الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: المستحاضة كيف تتطهر للصلاة
؟
ش: أي هذا باب في بيان أن المستحاضة كيف [تتطهر](1) لإقامة الصلاة، و"المستحاضة": من ترى الدم في غير أوانها.
وفي "العُباب": المستحاضة المرأة التي يسيل منها الدم ولا يرقأ، ولا يسيل من المحيض ولكن يسيل من عِرقٍ يقال له: العاذل.
والمناسبة بينه وبين الأبواب التي قبله: أن كلا منها مشتمل على أحكام الوضوء.
ص: حدثنا محمَّد بن النعمان السقطي، قال: نا الحميدي، قال: نا عبد العزيز ابن أبي حازم، قال: نا ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف وأنها استحيضت حتى لا تَطْهُر، فذُكِرَ شأنُها لرسول الله عليه السلام فقال: ليست بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم، لتَنْظُر قذر قرئها الذي تحيض له، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي".
ش: رجاله رجال الصحيحين ما خلا محمَّد بن النعمان بن بشير النيسابوري السقطي نزيل بيت المقدس، وهو أيضا ثقة مشهور.
والحميدي هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن أسامة بن عبد الله بن حميد القرشي الأسدي.
وعبد العزيز بن أبي حازم -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- واسمه سلمة بن دينار المدني.
وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني.
وعَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدينة.
(1) في "الأصل، ك" تتطر، سقطت الهاء من وسطها.
وأم حبيبة بنت جحش هي حمنة بنت جحش الأسدية، وهي أخت زينب بنت جحش زوج النبي عليه السلام ولها صحبة.
وأخرجه النسائي (1): عن الربيع بن سليمان بن داود بن إبراهيم، عن إسحاق ابن بكر، قال: حدثني أبي: عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمَّد .. إلى آخره، نحوه سواء.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2)، و"المعرفة" (3): عن أبي سعيد الإسفرايني، عن أبي بحر البربهاري، عن بشر بن موسى، عن الحميدي
…
إلى آخره نحوه سواء، وقال في "المعرفة": قال أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، فيما قرأنا على محمَّد بن عبد الله الحافظ، عنه، قال بعض مشايخنا: خبر ابن الهاد غير محفوظ.
قال البيهقي: وقد رواه محمَّد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام قال فيه:"فأمرها بالغسل لكل صلاة" وكذلك رواه سليمان بن كثير عن الزهري -في إحدى الروايات عنه- والصحيح رواية الجمهور عن الزهري، وليس فيه الأمر بالغسل إلا مرة واحدة، ثم كانت تغتسل عند كل صلاة من عند نفسها، وكيف يكون الأمر بالغسل صحيحا عن عروة عن عائشة، وصح عن كل واحد منهما أنه كان يرى عليها الوضوء لكل صلاة؟! وقد رُوي الأمر بالغسل لكل صلاة من أوجه كلها ضعيفة.
قلت: الطريق المذكور صحيح لا يمكن رميه بالضعف، ولكن الجمهور ما عملوا به؛ لكونه منسوخا على ما يأتي إن شاء الله.
قوله: "وأنها استحيضت" عطف على قوله: "أن أم حبيبة".
قوله: "حتى لا تَطُهُر" بالرفع.
(1)"المجتبى"(1/ 120 رقم 209).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 327 - 328 رقم 1454).
(3)
"المعرفة"(1/ 377 رقم 484).
قوله: "فَذُكرَ شأنُها" أي حالها. "ذُكِرَ" على صيغة المجهول، وفي رواية البيهقي "فَذَكَرَت" أي أم حبيبة.
قوله: "ليست بالحيضة" -بفتح الحاء- المرة الواحدة من دُفع الحيض ونُوبِهِ، والحيضة -بكسر- الاسم من الحيض، والفرق بينهما بالقرينة من مساق الحديث، وها هنا يحتمل الوجهين، والفتح أظهر.
وفي كتاب "الواعي": الحيض اجتماع دم المرأة، والحَيضة والحِيضة بفتح الحاء وكسرها، أصلها عند قوم من حُضتُ الماءَ، أحُوضهُ، حَوْضا، إذا جمعته، وأحيضه حيضا، فيصبح فيه الواو والياء.
وجمع الحِيضة -بالكسر- حِيَض، وجمع الحيضة -بالفتح- حَيضات، والمحيض اسم للحيض.
وقال ابن سيده: حاضت المرأة حيضا ومحيضا وهن حائض وحُيَّض وحَوَائض، والحَيضة: المرَّة الواحدة، والحيضة: الاسم، وقيل: الحيضة الدم نفسه، والحياض دم الحيضة، قال الفرزدق:
خَواقُ حياضهن يسيل سيلا
…
على الأعقاب تحسبه خضابا (1)
وفي "العباب": حاضت المرأة تحيض حَيضا ومَحِيضا ومَحَاضا، فهي حائض وحائضة أيضا، والحَيضَةُ: المرَّة الواحدة، والحِيضة -بالكسر-: الاسم. وكذا قال في "الصحاح" و"الغريب"، عن الفراء، وأنشد:
كحائضة يُزْنى بها [غير](2) طاهرٍ
(1) البيت في "اللسان"(مادة: حيض)، وقال: أراد خواقّ، فخفف.
(2)
في "الأصل، ك": وهي، وهو خطأ وصدره: رأيتُ خُتُون العام والعام قبله، وقد ورد البيت غير منسوب في "اللسان" (حيض) لكن بلفظ:"حُيون" وفي (ختن): كالمثبت هنا، وشرحه هناك، وورد أيضًا غير منسوب في تصحيح الفصيح لابن درستويه (414) و"شرح الفصيح" للزمخشري (2/ 589).
وفي "شرح الفصيح" للتدميري: سمي حيضا على التشبيه بالحيض، وهو ماء أحمر يخرج من شجر السَّمر فيقال في ذلك: حاضت السمرة، وفي شرحه (1) للهروي: حاضت المرأة وتحيضت، ودرَسَت، وعركت، وطَمِثَت. وقال الأزهري [دم](2) يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها يخرج من قعره، يقال: حاضت محاضا.
وفي "الغريبين" عن ابن عرفة: هو اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض، لاجتماع الماء فيه.
وقال صاحب "مجمع الغرائب" هذا زلل ظاهر؛ لأن الحوض من الواو، والحيض من الياء، وأيضا فالحائض تسمى حائضا عند سيلان الدم، لا عند اجتماع الدم في رحمها، فإذا أخذُ الحوض من الحيض خطأ لفظا، فلست أدري كيف وقع.
قلت: قال الأزهري: ومن هذا قيل للحوض حوض لأن الماء يحيضُ إليه، أي: يسيل: والعرب تُدخِل الواو على الياء، والياء على الواو؛ لأنهما من حيِّزٍ واحد، وهو الهواء.
فعَرْفتَ من هذا أن نسبة صاحب "مجمع الغرائب" ابن عرفة إلى الخطأ غير صحيح، غير أنه كان ينبغي أن يقول: وبه سُمِّي الحوض؛ لأن الماء يحيض إليه، كما قاله الأزهري.
وفي "العباب": قال الفراء: حاضت السَّمرةُ، إذا سال منها الدُّودِمَ، وهو شيء كالدم يسيل منها، وحاض وجاض وحاص وحاد بمعنى. وقال القاضي عياض: أصل الحيض السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال. وقال ابن حزم: الحيض هو الدم الأسود الخاثر الكريه الرائحة، وقيل: هو الدم الخارج بنفسه من فرج الممكن حملها، عادة".
(1) يعني: شرح الفصيح وانظر: "شرح الفصيح" للزمخشري مقدمة المحقق (1/ 19).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من المجموع (2/ 342) نقلًا عن الأزهري.
قوله: "ولكنها ركضة" أي ولكن تلك الحيضة ركضة من الرحم؛ وأصل الركض الضرب بالرجل والإصابة بها، كما تُركض الدابةُ وتصاب بالرجل، والمعنى ها هنا: أن الرحم لما دفعت تلك الحيضة لبست بها على صاحبتها في أمر دينها وطهرها، حتى أنستها عادتها، وصار في التقدير كأنها ركضة من الشيطان، فكأنه قد وجد بذلك طريقا إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها ذلك عادتها، فصار في التقدير كأنه ركضة.
قوله: "لتنظر" بالجزم.
قوله: "قدر قرئها" أي قدر حيضها الذي كانت تحيض.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا الوهبي، قال: نا محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"أن أم حبيبة بنت جحش كانت استحيضت في عهد النبي عليه السلام فأمرها النبي عليه السلام بالغُسل لكل صلاة، فإن كانت لتغتمس في المركن وهو مملوء ماء، ثم تخرج منه وإن الدم لعاليه، ثم تصلي".
ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن موسى -ويقال: ابن محمَّد- الوهبي، ونسبته إلى وهب والد عبد الله بن وهب عن محمَّد بن إسحاق بن يسار المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، وهؤلاء كلهم ثقات.
وأخرجه أبو داود (1): عن هناد بن السري، عن عبدة، عن ابن إسحاق
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): عن يزيد، عن محمَّد بن إسحاق
…
إلى آخره نحوه سواء، غير أن في روايته:"زينب بنت جحش"، موضع "أم حبيبة بنت جحش".
(1)"سنن أبي داود"(1/ 78 رقم 292).
(2)
"مسند أحمد"(6/ 237 رقم 26047).
واعلم أن المستحاضات على عهد رسول الله عليه السلام خمس: حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأختها أم حبيبة- وقيل: أم حبيب بغير هاء، وفاطمة بنت أبي حُبيش القرشية الأسدية، وسهلة بنت سهيل القرشية العامرية، وسَوْدَة بنت زمعة، زوج رسول الله عليه السلام وقد ذكر بعضهم أن زينب بنت جحش استحيضت، كما وقع في رواية أحمد، والمشهور خلافه، وإنما المستحاضتان أختاها.
فإن قيل: كيف قلت: إن اسم أم حبيبة حمنة، ثم جعلت حمنة غير أم حبيبة؟!
قلت: الأصح أن حمنة غير أم حبيبة: وأنهما أختان لزينب بنت جحش، قال ابن الأثير في باب كني النساء الصحابيات: أم حبيبة، وقيل: أم حبيب، والأول أكثر، وهي بنت جحش بن رئاب الأسدية، أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين. وكانت تستحاض.
وأهل السِّير يقولون: إن المستحاضة حمنة.
قال أبو عمر: الصحيح أنهما كانتا تستحاضان، وكانت حمنة زوج مصعب بن عمير، قتل عنها يوم أحد، فتزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له محمدا وعمران، ابنا طلحة، وأمها أُمَيْمَةُ بنت عبد المطلب، عمة رسول الله عليه السلام.
وجعل ابن مندة حَمْنَةَ غير أم حبيبة، وقال: حمنة بنت جحش، ويقال: حبيبة بنت جحش، وجعل أبو نعيم أم حبيبة كنية حمنة، وجعلهما أبو عمر اثنتين، كما ذكرناه.
وفي بعض شروح البخاري (1): وكان في زمنه عليه السلام جماعة من النساء مستحاضات، منهن أم حبيبة بنت جحش، وحمنة بنت جحش، ذكرها أبو داود، وسهلة بنت سهيل ذكرها أيضًا، وزينب بنت جحش ذكرها أيضا، وسودة بنت زمعة، ذكرها العلاء بن مسيب، عن الحكم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، وزينب بنت أم سلمة ذكرها الإسماعيلي في جمعه لحديث يحيى بن أبي كثير،
(1) انظر: "فتح الباري"(1/ 490 - 491) شرح الحديث رقم (311).
وأسماء بنت [مرثد](1) الحارثية ذكرها البيهقي، وبادية بنت غيلان، ذكرها (ابن الأثير)(2).
قوله: "فإن كانت" إن مخففة من المثقلة، أصلها فإنها كانت، واللام في "لتغتمس" للتأكيد.
"والمركن" -بكسر الميم- الإجَّانة التي تُغسل فيها الثياب، والميم زائدة وهي التي تخص الآلات (3).
قوله: "وهو مملوء" جملة اسمية حالية.
و"ماء" نصب على التمييز.
قوله: "لعاليه" اللام للتأكيد، وهو من علا الشيء يعلوه، والمعنى أن الدم قد علا الماء أي ركبه وغشيه، وضبطه بعضهم "لغالبه" بالغين المعجمة من الغَلَبة، يقال: غلبه غَلَبا وغَلَبَة، وفي لفظ:"كانت تجلس في المركن ثم تخرج وهي عالية الدم"، أي يعلو دمها الماء.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل لكل صلاة، واحتجوا في ذلك بقول النبي عليه السلام المروي في هذه الآثار، وبفعل أم حبيبة بنت جحش ذلك على عهد النبي عليه السلام.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عكرمة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جير، وقتادة؛ فإنهم قالوا: المستحاضة تغتسل لكل صلاة.
ورُوي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأم حبيبة رضي الله عنهم وإليه ذهبت الظاهرية.
(1) في "الأصل، ك": مرشد -بالشين المعجمة بدلًا من الثاء- وهو تحريف، انظر "الاستيعاب"(4/ 1785)، و"الإصابة"(7/ 493).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "فتح الباري" (1/ 412) و"الإصابة" (7/ 529): ابن مندة.
(3)
راجع "لسان العرب": (ركن).
وقد روى ابن حزم الآثار المذكورة في "المحلى"(1): ثم قال: فهذه آثار في غاية الصحة، وقال بهذا جماعة من الصحابة، ورُوي عن ابن عمر في المستحاضة قال:"تغتسل لكل صلاة".
وقد رواه أيضا: عكرمة ومجاهد عن ابن عباس، قال مجاهد عنه:"تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتغتسل للفجر غسلا".
وقال أيضًا: وروينا من طريق ابن جريج، عن عطاء "تنتظر المستحاضة أيام أقرائها، ثم تغتسل غسلا واحدا للظهر والعصر، تؤخر الظهر قليلا وتعجل العصر قليلا، وكذلك المغرب والعشاء، وتغتسل للصبح غسلا".
وروينا من طريق سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي مثل قول عطاء سواء بسواء، وروينا من طريق معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال:"المستحاضة تغتسل لكل صلاة وتصلي".
ص: حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: أخبرنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا الهيثم بن حميد، قال: أخبرني النعمان والأوزاعي وأبو مُعَيْد حفص بن غيلان، عن الزهري، قال: أخبرني عروة، عن عمرة، عن عائشة قالت:"استحيضت أم حبيبة ابنة جحش، فاستفتت النبي عليه السلام فقال لها رسول الله عليه السلام: إن هذه ليست بحيضة، ولكنه عِرْق فتقه إبليس، فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي، وإذا أقبلت فاتركي لها الصلاة. قالت عائشة رضي الله عنها: فكانت أم حبيبة تغتسل لكل صلاة، وكانت تغتسل أحيانا في مِرْكنٍ في حجرة أختها زينب وهي عند النبي عليه السلام حتى إن حمرة الدم لتعلو الماء، فتصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعها ذلك من الصلاة".
