الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: ذكر الجُنُب والحائض والذي ليس على وضوء وقراءتهم القرآن
ش: أي هذا باب في بيان حكم الجنب، والرجل الذي ليس على الوضوء، والحائض؛ إذا ذكروا الله تعالى أو قرءوا القرآن، كيف يكون حكمهم؟
وجه المناسبة بين البابين من حيث التضاد؛ لأن ما قبل هذا الباب في أحكام المبُيح وهو المسح على الخفين، وهذا الباب في أحكام المانع والمحرم.
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: نا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حُصَيْن أبي سَاسَان، عن المهاجر بن قنُفذ:"أنه سَلَّم على رسول الله عليه السلام وهو يتوضأ فلم يرد عليه، فلما فرغ من وضوءه، قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلَاّ أني كرهت أن أذكر الله تعالى إلَاّ على طهارة".
ش: ذكر هذا الحديث بعينه بهذا الإسناد والمتن في باب التسمية على الوضوء، فليراجع هناك.
ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: أنا حميد وغيره، عن الحسن، عن المهاجر:"أن النبي عليه السلام كان يبول -أو قال: مررت به وقد بال- فسلمت عليه فلم يرد عليَّ حتى فرغ من وضوءه ثم رَدَّ عليَّ".
ش: هذا طريق آخر صحيح أيضًا، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج ابن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل وغيره، عن الحسن البصري، عن المهاجر.
وأخرجه الطبراني في الكبير (1): نا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال.
وحدثنا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى.
(1)"المعجم الكبير"(20/ 329 رقم 779).
قالا: نا حماد بن سلمة، أنا حميد وغيره، عن الحسن، عن مهاجر بن قنفذ:"أن النبي عليه السلام كان يبول -أو قال: مررت به وقد بال- فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ حتى فرغ من وضوئه، ثم ردَّ عَلَيَّ".
ص: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: لا ينبغي لأحد أن يذكر الله بشيء إلَاّ وهو على حال يجوز له أن يصلي عليها.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، وأبا العالية، وعكرمة؛ فإنهم ذهبوا إلى أن الرجل لا ينبغي له أن يذكر الله إلَاّ وهو طاهر، واستدلوا على ذلك بهذا الحديث، ويُروى ذلك عن عبد الله بن عمر.
وُوري عن ابن عباس: "أنه كره أن يذكر الله على حالين: على الخلاء، والرجل [يواقع] (1) أهله".
وهو قول عطاء ومجاهد.
وقال مجاهد: "يجتنب المَلَكُ الإنسان عند جماعه وعند غائطه"(2).
وقال ابن حزم في "المحلى"(3): نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نا الحجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان لا يقرأ القرآن، ولا يرد السلام، ولا يذكر الله إلَاّ وهو طاهر".
ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: من سُلِّم عليه وهو على حال حدث؛ تَيَمَّمَ ورد السلام، وإن كان في العصر.
وقالوا فيما سوى السلام مثل قول أهل المقالة الأولى.
(1) تحرفت في "الأصل، ك " وكتبت: (على قع) كذا، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 108 رقم 1220).
(2)
انظر "الأوسط" لابن المنذر (1/ 241).
(3)
المحلى (1/ 88).
ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم طائفة من أهل الحديث منهم حميد وغيره، فإنهم قالوا: المُحْدِث إذا سُلِّم عليه ينبغي له أن يتيمم ويرد السلام وإن كان في المصر. وفيما سوى السلام ينبغي له ألَّا يذكر الله إلَاّ على حالة يجوز له أن يصلي عليها، كما هو مذهب أهل المقالة الأولى.
ص: وكان مما احتجوا به في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: نا محمَّد بن ثابت العبدي.
وحدثنا حسين بن نصر، وسليمان بن شعيب، قالا: نا يحيى بن حسان، قال: نا محمَّد بن ثابت، قال: نا نافع، قال:"انطلقت مع ابن عمر رضي الله عنه إلى ابن عباس رضي الله عنهما في حاجة لابن عمر، فقضى حاجته، فكان من حديثه يومئذ أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله عليه السلام في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يَرُدَّ عليه السلام، حتى كاد الرجل أن يتوارى في السكة، فضرب بيديه على الحائط فتيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فتيمم لذراعيه، قال: ثم رَدَّ عليه السلام، وقال: أما إنه لم يمنعني أن أَرُدَّ عليك السلام إلَاّ أني كنت لست بطاهر".
ش: أي كان من الذي احتج به هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه: بحديث ابن عباس الذي يأتي الآن، وأخرجه من طريقين:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن ثابت العبدي، عن نافع.
والثاني: عن حسين بن نصر بن انمعارك وسليمان بن شعيب، كلاهما عن يحيى بن حسان التنيسي، عن محمَّد بن ثابت، عن نافع. وهؤلاء كلهم ثقات.
فإن قيل: ابن حزم ضعف هذا الحديث، وقال: محمَّد بن ثابت العبدي ضعيف لا يحتج بحديثه.
قلت: لا يلتفت إلى ما قاله؛ لأن النسائي وابن حبان وغيرهما وثقوه (1)، وروى له أبو داود والنسائي، وإنما ضعفه ابن حزم؛ لأن الحديث حجة عليه؛ لأنه لا يرى إلَّا أن التيمم ضربة واحدة إلى الكوعين.
والحديث أخرجه الدارقطني في "سننه"(2): وقال: نا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز إملاء، نا أبو الربيع الزهراني، نا محمَّد بن ثابت العبدي، نا نافع، قال: "انطلقت مع ابن عمر
…
" إلى آخره نحوه سواء.
قوله: "في سكة" بكسر السين، وهي الزقاق، وجمعها سكك، والسكة: الطريقة المصطفة من النخل، والسكة: الحديدة التي يحرث بها، وسكة الدراهم: هي المنقوشة.
قوله: "وقد خرج من غائط" جملة فعلية وقعت حالا والغائط اسم للمكان المطمئن من الأرض الواسع، ثم يكنى به عن الحدث.
والجمع: غوط، وأغواط، وغيطان.
قوله: "أن يتوارى" أي: أن يغيب.
قوله: "أمَا إنَّه" بفتح الهمزة والتخفيف، وهي حرف استفتاح بمنزلة:"ألا" هنا، وتكون بمعنى "حقًّا" وقيل: اسم بمعنرل "حقًّا" والضمير في "إنه" للشأن.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: أن مَنْ سُلِّم عليه وهو مُحْدِثْ ينبغي له ألَّا يرد السلام إلَاّ بعد التيمم وإن كان في المصر، على ما ذهب إليه هؤلاء الطائفة، والجواب عنه للجمهور أنه كان من
(1) أما النسائي فقال في "الضعفاء والمتروكين"(1/ 91 رقم 519): ليس بالقوي. ونقل المزي عنه في "تهذيب الكمال" أنه قال في موضع آخر: ليس به بأس، وأما ابن حبان فقال في "المجروحين" (2/ 251): يرفع المراسيل، ويسند الموقوفات توهمًا من سوء حفظه، فلما فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به. وراجع من وثقه وضعفه في "تهذيب الكمال"(24/ 556 - 557).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 177 رقم 7).
النبي عليه السلام للفضيلة والاستحباب، وذلك لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى كما جاء في حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم"(1). ولم يرَ عليه السلام أن يذكر الله في تلك الحالة وهذا هو اللائق بحاله وفعله عليه السلام.
والثاني: أن فيه تعليما للأمة ألَّا يسلموا على الرجل وهو يبول أو يتغوط كما ورد في حديث آخر عن ابن عمر أنه قال: "مرَّ رجل على النبي عليه السلام وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه (2) ".
الثالث: يفهم منه أنه رد السلام واجب، وأنه لا يسقط بالتأخير، ولا يأثم به الرجل إذا كان عن عذر.
الرابع: فيه استحباب استعطاف خاطر الرجل إذا توهم منه أنه قد قصر في حقه؛ تطبيبا لخاطره وإبداء عذره إياه.
الخامس: فيه بيان أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين.
السادس: فيه بيان أن التيمم يجوز بالحجر والمدر وما كان من أجزاء الأرض.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن بشار، قال: ناأبو أحمد الزبيري، قال: نا سفيان، عن الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رجلًا سلم على النبي عليه السلام وهو يبول فلم يَردُ عليه حتى أتى حائطا فتيمم".
ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه مسلم (3): عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: نا أبي، نا سفيان، عن الضحاك بن عثمان
…
إلى آخره نحوه، وليس فيه:"حتى أتى حائطا فتيمم".
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"(3/ 231 رقم 3008) والبيهقي في "الشعب"(6/ 433 رقم 87840) وغيرهم وفي إسناده بشر بن رافع وهو ضعيف!
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه" بنحوه (1/ 281 رقم 370) وسيأتي في الحديث الآتي.
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 281 رقم 370).
وأبو داود (1): عن عثمان وأبي بكر ابني أبي شيبة، كلاهما عن عمر بن سعد، عن سفيان
…
إلى آخره نحوه.
والترمذي (2): عن نصر بن علي ومحمد بن بشار، كلاهما عن أبي أحمد، عن سفيان
…
إلى آخره.
والنسائي (3): عن محمود بن غيلان، عن زيد بن الحباب وقبيصة، كلاهما عن سفيان
…
إلى آخره.
وابن ماجه (4): عن عبد الله بن سعيد والحسن بن أبي السري العسقلاني، كلاهما عن أبي داود، عن سفيان
…
إلى آخره.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا شعيب بن الليث، قال: نا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن عمير مولى ابن عباس، أنه سمعه يقول:"أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام حتى دخلنا على أبي الجُهيمْ بن الحارث بن الصمَّة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: أقبل رسول الله عليه السلام من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسَّلم عليه، فلم يرد رسول الله عليه السلام عليه حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه وبيديه، ثم رد عليه السلام".
ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ربيعا، وعمير هو مولى عبيد الله بن عباس بتصغير العبد، وكذا صُرِّح به في رواية الدارقطني على ما يجيء، ويقال له: مولى أم الفضل.
وأخرجه البخاري (5): عن يحيى بن بكبير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة
…
إلى آخره نحوه سواء.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 5 رقم 16).
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 150 رقم 90).
(3)
"المجتبى"(1/ 35 رقم 37).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 127 رقم 353).
(5)
"صحيح البخاري"(1/ 129 رقم 330).
وأخرجه مسلم (1) مقطوعا وقال: وروى الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن عمير مولى ابن عباس، أنه سمعه يقول: "أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار مولى ميمونة زوجة النبي عليه السلام
…
" إلى آخره نحوه.
قلت: ذكروا أن فيه ثلاثة أنظار:
الأول: قوله: "عبد الرحمن بن يسار" وهم، والصواب:"عبد الله بن يسار" كما في رواية البخاري والطحاوي.
الثاني: قوله: "أبو الجهم" مكبرا، غير جيد، إنما هو مصغر.
الثالث: ذكره مسلم منقطعا وهو موصول على شرطه.
