المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الاستجمار - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٢

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الاستجمار

‌ص: باب: الاستجمار

ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستجمار؛ وهو التمسح بالجمار.

وهي الأحجار الصغار، ومنه سميت جمار الحج؛ للحصى التي يرمى بها، وأما موضع الجمار بمنى فسمي جمرة لأنها بالجمار.

وقيل: لأنها مجمع الحصى التي ترمى بها من الجمرة. وقيل سميت به من قولهم: أجمر، إذا أسرع. وإنما سمي الاستنجاء استجمارًا؛ لأنه ينظف المحل، كما يطيبه الاستجمار بالبخور.

وقد قيل في قوله: "من استجمر فليوتر": إنه البخور، من التجمير الذي يُوقد به.

والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن الاستجمار لا بد منه للطهارة سواء كانت صغرى أو كبرى.

ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا عبد الله بن وهب، أن مالكًا حدثه، ح.

وحدثنا حسين بن نصر، قال: نا عبد الرحمن بن زياد، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "من استجمر فليوتر".

حدثنا يونس، قالك أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام

مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: نا الوَهْبيُّ، قال: أنا ابن إسحاق، قال: حدثنا الزهري، عن عائذ الله، قال سمعت أبا هريرة يقول

مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: نا بشر بن عمر، قال: نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس، عن أبى هريرة، عن رسول الله عليه السلام

مثله.

ص: 489

حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: نا سعيد بن أبى مريم، قال: أنا أبو غسان، قال: حدثني ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:"كان رسول الله عليه السلام يأمرنا إذا أتى أحدنا الغائط، بثلاثة أحجار".

ش: هذه ستة طرق صحاح.

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة.

وأخرجه البخاري (1): نا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه الماء ثم لينتثر، ومن استجمر فليوتر

".

الثاني: عن حسين بن نصر، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن مالك

إلى آخره، وعبد الرحمن هذا وثقه أبو حاتم.

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم (2): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة: أن رسول الله عليه السلام قال: "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر".

وأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة، عن مالك

إلى آخره نحوه.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 72 رقم 160).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 212 رقم 237).

(3)

"المجتبى"(1/ 66 رقم 88).

ص: 490

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود، عن أحمد بن خالد الكندي الوَهبي، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عائذ الله الخولاني، عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن أبى شيبة (1): من حديث الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"منْ توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر".

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن ماجه (2): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا زيد بن الحباب وداود بن عبد الله، قالا: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَنْ توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر".

السادس: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، عن محمَّد بن عجلان المدني، عن القَعْقاع بن حكيم الكناني، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3) بأتم منه، عن ابن عُيَيْنة، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إنما أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم، إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، وأمر بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرَّمة -يعني العظام- ونهى أن يستطيب الرجل بيمينه".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 33 رقم 279).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 143 رقم 409).

(3)

لم أجده في "مصنف عبد الرزاق " النسخة المتداولة، ولم يعزه له الزيلعي في "نصب الراية"(1/ 14) وإنما عزاه للبيهقي في "سننه الكبرى"(1/ 91 رقم 437) من نفس الطريق.

ص: 491

وأخرجه أبو داود (1) والنسائي (2) وابن ماجه (3).

قوله: "فليوتر" أمر من الإيتار، ومعناه: اجعل الأحجار التي تستنجي بها فردًا، إما واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا، وأصله من الوتر وهو الفرد.

قوله: "إذا أتى أحدنا الغائط" أي: موضع قضاء الحاجة، وفي الأصل هو اسم للمطمئن من الأرض.

ص: حدثنا محمَّد بن حميد، قال: حدثني عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني هشام بن سعد، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، سمع عروة يقول: حدثتني عائشة، أن رسول الله عليه السلام قال:"إذا خرج أحدكم إلى الغائط فليذهب بثلاثة أحجار ليستنظف بها، فإنها ستكفيه".

ش: إسناده حسن جيد، وأبو حازم اسمه سلمة بن دينار المدني الأعرج.

وأخرجه أبو داود (4): نا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد، قالا: نا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم

إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه:"فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه".

وأخرجه النسائي (5): عن قتيبة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن مسلم بن قُرط

إلى آخره نحوه.

وأخرجه الدارقطني (6) أيضًا.

قوله: "ليستنظف بها" أي: بالأحجار الثلاثة، الاستنظاف من النظافة، وأراد به الاستنجاء؛ لأنه ينظفه ويُطيبه.

(1)"سنن أبي داود (1/ 3 رقم 8) ".

(2)

"المجتبى"(1/ 38 رقم 40).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 114 رقم 313).

(4)

"سنن أبي داود"(1/ 10 رقم 40).

(5)

"المجتبى"(1/ 41 رقم 44).

(6)

"سنن الدارقطني"(1/ 54 رقم 4) وقال الدارقطني: إسناد صحيح.

ص: 492

قوله: "فإنها" أي: فإن الأحجار الثلاثة ستكفيه في النظافة.

