المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الاستنجاء بالعظام - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٢

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الاستنجاء بالعظام

‌ص: باب: الاستنجاء بالعظام

ش: أي هذا باب في بيان أحكام الاستنجاء بالعظام، وفي بعض النسخ: باب الاستجمار بالعظام، وكلاهما بمعنى واحد.

وفي "المطالع": الاستنجاء إزالة النجو، وهو الأذى الباقي في فم المخرج، وأكثر ما يُستعمل في الماء، وقد يستعمل في الأحجار. وأصله من النجو، وهو القَشْر والإزالة، وقيل: من النجوة، وهو: ما ارتفع من الأرض لاستتارهم به، وقيل: لارتفاعهم وتجانبهم عن الأرض عند ذلك، وقال الأزهري عن شمر: الاستنجاء بالحجارة بالحجارة مأخوذ من نجوت الشجرة وأنجيِتها، واستنجيتها، إذا قطعتها؛ كأنه يقطع الأذى عنه بالماء أو بحجر يتمسح به، قال: ويقال استنجيت العقب إذا أخلصته من اللحم ونقيته منه، وأنشد ابن الأعرابي:

فتبازَتْ فَتَبازَخْتُ لها

جِلْسةَ الأَعْسر يَسْتَنجي الوتَرْ

قلت: ذكر الجوهري هذا الشعر ونسَبه إلى عبد الرحمن بن حسّان (1)، والظاهر أنه لغيره، حكي في "العباب": قال أبو عمر الزاهد: كان شاعرا يلزم باب معاوية رضي الله عنه وهو خليفة، فأبطأت عليه الجائزة، وكانت له جارية يقال لها: صولة يعني لهذا الشاعر، قال: فدفع إليها الشاعر يومًا رقعة، فقال: توصِلِينَها إليه. قال: فجاءت فدفعت إليه، فأخذها فقرأها، وهي قائمة، ثم قال لها معاوية: إن كان مثله إلا كاذبًا، فقالت: حاشاه مثله لا يكذبُ، فقال لها معاوية: إن كان مثله لا يكذب، فقد هتك الله سترك، قالت: وأيّ شيءٌ فيها، فأنشدها:

سَائلُوا صولَة هَل نَبَّهْتُها

بَعْد ما نامَتْ بعَرْد ذي عُجَر

(1) وكذا هو في "اللسان": مادة (بَزَخ)، (نجا).

ص: 513

فتبازَتْ فتبازختُ لها

جلسْةَ الأعَسْر يَسْتنجِي الوتر (1)

وقال الجوهري: استنجى مسح موضع النجو أو غسله، واستنجى الوتر: أي مَدّ القوس، وقال الشاعر

، ثم أنشد هذا البيت، ثم قال: وأصله الذي يتخذ الأوتار للقيسيّ؛ لأنه يخرج ما في المصارين من النَجْو، وهو ما يخرج من البطن.

قلت: العَرْدُ، بفتح العن وسكون الراء المهملتين، الذكر إذا انتشر وانتصب، والعُجَر -بضم العن المهملة وفتح الجيم-: جمع عجُرة، وهي العُقدة في الخشب، وأراد به ها هنا الذكر الذي له طيات كالعقد.

قوله: "فتبازت" أي رفعت مؤخرتها لإتيان الرجل إليها، وأصله من البَزي، بالزاي المعجمة، وهو أن يستأخر العجز ويستقدم الصدر.

قوله: "فتبازخت" أي تطامنت، وأصله من البزخ بالمعجمتين، وهو خروج الصدر ودخول الظهر، ومنه رجل أبزخ.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن سَنّة الخزاعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن يَستطيب أحدٌ بعظم أو رَوث".

ش: يونس هو ابن عبد الأعلى، وابن وهب هو [عبد الله]، (2)، وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأبو عثمان بن سَنّة الخزاعي لا يدرى اسمه، وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عنه، وقال: سئل أبو زرعة عن اسمه، فقال: لا أعرفه.

(1) البيتان في "اللسان" أيضًا (بزا) لعبد الرحمن، مع بعض اختلاف في الرواية البيت الأول، وسمي الجارية مية.

(2)

في "الأصل، ك": ابن عبد الله، وكلمة "ابن" زائدة، ولعله سبق قلم من المؤلف، وعبد الله هو ابن وهب الفهري عالم مصر.

ص: 514

وأخرجه النسائي (1): أنا أحمد بن عمرو بن السَرْحِ، قال: أنا ابن وهب

إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه:"أحدكم".

ص: حدثنا فهد، قال: أنا جندل بن والق، قال: نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سَلمان رضي الله عنه قال:"نُهينا أن نستنجي بعظم أو رجيع".