كما أخرجه البخاري موصولا كما ذكرناه.
وكذا أخرجه أبو داود (2): عن عبد الملك بن شعيب بن الليث قال: حدثني أبي، عن جدي، عن جعفر
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): عن الربيع بن سليمان مثل الطحاوي.
ولكن قال القاضي عياض في شرح مسلم: روايتنا فيه عبد الله بن يسار، وكذا قاله النسائي وأبو داود وغيرهما من الحفاظ، وقالوا أيضًا: إن أبا الجهم بن الحارث يقال له: أبو جهيم أيضًا، وفيه وجهان، ولذلك ذكره مسلم مُكبَّرا ها هنا، وذكره في حديث المرور بين يدي المصلي مصغرا (4)، وسماه أبو نعيم وابن منده: عبد الله بن جُهيم وجعلاهما واحدا، ورجح ابن الأثير كونهما اثنين، وقاله أيضًا أبو علي الجياني وغيره، وهو ابن أخت أبي بن كعب رضي الله عنه.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 281 رقم 369).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 89 رقم 329).
(3)
"المجتبى"(1/ 165 رقم 311).
(4)
"صحيح مسلم"(1/ 363 رقم 507).
قوله: "بئر جَمل" بجيم مفتوحة، وعند النسائي بئر الجمل، وهو موضع بغرب المدينة فيه مال من أموالها، ذكره أبو عُبيد.
ويستفاد منه ما ذكرنا من الأحكام في الحديث الماضي، ويستفاد أيضًا:
جواز التيمم بالجدار سواء كان عليه غبار أو لم يكن؛ لإطلاق الحديث، وهو حجة لأبي حنيفة على مخالفيه.
وفيه دليل أيضًا على جواز التيمم للنوافل، والفضائل كسجدة التلاوة، والشكر، ومس المصحف، ونحوها كما يجوز للفرض، وهذا بالإجماع إلَاّ وجه شاذ منكر للشافعية أنه لا يجوز إلَاّ للفرض، وقد رأى الأوزاعي أن الجنب إذا خاف إن اشتغل بالغسل طلعت الشمس يتيمم ويصلي قبل فوت الوقت.
قال الخطابي: وبه قال مالك في بعض الروايات، وعند أصحابنا إذا [خاف](1) فوت الصلاة على الجنازة والعيدين يتمم.
وحكى البغوي في "التهذيب": إذا خاف فوت الفريضة لضيق الوقت صلاها بالتيمم، ثم توضأ وقضاها.
وقال النووي في "شرح مسلم": هذا الحديث محمول على أنه كان عليه السلام عادما للماء حال التيمم، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادر على استعماله، ولا فرق بين أن يضيق الوقت، وبين أن يتسع، ولا فرق بين صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما.
قلت: الحديث مطلق يستفاد منه: جواز التيمم لرد السلام ونحوه، وفي معناه صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما سواء وجد الماء أو لا، ولا ضرورة إلى حمله على أنه كان عادما للماء؛ لأنه تخصيص بلا مخصص.
فإن قيل: كيف يتيمم عليه السلام بالجدار بغير إذن مالكه؟
(1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.
قلت: هو محمول على أنه كان مباحا أو مملوكا لإنسان يعرفه فتأول عليه السلام، وتيمم به لعلمه بأنه لا يكره ذلك بل كان يفرح به، ومثل: هذا يجوز لآحاد الناس، فالنبي عليه السلام أولى وأجدر.
ص: حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا عمرو بن محمَّد الناقد، قال: نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عمير مولى ابن عباس
…
فذكر مثله.
ش: هذا طريق آخر صحيح أيضًا، وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق المدني.
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1)، نا إسماعيل الصفار، ثنا عباس الدوري، ثنا عمرو الناقد، نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن محمَّد بن إسحاق، حدثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عمير مولى عبيد الله بن عباس- قال: وكان عمير مولى عبيد الله ثقة- بلغني عن أبي جُهَيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، قال:"خرج رسول الله عليه السلام ليقضي حاجته نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلّم عليه، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع يده على الجدار، ومسح بها وجهه ويديه، ثم قال: وعليك السلام".
ص: قالوا فبهذه الآثار رخصنا للذي يُسَلم عليه وهو غير طاهر أنه يتيمم ويردَّ السلام، ليكون ذلك جوابا للسلام، وهذا كما رخَّص قوم في التيمم للجنازة، والعيدين إذا خيف على فوت ذلك إذا تشوغل بطلب الماء لوضوء الصلاة.
ش: أي قال هؤلاء الآخرون الذين ذهبوا إلى أنه ينبغي لمن يُسَلَّم عليه وهو على حدث أن يتيمم ويرد السلام، وإن كان في العصر "رخصنا بهذه الآثار" وأراد بها آثار ابن عمر، وآثار أبي الجهم المذكورة آنفا.
قوله: "ليكون ذلك" أي ردَّه السلام بعد التيمم، جوابا لسلام المسلم وإن كان قد تأخر ساعة من الزمان، لأجل التيمم.
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 176 رقم 5).
قوله: "وهذا" أي الحكم المذكور نظير ما رخص قوم في التيمم لأجل الصلاة على الجنازة، ولأجل صلاة العيدين إذا خاف أن تفوته إن اشتغل بطلب الماء لأجل الوضوء، وأراد بهؤلاء القوم: أبا حنيفة وأصحابه، والنخعي، والزهري، والحسن، ويحيى الأنصاري، وربيعة، وسعد بن إبراهيم، والثوري، والليث؛ فإنهم ذهبوا إلى أنه يتيمم عند خوف فوت الجنازة لأنه لا يمكن استدراكها بالوضوء فهو كالعادم، وبه قال أحمد في رواية، وكذا مذهب أبي حنيفة عند خوف فوت صلاة العيد، وبه قال الأوزاعي.
وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر: لا يجوز ذلك.
وعن الأوزاعي، والثوري: يتمم إذا خاف فوت الوقت أيضًا.
وعن الشعبي: يُصلي على الجنازة من غير وضوء؛ لأنه لا ركوع فيها ولا سجود.
وهلا ليس بصحيح؛ لأنها صلاة، فتدخل في عموم قوله عليه السلام:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور"(1).
ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا يحيى بن حسان، قال: ثنا عمر بن أيوب الموصلي، عن المغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس:"في الرجل تفجأه الجنازة وهو على غير وضوء قال: يتيمم ويصلي عليها".
ش: أي ذكر هؤلاء القوم في جواز التيمم لأجل صلاة الجنازة عند خوف فوتها ما حدثنا
…
إلى آخره، وهو خبر ابن عباس.
أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حسان التنيسي، عن عمر بن أيوب العبدي الموصلي.
عن المغيرة بن زياد البجلي الموصلي، فيه مقال، وعن أبي حاتم: صالح صدوق، ليس بذاك القوي، وأدخله البخاري في كتاب "الضعفاء" يُحَوَّل اسمه من هناك. وعن عباس الدوري، عن يحيى: ثقة. وروى له الأربعة.
(1) أخرجه مسلم (1/ 204 رقم 224).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا عمر بن أيوب الموصلي، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"إذا خفت أن تفوتك الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمم وصَلّ".
فإن قيل: قد قال البيهقي: الذي روى مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس في ذلك لا يصح عنه إنما هو قول عطاء، كذلك رواه ابن جريج عن عطاء، وهذا أحد ما أنكر ابن حنبل وابن معين على المغيرة.
قلت: المغيرة أخرج له الحاكم في المستدرك، وأصحاب السنن الأربعة، ووثقه وكيع، وابن معين، وعنه قال: ليس به بأس ثقة، وعنه له حديث واحد منكر.
ووثقه أحمد بن عبد الله ويعقوب بن سفيان وابن عمار.
وقال ابن عدي: عامه ما يرويه مستقيم إلَاّ أنه يقع في حديثه كما يقع في حديث من ليس به بأس من الغلط.
ثم رواية ابن جريج لا تعارض روايته؛ لأن عطاء كان فقيها، فيجوز أن يكون أفتى بذلك فسمعه ابن جريج، ورواه مرة أخرى فسمعه المغيرة، وهذا أولى من تغليط المغيرة والإنكار عليه، فافهم.
قوله: "تفجأه الجنازة" من فجِئه الأمر وفجَأهُ -بالكسر والفتح- إذا جاءه الأمر بغتة، قال الجوهرىِ: فاجَأَه الأمر، مُفَاجَأةَ وفِجَاء، وكذلك فَجِئَه الأمر وفَجَأه فُجاءَة -بالضم والمدّ: وهذا الخبر حجة على الشافعي ومن تبعه.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم وعبد الملك، عن عطاء وزكرياء، عن عامر ويونس، عن الحسن مثله.
ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وهشيم هو ابن بشير، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وإبراهيم هو النخعي وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، وعطاء ابن أبي رباح، وزكرياء: ابن أبي زائدة، وعامر: ابن شراحيل الشعبي، ويونس
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 497 رقم 11467).
ابن أبي إسحاق السبيعي، والحسن هو البصري.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن حفص، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم قال:"إذا خاف أن تفوته الصلاة على الجنازة يتيمم".
وعن عبدة (2) بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، قال:"إذا خفت أن تفوتك الجنازة فتيمم وصل".
وعن وكيع (3)، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال:"يتيمم إذا خشي الفوت".
وعن يزيد (4) بن هارون، عن هشام، عن الحسن قال:"يتيمم ويصلي عليها".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم
…
مثله.
ش: إسناده صحيح، وأبو داود: سليمان بن داود الطيالسي، وإبراهيم: النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5): نا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم قال:"إذا فَجئتك الجنازة ولست على وضوء، فإن كان عندك ماء فتوضأ وصلَّ، وإن لم يكن عندك ماء فتيمم وصلَّ".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم
…
مثله.
ش: هذا طريق اخر، وهو أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكَّار، عن مؤمل بن
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 11469، 11475) بنحوه من طرق أخرى عن إبراهيم، ولم أجد هذا الطريق في النسخة التي لديَّ.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 11471).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 11472).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 11476).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 11469).
إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي.
ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: نا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم
…
مثله.
ش: هذا طريق أخر، وهو أيضًا صحيح، عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا وكيع، عن سفيان، عن حماد ومنصور، عن إبراهيم قال:"يتيمم إذا خشي الفوت".
ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا سعيد، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن.
ومغيرة عن إبراهيم.
وعبد الملك، عن عطاء نحوه.
ش: إسناده صحيح، هذه ثلاثة أسانيد.
الأول: صالح، عن سعيد، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن.
والثاني: صالح، عن سعيد، عن هشيم، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي.
والثالث: صالح، عن سعيد، عن هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) نا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن قال:"يتيمم ويصلي عليها".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 114693).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 11470).
ونا (1) عبدة بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء قال:"إذا خفت أن تفوتك الجنازة فتيمم وصل".
ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: نا أبو داود، عن عباد بن راشد، قال:"سمعت الحسن يقول ذلك".
