الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: صفة التيمم كيف هي
؟
ش: أي هذا في بيان صفة التيمم كيف هي؛ هل هي ضربة واحدة، أو ضربتان، أو أكثر؟ وكيف ماهية الضرب؟
وأصل التيمم من الأَمِّ، وهو القصد، تقول: أَمَّةُ يَؤُمه أَمّا إذا قصده، ويقال: أَمَّ، وتَأمّم، ويَمّم، وتَيْمّم، بمعنى واحد.
ذكره أبو محمَّد في "الكتاب الواعي" وفي "المحكم": وايتمّه.
والتيمم أصله من ذلك؛ لأنه يقصد التراب فيتمسح به.
وفي "الجامع" عن الخليل: التيمم يجري مجرى التوخي، تقول: تيَمَّمْ أطيبَ ما عندك فأطْعِمْنَا منه، أي: توخَّاه (1) وقال الفراء: ولم أسمع: "يَمَمْتُ" بالتخفف، وفي "التهذيب" لأبي منصور: التعمد.
قلت: التيمم في اللغة مطلق القصد.
قال الشاعر (2):
ولا أَدْرِي إذا يَمَّمْتُ أَرْضا
…
أُريِدُ الْخيرَ أَيُّهُمَا يَلِيني
أَأَلْخيرُ الذي أَنَا أَبْتَغِيه
…
أَمِ الشَّرُّ الّذي هو يَبتَغِيني
وفي الشرع: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة الخبر (3).
وإنما لم يقل: كتاب صفة التيمم؛ لأن كتاب الطهارة يشمله، فلا يحتاج إلى ذكر الكتاب، وهو نوع من الطهارة فلا يُذكر إلا بالباب.
(1) توخاه: كذا في "الأصل، ك"، وهي كذلك أيضًا في "عمدة القاري" (2/ 2) ولعل الأظهر: تَوَخَّهُ؛ لأن الفعل المُفسَّر (تيممْ) فعلُ أمرٍ.
(2)
هو المُثَقِّب العبدي، آخر بيتين له من قصيدة من "المفضليات"، رقم (76) و"الحماسة البصرية" رقم (89) وفي المصدرين تخريج الأبيات مفصلًا وقوله:(يممت أرضًا) موافق لرواية "الحماسة"، وفي "المفضليات":(أمرًا).
(3)
في "عمدة القاري": "لاستباحة الصلاة، وإقامة الأمر" وهي أوضح.
ولما فرغ من أحكام الوضوء الذي هو طهارة صغرى، وما يتعلق به، شرع يذكر التيمم الذي هو خَلَفٌ عنه، والخلف أبدا يلي الأصل.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا الوهبي، قال: نا ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار، قال:"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت آية التيمم، فضربنا ضربة واحدة للوجه، ثم ضربنا ضربة لليدين إلى المنكبين، ظهرا وبطنا".
ش: الوهبي: هو أحمد بن خالد الكندي، ونسبته إلى وهب والد عبد الله بن وهب.
وابن إسحاق: هو محمَّد بن إسحاق بن يَسار المدني.
والزهري: هو محمَّد بن مسلم الزهري.
وعُبَيد الله: هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، الفقيه الأعمى المدني، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكلهم ثقات أئمة أجلاء.
وأخرجه أبو داود منقطعا وموصولا:
أما المنقطع (1): فقد قال: نا أحمد بن صالح، نا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، حدثه عن عمار بن ياسر:"أنه كان يحدث أنهم تمسحوا، وهم مع رسول الله عليه السلام بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط، من بطون أيديهم".
وإنما قلنا: إنه منقطع؛ لأن عبيد الله بن عبد الله لم يدرك عمارا، قاله الشيخ زكي الدين المنذري.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 86 رقم 318).
وأما الموصول (1): فقد قال: نا محمد بن أحمد بن أبي خلف ومحمد بن يحيى النيسابوري -في آخرين- قالوا: نا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرّس بأولات الجيش ومعه عائشة، فانقطع عِقْد لها من جزع ظفار، فحبس الناسَ ابتغاءُ عقدِها ذلك، حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر رضي الله عنه وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله عليه السلام، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط.
وأخرجه النسائي (2): أيضا موصولا هكذا.
وأخرجه ابن ماجه (3): منقطعا وليس فيه: "المناكب".
قوله: "للوجه" أي لأجل مسح الوجه.
قوله: "إلى المنكبين" تثنية مَنْكِب بفتح الميم وكسر الكاف وهو مجمع عظم العضد والكتف.
قوله: "ظهرا وبطنا" منصوبان على التمييز، يعني من حيث الظهر ومن حيث البطن؛ لأن قوله:"لليدين إلى المنكبين" يحتمل أن يكون في ظاهر اليدين إلى المنكبين بدون باطنهما، ويحتمل أن يكون في باطنهما دون ظاهرهما، فلما قال: ظهرا وبطنا زال ذلك الاحتمال.
ص: حدثنا ابن أبي داود ومحمد بن النعمان، قالا: نا عبد العزيز بن عبد الله الأوَيْسي، قال، نا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب
…
فروي بإسناده مثله.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 86 رقم 320).
(2)
"المجتبى"(1/ 167 رقم 314).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 189 رقم 571).