ش: هذا الحديث بطرقه واختلاف متنه بيان لقوله: "وبفعل أم حبيبة بنت جحش ذلك"، أي الاغتسال لكل صلاة "على عهد النبي عليه السلام" أي في زمنه وأيامه.
(1)"المحلى"(2/ 214) بتصرف واختصار.
والربيع بن سليمان بن داود الأعرج المصري، نسبته إلى جيزة مصر، بكسر الجيم وفتح الزاي المعجمة.
وعبد الله بن يوسف التِّنيسي أحد مشايخ البخاري.
والهيثم بن حُمَيْد -بضم الحاء- الغساني، أبو أحمد الدمشقي، وثَّقه ابن حبان وغيره، وروى له الأربعة.
والنعمان بن المنذر الغساني أبو الوزير الدمشقي، ثقة لكنه يُرْمى بالقدر، روى له أبو داود والنسائي.
والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو.
وأبو مُعَيْد -بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف- اسمه حفص بن غيلان الهَمْداني الدمشقي، وثقه ابن حبان وتكلم فيه غيره، وروى له النسائي وابن ماجه.
والزهري محمَّد بن مسلم.
وأخرجه النسائي (1): عن الربيع بن سليمان مثل الطحاوي
…
إلي آخره، ولكن في رواية النسائي: أخبرني عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، بواو العطف بين عروة وعمرة، وفي رواية الطحاوي: أخبرني عروة عن عمرة بحرف "عن" بينهما، قال القاضي عياض: قال الأوزاعي: عن عروة، عن عمرة بغير واو، وقد رواه يحيى بن سعيد عن عروة وعمرة، وكذا قال ابن أبي ذئب.
قلت: وتأتي الآن رواية الطحاوي أيضا من طريق ابن أبي ذئب عن عروة وعمرة، بواو العطف كما في رواية النسائي.
قوله: "ليست بحيضة" بكسر الحاء كذا قال بعض الأساتذة الكبار، وقالوا: كل موضع فيه "أقبلت الحيضة" بفتح الحاء، وكل موضع فيه "ليست بالحيضة" بكسر الحاء.
(1)"المجتبى"(1/ 118 رقم 204).
قلت: قد وقع في كثير من النسخ المعتمدة كلاهما بالفتح.
قوله "فتقه إبليس" من فتقت الشيء فتقا: شققته، وفتَّقته تفتيقا مثله، فتفتق وانفتق.
ثم إن إسناد الفتق إلى إبليس يجوز أن يكون على وجه الحقيقة على معنى أن يشق موضع الدم من الرحم لتبتلي بكثرة الدم، ليلتبس عليها أمر دينها، ويجوز أن يكون على وجه المجاز على معنى أن الشيطان بذلك يجد طريقا إلى التلبيس عليها في أمر في دينها وطهرها وصلاتها، فيصير كأنه هو الذي أسال هذا الدم.
قوله: "فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي" المراد من الإدبار: انقطاع الحيض، وقد وقع في رواية أبي داود:"وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" ولكنه مشكل في ظاهره؛ لأنه لم يذكر الغسل، ولابد بعد انقضاء الحيض من الغسل.
والجواب عنه: أنه وإن لم يذكره في هذه الرواية فقد ذكر في رواية غيره.
وحمل بعضهم هذا الإشكال على أن جعل الإدبار وانقضاء أيام الحيض والاغتسال، وجعل قوله:"واغسلي عنك الدم" محمولا على دم يأتي بعد الغسل، والجواب الأول أصح.
فإن قيل: ما علامة إدبار الحيض وانقطاعه والدخول في الطهر؟
قلت: أما عند أبي حنيفة وأصحابه: الزمان والعادة هو الفيصل بينهما، فإذا أضَّلت عادتها تَحرّت، وإن لم يكن لها ظن أخذت بالأقل.
وأما عند الشافعي وأصحابه اختلاف الألوان هو الفيصل، فالأسود أقوى من الأحمر، والأحمر أقوى من الأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، والأصفر أقوى من الأكدر إذا جعلناهما حيضا؛ فتكون حائضا في أيام القوي، مستحاضة في أيام الضعيف، والتمييز عنده بثلاثة شروط:
أحدها: أن لا يزيد القوي على خمسة عشر يوما.
والثاني: أن لا ينقص عن يوم وليلة ليمكن جعله حيضا.
والثالث: أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوما ليمكن جعله طهرا بين الحيضتين. وبه قال مالك وأحمد.
وقال النووي: علامة انقطاع الحيض والحصول في الطهر: أن ينقطع خروج الدم والصفرة والكدرة، وسواء خرجت رطوبة بيضاء، أم لم يخرج شيء أصلا.
قال البيهقي وابن الصَّبَاغ: التَرِيَّةُ رطوبة خَفيَّة (1) لا صفرة فيها ولا كدرة، تكون على القطنة أثر لا لون، وهذا يكون بعد انقطاع الحيض، والتَّرِيّة بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الراء وبعدها ياء آخر الحروف مشددة.
ثم اعلم أنها إذا مضى زمن حيضها وجب عليها أن تغتسل في الحال لأول صلاة تدركها، ولا يجوز لها أن تترك صلاة أو صومًا، ويكون حكمها حكم الطاهرات ولا تستظهر بشيء أصلا، وبه قال الشافعي.
وعن مالك ثلاث روايات:
الأولى: تستظهر ثلاثة أيام، وما بعد ذلك استحاضة.
والثانية: تترك الصلاة إلى انتهاء خمسة عشر يوما، وهي أكثر مدة الحيض عنده.
والثالثة: كمذهبنا.
ومن فوائد هذا الحديث:
جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بالطهارة وأحداث النساء.
وجواز استماع صوتها عند الحاجة.
ومنها: نهيُ المستحاضة عن الصلاة في زمن الحيض، وهو نهي تحريم ويقتضي فساد الصلاة هنا بإجماع المسلمين، ويستوي فيها الفرض والنفل، ويتبعها الطواف وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة وسجدة الشكر.
ومنها: أنها بعد غُسْلِهَا تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل، وفي وجه للشافعية أنها لا تصلي النافلة أصلا.
(1) قال صاحب "الصحاح": التَّريَّة: الشيء الخفي اليسير من الصفرة والكدرة، وانظر "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 22).
وقال النووي: والمذهب أنها لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية، وحُكي ذلك عن عروة والثوري وأحمد وأبي ثور.
وقال أبو حنيفة: طهارتها مقدرة بالوقت فتصلي في الوقت بطهارتها الواحدة ما شاءت.
وقال مالك وربيعة وداود: الاستحاضة لا تنقض الوضوء، فإذا تطهرت فلها أن تصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل إلا أن تُحْدث بغير الاستحاضة.
ولا يصح وضوءها الفريضة قبل دخول وقتها عند الشافعي، ويصح عند أبي حنيفة.
ووطء المستحاضة جائز في حال جريان الدم عند جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن المسيب، والحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وبكر المزني، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وعن عائشة: أنه لا يأتيها زوجها، وبه قال النخعي، والحكم، وسليمان بن يسار، والزهري، والشعبي، وابن علية، وكرهه ابن سيرين.
وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها.
وفي رواية: لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها العنت.
وعن منصور: تصوم ولا يأتيها زوجها ولا تمس المصحف.
ومنها: أن فيه دليلا على نجاسة الدم، وأن الصلاة تجب بمجرد الانقطاع.
ص: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: أنا أسد، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة وعمرة، عن عائشة:"أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فسألت النبي عليه السلام عن ذلك فأمرها أن تغتسل، وقال: إن هذه عرق وليست بحيضة. فكانت هي تغتسل لكل صلاة".
ش: هذا طريق آخر عن الربيع، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري .. إلى آخره، وهذا فيه عن عروة وعمرة بواو العطف.
وكذا رواه أحمد في مسنده (1): عن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة وعمرة بنة عبد الرحمن، عن عائشة
…
إلى آخره نحوه سواء، وفيه:"وكانت امرأة عبد الرحمن بن عوف".
وأخرجه أبو داود (2): عن محمَّد بن إسحاق المسيِّبي، عن أبيه، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة:"أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فأمرها رسول الله عليه السلام أن تغتسل، وكانت تغتسل لكل صلاة".
وهذا كما ترى بكلمة "عن" بين عروة وعمرة دون حرف العطف.
قوله: "إنما هذا عرق" أي دم عرق لأن الدم ليس بعرق، فحذف المضاف توسعا؛ يريد أن ذلك علة حدثت بها من تصدع العرق، فاتصل الدم، وليس بدم الحيض، الذي يدفعه الرحم لميقات معلوم.
وقد قلنا: إن الاستحاضة جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه، ولكنه يخرج من عِرْق يقال له العَاذِل -بالعين المهملة والذال المعجمة المكسورة- بخلاف دم الحيض فإنه يخرج من قعر الرحم.
وقال ابن سيده: في بعض الحديث "تلك"(3) عاذل [تغذو](4) يعني: تسيل وربما سُمي ذلك العرق عاذرا بفتح الراء.
(1)"مسند أحمد"(6/ 141 رقم 25138).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 78 رقم 291).
(3)
أنث اسم الإشارة، والفعل "تسيل" على معنى: العِرْقةُ، بمعنى: العرق، انظر:"لسان العرب"(عزل).
(4)
في "الأصل، ك": تغدر، والتصويب من "اللسان"(عزل) وانظر "النهاية"(3/ 200).
وفي "المغيث": العاذر عرق الاستحاضة والعاذرة المستحاضة، قاله اللحياني، وقيل: إنها أقيمت مقام المفعول؛ لأنها معذورة في ترك الصلاة، وفي رواية عن ابن عباس (1) وسئل عن الاستحاضة:"إنه عرق عاند"، أراد أنه كالإنسان يعاند عن القصد.
قوله: "فكانت تغتسل لكل صلاة" من كلام عائشة رضي الله عنها وبهذا احتج أهل المقالة الأولى على وجوب الاغتسال على المستحاضة عند كل صلاة؛ وذلك لأنها قد فعلت ذلك، ولم ينكر عليها النبي عليه السلام.
ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة .. مثله.
قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله عليه السلام أمر أم حبيبة أن تغتسل عند كل صلاة.
ش: هذا طريق آخر على شرط مسلم، وليس فيه "عمرة" بين عروة وعائشة.
وأخرجه مسلم (2): عن قتيبة بن سعيد، عن ليث، وعن محمد بن رمح، عن ليث
…
إلى آخره نحوه.
وقال ابن عينية: قوله "وكانت تغتسل عند كل صلاة" كان تطوعا منها غير ما أمرت به، وذلك واسع لها.
وقال الشافعي: ما أمرها رسول الله عليه السلام إلا أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة.
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 159 رقم 51) ورى من حديث عائشة أيضًا كما عند النسائي في "المجتبى"(1/ 122 رقم 213)، (1/ 184 رقم 360) وأحمد في "مسنده"(6/ 172 رقم 25430).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 263 رقم 334).
ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: أنا محمَّد بن إدريس الشافعي، قال: أنا إبراهيم بن سعد، سمع ابن هشام، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة مثله، ولم يذكر قول الليث.
ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، وليس فيه ذكر عروة بن الزبير.
وأخرجه البيهقي في "المعرفة"(1): عن أبي إسحاق الفقيه، عن أبي شافع بن محمَّد، عن الطحاوي، عن المزني، عن الشافعي، عن إبراهيم بن سعد، أنه سمع ابن شهاب يحدث، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنهما:"أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتته فيه، فقالت عائشة: فقال لها رسول الله عليه السلام: ليست تلك بالحيضة، وإنما ذلك عرق، فاغتسلي وصلي، قالت عائشة: فكانت تغتسل لكل صلاة، وكانت تجلس في مركن فتعلو الماء حمرةُ الدم، ثم تخرج وتصلي".
رواه مسلم في الصحيح (2): عن محمَّد بن جعفر بن زياد، عن إبراهيم بن سعد.
وأخرجه (3) من حديث عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة.
وأخرجه البخاري (4): من حديث ابن أبي ذئب، عن الزهري عنهما جميعا.
وأخرجه مسلم (5): من حديث الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة.
وقال القاضي عياض: "فكانت تغتسل لكل صلاة" عند مسلم وفي حديث قتيبة، عن الليث، عن الزهري.
(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 376 رقم 481).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 364 رقم 334).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 363 رقم 334).
(4)
"صحيح البخاري"(1/ 124 رقم 321).
(5)
"صحيح مسلم"(1/ 363 رقم 334).
وفي "الموطأ"(1): "فكانت تغتسل وتصلي".
قال الليث في كتاب مسلم: لم يقل ابن شهاب: إن النبي عليه السلام وما في الموطأ يحتمل أنها تغتسل عند انقطاع الدم، أو عند إدبار دم الحيضة، وتقادم الاستحاضة، أو لكل صلاة كما قال في كتاب مسلم.
وقد روى ابن إسحاق هذا الحديث عن الزهري فيه: "فأمرها رسول الله عليه السلام أن تغتسل لكل صلاة" ولم يُتَّابع ابن إسحاق أصحابُ الزهري على هذا، وحكى الطحاوي أنه منسوخ بحديث فاطمة، على ما يجيء بيانه، إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا إسماعيل، قال: أنا الشافعي، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة مثله.
ش: هذا طريق آخر عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإِمام الشافعي، عن سفيان بن عُيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عمرة، عن عائشة.
وأخرجه البيهقي في "المعرفة"(2): أنا أبو زكريا وأبو بكر، قالا: أنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا ابن عيينة، قال: أخبرني الزهري، عن عمرة، عن عائشة:"أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله عليه السلام فقال: إنما هو عرق وليست بالحيضة، فأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة، وتجلس في المركن فيعلو الدم".
رواه مسلم في الصحيح (3): عن محمَّد بن المثنى، عن سفيان بن عيينة.
وأعلم أن المراد من قول الشافعي: أنا سفيان هو ابن عيينة كما صرحنا به، وليس هو الثوري، ولهذا صرح به البيهقي في روايته، والشافعي لم يأخذ من الثوري شيئا
(1)"الموطأ"(1/ 62 رقم 137) من حديث عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن زينب بنت جحش.
(2)
"المعرفة"(1/ 375 رقم 480).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 263 رقم 334).
لأنه توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وكان عمر الشافعي حينئذ إحدى عشرة سنة، وتوفي سفيان بن عيينة بمكة يوم السبت غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومائة وكان عمر الشافعي حينئذ ثمانية وأربعين سنة.
ص: قالوا فهذه أم حبيبة قد كانت تفعل هذا في عهد رسول الله عليه السلام لأمر النبي عليه السلام إياها بالغسل، فكان ذلك عندها على الغسل لكل صلاة.
ش: أي قال هؤلاء القوم المذكورون: فهذه أم حبيبة رضي الله عنها قد كانت تغتسل لكل صلاة في زمن رسول الله عليه السلام وذلك لأن النبي عليه السلام أمرها بالغسل، ففهمت من ذلك الغسل لكل صلاة، وأنها كانت تغتسل لكل صلاة، ولم ينكر عليها النبي عليه السلام فعلم أن الفرض على المستحاضة أن تغتسل عند كل صلاة.