ش: هذا الإسناد بعينه، بهؤلاء الرواة، قد مر في الباب الذي قبله. ولكن أخرج هناك عن سلمان:"نهينا أن نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار" وأصل الحديث واحد؛ وإنّما قَطَّعه للتبويب.

وقد أخرجه مسلم (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4) بتمامه، وقد ذكرنا بعضه هنالك.

ص: حدثنا يونس، قال: أخبرني ابنُ وهب، قال: أخبرني عَمرو بن الحارث، عن موسى بن أبي إسحاق الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب رسول الله عليه السلام، عن النبي عليه السلام "أنه نهى أن يَسْتطيب أحد بعظم أو روثة أو جلد".

ش: موسى بن أبي إسحاق وثقه بن حبان، وليس له رواية عند الجماعة (5).

وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول، قاله الدارقطني، وأخرج الحديث في "سننه" (6): حدثني جعفر بن محمَّد بن نصير، نا الحسن بن علي، ثنا أبو طاهر وعمرو بن سَوَّاد، قالا: ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن موسى بن

(1)"المجتبى"(1/ 37 رقم 39).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 224 رقم 262).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 37 رقم 7).

(4)

"المجتبى"(1/ 37 رقم 41).

(5)

ترجمه الذهبي في "الميزان" والحافظ في "اللسان" ونقلا عن ابن القطان أنه قال: مجهول الحال.

(6)

"سنن الدارقطني"(1/ 56 رقم 8).

ص: 515

أبي إسحاق الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب رسول الله عليه السلام أخبره، عن رسول الله عليه السلام أنه نهى أن يستطيب أحدٌ بعظم أو روث أو جلد"، وهذا إسناد غير ثابت.

ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: أنا يحيي بن حسان، قال: نا سفيان بن عُيَينة، عن محمَّد بن عجلان، ح.

وحدثنا أبو بكرة، قال: نا صفوان، قال: أنا ابن عجلان، ح.

وحدثنا على بن عبد الرحمن، قال: نا عثمان، قال: أنا وُهَيب بن خالد، قال: أنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام "نهى أن يستنجى بالروثة أو رمّة، والرّمة العظم".

ش: هذه ثلاث طرق، قد مر منها الطريق الثاني، والثالث بعَينهما في الباب السابق فالكل حديثٌ واحد، وإنما قطعّة للتبويب، وقد ذكرنا هناك أن النسائي (1) أخرجه، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان إلى آخره.

وأخرجه ابن ماجه أيضًا.

وأما الطريق الأول، فعَن حُسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن حسان التنِّيسي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح ذكوان الزيات إلى آخره.

وأخرجه الحديث في "مسنده"، نا سفيان، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إنما أنا لكم مثل الوالد للولد أعلمكم؛ فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول، وأمر أن نستنجي بثلاثة أحجار، ونهى أن يستنجي الرجل بيمينه، ونهى عن الروث، والرمّة"، قال سفيان: الرمّة العظام.

(1) سبق تخريجه قريبًا.

ص: 516

ص: حدثنا محمَّد بن حُميد بن هشام الرُعَيني، قال: نا أصبغ بن الفرج، قال: نا ابنَ وَهب، قال: أخبرني حَيْوَةُ بن شُرَيح، عن عَيَّاش بن عباس، أن شُيَيْم بن بَيْتانَ أخبره، أنه سمع رُوَيفِعَ بن ثابت الأنصاريَ، أن رسول الله عليه السلام، قال له:"يا رويفع بن ثابت لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناسَ أنه من استنجى برجيع دابّة أو عظم، فإن محمدًا منه بريء".

ش: إسناده حسن جَيّد، ورجاله ثقات، وحيوة بن شريح التُجِيبي، أبو زرعة المصري الفقيه الزاهد العابد.

وعّياش بتشديد الياء آخر الحروف، والشين المعجمة ابن عباس، بتشديد الباء الموحدة والسين المهملة، القِتْباَني.

وشِيَيْم بكسر الشين المعجمة، ويقال: بضمها، وبفتح الياء آخر الحروف، وياء أخرى مثلها ساكنة، ابن بَيْتان بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح التاء المثناة من فوق القِتْباني المصري.

ورويفع بن ثابت بن سكن الأنصاري.

وأخرجه النسائى في كتاب "الزينة"(1): أنا محمَّد بن سلمة، نا ابن وهب، عن حيوة بن شريح -وذكر آخر قبله- عن عياش بن عباس القِتْباني، أن شييم بن بيتان حدثه أنه سمع رويفع بن ثابت يقول: إن رسول الله عليه السلام قال: "يا رويفع، لعل الحياة تطول بك بعدي؛ فأخْبِر الناس أنه مَن عَقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أوعظَم، فإن محمدًا بريء منه".

