الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرجل لا يجد إلَّا نبيذ التمر هل يتوضأ به أو يتيمم
؟
ش: أي هذا باب في بيان حال الرجل الذي لا يجد إلا نبيذ التمر هل يتوضأ به لأجل الصلاة، أو يتركه ويتيمم بالصعيد؟
والنبيذ فَعِيل بمعنى مفعول، من نَبَذْتُ الشيء إذا طرحته، وهو الماء الذي تُنبذ فيه تمرات لتخرج حلاوتها إلى الماء.
وفي "النهاية" لابن الأثير: النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والعنب، إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا، فصرف من مفعول إلى فعيل، وانتبذته اتخذته نبيذا، وسواء كان مسكرا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ، ويقال للخمر المعتصر من العنب: نبيذ، كما يقال للنبيذ: خمر.
وقال ابن فارس في "المجمل": نبذت الشيء أنبذه، إذا ألقيته من يدك، والنبيذ التمر يلقى في الآنية ويصب عليه الماء.
قلت: هو من باب فَعَلَ يَفْعلُ بالفتح في الماضي والكسر (في)(1) المضارع، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وكذا ذكره صاحب "الدستور" في هذا الباب.
وقال ابن سيده: النبذ طرحك الشيء، وكل طرح نبذ، والنبيذ الشيء المنبوذ، والنبيذ ما نبذته من عصير ونحوه، وقد نَبَذَ وانْتَبَذَ ونَبَّذَ.
وفي "الصحاح": العامة تقول: أنبذت وكذا ذُكر في كتاب "الشرح" لابن درستويه، وذكر اللحياني في "نوادره": ومن حط الحامض: أنبذت، لغة ولكنها قليلة.
وذكره أيضًا ثعلب في كتاب "فعلت وأفعلت".
(1) تكررت في "الأصل".
وفي "الجامع" للقزاز: أكثر الناس يقولون: نبذت النبيذ. بغير ألف.
وحكى الفراء عن الرؤاسي: أنبذت النبيذ، قال ولم أسمعها أنا من العرب.
وفي "العُبَاب": وأنبذت النبيذ، لغة عامية، ونَبَّذْتَ الشيء تنبيذا، شُدِّد للمبالغة، ثم المناسبة بين البابين من حيث إن كُلا منهما يشتمل على حكم يرجع إلي حال المكلف من الصحة والفساد.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: أخبرنا أسد، قال: أنا ابن لهيعة، قال: أنا قيس ابن الحجاج عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن ابن مسعود رضي الله عنه خرج مع النبي عليه السلام ليلة الجن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمعك يا ابن مسعود ماء؟ قال: معي نبيذ في إداوتي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال، أصْبُب عليّ. فتوضأ به وقال: شراب وطهور".
ش: رجاله ثقات ما خلا عبد الله بن لهيعة، فإن فيه مقالا.
وحنش -بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة- ابن عبد الله الصنعاني، من صنعاء دمشق، والنون في النسبة زائدة.
وأخرجه ابن ماجه (1): عن العباس بن الوليد الدمشقي، عن مروان بن محمَّد، عن ابن لهيعة
…
إلى آخره، ولفظه:"قال لابن مسعود: معك ماء؟ قال: لا، إلَّا نبيذ في سَطِيحة. فقال رسول الله عليه السلام تمرة طيبة وماء طهور، صُبَّ عليّ. قال: فصببت عليه فتوضأ به".
قوله "ليلة الجن" أي في ليلة حضرت فيها الجن عند رسول الله عليه السلام وكانوا من جن نُصَيبين، قيل: كانوا بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: كانوا من الشَّيْصيان وهم أكثر الجن عددا، وعامّة جنود إبليس منهم. ويقال: إن الجن كانت تسترق السمع، فلما حُرِست السماء ورُجِمُوا بالشهب، قالوا: ما هذا إلَّا لنبأ حدث، فنهض سبعةُ نفر -أو
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 135 رقم 385) ..
تسعة- من أشرف جن نصيبين، أو نَيْنَوي منهم زَوْبَعَةُ، فضربوا في الأرض حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم في جوف الليل يصلي -أو في صلاة الفجر- فاستمعوا القرآن، وذلك حين مُنْصَرَفِهِ من الطائف، حين خرج إليهم يستنصرهم، وفي رواية أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود لما خرج معه، فقال:"أولئك جن نصيبين"، وكانوا اثني عشر ألفا، وكانت السورة التي قرأها رسول الله عليه السلام:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1).
قوله: "أمعك ماء" الهمزة فيه للاستفهام، وليست في رواية ابن ماجه.
