهم لا تشف مَنْ استَشْفى بالخمر".
قالوا: فلما ثبت بهذه الآثار أن الشفاء لا يكون فيما حُرِّم على العباد، ثبت بالأثر الأول الذي جعل النبي عليه السلام بول الإبل فيه دواء أنه طاهر غير حرام، وقد روي عن النبي عليه السلام في ذلك أيضا ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: نا أسد، قال: نا ابن لهيعة، قال: نا ابن هُبَيرة، عن حنش بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذَّرِبة بطونهم".
قالوا: ففي ذلك أيضا تثبيت ما وصفناه، أيضا.
ش: هذا عطف على قوله: "كما قال في حديث علقمة" أي وكقول عبد الله ابن مسعود وغيره من الصحابة في حرمة الاستشفاء بالحرام.
وأخرج في هذا عن ابن مسعود من طريقين صحيحين:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الكوفي، عن عبد الله.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): بأتم منه: ثنا أبو خليفة، نا أبو الوليد الطيالسي ومحمد بن كثير، قالا: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص:"أن رجلا أتى عبد الله، فقال: إن أخي مريض، اشتكى بطنه، وإنه نُعِتَ له الخمر، أفأسقيه؟ قال عبد الله: سبحان الله! ما جعل الله شفاء في رجس، إنما الشفاء في شيئين: العسل شفاء للناس، والقرآن شفاء لما في الصدور".
قوله: "في رجس" بكسر الراء أي: في نجس، قال ابن الأثير: الرجس القذر، وقد يُعَبَّر به عن الحرام، والفعل القبيح، والعذاب، واللعنة، والكفر، والمراد ها هنا: القذر والحرام.
والثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا جرير، عن منصور، عن أبي وائل:"أن رجلا أصابه الصَّفَرُ، فَنُعِتَ له السَّكَرُ، فسُئِل عبد الله عن ذلك، فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
قوله: "فنُعتَ له" أي وصف له "السَّكَرُ"، وهو بفتح السين والكاف، وهو الخمر المعتصر من العنب -قاله ابن الأثير- وقال الجوهري: السَكَرُ: نبيذ التمر. وفي التنزيل {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} (3) والسَكَّارُ: النَبَّاذ.
قوله: "الصَّفَر" بفتح الصاد والفاء، قال الجوهري: الصَفَّر فيما يزعم العرب: حَيّة في البطن تعض الإنسان إذا جاع، واللدغ الذي يجده عند الجوع من لدغه، ولكن المراد ها هنا ما ذكره ابن الأثير، وهو اجتماع الماء في البطن كما يَعْرِضُ للمُسْتَسْقَى، يقال:
(1)"المعجم الكبير"(9/ 184 رقم 8910).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 38 رقم 23492).
(3)
سورة النحل، آية:[67].
صُفِرَ فهو مصفور وصفِر صَفَرا فهو صَفِرٌ، والصَّفَر أيضا، دود [يقع](1) في الكبد وشراسيف الأضلاع، فيصفرُّ عنه الإنسان جدّا، وربما قتله.
وأخرج في هذا عن عائشة رضي الله عنها، عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي عاصم النبيل، الضحاك بن مخلد، عن عثمان بن الأسود بن موسى المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة.
وهذا أيضا إسناد صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن معاوية بن هشام عن أبي ذئب، عن الزهري، أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول:"مَنْ تداوى بالخمر فلا شَفَاه الله".
وأخرج عن ابن عباس مرفوعا، عن الربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن عبد الله بن هُبَيرة الشيباني، عن حنش بن عبد الله أبي رِشْدين الصنعاني، عن عبد الله بن العباس.
ورجاله ثقات إلَّا أن في ابن لهيعة مقالا.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): نا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف، نا ابن لهيعة .. إلى آخره، نحوه.
قوله: "للذرِبَة بطونهم" من الذَّرَب بالتحريك، وهو الداء الذي يعرض للمعدة فلا تهضم الطعام، ويَفْسُد فيها فلا تمسكه، يتهال: ذَرِبت معدته، تَذْرَبُ، ذَرَبا: فسدت.