ص: وقد قال ذلك علي وابن عباس رضي الله عنهم من بعد رسول الله عليه السلام وأفتيا بذلك:
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا الخصيب بن ناصح، قال: أنا همام، عن قتادة، عن أبي حسان، عن سعيد بن جبير:"أن امرأة أتت ابن عباس بكتاب بعد ما ذهب بصرة، فدفعه إلي ابنه فتَرْترَ فيه، فدفعه إليَّ فقرأته، فقال لابنه: ألا هَذْرَمْتَه كما هَذْرمَه الغلام المصري. فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من امرأة من المسلمين، أنها استحيضت فاستفتت عليّا رضي الله عنه فأمرها أن تغتسل وتصلي، فقال: اللهم لا أعلم القول إلا قول علي- ثلاث مرات".
قال قتادة: وأخبرني عزرةُ، عن سعيد:"أنه قيل له: إن الكوفة أرض باردة، وإنه يشق علينا الغسل لكل صلاة. فقال: لو شاء الله لابتلاها بما هو أشد منه".
ش: أي وقد قال بوجوب الاغتسال عليها عند كل صلاة: علي بن أبي طالب وعبد الله ابن عباس من بعد رسول الله عليه السلام وأفتيا بذلك، ولو لم يعلما بذلك في زمن النبي عليه السلام لما كانا أفتيا بعده، ثم بين الطحاوي فتواهما بقوله: حدثنا سليمان بن شعيب .. إلى آخره.
ورجاله ثقات تكرر ذكرهم. وأبو حسان: الأعرج، وقيل: الأجرد، اسمه مسلم بن عبد الله البصري، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدا.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير:"أن امرأة من أهل الكوفة كتبت إلى ابن عباس بكتاب، فدفعه إلى ابنه ليقرأه فتتعتع فيه، فدفعه إليَّ فقرأته، فقال ابن عباس لابنه: أمَا لو هَذْرَمْتَها كما هَذْرمها الغلام المصري. فإذا في الكتاب: إني امرأة مستحاضة أصابني بلاء وضُر، وإني أدع الصلاة الزمان الطويل، وإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن ذلك فأفتاني أن أغتسل عند كل صلاة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، والمغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للفجر. قال: فقيل له: إن الكوفة أرض باردة، وإنه يشق عليها. قال: لو شاء الله لابتلاها بأشد من ذلك".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) مختصرًا: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال:"كنت عند ابن عباس، فجاءت امرأة بكتاب فَقَرَأْتُهُ، فإذا فيه: إني امرأة مستحاضة، وإن عليّا قال: تغتسل لكل صلاة. فقال ابن عباس: ما أجد ما أجد إلا ما قال علي رضي الله عنه".
قوله "فَتْرتَر" من التَرْتَرة وهي التحريك، والمعنى أنه حرك لسانه ولم يُفْهم شيئا، وكذلك معنى التلتلة، وفي حديث ابن مسعود (3)"تَرْتِرُوه ومَزْمِزُوه"، أي: حركوه ليُسْتَنكه، وفي رواية "تلتلوه" ومعنى الكل التحريك (4)، ومعنى "فتعتع" في رواية عبد الرزاق: تردد في قراءته، وتبلد فيها لسانه، ومعناه قريب من الأول.
قوله: "ألا هَذرَمْته" من الهذرمة، وهي السرعة في الكلام والمشي أيضًا، والمعنى: هلا أسرعت في قراءتك كما أسرع الغلام المصري، أراد به سعيد بن جبير، وأراد
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 305 رقم 1173).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 119 رقم 1361).
(3)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(9/ 109 رقم 8572).
(4)
انظر: "النهاية"(1/ 186).
بالمصري: الكوفي، لأن كوفة وبصرة يقال لهما المصران، ولأن مصرا في أصل الوضع واحد الأمصار، و"إلا" كلمة تحضيض تختص بالجمل الفعلية الخبرية، كسائر أدوات التحضيض.
قوله: "فقال: اللهم لا أعلم القول إلا ما قال عليّ" اعلم أن هذه الكلمة تستعمل على ثلاثة أنحاء:
أحدها: للنداء المحض، وهو ظاهر.
والثاني: للإيذان بندرة المستثنى، كقول الحريري: اللهم إلا أن [تِقِدَ نار](1) الجوع، كأنه يناديه مستيقنا دفعه أو [حصوله](2).
الثالث: ليدل على تيقن المجيب [في الجواب](3) المقترن هو به، كقولك لمن قال: أزيد قائم؟ اللهم نعم، أولًا، كأنه يناديه مستشهدا على ما قال من الجواب، وها هنا من القبيل الثالث.
قوله: "ثلاث مرات" أي قال ابن عباس قوله ذلك ثلاث مرات.
قوله: "وأخبرني عزرة" هو عزرة بن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي الكوفي الأعور، وهو من رجال صحيح مسلم.
قوله: "وإنه يشق" أي وإن الشأن يُثقل علينا الغسل.
ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا الخصيب، قال: أخبرني يزيد بن إبراهيم، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير: "أن امرأة من أهل الكوفة استُحيضت، فكتبت إلى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم تناشدهم الله، وتقول:
(1) تقد نار: رسمت في "الأصل": تعد واو، والمثبت من "مقامات الحريري"، المقامة الخامسة: ص (34) ط الحلبي.
(2)
تكررت اللام والهاء (له) في "الأصل، ك".
(3)
في "الأصل، ك": في جواب، والمثبت من "عمدة القاري"(2/ 21) وقد ذكر الأشموني المعاني الثلاثة في "شرح الألفية"(3/ 147) وعزاها إلى "النهاية"، لكن لم أجدها في النسخة المطبوعة، فليحرر.
إني امرأة مسلمة أصابني بلاء، وإنما استُحِضْتُ منذ سنين فما [ترون] (1) ذلك؟ فكان أول من وقع الكتاب في يده ابن الزبير فقال: ما أعلم لها إلا أن تدع قرأها وتغتسل عند كل صلاة وتصلي، فتتابعوا على ذلك".
ش: الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- هو ابن ناصح.
ويزيد بن إبراهيم التُسْتُري، أبو سعيد البصري، روى له الجماعة.
وأبو الزبير هو محمَّد بن مسلم بن تَدْرَس المكي، روى له الجماعة.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): مقتصرا على ابن الزبير، فقال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أن سعيد بن جبير أخبره قال: "أرسلت امرأة مستحاضة إلى ابن الزبير غلاما لها -أو مولى لها-: إني مبتلاة، لم أصل منذ كذا وكذا -قال: حسبت أنه قال سنتين- وإني أنشدك الله ألا ما بَيَّنْتَ لي في ديني.
قال: وكتبت إليه: إني أُفتِيتُ أن أغتسل لكل صلاة، فقال ابن الزبير: لا أجد لها إلا ذلك".
قوله "تناشدهم الله" بنصب لفظة "الله" معناه تسألهم بالله وتقسم عليهم، يقال: نَشَدتُك اللهَ، وأنَشَدُك اللهَ، وباللهِ، وناشدتك الله وبالله، أي سألتك وأقسمت عليك.
ونشدتُه نِشْدة ونُشدانا ومنشَادة. وتعديته إلى مفعولين؛ إما لأنه بمنزلة دعوت، حيث قالوا: نشدتك الله وبالله، كما قالوا: دعوت زيدا وبزيد، وإما لأنهم ضَمَّنُوه معنى ذكرت. فأما أنشدتك بالله فخطأ.
قوله "ابن الزبير" مرفوع لأنه اسم كان في قوله: "فكان أول من وقع" و"أول من وقع" منصوب على أنه خبر [مقدم](3).
(1) في "الأصل، ك": "تروا من"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"(1/ 100)، "والتمهيد" لابن عبد البر (16/ 91).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 308 رقم 1179).
(3)
في "الأصل، ك": مقدما، ولعل المثبت هو الصواب.
قوله "إلا أن تدع قرأها" أي إلا أن تترك أيام قرئها، أي حيضها.
قوله: [فتتابعوا](1) أي [فتعاقبوا] في الجواب (2).
"على ذلك" أي كل وجوب الاغتسال عليها عند كل صلاة.
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: نا حماد، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس خاصة، مثله.
غير أنه قال: "تدع الصلاة أيام حيضها" فجعل أهل هذه المقالة على المستحاضة أن تغتسل لكل صلاة، لما ذكرنا من هذه الآثار.
ش: هذا طريق آخر وهو أيضا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن سعيد بن جبير.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع سعيد بن جبير يقول: "كتبت مستحاضة إلى ابن عباس: أن قلت إني أدع الصلاة قدر أقرائي، وأن أغتسل لكل صلاة. قال ابن عباس: ما أجد لها إلا ما في كتابها".
قوله: "فجعل أهل هذه المقالة" أشار به إلى قوله: "فذهب قوم إلى أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل لك صلاة".
وأشار بقوله: "من هذه الآثار" إلى الآثار المذكورة من أول الباب إلى هنا.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: الذي يجب عليها: أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، فتصلي به الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها،
(1) في "الأصل، ك" بالياء المثناة من تحتها: فتتايعوا، ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في المتن؛ فالتتايع لا يكون إلا في الشر، كما قال الأزهري وغيره انظر "لسان العرب".
(2)
في "الأصل، ك" فتعاقدوا، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 308 رقم 1178).
وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا تصليهما به ، فتؤخر الأولى منهما وتُقدِّم الآخرة، كما فعلت في الظهر والعصر، وتغتسل للصبح غسلا.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، ومنصور بن المعتمر، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فإنهم ذهبوا إلى ما ذكره الطحاوي عنهم، ورُوِي ذلك أيضًا عن علي وابن عباس رضي الله عنهم.
ص: وذهبوا في ذلك إلى ما حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا نعيم بن حماد، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمَّد، عن زينب بنت جحش قالت:"سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها مستحاضة، فقال: لتجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل فتصلي، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل وتصلي، وتغتسل للفجر".
ش: أي ذهب هؤلاء الآخرون في ذلك، أي فيما ذهبوا إليه من الذي بيَّنه الطحاوي، إلى ما حدثنا .. وهو حديث زينب بنت جحش.
وإسناده منقطع؛ لأن القاسم لم يدرك زينب أصلا، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
ونعيم بن حماد المروزي الأعور مختلف فيه، وإن كان قد أخرج له الجماعة غير النسائي، فإنه كان يضعفه جدّا وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك، وزينب بنت جحش الأسدية أم المؤمنين رضي الله عنها وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1) عن محمَّد بن
حاتم المروزي، عن حسان بن موسى وسويد بن نصر.
وعن يحيى بن عثمان، عن نعيم بن حماد، قالوا: أنا ابن المبارك
…
إلى آخره نحوه.
(1)"المعجم الكبير"(24/ 56 رقم 145).
قوله: "سألت امرأة" قيل: إنها سهلة بنت سُهَيل، وقيل: هي بادنة بنت غيلان، وقيل: هي أم حبيبة.
قوله: "أيام أقرائها" أي أيام حيضها وهو جمع قرء، وقال ابن سيده: هو الحيض، والطهر ضِدُّ، وذلك أن القرء: الوقت، فقد يكون للحيض والطهر، والجمع أقراء وقروء وأَقْرُؤ، الأخيرة عن اللحياني، ولم يعرف سيبويه أقراء ولا أُقْرُءا (1)، استغنوا عنه بفُعول، وفي التنزيل:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) أراد ثلاثة قروء من قروء (3): وأقرأت المرأة، وهي مقرئ، حاضت وطهرت، وقرأت إذا رأت الدم، والمُقرَّأَة التي يُنْظَر بها انقضاء أقرائها.
وفي "المنتهى" لأبي المعالي: قال تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) وهي أوقات الحيض أو الطهر؛ أراد به الوقت لأن الحيض مؤنثه، ويجوز أنه أراد الطهر، والوقت أصح، قال أهل العراق: هي الحيض. وقال أهل المدينة: هي الطهر، والأصل فيه الوقت على ما بَيَّنَّا، وأقرأت المرأة: حاضت، قيل: قَرَتْ -بلا ألف- يقال: قرت حيضة أو حيضتين، وقيل: أقرأت: انتقلت من وقت إلى وقت، أي من وقت الحيض إلى وقت الطهر، ومن وقت الطهر إلى وقت الحيض.
وقال بعضهم: القرء انفصال الطهر أو الحيض. وقيل: ما بين الحيضتين.
قلت: وفيه حُجة لأبي حنيفة على الشافعي؛ حيث حمل القَرْء على الحيض في باب العِدَّة، والشافعيُّ على الطهر؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يكون معنى قوله:"تجلس أيام أقرائها" أيام طهرها، وإنما المعنى أيام حيضها.
(1) في "الأصل، ك": أَقْرءةً، وهو تحريف، والتصويب من كتاب سيبويه (3/ 575)، و"اللسان"(قرأ).
(2)
سورة البقرة، آية:[228].
(3)
في "الأصل، ك": من قُرْء، والتصويب من "اللسان" وانظر:"الكتاب"(3/ 569، 575) و"المقتضب" للمبرد (2/ 156 - 157).
ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه: "أن امرأة استحيضت من المسلمين، فسألوا النبي عليه السلام
…
" ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: "نحو أيامها".
ش: إسناده منقطع، لأن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم لم يدرك النبي عليه السلام.
وأخرجه أبو داود تعليقا (1): وقال: رواه ابن عُيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: "أن امرأة استحيضت، فسألت النبي عليه السلام، فأمرها
…
"، بمعناه.
قلت: يعني بمعنى الحديث الذي قبله، وهو حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أن سهلة بنت سهيل استُحيضت، فأتت النبي عليه السلام فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح".
وأخرجه أبو داود (2): عن عبد العزيز بن يحيى، عن محمد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة.
ويستفاد من هذا الحديث: أن هذه المرأة كانت مُعْتَادة مُمَيِّزة؛ لأنه قال: فيه "قدر أيامها" أي لتجلس قدر أيامها المعتادة في الحيض، لا تصوم ولا تصلي. ثم إذا خرجت أيامها تغتسل، وتؤخر الظهر وتعجل العصر، كما مر بيانه آنفا.
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا بشر بن عمر، قال: أنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أن امرأة استحيضت على عهد النبي عليه السلام فأمرت .. " ثم ذكره نحوه، غير أنه لم يذكر تركها الصلاة أيام أقرائها ولا أيام حيضها.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 79) عقب الحديث رقم (295).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 79 رقم 295).
ش: إسناده صحيح، وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"استحيضت امرأة على عهد رسول الله عليه السلام فأمرت أن تُعَجِّل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا، وتغتسل لصلاة الصبح. فقلت لعبد الرحمن: أعن النبي عليه السلام؟ فقال: لا أحدثك عن النبي عليه السلام بشيء".
وأخرجه النسائي (2): وقال: أنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أن امرأة مستحاضة على عهد رسول الله عليه السلام قيل لها: إنه عرق عاند، وأمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا واحدا".