وأخرجه أبو داود (2): نا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمْدانيِ، قال: ثنا المفضل -يعني بن فضالة المصري- عن عياش بن عباس القِتْبانيِ أن شييم بن بَيْتان أخبره، عن شيبان القِتْبَاني، "أن مسلمة بن مُخَلَّد استعمل رُويفع بن ثابت على أسفل

(1) من "المجتبى"(8/ 135 رقم 5067).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 9 رقم 36).

ص: 517

الأرض، قال شيبان: فسرنا معه من كوم شريك إلى عَلقما -أو من علقما إلى كوم شريك- يُريد علقام، فقال رويفع: إن كان أحدنا في زمن رسول الله عليه السلام ليأخذ نِضْوَ أخيه، على أن له النصف مما يغنم و [لنا]، (1) النصف وإن كان أحدنا ليَطيرُ له النَّصْلُ والرِّيش، وللآخر القِدْح. ثم قال لي رسول الله عليه السلام: يا رويفع، لعل الحياة

" إلى آخره، مثل ما ذكره النسائي.

قوله: "برجيع دابه": قد ذكرنا أنه العذِرة.

قوله: "أو عظم": عطف عليه، والتقدير: أو بعظم.

قوله: "فإن محمدًا": جواب قَوله: مَنْ، ودخلت فيه الفاء لتضمن "مَنْ" معنى الشرط.

فانظر إلى هذه التأكيدات: الجملة الاسمية التي تدلّ على الثبات والاستمرار، ودخول "إن" التي للتأكيد، وتقديم الشأن على الخبر.

فإن قلت: ما الحكمة في هذا الوعيد الشديد؟

قلت: الذي ظهر لي من الأسرار الربانية أن النبي عليه السلام وعد الِجنّ ليلَة لُقِيِّهِم إياه في بعض شعاب مكة، حين سألوه الزاد أن يكون العظم زادًا لهم، والروث علفًا لدوابهم، وقبلوا ذلك من النبي عليه السلام، ثم إن أحدًا إذا استنجى بعظم أو روث، يتأذى منه الجن؛ فلذلك أكَّد الوعيد فيه حتى يجانبوا ذلك ولا يفعلوه (2).

ولنتكلم في لغات رواية أبي داود تكثيرًا للفائدة.

فقوله: "على أسفل الأرض" أراد به الوجه البحري من مصر.

قوله: "من كوم شريك" هي بلد في طريق إسكندرّية، وشريك هذا هو ابن سُمّي المرادي الغُطَيْفي، وفد على رسول الله عليه السلام، وشهد فتح مصر.

(1) في "الأصل، ك": له، والمثبت من "سنن أبي داود".

(2)

انظر حول هذا المعنى: "سنن أبي داود"، عقب حديث ابن مسعود المذكور بعد حديث رويفع بحديثين، رقم (39).

ص: 518

قوله: "إلى علقما" بفتح العين المهملة، وسكون اللام، وفتح القاف، والميم المقصورة، وهي بلدة في طريق إسكندرية، وهي خراب اليوم، وعلقام مثله، إلا أنه بالألف قبل الميم، وهي أيضًا بلدة وهي خراب.

قوله: "إن كان أحدنا" أصله إنه كان، وتُسمّى هذه "إنْ" المخففة من المثقلة؛ فتدخل على الجملتين، والأكثر كون الفعل ماضيًا (1) ناسخًا نحو:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} (2) وأمثال ذلك كثيرة في القرآن.

قوله: "ليأخذ نِضْو أخيه" النِضو بكسر النون، وسكون الضاد المعجمة البعير المهزول، يقال: بعير نضو، وناقة نضو، ونضوة.

وقال ابن الأثير: النضر الدابة التي أهزلتها الأسفار، وأنهبت لحمها.

وفي هذا حجة لمن أجاز أن يعطي الرجل فرسَه أو بعيره على شطر ما يُصيبه المستأجر من الغنيمة، وهو قول أحمد والأوزاعي، ولم يجوّز ذلك أكثر العلماء، وأوجبوا في مثل هذا أجرة المثل.

قوله: "إن كان أحدنا" أي: وإنه كان.

"ليطير له" أي يصيبه في القسمة، يقال: طار لفلان النصف ولفلان الثلث؛ إذا وقع في القسمة ذلك.

و"النصل": نصل السهم والسيف والسكين والرمح، والجمع نُصول ونِصال.

و"الريش": للطائر جمع ريشة (3).