ش: إسناده صحيح، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب
…
مثله. قال: وقال لي الليث مثله.
ش: إسناده صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري
…
مثله، أي مثل قول الحسن:"يتيمم إذا خشي الفوت".
قوله: "قال" أي قال يونس: "وقال لي الليث ابن سعد" مثل ما قال ابن شهاب، والحسن.
ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن عبد الملك بن أبي غَنيَّة، عن الحكم
…
مثله.
ش: إسناده صحيح، عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع ابن الوليد بن قيس السكوني، عن عبد الملك بن أبي غنية الخزاعي الكوفي، عن الحكم ابن عُتَيبة.
وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم قال:"إذا خفت أن تفوتك الصلاة وأنت على غير وضوء فتيمم".
(1) سبق تخريجه.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 498 رقم 11473).
وقد عُلِمَ بهذه الآثار أن مذهب إبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وعامر الشعبي، والحسن البصري، والزهري، والليث بن سعد، والحكم بن عُتيبة؛ مثل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في جواز التيمم لصلاة الجنازة عند خوف فوتها مع وجود الماء.
ص: فلما كان قد رُخص في التيمم في الأمصار خوف فوت الصلاة على الجنازة، وفي صلاة العيدين؛ لأن ذلك إذا فات لم يقض، قالوا: فكذلك رُخِّصنا في التيمم في الأمصار لرد السلام؛ ليكون ذلك جوابا للمُسَلِّم؛ لأنه إذا رد في الحال الثاني لم يكن جوابا للسلام له، وأما ما سوى ذلك مما لا يخاف فوته من الذكر، وقراءة القرآن فإنه لا يخاف فوته، فإنه لا يجوز فيه التيمم، ولا ينبغي أن يفعل ذلك أحد إلا على طهارة.
ش: هذا من جملة مقالة أهل المقالة الثانية بطريق القياس، وهو أن التيمم لما كان جائزا في الأمصار لأجل الجنازة، فكذلك ينبغي أن يتيمم لأجل رد السلام قياسا عليه، والجامع وجود خوف الفوات فيهما، بخلاف ما سوى ذلك من قراءة القرآن والذكر ونحوهما، حيث لا يقاس على ذلك لانتفاء الجامع؛ فحينئذ لا يجوز التيمم فيه، ولا ينبغي أن يقرأ أحد، أو يذكر الله إلَاّ على حالة يجوز له أن يصلي على تلك الحالة.
فإن قيل: ما حكم التيمم الواقع للجنازة أو لرد السلام، هل يصلي به الفرض أم لا؟
قلت: العمدة في ذلك اعتبار كيفية النية، فإن نوى به استباحة الصلاة يجوز به أداء ما شاء من الصلوات، وإن عَيَّنَ به أداء جواب السلام فقط لا يجوز به بعده أداء الصلوات، كما إذا تيمم لدخول المسجد أو مس المصحف.
ثم اعلم أن أصحابنا اختلفوا في كيفية النية فيه، فقال القدوري: الصحيح في المذهب أنه إذا نوى الطهارة، أو نوى استباحة الصلاة أجزأه.
وقال الجصاص: لا تجب في التيمم نية التطهر، وإنما يجب فيه التمييز وهو أن ينوي [رفع](1) الحدث أو الجنابة.
والصحيح أن ذلك ليس بشرط، فإن ابن سماعة روى عن محمَّد: أن الجنب إذا تيمم يريد به الوضوء أجزأه عن الجنابة، ولو تيمم ونوى مطلق الطهارة أو نوى استباحة الصلاة فله أن يفعل كل ما لا يجوز بدون الطهارة كصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، ومس المصحف، ونحوها، لأنه لما أبيح له أداء الصلاة فلأن يباح له ما دونها وما هو جزء من أجزائها أولى، وكذا لو تيمم لصلاة الجنازة أو لسجدة التلاوة أو لقراءة القرآن بأن كان جنبا فجاز له أن يصلي سائر الصلوات؛ لأن كل واحد من ذلك عبادة مقصودة بنفسها، وهو من جنس أجزاء الصلاة فكان نيتها عند التيمم كنية الصلاة، فأما إذا تيمم لدخول المسجد أو لمس المصحف، لا يجوز له أن يصلي به، ولا هو من أجزاء الصلاة؛ لأن دخول المسجد، ومس المصحف ليس بعبادة مقصودة، ولا من جنس أجزاء الصلاة، فيقع طهورا لما أوقعه لا غير.
وفي "المغني"(2): وينوي بالتيمم المكتوبة، لا نعلم خلافا في أن التيمم لا يصح إلَاّ بنية، غير ما حكي عن الأوزاعي، والحسن بن صالح أنه يصح بغير نيَّة، وسائر أهل العلم على إيجاب النيَّة فيه، وممن قال ذلك: ربيعة، ومالك، والليث، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، وينوي استباحة الصلاة، فإن نوى رفع الحدث لم يصح، هذا مذهب مالك، والشافعي، وحكي عن أبي حنيفة أنه يرفع الحدث، ولا يصح التيمم للفرض إلَاّ بنية الفرض، فإن نوى فريضة معينة فله أن يصلي غيرها، وإن نوى فريضة مطلقة فله أن يصلي به فريضة معينة، وإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة لم يجز أن يصلي إلَاّ نافلة، وهذا مذهب الشافعي، وأباح له أبو حنيفة صلاة الفرض به كطهارة الماء، وإذا نوى الفرض استباح كل ما يباح بالتيمم من التنقل قبل الصلاة وبعدها، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد،
(1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.
(2)
"المغني"(1/ 158).
وقال مالك: لا يتطوع قبل الفريضة بصلاة غير راتبة، وحكي نحوه عن أحمد، وإن نوى نافلة أبيحت له، وأبيح له قراءة القرآن، ومس المصحف، والطواف (1).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس أن يذكر الله في الأحوال كلها من الجنابة وغيرها، ويقرأ القرآن في ذلك إلَاّ في الجنابة والحيض؛ فإنه لا ينبغي لصاحبهما أن يقرأ القرآن.
ش: أي خالف أهل المقالتين جميعًا جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، والنخعي، وأبا حنيفة، والشافعي، ومالكا، وأحمد، وإسحاق، وأصحابهم، فإنهم قالوا: لا بأس للرجل أن يذكر الله في كل الأحوال سواء كان طاهرا، أو محدثا، أو جُنبا، أو حائضا، أو نفساء، وكذا قراءة القرآن إلَّا في حالة الجنابة والحيض، وستجيء الدلائل على ذلك كله.
ثم اعلم أن هذا الحكم فيما يرجع إلى حال الرجل، وأما الحكم فيما يرجع إلى المكان فعلى أنواع:
الأول: بيت الخلاء، فعن ابن عباس كراهة الذكر فيه، وهو قول عطاء ومجاهد أيضًا، وقال ابن سيرين والنخعي: لا بأس به.
وفي "المغني"(2): إذا عطس حمد الله بقلبه، وقال ابن عقيل: هل يحمد الله بلسانه أم بقلبه؟ روايتان.
وعن الشعبي يحمد الله.
قال ابن أبي شيبة (3): نا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي:"في الرجل يعطس على الخلاء، قال: يحمد الله".
(1) انتهى من "المغني" بتصرف واختصار من المؤلف.
(2)
"المغني"(1/ 109) بتصرف واختصار.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 108 رقم 1225).
نا (1) ابن إدريس، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم قال:"يحمد الله فإنه يصعد".
نا (2) ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال:"يحمد الله في نفسه".
نا (3) ابن عُلية، عن ابن عون، عن محمَّد:"سئل عن الرجل يعطس في الخلاء، قال: لا أعلم بأسا بذكر الله".
نا ابن علية، عن شعبة، عن أبي إسحاق:"في الرجل يعطس في الخلاء"(4) قال: قال أبو ميسرة: ما أحب أن أذكر الله إلا في مكان طيب قال: قال منصور: قال إبراهيم: يحمد الله".
وأما إذا. دخل الخلاء ومعه الدراهم، فعن مجاهد أنه مكروه، وعن الحسن لا بأس به.
وقال ابن أبي شيبة (5): نا ابن عُلية قال: "سألت ابن أبي نجيح عن الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم البيض، فقال: كان مجاهد يكرهه".
نا (6) ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال:"كان لا يرى بأسا أن يدخل الرجل الخلاء ومعه الدراهم البيض، قال: وكان القاسم بن محمَّد يكرهه، ولا يرى بالبيع والشراء بها بأسا".
وأما إذا دخل الخلاء وعليه الخاتم، فعن عطاء أنه لا بأس به، وعن ابن عباس ينزعه.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 108 رقم 1226).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 108 رقم 1227).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 108 رقم 1228).
(4)
سقط من "الأصل، ك" ولعله انتقال نظر من المؤلف، والمثبت من "المصنف" لابن أبي شيبة (1/ 108 رقم 1229).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 107 رقم 1209).
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 107 رقم 1210).
وقال ابن أبي شيبة (1): حدثنا ابن إدريس، عن عثمان بن الأسود، عن عطاء:"أنه كان لا يرى بأسا أن يلبس الرجل الخاتم ويدخل به الخلاء، ويجامع فيه، ويكون فيه اسم".
نا (2) عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن سلمة [بن](3) وهرام، عن عكرمة قال:"كان ابن عباس إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه".
نا (4) يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن وابن سيرين:"في الرجل يدخل المخرج وفي يده خاتم فيه اسم الله، قالا: لا بأس به".
نا (5) حفص، عن ابن أبي رواد (6) عن عكرمة قال:"كان يقول إذا دخل الرجل الخلاء وعليه خاتم فيه ذكر الله تعالى جعل الخاتم مما يلي بطن كفه، ثم عقد عليه بإصبعه".
نا (7) أبو معاوية، قال: نا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"كان سليمان بن داود عليهما السلام إذا دخل الخلاء نزع خاتمه فأعطاه امرأته".
نا (8) يحيى بن أبي كثير، قال: نا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أنه كان يكره للإنسان أن يدخل الكنيف وعليه خاتم فيه اسم الله".
وأما المُحدِث إذا مسَّ الدراهم فعن إبراهيم أنه مكروه، وعن الحسن لا بأس به.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 106 رقم 1203).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 106 رقم 1204).
(3)
سقط من "الأصل، ك" والمثبت عن المصدر السابق.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 106 رقم 1205).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 106 رقم 1206).
(6)
في "الأصل، ك": ورَّاد، وهو تحريف، والمثبت من "المصنف".
(7)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 106 رقم 1207).
(8)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 106 رقم 1208).
وقال ابن أبي شيبة (1): نا أبو أسامة، عن الأعمش، عن إبراهيم:"أنه كان يكره الدرهم الأبيض وهو على غير وضوء".
نا (2) أبو أسامة، عن هشام، عن القاسم:"أنه كان لا يرى بأسا بمس الدرهم الأبيض وهو على غير وضوء".
نا (3) وكيع، قال: نا سفيان، عن هشام، عن الحسن قال:"لا بأس أن يمسها على غير وضوء".