قوله: "فليذهب بثلاثة أحجار" وفي رواية أبي داود "فليذهب معه بثلاثة أحجار" أي مصاحبة معه، وهيِ حال.

ص: حدثنا: ابن أبي داود، قال: أنا سليمان بن حرب، قال: نا شعبة، عن منصور، ح.

وحدثنا أبو بكرة، قال: أنا أبو الوليد، قال: نا شعبة، قال: قرأت على منصور، ح.

وحدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب، نا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس، عن رسول الله عليه السلام قال:"إذا استجمرت فأوتر".

ش: أخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سليمان بن حرب، عن شعبة، عن منصور ابن المعتمر، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس الأشجعي الغطفاني الصحابي، عن رسول الله عليه السلام.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): نا أبو مسلم الكشيّ، ثنا سليمان بن حرب

إلى آخره.

ولفظه: "إذا توضأت فانتثر، هذا استجمرت فأوتر".

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن هلال

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني (2) أيضًا: نا أبو مسلم الكشيّ، ثنا أبو الوليد الطيالسي

إلى آخره نحوه.

(1)"المعجم الكبير"(7/ 37 رقم 6308).

(2)

"المعجم الكبير"(7/ 37 رقم 6309).

ص: 493

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن هلال

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس، عن رسول الله عليه السلام قال:"إذا استجمرت فأوتر".

ص: حدثنا: أبو بكرة، قال: نا صفوان بن عيسى، قال: نا محمَّد بن عجلان، ح.

وحدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي، قال: نا عفان، قال: نا وُهَيْب، عن ابن عجلان، قال: أنا القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:"كان رسول الله عليه السلام يأمرنا بثلاثة أحجار، يعني في الاستحجار".

ش: هذان طريقان صحيحان.

الأول: عن أبي بكرة بكار، عن صفوان بن عيسى القرشي الزهري البصري، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة.

وأخرجه أبو داود (2) بأتم منه: نا عبد الله بن محمَّد النُفَيلي، قال: ثنا ابن المبارك، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يتطيب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرِمّة".

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي، عن عفان بن مسلم، عن وُهَيْب -بالتصغير- بن خالد البصري، عن ابن عجلان

إلى آخره.

(1)"المجتبى"(1/ 41 رقم 43).

(2)

سنن أبي داود (1/ 3 رقم 8) وقد تقدم.

ص: 494

وأخرجه النسائي (1): أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: نا يحيي -يعني ابن سعيد- عن محمَّد بن عجلان، قال: أخبرني القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم؛ إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستنجي بيمينة. وكان يأمر بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة".

وأخرجه ابن ماجه (2) والدارمي (3) أيضًا في "سننيهما".

ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: نا عبد الرحيم ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة،. عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله عليه السلام: "في الاستجمار ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع".

ش: إسناده حسن جيد، وعمرو بن خزيمة المزني وثقه ابن حبان.

وعمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري، وثقه النسائي وغيره.

وخزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري، ذو الشهادتين.

وأخرجه أبو داود (4): نا عبد الله بن محمَّد النُفيْلي، قال: نا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، قال:"سئل رسول الله عليه السلام عن الاستطابة، فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع".

وأخرجه ابن ماجه (5) أيضًا: عن محمَّد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة.

وعن علي بن محمَّد، عن وكيع، جميعًا عن هشام بن عروة

إلى آخره، نحو رواية الطحاوي، غير أن لفظه:"في الاستنجاء".

(1)"المجتبى"(1/ 38 رقم 40).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 114 رقم 313).

(3)

"سنن الدارمي"(1/ 182 رقم 674).

(4)

"سنن أبي داود"(1/ 11 رقم 41).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 114 رقم 315).

ص: 495

و"الرجيع" هو العذِرة والروث، سمي رجيعًا؛ لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعامًا أو علفًا.

ص: حدثنا فهد، قال: نا جَنْدَلُ بن وَالِقِ، قال: نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان رضي الله عنه، قال:"نُهينا أن نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار".

ش: إسناده حسن، وجندل بن والق التغلبي أبو علي الكوفي، قال أبو حاتم: صدوق.

وحفص هو ابن غياث النخعي الكوفي، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.

والأعمش هو سليمان، وإبراهيم هو النخعي.

وعبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أخو الأسود.

والحديث أخرجه الجماعة (1) غير البخاري.

ورواه ابن أبى شيبة في "مصنفه"(2): نا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان:"قال له بعض المشركين -وهم يستهزئون-: أرى صاحبكم وهو يعلمكم، حتى الخراءة! فقال سلمان: أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بدون ثلاثة أحجار".

ورواه مسلم (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة.

(1) ذكر المصنف رواية مسلم عن ابن أبي شيبة بعد ذلك وسنذكر الباقي هناك.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 143 رقم 164).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 223 رقم 262).