قوله: "بطونهم" مرفوع بإسناد الذربة إليه، والذَّرِبَة ها هنا صفة مشبهة، بفتح الذال المعجمة وكسر الراء، تقول: رجل ذَرِبٌ، ومَعِدة ذَرِبَة.
(1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "النهاية"(3/ 36).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 38 رقم 23498).
(3)
"المعجم الكبير"(12/ 238 رقم 12986).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أبوال الإبل نجسة وحكمها حكم دمائها، لا حكم لحومها.
ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف والشافعي وأبا ثور وآخرين كثيرين؛ فإنهم قالوا: أبوال الإبل نجسة وحكمها حكم دمائها في النجاسة، لا حكم لحومها.
وقال ابن حزم في "المحلى"(1): والبول كله من كل حيوان، إنسان أو غير إنسان، مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه، [ونَجْو كل ما ذكرنا](2) كذلك، أو من طائر، يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه، فكل ذلك حرام كله وشربه، إلَّا لضرورة تداوي أو إكراه، أو جوع أو عطش فقط، وفرضٌ اجتنابه في الطهارة والصلاة، إلَّا ما لا يمكن التحفظ منه إلَّا بحَرَجٍ (3)، فهو معفو عنه كونيم الذباب، ونَجْو البراغيث.
وقال داود (4): بول كل حيوان ونَجْوُه، أكل لحمه أو لم يؤكل فهو طاهر، حاشي بول الإنسان ونجْوه فقط؛ فهما نجسان.
ص: وقالوا: أما ما رويتموه من حديث العرنيين فذلك إنما كان للضرورة، فليس في ذلك دليل أنه مباح في غير حال الضرورة؛ لأَنَّا قد رأينا أشياء أُبيحت في الضرورات، ولم تُبَح في غير الضرورات.
ش: أي: قال أهل المقالة الثانية مجيبين عما احتج به أهل المقالة الأولى.
بيانه: أن ما رويتم من حديث العرنيين كان ذلك لأجل الضرورة، فما أبيح في الضرورة لا يباح في غيرها، كما في لبس الحرير، فإنه حرام على الرجال، وقد
(1)"المحلى"(1/ 168).
(2)
"ونجو كل ما ذكرنا": كذا بالجيم المعجمة في "الأصل، ك"، وفي "المُحلَّى" (1/ 168):"نحو ما ذكرنا" بالحاء المهملة وهو تحريف.
(3)
في "الأصل، ك"؛ أن لا يخرج، والتصويب من "المحلى".
(4)
"المحلى"(1/ 169).
أبيح لبسه في الجرب، أو للحكة، أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع.
والجواب المقنع في ذلك: أنه عليه السلام عرف بطريق الوحي شفاءَهم، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقن بحصول الشفاء؛ كتناول الميتة عند المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة، وإنما لا يباح مالا يسْتيقن حصول الشفاء فيه.
وقال ابن حزم (1): صح يقينا أن رسول الله عليه السلام إنما أمرهم بذلك على سبيل التداوي من السقم الذي كان أصابهم، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة؛ وقد قال عز وجل:{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)؛ فما اضطُّر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب.
وقال شمس الأئمة: حديث أنس رضي الله عنه قد رواه قتادة عنه: أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في رواية، حميد الطويل عنه، والحديث حكايته حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة، سقط الاحتجاج به.
ثم نقول: خصَّهم رسول الله عليه السلام بذلك؛ لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير رضي الله عنه بلبس الحرير لحكة كانت به، وهي القمل، فإنه كان كثير القمل.
أو لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى، ورسوله عليه السلام علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الرِّدَّة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس، انتهى.
فإن قيل: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم عليه السلام بذلك؟
قلت: قد كانت إبله عليه السلام ترعى الشِّيحَ والقَيْصَوم، وأبوال الإبل التي ترعى ذلك وألبانها تدخل في علاج نوع من أنواع الاستشفاء، فإذا كان كذلك كان
(1)"المحلى"(1/ 175).
(2)
سورة الأنعام، آية:[119].
الأمر في هذا أنه عليه السلام عرف بطريق الوحي كون هذه شفاء، وعرف أيضا مرضهم الذي تُزيله هذه الأبوال، فأمرهم لذلك، ولا يوجد هذا في زماننا، حتى إذا فرضنا أن أحدا عرف مرض شخص بقوة العلم، وعرف أنه لا يزيله إلَّا تناول المحرم، يباح له حينئذ أن يتناوله، كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد، وتناول الميتة عند المخمصة.