نا (4) وكيع، عن ربيع قال:"كرهه ابن سيرين".
النوع الثاني: الحمام، وفي "المغني": ولا بأس بذكر الله في الحمام، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يذكر الله على كل أحيانه".
فأما قراءة القرآن، فقال أحمد: لم يُبْن لهذا، وكره قراءة القرآن فيه أبو وائل، والشعبي، والحسن، ومكحول، وقبيصة بن ذؤيب، ولم يكرهه النخعي، ومالك.
وأما التسليم فيه فقال أحمد: لا أعلم أني سمعت فيه [شيئا](5) والأولى جوازه لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام بينكم".
النوع الثالث: المقبرة، وكره بعض الناس القراءة فيها، وكذا الصلاة لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"الأرض كلها مسجد إلَّا الحمَّام، والمقبرة". رواه أبو داود (6)، والترمذي (7)، وابن ماجه (8).
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 107 رقم 1214).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 107 رقم 1215).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 107 رقم 1216).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 107 رقم 1218).
(5)
في "الأصل، ك": شيء، والمثبت من "المغني"(1/ 147).
(6)
"سنن أبي داود"(1/ 132 رقم 492).
(7)
"جامع الترمذي"(2/ 131 رقم 317).
(8)
"سنن ابن ماجه"(1/ 246 رقم 745).
والأصح أنه لا تكره القراءة فيها ولا الصلاة، وعن الشافعي: إذا كانت المقبرة مختلطة التراب بلحوم الموتى، وصديدهم، وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها؛ للنجاسة، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته صلاته، وكذلك الحمام إذا صل في موضع نظيف منه فلا إعادة عليه، وهذا أيضًا قول أصحابنا، ورخص عبد الله بن عمر في الصلاة في المقبرة، وحكي عن الحسن البصري أنه صلى في المقابر، وعن مالك: لا بأس بالصلاة في المقبرة، وقال أبو ثور: لا يُصلى في حمام ولا مقبرة لظاهر الحديث، وكان أحمد وإسحاق يكرهان ذلك.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال:"دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجل منا ورجل من بني أسد، فبعثهما في وجه، ثم قال: إنكما علجان فعالجا عن دينكما. قال: ثم دخل المخرج، ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فتمسح بها، وجعل يقرأ القرآن، فرآنا كأنَّا أنكرنا ذلك، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القران، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجره عن ذلك شئ، ليس الجنابة".
ش: أي احتج الآخرون الذين خالفوا أهل المقالتين في ذلك، أي في قولهم: لا بأس أن يذكر الله في كل الأحوال كلها من الجنابة وغيرها، ويقرأ القرآن في ذلك إلَّا في الجنابة والحيض.
قوله: "بما حدثنا" يتعلق بقوله احتجوا، وإسناد الحديث صحيح.
وعبد الله بن سَلِمَة -بكسر اللام- المرادي الكوفي، قال العجلي: تابعي ثقة. روى له الأربعة.
وأخرجه أبو داود (1): نا حفص بن عمر، قال شعبة .. إلى آخره نحوه. والترمذي مختصرا (2): نا أبو سعيد الأشج، نا حفص بن غياث وعقبة بن خالد
(1)"سنن أبي داود"(1/ 59 رقم 229).
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 274 رقم 146).
قالا: نا الأعمش وابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال، ما لم يكن جُنُبا".
والنسائي (1): أنا علي بن حُجْر، أنا إسماعيل بن إبراهيم، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال:"أتيت عليّا أنا ورجلان، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة".
وابن ماجه (2): نا محمَّد بن بشار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال:"دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الخلاء فيقض الحاجة، ثم يخرج فيأكل معنا الخبز واللحم، ويقرأ القرآن، ولا يحجبه -وربما قال: ولا يحجره- عن القرآن شيء إلَّا الجنابة".
وأخرجه ابن حبان (3) أيضًا، وصححه ابن خزيمة (4)، وأبو علي الطوسي، والحكم (5)، والبغوي في "شرح السُّنَّة"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي سؤالات الميموني: قال شعبة: ليس أحد يحدث بحديث أجود من ذا. وفي كتاب ابن عدي عنه: لم يرو عمرو أحسن من هذا، وكان شعبة يقول: هو ثلث رأس مالي.
وخرجه ابن الجارود في "المنتقى"(6)، وذكر البزار (7) أنه لا يُروى عن علي إلَّا من حديث عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، وحكى البخاري، عن عمرو بن مرة كان عبد الله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حدثه.
(1)"المجتبى"(1/ 144 رقم 265).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 195 رقم 594).
(3)
"صحيح ابن حبان"(3/ 79 رقم 799).
(4)
"صحيح ابن خزيمة"(1/ 104 رقم 208).
(5)
"المستدرك"(1/ 253 رقم 541).
(6)
"المنتقى"(1/ 34 رقم 94).
(7)
"مسند البزار"(2/ 287 رقم 708).
وذكر الشافعي هذا الحديث، وقال: وإن لم يكن أهل الحديث بثبوته.
وقال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوت الحديث؛ لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي، وكان قد كبر وأنكر من حديثه، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة.
وذكر الخطابي أن الإِمام أحمد بن حنبل كان يوهنُ حديث علي رضي الله عنه هذا، وُيضَعِّفُ أمر عبد الله بن سلمة.
قلت: وقد ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكين"(1)، وقال: قال النسائي تعرف وتنكر.
ولكن قال الحاكم: إنه غير مطعون فيه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
قوله: "ورجل منا" عطف على الضمير المرفوع المنفصل الذي أوتي به ليصح العطف على ما قبله حتى لا يكون عطف الاسم على الفعل.
قوله: "في وجه" أي جهة من الجهات، وهو النحو والقصد الذي تستقبله.
قوله: "علجان" تثنيه عَلِجْ بفتح العين، وكسر اللام، وهو الضخم القويُّ، وقال الخطابي: يُريد الشدة والقوة على العمل، يقال: رجل عَلِج، وعُلَّج -بتشديد اللام- إذا كان قوي الخلقة وثيق البنية.
قوله: "فعالجا" أي جاهدا، وجالدا لأجل دينكما، وكلمة "عن" للتعليل نحو قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} (2) وتجوز أن تكون حالًا، والمعنى عَالِجا مقيمين دينكما، أي مقيمين أموره، ومحصلين ما ينبغي له.
(1)"الضعفاء والمتروكين"(2/ 125 رقم 2038).
(2)
سورة التوبة، آية:[114].
قوله: "المخرج" بفتح الجيم، وهو الخلاء، سُمِّي به لأنه موضع خروج البول، والغائط.
قوله: "فتمسح بها" أي توضأ بها أي غسل يديه، وقال ابن الأثير: يقال للرجل إذا توضأ: تمسح.
قوله: "فرآنا كأنا أنكرنا ذلك" أي كونه قرأ القرآن بلا وضوء كامل، فلما أنكروا على عليّ رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن" أي يُعلمنا القرآن عقيب خروجه، من غير اشتغال بالوضوء.
قوله: "كأنا أنكرنا" جملة وقعت مفعولا ثانيا للرؤية، والتقدير: رآنا كالمنكرين في ذلك.
قوله: "ويأكل معنا اللحم" أشار به إلى أن أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء لقراءة القرآن ولا للصلاة أيضًا، لأجل هذا قال:"ولم يكن يحجره" أي يمنعه "من القرآن"، أي عن قراءة القرآن "شيء ليس الجنابة" أي غيرها.
وقوله: "يحجره" من حجره إذا منعه، وحَجَرَ عليه أي منعه من التصرف، وفي بعض الرواية "يحجزه" بالزاي المعجمة، من حجزه يحجزه حجزا بمعنى منعه أيضًا، وكلاهما من باب نصر ينصر، وفي بعض الرواية "يحجبه" من حجب إذا منع أيضًا، ومنه قيل للبواب: حاجبا؛ لأنه يمنع الناس عن الدخول.
قوله: "ليس الجنابة" أي غير الجنابة، "وليس" له ثلاث مواضع:
أحدها: أن تكون بمعنى الفعل، وهو يرفع الاسم، وينصب الخبر كقولك: ليس عبد الله جاهلا.
وتكون بمعنى "لا" كقولك: رأيت عبد الله ليس زيدا، تنصب به زيدا كما تنصب بلا.
وتكون بمعنى "غير" كقولك: ما رأيت أكرم من عمر، وليس زيد. أي غير زيد، وهو يجر ما بعده.
وتُستنبط منه أحكام:
الأول: جواز قراءة القرآن للمُحْدِث.
الثاني: جواز ذكر الله تعالى بأي ذكر كان في أي حال كان؛ لأن قراءة القرآن إذا كانت جائزة للمُحْدِث فالذكر بالطريق الأولى.
الثالث: فيه دليل على حرمة قراءته على الجنب، وكذلك الحائض؛ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، وكان أحمد يرخص للجنب أن يقرأ الآية ونحوها، وكذلك قال مالك، وقد حُكي عنه أنه قال: تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب؛ لأن الحائض إذا لم تقرأ نسيت القرآن؛ لأن أيام الحيض تتطاول؛ ومدة الجنابة لا تتطاول، وروي عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة القرآن للجُنب، والجمهور على تحريمه.
وفي "المغني"(1): لا يقرأ القرآن جنب، ولا حائض، ولا نفساء، رويت الكراهة لذلك عن عمر، وعلي، والحسن، والنخعي، والزهري، وقتادة، والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلَاّ آية الركوب، والنزول {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} (2)، {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (3)، وقال ابن عباس: يقرأ ورده، وقال سعيد بن المسيَّب: يقرأ، أليس هو في جوفه؟
والذي يحرم عليه قراءة آية، فأما ما دون الآية ففيه روايتان:
إحداهما: لا تجوز قراءته، وهو مذهب الشافعي.
والثانية: تجوز، وهو قول أبي حنيفة.
وقال صاحب "البدائع"، ويستوي في الكراهة الآية التامة وما دونها عند عامَّة مشايخنا، وقال الطحاوي: لا بأس بقراءة ما دون الآية.
(1)"المغني"(1/ 96).
(2)
سورة الزخرف، آية:[13].
(3)
سورة المؤمنون، آية:[29].
والصحيح قول العامة، هذا إذا قصد التلاوة، فأما إذا لم يقصد بأن قال: بسم الله. لافتتاح الأشياء تبركا، أو قال: الحمد لله فلا بأس؛ لأنه من باب الذكر.
وقال ابن حزم في "المحلى"(1): وقراءة القرآن، والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله جائز كل ذلك بوضوء، وبلا وضوء، وللجنب والحائض.
وقالت طائفة لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن، وهو قول رُوي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والحسن البصري، والنخعي، وقتادة، وغيرهم.