وذكر الدارمي في "سننه"(3): أن المرأة المذكورة هي بادية بنت غيلان الثقفية، وقال: أخبرنا أحمد بن خالد، ثنا محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم:"أنها كانت بادية بنت غيلان الثقفية" وعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:"إنما هي سهلة بنت سهيل بن عمرو، واستحيضت، وأن رسول الله عليه السلام كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما (4) جهدها ذلك، أمر أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح". أخبرنا أحمد بن خالد، ثنا محمَّد بن إسحاق، عن سعد بن إبراهيم، قال إنما جاء اختلافهن، لأنهن كنا عند عبد الرحمن بن عوف، فقال بعضهم: هي أم حبيبة، وقال بعضهم: هي بادنة، وقال بعضهم: هي سهلة بنت سهل.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 79 رقم 294).
(2)
"المجتبى"(1/ 122 رقم 213).
(3)
"سنن الدارمي"(1/ 222 رقم 784).
(4)
سقطت ورقة من ها هنا ووضعت خطأ برقم 175 من المخطوط، فأعدتها إلى موضعها، وتكررت كلمة "فلما" في أول الصفحة.
وقال ابن الأثير: في كتاب "الصحابة" في حرف الباء الموحدة: بادنة (1) بنت غيلان الثقفية، روى القاسم بن محمَّد، عن عائشة:"أن بادنة بنت غيلان أتت النبي عليه السلام فقالت: إني لا أقدر على الطهر، أفأترك الصلاة؟ فقال: ليست تلك بالحيضة، إنما ذلك عرق، فإذا ذهب قرء الحيض فارتفعي عن الدم، ثم اغتسلي وصلي".
و [بادنة هذه](2) هي التي قال عنها: هيت المخنث: "تقبل بأربع وتدبر بثمان"، أخرجها ابن منده وأبو نعيم (3).
قوله: "أُستُحيضت" بضم الهمزة والتاء، معناه: استمر بها الدم.
قوله: "عرق عاند"، بالنون: من العِناد، شُبِّه به لكثرة ما يخرج منه على خلاف عادته، وقيل: العاند الذي لا يرقأ، وقيل: العاند السائر.
ومما يستفاد منه: وجوب الغسل ثلاث مرات في كل يوم وليلة، ثم إن النبي عليه السلام إنما أمرها بتعجيل العصر وتأخير الظهر، والاغتسال لهما غسلا واحدا، لما رأى أن الأمر قد طال عليها، وقد جَهَدَها الاغتسال لكل صلاة، ورخص لها في الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، كالمسافر الذي رخص له الجمع بين الصلاتين، على مذهب من يرى ذلك.
وفيه حجة لمن رأى للمتيمم أن يجمع بين صلاتي فرضٍ بتيمم واحد؛ لأن علتهما واحدة، وهي الضرورة.
ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: نا خالد بن عبد الله، عن سهيل، عن الزهري، عن عروة، عن أسماء بنت عُمَيْس، قالت: "قلت: يا رسول الله، إن فاطمة ابنة أبي حُبَيش أُستُحِيضَتْ منذ كذا وكذا فلم تُصلِّ، فقال:
(1) الذي في "أسد الغابة" لابن الأثير: بادية، بالياء، آخر الحروف.
(2)
في "الأصل، ك": "هذه بادنة".
(3)
أي في الصحابة، وانظر "الإصابة":(7/ 529).
سبحان الله، هذا من الشيطان، لتَجْلِس في مِرْكَنٍ، فإذا رأت صُفْرَة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، ثم تغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتتوضأ فيما بين ذلك".
فقوله: "فيما بين ذلك" يحتمل: تتوضأ لما يكون بها من الأحداث التي يُوجَبُ بها نقضُ الطهارات، ويحتمل: تتوضأ للصبح، فليس فيه دليل على خلاف ما تقدمه من حديث شعبة وسفيان.
قالوا: فهذه الآثار قد رويت عن النبي عليه السلام كما ذكرنا في جمع الظهر والعصر بغسل واحد، فبهذا نأخذ، وهي أولى من الآثار الأُوَل التي فيها ذكر الأمر بالغسل لكل صلاة؛ لأنه قد رُوي ما يدل على أن هذا هو ناسخ لذلك، فذكروا ما:
حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"إن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت، وإن النبي عليه السلام كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح".
قالوا: فدلَّ ذلك على أن هذا الحكم ناسخ للحكم الذي في الآثار الأُوَل، لأنه إنما أمر به بعد ذلك، فصار القول به أولى من القول بالآثار الأُوَل.
ش: حديث أسماء بنت عُمَيْس من جملة ما احتجت به أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من ثلاث اغتسالات: غسل للظهر والعصر، وغسل للمغرب والعشاء، وغسل للصبح.
ورجال إسناده ثقات، إلا أن يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحِمّاني فيه كلام كثير؛ ضعفه ناس ووثقه آخرون، ونسبته إلى حمان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم- قبيلة من تميم.
وأخرجه أبو داود (1): نا وهب بن بقية، قال: نا خالد، عن سهيل بن أبي صالح، عن الزهري
…
إلى آخره نحوه سواء، إلا أن في لفظه:"فإذا رأت صَفَارة" وزيادة قوله: "وتغتسل للفجر غسلا"، وبعده قوله:"وتتوضأ فيما بين ذلك" كما في رواية الطحاوي.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): عن محمود بن محمَّد الواسطي، عن وهب بن بقية، قال: نا خالد
…
والباقي مثل رواية أبي داود سواء.
وأخرجه [الدارقطني](3) في "سننه": نا محمَّد بن مخلد، نا محمَّد بن عبد الواحد ابن مسلم الصيرفي، ثنا علي بن عاصم، عن سهيل بن أبي صالح، أخبرني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت عميس، قالت:"قلت: يا رسول الله، فاطمة بنت أبي حبيش لم تصل منذ كذا وكذا، قال: سبحان الله، إنما ذلك عرق -فذكر كلمة بعدها -أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، وتؤخر من الظهر وتعجل من العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتؤخر من المغرب وتعجل من العشاء وتغتسل لهما غسلا وتصلي" وهذا ليس في روايته: "وتغتسل للفجر" مثل رواية الطحاوي، ولا فيها:"وتتوضأ فيما بين ذلك" كما هو في رواية الطحاوي، وأبي داود.
قوله: "منذ كذا وكذا" منذُ: مبني على الضم، كما أن "منذ" مبني على السكون، وكل منهما يكون حرف جر فيجر ما بعده، ويجري مجرى "في" ولا يدخل -حينئذ- إلا على زمان أنت فيه تقول:"ما رأيته منذ الليلة" وتكون اسما فترفع ما بعده على التاريخ أو على التوقيت، فنقول في التاريخ:"ما رأيته منذ يوم الجمعة" أي أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة، وفي التوقيت:"ما رأيته منذ سنة" أي أمَدُ ذلك سنة.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 79 رقم 296).
(2)
"المعجم الكبير"(24/ 139 رقم 370).
(3)
في "الأصل، ك": البيهقي، وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب الدارقطني في "السنن"(1/ 216 رقم 54) عن محمَّد بن مخلد به.
و"كذا" عبارة عن العهد المبهم.
قوله: "سبحان الله" تعجب واستبعاد لفعلها ذلك.
قوله: "هذا من الشيطان" له معنياه:
الأول: مجازي، وهو أنه أنساها أيام حيضها حتى حصل لها تَلَبُّس في أمر دينها ووقت طهرها وصلاتها.
والثاني: حقيقي بمعنى أنه ضَرَبها حتى فتق منها عرق الاستحاضة.
قوله: "في مِرْكَنٍ" بكسر الميم وهي الإجانة.
ويُستفاد منه حكمان:
الأول: وجوب تكرار الغسل كما تقدم، قبل هذا.
والثاني: فيه حجة من اعتبر التمييز باللون؛ لأن رؤيتها الصفرة دليل على انقطاع دم الحيض.
قوله: "فقوله له فيما بين ذلك
…
" إلى آخره كأنه جواب عن سؤال مقدر، تقريره، أن يقال: إن حديث أسماء بنت عميس الذي احتججتم به مخالف لأحاديث شعبة والثوري وابن عيينة التي احتججتم بها أولا من وجهين:
الأول: أنه ليس فيها "وتتوضأ فيما بين ذلك".
والثاني: فيها "وتغتسل للفجر"، وليس هذا في حديث أسماء بنت عميس.
فأجاب عنه بقوله: "وتتوضأ فيما بين ذلك، يحتمل أن يكون المراد أنها تتوضأ لما يكون بها من الأحداث التي يُوجب بها نقض الطهارات" يعني: إذا أرادت أن تصلي فيما بين الصلوات صلاة أخرى تتوضأ ولا تكتفي بالاغتسال؛ لأنه للفرائض المختصة بالأوقات الخمس، ويحتمل أن يكون المراد: أنها تتوضأ لصلاة الصبح، فعلى كلا التقديرين، ليس فيه دليل على خلاف ما تقدمه من حديث شعبة الذي رواه عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أن امرأة استحيضت". ولا من
حديث سفيان وسفيان، وأراد بالأول: سفيان الثوري، وحديثه: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمَّد، عن زينب ابنة جحش.
وبالثاني: سفيان بن عُيينة، وحديثه: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: "أن امرأة استحيضت
…
" الحديث.
قوله: "فهذه الآثار" أراد بها الآثار التي رواها شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عُيينة والزهري، عن عروة.
قوله: "فبهذا نأخذ" أي: "بما في هذه الآثار، وهذا حكايته عن أهل المقالة الثانية، ثم بيَّنَ وجه الأخذ بهذه الآثار بقوله: "وهي أولى من الآثار الأُوَلِ" وهي التي احتجت بها أهل المقالة الأولى التي فيها وجوب الغسل لكل صلاة من الصلوات الخمس؛ وذلك لأنه قد رُوي عن النبي عليه السلام ما يدل على أن هذا ناسخ لتلك الآثار.
ثم أشار إلى الحديث الناسخ لتلك الأحاديث بقوله: "فذكروا ما حدثنا ابن أبي داود .. " إلى آخره، وهو حديث سهلة بنت سهيل.
ثم بين وجه النسخ بقوله: "لأنه إنما أمر به بعد ذلك" أي: لأن النبي عليه السلام أمر بما في حديث سهلة بنت سهيل بعد أن أمر بما في الأحاديث الأوُل، ولاشك أن مثل هذا نسخ؛ لأن النسخ هو رفع الحكم الأول، فلما أمر أولا بالاغتسال لكل صلاة من الصلوات الخمس، ثم أمر بعد ذلك أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، وبين المغرب والعشاء بغسل واحد، وتصلي الصبح بغسل واحد؛ دل أن هذا رَفعَ حكم الأول.
ورجال هذا الحديث ثقات.
والوهبي هو أحمد بن خالد بن محمَّد، أحد مشايخ البخاري، نسبه إلى والد عبد الله بن وهب.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدثني محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"أن سهلة بنت سهيل استحيضت، فأتت النبي عليه السلام فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصُّبح".
قوله "فلما جَهِدَهَا" بكسر الهاء، أي فلما شق عليها الاغتسال، من: جَهِده الشيء -بكسر الهاء- جَهدا -بالفتح- والجُهد -بالضم- الطاقة، وقيل: هما لغتان في الوِسْع والطاقة.
ص: وقالوا: وقد رُوي ذلك أيضا عن علي وابن عباس رضي الله عنهم فذكروا ما حدثنا ابن أبي داود، قال: نا أبو معمر، قال: نا عبد الوارث، قال: نا محمَّد بن جحادة، عن إسماعيل بن رجاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "جاءته امرأة مستحاضة تسأله، لم يفتها وقال لها: سلي [غيري](2) قال: فأتت ابن عمر رضي الله عنهما فسألته، فقال لها: لا تصلي ما رأيت الدم. فرجعت إلى ابن عباس فأخبرته، فقال رحمه الله: إن كاد ليُكفِرْك، قال: ثم سألت علي بن أبي طالب فقال: تلك ركزة من الشيطان -أو قرحة في الرحم- اغتسلي عند كل صلاتين مرَّة وصلي. قال: فَلَقِيَت ابن عباس بعد فسَألتْه، فقال: ما أجد لك إلا ما قال علي رضي الله عنه.
حدثنا ابن خزيمة، قال: أنا الحجاج، قال: أنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال:"قيل لابن عباس: إن أرضنا أرض باردة. قال: تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا وتغتسل للفجر غسلا".
فذهب هؤلاء إلى الآثار التي ذكرنا.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 79 رقم 295).
(2)
سقطت من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"(1/ 101).
ش: أي قال أهل المقالة الثانية أيضا: روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس مثل ما ذهبنا إليه، فذكروا ما رواه الطحاوي عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو المقعد البصري، شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد البصري، عن محمد بن جُحَادة -بضم الجيم وفتح الحاء المهملة- الأودي الكوفي، عن إسماعيل بن رجاء الكوفي، عن سعيد بن جبير.
وهذا على شرط مسلم.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): قال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه:"في المستحاضة تؤخر من الظهر وتعجل من العصر، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء -قال: وأظنه قال: وتغتسل للفجر- قال: فذكرت ذلك لابن الزبير وابن عباس، فقالا: ما نجد لها إلا ما قال علي رضي الله عنه".
وإسناد الأثر الثاني أيضا صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد أبي عبد الملك المكي، عن مجاهد
…
إلى آخره.
وأخرجه الدارمي في "سننه"(2): أنا الحسن بن ربيع، نا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء، قال:"كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في المستحاضة: تغتسل غُسلا للظهر والعصر، وغُسلا للمغرب والعشاء، وكان يقول: تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء".
قوله: "إن كاد ليُكَفِرُك" أي إنه كاد، و"اللام" في "ليكفرك" للتأكيد، ومعناه أنه قارب أن يكفرك، بأمره لها بترك الصلاة، وهي من أفعال المقاربة، ولا يستعمل منه إلا الماضي والمضارع؛ إلا ما سمع نادرا، وحكمه حكم سائر الأفعال في أن معناه منفي إذا صحبها حرف نفي، فإذا قال القائل: كاد زيد يبكي،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 120 رقم 1362).
(2)
"سنن الدارمي"(1/ 225 رقم 804).
فمعناه: قارب زيد البكاء، فالمقاربة ثابتة، ونفس البكاء منتف، وكذلك المعنى ها هنا: المقاربة ثابتة، ونفس التكفير منتف.
قوله "تلك ركزة من الشيطان" بفتح الراء من ركزت الرمح أَرْكُزُهُ رَكْزا، إذا غرزته في الأرض، وهو يحتمل الحقيقة بأن يركز الشيطان في فرجها، ويفتق عرق الاستحاضة، ويحتمل المجاز بأن يكون المعنى أنه وَجَدَ بذلك طريقا إلى أن يُلبِّس عليها أمر دينها، بأن أنساها أيام عادتها وأقرائها.
قوله: "أو قرحه في الرحم" أي جراحة وانكشاف لعرق في الرحم.
قوله: "اغتسلي عند كل صلاتين" أراد بهما: الظُّهرين والعشاءين.
ويستفاد منه:
أن الواجب على المستحاضة أن تجمع بين كل صلاتين بغسل واحد، بأن تؤخر الظهر وتعجل العصر كما مرَّ بيانه.
وأن ترك الصلاة قريب من الكفر.