ورواه أبو داود في "سننه"(1/ 3 رقم 7)، والترمذي في "جامعه"(1/ 24 رقم 16) والنسائي في "المجتبى"(1/ 38 رقم 41) من طريق أبي معاوية عن الأعمش به، ورواه ابن ماجه أيضًا (1/ 115 رقم 316) من طريق وكيع وسفيان عن الأعمش به.

ص: 496

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الاستجمار لا يجزئ بأقل من ثلاثة أحجار، واحتجوا في ذلك بهذا الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: لا بد من ثلاث مَسَحَات بثلاثة أحجار، حتى لو مسح مرة أو مرتين فزالت النجاسة، وجبت مسحة ثالثة، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة.

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): وتطهير القبل والدبر من البول والغائط والدم، من الرجل والمرأة، لا يكون إلا بالماء حتى يزول الأثر، وبثلاثة أحجار متغايرة؛ فإن لم تُنْقِ فعلى الوتر أبدًا يزيد كذلك، حتى تُنْقِى، لا أقل من ذلك، أو بالتراب أو الرمل بلا عدد، لكن ما أزال الأثر فقط على الوتر.

وفي "المغني"(2): وإن أنقى بدون الثلاثة لم يُجْزه حتى يأتي بالعدد، وإن لم يُنْق بثلاثة زاد حتى ينقي. ويشترط الأمران جميعًا: الإنقاء وإكمال الثلاثة، أيهما وجد دون صاحبه لا يكفي، وإذا زاد ذلك على الثلاثة استحب أن لا يقطع إلا على وتر؛ للحديث الوارد فيه.

ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: ما استجمر به منها فأنقى به الأذى، ثلاثة كانت أو أكثر منها أو أقل، وترًا كانت أو غير وتر، فإن ذلك قد طهره.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا أو مالكا وداود والظاهرية؛ فإنهم قالوا: الشرطُ الإنقاء، دون العدد؛ حتى لو حصل الإنقاء بحجر واحدٍ أجزأه.

وهو وجه للشافعية.

قوله: "ما استجمر به""ما" موصولة مبتدأ، واستجمر به صلتها.

وقوله: "فأنقى" عطف عليه، "والأذى" مفعوله.

(1)"المحلى"(1/ 95).

(2)

"المغني"(1/ 101) بتصرف واختصار.

ص: 497

قوله: "فإن ذلك قد طهره" جملة من المبتدأ والخبر مؤكدة بـ"إن" في محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ؛ أعني قوله: "ما" في "ما استجمر"، ودخلت فيه الفاء لِتُضَمِّن المبتدأ معنى الشرط.

قوله: "ثلاثةً" نصب، على أنها خبر كان؛ أي: سواء كانت الأحجار ثلاثة أو أكثر أو أقل، وكذا الكلام في انتصاب "وترًا".

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن أمر النبي عليه السلام في هذا بالوتر يحتمل أن يكون ذلك على الاستحباب منه للوتر، لا على أن ما كان غير وتر لا يُطّهر، ويحتمل أن يكون أراد به التوقيت الذي لا يطهر ما هو أقل منه.

فنظرنا في ذلك هل نجد فيه شيئًا مما يدل على ذلك؟

فإذا يونس بن عبد الأعلى قد حدثنا، قال: أنا يحيى بن حسان، قال: نا عيسى بن يونس، قال: ثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحُمْراني، عن أبي سعيد الخَيْر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من اكتحل فليوتر من فَعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن تخلل فليلفظ، ومن لاك بلسانه فليبلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا كثيبًا يجمعه فليستدبره؛ فإن الشيطان [يتلاعب]، (1) بمقاعد بني آدم".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أخبرنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، قال: نا حصين الحِميْري، قال: حدثني أبو سعيد الخير، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام

مثله، وزاد:"من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج".

فدل ذلك أن رسول الله عليه السلام إنما أمر بالوتر في الآثار الأُوَل استحبابًا منه للوتر لا أن ذلك من طريق الفَرض الذي لا يجزئ إلا هو.

(1) في "الأصل": يلاعب، والمثبت من شرح معاني الآثار، ومصادر التخريج.

ص: 498

ش: أي: وكان من البرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه؛ تقريره: أن أمر النبي عليه السلام بالوتر في الآثار المذكورة يحتمل أن يكون على وجه الاستحباب كما يقوله أهل المقالة الثانية ويحتمل أن يكون على وجه التنصيص عليه. بحيث إنه إذا أحل لا يجوز، كما يقوله أهل المقالة الأولى فالمحتمل لا يصلح حجة إلا بمرجح لأحد المعنيين، فرأينا حديث أبي هريرة قد دل على الاحتمال الأول، فسقط الوجه الثاني. ففي هذا أيضًا إعمال الحديثين، وفيما قالوه إهمال لأحدهما، والعمل بالحديثين أصلى من إهمال أحدهما.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن يحيى بن حسان التنّيسي، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن ثور بن يزيد أبي خالد الشامي الحمصي، عن حُصَيْن الحمراني -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- والحمراني -بضم الحاء وسكون الميم- نسبة إلي حُمران بطن من حمير، وربما يقال له الحُبْراني بـ"الباء" موضع "الميم" ويقال له: الحميري أيضًا كما في الطريق الثاني، وهو يروي عن أبي سعيد الخير، وفي التهذيب: أبو سَعْد الخير، ويقال أبو سعيد الخير، ويقال: إنهما اثنان. يقال: اسمه زياد، ويقال: عامر بن سعد، ويقال: عمرو بن سعد. ذكره أبو عمر وأبو نعيم الأصبهاني وابن مندة وابن الأثير في "الصحابة" فتكون رواية صحابي عن صحابي.