قوله: "في إداوتي" الإداوة -بكسر الهمزة- إناء صغير من جلد يتخذ للماء، كالسطيحة ونحوها، وجمعها أَدَواي على وزن فَعَالي بالفتح.
قوله: "أصبُب" أمرٌ من: صَبَّ يَصُبُّ، خرج على الأصل، ويجوز فيه صُبّ، بالإدغام مع الحركات الثلاث في الباء، كما في قولك مدّ وامددُ.
قوله: "شراب" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا شراب أو هو شراب.
و"طهور" بفتح الطاء بمعنى مطهر، والمعنى أنه جامع للصفتين، الأولى: كونه مشروبا حلوا، والثانية: كونه مطهرا للحديث.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عمر، قال: أنا حماد بن سلمة، قال: أخبرني علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع مولى آل عمر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"أنه كان مع النبي عليه السلام ليلة الجن، وأن رسول الله عليه السلام احتاج إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلَّا النبيذ، فقال النبي عليه السلام: تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ش: أبو بكرة: بكَّار القاضي.
وأبو عمر -بضم العين وفتح الميم- هو حفص بن عمر الضرير، مشهور باسمه وكنيته، روى عنه أبو داود وابن ماجه وأحمد.
(1) سورة العلق، آية:[1].
وعلي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان أبو الحسن البصري المكفوف، فيه اختلاف، روى له الأربعة، ومسلم مقرونا بثابت البناني.
وأبو رافع: نفيع الصائغ المدني نزيل البصرة، مولى ابن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1)، والدارقطني في "سننه" (2): عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود:"أن النبي عليه السلام قال له ليلة الجن: أمعك ماء؟ قال: لا. قال: أمعك نبيذ؟ -قال: أحسبه- قال: نعم. فتوضأ به"(3).
قوله: "وأن رسول الهَ عليه السلام" عطف على "أنه كان".
قوله: "يتوضأ به" جملة في محل الجر لأنها صفة لقوله: "ماء".
قوله: "تمرة" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، أو: الذي، معك تمرة و"طيبة" صفتها، والطيب خلاف الخبيث، والمعنى: لم يخرج الماء عن طهوريته لوقوع التمرة الطيبة فيه.
ص: فذهب قوم إلى أن من لم يجد إلا نبيذ التمر في سَفَرِه توضأ به، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عكرمة والأوزاعي وحميدا صاحب الحسن بن حي وإسحاق، فإنهم ذهبوا إلى جواز التوضؤ بنبيذ التمر عند عدم الماء المطلق، وإليه ذهب أيضًا أبو حنيفة.
(1)"مسند أحمد"(1/ 449 رقم 4296) من طريق أبي زيد مولى عمرو بن حريث.
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 77 رقم 14).
(3)
وقال الدارقطني: علي بن زيد ضعيف، وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود، وليس هذا الحديث في مصنفات حماد بن سلمة.
وفي "المغني" لابن قدامة: وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بنبيذ التمر وبه قال الحسن والأوزاعي.
وقال عكرمة: النبيذ وضوء من لم يجد الماء.
وقال إسحاق: النبيذ الحلو أحب إليَّ من التيمم، وجمعهما أحب إليَّ.
وعن أبي حنيفة كقول عكرمة، وقيل عنه: يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ واشتد، عند عدم الماء في السفر؛ لحديث ابن مسعود.
وفي "أحكام القرآن" لأبي بكر الرازي: عن أبي حنيفة في ذلك ثلاث روايات.
أحدها: يتوضأ به، ويشترط فيه النيّة ولا يتيمم، قال: وهذه هي المشهورة.
وقال قاضي خان: وهو قوله الأول، وبها قال زفر.
والثانية: يتيمم ولا يتوضأ، رواها عنه نوح بن أبي مريم وأسد بن عمرو والحسن بن زياد، قال قاضي خان: هو الصحيح عنه، وقوله الآخِر، والذي رجع إليها، وبها قال أبو يوسف وأكثر العلماء واختيار الطحاوي.
والثالثة: روى عنه الجمع بينهما، وهذا قول محمَّد، وقال صاحب "المحيط": صفة هذا النبيذ أن يلقى في الماء تمرات حتى يأخذ الماء حلاوتها، ولا يشتد ولا يسكر، فإن اشتد حرم شربه، فكيف الوضوء وإن كان مطبوخا؟! فالصحيح أنه لا يتوضأ به.
وقال في "المفيد": إذا أُلقي فيه تمرات فحلا، ولم يزل عنه اسم الماء، وهو رقيق، فيجوز الوضوء به بلا خلاف بين أصحابنا، ولا يجوز الاغتسال به، خلاف ما قاله في "المبسوط" من أنه يجوز الاغتسال به.