وأن لعلي بن أبي طالب مزية فضيلة على غيره في العلم، وجلالة قدر.
قوله: "إن أرضنا" أراد بها أرض الكوفة لأن المستفتية كانت منها.
قوله: "فذهب هؤلاء" أي أهل المقالة الثانية.
"إلى هذه الآثار" وهي الأحاديث المذكورة عن شعبة والثوري وابن عيينة والزهري، عن عروة والقاسم بن محمَّد، عن عائشة، والأثر الذي روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: تدع المستحاضة الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي.
ش: أي خالف أهل المقالة الأولى وأهل المقالة الثانية؛ جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، وعبد الله بن المبارك، وعروة بن الزبير، وأبا سلمة بن عبد الرحمن،
وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد وأصحابهم، "فإنهم قالوا: تدع"، أي: تترك، "المستحاضة الصلاة أيام أقرائها"، أي: حيضها. "ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي".
وقال ابن حزم: وممن قال بإيجاب الوضوء على المستحاضة: عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفقهاء المدينة وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمَّد وسالم بن عبد الله ومحمد بن علي بن الحسن. و [عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري](1) وهو قول سفيان الثوري [وأبي حنيفة](1) والشافعي وأحمد وأبي عبيد [وغيرهم](1).
ص: وذهبوا في ذلك إلى ما حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس السوسي، قال: نا يحيى بن عيسى، قال: نا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة:"أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله، إنني أستحاض فلا ينقطع عني الدم. فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي؛ وإن قطر الدم على الحصير قطرا".
ش: أي ذهب هؤلاء الآخرون، فيما ذهبوا إليه من ترك الصلاة أيام الأقراء والاغتسال والتوضؤ لكل صلاة، إلى حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها وإسناده على شرط مسلم.
وأخرجه وابن ماجه (2): ثنا علي بن محمَّد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي عليه السلام[فقالت](3): يا رسول الله،
(1) ما بين المعكوفات لم يظهر في المصورة واستدركته من "المُحَلَّى"(1/ 252).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 204 رقم 624).
(3)
في "الأصل، ك": فقال، وهي على الصواب عند ابن ماجه.
إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وإن قطَر الدم على الحصير".
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا محمَّد بن موسى بن سهل البربهاري، ثنا محمَّد بن معاوية بن صالح، ثنا علي بن هاشم، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة قالت:"أتت فاطمة بنت أبي حبيش النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله، إني استُحِضْتُ فما أطهر فقال: ذري الصلاة أيام حيضتك، ثم اغتسلي، وتوضئي عند كل صلاة؛ وإن قطر الدم على الحصير".
ثم قال الدارقطني: [تابعه](2) وكيع الخُرَيبي وقرة بن موسى ومحمد بن ربيعة وسعيد بن محمَّد الوراق وابن نمير، عن الأعمش فرفعوه، ووقفه حفص بن غياث وأبو أسامة وأسباط بن محمَّد، وهم أثبات.
ثم سرد الدارقطني سند المتابعين، وسند الواقفين.
قلت: هذا الحديث صحيح عند الطحاوي؛ لأن رواته من رجال صحيح مسلم، ماخلا شيخه.
وقال البيهقي (3): وأشهر حديث روى فيه العراقيون -يعني في حكم المستحاضة- ما أخبرنا أبو علي الرُّوذَبَارِي، قال: أنا أبو بكر بن داسة، قال: ثنا أبو داود، قال: نا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة قالت:"جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي عليه السلام" فذكر خبرها، قال:"ثم اغتسلي، ثم توضئي لكل صلاة، وصلِّي"[قال الإِمام أحمد](4): وزاد فيه
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 211 رقم 33).
(2)
في "الأصل، ك": تابع، والمثبت من "سنن الدارقطني".
(3)
"معرفة السنن والآثار"(1/ 379).
(4)
كذا في "الأصل، ك" والمتبادر إلى الذهن أنه الإِمام أحمد بن حنبل، وهو خطأ وإنما هو أحمد بن =
غيره عن وكيع: "وإن قطر الدم على الحصير" وهذا حديث ضعيف، ضعفه يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وقال سفيان الثوري: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئًا.
وقال أبو داود: حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت ضعيف، ورواه حفص بن غياث عن الأعمش فوقفه على عائشة، وأنكر أن يكون مرفوعا، ووقفه أيضا أسباط عن الأعمش، ورواه أيوب أبو العلاء، عن الحجاج بن أرطأة، عن أم كلثوم، عن عائشة، وعن ابن شُبْرُمة، عن امرأة مسروق، عن عائشة، عن النبي عليه السلام قال أبو داود: حديث أيوب أبي العلاء ضعيف لا يصح. انتهى.
قلت: حاصل الكلام أنهم علّلوا الحديث من جهة المتن ومن جهة الإسناد، أما من جهة المتن فإنهم أنكروا أن يكون فيه الوضوء لكل صلاة، وأما من جهة الإسناد فإنهم أنكروا أن يكون هذا الحديث مرفوعا.
والجواب عن ذلك: أنه إن كان حفص بن غياث وأسباط روياه موقوفا على عائشة، فكذلك رواه وكيع وسعيد بن محمَّد الوراق وعبد الله بن نمير والجُرَيْرِي مرفوعا، فترجح رواياتهم؛ لأنها زيادة ثقة، ولأنهم أكثر عددا، وتحمل رواية من وقفه على عائشة أنها سمعته من النبي عليه السلام فروته مرة، وأفتت به مرة أخرى.
فإن قيل: قال أبو داود: ودلّ على ضعف [حديث](1) حبيب هذا أن رواية الزهري عن عروة عن عائشة، قالت:"فكانت تغتسل لكل صلاة" في حديث المستحاضة.
الحسين، أي البيهقي، راجع "المعرفة" المصدر السابق.
(1)
سقط من "الأصل، ك"، واستدركتها من "سنن أبي داود"(1/ 80 رقم 300).
و (لذا علل البيهقي في تضعيف حديث حبيب)(1).
قلت: هذا لا يدل على ضعف حديث حبيب؛ لأن الاغتسال لكل صلاة في رواية الزهري مضاف إلى فعلها، ويحتمل أن يكون اختيارا منها، بل الظاهر أنها فعلته تطوعا كما ذكرنا تحقيقه، والوضوء لكل صلاة في حديث حبيب مروي عنه عليه السلام، ومضاف إليه وإلى أمره، فافهم.
فإن قلت: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة؛ لأن سفيان الثوري وغيره قالوا: لم يسمع حبيب من عروة شيئا.
قلت: ادعى مسلم الاتفاق على أنه يكفي إمكان اللُّقيا في ثبوت السماع، وحبيب لا ينكر لقاؤه عروة؛ لروايته عمن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم موتا، وقال أبو عمر: لا نشك أنه أدرك عروة.
وقال أبو داود في كتاب "السنن"(2) وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثا صحيحا انتهى كلامه.
وهذا يدل ظاهرا على أن حبيبا سمع من عروة، وهو مثبت، فيقدم على ما زعمه الثوري لكونه نافيا.
والحديث الذي أشار إليه أبو داود هو أنه عليه السلام كان يقول: "اللهم عافني في جسدي وعافني في بصري" الحديث، ورواه الترمذي قال: حسن غريب (3).
ثم اعلم أنه قد روى هذا الحديث -أعني حديث فاطمة بنت حبيش- غير حبيب عن عروة، ورواه غير عروة عن عائشة، خرّجه الطحاوي على ما يأتي، وغيره أيضًا من المصنفين.
(1) كذا وردت العبارة في "الأصل"، ولعل الأقرب: وكذا .. ، على أنها -أيضًا- لا تكاد تستقيم.
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 46) عقب الحديث رقم (180).
(3)
"جامع الترمذي"(5/ 518 رقم 3480) وزاد: سمعت محمدًا -أي البخاري- يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئًا، والله أعلم.
وذكر ابن رشد في "قواعده" حديث عائشة: "جاءت فاطمة
…
" إلى آخره، ثم قال: وفي بعض رواياته: "وتوضئي لكل صلاة"، وصحح قوم من أهل الحديث هذه الزيادة.
وقال في موضع آخر: صححها أبو عمر بن عبد البر، وجاء أيضا في حديث عثمان الكاتب، عن ابن أبي مليكة، في قصة فاطمة بنت أبي حبيش:"لتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها، ولتغتسل لكل يوم غسلا واحدا، ثم الطهور عند كل صلاة"(1).
فإن قيل: قال البيهقي في "السنن"(2): وعثمان ليس بالقوي، وتابعه الحجاج ابن أرطاة وليس بالقوي.
وقال في باب المعتادة لا تميز بين الدمين (3): حديث عثمان الكاتب ضعيف.
قلت: خالف في ذلك شيخه الحاكم؛ فإنه أخرج حديث عثمان هذا في المستدرك (4) وقال: صحيح لم يخرجاه بهذا اللفظ، وعثمان الكاتب بصري ثقة عزيز الحديث (5).
ثم اعلم أن الأئمة الأربعة ومن تابعهم استدلوا بهذا الحديث على أن المستحاضة تترك الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، ولكن اختلفوا [في](6) أن وضوءها للصلاة أو لوقت الصلاة؟
(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 283 رقم 623) والدارقطني في "سننه"(1/ 217 رقم 56) والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 354 رقم 1548).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 355 رقم 1551).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 331).
(4)
"المستدرك"(1/ 283 رقم 623).
(5)
أكثر العلماء على تضعيف عثمان، وانظر ترجمته في "التهذيب"(4/ 77) وغيره.
(6)
ليست في "الأصل، ك".
فعند أبي حنيفة وأصحابه: لوقت الصلاة، حتى لو توضأت في أول الوقت فلها أن تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل، ما لم يخرج الوقت؛ وإن دام السيلان.
وعند الشافعي: إن كان العذر من أحد السبيلين، كالاستحاضة وسلس البول وخروج الريح، تتوضأ لكل فرض وتصلي ما شاءت من النوافل.
وقال مالك، في أحد قوليه: تتوضأ لكل صلاة.
كذا في "البدائع"(1).
وفي "المغني"(2) لابن قدامة: وأكثر أهل العلم على أن الغسل عند انقضاء الحيض، ثم الوضوء لكل صلاة يُجْزِئْهَا، وقد قيل: لا يجب عليها الوضوء لكل صلاة، وهو قول مالك وربيعة وعكرمة؛ لأن ظاهر حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قصة فاطمة بنت أبي حُبيش، الغسل فقط؛ فإنه قال:"فاغتسلي وصلي"، ولم يقل:"وتوضئي لكل صلاة"، وحديث الترمذي فيه:"وتوضئي لكل صلاة"، وهذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة. ثم قال: وحكم طهارة المستحاضة حكم التيمم، في أنها إذا توضأت في الوقت صلَّتْ صلاة الوقت، وقضت الفوائت، وتطوعت، حتى يخرج الوقت، نص أحمد على هذا.
ومذهب الشافعي أنها لا تجمع بطهارتها بين فرضين؛ فلا تقضي فائتة، ولا تجمع بين صلاتين، كقولهم في التيمم وحجته. قوله عليه السلام:"توضئي لكل صلاة" ولنا أنه رُوي في بعض ألفاظ حديث بنت أبي حبيش: "توضئي لوقت كل صلاة".
رُوي "التمهيد"(3): كان عروة يفتي بأن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وذلك عند مالك على الاستحباب لا على الإيجاب، وروى مالك في موطئه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا، ثم تتوضأ
(1)"بدائع الصنائع"(1/ 27).
(2)
"المغني"(1/ 221) بتصرف واختصار.
(3)
"التمهيد"(22/ 109 - 110) باختصار وتصرف.
بعد ذلك لكل صلاة"، قال مالك: الأمر عندنا على حديث هشام بن عروة عن أبيه، وهو أحب ما سمعت إليّ في ذلك، وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة.
وقال البيهقي في "المعرفة"(1): قال الشافعي في كتاب الحيض: قال يعني بعض العراقيين: أمَا إنَّا روينا أن النبي عليه السلام أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة قال الشافعي: نعم قد رويتم ذلك، وبه نقول، قياسا على سنة رسول الله عليه السلام في الوضوء مما خرج من دبر أو ذكر أو فرج، ولو كان هذا محفوظا كان أحب إلينا من القياس.
فأشار الشافعي إلى أن الحديث الذي رُوي فيه غير محفوظ.
قلت: يلزم على قياس الشافعي أن لا تختص المستحاضة بفرض واحد كالوضوء مما يخرج من أحد السبيلين.
فإن قال: الفرق أن حدث المستحاضة بعد الفرض موجود قائم.
قلنا: فوجب أن لا [تصلي](2) بعد ذلك نافلة.
وفي كون الشافعي لم يجوِّز لها أن تصلي فرضين بطهارة واحدة؛ دليل على أنه عمل بحديث المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، لا بالقياس على ما ذكر، ثم إنه خصص العموم وجوز من النوافل ما شاءت، وجعل التقدير: لكل صلاة فرض، فلما أضمر ذلك، فلخصمه أن يُضْمر الوقت، ويقول: التقدير لوقت كل صلاة، كقوله عليه السلام "إن للصلاة أولا وآخرا، وأينما أدركتني الصلاة تيممت" وذلك لأن ذهاب الوقت عُهِدَ مبطلا للطهارة، كذهاب مدة المسح. والخروج من الصلاة لم يعهد مبطلا للطهارة، وكذا الحدث يعم الفريضة والنافلة، وكذا القياس الذي ذكره الشافعي، فَعُلِمَ أنه لم يطرد القياس.
وقال ابن حزم (3): قول مالك في هذا الباب خطأ لأنه خلاف للحديث الوارد في
(1)"معرفة السنن"(1/ 379).
(2)
في "الأصل، ك": يُصلي وهو تصحيف.
(3)
"المحلى"(1/ 254).
ذلك، وقول الشافعي وأحمد كذلك خطأ؛ لأن من المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهرا إن أراد أن يصلي تطوعا، ومحدثا غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة، فإن كانت طاهرة فلها أن تصلي،
ما شاءت من الفرائض والنوافل، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلي لا نافلة ولا فريضة.
وقول أبي حنيفة فاسد أيضا؛ لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به، ومخالف للمعقول والقياس، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت، وتصح يكون الوقت قائما.
قلت: تشنيعه على أبي حنيفة باطل؛ لأن قوله غير مخالف للخبر الذي تعلق به، فإن في بعض ألفاظه:"توضئي لوقت كل صلاة".
على ما ذكره صاحب "المغني"(1).
وكذا قوله: مخالف للمعقول والقياس باطل أيضا؛ لأن ذهاب الوقت قد عُهِدَ مبطلا للطهارة، كذهاب مدة المسح، فكيف يشنع ويقول: وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت (2)؟!
ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا عبد الله بن يزيد المقرى، قال: ثنا أبو حنيفة.
وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: نا أبو حنيفة، عن هشام بن عروة، عن
(1)"المغني"(1/ 221).