وقالت طائفة: أما الحائض فتقرأ ما شاءت من القرآن، وأما الجنب فيقرأ الآيتين ونحوهما، وهو قول مالك، وقال بعضهم: يُتم الآية، وهو قول أبي حنيفة، ثم رُوي عن ربيعة أنه قال: لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن، وعن سعيد بن جبير: يقرأ الجنب؟ فلم ير بأسا، وقال: أليس في جوفه القرآن، ثم قال: وهو قول داود، وجميع أصحابنا.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا أبو الوليد، قال: نا شعبة، قال: أنا عمرو ابن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة .. فذكر مثله، غير أنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيقرأ القرآن".
حدثنا حسين بن نصر وسليمان بن شعيب، قالا: نا عبد الرحمن بن زياد، قال: نا شعبة .. فذكر بإسناده مثله.
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا شعبة
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا فهد، قال: نا عمر بن حفص، قال: نا أبي، قال: نا الأعمش، قال: قال عمرو بن مرة: عن عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل حال إلَّا الجنابة".
(1)"المحلى"(1/ 77) بتصرف واختصار.
حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس السوسي التغلبي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو، عن عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا القرآن على كل حال إلا الجنابة".
ش: هذه خمس طرق رجالها كلهم ثقات، غير أن ابن أبي ليلى فيه مقال، وهو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وعبد الرحمن بن زياد هو الرصاصي الثقفي، والأعمش هو سليمان.
ويحيى بن عيسى بن عبد الرحمن التميمي النهشلي مختلف فيه، ولكن مسلما روى له، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وكان يتشيع، فبالطريق الأول أخرجه البيهقي (1) من حديث شعبة، نا عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال:"دخلت على عليّ رضي الله عنه أنا ورجلان من قومي، و [رجل] (2) أحسبه من بني أسد، فبعثهما وجها وقال: إنكما علجان فعالجا عن دينكما، ثم دخل المخرج فقضى حاجته، ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فتمسح بها، ثم جعل يقرأ القرآن فكأنه رأى أنَّا أنكرنا ذلك، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه -وربما قال: يحجزه- عن القرآن شيء ليس الجنابة".
وبالطريق الثاني: أخرجه أحمد في "مسنده"(3): نا يحيى، عن شعبة، حدثني عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال:"أتيت على عليّ رضي الله عنه أنا ورجلان، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، ثم يخرج فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولا يحجره -وربما قال: لا يحجبه- من القرآن شيء ليس الجنابة".
والطريق الرابع: مقطوع؛ لأن الأعمش أخبر عن عمرو بن مرة حيث قال: قال عمرو، ولم يذكر فيه شيئًا يدل على السماع.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 88 رقم 418).
(2)
في "الأصل، ك" رجال، والمثبت من المصدر السابق.
(3)
"المسند"(1/ 84 رقم 639).
وأخرجه ابن أبي شيبة (1) موصولا: نا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال إلَاّ الجنابة".
وبالطريق الخامس: أخرجه أبو عبد الله الحديث في "مسنده"، نا محمَّد، نا وكيع، ثنا ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا".
وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(2)، نا أبو معاوية، نا ابن أبي ليلى
…
إلى آخره نحوه.
ص: قال أبو جعفر عليه السلام: ففيما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحة ذكر الله عز وجل على غير وضوء، وقراءة القرآن كذلك، ومنعُ للجنب من قراءة القرآن خاصة.
ش: "إباحة ذكر الله" كلام إضافي مرفوع بالابتداء، وخبره قوله:"ففيما روينا".
قوله: "وقراءة القران" عطف عليه، وكذا قوله:"ومنعٌ" ويجوز أن يكون "وقراءة القرآن" بالجرِّ عطفا على المضاف إليه في قوله: "إباحة ذكر الله" بل هذا أصوب على ما لا يخفى.
ص: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا فيما يدل على إباحة ذكر الله عز وجل على غير طهارة ما حدثنا فهدٌ، قال: نا الحسن بن الربيع، قال: نا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، قال: ثنا أبو ظبية، قال: سمعت عمرو بن عبسة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ مسلم يبيت طاهرا على ذكر الله، فيتعار من الليل يسأل الله شيئا من أمر الدنيا والآخرة إلَّا أعطاه إياه".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 97 رقم 1078).
(2)
"مسند أحمد"(1/ 134 رقم 1123).
ش: لما كانت الآثار المذكورة تدل على إباحة ذكر الله على غير وضوء بطريق التضمن أورد أحاديث تدل على ذلك بطريق المطابقة.
وقوله: "روي" مسند إلى قوله: "ما حدثنا فهدٌ".
ورجال هذا الحديث ثقات، والحسن بن ربيع: ابن سليمان البجلي القسري الكوفي شيخ مسلم وأبي داود والنسائي.
وأبو الأحوص: سلام بن سليم الكوفي.
والأعمش هو سليمان.
وشمر بن عطية: الأسدي الكاهلي، وثقه ابن حبان.
وأبو ظبية بالظاء المعجمة، وقال ابن منده: بالطاء المهملة أيضًا. وقال أبو زرعة: لا نعرف أحدا يسميه. وقال العسكري: لا يعرف اسمه، ويقال: اسمه كنيته. وقال الدارقطني: ليس به بأس. وقال ابن معين: ثقة روى له أبو داود وابن ماجه.
وعمرو بن عَبَسَة بفتحات-: ابن عامر السُلَميَّ.
وأبو نجيح الصحابي، وهو أخو أبي ذرَّ الغفاري لأمَّه، وأمهما رملة بنت الوقيعة بن حَرام بن غفار، مات بحمص رحمه الله.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحسن بن الربيع الكوفي، ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش
…
إلى آخره نحوه سواء.
قوله: "فيتعار" من تعار الرجل من الليل، إذا هبَّ من نومه مع صوتَ، وأصله من عار الظليم تعار عِرارا، وهو صوته، وبعضهم يقول: عر الظليم يعِرُّ عرارا، كما قالوا: زمر النعام يزمر زمارا.
قلت: أصله يتعارَرُ، ادغمت إحدى الرائين في الأخرى؛ لموجب الإدغام وهو اجتماع المثلين من الحرف.
(1)"المعجم الكبير"(8/ 124 رقم 7564).
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفَّان، قال: ثنا حماد، قال: كنت أنا وعاصم ابن بهدلة وثابت، فحدث عاصم، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله غير أنه لم يذكر قوله:"على ذكر الله"، قال ثابت: قدم علينا فحدثنا هذا الحديث ولا أعلمه إلَاّ عنه، يعنيم أبا ظبية، قلت لحماد: عن معاذ؟ قال: عن معاذ.
ش: أشار بهذا إلى أن هذا الحديث المذكور قد رُوي أيضًا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ورجاله ثقات، وحماد هو ابن سلمة، وثابت هو ابن أسلم البناني.
وأخرجه أحمد في "مسنده" من ثلاث وجوه:
الأول (1): عن عفان، عن حماد .. إلى آخره نحو طريق أبي جعفر سواء.
الثاني (2): عن روح وحسن بن موسى، قالا: نا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهرا، فيتعار من الليل، فيسأل الله عز وجل خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه".
قال: حسن في حديثه قال: ثابت البناني: فقدم علينا ها هنا فحدثنا بهذا الحديث عن معاذ، قال أبو سلمة: أظنه عنِي أبا ظبية.
الثالث (3): عن أبي كامل: ثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يبيت على ذكر الله [طاهرًا]، (4) فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرا من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه".
(1)"مسند أحمد"(5/ 241 رقم 22145).
(2)
"مسند أحمد"(5/ 234 رقم 22101).
(3)
"مسند أحمد"(5/ 244 رقم 22167).
(4)
تكررت في "الأصل، ك".
ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال ناعلي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عاصم بن أبي النجود، عن شمر بن عطية
…
فذكر بإسناده.
ش: هذا طريق أخر وهو أيضًا صحيح، وعاصم بن أبي النجود هو عاصم ابن بهدلة المزني.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا المقدام بن داود، ثنا علي بن معبد، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عاصم بن أي النجود، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بات طاهرا على ذكر، ثم تعار من الليل ساعة يسأل الله تعالى فيها شيئًا من أمر الدنيا والآخرة إلَاّ أتاه الله إياها".
ص: وهذا أيضًا بعد النوم، ففلى ذلك إباحة ذكر الله تعالى بعد الحدث، وقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها من ذلك شيء.
حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مُعلَّى بن منصور، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، وحتى الجنابة".
ففي هذا إباحة ذكر الله عز وجل وليس فيه ولا في حديث أي ظبية من قراءة القرآن شيء، وفي حديث علي رضي الله عنه بيان فرق ما بين قراءة القرآن، وذكر الله في حال الجنابة.
ش: أشار بهذا إلى ما رُوي عن عمرو بن عبسة، عن معاذ بن جبل رضي الله عنهما
(1) في الجزء المفقود من الطبعة الحالية للمعجم وهو في "المعجم الأوسط"(4/ 361 رقم 4439) بنحوه، ورواه النسائي في الكبرى (6/ 202 رقم 10644) من طريق الأعمش، عن شمر ابن عطية به، نحوه.
وهو كذلك من طريق الأعمش عند الخطيب في "تاريخه"(8/ 60).
قوله: "وقد رُوي عن عائشة من ذلك شيء" أي من إباحة ذكر الله في حالة الحدث، وإسناد حديثها صحيح.
وابن أبي زائدة هو يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة الكوفي، روى له الجماعة، وأبوه: زكرياء، روى له الجماعة.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو كريب محمَّد بن العلاء وإبراهيم بن موسى، قالا: نا ابن أبي زائدة
…
إلى آخره نحوه سواء.
وأحْرجه أبو داود (2): عن أبي كريب أيضًا نحوه.
وأخرجه الترمذي (3)، وابن ماجه (4) أيضًا.
ولكن في رواية الكل بين خالد بن سلمة وبن عروة، عبد الله البهي، ولم يقع كذا في رواية الطحاوي، وخالد بن سلمة روى عن عروة أيضًا، ولو لم تصح روايته عنه لقلنا: إن البهي ساقط في رواية الطحاوي من النساخ.
قوله: "يذكر الله" عام يشمل جميع أنواع الذكر من التهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، وأشباه ذلك.
"والأحيان" جمع حين، وهو الوقت، وهو أيضًا يتناول جميع أحيان الأحوال ولكن يستثنى منه قراءة القرآن حين الجنابة، وحين الحيض؛ لأنه قد ثبت بدلائل أخرى عدم جواز قراءة القرآن للجُنب، والحائض.
قوله: "ففي هذا" أي في حديث عائشة.
قوله: "وليس فيه" أي في حديث عائشة، ولا في حديث أبي ظبية الذي رواه عن عمرو بن عبسة ومعاذ في قراءة القرآن شيء، أما حديث أبي ظبية فإنه لم يذكر فيه إلَّا
(1)"صحيح مسلم"(1/ 282 رقم 373).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 5 رقم 18).
(3)
"جامع الترمذي"(5/ 364 رقم 3384).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 110 رقم 302).