ش: هذا طريق آخر ورجاله ثقات، عن إبراهيم بن أبي داود البُرُلُّسي ومحمد بن النعمان السقطي، كلاهما عن عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أُوَيْس، القرشي العامري الأُوَيْسي، أبي القاسم المدني، أحد مشايخ البخاري في الصحيح.
عن إبراهيم بن سعد الزهري أبي إسحاق المدني.
عن صالح بن كيسان أبي محمَّد المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله .. إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري .. إلى آخره.
كما أخرجه أبو داود، وقد ذكرناه الآن (2).
ص: وحدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: أنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، أنه أخبره عن أبيه، عن عمار، قال:"تمسحنا مع النبي عليه السلام بالتراب، فمسحنا وجوهنا وأيدينا إلى المناكب".
ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود، عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء بن عبيد الله بن مخارق البصري، ابن أخي جويرية بن أسماء شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن جويرية بن أسماء بن عبيد، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه عبد الله ابن عتبة ابن مسعود، عن عمار بن ياسر.
ورجاله رجال الصحيح، ما خلا إبراهيم.
وأخرجه النسائي (3): أنا العباس بن عبد العظيم، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن
(1)"مسندأحمد"(4/ 263).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
"المجتبى"(1/ 168 رقم 315).
أسماء، قال: نا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه أخبره عن أبيه، عن عمار، قال:"تيممنا مع رسول الله عليه السلام[بالتراب] (1) فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب".
قوله: "تمسحنا" أي: تيممنا كما جاء في قوله: "تمسحوا بالأرض" أراد به التيمم، وكما وقع في رواية النسائي:"تيممنا".
ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: نا سعيد بن داود، قال: نا مالك، أن ابن شهاب حدثه، أن عبيد الله -هو ابن عبد الله-[أخبره](2) عن أبيه عن عمار مثله.
ش: هذا طريق آخر عن محمَّد بن علي بن داود المعروف بابن أخت غزال، وثقه ابن يونس.
عن سعيد بن داود بن سعيد بن أبي زَنْبَر، عن [أبي](3) عثمان المدني، روى عنه البخاري في الصحيح، وضعفه ابن حبان وغيره.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا إبراهيم بن بشار، قال: حدثني سفيان بن عُيينة، قال: نا عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار، قال:"تيممنا مع النبي عليه السلام إلى المناكب".
ش: هذا طريق آخر عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي أحد مشايخ أبي داود، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن محمَّد ابن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه عبد الله بن عتبة، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه.
(1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "سنن النسائي".
(2)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من شرح "معاني الآثار"(1/ 110).
(3)
في "الأصل، ك": "ابن أبي" وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب حذف "ابن" فإن أبا عثمان: هي كنية سعيد نفسه، انظر ترجمته في "تهذيب الكمال".
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا محمَّد بن عمرو بن العباس الناجي، ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار، قال:"تيممنا مع رسول الله عليه السلام إلى المناكب والآباط".
ولا تعلم [روى](2) عبد الله بن عتبة، عن عمار إلَّا هذا الحديث.
ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يزيد بن هارون، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار بن ياسر، قال: "كنا مع النبي عليه السلام في سفر، فهلك عقد لعائشة رضي الله عنها فطلبوه حتى أصبحوا، وليس مع القوم ماء، فنزلت الرخصة في التيمم بالصُّعُدَات، فقام المسلمون فضربوا بأيديهم إلى الأرض، فمسحوا بها وجوههم، وظاهر أيديهم إلى المنكب، وباطنها إلى الآباط.
ش: رجاله ثقات وإسناده منقطع؛ لأن عبيد الله لم يدرك عمارا كما ذكرناه.
وأخرجه أبو داود نحوه وقد ذكرناه (3)، وابن أبي ذئب: هو محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب.
وأخرج البخاري (4)، ومسلم (5)، والنسائي (6): حديث عائشة في انقطاع العقد، وليس فيه كيفية التيمم.
قوله: "في سفر" أراد سفر الحج أو الغزاة، ولكن جاء في بعض ألفاظ الصحيح أنه ضاع عقدها في غزوة المُرَيْسِيع التي كانت فيها قصة الإفك، قال أبو عُبَيد البكري في حديث الإفك: فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاؤه.
(1)"مسند البزار"(4/ 239 رقم 1403).
(2)
في "الأصل، ك": "روى عن" وحرف "عن" ليس عند البزار والصواب حذفه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
"صحيح البخاري"(1/ 127 رقم 327).
(5)
"صحيح مسلم"(1/ 279 رقم 367).
(6)
"المجتبى"(1/ 163 رقم 310).
وقال ابن سعد: خرج رسول الله عليه السلام إلى المُرَيْسيع يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس.
ورجحه أبو عبد الله في "الإكليل" وقال البخاري: عن أبي إسحاق سنة ست، قال البخاري: قال موسى بن عقبة: سنة أربع.
واختلفوا متى نزلت آية التيمم؟ فزعم ابن التين أنها نزلت في المريسيع سنة ست، وكذا قاله الإِمام عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن بَزِيزَة في شرح كتاب "الأحكام الصغرى" لأبي محمَّد الإشبيلي وزعم ابن الجوزي أن ابن حبيب قال: سقط عقدها في السنة الرابعة في عزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق سنة ست قصةُ الإفك.