و"القِدْح": بكسر القاف وسكون الدال، خشبة السهم، ويقال للسهم أَوّلَ ما يقطع: قِطع بكسر القاف، ثم يُنْحت، ويُبْهرى، فيُسَمّي بَريًّا، ثم يُقَّوَّم

(1) قوله: كون الفعل ماضيًا: كذا، ومراده: كون الفعل بعدها.

(2)

سورة البقرة: آية [143].

(3)

وزاد في "الصحاح": وراش السهم ألزق عليه الريش، فهو مريش.

ص: 519

فيسمّى قِدحًا، ثم يُرَاش ويركب نصله فيسمى سهمًا (1).

قوله: "من عقد لحيته": قيل: كانوا يفعلونه في الحرب، وهو من زيّ الأعاجم. وقيل: معالجة الشعر لينعقد ويتجعّد، وذلك من قبل التوضيع والتأنيث، فلأجل ذلك نهاه عليه السلام.

قوله: "أو تقلد وترًا" قيل: هي التمائم التي يشدونها بالأوتار، وكانوا يرَوْنها تعْصِمهم من الآفات وتدفع عنهم المكاره، فأبطل النبي عليه السلام ذلك، وقيل: هي الأجراس التي يُعلّقونها بها. والله أعلم.

ص: فذهب قوم إلى أنه لا يجوز الاستنجاء بالعظام، وجعلوا المستنجى بها في حكم من لم يَسْتنج، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، والظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا يجوز الاستنجاء بالعظام، واحتجوا في ذلك بهذه الأحاديث المذكورة.

وقال ابن قدامة في "المغني"(2): والخشب والخِرق وكل ما أُنْقِيَ به كالأحجار إلا الروث والعظام، والطعام مقتاتا أو غيرُه مقتات، ولا يجوز الإستنجاء به، ولا بالروث، والعظام، طاهرا كان أو غير طاهر. وبه قال الثوري، والشافعي، وإسحاق.

وأباح أبو حنيفة الاستنجاء بالروث والعظام؛ لأنه يجفف النجاسة ويُنقيها، وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منهما (3).

(1) راجع: "النهاية في غريب الحديث"(4/ 20).

(2)

"المغني"(1/ 103).

(3)

المصنف رحمه الله أدخل كلام الخرقي في كلام ابن قدامة، وتصرف -كعادته في نقله- كثيرًا في العبارة، وقدم وأخّر، واختصر، ولذا لم نقابل نصوصه التي وقفنا عليها بأصولها، إلا حيث احتجنا إلى التصحيح.

ص: 520

وقال ابن حزم في "المحلى": وممن قال: لا يجزئ بالعظام، ولا باليمين. الشافعي، وأبو سليمان، وغيرهما.

وفي "البدائع": فإن فعل ذلك، يعني الاستنجاء بالعظم أو الروث، يُعتدّ به عندنا، فيكون مقيما سنةً، ومرتكبًا كراهية. وعند الشافعي: لا يُعْتدُّ به حتى لا تجوزُ صلاته إذا لم يستنج بعد ذلك بالأحجار.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: لم ينه عن الاستنجاء بالعظم؛ لأن الاستنجاء به ليس كالاستنجاء بالحجر وغيره، ولكنه نُهِيَ عن ذلك لأنه جُعِلَ زادًا للجن، فأمر بني آدم أن لا يُقذّروه عليهم.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم: أبا حنيفة وأصحابه، ومالكًا، وابن جرير الطبري.

قال القاضي: واختلفت الرواية عن مالك في كراهية هذا، يعني الاستنجاء بالعظم، والمشهور عنه النهي عن الاستنجاء به، على ما جاء في الحديث، وعنه أيضًا: إجازة ذلك، وقال: ما سمعت في ذلك بنهي عام.

وذهب بعض البغداديين إلى جواز ذلك إذا وقع بما كان، وهو قول أبي حنيفة، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز، وإليه نحا ابن القصَّار، وهو قول الشافعي. وقال بعضهم: لا يجوز بما كان نجس العين، إليه نحا القاضي ابن نصر، وذكر في فروع الحنفيّة: قال أبو حنيفة: يجوز الاستنجاء بالمدر، والتراب، والعود، والخزف، والقطن، والجلد، وبكل طاهر غير منقوم. وكره بعض العلماء الاستنجاء بعشرة أشياء: العظم، والرجيع، والروث، والطعام، والفحم، والزجاج، والورق، والخزف، وورق الشجر، والسَّعْتر، ولو استنجى بها أجزأه مع الكراهة؛ لما رُوي:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له عظم يستنجى به، ثم يتوضأ ويصلي." وقال عياض: وقد شذّ بعض الفقهاء، ولم ير الاستنجاء بالماء العذب، بِناءً على أنه طعام عنده، والاستنجاء بالطعام ممنوع.