ص: ورُوِيَت فيها الآثار عن النبي عليه السلام: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا همام. (ح).
وحدثنا عبد الله بن محمَّد بن خُشيش، قال: حدثنا الحجاج ابن منهال، قال: نا همام، قال: نا قتادة، عن أنس:"أن الزبير وعبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنهما شَكَوَا إلى النبي عليه السلام القمل، فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما، قال أنس: فرأيت على كل واحد منهما قميصا من حرير".
ش: أي: رُويت في إباحة الأشياء في الضرورات الآثار عن النبي عليه السلام ثم بين ذلك بقوله: حدثنا .. إلى آخره.
وأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي أحد مشايخ أحمد، واحد أصحاب أبي حنيفة، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس.
والثاني: عن عبد الله بن محمَّد بن خُشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن الحجاج بن منهال، عن همام
…
إلى آخره.
وأخرجه الجماعة:
فالبخاري (1): عن محمَّد، عن وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال:"رخص النبي عليه السلام للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما".
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2196 رقم 5501).
ومسلم (1): عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة؛ أن أنس بن مالك أنبأهم:"أن رسول الله عليه السلام رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القُمُص الحرير في السفر، في حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما".
وأبو داود (2): عن النفيلي، عن عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة .. إلى آخره نحوه، وليس في لفظه:"أو وجع كان بهما".
والترمذي (3): عن محمود بن غيلان، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك:"أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكيا القمل إلى رسول الله عليه السلام في غزاة لهما، فرخص لهما في قمص الحرير، قال: ورأيته عليهما".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
والنسائي (4): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن سعيد .. إلى آخره، نحو رواية أبي داود.
وابن ماجه (5): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمَّد بن بشر، عن سعيد .. إلى آخره، نحو رواية مسلم.
قوله: "شَكَوَا" تثنية شكى مثل غَزَوَا في تثنية غزا، ووقع في رواية الترمذي:"شَكَيَا" مثل رَميَا في تثنية رمى، والأصل أن يقال بالواو؛ لأنه من النواقص الواوية تقول: شكوت فلانا، أشكوه شَكْوا وشكاية، وشَكِيَّة وشَكَاة، إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك، فهو مَشْكُوُّ ومَشْكِيُّ، والاسم: الشَّكْوى.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1646 رقم 2076).
(2)
"سنن أبي داود"(4/ 50 رقم 4056).
(3)
"جامع الترمذي"(4/ 218 رقم 1722).
(4)
"المجتبى"(8/ 202 رقم 5310).
(5)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1188 رقم 3592).
قوله: "في قميص الحرير" وفي رواية غيره: "في قُمُص الحرير" على لفظ الجمع.
قوله: "في غزاة لهما" وفي رواية أبي داود ومسلم: "في السفر"، وهذا أعم؛ لتناوله الغَزَاة وغيرهَا.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباح الحريرَ لمن أباح له لبسه من الرجال للحكة التي كانت، فكان ذلك من علاجها، ولم يكن في إباحته ذلك لهم للعلل التي كانت بهم ما يدل على أن ذلك كان مباحا في غير تلك العلل، فكذلك أيضا ما أباحه رسول الله عليه السلام للعُرَنِيِّين للعلل التي كانت بهم، فليس في إباحته ذلك لهم دليل على أن ذلك مباح في غير تلك العلل، ولم يكن في تحريم لبس الحرير ما ينفي أن يكون حلالا في حال الضرورة، فكذلك حُرْمة البول في غير حال الضرورة ليس فيه دليل أنه حرام في حال الضرورة، فثبت بذلك أن قول النبي عليه السلام في الخمر:"إنها داء وليس شفاء"، إنما هو لأنهم كانوا يتشفون بها لأنها خمرٌ؛ فذلك حرام، وكذلك قول عبد الله -عندنا-:"إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" إنما هو لما كانوا يفعلون بالخمر، لأعظامهم إياها، ولأنهم كانوا يعدونها شفاء في نفسها، فقال لهم:"إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
فهذه وجوه هذه الآثار، فلما احتملت ما ذكرنا ولم يكن فيها دليل على طهارة الأبوال، احتجنا أن نُراجع، فنلتمس ذلك من طريق النظر، فنعلم كيف حكمه؟ فنظرنا في ذلك، فإذا لحوم بني آدم كلُّ قد أجمع أنها لحوم طاهرة، وأن أبوالهم حرام نجسه، فكانت أبوالهم باتفاقهم محكوما لها بحكم دمائهم، لا بحكم لحومهم، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك أبوال الإبل يُحكم لها بحكم دمائها لا بحكم لحومها. فثبت بما ذكرنا أن أبوال الإبل نجسة، فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة:
ش: النُّسَخ في هذا الموضع مختلفة، وأحسنها ما كتبناه، وهو ظاهر لا يحتاج إلى البيان.