وأخرجه أبو داود في "سننه"(1): نا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: أنا عيسى بن يونس

إلى آخره نحوه، مع اختلاف يسير.

الثانى: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن ثور بن يزيد

إلى آخره.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 9 رقم 35).

ص: 499

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا سريج، نا عيسى بن يونس، عن ثور، عن الحصين -كذا قال-: عن أبي سعيد الخير -وكان من أصحاب عمر- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام

إلى آخره، نحوه.

فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟

قلت: رجاله ثقات، وهو صحيح.

فإن قلت: قد قال أبو عمر وابن حزم والبيهقي: ليس إسناده بالقائم، فيه مجهولان، يَعْنون حصينًا الحُمْراني وأبا سعيد الخير.

قلت: هذا كلام ساقط؛ لأن أبا زرعة الدمشقي قال في حصين هذا: شيخ معروف. وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": لا أعلم إلا خيرًا، وقال أبو حاتم الرازي: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وأما أبو سعيد الخير فإنه صحابي.

والحديث أخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه"(2) وأحمد في "مسنده"(3) كما ذكرنا.

قوله: "من اكتحل فيوتر" أي: فليجعل الاكتحال فردًا، إما واحدة أو ثلاثا أو خمسًا، وإنما أُمِرنا بالوتر لقوله عليه السلام:"إن الله وتر يحب الوتر"(4) وهذا الأمر من الأمور النَدْبية، كقوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ} (5)، والأولى أن يكون للإرشاد، والفرق بينهما أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، غير مشتمل على ثواب الآخرة، وقد علم في موضعه أن الأمر يستعمل في قريب من عشرين معنى.

(1)"مسند أحمد"(2/ 371 رقم 8825).

(2)

"صحيح ابن حبان"(4/ 257 رقم 1410).

(3)

تقدم قريبًا.

(4)

"متفق عليه"، أخرجه البخاري (5/ 2354 رقم 6047)، ومسلم (4/ 2062 رقم 2677).

(5)

سورة النور، آية:(33).

ص: 500

قوله: "من فعل فقد أحسن" أي: من فعل الإيتار فقد أحسن في فعله، أي أتى بالفعل الحسن.

ولتضمن "مَن" معنى الشرط دخل في جوابه "الفاء".

قوله: "ومن لا فلا حرج" أي: ومن لم يفعل الإيتار فلا حرج عليه أيِ: لا إثم عليه. وقد دل نفي الحرج على أن الإيتار ليس بواجب، وإنما هو مندوب كما ذكرناه.

قوله: "ومن استجمر" أي: ومن تمسح بالحجارة فليوتر، أي: فليجعل الحجارة التي يستنجى بها فردًا، إما واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا. وهذا حجة قوية لأبي حنيفة ومن تبعه في هذه المسألة؛ لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث.

وقد قيل في قوله: "من استجمر فليوتر" إنه البخور، مأخوذ من الجَمْر الذي يُوقد به، وقد كان الإِمام مالك يقوله، ثم رجع عنه.

قوله: "ومن تخلل فليلفظ" أي: من تخلل بالخِلال فيما بين أسنانه بعد الأكل، فليلفظ الذي يخرج منه، أي: فليرم؛ لأن اللفظ في اللغة من الرمي، يقال: أكلت التمرة ولفظت نواها، أي: رميتها. وهذا أيضًا من الأمور الإرشادية.

قوله: "ومن لاك" من اللوك، يقال: لكت الشيء في فمي ألوكهُ، إذا علكته، وقد لاك الفرسُ اللجامَ.

قوله: "فليبتلع" أمر من الابتلاع، البلع والابتلاع بمعنى.

وإنما أمر في التخلل بالرمي -يعني رميِ الخُلالة- لأنها تُنْتن بين الأسنان فتصير مستقذرة.

وروي عن ابن عمر أن تركها يُوهن الأضراس.

وفي اللوك بالابتلاع (1)؛ لأن رميِ اللقمة بعد لوكها إسراف وبشاعة للحاضرين.

(1)"وفي اللوك بالابتلاع" يعني: وأمر في اللوك بالابتلاع، وهو تتمة لقوله السابق: "وإنما أمر في التخلل

" إلخ.

ص: 501

قوله: "إلا كثيبًا": الكثيب من الرمل المستطيل المحُدَودب.

قوله: "يجمعه" جملة وقعت صفة للكثيب.