لفظ السؤال، ولا يفهم منه إلَّا ذكر الله تعالى دون قراءة القرآن، وأما حديث عائشة فإنه لم يذكر فيه إلَّا لفظ الذكر، وهو عند الإطلاق لا يتناول القرآن باعتبار العرف، وإنما فرق بينهما في حديث علي رضي الله عنه حيث قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا القرآن على كل حال إلَاّ الجنابة"(1) فإنه يدل على جواز الذكر حال الجنابة دون القراءة.
ص: وقد رُوي أيضًا في النهي عن قراءة القرآن حال الجنابة ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى ابن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن".
ش: عبد الله بن يوسف هو "التنيسي"(2) شيخ البخاري، وإسماعيل بن عيَّاش -بتشديد الياء آخر الحروف، والشين المعجمة- بن سُليم الشامي الحمصي العنسي -بالنون- وثقه يحيى بن معين في روايته عن الشاميين خاصة، وقال أبو حاتم: هو لين يكتب حديثه، لا أعلم أحدا كف عنه إلَاّ أبو إسحاق الفزاري، وقال أبو زرعة: صدوق إلَاّ أنه غلط في حديث الحجازيين والعراقيين، وروى له الأربعة.
قلت: ولهذا لما أخرجه الترمذي (3) سكت عنه وقال: ثنا علي بن حجر والحسين ابن عرفه، قالا: نا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقرأ الحائض ولا الجنُب شيئًا من القرآن".
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(4): عن عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، عن داود بن رُشَيد، عن إسماعيل بن عياش .. إلى آخره نحوه.
(1) سبق تخريجه.
(2)
في "الأصل، ك" الفريابي، وهو سبق قلم من المصنف، والصواب أنه التنيسي شيخ البخاري، وأما الفريابي فهو محمَّد بن يوسف الفريابي وهو شيخ البخاري أيضًا.
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 236 رقم 131).
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 117 رقم 1).
وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): موقوفا، وقال: أخبرنا محمَّد بن يزيد البزار، ثنا شريك، عن فراس، عن عامر:"الجنب والحائض لا يقرآن القرآن".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد ح
وحدثنا روح بن الفرج قال: ثنا ابن بكير، قالا: أنا عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنُود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال:"أكل رسول الله عليه السلام وهو جُنب، فأخبرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجرّني إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله، إن هذا أخبرني أنك أكلت وأنت جنب. قال: نعم، إذا توضأت أكلت وشربت ولكن لا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل".
ش: أخرجه من طريقين:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني، نزيل مصر، شيخ البخاري وغيره، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان بن زرعة أبي حمزة الطويل المصري، عن ثعلبة بن أبي الكنود الحمراوي وثقه ابن حبان، عن مالك بن عبادة الغافقي، ويقال: مالك بن عبد الله، ويقال له: عبد الله بن مالك الغافقي، وقال ابن الأثير: عبد الله بن مالك الغافقي أبو موسى، وقيل: مالك بن عبد الله، مصري ذكره في العبادلة، ثم قال في باب مالك: ابن عبد الله الغافقي يقال له: مالك بن عبادة، وقيل: شاميُّ، والطبراني ذكره في الحديث المذكور (2): مالك بن عبد الله حيث قال: نا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف، نا ابن لهيعة (3)، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبد الله الغافقي، قال: "أكل رسول الله عليه السلام يوما طعاما، ثم قال: أستر عليَّ حتى أغتسل، فقلت: كنت جنبا يا رسول الله؟ قال: نعم، فأخبرت ذلك عمر بن الخطاب، فجاء إلى رسول الله عليه السلام فقال له: هذا يزعم أنك
(1)"سنن الدرامي"(1/ 252 رقم 991).
(2)
"المعجم الكبير"(19/ 295 رقم 656).
(3)
وقع ها هنا في "الأصل، ك"، عن عبد الله بن يوسف بين ابن لهيعة وعن ثعلبة، وهو انتقال نظر من المؤلف.
أكلت وأنت جُنُب، فقال: نعم، إذا توضأت أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل".
الطريق الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن بكير المصري، عن عبد الله بن لهيعة
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير"(1): من حديث ابن وهب، أنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن عبد الله بن مالك الغافقي، أنه سمع رسول الله عليه السلام يقول لعمر رضي الله عنه:"إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل"، ثم قال ابن وهب: قال لي مالك والليث مثله يعني من قولهما انتهى، وهذا في رواية البيهقي: عبد الله بن مالك.
فإن قلت: من أين عرف مالك بن عبادة أن رسول الله عليه السلام كان جنبا حين أكل حتى أخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
قلت: رواية الطبراني تجيبك عن هذا، فافهم.
ص: ففي هذين الأثرين منع الجنب من قراءة القرآن، وفي أحدهما منع الحائض من ذلك، فثبت بما ذكرنا في هذين الحديثين مع ما في حديث عليَّ رضي الله عنه أنه لا بأس بذكر الله تعالى وقراءة القرآن في حال الحدث غير الجنابة، وأن قراءة القرآن خاصة مكروهة في حال الجنابة والحيض، فأردنا أن ننظر أي هذه الآثار بأخرة فنجعله ناسخا لما تقدم، فنظرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا قال: ثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أجُنُب أو اهراق الماء إنما نكلمه فلا يكلمنا، ونُسلم عليه فلا يرد علينا حتى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (2) ".
قال أبو جعفر رحمه الله: فأخبر علقمة في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن حكم الجنب
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 89 رقم 419).
(2)
سورة المائدة، آية:[6].
كان عنده قبل نزول هذه الآية ألَّا يتكلم، وألَّا يرد السلام، حتى نسخ الله عز وجل ذلك بهذه الآية، فأوجب بها الطهارة على من أراد الصلاة خاصة، فثبت بذلك أن حديث أبي الجُهيم، وحديث ابن عمر، وابن عباس، والمهاجر منسوخة كلها، وأن الحكم الذي في حديث علي رضي الله عنه متأخر عن الحكم الذي فيها.
ش: أراد بهذين الأثرين: أثر عبد الله بن عمر، وأثر مالك بن عبادة الغافقي.
قوله: "فأردنا
…
" إلى آخره، إشارة إلى وجه التوفيق بين هذه الآثار المذكورة في هذا الباب؛ لأن بعضها يضاد بعضا، وذلك لأن حديث أبي الجهيم بن الحارث، وحديث عبد الله بن عمر: "أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم
…
" إلى آخره، وحديث ابن عباس مثله، وحديث المهاجر بن قنفذ الذي في أول الباب؛ كلها تدل على أن ذكر الله وغيره نحو القراءة لا تكون إلَّا على طهر، وأحاديث غير هؤلاء التي ذكرت هنا تدل على إباحة ذكر الله تعالى على أي حالة كانت، وأن قراءة القرآن تجوز على حال الحدث الأصغر، وتمنع على حال الحدث الأكبر والحيض والنفاس، فلما كان الأمر كذلك؛ وجب المصير إلى التوفيق، ووجهه: أن ننظر أي من هذه الآثار جاء آخرا، وأيها جاء أولا، فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديث علقمة بن الفغواء دل على أن آثار أبي الجهم وابن عمر وابن عباس والمهاجر بن قنفذ كانت متقدمة، وأن الحكم الذي في حديث علي رضي الله عنه متأخر عن الحكم الذي فيها؛ فثبت بها انتساخ أحاديث هؤلاء كما هو الأصل عند تعارض النصوص.
فإن قلت: حديث جابر الجعفي غير ثابت فلا يتم به الاستدلال.
قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن سفيان يقول: كان جابر ورعا في الحديث ما رأيت أورع في الحديث منه، وعن شعبة: وهو صدوق في الحديث، وعن وكيع: ثقة، ولئن سلمنا ذلك فنقول آثار هؤلاء محمولة على الفضيلة والاستحباب، وقد يقال: إنها منسوخة بحديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه".
وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره (1) كما ذكرناه، ثم رجال حديث عبد الله بن علقمة كلهم ثقات.
وأبو كريب اسمه محمَّد بن العلاء، شيخ الجماعة، ومعاوية بن هشام: أبو الحسن القصار الكوفي، روى له الجماعة إلا البخاري، وسفيان هو الثوري، وجابر هو ابن يزيد الجعفي وقد ذكرناه الآن، وعبد الله بن أبي بكر روى له الجماعة، وعبد الله بن علقمة بن الفغواء -بالفاء، والغين المعجمة الساكنة-، ذكره ابن حبان في الثقات، وأبوه علقمة بن الفغواء أخو عمرو بن الفغواء الخزاعي، يقال: له صحبة، سكن المدينة، وأخرج ابن الأثير هذا الحديث في ترجمة علقمة بن الفغواء، وأخرجه أيضًا أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن"، والطبراني في "الكبير"(2).
قوله: "إذا أجنب" أي إذا صار جُنبا، مثل: أغد البعير، إذا صار ذا غدة.
قوله: "أو أهراق" أي أراق، والهاء زائدة.
ويستفاد منه: أن الوضوء كان لا بد منه لرد السلام ونحوه في صدر الإسلام، ولهذا كان رسول الله عليه السلام لا يرد السلام في الجنابة، ولا بعد إراقة الماء قبل الغسل والوضوء، فلما نزلت آية الوضوء نَسَخَتْ هذا الحكم لأنه لم يوجب الطهارة إلا على من أراد الصلاة وهو محدث، فبقي غيرها على أصل الإباحة.
ثم اعلم أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها، ولا خلاف أن الوضوء كان بمكة سنة، معناه أنه كان مفعولا بالسنة، فأما حكمه فلم يكن قط إلَّا فرضا، كذا قاله أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن، وقال: وقد روى ابن إسحاق وغيره: "أن النبي عليه السلام لما فرض الله عليه الصلاة ليلة الإسراء، ونزل جبريل عليه السلام ظهر ذلك اليوم ليصلي به، همز بعقبة فانبجثت ماء، فتوضأ معلما له، وتوضأ هو معه وصلى، وصلى رسول الله عليه السلام" وقال في تفسير قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
"المعجم الكبير"(18/ 6 رقم 3).
عَلَى} (1)، رُوي أن أصحاب رسول الله عليه السلام أصابتهم جراحة ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك فنزلت هذه الآية.