قوله: "فثبت بذلك أن قول النبي عليه السلام، في الخمر: إنها داء وليس بشفاء"، جواب عن حديث طارق بن سويد الحضرمي.
وقد طغى ابن حزم فيه (1)، قال: إنما جاء من طريق سماك بن حرب، وهو يَقْبلُ التلقين، شهد بذلك شعبة وغيره (2)، ثم لو صحَّ لم يكن فيه حجة؛ لأن فيه أن الخمر ليست دواء.
ولا خلاف بيننا أن ما ليس دواء، فلا يحل تناوله إذا كان حراما] (3) وإنما خالفناهم في الدواء، وجميع الحاضرين لا يقولون بهذا، بل أصحابنا والمالكيون يُبيحون للمختنق شربَ الخمر إذا لم يجد ما يُسيغ أكلته به غيرها، والحنفيون والشافعيون يُبيحونها عند شدة العطش.
قوله: "وكذلك قول عبد الله"، جواب عن أثر عبد الله بن مسعود، وهو ظاهر.
وذكر ابن حزم في "المحلى" قول ابن مسعود، وجعله حديثا عن النبي عليه السلام، فقال: رُوِيَ من طريق جرير، عن [سليمان](4) الشيباني، عن حسان بن المخارق، عن أم سلمة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" ثم قال: هذا حديث باطل؛ لأن [سليمان](5) الشيباني مجهول (6).
(1) نقل ابن حزم عن شعبة وغيره ثابت: انظر "الميزان"(2/ 423)، فينظر في قول المؤلف:(طغى).
(2)
"المحلى"(1/ 175).
(3)
تكررت في "الأصل".
(4)
في "الأصل، ك": سَلْمَان، وهو في "المحلى" على الصواب.
(5)
سبق تخريجه.
(6)
لم يعلق المصنف على تجهيل ابن حزم للشيباني، وهو من مفاريده في الرجال؛ فالشيباني ثقة حجة، روى له الجماعة، قال ابن عبد البر وهو من شيوخ ابن حزم:"هو ثقة حجة عند جميعهم" انظر: "التهذيب"(2/ 408) وتعليق الشيخ شاكر على كلام ابن حزم في "المحلى"(2/ 176) هـ (2): وإنما المجهول سليمان ابن أبي سليمان الهاشمي، مولى ابن عباس، فكأن ابن حزم خلط بينهما، لما قيل في الشيباني الثقة إنه مولى ابن عباس أيضًا، والصواب كما قال ابن حجر: الأول شيباني الولاء.
قلت: أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1) وصححه، قال: أنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: نا أبو خيثمة، قال: ثنا جرير، عن الشيباني، عن حسان بن المخارق قال:"قالت أم سلمة: اشتكت ابنة لي، فنبذت لها في كوز، فدخل النبي عليه السلام وهو يغل، فقال: ما هذا؟ فقلت: إن ابنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال عليه السلام: إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام".
قوله: "كل قد أجمع" أي: كل واحد من أهل المقالتين.
ص: وقد اختلف المتقدمون في ذلك، فمما روي عنهم في ذلك:
ما حدثنا حسين بن نصر قال: نا الفِريابيُّ، قال: نا إسرائيل، قال: نا جابر، عن محمَّد بن علي، قال:"لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم، أن يتداوى بها".