وقال الكرخي: المطبوخ أدنى طبخة يجوز الوضوء به، إلَّا عند محمَّد.
وقال الدباس: لا يجوز.
وفي "البدائع": واختلف المشايخ في جواز الاغتسال بنبيذ التمر على أصل أبي حنيفة، فقال بعضهم: يجوز لاستوائهما في المعنى.
ثم لا بد من تفسير نبيذ التمر الذي فيه الخلاف؛ وهو أن يُلْقَى في الماء شيء من التمر فتخرج حلاوته إلى الماء، وهكذا ذكر ابن مسعود رضي الله عنه في تصير النبيذ الذي توضأ به النبي عليه السلام فقال:"تميرات ألقيتها في الماء"، لأن من عادة العرب أنها تطرح التمر في الماء الملح ليحلو. فمادام رقيقا، حلوا أو قارصا، يُتَوَضأ به عند أبي حنيفة، وإن كان غليظا كالرُب، لا يجوز التوضؤ به، وكذا إذا كان رقيقا لكنه علا واشتد وقذف بالزبد؛ لأنه صار مسكرا، والمسكر حرام، فلا يجوز التوضؤ به؛ لأن النبيذ الذي توضأ به رسول الله عليه السلام كان رقيقا حلوا، فلا يلحق به الغليظ.
والنبيذ إذا كان نِيَّا (1) أو كان مطبوخا أدنى طبخة، فما دام قارصا أو حلوا، فهو على الخلاف. وإن علا واشتد وقذف بالزبد، ذكر القدوري في شرحه "مختصر الكرخي" الاختلاف فيه بين الكرخي وأبي طاهر الدباس: على قول الكرخي يجوز، وعلى قول أبي طاهر لا يجوز.
وذكر القاضي في شرحه "مختصر الطحاوي" وجعله على الاختلاف في شربه، فقال: على قول أبي حنيفة يجوز التوضؤ به كما يجوز شربه، وعند محمَّد لا يجوز كما لا يجوز شربه، وأبو يوسف فرق بين الوضوء والشرب فقال: يجوز شربه ولا يجوز التوضؤ به؛ لأنه لا يرى التوضؤ بالنبيذ الحلو، فبالمرّ المطبوخ أولى، وأما نبيذ الزبيب وسائر الأنبذة فلا يجوز الوضوء بها عند عامّة العلماء، وقال الأوزاعي: يجوز التوضؤ بالأنبذة كلها، نيَّا كان النبيذ أو مطبوخا، حلوا كان أو مرّا، قياسا على نبيذ التمر.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا يتوضأ بنبيذ التمر، ومن لم يجد غيره تيمم ولم يتوضأ به، وممن ذهب إلى هذا القول أبو يوسف رحمه الله.
(1) نيًّا: -بكسر النون وتشديد الياء- أصلها: نيء، ومعنها -كما في "المصباح"- كل شيء شأنه أن يعالج بطبخ أو شيء، ولم ينضج، وانظر:"اللسان" أيضًا.
ش: أي وخالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والثوري والحسن البصري ومالك والشافعي وأحمد وأبا عبيد وأبا ثور وداود، فانهم ذهبوا إلى جواز التوضؤ بنبيذ التمر، سواء كان في الحضر أو في السفر، وممن ذهب إلى ذلك الإِمام أبو يوسف.
وفي "مصنف"(1) ابن أبي شيبة: نا وكيع، قال: نا سفيان، عمن سمع الحسن يقول:"لا يتوضأ بنبيذ ولا لبن".
ص: وكان من الحُجّة لأهل هذا القول على أهل القول الأول: أن عبد الله بن مسعود إنما رُوي عنه ما ذكرنا في أول هذا الباب من الطرق التي وصفنا، وليست هذه الطرق طرقا تقوم بها الحجة عند من يقبل خبر الواحد، ولم يجئ أيضًا المجيء الظاهر، فيجب العمل على من يستعمل الخبر إذا تواترت الروايات به. فهذا مما لا يجب استعماله له لما ذكرناه على مذهب الفرقتين اللتين ذكرنا.
ش: أشار بهذا إلى أن الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الأولى آثار ضعيفة؛ لأن في طرقها ضعفاء، وفي طرق بعضها مما رواه غير الطحاوي من لا يعرف ومن لا خير فيه، ألا ترى إلى الحديث الذي رواه أبو داود (2) والترمذي (3) وابن ماجه (4): عن شريك، عن أبي فزارة، عن أبي زيد، عن عبد الله بن مسعود:"أن النبي عليه السلام قال في ليلة الجن: ماذا في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال: تمرة طيبة وماء طهور" فذكروا فيه ثلاث علل.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 61 رقم 650).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 21 رقم 84).