وقالت عائشة رضي الله عنها: "كنت في مسير مع رسول الله عليه السلام حتى إذا كنت بذات الجيش؛ ضلَّ عقد لي
…
" الحديث، قال: فنزلت آية التيمم، وهي مُعضلةٌ ما وجدت لدائها من دواء عند أحد، هما آيتان فيهما ذكر التيمم، إحداهما في النساء، والأخرى في المائدة، فلا نعلم أَيَّةُ آيةٍ عنت عائشة، وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة عند فقد العقد كانت في غزوة المريسيع، قال خليفة بن خياط: في سَنة ست من الهجرة، وقال غيره: سنة خمس؛ وليس بصحيح، وحديثهما يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم، والله أعلم كيف كان حال من عدم الماء ثم جاءت عليه الصلاة؟ فإحدى الآيتين سفرية والأخرى حضرية، ولما كان أمر لا يتعلق به خبأه الله تعالى ولم ينشر بيانه على يد أحد، ولقد عجبت من البخاري بوب في
كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم فقال (2): باب "وإن كنتم مرضى أو على سفر" وأدخل فيه حديث عائشة، وبوب في سورة النساء، باب (3)"فلم تجدوا ماء"، وأدخل حديث عائشة بعينه، وإنما أراد أن يدل على أن الآيتين تحتمل كل واحدة منهما قصة عائشة، وأراد فائدة أشار إليها، أن قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (4) إلى هذا الحد نزل في قصة، على أن ما وراءها قصة أخرى، وحكم آخر يتعلق به شيء، فلما نزلت في وقت آخر قرنت بها، والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أن آية الوضوء التي يذكر التيمم فيها في المائدة هي النازلة في قصة عائشة، وكان الوضوء مفعولا غير متلو فكمل ذكره، وعقب بذكر بدله، واستوفيت النواقص فيه، ثم أعيدت من قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ} هو إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله
(1) سورة المائدة، آية:[6].
(2)
تكررت في "الأصل، ك".
(3)
"صحيح البخاري"(4/ 1673 رقم 89).
(4)
"صحيح البخاري"(4/ 1673 رقم 110).
تعالى: {جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (1) حتى يكمل تلك الآية في سورة النساء، والذي يدل على أن قصة عائشة هي آية المائدة؛ إن المفسرين بالمدينة اتفقوا أن المراد بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (2) يعني من النوم، وكان ذلك في قصة عائشة رضي الله عنها، وقال الصفاقسي كلاما طويلًا ملخصه: أن الوضوء كان لازما لهم، وآية التيمم إما المائدة أو النساء، وهما مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلَاّ بوضوء، فلما نزلت آية التيمم لم يذكر الوضوء لكونه متقدما متلوّا؛ لأن حكم التيمم هو الطارئ على الوضوء.
وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية وهو فرض الوضوء، ثم نزل عند هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية، وهو {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} (2)، أو يحتمل أن يكون الوضوء كان بالسُّنة لا بالقرآن، ثم أُنزلا معا، فعبَّرت بالتيمم إذ كان هو المقصود، وقال القرطبي وغيره أرادَتْ آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء.
ص: وقد دلّ على ذلك أيضًا: ما: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، قال: سمعت سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير قال:"كان ابن عباس وابن عمر يقرآن القرآن، وهما على غير وضوء".
حدثنا سليمان بن شعب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: نا شعبة، عن سلمة بن كهيل .. فذكر بإسناده مثله.
حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، عن حماد بن سلمة.
وحدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس .. مثله.
حدثنا إبراهيم بن محمَّد الصيرفي، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: نا همام، قال: نا قتادة، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن ابن عباس:"أنه كان يقرأ حِزبه وهو محدث".
(1) سورة النساء، آية:[43].
(2)
سورة المائدة، آية:[6].
حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أخبرني الأزرق بن قيس، عن رجل يقال له: أبان، قال:"قلت لابن عمر: إذا هرقت الماء، أأذكر الله؟ قال: أيْ شيء إذا هَرقت الماء؟ قال: إذا بُلْتُ. قال: نعم، أذكر الله".
فهذا ابن عباس وابن عمر قد رويا عن النبي عليه السلام أنه لم يَرُدّ السَّلام في حال الحدث حتى تيمّم، وقد ذكرنا عنهما ذلك فيما تقدّم هنا في هذا الكتاب، وهنا فقد قرءا القرآن في حال الحدث، فلا يجوز ذلك عندنا، إلَّا وقد ثبت النسخ أيضًا عندهما.
ش: أي وقد دّل على النسخ الذي ذكرناه ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، بيانه: أنهما قد رويا فيما مضى أن النبي عليه السلام لم يرد السلام في حال الحدث حتى تيمم، فدل هذا على أن ذكر الله من غير طهر لا ينبغي أن يفعل، ثم إنه قد روي عنهما أنهما قرءا القرآن وهما محدثان فلا يجوز ذلك عنهما إلَاّ بعد ثبوت النسخ عندهما؛ تحسينا بالظن في حقهما، وقد تقرر أن الصحابي إذا فعل أو أفتى بخلاف ما روى؛ دَلَّ ذلك على ثبوت النسخ عنده؛ لأنهم محفوظون عن المخالفة، ثم إنه أخرج ما روي عن ابن عباس وابن عمر معا من طريقين صحيحين:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم هو الفضل بن دكين، عن الحسن بن صالح بن حيّ الكوفي العابد.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا وكيع، قال: نا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير:"أن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم[كانا] (2) يقرءان القرآن بعد ما يخرجان من الحدث قبل أن يتوضئا".
الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة .. إلى آخره.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 99 رقم 1117).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".
وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (1): قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سلمة ابن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وابن عمر "كانا يقرءان أحزابهما من القرآن بعد ما يخرجان من الخلاء قبل أن يتوضئا".
وأخرج ما روي عن ابن عباس وحده من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني.
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل.
الثالث: عن إبراهيم بن محمَّد الصيرفي البصريّ، وثقه ابن حبان، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وغيره، عن همام بن يحيى
…
آخره.
قوله: "حزبه" الحزب: ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرْد، والحزبْ: النوبة في ورود الماء.
وأخرج ما روي عن ابن عمر وحده، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، روى له البخاري وأبو داود والنسائي، عن أبان شيخ بصري تابعي ذكره ابن حبان في التابعين الثقات.
قوله: "هرقت" أصله أرقت، والهاء تبدل من الهمزة.
قوله: "أأذكر" بهمزتين أولاهما استفهامية.
ص: وقد تابعهما على ما ذهبا إليه من هذا قوم.
حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن حماد الكوفي، عن إبراهيم:"أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يُقْرِئْ رجلًا، فلما انتهى إلى شاطئ الفرات كفَّ عنه الرجلُ، فقال له: مالك؟ قال: أحدثت. قال: اقرأ فجعل يقرأ، وجعل يفتح عليه".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 98 رقم 1102).
حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عاصم الأحول، عن عروة، عن سلمان:"أنه أحدث، فجعل يقرأ، فقيل له: أتقرأ وقد أحدثت؟ قال: نعم إني لست بجُنب".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا عبد الرحمن بن زياد، قال: نا شعبة، قال:"سألت قتادة عن الرجل يقرأ القرآن وهو غير طاهر. فقال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: كان أبو هريرة ربما قرأ السورة وهو غير طاهر".
حدثنا مرزوق، قال: نا وهب، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد، عن أبي هريرة
…
مثله.
حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا همام، عن قتادة .. فذكر بإسناده مثله.
فقد ثبت بتصحيح ما روينا نَسْخُ حديث ابن عباس ومن تابعه، وثبوت حديث عليّ رضي الله عنه على ما قد شدَّه من أقوال الصحابة، فبذلك نأخذ، فَنَكْرَهُ للجنب والحائض قراءة الآية تامة، ولا نرى بذلك بأسا للذي على غير وضوء، ولا نرى لهم جميعًا بأسا بذكر الله عز وجل.
ش: أي وقد تابع ابن عباس وابن عمر على ما ذهبا إليه من إباحة ذكر الله من غير طهر قوم من الصحابة، وهم: عبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة.
وأخرج أثر ابن مسعود بإسناد صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان الكوفي، عن إبراهيم النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) مختصرا، عن وكيع، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله:"أنه كان معه رجل، فبال ثم جاء، فقال له ابن مسعود: اقرأه".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 99 رقم 1116).
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن عطاء الخراساني، قال:"كان ابن مسعود يفتح على الرجل وهو يقرأ، ثم قام فبال فأمسك الرجل عن القراءة، فقال له ابن مسعود: ما لك؟! اقرأ، وكان يفتح عليه فقرأ".
قوله: "إلى شاطئ الفرات" أي إلى جنبه. قال الجوهري: شاطئ الوادي وشطّه: جانبه، والفرات نهر مشهور أوله من شمالي أرمينية الروم آخر بلاد الروم، وآخره يصبّ في بطائح كبار في فضاء العراق بعد الكوفة.
قوله: "فجعل" معناه: شرع، وتستعمل استعمال "كاد"، تقول: جعل زيد يفعل كذا، وكذلك "أخذ"، وقد يجيئ جملة إسمية، وفعلا ماضيا، وهما نادران.
قوله: "يفتح عليه" يعني يرد عليه إذا توقف في القراءة، ويلقنه، ويأخذ منه.
وأخرج أثر سلمان أيضًا من طريق صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج ابن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن عروة بن الزبير بن العوام.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): من وجه آخر، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية، عن علقمة والأسود:"أن سلمان قرأ عليهما بعد الحدث".
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن ابن عيينة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت علقمة بن قيس يقول: "دخلنا على سلمان، فقرأ علينا آيات من القرآن على غير وضوء".
وأخرج أثر أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن. سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة
…
إلى آخره.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 339 رقم 1319).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 98 رقم 1101).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 340 رقم 1324).
وأخرجه عبد الرازق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن قتادة، عن ابن المسيب قال:"ربما سمعت أبا هريرة يقرأ ويحدر السورة وإنه لغير متوضئ".
قوله: "وهو غير طاهر" أي غير متوضئ، وتشهد لذلك رواية عبد الرزاق.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير .. إلى آخره.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن ابن نمير، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أن أبا هريرة كان يخرج من المخرج ثم يحدر السورة".
الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن همام بن يحيى، عن قتادة.
قوله: "نسخ حديث ابن عباس" وهو الحديث الذي مر ذكره في أوائل الباب، الذي تمسك به أهل المقالة الثانية.
وأراد بمن تابعه: ابن عمر، والمهاجر بن قنفذ، وأبا الجهم بن الحارث.
وأراد بحديث علي رضي الله عنه قوله: "كان رسول الله عليه السلام يقرأ القرآن على كل حال إلا الجنابة".
قوله: "على ما قد شده" أي حديث علي "من أقوال الصحابة" وكلمة "من" زائدة، وهي تراد في الإثبات والنفي جميعًا؛ فافهم.
قوله: "فبذلك نأخذ" أي بحديث علي نأخذ، وهو إباحة الذكر والقراءة للمحدث بالحدث الأصغر.
قوله: "فنكره" أي إذا كان الأمر كذلك؛ نكره للجنب والحائض "قراءة الآية تامة"، أي حال كونها تامة، والمراد كراهة التحريم، وفهم منه أن لهما قراءة ما دون الآية، وعامة المشايخ على أنه تستوي في الكراهة الآية التامة وما دونها، وعلّله صاحب "البدائع" بإطلاق الحديث، وبأن المانع تعظيم القرآن، ومحافظة حرمته، وهذا لا يوجب الفصل بين القليل والكثير.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 338 رقم 1317).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 98 رقم 1103).