قوله: "فليستدبره" أي: فليستدبر الكثيب، أي: يجعله عند دبره.

قوله: "فإن الشيطان [يتلاعب]، (1) بمقاعد بني أدم" أراد: أن الشياطين أن تحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى والفساد؛ لأنها [مواضع](2) يهجر فيها ذكر الله تعالى، وتكشف فيها العورات.

وهو معنى قوله: "إن هذه الحشوش محتضرة"(3) فأمره بالتستر مهما أمكن، وألا يكون قعوده في براح من الأرض، تقع عليه أبصار الناظرين، أو تهب الريح عليه فيصيبه نشر البول، فيلوث بدنه أو ثيابه، وكل ذلك من لعب الشيطان به.

و"المقاعد" مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها، ولعب الشيطان بمقاعد بني آدم كناية عن إيصاله الأذى والفساد.

وقد استفيد منه أحكام كثيرة على ما لا يخفى:

منها: جواز الاكتحال للرجال والنساء جميعًا، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام قال:"اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، وزعم "أن النبي عليه السلام كانت له مِكْحَلة يكتحل منها كل ليلة، ثلاثةً في هذه، وثلاثةً في هذه".

أخرجه الترمذي (4).

ومنها: أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون؛ لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث.

(1) في "الأصل، ك": يلاعب، كما تقدم في متن الحديث، والمثبت من "شرح معاني الآثار"، ومصادر تخريج الحديث.

(2)

في "الأصل، ك": موضع، وما أثبته أليق بالسياق.

(3)

رواه أبو داود في "سننه"(1/ 2 رقم 6)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 23 رقم 9903)، وابن ماجة في "سننه"(1/ 108 رقم 296) وأحمد في "مسنده"(4/ 369) وغيرهم من حديث زيد بن الأرقم.

(4)

"جامع الترمذي"(4/ 234 رقم 1757).

ص: 502

ومنها: أن الاستنجاء ليس بفرض كما ذهبت إليه الحنفية؛ لأن قوله: "من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج"، لا يقال مثل هذا في المفروض، وإنما يقال في المندوب إليه، إلا أنه إذا ترك الاستنجاء أصلًا وصلى يكره؛ لأن قليل النجاسة جعل عفوًا في حق جواز الصلاة دون الكراهة، وإذا استنجى زالت الكراهية.

وقد قيل: إن نفي الحرج في تركه (1)، ولو كان فرضًا لكان في تركه حرج، فالحديث حجة على الشافعي ومن تبعه في قولهم بفرضية الاستنجاء.

قلت: فيه نظر؛ لأن نفي الحرج في ترك الإيتار لا في ترك أصل الاستنجاء.

وقال الخطابي: معنى الحديث التخيير بين الماء الذي هو الأصل، وبين الأحجار التي هي للترخيص. لكنه إذا استجمر بالحجارة فليجعل [وترًا ثلاثا](2) وإلا فلا حرج إن تركه إلى غيره. وليس معناه ترك التعبد أصلًا بدليل حديث سلمان "نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار".

قلت: قال الأستاذ فخر الدين: في التمسك بالحديث نفي الحرج عن تارك الاستنجاء، فدلّ أنه ليس بواجب، وكذلك ترك الإيتار لا يضر؛ لأن ترك أصله لما لم يكن مانعًا فما ظنك في ترك وصفه فدل الحديث على انتفاء المجموع.

قلت: فيه النظر المذكور بعينه.

وقال الخطابيّ: وفيه آخر، وهو رفع الحرج في الزيادة على الثلاث، وذلك أن مجاوزة الثلاث في الماء عدوان، وترك للسنة، والزيادة في الأحجار ليست بعدوان، وإن صارت شفعًا.

قلت: هذا الوجه لا يفهم من هذا الكلام، على ما لا يخفى على [الفطن] ومجاوزة الثلاث في الماء كيف يكون عدوانًا إذا لم تحصل الطهارة بالثلاث؟! والزيادة في الأحجار وإن كانت شفعًا، كيف لا يصيرُ عدوانا، وقد نص على الإيتار؟!

(1) يعني الحرج الكائن في تركه، لو كان واجبًا.

(2)

في "الأصل": وثرانلا. والتصويب من "معالم السنن"- بها مش المنذري (1/ 35).

ص: 503

ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه السلام ما قد بين ذلك أيضًا:

حدثنا أحمد بن داود، قال: نا مُسدّد، قال: أنا يحيي بن سعيد، عن زهير، قال: أخبرني أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال:"كنت مع النبي عليه السلام فأتى الغائط فقال: ائتني بثلاتة أحجار فالتمست فلم أجد إلا حجرين وروثةً، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: إنها ركس".

حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا زهير بن عباد، قال: نا يزيد بن عطاء، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، قالا: قال ابن مسعود

فذكر نحوه.