ص: 521

وفي بعض شروح البخاري: وشذَّ ابن جرير الطبري فأجاز الاستنجاء بكل طاهر ونجس (1).

ويكره بالذهب والفضة عند أبي حنيفة، وعن الشافعي في قول: لا يكره.

قوله: "أن لا يقذوره" أي لا يلوثوه بالقذر وهو النجاسة.

ص: وقد بين ذلك وكشفه ما حدثنا حسين بن نصر، قال: نا يوسف بن عدي، قال: نا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله، قال رسول الله عليه السلام:"لا تستنجوا بعظم ولا روث، فإنه زاد إخوانكم من الجن".

ش: أي وقد أظهر ما قلنا من أنه نهى عن ذلك لأنه جُعِل زادًا للجن، ما حدثنا.

وقوله: "ما حدثنا" في محل الرفع على أنه فاعل "بيّن"، وإسنادُ هذا الحديث صحيح على شرط مسلم، والشعبي هو عامر بن شراحيل.

وأخرجه الترمذي (2): نا هناد، نا حفص بن غياث

إلى آخره نحوه ولفظه: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام

".

ويستفاد منه: أن النهي عن ذلك إنما هو لكونه زادًا للجن لا لأنه لا يطهر؛ لأنه علله بقوله: "فإنه زاد إخوانكم من الجن"؛ فحينئذ إذا استنجى به جاز بالنظر إلى كونه مطهرًا صورة، ولكنه يأثم لارتكاب النهي.

ويستفاد أيضًا: وجود الجن، خلافًا لمن أنكر ذلك، وأن من الجن مسلمين؛ بدليل قوله: إخوانكم؛ لأن إخواننا لا يكونون (3) إلا مسلمين.

فإن قيل: ما حقيقة الجن؟

(1) وانظر "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 71).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 29 رقم 18).

(3)

في "الأصل، ك": لا يكونوا، وهو خلاف الجادّة.

ص: 522

قلت: قال الجاحظ: الجن، والملائكة واحد؛ فمن طهر منهم فهو ملك، ومن خبث منهم فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن.

وقال الشريف السمرقندي: قال المِلِّيون (1): الروحانيات السماوية والأرضية أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة، وسَمُّوا السماوية بالملائكة، والأرضية بالجن إن كانت غير شريرة، وبالشياطين إن كانت شريرة، وأنكرت الفلاسفة وأوائل المعتزلة كونها كذلك؛ أرادوا أنها ليست بأجسام، ولهم مناقشات كثيرة، وقال الرازي: قالت الفلاسفة: إنها جواهر قائمة بنفسها ليست بمتحيزة البتة، فمنهم من هي مستغرقة في معرفة الله فهم الملائكة المقربون، ومنهم مدبرات هذا العالم إن كانت خيّرات فهم الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهم الشياطين.

ص: حدثنا عليّ بن مَعْبد، قال: نا عبد الوهاب بن عطاء، عن داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"سألت الجنُّ رسول الله عليه السلام في آخر ليلة لُقِيِّهم في بعض شعاب مكّة الزاد، فقال: كل عظم يقعُ في أيديكم قد ذكر اسم الله عليه تجدونه أَوْفَر ما يكون لحمًا، والبعرُ علفًا لدوابكم، فقالوا: إن بني آدم ينجسونه علينا فعند ذلك قال: لا تستنجوا بروث دابّة، ولا بعظمٍ، إنه زادُ إخوانكم من الجن".

ش: إسناده صحيحٌ على شرط مسلم، والشَعْبيّ هو عامرُ.

وأخرجه مسلم (2)، والترمذي (1) بأتمّ منه، وقد ذكرناه في باب الوضوء بنبيذ التمر.

قوله: "شعاب مكة" جمع شِعب بكسر الشين، وهو الطريق في الجبل، وأما الشَّعب بالفتح فهو ما يشعب من قبائل العرب والعجم.

(1) الملِّيون: جمع مِلِّيّ، نسبة إلى المِلة، وهي الدين، يعني: المنتسبين إلى الأديان.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 523

قوله: "الزاد" منصوب؛ لأنه مفعول "سألت الجن".

قوله: "كل عظم" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: زادكم كل عظم.

وقوله: "يقع في أيديكم" صفة للعظم.

وقوله: "قد ذكر اسم الله" جملة وقعت حالًا، وكذا قوله "يَجدونه" حال أخرى، ويجوز أن يكون كل عظم مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: لكم كل عظم يقع في أيديكم، كما في رواية مسلم (1):"وسألوه الزادَ، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم".