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 147 رقم 88).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 135 رقم 384).
الأولى: جهالة أبي زيد؛ لقد قال الترمذي (1): أبو زيد رجل مجهول لا يعرف له غير هذا الحديث.
وقال ابن حبان في كتاب "الضعفاء"(2): أبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود، وليس يُدرى من هو، ولا يعرف أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت، ثم لم يرو إلَّا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، استحق مجانبته.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل"(3): سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة في الوضوء بالنبيذ ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول.
وذكر ابن عدي عن البخاري قال: أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي عليه السلام وهو خلاف القرآن.
العلة الثانية: هي التردد في أبي فزارة؛ فقيل: هو راشد بن كيسان، وهو ثقة أخرج له مسلم، وقيل: هما رجلان، وأن هذا ليس براشد بن كيسان، وإنما هو رجل مجهول. وقد نقل عن الإِمام أحمد أنه قال: أبو فزارة في حديث ابن مسعود رجل مجهول.
وذكر البخاري أن أبا فزارة العبسي غير مسمى، فجعلهما اثنين.
العلة الثالثة: هي إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن؛ وذلك لما روى مسلم (4): من حديث الشعبي، عن علقمة قال:"سألت ابن مسعود: هل شهد منكم أحد مع رسول الله عليه السلام[ليلة الجن] (5)؟ قال: لا .. " الحديث.
(1)"جامع الترمذي"(1/ 147 رقم 88).
(2)
"المجروحين"(3/ 158).
(3)
"العلل"(1/ 17).
(4)
"صحيح مسلم"(1/ 332 رقم 450).
(5)
سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح مسلم".
وفي لفظ له (1) قال: "لم أكن مع النبي عليه السلام ليلة الجن، وودت أني كنت معه".
وما روى أبو داود (2): عن علقمة قال: "قلت لابن مسعود: من كان منكم مع النبي عليه السلام[ليلة الجن] (3)؟ قال: ما كان معه منا أحد".
ورواه الترمذي (4): أيضا في تفسير سورة الأحقاف، ورواه الطحاوي أيضا، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قلت: هذا الحديث رواه جماعة عن أبي فزارة؛ فرواه عنه شريك كما أخرجه الترمذي (5) وأبو داود (6).
ورواه عنه سفيان والجراح بن مليح كما أخرجه ابن ماجه (7).
ورواه عنه إسرائيل كما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8)، ورواه عنه قيس بن الربيع كما أخرجه عبد الرزاق أيضًا (9).
والجهالة عند المحدثين تزول برواية اثنين فصاعدا، فأين الجهالة بعد ذلك؟! إلَّا أن يراد جهالة الحال؛ هذا وقد صرح ابن عدي بأنه راشد بن كيسان فقال: مدار هذا الحديث على أبي فزارة عن أبي زيد، وأبو فزارة اسمه راشد بن كيسان وهو مشهور، وأبو زيد عمرو بن حريث مجهول.
وحُكي عن الدارقطني أنه قال: أبو فزارة، في حديث النبيذ، اسمه راشد بن كيسان.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 33 رقم 450).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 21 رقم 85).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".
(4)
"جامع الترمذي"(5/ 382 رقم 3258).
(5)
"جامع الترمذي"(1/ 147 رقم 88).
(6)
"سنن أبي داود"(1/ 21 رقم 84).
(7)
"سنن ابن ماجه"(1/ 135 رقم 384).
(8)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 179 رقم 693) من طريق الثوري وإسرائيل عنه.
(9)
ومن طريقه رواه الطبراني في "الكبير"(10/ 63 رقم 9962).
وقال ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب": أبو فزارة العبسي راشد بن كيسان ثقة عندهم.
وقولهم أيضًا "أبو زيد مجهول" فيه نظر من حيث أن أربعة عشر رجلا رووه عن عبد الله بن مسعود كما رواه أبو زيد (1) مع النبي عليه السلام في خبر أجمع الفقهاء على العمل به، وهو "أنه طلب منه ثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثه
…
" الحديث، وقال ابن العربي: في البعض صحبه، واستوقفه وبَعُد عنه عليه السلام، ثم عاد إليه فصح أنه لم يكن معه غير الجن، لا نفس الخروج.