(2)
قد أجاب ابن حزم على هذه المسألة في نفس الموضع فقال: وما انتقضت قط طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور، بل هو طاهر كما هو ما لم ينتقض وضوؤه يحدث من الأحداث، وإنما جاءت السُّنة بمنعه من الابتداء للمسح فقط لا بانتقاض طهارته. اهـ (1/ 254).
أبيه، عن عائشة:"أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي عليه السلام فقالت: إنني أحيض الشهر والشهرين، فقال عليه السلام: إن ذلك ليس بحيض، وإنما ذلك عرق من دمك، فإذا أقبل فدعى الصلاة، وإذا أدبر فاغتسلي لطهرك، ثم توضئي عند كل صلاة".
ش: هذان طريقان صحيحان.
الأول: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد القرشي المقرئ القصير، عن الإِمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة.
وأخرجه البيهقي (1) أيضا من حديث أبي حنيفة.
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم، عن أبي حنيفة
…
إلى آخره.
وأخرج السراج في "مسنده" عن هناد بن السري، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، نحو رواية أبي حنيفة.
فإن قيل: قال البيهقي في هذا الحديث: ورواه أبو حنيفة، عن هشام، وفيه:"توضئي لكل صلاة" الصحيح أن هذا من قول عروة.
قلت: قد وصلها الحمادان وغيرهما بكلامه عليه السلام، أما حماد بن زيد فقد قال النسائي (2): أخبرنا يحيى بن حبيب، قال: ثنا حماد -وهو ابن زيد- عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش، فسألت النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال رسول الله عليه السلام: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي، فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة. قيل له: فالغسل؟ قال: ذلك لا يشك فيه أحد".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 344 رقم 1516).
(2)
"المجتبى"(1/ 123 رقم 217).
قال أبو عبد الرحمن (1): لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث: "وتوضئي" غير حماد بن زيد، وقد روى غير واحد عن هشام ولم يذكر فيه:"وتوضئي".
وأما حماد بن سلمة فقد قال الدارمي في "سننه"(2): أنا حجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض أفأترك الصلاة؟ قال [لا] (3) إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي".
وأخرجه الترمذي (4): وصححه من طريق وكيع وعَبدة وأبي معاوية، عن هشام
…
وقال في آخره: وقال أبو معاوية في حديثه: "وقال: توضئي لكل صلاة".
ورواه أبو عوانة أيضًا: عن هشام، أخرجه الطحاوي في كتاب "الرد على الكرابيسي" من طريقه بسند جيد، على أن حماد بن زيد لو انفرد بذلك لكان كافيا؛ لثقته وحفظه لا سيما في هشام، فإن صح السند الذي جعل فيه من كلام عروة، يحمل على أنه سمعها، فرواها مرة كذلك، ومرة أخرى أفتى بهذا، وهذا أولى من تخطئة من وصلها بكلامه عليه السلام كيف وقد روي ذلك مرفوعا في رواية هشام عن عروة كما مرّ.
ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على شريك، عن أبي اليقظان.
وحدثنا فهد، قال: نا محمَّد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام قال:
(1) هو الإِمام النسائي.
(2)
"سنن الدارمي"(1/ 220 رقم 779).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن الدارمي".
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 217 رقم 125).
"المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصوم وتصلي".
ش: هذان طريقان:
أحدهما: عن علي بن شيبة بن الصلت الكوفي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم.
قال: قرأت على شريك بن عبد الله النخعي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدا، ومسلم في المتابعات.
عن أبي اليقظان عثمان بن عمير البجلي الكوفي الأعمى، فيه كلام كثير، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي، وثقه أبو حاتم وأحمد، وقال أبو حاتم أيضا: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة وقاضيهم.
وأبوه ثابت: وثقه ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم فيمن اسمه ثابت ولم يُنْسَب، وقال: ثابت الأنصاري، والد عدي بن ثابت، روى عنه ابنه عدي بن ثابت، وجده -أبو أمه- عبد الله بن يزيد. كذا قال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل".
وقال الترمذي (1): سألت محمدا عن هذا الحديث فقلت له: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي ما اسمه؟ فلم يعرف محمَّد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين: إن اسمه دينار، فلم يعبأ به.
وقال الدارقطني: لا يصح من هذا كله شيء.
وذكر ابن حبان في كتاب "الثقات" أن ثابتا هذا هو ابن عبيد بن عازب، ابن أخي البراء بن عازب الصحابي.
(1)"جامع الترمذي"(1/ 220 رقم 127).
وقال أبو عمر: شهد عبيد وأخوه البراء مع علي رضي الله عنه مشاهده كلها، وهو جد عدي بن ثابت، روى في الوضوء والحيض.
والترمذي أخرجه من (1): هذا الطريق وقال: نا قتيبة، قال: نا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام أنه قال في المستحاضة:"تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي".
قال أبو عيسى: هذا حديث قد تفرد به شريك عن أبي اليقظان.
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن سليمان الكوفي أبي جعفر الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): نا محمَّد بن جعفر بن زياد، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام في المستحاضة:"تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة" وزاد عثمان: "وتصوم وتصلي".
وأخرجه ابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسماعيل بن موسى، قالا: ثنا شريك
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه الدارمي في "سننه"(4): عن محمَّد بن عيسى، عن شريك .. إلى آخره نحوه.
وهذا الحديث من قبيل رواية الأبناء عن الآباء عن الأجداد، نحو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وطلحة بن مصرف عن أبيه عن جده، وهذا النوع مما يحتج به أهل العلم. ولكنهم اختلفوا في عمرو بن
(1) جامع الترمذي (1/ 220 رقم 126).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 80 رقم 297).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 204 رقم 625).
(4)
"سنن الدارمي"(1/ 223 رقم 793).
شعيب عن أبيه عن جده، وأكثرهم على الاحتجاج بحديثه، حملا لمطلق الجد فيه على الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، دون ابنه محمَّد والد شعيب؛ لما ظهر من إطلاقه ذلك.
وجدّ بهز: معاوية بن حَيْدَة القُشَيري.
وجد طلحة: عمرو بن كعب اليامي.
وجد عُدي: عبيد بن عازب، أو عبد الله بن يزيد على ما ذكرنا.
وفيه حجة لأبي حنيفة في حمله القُرء على الحيض، خلافا للشافعي.
ص: قالوا: وقد روي عن علي رضي الله عنه، ذلك فذكروا ما: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي ابن ثابت، عن أبيه عن علي مثله، يعني مثل حديثه عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، قالوا: فبما رويناه عن رسول الله عليه السلام وعن علي رضي الله عنه نقول.
ش: أشار بهذا إلى أن الحديث المذكور كما روي مرفوعا، رُوي أيضا موقوفا على علي بن أبي طالب عليه السلام، برجال الطريق الثاني من الطريقين المذكورين آنفا.
وقال أبو داود بعد أن أخرج حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده: ورواه أبو اليقظان عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن علي عليه السلام، وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي": صوابه: عدي بن أبان بن ثابت بن قيس الظفري، فنسب إلى جده: وأبان لا يعرف.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه مثله.
قوله: "قالوا" أي أهل المقالة الثالثة.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 120 رقم 1365).
قوله: "نقول" مقول "قالوا"، والباء في "فبما" تتعلق به، أي نقول بالذي رويناه عن رسول الله عليه السلام وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ص: فعارضهم معارض فقال: أما حديث أبي حنيفة الذي رواه عن هشام بن عروة فخطأ؛ وذلك لأن الحفاظ عن هشام رووه على غير ذلك، فذكروا ما:
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن ومالك بن أنس والليث، عن هشام بن عروة، أنه أخبرهم عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت النبي عليه السلام وكانت تستحاض- فقالت: يا رسول الله، إني والله ما أطهر أفأدع الصلاة أبدا؟ فقال رسول الله عليه السلام: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم ثم صلي".
حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: نا سليمان بن داود الهاشمي، قال: أنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام كلاهما، عن عروة، عن عائشة مثله.
قالوا: فهكذا روى الحفاظ هذا الحديث عن هشام بن عروة، لا كما رواه أبو حنيفة رضي الله عنه.
فكان من الحجة عليهم في ذلك أن حماد بن سلمة قد روى هذا الحديث عن هشام فزاد حرفا يدل على موافقته لأبي حنيفة: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج ابن المنهال، قال: نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي عليه السلام بمثل حديث يونس عن ابن وهب، وحديث محمَّد بن علي عن سليمان ابن داود، غير أنه قال:"فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي".
ففي هذا الحديث أن النبي عليه السلام أمرها بالوضوء مع أمره إياها بالغسل، فذلك الوضوء هو الوضوء لكل صلاة، فهذا معنى حديث أبي حنيفة، وليس حماد بن سلمة عندكم في هشام بن عروة، بدون مالك والليث وعمرو بن الحارث.
ش: أي عارض أهل المقالة الثالثة معارضٌ، بيان المعارضة: أن هذا الحديث رواه الحفاظ عن هشام بن عروة على غير الوجه الذي رواه أبو حنيفة؛ لأنهم رووه عن هشام بن عروة، وليس فيه الأمر بالوضوء عند كل صلاة، وإنما أبو حنيفة روى هذا عنه وتفرد به، ولم يتابعه عليه أحد، فلا يحتج به، وأراد بالحفاظ مثل عمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن ومالك بن أنس والليث بن سعد.
وأجاب عن هذا بقوله: "فكان من الحجة عليهم في ذلك" أي على المعارضين الطاعنين في حديث أبي حنيفة، أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن هشام بن عروة فزاد فيه حرفا، فوافق بذلك أبا حنيفة، وليس حماد بن سلمة في روايته عن هشام، بدون هؤلاء الحفاظ المذكورين.
فإن قلت: كيف يساوي حماد بن سلمة هؤلاء الحفاظ، أو يدانيهم، ولم يخرج له البخاري إلا مستشهدا؟
قلت: لا يلزم من ذلك ما ذكرتم، فإن مسلما احتج به، وكذلك الأربعة، وكيف وقد قال شعبة: حماد بن سلمة يفيدني.
وعن وهيب: كان حماد بن سلمة سيدنا وكان أعلمنا. ذكره ابن أبي حاتم في كتابه على أنا نقول: ليس هذا بمخالفة من أبي حنيفة لرواية الحفاظ بل زيادة ثقة، وهي مقبولة ولا سيما من مثله. وخصوصا تابعه على ذلك حماد بن سلمة على ما ذكره الطحاوي، وتابعه أيضًا حماد بن زيد كما ذكرنا في حديث النسائي، وتابعه أيضا أبو عوانة الوضاح عن هشام، ذكره الطحاوي بسند جيد في كتاب "الرد على الكرابيسي" على ما ذكره عن قريب، وتابعه أبو حمزة السكري أيضا على ما قال ابن حبان في "صحيحه" (1): ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذه اللفظة تفرد بها أبو حمزة وأبو حنيفة.
(1)"صحيح ابن حبان"(4/ 189 رقم 1355).
أخبرنا محمد بن أحمد بن النضر قال: ثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو عوانة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"سئل رسول الله عليه السلام عن المستحاضة، فقال: تدع الصلاة أيامها، ثم تغتسل غسلا واحدا، ثم تتوضأ عند كل صلاة".
أخبرنا (1) محمَّد بن أحمد بن النضر الخلقاني، قال: نا محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، قال: ثنا أبو حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله، إني استحاض الشهر والشهرين. قال: ليس ذاك بحيض ولكنه عرق، فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيه، فإذا أدبرت فاغتسلي، وتوضئي لكل صلاة لما انتهى.
فهذا أبو حنيفة قد تابعه في ذلك حماد بن سلمة وحماد بن زيد وأبو عوانة وأبو حمزة، أربعة من الحفاظ الأجلاء، مع أن تفرد أبي حنيفة كاف لجلالة قدره وتعين إمامته.
وأبو حمزة اسمه محمَّد بن ميمون المروزي السكري، روى له الجماعة، ولم يكن سُكَّريّا، وإنما قيل له: السُّكَّري لحلاوة كلامه، قاله عباس الدوري.
ثم إن الطحاوي أخرج الحديث الذي عارضه به ذلك المعارض من طريقين صحيحين:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله المدني قاضي بغداد في عسكر المهدي زمن الرشيد، ومالك بن أنس المدني، والليث بن سعد المصري، كلهم عن هشام بن عروة
…
إلى آخره.
(1)"صحيح ابن حبان"(4/ 188 رقم 1354).
وأخرجه الجماعة؛ فالبخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك .. إلى آخره نحوه.
ومسلم (2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، كلاهما، عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة
…
إلى آخره نحوه.
وأبو داود (3): عن أحمد بن يونس وعبد الله بن محمَّد النفيلي، كلاهما عن زهير، عن هشام
…
إلى آخره نحوه.
والترمذي (4): عن هناد، عن وكيع وعَبدة وأبي معاوية، ثلاثتهم عن هشام
…
إلى آخره نحوه، وقال في آخره: قال أبو معاوية في حديثه: "وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت".
والنسائي (5): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة ووكيع وأبي معاوية، قالوا: ثنا هشام بن عروة .. إلى آخره، نحو رواية أبي داود.
وابن ماجه (6): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمَّد، قالا: ثنا وكيع، عن هشام
…
إلى آخره نحوه.
والثاني: عن محمَّد بن علي بن داود أبي بكر البغدادي، عن سليمان بن داود ابن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو أيوب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- واسمه عبد الله بن ذكوان، عن أبيه عبد الله وعن هشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة، مثله. أي مثل الحديث المذكور.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 117 رقم 300).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 262 رقم 333).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 74 رقم 282).
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 217 رقم 125).
(5)
"المجتبى"(1/ 122 رقم 212).
(6)
"سنن ابن ماجه"(1/ 203 رقم 621).
قوله: "وإذا ذهب قدرها" بالدال المهملة أي قدر وقتها، ومنهم من صحف هذا وقال:"قَذرَهَا" بالذال المعجمة، وهو غلط.
وهذا الحديث يدل على أن هذه المرأة كانت معتادة كما جاء في رواية أخرى: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي".
واستدل به أبو حنيفة في أن الرد إلى الأيام التي هي عادتها سواء كانت مميزة أو غير مميزة، وبه قال الشافعي في قول.
وأما إذا لم يكن لها عادة تعتمد عليها تجعل لها من كل شهر عشرة أيام حيضا والباقي استحاضة كما عرف ذلك في الفروع.
وفيه ردّ لمن رأى الغسل لكل صلاة، ولمن رأى عليها الجمع بين الظهرين بغسل، والعشاءين بغسل.
ولمن قال: بالاستظهار بيومين أو ثلاث، أو أقل أو أكثر.
ولمن رأى عليها الغسل في كل يوم من ظهر إلى ظهر.
وقال أبو عمر في "التمهيد"(1): وفيه ردّ على من أوجب الوضوء على المستحاضة، فإذا أحدثت المستحاضة حدثا معروفا معتادا، لزمها الوضوء لأجل ذلك، وأما دَمُ استحاضتها فلا يوجب وضوءا؛ لأنه كدم الجرح السائل، وكيف يجب من أجله وضوء وهو لا ينقطع، ومن كان مثل هذه، من سلس البول والمذي، لا يرتفع [بوضوئه حدثا](2) لأنه لا يتمه إلا وقد حصل ذلك الحدث في الأغلب، انتهى.