قلت: يعارض هذا ما رواه الطبراني (1): من أن الإفك قبل التيمم فقال: نا القاسم بن حماد، نا محمد بن حميد الرازي، نا سلمة بن الفضل وإبراهيم بن المختار، عن محمَّد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: "لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله عليه السلام في غزوة أخرى، فسقط أيضًا عقدي، حتى حبس الناس على التماسه وطلع الفجر، فلقيت من أبي بكر ما شاء الله وقال: يا بنية: في كل سفر تكونين عناء وبلاء؟! ليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك ما [علمتٌ](2) لمباركه.
قلت: إسناده جيد حسن.
وزعم البكري أن سقوطه كان بمكان يقال له: "الصُّلْصُل" بالمهملتين، قيل: وهو الصحيح.
(1)"المعجم الكبير"(23/ 121 رقم 159).
(2)
في "الأصل، ك": عمدت وهو تحريف، والمثبت من "معجم الطبراني" ..
وأما الجوهري فكذلك ذكره بالمهملتين، وفي "العباب"، الصُّلْصُل موضع على طريق المدينة، وصُلْصُل ماء قرب اليمامة لبني العجلان، وصلصل ماء في جوف هضبة حمراء، ودَارَةُ صُلْصُل لبني عمرو بن كلاب، وهي بأعلى دارها، ذكر كل ذلك في المهملة (1).
قوله: "فهلك عقد" أي: ضاع وسقط، وهو من الهلك بالتحريك، وهو الشيء الذي يهوي ويسقط، ولهذا جاءت في رواية أخروى: قالت عائشة: "سقط قلادة لي بالبيداء" وفي رواية: "انقطع عقد لي"، والعِقْدُ بكسر العين وسكون القاف: القلادة، وذكر السفاقسي أن ثمنه كان يسيرا، وقيل: كان ثمنُه اثني عشر درهما، وفيه دلالة على حرمة الأموال الحلال، [وأَلَّا تضاع](2).
وذكر ابن مسلمة المالكي في مبسوطه: فيه (جواز)(3) حفظ الأموال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت، وعلى هذا يجوز للإنسان سلوك طريق يتيقين فيه عدم الماء طلبا للمال.
قوله: "وليس مع القوم ماء" جملة خبرية وقعت حالا.
قوله: "فنزلت الرخصة" أراد آية التيمم، وقال أبو بكر بن العربي: هذه مُعْضِلة ما وجدت لدائها من دواء؛ [هما](4) آيتان فيهما ذكر التيمم: في النساء والمائدة فلا نعلم أيتها عنت عائشة رضي الله عنها بقولها: "فأنزلت آية التيمم".
(1) وانظر "معجم البلدان"(2/ 421).
(2)
في "الأصل، ك": الأبضاع، بالباء الموحدة، وقد تقرأ: وألا يُضاع، يعني: المال، وما أثبتنا أظهر. وفي "العمدة" (2/ 7):"ولا يضيعُها" ..
(3)
تكررت في "الأصل، ك".
(4)
ليست في "الأصل، ك"، وأثبتها من "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 441) والعبارة فيه بنحو مما هنا وفي هذا الموضع من "الأصل" غبش في مصورتنا، وانظر "عمدة القاري"(2/ 5).
وقال السفاقسي كلاما طويلا ملخصه: [أن الوضوء](1) كان لازما لهم، وآية التيمم إما المائدة أو النساء، وهما مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلَّا بوضوء، فلما نزلت آية التيمم لم يُذكر الوضوء لكونه متقدما متلوّا؛ لأن حكم التيمم هو الطارئ على الوضوء وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية، وهو فرض الوضوء، ثم نزل عقب هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية وهو:{كُنْتُمْ مَرْضَى أَو} أو: يحتمل أن يكون كان بالسُّنَّة لا بالقرآن، ثم أنزلا معا فعبرت عائشة بالتيمم؛ إذ كان هو المقصود.
وقال القرطبي أرادت به آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء. قلت: لو رأى هؤلاء ما ذكره أبو بكر الحميدي في "جَمْعِه" في حديث عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة
…
فذكر الحديث، وفيه فتزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى} الآية إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) لما احتاجوا إلى الترخص والله أعلم.
قوله: "بالصُّعُدات" بضم الصاد والعين جمع: صُعُد وهو جمع صعيد، كطريق وطرق وطرقات، وقيل: هي جمع صُعْدَة، كظُلْمة تجمع على ظلمات.
قوله: "إلى الآباط" بمد الهمزة المفتوحة جمع إبط بكسر الهمزة والباء، ويجوز فيه تسكين الباء (3).
ص: حدثنا ابن أبي داود ومحمد بن النعمان، قالا: ثنا الأُوَيْسيُّ، قال: نا إبراهيم ابن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
(1) تكررت في "الأصل، ك"، والعبارة في "عمدة القاري"(2/ 5) على الصواب، بدون تكرار.
(2)
سورة المائدة، آية:[6].