وفي "البدائع"(2): ولأبي حنيفة ما روى ابن مسعود أنه قال: "كنا أصحاب النبي عليه السلام جلوسا في بيته، فدخل علينا رسول الله عليه السلام فقال: ليقم منكم من ليس في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقمت -وفي رواية: فلم يقم منا أحد، فأشار إليَّ بالقيام، فقمت- ودخلت البيت فتَزَوَّدت إداوة من نبيذ، فخرجت معه، فخط لي خطّا، فقال: إن خرجت من هذا لم ترني إلى يوم القيامة، فقمت قائما حتى انفجر الصبح، فإذا أنا برسول الله عليه السلام وقد عرق جبينه كأنه [حارب جنّا] (3)، فقال لي: يا ابن مسعود، هل معك ما أتوضأ به؟ فقلت: لا إلَّا نبيذ تمر في إداوة، فقال: تمرة طيبة وماء طهور. فأخذ ذلك وتوضأ وصلى الفجر".
وكذا جماعة من الصحابة منهم: علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم كانوا يجوزون التوضؤ بنبيذ التمر.
ورُوي عن النبي عليه السلام: "توضئوا بنبيذ التمر، ولا توضئوا باللبن".
وروي عن أبي العالية أنه [قال](4): "كنت في جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام
(1) هذا السياق يشعر أن ها هنا سقط، والله أعلم.
(2)
"بدائع الصنائع"(1/ 16).
(3)
في "الأصل، ك": حاد رحبًا، والمثبت من البدائع.
(4)
في "الأصل، ك": قالت، وهو تحريف، والمثبت من "بدائع الصنائع".
في سفينة في البحر، فحفرت الصلاة فَفَنِيَ ماؤهم، ومعهم نبيذ التمر، فتوضأ بعضهم بماء البحر وكره الوضوء بنبيذ التمر، وتوضأ بعضهم بنبيذ التمر وكره الوضوء بماء البحر" وهذا حكايته لا إجماع، فإن من كان يتوضأ بماء البحر كان يعتقد [جواز] (1) التوضؤ بماء البحر، فلم يتوضأ بالنبيذ لكونه واجدا للماء المطلق، ومن كان يتوضأ بالنبيذ كان لا يرى ماء البحر طهورا وكان يقول هو سخطة ونقمة، كأنه لم يبلغه قوله عليه السلام في صفة البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميته" فيتوضأ بنبيذ التمر لكونه عادِما للماء الطاهر.
وبه تبين أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة، حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول، فصار مُوجبا علمًا استدلاليا، كخبر المعراج، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وأخبار الرؤية والشفاعة، وغير ذلك مما كان الراوي في الأصل واحدا ثم اشتهر وتلقته العلماء بالقبول، ومثله مما ينسخ به الكتاب، انتهى.
قلت: قد عملت الصحابة بهذا الحديث على ما في "سنن الدارقطني"(2): عن عبد الله بن [محرر](3)، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"النبيذ وضوء من لم يجد الماء".
وأخرج أيضا (4): عن الحارث، عن علي رضي الله عنه:"أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ".
وروى أيضا في "سننه"(5): من حديث مجاعة، عن أبان، عن عكرمة، عن
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "بدائع الصنائع".
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 76 رقم 8) وقال: ابن محرر متروك الحديث.
(3)
في "الأصل، ك" محرز، بزاي في آخره، وهو تصحيف، والصواب محرر، آخره راء، كما في "سنن الدارقطني"، ومصادر ترجمته.
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 78 رقم 20) وقال: تفرد به حجاج بن أرطاة، لا يحتج بحديثه.
(5)
"سنن الدارقطني"(1/ 76 رقم 9) وقال: أبان هو ابن أبي عياش، متروك الحديث، ومجاعة ضعيف.
ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا لم يجد أحدكم ماء ووجد النبيذ فليتوضأ به" قال: المحفوظ من قول عكرمة، غير مرفوع إلى النبي عليه السلام ولا إلى ابن عباس.
وقال البيهقي: هذا حديث واهٍ.
قلت: (هذا)(1) مجرد دعوى منه فلا تقبل.
وقال أبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن": رَوَى الوضوء بالنبيذ عن النبي عليه السلام أبو مامة رضي الله عنه أيضا.
فإن قيل: هذا الحديث من أخبار الآحاد، ورَدَ على مخالفه الكتاب، ومن شرط ثبوت خبر الآحاد ألَّا يخالف الكتاب، فإذا خالف لا يثبت، أو يثبت لكنه نُسِخَ؛ لأنه كان بمكة، وهذه الآية -أعني قوله تعالى:{تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} (2) نزلت بالمدينة، وقال ابن القصار من المالكية، وابن حزم: من ذهب إلى أنه وإن صح يكون منسوخا؛ لأنه كان بمكة، ونزول قوله تعالى:{تَجِدُوا مَاءً} (3) كان بالمدينة. وقال ابن حزم (4): "نزول أمر الوضوء كان بالمدينة".