قوله: "والبعرُ" بالرفع عطفًا على "كل عظم"، أي: ولكم البعرُ أيضًا حال كونه علَفًا لدوابكم، بمعنى: طعامًا لها، وفي رواية النسائي: وكلُ بعر علف لدوابكم، ويجوز:"والبعرَ" بالنصب، على تقدير: وجعلْتُ البَعْرَ علفًا لدوابكم.

ويستفاد منه: أن كراهة الاستنجاء بالعظم لكونه زاد الجنّ، لا لكونه لا يطهّره، وكراهة الاستنجاء به، وأن العظم الذي هو زادهم ذلك العظم الذي سُمّيَ عليه، حتى إن العظم الذي لا يذكر عليه اسم الله لا يكون لهم زادًا؛ لأن في المسمى عليه يجدون لحمًا يكتفون به، وذلك ببركة اسم الله تعالى وغير المسمّى عليه ليس عليه شيءِ يتناولونه، وأن البعر علف لدوابهم، وأن لهم دواب يركبونها، وأن في الجن مسلمين؛ بدلالة قوله:"إخوانكم من الجن"، وأن رسول الله عليه السلام مرسل إلى الإنس والجن، وأن لهم قدرة على الكلام والخطاب مع الإنس، وأنهم يُروْن ويَرَوْن.

ص: حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: نا أحمد بن محمَّد الأَزْرقي، قال: نا عَمرو بن يحيى بن سعيد، عن جدّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "اتبعت النبي عليه السلام وخرج في حاجة له، وكان لا يَلتفت، فدنوتُ، فاستأنستُ وتنحنحتُ، فقال: مَنْ هذا،

(1)"صحيح مسلم"(1/ 332 رقم 450) وتقدم.

ص: 524

فقلتُ: أبو هريرة، فقال: يا أبا هريرة، أبغني أحجارًا أستَطيب بهنّ، ولا تأتني بعظم ولا رَوث، قال: فأتَيْتُه بأحجارٍ أحملها في مُلاءتي، فوضعتها إلى جنبه، ثم أعرضت عنه، فلما قضى حاجته، اتبعتُه فسألته عن الأحجار، والعظم، والروثة، فقال: إنه جاءني وَفْدُ جن نَصِيبيبن -ونعم الجنّ هم- فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمرّوا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليه طعامًا".

ش: إسناده صحيح على شرط البخاريّ، وأحمد بن محمَّد بن الوليد، وأبو محمَّد المكي الأزرقي أحد مشايخ البخاريّ، وعمر بن يحيى بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص (1) بن أمّية القرشي الأموي المكي.

وأخرجه الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث عمرو، عن جده، عن أبي هريرة

إلى آخره، نحوه سواء.

وأخرجه البخاري (2) مختصرًا: نا أحمد بن [محمد]، (3) المكي، نا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي، عن جده، عن أبي هريرة قال:"اتبعت النبي عليه السلام، وخرج لحاجته، فكان لا يلتفتُ، فدنوت منه، فقال: أبغني أحجارًا أستنفضُ بها -أو نحوه- ولا تأتني بعظم ولا بروث فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه، وأعرضت عنه، فلما قض حاجته أتبعه بهن".

قوله: "اتبعت النبي عليه السلام" قال ابن سيده: تبع الشيء تبعًا، وتباعًا، واتَّبعه، وأتْبَعَه، وتتبعّه: قَفَّاه، وقيل: اتبع الرجل سبقه فلحقه، وتبعه تبعًا، واتّبعه مرّ به فمضى معه، وفي التنزيل:{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} (4)، ومعناه: تبع، وقرأ أبو عَمرو "ثم اتبع سببًا" أي لحق وأدرك، واستتبعه طلب إليه أن يتبعه، والجمع تُبَّع، وتُبَّاع،

(1) ابن سعيد بن العاص: وضع عليه في "الأصل" علامة "صح" لرفع توهم التكرار.

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 70 رقم 154).

(3)

في "الأصل، ك": أحمد بن موسى، والتصويب من "صحيح البخاري".

(4)

سورة الكهف، آية:[89].

ص: 525

وتَبعه، وتَبع، وفي "الأفعال" لأبن طريف: المشهور: تبعتُه: سرتُ في أثره، واتبعته لحقتُه، ولذلك فسّر في التنزيل {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} (1) أي: لحقوهم.

وفي "الصحاح" تبعت القوم تبعًا، وتباعًا وتَبَاعةً -بالفتح- إذا مشَيْتَ، أو مرّوا إلى فمضيت معهم، قال الأخفش: تبعتُه، واتبعته بمعنى، مثل: رَدِفَه، وأَرْدَفَه.

قوله: "وخرج في حاجة له" جملة وقعت حالًا.