(3)
الوجْه أن يُقال هنا: بسكون الباء، ويجوز فيه كسر الباء، كما هو صنيع "القاموس" و"المعجم الكبير" فسكون الباء هو الأصل، حتى إن "اللسان" أهمل ذكر الكسر، "والمصباح" أنكره.
ش: هذا طريق أخر وهو متصل صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود، عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ونسبته إلى جدِّه أُوَيْس بضم الهمزة.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: قد ذهب قوم إلى هذا، فقالوا: هكذا التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المناكب والآباط.
ش: أراد بالقوم: محمَّد بن مسلم الزهري ومن تبعه، وقد قيل: إن هذا المذهب، وهو مذهب الزهري فقط ولم يقل غيره.
قلت: نقل ابن بزيزة أن هذا مذهب ابن مسلمة والزهري أيضا، وقال ابن حزم في "المحلى" (1): وقد ذهب قوم إلى أن التيمم إلى المناكب، ثم قال: وبه كان يقول عمار والزهري.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فافترقوا فرقتين.
فقالت فرقة منهم: التيمم للوجه واليدين إلى المرفقين.
وقالت فرقة: التيمم للوجه والكفين.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم جماهير العلماء، والأئمة الأربعة وأصحابهم فإن أحدا منهم لم يقل إن التيمم إلى الآباط.
ثم افترق هؤلاء فرقتين:
فقالت فرقة منهم: التيمم للوجه واليدين إلى المرفقين؛ وهو مذهب الأكثرين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول الشافعي ومالك -في رواية- والثوري والشعبي والحسن.
وإليه ذهب علي بن أبي طالب وعبد الله بن عُمَرَ، وابنه سالم بن عبد الله.
وقالت فرقة: التيمم للوجه والكفين، وهو مذهب عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر، وعامة أصحاب الحديث.
(1)"المحلى"(2/ 153).
وعن ابن سيرين: لا يجزئه أقل من ثلاث ضربات، ضربة للوجه، وضربة ثانية لكفيه، وثالثة لذراعيه، وعنه: ثلاث ضربات؛ الثالثة لهما جميعا.
وفي "القواعد" لابن رشد: روي عن مالك الاستحباب إلى ثلاث، والفرض اثنتان وفي "شرح الأحكام" لابن بزيزة: قالت طائفة من العلماء: يضرب أربع ضربات، ضربتان للوجه، وضربتان لليدين، قال ابن بزيزة وليس له أصل من السنة.
وقال أبو عمر (1): اختلف العلماء في كيفية التيمم، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، وابن أبي سلمة والليث: إلى المرفقين.
وقال الأوزاعي: التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين وهما الرُّسْغان، والفرض عند مالك إلى الكوعين، الاختيار إلى المرفقين، وروى عن الأوزاعي -وهو أشهر قوليه-: التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين، وهو قول عطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد وإسحاق والطبري، وهو أثبت ما روي في ذلك عن عمار، رواه شقيق، عن أبي موسى، عن عمار ولم يختلف في حديث أبي وائل هذا، وسائر أحاديث عمار مختلف فيها.
وحكاه الخطابي عن عامة أصحاب الحديث.
وقال الحسن بن حَيّ وابن أبي ليلى: التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومِرفقيه (2)، ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم غيرهما في علمي.
وفي "المغني"(3) لابن قدامة: المسنون عند أحمد التيمم بضربة واحدة، فإن تيمم بضربتين جاز، وقال القاضي: الإجزاء يحصل بضربة، والكمال بضربتين انتهى.
(1)"التمهيد"(19/ 282) بتصرف واختصار.
(2)
في "الأصل، ك": ورفقيه، خطأ.
(3)
"المغني"(1/ 154).
ويدخل المرفقان في التيمم عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وهو قول ابن عمر وابنه سالم والحسن والشعبي.
وعن مالك: التيمم إلى الكوعين: وهو قول الشافعي في القديم، وأحمد في رواية.
وعن مالك: أنه في الجنابة إلى الكوعين، وفي الحدث الأصغر إلى المنكبين.
ص: فكان من الحجة لهاتين الفرقتيق على الفرقة الأولى: أن عمار بن ياسر رضي الله عنه لم يذكر أن النبي عليه السلام أمرهم أن يتيمموا كذلك، وإنما أنزل منها {صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} (1) ولم يبين لهم كيف يتيمموا، فكان ذلك عندهم على كل ما فعلوا في التيمم، لا وقَّت في ذلك وقتا، ولا عضوا مقصودا به إليه بعينه، حتى نزلت بعد ذلك {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا} (2).
ش: هذا جواب عن حديث عمار الذي احتج به الزهري ومن تابعه فيما ذهبوا إليه، وهو ظاهر، وهذا يُشعر باعتراف الطحاوي بصحة حديث عمار، فلذلك حمله على هذا المحمل، وصححه أيضا ابن حزم.
وقال الترمذي: وضعّف بعض أهل العلم حديث عمار.
وفي "التمهيد"(3): كُلُّ ما يروى عن عمار في هذا مضطرب مختلف فيه، وأكثر الآثار المرفوعة عنه ضربة واحدة للوجه واليدين خلافه، وإن كان عن أمر فهو منسوخ، وناسخه حديث عمار أيضا:"إنما يكفيك أن تفعل هكذا".