وفيه تناقض لِمَا أنه قال: إن الوضوء في حديث عائشة صحيح.
وهذا من أطراف حديثها المذكور، فلا رد حينئذ على من قال به، فافهم.
(1)"التمهيد"(22/ 109).
(2)
في "الأصل، ك": وضوؤه، والمثبت من "التمهيد".
وأما حديث حماد الذي زاد فيه حرفا، فأخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن هشام
…
إلى آخره.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه الدارمي (1): عنَ حجاج، عن حماد، عن هشام .. إلى آخره نحوه.
وأخرجه الترمذي: كما ذكرنا عن قريب، وفيه:"قال أبو معاوية في حديثه: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أصحاب النبي عليه السلام والتابعين، وبه يقول سفيان الثوري ومالك والشافعي وابن المبارك: أن المستحاضة إذا جاوزت أيام أقرائها، اغتسلت، وتوضأت لكل صلاة.
قوله: "بمثل حديث يونس عن ابن وهب" أي بمثل حديث يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن ومالك بن أنس والليث بن سعد، عن هشام بن عروة، أنه أخبرهم عن أبيه، عن عائشة. . . الحديث.
قوله: "وحديث محمَّد بن علي" أراد به شيخه محمَّد بن علي بن داود البغدادي، عن سليمان بن داود الهاشمي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام، كلاهما عن عروة، عن عائشة.
قوله: "ففي هذا الحديث" أراد به حديث حماد بن سلمة.
قوله: "أمرها" أي أمر فاطمة بنت أبي حبيش بالوضوء مع أمره إياها بالغسل، فذلك الوضوء الذي أمرها به هو الوضوء لكل صلاة.
فإن قلت: من أين يُعلم أن الوضوء لكل صلاة؟
(1)"سنن الدارمي"(1/ 220 رقم 779).
قلت: الحالة تدل على هذا، ولا سيما ورد في رواية أبي معاوية، في تخريج الترمذي:"توضئي لكل صلاة" وفي رواية أبي حنيفة ومن تابعه أيضًا: "ثم توضئي عند كل صلاة"، وفي حديث عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده:"وتتوضأ لكل صلاة".
ص: فقد ثبت بما ذكرنا صحة الرواية عن النبي عليه السلام في المستحاضة أنها تتوضأ في حال استحاضتها لكل صلاة، إلا أنه قد رُوي عن النبي عليه السلام ما قد تقدم ذكرنا في هذا الباب، فأردنا أن ننظر في ذلك لنعلم ما الذي ينبغي أن نعمل به من ذلك؟ فكان ما رُوي عن النبي عليه السلام مما رويناه في أول هذا الباب:"أنه أمر أم حبيبة بنت جحش بالغسل عند كل صلاة" فقد ثبت نسخ ذلك بما قد رويناه عن النبي عليه السلام في الفصل الثاني من هذا الباب في حديث ابن أبي داود عن الوهبي في أمر سهلة بنت سهيل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمرها بالغسل لكل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، وبين المغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح غسلا، فكان ما أمرها به من ذلك ناسخا لما كان أمرها به قبل ذلك من الغسل لكل صلاة، فأرنا أن ننظر فيما رُوي في ذلك، كيف معناه؟ فإذا عبد الرحمن بن القاسم قد روى عن أبيه في المستحاضة التي استحيضت في عهد النبي عليه السلام فاختلف عن عبد الرحمن في ذلك؛ فروى الثوري عنه، عن أبيه، عن زينب بنت جحش:"أن النبي عليه السلام أمرها بذلك، وأن تدع الصلاة أيام أقرائها" ورواه ابن عيينة عن عبد الرحمن أيضا، عن أبيه، ولم يذكر زينب، إلا أنه وافق الثوري في معنى متن الحديث، فكان ذلك على الجمع بين كل صلاتين بغسل في أيام المستحاضة خاصة.
فثبت بذلك أن أيام الحيض كان موضعها معروفا، ثم جاء شعبة فرواه عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، كما رواه الثوري وابن عيينة، غير أنه لم يذكر أيام الأقراء، وتابعه على ذلك محمَّد بن إسحاق.
فلما رُوِي هذا الحديث كما ذكرنا، واختلفوا فيه، [كشفناه](1) لنعلم من أين جاء الاختلاف، فكان ذكر أيام الأقراء في حديث القاسم عن زينب وليس ذلك في [حديثه عن عائشة رضي الله عنها فوجب أن يجعل روايته عن زينب غير روايته عن عائشة رضي الله عنها فكان]، (2) حديث زينب الذي فيه ذكر الأقراء حديثا منقطعا لا [يثبته](3) أهل الخبر؛ لأنهم لا يحتجون بالمنقطع، وإنما جاء انقطاعه؛ لأن زينب لم يدركها القاسم، ولم يُولد في زمنها؛ لأنها تُوفيت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي أول أزواج النبي عليه السلام وفاة بعده، وكان حديث عائشة هو الذي ليس فيه ذكر الأقراء، وإنما فيه: أن النبي عليه السلام أمر المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل، على ما في ذلك الحديث، ولم يُبيِّن أي مستحاضة هي؛ فقد وجدنا المستحاضة قد تكون على معان مختلفة:
فمنها: أن تكون مستحاضة قد استمر بها الدم، وأيام حيضها معروفة، فسبيلها أن تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل، وتتوضأ بعد ذلك.
ومنها: أن تكون مستحاضة؛ لأن دمها قد استمر بها فلا ينقطع عنها، وأيام حيضها قد خَفِيَتْ عليها، فسبيلُها أن تغتسل لكل صلاة؛ لأنه لا يأتي عليها وقت إلا احتمل أن تكون فيه حائضا، أو طاهرا من حيض، أو مستحاضة، فيحتاط (4) لها، فتؤمر بالغسل.
ومنها: أن تكون مستحاضة قد خفيت عنها أيام حيضها، ودمها غير مستمر بها، ينقطع ساعة ويعود بعد ذلك، هكذا هي في أيامها كلها، فيكون قد أحاط علمها أنها في وقت انقطاع دمها، إذا اغتسلت حينئذ غير طاهر من حيض طهرا
(1) في "الأصل، ك": كشفنا، والمثبت من "شرح معاني الآثار"(1/ 104).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(3)
في "الأصل، ك" يثبتونه، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(4)
فيُحتاط: غير منقوطة "بالأصل"، ويمكن قراءتها، فنحتاط -بالنون- أو: فتحتاط يعني: هي، والمثبت أنسب للفعل بعده.
يُوجب عليها غسلا، فلها أن تصلي في حالها تلك ما أرادت من الصلوات بذلك الغسل إن أمكنها ذلك.
فلما وجدنا المرأة قد تكون مستحاضة بكل وجه من هذه الوجوه التي معانيها مختلفة، وأحكامها مختلفة، واسم المستحاضة يجمعها، ولم نجد في حديث عائشة رضي الله عنها ذلك تِبْيَانَ استحاضة تلك المرأة التي أمرها النبي عليه السلام بما ذكرنا أيُّ استحاضة هي، لم يجز لنا أن نحمل ذلك على وجه من هذه الوجوه دون غيره إلا بدليل على ذلك.
فنظرنا في ذلك، هل نجد فيه دليلا؟ فإذا بكر بن إدريس قد حدثنا، قال: أنا آدم، قال: نا شعبة، قال: نا عبد الملك بن ميسرة والمجالد بن سعيد وبيان، قالوا: سمعنا عامرا الشعبي يحدث عن قَمير -امرأة مسروق- عن عائشة: "أنها قالت في المستحاضة: تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل غسلا واحدا، وتتوضأ عند كل صلاة".
حدثنا حسين بن نصر وعلي بن شيبة، قالا: حدثنا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن فراس وبيان، عن الشعبي بإسناده.
فلما رُوي عن عائشة ما ذكرنا من قولها الذي أفتت به بعد النبي عليه السلام، وكان ما ذكرنا من حكم المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، وما ذكرنا أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما ذكرنا أنها تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، وقد روي ذلك كله عنها، ثبت بجوابها ذلك أن ذلك الحكم هو الناسخ للحكمين الآخرين؛ لأنه لا يجوز عندنا عليها أن تدع الناسخ وتفتي بالمنسوخ، ولولا ذلك لسقطت روايتها.
فلما ثبت أن هذا هو الناسخ؛ لما ذكرنا، وجب القول به، ولم يجز خلافها، هذا وجه قد يجوز أن يكون معاني هذه الآثار عليه.
ش: ملخص هذا: أن النبي عليه السلام رُوي عنه في المستحاضة ثلاثة أحكام، وقد ذهب إلى كل واحد منها طائفة من أهل العلم، كما ذُكِر مستقصى، وكل ذلك قد ورد بطرق مختلفة صحيحة وغير صحيحة، والسبيل في مثل هذا أن يُوَفَّق بينهما؛ دفعا للتضاد والاختلاف، وقد بيَّن فيما مضى أن حديث الغسل عند كل صلاة، الذي هو الحكم [الأول](1) قد نسخه الحكم الثاني، وهو الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، وبقي التوفيق بينه وبين الثالث الذي فيه الأمر بالاغتسال مرة والوضوء عند كل صلاة، ووجهه: أن كلا منهما قد رُوي عن عائشة بطرق صحيحة، ورُوي عنها أيضا أنها أفتت بعد النبي عليه السلام في المستحاضة أن تغتسل غسلا واحدا وتتوضأ عند كل صلاة، كما في حديث قَمير امرأة مسروق، عنها، على ما يجيء الآن.
فدل ذلك أنه ناسخ للحكم الأول والثاني، وذلك لأنه لا يجوز على مثل عائشة أن تترك الناسخ وتفتي بالمنسوخ، وإلا سقطت روايتها، فعلم أن حديث الأمر بالاغتسال مرة والوضوء عند كل صلاة هو الناسخ لجميع ما روي من الآثار في هذا الباب، وأن العمل عليه، كما ذهب إليه جمهور العلماء، ومعظم الفقهاء، والأئمة الأربعة.
قوله: "فقد ثبت بما ذكرنا" أراد به ما ذكره من حديث محمَّد بن عمرو بن يونس السوسي، عن يحيى بن عيسى.
ومن حديث علي ابن شيبة بن الصلت السَّدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري.
ومن حديث محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج ابن، (2) منهال الأنماطي.
قوله: "إلا أنه قد رُوي" أي: غير أن الشأن: قد رُوي عن النبي عليه السلام ما قد تقدم ذكرنا له، يعني: في أول الباب، وأراد به أن تلك الأحاديث معارضة لما قد ثبت بما
(1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.
(2)
ليست في "الأصل، ك".
ذكرنا، ثم بيَّن أن هذه منسوخة بقوله: "فأردنا أن ننظر في ذلك
…
" إلي آخره: وهو طاهر بُيِّن فيما تقدم.
قوله: "فأردنا أن ننظر فيما روى في ذلك" أي: في أمره عليه السلام إياها بالجمع بين الظهرين بغسل، وبين العشائين بغسل، والصبح بغسل، كيف معناه؟ وكيف حال هذه المستحاضة.
قوله: "فإذا عبد الرحمن" كلمة "إذا" ها هنا للمفاجأة، كما في قولك:"خرجت فإذا السبع واقف"، ولا يليها إلا الجملة الاسمية، فقوله:"عبد الرحمن" مبتدأ، وقوله:"قد روى" خبره.
قوله: "فاختُلِفَ عن عبد الرحمن في ذلك"، أي فيما روى عن أبيه عن عائشة، فروى الثوري عنه عن أبيه عن زينب ابنة جحش
…
إلي آخره.
ورواه ابن عيينة عن عبد الرحمن أيضا عن أبيه، ولم يذكر "زينب" وخالفه فيه، ولكنهما متفقان في معنى متن الحديث، فثبت بذلك -أي باتفاقهما على متن الحديث- أن أيام حيضها كان موضعها معروفا؛ إذ لو لم يكن معروفا لما كانت تتمكن من ذلك على الحقيقة.
ويدل على ذلك ما جاء في حديث آخر: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها".
فإن قيل: من أين كانت تحفظ هذه المرأة عدد أيامها التي كانت تحيض فيها أيام الصحة؟
قلت: لو لم تكن تحفظ ذلك لم يكن لقوله عليه السلام: "تدع الصلاة أيام أقرائها" معنى؛ إذ لا يجوز. أن يردها إلى رأيها ونظرها في أمر هي غير عارفة بكنهه.
قوله: "ثم جاء شعبة فرواه عن عبد الرحمن" أي: روى الحديث المذكور الذي رواه سفيانان (1)، غير أنه لم يذكر فيه أيام الأقراء.
(1) يعني الثوري وابن عُيينة، فقد رويا الحديث كما سبق.
"وتابعه على ذلك"، أي: تابع شعبة على مثل ما روى محمدُ بن إسحاق المدني، فحصل فيه الاختلاف حينئذ، فيحتاج إلى الكشف حتى يُعْلم من أين جاء الاختلاف؟ فكُشِفَ عن ذلك، فوُجدَ ذكر أيام الأقراء في حديث القاسم عن زينب، وهو الحديث الذي رواه الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن زينب، وليس في حديثه عن عائشة، أي: ليس ذكر أيام الإقراء في حديث القاسم عن عائشة الذي رواه شعبة ووافقه محمَّد بن إسحاق، فتباينت الروايتان، ولكن حديث زينب الذي فيه الأقراء حديث مئقطع؛ وذلك لأن القاسم لم يدرك زينب ولم يُولد في حياتها.
بيان ذلك: أن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مات في ولاية يزيد بن عبد الملك، بعد عمر بن عبد العزيز، سنة إحدى أو اثنتين ومائة.
وقال خليفة بن خياط توفي سنة ستٍّ ومائة.
وقال يحيى بن بكير: سنة سبع ومائة بقديد.
وقال ابن المديني وابن معين: مات سنة ثمان ومائة.
قال الواقدي: وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. فيكون تاريخ ميلاده على القول الأول: سنة ثلاثين من الهجرة، وسنة أربع وثلاثين على قول خليفة، وسنة سبع وثلاثين على قول يحيى بن بكير، وسنة ثمان وثلاثين على قول ابن المديني وابن معين، وعلى كل [التقدير](1) لم يدرك القاسم زينت بنت جحش، أم المؤمنين رضي الله عنها؛ لأنها توفيت سنة عشرين من الهجرة، وصل عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت أول نساء النبي عليه السلام لحوقا به.
فكان حديث القاسم، عن زينب منقطعا، فلا يحتج به.
(1) التقدير: "كذا بالأصل، ك"، مُعَرَّفة، والنكرة: تقدير، أنسب.