قال أبو جعفر: فقد يجوز أن يكون ذهب إلى ذلك؛ لأنها عنده طاهرة في الأحوال كلها، كما قال محمَّد بن الحسن، وقد يجوز أن يكون أباح العلاج بها للضرورة إليها، لا لأنها طاهرة في نفسها، ولا مباحة في غير حال الضرورة إليها.
حدثنا حسين بن نصر، قال: نا الفِرْيابيُّ، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال:"كانوا يستشفون بأبوال الإبل، لا يرون بها بأسا".
فقد يحتمل هذا أيضا ما احتمله قول محمَّد بن علي رضي الله عنه.
حدثنا حسين بن نصر، قال: نا الفريابي، قال: أنا سفيان، عن عبد الكريم، عن عطاء قال:"كل ما أكل لحمه فلا بأس ببوله".
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا مكشوف المعنى.
حدثنا بكر بن إدريس، قال: نا آدم، قال: نا شعبة، عن يونس، عن الحسن:"أنه كره أبوال الإبل والبقر والغنم، أو كلاما هذا معناه".
(1)"صحيح ابن حبان"(4/ 233 رقم 1391).
ش: أراد بالمتقدمين التابعين؛ فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك، أي في حكم بول الإبل ونحوه، هل يجوز به التداوي أم لا؟
وأخرج في ذلك عن أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم القرشي الهاشمي، المدعو بالباقر، وهو أحد الأئمة الاثنى عشر في اعتقاد الإمامية، سمي باقرا لأنه تَبَقَّر في العلم، أي توسمع، والتَّبَقُّر: التوسع، وهو ممن روى له الجماعة.
وإبراهيم النخعيِّ، وعطاءٍ، والحسن البصريِّ.
فالأول: عن حسين بن نصر، عن محمَّد بن يوسف الفريابي (1) شيخ البخاري، عن إسماعيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي.
عن جابر بن يزيد الجعفي، فيه مقال كثير ة فعن أبي حنيفة: ما لقيت -فيمن لقيت- أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأي، إلَّا جاء فيه بأثر.
وعن جرير بن عبد الحميد: كان يؤمن بالرجعة.
وقال عباس الدُّوري: كان كذابا، ليس بشيء. وعن زائدة: رافضِيّ يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه آخرون.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال:"لا بأس بأبوال الإبل أن يتداوى بها".
والثاني: عن حسين بن نصر، عن الفِرْيابيّ أيضا، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي.
(1) في "الأصل، ك": عبد الله بن يوسف الفريابي، وهذا خطأ فالفريابي هو محمَّد بن يوسف بن واقد أبو عبد الله الفريابي شيخ البخاري، وليس عبد الله بن يوسف انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" وفروعه.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 56 رقم 23651).
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال:"لا بأس أن يستنشق [من] (2) أبوال الإبل".
والثالث: عن حسين أيضا، عن الفِرْيابى، عن سفيان، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عطاء بن أبي رباح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن عطاء، قال:"ما أكل لحمه فلا بأس ببوله".
والرابع: عن بكر بن إدريس، عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن يونس ابن أبي إسحاق، عن الحسن.
وأخرجه محمَّد بن الحسن في "آثاره"(4): أنا أبو حنيفة، نا رجل من أهل البصرة، عن الحسن البصري، أنه قال:"لا بأس ببول كل ذات كرش".
قال محمَّد: وكان أبو حنيفة يكرهه ويقول: إذا وقع في وَضُوءٍ أفسدهُ، وإن أصاب الثوب منه شيء ثم صل فيه، أعاد الصلاة. قال محمَّد: ولا أرى به بأسا؛ لا يفسد ماء ولا وضوءا ولا ثوبا.
قوله: "أو كلاما هذا معناه" أشار به إلى أن هذا الأثر قد روي عن الحسن بغير هذا اللفظ، على ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (5) قال: نا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن، قال:"كان يرى أن تغسل الأبوال كلها".
نا (6) فضيل عن أشعث، عن الحسن:"أنه كان يغسل البول كله، وكان يرخص في أبوال ذات الكروش" -والله أعلم-.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 56 رقم 23654).
(2)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "المصنف".
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 109 رقم 1241).
(4)
"مصنف عبد الرزاق"(9/ 259) عن الثوري، عن أبان بن أبي عياش، عن الحسن.
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 109 رقم 1237).
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 109 رقم 1238).