فإن قيل: فلو كان عمار حفظ التيمم في أول الأمر، وكان الثاني بعد الأول، كما زعمتم، لما اضطر عمار إلى التمرغ.
(1) سورة النساء، آية:[43]، والمائدة، آية:[6].
(2)
سورة المائدة، آية:[6].
(3)
"التمهيد"(19/ 287) بنحوه.
قلت: إنما أشكل على عمر وعمار لحصول الجنابة، فاعتزل عمر رضي الله عنه وتمعك عمار؛ ظنّا منه أن حالة الجنابة تخالف حالة الحدث الأصغر.
وعندي جواب حسن عن هذا الحديث، وهو أنهم أجروا اسم اليد على ظاهر الاسم؛ لأن اليد لغة: من رؤوس الأنامل إلى الآباط، ولم يكن عندهم دليل الخصوص، فأجروا الحكم على ظاهره، ولكن قام دليل الإجماع في إسقاط ما وراء المرفقين، فسقط، وما دونهما بقي على الأصل؛ لاقتضاء الاسم إياه، ويؤيده أن التيمم بدل عن الوضوء والبدل لا يخالف المبدل.
وقال الكاساني في "البدائع"(1): وحديث عمار معارض، والمعارض لا يصلح حجة.
وقد قال إسحاق بن إبراهيم قريبا من كلام الطحاوي، وهو أن حديثه "تيممنا مع النبي عليه السلام إلى المناكب والآباط" ليس بمخالف لحديث الوجه والكفين؛ لأن عمارا لم يذكر أن النبي عليه السلام أمرهم بذلك، وإنما قال: فعلنا كذا وكذا، فلما سأل النبي عليه السلام أمره بالوجه والكفين، فانتهى إلى ما عَلَّمه رسول الله عليه السلام، والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي عليه السلام في التيمم أنه قال: الوجه والكفين.
وقال الشافعي: ذكر عمار تيممهم مع النبي عليه السلام إلى المناكب منسوخ عنده؛ لأنه رَوى عنه عليه السلام أنه أمر بالتيمم على الوجه والكفين، فإن لم يرو عنه إلَّا تيمما واحدا فاختلف رواته عنه، فتكون رواية ابن الصمَّة التي لم تختلف أثبت، وإذا لم تختلف فأولى أن يؤخذ بها؛ لأنها أوفق لكتاب الله من الروايتين اللتين رويتا مختلفتين، أو يكون إنما سمعوا آية التيمم عند حضور الصلاة، فتيمموا واحتاطوا وأتوا على غاية ما يقع عليه اسم اليد؛ لأن ذلك لا يضرهم، كما لا يضرهم لو فعلوه في الوضوء، فلما صاروا إلى سؤاله عليه السلام أخبرهم أنه يجزئهم أقل مما فعلوا.
(1)"بدائع الصنائع"(1/ 46) بنحوه.
ص: ومما يدل على ما قلنا من ذلك ما:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، حدثه أنه سمع عروة يخبر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أقبلنا مع النبي عليه السلام في غزوة [له](1) حتى إذا كنا بالمعرَّس، قريبا من المدينة، نَعَسْتُ من الليل، وكانت عليَّ قلادة تدعي السِمْط، تبلغ السُّرّةَ، فجعلت أَنْعُسُ، فخرجتْ من عنقي، فلما نزلتُ مع النبي عليه السلام لصلاة الصبح، قلت: يا رسول الله، خرَّت قلادتي. فقال للناس: إن أمكم قد ضلّت قلادتها فابتغوها، فابتغاها الناس، ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرتهم الصلاة، ووجدوا القلادة، ولم يقدروا على ماء، فمنهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، وبعضهم تيمم على (جلده)(2) فبلغ ذلك رسول الله عليه السلام فأنزلت آية التيمم.
ففي هذا الحديث: أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا هذا التيمم المختلِف، الذي بعضه إلى المناكب، فعلمنا بتيممهم أنهم لم يفعلوا ذلك إلا وقد تقدم عندهم أصل التيمم، وعلمنا بقولها:"فأنزل الله عز وجل آية التيمم" الذي نزل بعد فعلهم هو صفة التيمم، فهذا وجه حديث عمار عندنا.
ش: أي: من الذي يدل على ما قلنا من ذلك، أي: من قولنا، فقد يحتمل أن تكون الآية لما أنزلت لم تنزل بتمامها .. إلى آخره.
وجه دلالة هذا الحديث على ما قاله، أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا تيمما مختلفا في نفسه، من غير أن يحيطوا علما بصفته وكيفيته، ثم لما نزلت آية التيمم علموا صفة التيمم ما هي، وحديث عمار الذي فيه ذكر الآباط والمناكب محمول على هذا المعنى؛ لأنه أخبر عن التيمم الذي وقع منهم قبل نزول آية التيمم، ولهذا روى عمار بعد هذا أن التيمم للوجه والكفين، على ما يجيء إن شاء الله.
(1) في "الأصل، ك": "كذا"، وهو تحريف، وستأتي في الشرح على الصواب، والمثبت من "شرح معاني الآثار"(1/ 111).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار"(1/ 111) جسده.