قلت: قد ذكر لك أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول، فصار موجبا علمًا استدلاليّا، ومثله مما ينسخ به الكتاب.
مع أنه لا حجة لهم في الكتاب؛ لأن عدم نبيذ التمر في الأسفار، يسبق عدم الماء عادة؛ لأنه أعسر وجودا من الماء، وتعليق جواز التيمم بعدم الماء تعليق بعدم النبيذ دلالة. فكأنه قال: فلم تجدوا ماء، ولا نبيذ تمر، فتيمموا، إلا أنه لم ينص عليه لثبوته عادة.
يؤيد هذا ما ذكرنا من فتاوى نجباء الصحابة رضي الله عنهم في زمان استدَّ فيه باب الوحي، وأنهم كانوا أعرف الناس بالناسخ والمنسوخ، فتبطل دعوى النسخ.
(1) كذا في "الأصل، ك".
(2)
سورة المائدة، آية:[6].
(3)
سبق تخريجه.
(4)
"المحلى"(1/ 204).
وقول ابن حزم (1): "نزول أمر الوضوء كان بالمدينة"، يرده ما ذكره الطبراني في "الكبير"(2) والدارقطني (3)"أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله عليه السلام بأعلى مكة، فهمز له بعقبه، فأنبع الماء، وعلمه الوضوء".
وقال السهيلي: الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة رضي الله عنها:"آية التيمم"، ولم تقل "الوضوء"؛ لأن الوضوء كان مفروضا قبل، غير أنه لم يكن قرآنا يُتْلى حتى نزلت آية التيمم.
وقال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن": يستدل بقوله تعالى: {قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (4) الآية على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين.
أحدهما: قوله تعالى: {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} عموم في جميع المائعات؛ لأنه يسمى غاسلا بها، إلا ما قام الدليل فيه، ونبيذ التمر مما قد شمله العموم.
الثاني: قوله: {تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} (5) فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء؛ لأنه لفظ مُنَكَّرٌ يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا بغيره، أو منفردا بنفسه، ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر: ماء، فلما كان كذلك وجب ألَّا يجوز التيمم مع وجوده، بالظاهر.
ويدل على ذلك أن النبي عليه السلام توضأ بمكة قبل نزول الآية في التيمم، وقبل أن نُقِلَ من الماء إلى بدل، فدل على أنه توضأ به، على أنه بقي حكم الماء الذي فيه، لا على وجه البدل عن الماء؛ إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة مقصورة على الماء بدون غيره، والله أعلم.
(1) سبق تخريجه.
(2)
"المعجم الكبير"(5/ 85 رقم 4657) بنحوه من حديث أسامة بن زيد، عن أبيه.
(3)
سنن الدراقطني (1/ 111 رقم 1، 2) بنحوه أيضًا مثل رواية الطبراني.
(4)
سورة المائدة، آية:[6].
(5)
سبق تخريجه.
ص: فإن قال قائل: الآثار الأُول أولى من هذا؛ لأنها متصلة وهذا منقطع، لأن أبا عُبَيدة لم يسمع من أبيه شيئا.
قيل له: ليس من هذه الجهة احتججنا بكلام أبي عُييدة، إنما احتججنا به لأن مثله، على تقدمه في العلم، وموضعه من عبد الله، وخِلْطَتِه بخاصته من بعده، لا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله ذلك حجة فيما ذكرنا، لا من طريق الذي وصفت.
ش: السؤال والجواب ظاهران، وأراد بالاتصال اتصال الإسناد، وبالانقطاع انقطاعه.
وقال الترمذي: لا يعرف اسم أبي عُبَيدة، ولم يسمع من أبيه شيئًا. وقال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين.
قوله: "وخِلْطَتُه بخاصته من بعده" أي وخلطة أبي عبيدة بخواص أبيه عبد الله، وهم أصحابه الذين كانوا يلازمونه ويأخذون منه، والجواب لا يتمم به التقريب على ما لا يخفى.
ص: وقد روينا عن عبيد الله من كلامه بالإسناد المتصل ما قد وافق ما قال أبو عُبَيدة، وحدثناه ابن أبي داود، قال: نا عمرو بن عون، قال: نا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"لم أكن مع النبي عليه السلام ليلة الجن، ولوددت أني كنت".
ش: أكد بهذا ما رُوي عن أبي عبيدة من عدم كون أبيه عبد الله مع النبي عليه السلام ليلة الجن.