ففى هذا الحديث ما يَدلُّ أنَّ النبي عليه السلام قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجارٌ؛ لقوله لعبد الله ناوِلنيِ ثلاثة أحجار، ولو كان بحضرته شيء من ذلك لما احتاج إلى أن يناوله من غير ذلك امان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وأخذ الحجرين، دلّ ذلك على استعماله الحجرين، وعلى أنه قد رأى أن الاستحجار لهما يجزى مما يجزى منه الاستجمار بالثلاث؛ لأنه لو كان لا يجزى للاستحجار بما دون الثلاث لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يَبْغِيه ثالثًا. ففي ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين.

ش: أي قد رُوِيَ عن ابن مسعود، عن النبي عليه السلام ما قد بَيَّن ما قلنا من أن الأمر بالإيتار في الآثار المذكورة أمر ندب لا أمر وجوب، وذلك ظاهر لا يخفى.

حاصلة أن العَدَد لو كان شرطًا، لسأل النبي عليه السلام ابنَ مسعود ثالثًا؛ فحين اكتفى بالاثنين، ولم يسأل الثالث، علمنا أن المعتبى في هذا الباب الإنقاء دون العدد، ولا ينكر هذا إلا معاند.

ثم إنه أخرج حديث ابن مسعود من طريقين:

الأول: عن أحمد بن داود، عن مُسدّد، أحد مشايخ البخاري وغيره، عن يحيي بن سعيد القطان، عن زهُير بن معاوية بن حُديج الكوفي، أحد أصحاب

ص: 504

أبي حنيفة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَبيعي، عن عبد الرحمن بن الأسود بن [يزيد]، (1) بن قيس النخعي، عن أبيه الأسود بن يزيد، وكلهم رجال الصحيح ما خلا أحمد بن داود.

وأخرجه البخاري (2)، نا أبو نعيم، نا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، سمع عبد الله يقول:"أتى رسول الله عليه السلام الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال. هذا ركس".

وأخرجه النسائي (3)، نا أحمد بن سليمان، نا أبو نعيم، عن زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود

إلى آخره، نحو رواية البخاري، وفي آخره قال أبو عبد الرحمن:"الركس طعام الجن".

وأخرجه ابن ماجه (4)، نا أبو بكر بن خلاد الباهلي، نا يحيي بن سعيد القطان، عن زهير، عن أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود

إلى آخره نحوه.

وأخرجه الترمذي (5) من حديث أبي عبيدة: نا هناد وقتيبة، قالا: نا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال:"خرج النبي لحاجته، فقال: التمس لي ثلاثة أحجار، قال: فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: إنها ركس".

(1) في "الأصل، ك": زيد، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته.

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 70 رقم 155).

(3)

"المجتبى"(1/ 39 رقم 42).

(4)

"سنن ابن ماجه"(1/ 114 رقم 314).

(5)

"جامع الترمذي"(1/ 25 رقم 17).

ص: 505

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود، عن زهير بن عباد الرُؤاسي، ابن عم وكيع بن الجراح، عن يزيد بن عطاء بن يزيد الكندي، فيه مقال، عن أبي إسحاق عَمرو السَبيعي، عن علقمة بن قيس النخعي، وعن الأسود بن يزيد النخعي، عن ابن مسعود.

وأخرجه الدارقطني (1): نا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن بول، حدثني جدّي، ثنا أبي، عن أبي شيبة، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله قال:"خرجت يومًا مع رسول الله عليه السلام قال: فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، قال: فأتيتهُ بحجرين وروثة، قال: فألقى الروثة وقال: إنها ركس فأتني بغيرها".

وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"(2) من حديث علقمة بإسناد صحيح، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا زياد بن الحسن بن فرات عن أبيه، عن جده، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله، قال:"أراد النبي عليه السلام أن يتبرز، فقال: ائتني بثلاثة أحجار، فوجدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين، وطرح الروثة، وقال: هي رجس".

فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟

قلت: صحيح كما ترى.

فإن قلت: قال ابن الشاذكوني: هذا الحديث مردود؛ لأنه مُدلَّس؛ لأن السبيعي لم يصرّح فيه بسماع، ولم يأت بصيغة معتبرة، وما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا، ولا أخفي قال: أبو عبيدة لم يحدثني، ولكن عبد الرحمن، عن فلان، ولم يقل: حدثني، فجاز الحديث وسار.

قلت: أبو إسحاق سمعه من جماعة، ولكنه كان غالبًا إنما يحدث به عن أبي عبيدة، فلما نشط يومًا قال: ليس أبو عبيدة الذي هو في ذهنكم أني حدثتكم

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 55 رقم 5).

(2)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 39 رقم 70).

ص: 506

عنه حدثني وحده، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، ولعل البخاري لم ير ذلك متعارضًا وجعلهما إسنادين، أو أسانيد.

وذكر الكرابيسي في كتاب "المدلسين": أبو إسحاق يقول في هذا الحديث مرةً: حدثني عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، ومرةً حدثني علقمة، عن عبد الله، ومرة حدثني أبو عبيدة، عن عبد الله، ومرةً يقول: ليس أبو عبيدة حدثنيه، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن عبد الله، وهذا دليل واضح أنه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعًا فافهم.

وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: اختلفوا في هذا الحديث، والصحيح عندي حديث أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه.

وزعم الترمذي أن أصح الروايات عنده حديث قيس بن الربيع وإسرائيل عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه على ذلك قيس، وزهير [في](1) أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأن سماعه منه بأخرة، سمعت أحمد بن الحسن، سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا سمعت الحديث عن زائدة، وزهير فلا تبالِ أن لا تسمعه من غيرهما، إلا حديث أبي إسحاق.

ورواه زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، وهذا حديث فيه إضطراب، قال: وسألت الدارمّي أي الروايات في هذا أصح عن أبي إسحاق؟ فلم يقض فيه بشيء، وسألت محمدًا عن هذا فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير أشبه، ووضعه في جامعه، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، ولا نعرف اسمه. انتهى كلامه (2).

(1) في "الأصل، ك": عن، والمثبت من "جامع الترمذي"(1/ 28).

(2)

هذا النقل فيه تقديم وتأخير عن كلام الترمذي الذي في نسختي، يراجع له جامع الترمذي (1/ 25 - 29).

ص: 507

قلت: في كلامه نظر من وجوه:

الأول: ترجيحه حديث إسرائيل على حديث زهير، وهو معارض بما حكاه الإسماعيلي في صحيحه؛ إذ رواه من حديث يحيى بن سعيد، ويحيي بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير، عن أبي إسحاق، ما ليس بسماع لأبي إسحاق.

وكذلك رواية أبي جعفر الطحاوي حيث رواه من حديث يحيي بن سعيد، عن زهير، عن أبي إسحاق.

وقال الآجُرّيّ: سألت أبا داود، عن زهير وإسرائيل في أبي إسحاق؟ فقال: زهير فوق إسرائيل بكثير.

وتابعه إبراهيم بن يوسف، عن أبيه كما قال البخاري في آخر الحديث المذكور، وقال إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن، وتابعه أبو حماد الحنفي، وأبو مريم، وشريك وزكرياء بن أبي زائدة، كذا قاله الدارقطني.

الثاني: إسرائيل اختلف عليه؛ فرواه كرواية زهير، ورواه عباد القطواني، وخالد العبدي، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله. وروى الحميدي، عن ابن عيينة عنه، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، ذكره الدارقطني والعدني في "مسنده"، وزهير لم يختلف عليه.

الثالث: اعتماده على متابعة قيس بن الربيع، وهي لا شيء لشدة ما رُمِيَ به من نكارة الحديث والضعف، وإضرابه عن متابعة يونس والثوري، وهما هما.

الرابع: قوله: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه مردود، وقال أبو بكر بن أبي داود: قلت لأبي: أبو عبيدة سمع من أبيه، قال: يُقال: إنه لم يسمع منه قلت: فإن عبد الواحد بن زياد يروي عن أبي مالك الأشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيد قال:"خرجت مع أبي لصلاة الصبح" فقال لي: ما أدري ما هذا، وما أدري ابن أبي هند من هو.

ص: 508

وفي "المعجم الأوسط"(1) للطبراني: من حديث زياد بن سعد، عن أبي الزبير، قال: حدثني يونس بن [خباب](2) الكوفي، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه يقول: "كنت مع النبي عليه السلام في سفر

" الحديث.

وأخرج الحاكم في "مستدركه"(3) حديث أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن أبيه في ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم صححّه.

وكذلك الترمذيُّ حَسّنَ عِدّة أحاديث رواها أبو عبيدة، عن أبيه عبد الله، منها:"كان في الركعتين الأولين كأنه على الرَضْف"(4)، ومن شرط الحديث أن يكون متصلًا عن المحدثين (5).

الخامس: قوله: "وأبو عبيدة لم يُعرف اسمه"، يرّده ما ذكره مسلم في كتاب "الكنى"، وابن حبان في كتاب "الثقات"، وأبو أحمد في "الكنى"، وغيرهم أن اسمه عامر.

السادس: أنه أضرب عن الحديث المتصل الصحيح إلى منقطع -على زعمه- وهو قول الدارقطني: ثنا عمر بن أحمد الدقاق، نا محمَّد بن عيسى بن حبان، ثنا الحسن بن قتيبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، وأبي الأحوص، عن ابن مسعود فذكره.

(1)"المعجم الأوسط"(9/ 81 رقم 9189).

(2)

في "الأصل، ك" عتاب، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الأوسط" ومصادر ترجمته يونس، وهو من رجال التهذيب.

(3)

"مستدرك الحاكم"(3/ 96 رقم 4509).

(4)

"جامع الترمذي"(2/ 202 رقم 366).

(5)

قلت: قال الترمذي بعد الحديث المذكور: هذا حديث حسن إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.

ص: 509

السابع: قوله: "ورواه زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن ابن يزيد، عن عبد الله"، ولم يزد على ذلك شيئًا، وليس كذلك فإن زكرياء روي عنه هذا على وجوه (1): منها رواية عبد الرحيم، والأزرق، وإسماعيل بن أبان.