وجواب آخر عن حديث عمار: أنه لما اختلفت أحاديثه في هذا الباب، واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم مع ذلك، على أن عمارا لم يَعْزُ ذلك إلى النبي عليه السلام وإنما حكى فعل نفسه، فلم يثبت التيمم إلى المناكب وإن كان له وجه في الاحتمال، وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غَسْلِه ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه، على وجه المبالغة فيه، لقول النبي عليه السلام:"إنكم الغُرُّ المحجلون من آثار الوضوء، فمن أراد منكم أن تطول غرته فليفعل. فقال أبو هريرة: إني أحب أن أطيل غُرَّتي"(1).
ثم بقي من أخبار عمار ما عزاه إلى النبي عليه السلام الوجه والكفان، ونصف الذراع إلى المرفقين، فكانت رواية من روى إلى المرفقين أولى؛ لوجوه:
إحداها: أنه زائد على روايات الآخرين، وخبر الزائد أولى.
والثاني: أن آية الوضوء تقتضي اليدين إلى المنكبين، لدخولهما تحت الاسم، ولا يخرج منه شيء إلا بدليل، وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين، فبقي حكمه إلى المرفقين.
والثالث: أن في حديث أبي عامر وجابر والأسلع: التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهم في رواياتهم.
ثم رجال حديث عائشة رضي الله عنها ثقات، غير أن في عبد الله بن لهيعة مقالا.
وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب أبو عبد الله المصري، بَحْشَل، ابن أخي عبد الله ابن وهب، روى عنه مسلم وابن جرير الطبري وابن خزيمة.
وعمه عبد الله بن وهب.
وأبو الأسود عبد الرحمن المدني.
وحديث انقطاع العقد حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود، وليس في حديثهم ذكر صفة التيمم.
(1)"أخرجه مسلم"(1/ 216 رقم 246) بنحوه.
فقال البخاري (1): نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي عليه السلام قالت: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء -أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله عليه السلام على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟! أقامت بالناس والنبي عليه السلام وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر، ورسول الله عليه السلام واضع رأسه على فخذي، فدنا ثم قال: أحبست رسول الله عليه السلام، والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يَطْعَنُنِي بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله عليه السلام على فخذي.
[فقام رسول الله عليه السلام](2) حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله عز وجل آية التيمم، فتيمموا فقال أُسَيْد بن حُضَير: مَا هي بأول بركتكم، يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعيرَ، فأصبنا العقد تحته".
وفي لفظ: (3) استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله عليه السلام رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى رسول الله عليه السلام فأنزل الله تعالى آية التيمم، فقال أسيد لعائشة: جزاك الله خيرا، والله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلَّا جعل الله تعالى ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا".
وأخرج مسلم الروايتين:
الأولى: (4) عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك
…
إلى آخره.
والثانية: (5) عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: نا أبو أسامة، وعن أبي كريب، قال: نا
(1)"صحيح البخاري"(1/ 127 رقم 327).
(2)
تكررت في "الأصل".
(3)
"صحيح البخاري"(1/ 128 رقم 329).
(4)
"صحيح مسلم"(1/ 279 رقم 367).
(5)
سبق تخريجه.
أبو أسامة وابن بشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أنها استعارت قلادة من أسماء فهلكت .. إلى، آخره نحوه".
وأخرجه النسائي (1): عن قتيبة، عن مالك .. إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): عن النفيلي، عن أبي معاوية.
وعن عثمان بن أبي شيبة، قال: أنا عبدة -المعنى واحد- عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"بَعَثَ رسول الله عليه السلام أسيد بن حضير وأناسا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي عليه السلام فذكروا ذلك له، فأُنزلت آية التيمم" زاد ابن نفيل: "فقال لها أسيد: رحمك الله، ما نزل بك أمر تكرهينه إلَّا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجا".
قوله: "في غزوة له" هي غزوة المُرَيْسيع، وقد مَرَّ الكلام فيه مستوفي عن قريب.
قوله: "حتى إذا كنا بالمُعَرَّس" بضم الميم وفتح العين والراء المشددة، وهو موضع التعريس، وبه سُمِّيَ مُعَرَّس ذي الحليفة، عرَّس به النبي عليه السلام وصلى فيه الصبح، ثم رحل.
والتعريس هو النزول في آخر الليل، نزل للنوم والاستراحة، يقال فيه: عَرَّس يُعِّرس تَعْريسا، ويقال فيه: أعرس. فعلى هذا يجوز أن يقال في قوله: "حتى إذا كنا بالمُعْرَس" بضم الميم وسكون العين وفتح الراء المخففة.
قوله: "قريبا من المدينه" بيان لقوله "بالمعرس"، وانتصابه على أنه حال منه.
قوله: "نَعَسْت" من: نَعَسَ، يَنْعُسُ -من باب نَصَرَ يَنْصُر (3) - نُعاسا
(1)"المجتبى"(1/ 163 رقم 310).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 86 رقم 317).
(3)
كما في "المصباح"، وهي في "لسان"، بضبط القلم، و"فصيح ثعلب" (1/ 21) شرح الزمخشري و"أدب الكاتب" (625) وغيرها. وفي "القاموس": أنه "كمنع"، وذكر الزمخشري في "شرح الفصيح" أنها لغة بني عامر.