قوله: "ما قد وافق" مفعول "روينا".
وقوله: "ما قال" مفعول "وافق".
وقوله: "حدثناه ابن أبي داود" بيان لقوله: "روينا".
وإسناد هذا صحيح على شرط مسلم.
وخالد الأول هو الطحان الواسطي، والثاني هو خالد بن مهران الحذَّاء -بفتح الحاء المهملة وتشديد الذال المعجمة- ولم يكن حذَّاء، وإنما كان ملازما القعود عند حذَّاء، فنسب إليه.
وأبو مِعْشَر اسمه زياد بن كُلَيْب الكوفي.
وإبراهيم هو النخعي.
وأخرجه مسلم (1): من حديث الشعبي، عن علقمة قال: "سألت ابن مسعود هل شهد منكم أحد مع رسول الله عليه السلام؟ قال: لا
…
" الحديث.
وفي لفظ (2): له أخرجه عن خالد الحذاء عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:"لم أكن مع النبي عليه السلام ليلة الجن، ولوددت أني كنت معه" فبهذا استدلوا على أن ابن مسعود رضي الله عنه -لم يكن مع النبي عليه السلام ليلة الجن، فيبطل بذلك العمل بالآثار الأُول.
وللمناقش أن يقول: إنه لم يكن معه عليه السلام في الحالة التي خاطب فيها الجن، ومعنى قوله:"ولوددت أني كنت" أي أحببت أني كنت مع النبي عليه السلام وقت الخطاب وعدم كونه معه في هذه الحالة؛ لا ينافي كونه معه في غير هذه الحالة في تلك الليلة، وقد قلنا: إن الوضوء بالنبيذ إنما كان بعد الانصراف من عند الجن.
ورُوي عنه: "أنه مر بقوم يلعبون بالكوفة، فقال: ما رأيت أحدا أشبه بهؤلاء من الجن الذين رأيتهم مع النبي عليه السلام (3) وفي رواية: "رأى قوما من (الزُّطِّ)(4) بالعراق، فقال: ما أشبه هؤلاء بالجن الذين رأيتهم ليلة الجن (5) ".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 332 رقم 450).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 333 رقم 450).
(3)
انظر "مختلف الحديث" لابن قتيبة (1/ 22).
(4)
الزُّط: جنس من السودان والهنود، انظر "النهاية"(2/ 302).
(5)
رواه أحمد في "مسنده"(1/ 455 رقم 4353) بنحوه، والبزار في "مسنده" (5/ 266 رقم 1880) وقال: وهذا اللفظ لا نعلمه يروى إلَّا عن أبي عثمان عن عبد الله ..
على أنه قد ذكر بعضهم أن غير عبد الله حضر الليلة أيضا، وهو الزبير بن العوام.
ذكره الإسماعيلي (1): عن موسى بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، ثنا سليمان بن سلمة، ثنا أبو [يحمد](2) بقية بن الوليد، حدثني نمير بن يزيد الحمصي -معروف حسن الحديث- عن أبيه، عن عمه قحافة بن ربيعة، ثنا الزبير بن العوام قال: "صلى بنا النبي عليه السلام صلاة الصبح في مسجد المدينة ثم قال: أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة
…
" الحديث.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: أنا أسد، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة قال:"سألت ابن مسعود هل كان مع النبي عليه السلام ليلة الجن أحد؟ فقال: لم يصحبه منا أحد، ولكن فقدناه ذات ليلة فقلنا: استُطير أم اغتيل؟ فتفرقنا في الشعاب والأودية نلتمسه، فبتنا بشَرِّ ليلة بات بها قوم، نقول: استطير أم اغتيل؟ فقال: إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أُقْرِئهم القرآن، فأرانا آثارهم".
ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وعامر هو الشَّعبي.
وأخرجه مسلم (3): عن محمَّد بن المثني، عن عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: "سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله عليه السلام ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، هل صحب النبي عليه السلام ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد
…
" إلى آخره نحوه، وفيه: "فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء" وفي آخره: "فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بَعْرةٍ علفٌ لدوابكم. وقال رسول الله عليه السلام: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم".
(1) معجم شيوخ الإسماعيلي (3/ 781 رقم 391).
(2)
في "الأصل، ك": محمَّد، وهو تحريف، والصواب ما أثبتناه كما في المصدر السابق ومصادر الترجمة.
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 332 رقم 450).