قوله: "أبغني أحجارًا"، قال أبو علي الهجري في "أماليه": بغيتُ الخير بغاءً، وقال أبو الحسن اللحياني في "نوادره": يقال: بغى الرجل الحاجَة والعلم والخيرَ وكل شيء يُطلبُ، يبغى بُغاء، وبِغْيَة و (بِغى)(2) وبُغْية وبُغي واستبغى القوم يبغَوْه، وبغَوْا له أي طلبوا له، وفي الحكم المعروف بُغَاءٍ -يعني بالضم- والاسم البُغْية، والبَغْية ما ابتُغي، وأبغاه الشيء طلب له أو أعانه على طلبه، والجمع بغاة، وبغيان، وابتغى الشيء تَيَسر، وتسَهّل، وبغى الشيء بُغوا وانظر إليه كيف هو، وفي "الجامع" للقزاز: ابغني كذا أي أعنّي عليه، واطلبه معي، وقيل: بغيتك الشيء طلبته لك، وأبغيتك أعنتك على بغيتك، وفي كتاب "الداعي" لعبد الحق الأشبيلي، والبغاء الطلب، وفي "الصحاح" كل طلبة بُغاء بالضم، والمدِّ، وبُغاية أيضًا، وأبغَيْتُك الشيء جعلتك طالبًا له، وأبْتغيت الشيء، وتَبَغَّيْتُه إذا طلبته، قال ساعدةُ بن جُوَية الهُذلي: سباغٌ تَبغّي الناسَ مثنى ومَوْحد.

قوله: "استطيبُ بهن" صفة للأحجار أراد استنجي بهن، من الإستطابة، وهي طلب النظافة، والطهارة، وكذلك الإصابة.

قوله: "أحملها في مُلاءتي" جملة حالية والمُلاءة بضم الميم الإزار، وذكره الجوهري في باب المهموز، وقال الملاءة بالضم ممدود: الرَّيْطَة، والجمع: مُلاء.

(1) سورة الشعراء، آية:[60].

(2)

في "الأصل، ك": بغيّا، والمثبت من "لسان العرب" نقلًا عن اللحياني وقال بعدها: مقصورًا.

ص: 526

قوله: "وفد جن نصيبين" الوفد القومُ يجتمعون ويَرِدون البلاد، وواحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة أو استرفاد، وانتجاع وغير ذلك، تقول: وَفَدَ، يَفِدُ فهو وافد، وأوفدته يوفَد، وأوفد على الشيء فهو مُوفد إذا أشرف. و"نَصِيبين" بفتح النون، وكسر الصاد المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، ثم باء موحدة مكسورة، وياء ثانية ساكنة، ونون، وهي قاعدة ديار ربيعة، مخصوصة بالورد الأبيض، ولا يوجد فيها وردة حمراء، وفي شماليها جبل كبير منه ينزل نهرها، ويمر على سورها، والبساتين عليه، وهي شمال سنجار، وجبل نصيبين هو الجودي، وهو الذي استوت سفينة نوح عليه السلام عليه، ويقال يسمّى نهرها الهرماس، وبها عقارب قاتلة.

قوله: "إلا وجدوا عليه": على كل واحد من العظم والروث، وظاهر الكلام يقتضي أن يكون طعامهم من العظم والروث، كما جاء في حديث آخر أخرجه أبو داود (1)، عن حيوة بن شريح، عن ابن عياش، عن يحيى بن [أبي](2) عمرو السَّيْبَانيِ، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن مسعود، قال:"قدم وفد الجن على رسول الله عليه السلام، فقالوا: يا محمَّد، انْهَ أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حمَمة فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقًا، قال فنهى النبي عليه السلام[عن ذلك] (3) ".

وظاهر هذا الحديث أيضًا أن رزقهم من هذه الأشياء؛ فلذلك منع النبي عن الاستنجاء بها، وكذلك حديث ابن مسعود الذي مرّ ذكره عن قريب:"لا تستنجوا بعظم ولا روث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن"، يقتضي ما ذكرنا، والدليل القاطع على ذلك ما جاء في رواية مسلم:"فلا تَسْتنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم" والضمير يرجع إلى العظم، والبعرة.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 10 رقم 39).

(2)

من "الأصل"، والمثبت من "سنن أبي داود"، ومصادر ترجمته.

(3)

ليست في "الأصل"، والمثبت من "سنن أبي داود".

ص: 527

فإن قيل: كيف يكون التوفيق بين هذا، وبين قوله في رواية الترمذي:"وكل بَعرة أو روثة علف لدوابكم"، وكذا في رواية الطحاوي، و"البعر علفًا لدوابكم"؟

قلت: التوفيق بين الكلامين: أن العظم زادهم خاصة، وأن الروث، والبعر مشتركان بينهم وبين دوابهم، يدلّ على ذلك قرائن الكلام والحال، فافهم.