ونعسة، فهو ناعس، ولا يقال: نعسان (1)، و [النُّعَاس]، (2) الوسن، وأول النوم.
قوله: "يدعى السِمْط" بكسر السين وسكون الميم، وهو الخيط ما دام فيه خرز، وإلَّا فهو سلك، وأصله من التسميط وهو التعليق: يقال: سمطت الشيء: علقته على السُّموط، تسميطا، والسُّمُوط: السير الذي يعلق من السرج، وجمعه سماط.
قوله: "تبلغ السرة" في محل الرفع على أنه صفة للسمط.
قوله: "خرت" أي سقطت، من الخرور، وهو السقوط.
قوله: "قد ضلَّت قلادتُها" برفع قلادة، يعني ضاعت، يقال: ضَلَّ الشيء يضل ضلالا، إذا ضاع وهلك، والاسم الضُّلُّ، بالضم.
ويجوز نصب القلادة، من قولهم: ضَلَلْتُ الشيءَ، وضَلِلْتُه، إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو، قال الجوهري: وقد ضَلَلْتُ أَضِلّ، قال تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} (3) فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضَلِلْتُ بالكسر أَضِل، وقال: ابن السَّكَيت: أضللت بعيري: إذا ذهب منك، وضللت المسجد والدار، إذا لم تعرف موضعهما.
قوله: "فابتغوها" أي: اطلبوها، والابتغاء: الطلب.
قوله: "إلى أن حضرتهم الصلاة" أي صلاة الصبح، والألف واللام فيه للعهد، أي: زمن؛ لأن صلاة الصبح قد ذكرت قبلها.
(1) إلا في كلام العامّة كما في "شرح الفصيح"(1/ 21) وغيره، أو هي لغة قليلة كما في "القاموس" و"المصباح"، وفي "اللسان" عن الفراء:"لا أشتهيها" اهـ وانظر أيضًا: "شرح الفصيح" السابق حاشية المحقق.
(2)
في "الأصل، ك" النعْسان، والصواب المثبت.
(3)
سورة سبأ، آية:[43]، وسورة المائدة، آية:[6].
وها هنا أسئلة:
الأول: اختلاف لفظ العِقْد والقلادة، ففي رواية البخاري:"انقطع عقد لي" وكذا في رواية عمار: "فهلك عقد لعائشة"، وهي الرواية التي أخرجها الطحاوي وأبو داود، وكذا في بعض ألفاظ الصحيح:"أنه ضاع عقدها في غزوة المريسيع" وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: "استعارت من أسماء قلادة"، وفي رواية الطحاوي ها هنا:"وكانت عليّ قلادة"، وهذه كما ترى متضادة.
وأجيب بأن القصة واحدة وإنما الرواة تخالف بين العبارات، والقلادة كانت لأسماء، واستعارتها (1) منها عائشة فأضفتها إلى نفسها بقولها:"انقطع عقد لي" قاله ابن الجوزي.
قلت: والأحسن أن يقال: إن سقوط العقد كان مرتين على ما صرح به الطحاوي في روايته التي ذكرناها في هذا الباب، فكانت قضيتان، فعبرت في الأولى بالعقد، وفي الثانية بالقلادة، وكان أمر العقد في قضية الإفك، وأمر القلادة في قضية التيمم، تشهد عليه بذلك رواية الطبراني.
فإن قلت: إذا كان أمر القلادة في قضية التيمم، فكيف عبرت عائشة رضي الله عنها بالعقد في قضية التيمم في رواية البخاري وغيره؟
قلت: أطلقت على القلادة عقدا، فتارة عبرت بالعقد، وتارة بالقلادة.
الثاني: أن بين قولها "فبعث رسول الله عليه السلام رجلا" فوجدها، وبين قوله "فبعثنا البعير فأصبنا العقد تحته"، تناقض حتى قال الداودي: هذا مما لا شك في تضاده، ولا أرى الوهم في ذلك إلَّا في رواية عبد الله بن نمير عن هشام:"فبعث رجلا فوجدها" قال: وحمل إسماعيل بن إسحاق على رواية ابن نمير وجعله تناقضا لحديث مالك.
(1) في "الأصل": استعادها.
وأجيب بأن الدعوى أنهما قضيتان، فلا تناقض حينئذ على ما لا يخفي.
أو يكون المراد من قولها: "بعث رجلا"، يعني أميرا على جماعة، كعادته، فعبر بعض الرواة بأُنَاس، يعني: أسيدا وأصحابه، وبعضهم برجل، يعني: المشار إليه.
وقال المهلب بن أبي صفرة: ليس بينهما تناقض؛ لأنه يحتمل أن يكون المبعوث أسيدا فوجدها بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النبي عليه السلام وجدها عند إثارة البعير، بعد انصراف المبعوثين إليها، فلا يكون بينهما تعارض.
الثالث: أن بين رواية الطحاوي هذه وبين رواية مسلم وغيره تناقضا؛ لأن المفهوم من رواية الطحاوي أنهم حين لم يقدروا على الماء تيمموا، منهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، ومنهم من تيمم على جلده، ثم بلغ ذلك رسول الله عليه السلام فأنزلت آية التيمم.