فيكون العمل على حديث عائشة الذي ليس فيه الأقراء، وإنما فيه:"أنه عليه السلام أمر المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل"، ولكنه لم يبين أي مستحاضة هي؛ لأن المستحاضات كثيرة (1) على أنواع، كما بينها الطحاوي. ولم نعلم في حديث عائشة بيان تلك المستحاضة أيتها هي، فلم يجز حيئنذ أن نحمل ذلك على نوع من الأنواع؛ لبطلان الترجيح بلا مرجح، وهو الدليل يدل على خصوصية المراد فوجدنا ذلك في حديث قَمِير عن عائشة، وتبيَّن أن المراد من تلك المستحاضة هي التي لها أيام معتادة، لأنها أفتت بذلك حيث قالت:"تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل غسلا واحدا وتتوضأ عند كل صلاة"، ولما روي هذا عن عائشة من قولها الذي أفتت به بعد النبي عليه السلام، والحال أنه قد روي عنها من أنها تغتسل لكل صلاة، ومن أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، ثبت بفتواها هذه أن ما روي عنها من الحكمين الآخرين قد نسخ، إذ لا يجوز أن تفتي بالمنسوخ وتترك الناسخ كما ذكرنا.
فلما ثبت أن هذا هو الناسخ، تعين المصير إليه، ووجب القول به، ولم يجز تركه إلى حكم من الحكمين الآخرين.
ثم إنه أخرج حديث قمير عن عائشة من طريقين حسنين صحيحين:
الأول: عن بكر بن إدريس بن الحجاج، ذكره ابن يونس وأثنى عليه، عن آدم بن أبي إياس التميمي، أحد مشايخ البخاري في الصحيح، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبي زيد الكوفي؛ روى له الجماعة، وعن المجالد بن سعيد بن عمير الكوفي، روى له مسلم -مقرونا بغيره- والأربعة. وعن بيان بن بشر الأحمسي البجلي الكوفي المعلم، روى له الجماعة، ثلاثتهم عن عامر الشعبي، عن قَمير -بفتح القاف وكسر الميم- بنت عمرو الكوفية، امرأة مسروق ابن الأجدع، قال العِجْلي: تابعية ثقة. روى لها أبو داود والنسائي.
(1) كذا "بالأصل، ك" ولعل الصواب: كثيرات.
وأخرجه أبو داود (1): مُعَلَّقا، قال: روى عبد الملك بن ميسرة وبيان والمغيرة وفراس ومجالد، عن الشعبي حديث قمير، عن عائشة:"توضئي لكل صلاة".
وأخرجه الدارمي في "مسنده"(2): أنا جعفر بن عون، أنا إسماعيل، عن عامر، عن قمير، عن عائشة، في المستحاضة:"تنتظر أيامها التي كانت تترك الصلاة فيها، فإذا كان يوم طهرها [الذي] (3) كانت تَطَهَّر فيه، اغتسلت ثم توضأت عند كل صلاة، وصلت".
الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك وعلي بن شيبة، كلاهما عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن فِراسٍ -بكسر الفاء- بن يحيى الهمداني الخَارفي الكوفي، وعن بيان بن بشر، كلاهما عن عامر الشعبي، بإسناده نحوه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): نا أبو خالد الأحمر، عن المجالد وداود، عن الشعبي، قال:"أرسلت امرأتي إلى امرأة مسروق فسألتها عن المستحاضة، فذكرت عن عائشة أنها قالت: تجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة".
وأخرجه البيهقي (5): من حديث شعبة، عن بيان، سمعت الشعبي يحدث، عن قمير، عن عائشة، قالت:"المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، وتغتسل وتستذفر وتتوضأ عند كل صلاة".
ثم قال: ورواه زائدة، عن بيان، وفيه:"ثم تتوضأ لكل صلاة" وهكذا رواه عبد الملك بن ميسرة ومغيرة ومجالد وغيرهم عن الشعبي.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 80) عقب الحديث رقم (300).
(2)
"سنن الدارمي"(1/ 223 رقم 792).
(3)
في "الأصل، ك": التي، والمثبت من "سنن الدارمي".
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 119 رقم 1351).
(5)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 346 رقم 1524).
وروى داود بن أبي هند وعاصم، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة:"تغتسل كل يوم مرة".
قوله: "فلما" بتشديد الميم.
وقوله: "ثبت بجوابها ذلك" جواب "لمَّا".
قوله: "وقد رُوي ذلك كله عنها، جملة وقعت حالا، أي: عن عائشة.
قوله: "الحكمين الآخرين" بفتح الخاء، وأراد بهما حكم وجوب الغسل عند كل صلاة، وحكم وجوب الجمع بين الصلاتين بغسل.
ص: وقد يجوز في هذا وجه آخر: يجوز أن يكون ما رُوي عن النبي عليه السلام، في فاطمة بنت أبي حُبَيْش، لا يُخالف ما رُوي عنه في أمر سهلة بنت سُهَيل؛ لأن فاطمة بنت أبي حبيش كانت أيامها معروفة، وسهلة كانت أيامها مجهولة، إلا أن دمها ينقطع في أوقات ويعود بعدها، وهي قد أحاط علمها أنها لم تخرج من الحيض بعد غسلها إلى أن صلت الصلاتين جميعا.
فإن كان ذلك كذلك، فإنا نقول بالحديثين جميعًا، فنجعل حكم حديث فاطمة على ما صرفناه إليه، وحكم حديث سهلة على ما صرفناه إليه.
وأما حديث أم حبيبة فقد رُوي مختلفا؛ فبعضهم يذكر عن عائشة أن رسول الله عليه السلام أمرها بالغسل عند كل صلاة ولم يذكر أقرائها، فقد يجوز أن يكون أمرها بذلك ليكون ذلك الماء علاجا لها، لأنه يُقلِّصُ الدمَ في الرحم فلا يسيل، وبعضهم يرويه عن عائشة: أن النبي عليه السلام أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل لكل صلاة.
فإن كان ذلك كذلك فقد يجوز أن يكون أراد به ما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا؛ لأن دمها سائل دائم السيلان، وليست صلاة إلا تحتمل أن تكون عندها طاهرا من حيض، ليس لها أن تصليها إلا بعد الاغتسال، فأمرها بالغسل لذلك، فإن كان
هذا هو معنى حديثها، فإنَّا كذلك نقول أيضًا فيمَنْ استمر بها الدم ولم تعرف أيامها، فلما احتملت هذه الآثارُ ما ذكرنا، وروينا عن عائشة من قولها بعد رسول الله عليه السلام ما وصفنا، ثبت أن ذلك هو حكم المستحاضة التي تعرف أيامها، وثبت أن ما خالف ذلك مما رُوي عنها عن رسول الله عليه السلام في مستحاضةٍ استحاضتُهَا غير استحاضة هذه، أو في مستحاضة استحاضتها مثل استحاضة هذه، إلا أن ذلك على أيَّ المعاني كان، كان فيما رُوي في أمر فاطمة بنت أبي حييش أولى؛ لأن معه الاختيار من عائشة رضي الله عنها له بعد النبي عليه السلام، وقد علمت ما خالفه وما وافقه من قوله عليه السلام.
وكذلك أيضا ما رويناه عن علي رضي الله عنه[أنها تغتسل لكل صلاة، وما رويناه عنه أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما رويناه عنه](1) أنها تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، إنما اختلفت أقواله في ذلك لاختلاف الاستحاضات التي أفتئ فيها بذلك.
وأما ما رُوي عن أم حبيبة في اغتسالها لكل صلاة، فوجه ذلك عندنا -والله أعلم-: أنها كانت تتعالج به، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار وهي التي يحتج بها فيه.
ش: ملخص هذا الوجه أن يحمل كل حديث ورد في هذا الباب على وجه من الوجوه، فلا يبقى بينها لا تعارض ولا اختلاف، وهذا هو التوفيق فيما بينها، وليس فيه لا نسخ ولانظر إلى التقديم والتأخير.
وبيان ذلك كله ظاهر من كلام الشيخ.
قوله: "لأنه يقلص الدم" أي: لأن الماء يُجمِّد الدم في الرحم، فلا يُخَلِّيه يسيل، يقال: قَلَصَ الشيء يَقْلِصُ قلوصا: ارتفع، وقلَص وقلَّص، بالتخفيف والتشديد، وتقلَّص، كله بمعنى انضمَّ وانزوى.
(1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"(1/ 106).
قوله: "فإنا كذلك نقول أيضا فيمن استمر بها الدم ولم تعرف أيامها" يعني: نقول بأن تغتسل عند كل صلاة، لأنه لا يأتي عليها وقت إلا احتمل أن تكون فيه حائضا أو طاهرا من حيض أو استحاضة، فتؤمر بالغسل عند كل صلاة؛ احتياطا.
قوله: "فأمرها بالغسل لذلك" أي: أمرها بالغسل عند كل صلاة لكون استمرار الدم بها مع الجهل بأيامها.
قوله: "فلما احتملت هذه الآثار" أراد بها الآثار التي رُويت في فاطمة بنت أبي حبيش، وسهلة بنت سهيل، وأم حبيبة.
قوله: "وروينا عن عائشة من قولها بعد رسول الله عليه السلام" أراد به ما روته قَمِير امرأة مسروق عنها، الذي مضى ذكره.
قوله: "ثبت ذلك" أي الذي روينا عن عائشة من قولها.
قوله: "وأما ما رُوي عن أم حبيبة
…
" إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: سلمنا ما قلتم من وجه النظر بين هذه الأحاديث، وما حملتم كل حديث على معنى يليق لحال تلك المستحاضة، فما تقولون في اغتسال أم حبيبة عند كل صلاة في عهد النبي عليه السلام كما ورد في رواية عائشة: فكانت هي تغتسل لكل صلاة؟
وتقرير الجواب: أنها إنما كانت تغتسل لكل صلاة تعالُجا به ليتقلص دم رحمها، أو لأنها كان استمر بها الدم، وخفيت عليها أيام قَرْئِها، فحكم مثل هذه المستحاضة أن تغتسل عندكم صلاة.
ص: ثم اختلف الذين قالوا: إنها تتوضأ لكل صلاة؛ فقال بعضهم، تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو قول أبي حنيفة وزُفَر وأبى يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
وقال آخرون بل تتوضأ لكل صلاة، ولا يعرفون ذكر الوقت في ذلك.
فأردنا نحن أن نستخرج من القولين قولا صحيحا، فرأيناهم قد أجمعوا أنها إذا توضأت في وقت صلاة فلم تصل حتى خرج الوقت، فأرادت أن تصلي بذلك الوضوء، أنه ليس لها ذلك حتى تتوضأ وضوءا جديدا، ورأيناها لو توضأت في وقت صلاة فصَلَّت، ثم أرادت أن تتطوع بذلك الوضوء، كان ذلك لها مادامت في الوقت.
فدل ما ذكرنا أن الذي ينقض طُهْرها هو خروجُ الوقت، وأن وضوءها يُوجبُه الوقت، لا الصلاة. وقد رأيناها لو فاتتها صلوات فأرادت أن تقضيهن، كان لها أن تجمعهن في وقت صلاة واحدة، بوضوء واحد، فلو كان الوضوء يجب عليها لكل صلاة، لكان يجب أن تتوضأ لكل صلاة من الصلوات الفائتات، فلما كانت تصليهن جميعها بوضوء واحد، ثبت بذلك أن الوضوء الذي يجب عليها هو لغير الصلاة، وهو الوقت.
ش: أراد "بالذين قالوا": أهل المقالة الثالثة، وهم الأئمة الأربعة ومن تبعهم.
قوله: "فقال بعضهم" أراد به: أبا حنيفة وأصحابه؛ فلذلك أوضحه بقوله: "وهو قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله" وهو قول أحمد أيضا في الأصح عنه.
قوله: "وقال أخرون" أي: جماعة آخرون، وأراد بهم: الشافعية ومن تبعهم.
وأما مذهب مالك، فقد قال ابن حزم في "المحلى" (1): وقال مالك: لا وضوء عليها -أي على المستحاضة- في هذا الدم إلا استحبابا لا إيجابا، وهي طاهر ما لم تُحْدِث حدثا آخر.
قوله: "من القولين" أراد بهما: قول الحنفية، وقول الشافعية، ثم ذكر ثلاث مسائل متفقا عليها، وقاس عليها مسائل المستحاضة المتنازع فيها، والجامع: كون وجوب الوضوء عليها للوقت لا للصلاة، فافهم.
(1)"المحلى"(1/ 253).
ص: وحجة أخرى، وهي أَنَّا قد رأينا الطهارات تنتقض بأحداث: منها الغائط، والبول، وطهارات تنتقض بخروج أوقات وهي الطهارة بالمسح على الخفين ينقضها خروج وقت المسافر، وخروج وقت المقيم، وهذه الطهارات المتفق عليها لم نجد فيها ما تنقضها صلاة، وإنما ينقضها حدث، أو خروج وقت، وقد ثبت أن طهارة المستحاضة ينقضها الحدث وغير الحدث، فقال قوم: هذا الذي هو غير الحدث هو خروج وقت.
وقال آخرون: هو فراغ من صلاة، ولم نجد الفراغ من الصلاة حدثا في شيء غير ذلك، وقد وجدنا خروج الوقت حدثا في غيره، فأولى الأشياء أن نرجع في هذا الحدث المختلف فيه، فنجعله كالحدث الذي قد أجمع عليه ووجد له أصل، ولا نجعله كما لم يُجمع عليه ولم نجد له أصلا.
فثبت بذلك قول مَنْ ذهب إلى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: ملخص هذه الحجة: أنَّ جَعْلَ الفراغ من الصلاة حدثا غيرُ واقع، وجعل خروج الوقت حدثا واقعٌ موجود متفق عليه، فقياس انتقاض وضوء المستحاضة على الأصل الموجود المتفق عليه، أصلى من قياسه على شيء غير واقع، فافهم.
قوله: "فقال قوم" أراد بهم: الحنفية.
وقوله: "وقال آخرون" أراد بهم: الشافعية.
هذا الذي ذكره كله بطريق النظر والقياس، وأما إذا ثبت في الحديث: المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، كان هذا (1) مزيدة توكيد للمذهب.
وقد قال صاحب "المغني": روي في بعض ألفاظ حديث بنت أبي حبيش: "توضئي لوقت كل صلاة" ثم قال: وحديثهم محمول على الوقت كما قال
(1) يعني: النظر والقياس الذي ذكره.
النبي عليه السلام: "أينما أدركتني الصلاة" أي: وقتها دون فحلها، وحديث حمنة ظاهر في الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد، ألا ترى أنه لم يأمرها بالوضوء بينهما؟
وقال الكاساني (1): روى أبو حنيفة بإسناده عن النبي عليه السلام أنه قال: "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة"، وهذا نص في الباب، وهذا محكم، وقوله عليه السلام:"المستحاضة تتوضأ لكل صلاة" محتمل، فيحمل المحتمل على المحكم، توفيقا بين الدليلين، صيانة لهما عن التناقض.
ثم إن المستحاضة إذا سأل منها الدم بعد الوضوء فذلك لا يمنع من أداء الصلاة ما بقي الوقت لقوله عليه السلام: "وإن قطر الدم على الحصير" وأما إذا سأل من موضع آخر أعاد الوضوء، وإن كان الوضوء باقيا؛ لأن هذا حدث جديد، وإذا أصاب ثوبها من دم الاستحاضة فعليها أن تغسله، والله أعلم بالصواب.
(1)"بدائع الصنائع"(1/ 28).