ومنها رواية سهل، عن يحيي، عنه، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، وقيل: عن منجاب، عن يحيي، عنه، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن الأسود، لم يذكر بين أبي إسحاق والأسود أحدًا، فيما ذكره الدارقطني (2).

قال: ورواه عمار بن رزيق، وورقاء، ومعتمر، وسليمان بن قَرْم، وإبراهيم الصائغ، وعبد الكبير بن دينار، وأبو شيبة، ومحمد بن جابر، وشعبة بن الحجاج، وصباح بن يحيى المزني، وروح بن مسافر، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله، وكذلك قال إسحاق الأزرق، عن شريك، وروي عن علي بن صالح بن حيّ، ومالك بن مِغول، ويوسف بن أبي إسحاق، وحُدَيج بن معاوية، وشريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأسود، عن عبد الله، ورواه أبو سنان، عن أبي إسحاق، عن هُبَيرة بن يريم، عن عبد الله وقفه شعبة، وسفيان، ورفعه عنه الثوري، وغيره، قال الدارقطني: قد اختلف فيه على أبي إسحاق اختلافًا شديدًا، والله أعلم (3).

وتعلقت الظاهرية بنص هذا الحديث أن الأحجار متعينة في الاستنجاء، لا يجزئ غيرها. والإجماع على أن الحجر ليس بمتعين، بل يقوم الخزف، والخشب، والمدر، والتراب، ونحوها مقامه؛ لأن المعنى فيه كونه مُزيلًا، وقد يحصل ذلك بغير الحجر، وإنما نص عليه السلام على الحجر لكونه الغالب المتَيسِّر.

(1) راجع "علل الدارقطني"(5/ 27).

(2)

"علل الدارقطني"(5/ 27).

(3)

وانظر "العلل"(5/ 18 - 29) تحت الحديث رقم (686).

ص: 510

ويدلّ على عدم تعيّنه أيضًا نهيهُ عليه السلام عن العظم، والبعر، والرجيع؛ فلو كان معينًا لنهى عما سواه مطلقًا.

ص: فهذا وجه الباب من طريق تصحيح معاني الآثار، وأما من طريق النظر فإنا رأينا الغائط والبول إذا غُسلا بالماء مرةً، فذهب بذلك أثرهما وريحهما حتى لم يبق شيء من ذلك، أن مكانهما قد طهر بذلك، ولو لم يذهب بذلك لونهما ولا ريحهما احتيج إلى غسله ثانيًا، فإن غسلا ثانيًا فذهب لونهما وريحهما طهر بذلك كما يطهر بالواحدة ولو لم يذهب لويهما ولا ريحهما بِغُسْل مرتين احتيج إلى أن يُغْسَلا بعد ذلك حتى يذهب لونهما وريحهما.

فكان ما يراه في غسلهما معلومًا لا يُجزئِ ما هو أقل منه، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الاستجمار بالحجارة، لا يراد من الحجارة في ذلك مقدار معلومٌ لا يجزئ الاستجمار بأقل منه، ولكن يُجْزئ من ذلك ما أذهب النجاسة، مما قل أو أكُثر فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد رحمهم الله.

ش: أشار بهذا إلى ما قاله، من قوله:"ففي هذا الحديث ما يدُلّ أن النبي عليه السلام قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار"، إلى قوله:"ففي تركه ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين"، وإنما ذكر قوله للغائط في مكان إلى قوله من غير ذلك المكان تمهيدًا، وبسطًا لجواب سؤال يأتي من قبل الخصم، وهو أن يقول: يحتمل أن يكون اكتفاء النبي عليه السلام بالحجرين، وعدم طلبه الثالث لكون الثالث موجودًا عنده، فلذلك لم يطلب منه الثالث، فقال: لا نُسَلِّم ذلك؛ لأن قعوده عليه السلام للغائط كان في مكان ليس فيه أحجار، إذ لو كانت هناك أحجار لما قال له: ائتني بثلاثة أحجار؛ لأنه لا فائدة لطلب أحجار وهي حاصلة عنده وهذا معلوم بالضرورة.

فإن قيل: لو لم يكن تعيين الثلاث مفيدًا، لما قال: ائتني بثلاثة أحجار.

ص: 511

قلت: كان ذلك للاحتياط؛ لأن التطهير بواحد أو اثنين لم يكن محققًا، فلذلك نصّ على الثلاث، وبالثلاث يحصل التطهير غالبًا.

ونحن أيضًا نقول: إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلا بالثلاث، تَعيَّن عليه الثلاث، والتعيّن ليس لأجل التوقيت فيه، وإنما هو للإنقاء الحاصل منه، حتى إذا احتاج إلى رابع أو خامس وهلمَّ جرّا، يتعين عليه ذلك.

قوله: "وأما من طريق النظر" أي القياس الصحيح، وهو ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وبالله المستعان في كل شأن.

ص: 512