قلت: نظر الطحاوي في أن المتعلق بالقرآن حكمان: جواز الصلاة، ومنع الجنب والحائض عن قراءته، ثم في حق أحد الحكمين تفصيل بين الآية وما دونها، فكذلك في الحكم الآخر.
وفي "المبسوط": قول أبي سماعة مثل قول الطحاوي، وفي "الجامع" لنجم الدين الزاهدي: وأطلق الطحاوي ما دون الآية للحائض والنفساء والجنب، وهو رواية أبي سماعة عن أبي حنيفة، وعليه الأكثرون، وفي "التجنيس": ويستوي في القراءة الآية وما دونها، وهو الصحيح يعني في الحرمة، وقال أيضًا: إذا حاضت المعلّمة فينبغي لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة، وتقطع بين الكلمتين، على قول الكرخي، وعلى قول الطحاوي: تُعلم نصف آية، ثم تقطع، ثم تعلم نصف آية، ولا يكره لها التهجي بالقرآن، وكذا لا يكره دعاء القنوت، كذا في "المحيط".
وذكر الحلواني، عن أبي حنيفة: لا بأس للجنب أن يقرأ الفاتحة على وجه الدعاء. قال الهندواني: لا أفتي بهذا، وإن روي عنه.
وفي "العيون": لا بأس للجنب أن يقرأ الفاتحة على وجه الدعاء، أو شيئًا من الآيات التي فيها معنى الدعاء.
قوله: "ولا يرى لهم" أي للجنب، والحائض، والذي على غير وضوء.
ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منع الجنب أيضًا من قراءة القرآن ما يوافق ما قلنا.
حدثنا إبراهيم بن محمَّد الصيرفي، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: نا زائدة، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبيدة قال:"كان عمر رضي الله عنه يكره أن يقرأ القرآن وهو جُنب".
حدثنا فهد، قال: نا عمر بن حفص، قال: نا أبي، قال: ثنا الأعمش
…
فذكر بإسناده مثله.
فهذا عندنا أولى من قول ابن عباس؛ لما قد وافقه مما رويناه عن رسول الله عليه السلام في حديث علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي موسى مالك بن عبادة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: "روي" مستند إلى قوله: "ما يُوافقُ"، وقوله:"ما قلنا" مفعول قوله يُوافقُ.
وإسناد أثر عمر صحيح من الطريقين على شرط الشيخين، وزائدة هو ابن قدامة، والأعمش هو سليمان، وشقيق -بن سلمة، وعَبِيدة -بفتح العين، وكسر الباء-: ابن عمرو السَّلْماني بسكون اللام.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عَبِيدة السَلْماني قال:"كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جُنُب".
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن حفص وأبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عَبيدة، عن عمر رضي الله عنه قال:"لا يقرأ الجنب القرآن".
وأخرج الدارمي في "سننه"(3): أنا أبو الوليد، نا شعبة، أنا الحكم، عن إبراهيم قال:"كان عمر رضي الله عنه يكره أو ينهى أن يقرأ الجنب"، قال شعبة: وجدت في الكتاب: "والحائض".
قوله: "وأبي موسى" هو كنية مالك بن عبادة الغافقي، ولهذا قال:"مالك بن عبادة" بعده بطريق عطف البيان.
ص: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا ما يدل على خلاف ما رواه نافع في حديث محمَّد بن ثابت الذي ذكرناه فيما تقدم في كتابنا هذا.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 337 رقم 1307).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 97 رقم 1080).
(3)
سنن الدارمي (1/ 252 رقم 992).
حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فطعم، فقيل له: ألا توضأ؟ فقال: "إني لا أريد أن أصلي فأتوضأ".
حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عاصم، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني سعيد بن الحويرث .. فذكر مثله بإسناده.
حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: نا رَوْح بن القاسم، عن عمرو بن دينار .. فذكره بإسناده مثله.
حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: نا خالد بن عبد الرحمن، قال: نا حماد بن سلمة، عن عمرو
…
مثله بإسناده.
أفلا ترى أن رسول الله لما قيل له: "ألا توضأ؟ " قال: "أَأُريد الصلاة فأتوضا؟! ".
فأخبر أن الوضوء إنما يُراد للصلاة لا للذكر، فهذا معارض لما رويناه عن ابن عباس في أول هذا الباب، وهذا أولى؛ لأن ابن عباس عمل به بعد رسول الله عليه السلام فدلّ عملهُ به على أنه هو الناسخ.
ش: أشار بهذا إلى أن ما روي عن ابن عباس من حديث محمَّد بن ثابت العبدي عن نافع، عنه، الذي مضى ذكره في صدر هذا الباب قد نسخ بما رواه عن سعيد بن الحويرث مخالفا له في حُكمه؛ لأن في حديث محمَّد بن ثابت ذكر أنه عليه السلام لم يَرُدّ السلام على ذاك الرجل، وقال:"إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلَاّ أني كنت لست بطاهر"، وفي حديث سعيد بن الحويرث لما قيل له:"ألا توضأ؟ " قال: "أَأُريد الصلاة". وبينهما تعارض ظاهر، ولكن حديث محمَّد بن ثابت منسوخ، والدليل عليه أن ابن عباس عمل بحديث سعيد بن الحويرث بعد النبي عليه السلام، وهذا دليل علي أن النسخ ثبت عنده؛ لأن الراوي إذا روى حديثين متعارضين ثم عمل بأحدهما أو أفتى به، يدل على ثبوت نسخ
الآخر عنده، ثم إنه أخرج حديث ابن عباس هذا من أربع طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار
…
إلى آخره.
وهذا على شرط مسلم؛ لأن رجاله كلهم رجاله.
وأخرجه مسلم (1): أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة .. إلى آخره نحوه. غير أن في لفظه:"فجاء من الغائط فأُتي بطعام"، والباقي مثله سواء.
وأخرجه الدارمي أيضًا في "سننه"(2): عن أبي نعيم، عن سفيان بن عيينة .. إلى آخره نحو رواية مسلم.
قوله: "فطعم" أي أكل، يقال: طَعِمَ يَطْعَمُ طُعْما فهو طَاعِمٌ: إذا أكل أو ذاق، مثل: غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْما فهو غَانِمٌ، قال الله تعالى،:{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (3)، وقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (4) أي من لم يذقه.
قوله: "ألا توضأ" أصله تتوضأ، فحذفت إحدى التائين للتخفيف.
قوله: "فأتوضأ" بالنصب عطفا على قوله: "أن أصلي"، والمعنى لا أريد الصلاة حتى أتوضأ.
الثاني: عن أبي بكرة بكَّار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج .. إلى آخره.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 283 رقم 374).
(2)
"سنن الدارمي"(1/ 216 رقم 767).
(3)
سورة الأحزاب، آية:[53].
(4)
سورة البقرة، آية:[249].
وأخرجه مسلم (1): حدثني محمَّد بن عمرو بن عباد بن جبلة، قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: نا سعيد بن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول:"إن النبي عليه السلام فقضى حاجته من الخلاء، فُقرّب إليه طعام فأكل؛ ولم يمسّ ماء" فقال: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث:"أن النبي عليه السلام قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ" وزعم عمرو أنه سمعه من سعيد بن الحويرث.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود، عن محمَّد بن المنهال .. إلى آخره.
وأخرجه الكِسِّي في "مسنده"(2): أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة.
وعن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام خرج من الغائط، ثم أراد أن يَطْعَم، فقيل: ألا توضأ؟ فقال إنما أمرتم بالوضوء للصلاة".
الرابع: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(3): نا حماد بن سلمة وحماد بن زيد، عن عمر وبن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس، قال:"خرج رسول الله عليه السلام من الخلاء، فقالوا: نأتيك بوضوء؟ فقال: أأصلي فأتوضا؟! ".
وأخرجه الطبراني بإسناده (4): عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"خرج النبي عليه السلام من الغائط، ثم قعد فَطَعِمَ، فقالوا: يا رسول الله، ألا تتوضأ؟ قال: إنما أمرت بالوضوء للصلاة، فأما للطعام فلا".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 283 رقم 374).
(2)
الكسّي هو عبد بن حميد بن نصر أبو محمَّد الكسّي، والحديث في مسنده (1/ 230 رقم 690).
(3)
"مسند الطيالسي"(1/ 361 رقم 765).
(4)
"المعجم الكبير"(12/ 82 رقم 12547).
وأخرجه أيضًا (1): من حديث ابن أبي مليكة، عن ابن عباس نحوه.
ص: فإن عارض في ذلك معارض بما حدثنا فهد، قال: نا أحمد بن يونس، قال: أنا زهير، قال: نا جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت:"ما أتى رسولُ الله عليه السلام الخلاءَ إلا توضأ حين يخرج وضوءه للصلاة".
قالوا: فهذا يدلّ على فساد ما رويتموه عن عائشة: "أن رسول الله عليه السلام كان يذكر الله على كل أحيانه".
قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون كان يتوضأ إذا خرج من الخلاء، ولا يتوضأ إذا بال، فيكون ذلك الحين حين حدث قد كان يذكر الله فيه، فيكون معنى قولها:"كان يذكر الله في كل أحيانه" أي في حين طهارته وحدثه، حتى لا تتضاد الآثار، مع أنه قد خالف ذلك حديث ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام لما قال:"أأرُيد الصلاة فأتوضأ"، فَدلّ ذلك على أنه لم يكن يتوضأ إلَّا وهو يريد الصلاة، فقد يحتمل أن يكون ما حضرت منه عائشة من الوضوء عند خروجه إنما هو لإرادته الصلاة لا للخروج من الخلاء، ويحتمل أيضًا أن يكون ذلك إخبارا منها عما كان يفعل قبل نزول الآية، وما في حديث خالد بن سلمة إخبارا منهما ما كان يفعل بعد نزول الآية، حتى يتفق ما روي عنها وما روي عن غيرها، ولا يتضاد من ذلك شيئًا.
ش: بيان المعارضة: أن حديث الأسود، عن عائشة يدلّ على أن الذكر وقراءة القرآن لا بد لهما من الطهر، وأنه أيضًا يدل على فساد ما روي عنها:"أن رسول الله عليه السلام كان يذكر الله على كل أحيانه" وذلك للتعارض بينهما ظاهرا، والعمل بحديث الأسود أولى، حملا لحال الرسول عليه السلام على أكمل الأحوال، والجواب عنها ظاهر.
(1)"المعجم الكبير"(11/ 122 رقم 11241).
قوله: "مع أنه قد خالف ذلك" أي مع أن الشأن: قد خالف حديث الأسود حديث ابن عباس.
قوله: "قبل نزول الاية" أي آية الوضوء، وأراد بحديث خالد بن سلمة هو الحديث الذي رواه عن عروة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يذكر الله على كل أحيانه" ورجال حديث الأسود عن عائشة ثقات إلَاّ أن في جابر بن يزيد الجعفي مقالا وأحمد بن يونس: الضبي، قال الدارقطني: صدوق ثقة. وزهير: ابن معاوية، والأسود: ابن يزيد بن قيس.