قوله: "استنفض بها" في رواية البخاري أي: استنجي بها، وهو من نفض الثوب لأن المستنجي ينفض عن نفسه الأذى بالحجر أي: يزيله ويدفعه، وجاء في السنن العشر انتقاص الماء بالقاف والصاد المهملة يُريد إنتقاص البول بالماء إذا غسل المذاكير به. وقيل: هو الانتضاح بالماء، ويروى بالفاء والمعجمة (1).

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: نا سويد بن سعيد، قال: أنا عمرو بن يحيى

ثم ذكر بإسناده مثله.

ش: هذا طريق آخر في الحديث المذكور، عن أحمد بن داود المكي، عن سويد بن سعيد بن سهل الأنباري أحد مشايخ مسلم في الصحيح، عن عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة نحوه

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث سويد بن سعيد، نا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده سعيد بن عمرو قال:"كان أبو هريرة يتبع رسول الله عليه السلام بإداوة لوضوئه وحاجته، فأدركه يومًا، فقال: مَنْ هذا؟ قال: أنا أبو هريرة، قال: إبغني أحجارًا استنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا روث، فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه، حتى إذا فرغ وقام تبعتُه، فقلت: يا رسول الله، ما بال العظم، والروث؟ فقال: أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروّا بروثة ولا عظم إلا وجدوا عليه طعامًا".

(1) راجع "فتح الباري"(1/ 256).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 107 رقم 524).

ص: 528

ص: فثبت بهذا الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لمكان الجن لا لأنها لا تُطهّر كما يطهر الحجر، وجميع ما ذهبنا إليه من الاستجمار بالعظام أنه يطهّر قول أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي بالأحاديث المروية عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة، والباقي ظاهر.

وقد غمز البيهقي على الطحاوي ها هنا حيث يقول -بعد أن روى حديث سلمان، وجابر، وابن مسعود، وأبي هريرة عن النبي عليه السلام "أنه نهى عن الاستنجاء بالعظم"، وحديث رويفع بن ثابت قال:"قال لي رسول الله عليه السلام: أخبر الناس أن من استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا منه بريء"-: وهذا كله يدل على أنه إذا استنجى بالعظم لم يقع موقعه، وكما جعل العلة في العظم أنه زاد الجن، جعل العلة في الرجيع أنه علف دواب الجن، وإن كان في الرجيع أنه نجس ففي العظم أنه لا ينظف لما فيه من الدسومة، وهذا جواب عمّا زعم الطحاوي في الفرق بينهما.

قلت: كلام البيهقي عَيْنه يُشْعِرُ بالفرق الذي ذكره الطحاوي، ولكنه غفل عنه ذريعة للغمز عليه بأن قوله: "كما جعل العلة في العظم أنه زاد الجن

" إلى آخره، يُشْعِر أن المنع عن الاستنجاء به هو كونه زادًا للجن لا لكونه لا يُطهّر الحجر فإذا كان كذلك يقع الاستنجاء به، ولكنه يأثم لارتكابه النهي، وأما الروث فإنه نجس، والنجس لا يزيل النجس، ولا سيما إذا كان رطبًا، فلذلك لا يقع به الاستنجاء موقعه، وهذا الفرق واضح كعين الشمس، فكيف يرده البيهقي على الطحاويّ؟! على أن ابن حزم قد روى في "المحلى" (1) أن عمر رضي الله عنه كان له عظم يستنجى به ثم

(1)"المحلى"(1/ 97)، ولم يروه ابن حزم إنما ذكره في أثناء سرد أدلة المخالفين له بدون إسناد فقال: وما نعلم لهم متعلقًا إلا أنهم ذكروا أثرًا فيه: "أن عمر رضي الله عنه كان له عظم أو حجر يستنجي به" ثم قال: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه شك: إما حجر وإما عظم اهـ.

ورواه ابن المنذر في "الأوسط"(1/ 346 رقم 299) من طريق ابن أبي ليلى، قال:"كان لعمر مكان قد اعتاده يبول فيه، وكان له حجر أو عظم في حجر، فكان إذا بال مسح به ذكره ثلاثًا ولم يمسه ماء" فتأمل احتجاج المؤلف به واعتراضه على البيهقي.

ص: 529

يتوضأ، ويصلي" ولو لم يقع الاستنجاء بالعظم لما فعله عمر رضي الله عنه، ورأي عمر رضي الله عنه أقوى من رأي البيهقي، ومن رأي من هو أكبر منه، ولقد صدق القائل:

فعين الرضى عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

حسدوا الفتى إذْ لم ينَالوُا ثناؤه

والقومُ أعداءٌ له وخصوم

ص: 530