وأخرجه الترمذي (1): عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن داود، عن الشعبي
…
إلى آخره نحوه، وفيه الزيادة:"وكانوا من جن الجزيرة".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قوله: "فقدناه ذات ليلة" يقال: ذات يوم وذا يوم، وذات ليلة وذا ليلة، وهو كناية عن يوم وليلة، والمعنى: فقدناه مدة التي هي الليلة، والمعنى في التذكير: وقتا وزمانا الذي هو يوم.
قوله: "استطير" على صيغة المجهول، أي ذُهِبَ به بسرعة، كأن الطير حملته، أو اغتاله أحد. والاستطارة والتطاير: التفرق والذهاب.
وقال الجوهري: استطير الشيء أي: طُيَّر.
قوله: "أم اغتيل" على صيغة المجهول أيضا، من: اغتال يغتال، من الغَوْل -بالفتح - وهو البعد في السير، وكذلك المغَاوَلة هي المبادرة في السَّيْر، والمعنى ها هنا: أم أُخِذ غيلة، والاغتيال: الاحتيال.
قوله: "في الشِّعاب" -بكسر الشين- جمع شِعب -بكسر الشين- وهو الطريق في الجبل.
قوله: "نلتمسه" أي نطلبه، وهي جملة في موضع النصب على الحال عن الضمير الذي في "تفرقنا".
قوله: "فقال إنه" أي: الشأن.
ص: فهذا عبد الله قد أنكر أن يكون مع النبي عليه السلام ليلة الجن، فهذا الباب إن كان يؤخذ من طريق صحة الإسناد، فهذا الحديث الذي فيه الإنكار أولى؛ لاستقامة طريقه وثبت رواته، وإن كان من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب ولا بالخل، فكان النظر على ذلك أن يكون نبيذ التمر أيضا كذلك.
(1)"جامع الترمذي"(5/ 382 رقم 3258).
وقد أجمع العلماء أن نييذ التمر إذا كان موجودا في الحال وجودَ الماء، أنه لا يتوضأ به؛ لأنه ليس بماء، فلما كان خارجا من حكم المياه في حال وجود الماء، كان كذلك هو في حال عدم الماء.
وحديث ابن مسعود الذي فيه التوضؤ بنبيذ التمر إنما فيه: أن النبي عليه السلام توضأ به وهو غير مسافر، لأنه إنما خرج من مكة يريدهم، فقيل: إنه توضأ بنبيذ التمر في ذلك المكان، وهو في حكم من هو بمكة، لأنه يتم الصلاة فهو أيضًا في حكم استعمال ذلك النبيذ هنالك، في حكم استعماله إياه في مكة، فلو ثبت بهذا الأثر أن النبيذ مما يجوز التوضؤ به في الأمصار والبوادي ثبت أنه يجوز التوضؤ به في حال وجود الماء وفي حال عدمه. فلما أجمعوا على ترك ذلك والعمل بضده، فلم يجيزوا التوضؤ به في [الأمصار](1)، ولا فيما حكمه حكم الأمصار؛ ثبت بذلك تركهم لذلك الحديث، وخرج حكم ذلك النبيذ من حكم سائر المياه.
فثبت بذلك أنه لا يجوز التوضؤ به في حال من الأحوال، وهذا هو قول أبي يوسف رحمه الله وهو النظر عندنا، والله أعلم.
شْ: هذا كله ظاهر، ولكنه لا يخلو عن مناقشة ونظر؛ لأنا قد ذكرنا أن الخبر الذي فيه الوضوء بالنبيذ، وكون ابن مسعود رضي الله عنه مع النبي عليه السلام ليلتئذ، قد ورد من طرق متعددة. وأن خبر "مسلم" ونحوه محمول على أنه ما كان معه وقت خطاب الجن، وكيف وقد عمل به نجباء الصحابة من بعده؟!
ولئن سلمنا أن القياس يقتضي ما ذكره، ولكنه ورد [الخبر] (2) على خلافه فنعمل به. ولو قيل: هذا خبر آحاد قد ورد على مخالفة الكتاب، فلا يثبت ولا يعمل به، فالجواب عنه ما قدمناه.
(1) تكررت في "الأصل".
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.
قوله: "فإذا رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب" فيه نظر لأن؛ الأوزاعي يرى الوضوء بسائر الأنبيذة مطلقا، على أي وجه كان.
قوله: "فلما كان خارجا" أي فلما كان نبيذ التمر خارجا "عن حكم المياه
…
" إلى آخره، فيه نظر لأنه ليس بخارج عن حد المياه عند عدم الماء المطلق، لقوله عليه السلام "تمرة طيبة وماء طهور". أطلق عليه عند عدم الماء المطلق أنه ماء، وأنه طهور، فكيف يستوي حكمه في الحالتين؟!