فهذا يدل على أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا هذا التيمم المختلف، فَعُلم من هذا أنهم لم يفعلوا ذلك إلَّا وقد تقدم عندهم أصل التيمم، وعلم من قول عائشة:"فأنزل الله آية التيمم"، (أنه هو الذي)(1) أنزل بعد فعلهم هو صفة التيمم، على ما ذكره الطحاوي.
والمفهوم من رواية مسلم وغيره أنهم صلوا بغير وضوء، وأنهم لما أتوا النبي عليه السلام شكوْا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم، فهذه تدل على أنهم لو كان لهم علم متقدم من أصل التيمم ما كانوا صلوا الآن.
وأجيب: أن قوله: "صلوا بغير وضوء" لا يستلزم نفي صلاتهم بذاك التيمم المختلف، الذي تقدم علمهم به؛ لأن الوضوء غير التيمم.
فإن قيل: يرد هذا ما رواه الطبراني في "الكبير"(2): نا يوسف القاضي، نا محمَّد بن
(1) كذا في "الأصل، ك" ولعل الصواب: "أن الذي" يحذف: "هو".
(2)
"المعجم الكبير"(23/ 50 رقم 131).
أبي بكر المقدمي، نا حميد بن الأسود، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أنها استعارت قلادة من أسماء، فسقطت من عنقها، فذكَرَت ذلك لرسول الله عليه السلام فأرسل رجالا يبتغونها، فابتغوها فوجدوها، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير طهور، ثم رجعوا إلى رسول الله عليه السلام فذكروا ذلك له، فأنزل الله الرخصة.
فقال أُسيد بن حضير: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمؤمنين خيرا".
فإن قوله: "بغير طهور" يتناول الماء والتراب.
قلت: قوله: "بغير طهور" لا ينافي أصل علمهم بأصل التيمم، ولما كان هذا التيمم المختلف عندهم كلا تيمم؛ لعدم نزول النص حينئذٍ، صاروا كأنهم صلوا بغير طهور، ولما أنزلت آية التيمم، وعرفوا صفته، عرفوا بعد ذلك أنه طهور كالماء عند عدمه، ألا ترى أن تيممهم ذلك لو كان معتبرا معتدّا به قبل نزول الآية، لما سأل عمار رضي الله عنه الذي هو أحد من تيمم ذلك التيمم المختلف- رسول الله عليه السلام عن صفة التيمم، فسؤاله هذا إنما كان بعد تيممه بذلك التيمم.
فإن قلت: هذا التيمم المختلف، هل عملوه باجتهادٍ ورأي من عندهم، أم بالسُّنة؟
قلت: الظاهر أنه كان باجتهاد منهم، فيرجع هذا إلى المسألة المختلف فيها، وهي أن الاجتهاد في عصره عليه السلام هل يجوز أم لا؟
فمنهم من جوزه مطلقا، وهو المختار عند الأكثرين، منهم الإِمام.
ومنهم من منعه مطلقا.
وقالت طائفة: يجوز للغائبين عن الرسول عليه السلام وعن نوابه من القضاة والولاة، دون الحاضرين.
وجوزه الآخرون للغائبين مطلقا، دون الحاضرين.
ومنهم من قال: يجوز إذا لم يوجد من ذلك منع.
الرابع: أن قوله: "فأنزلت آية التيمم" إن كان المراد منه آية الوضوء التي في سورة المائدة، يلزم من ذلك أن يكون الوضوء فُرِضَ حين شُرع التيمم، وليس كذلك، بل الوضوء كان فرضا قبل ذلك، ومنذ افترضت الصلاة بمكة لم تصل صلاة إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم، وهذا ما لا يجهله أحد.
وأجيب بأن القرطبي وغيره ذكروا أنها أرادت آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء.
وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية، وهو فرض الوضوء، ثم نزل عند هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية، وهو {كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ} (1) أو يْحتمل أن يكون الوضوء كان بالسُّنة لا بالقرآن، ثم أنزلا معا، فعبرت عائشة بالتيمم؛ إِذْ كان هو المقصود.
الخامس: أن الجاحظ عمرو بن بحر، ذكر في كتاب "البرهان" أن الأسلع الأعرجي الذي كان يرحل للنبي عليه السلام قال للنبي عليه السلام يوما:"إني أجنبت وليس عندي ماء، فأنزل الله آية التيمم" على ما يجيء.
وأجيب: بأنه ضعيف، ولئن صح فجوابه أنه يحتمل أن تكون قضية الأعرجي (2) واقعة في قضية سقوط العقد؛ لأنه كان يخدم النبي عليه السلام وكان صاحب راحلته، فاتفق له هذا الأمر عند وقوع قضية سقوط العقد.
فإن قيل: قد روى ابن أبي شيبة؛ في "مصنفه"(3): عن عبّاد بن العوام، عن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن أبي هريرة: "لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع، فأتيت
(1) سورة النساء، آية:[43]،، وسورة المائدة، آية:[6].
(2)
في "الأصل، ك": الأعرج، والمثبت الصواب، نسبة إلى بني الأعرج بن كعب، وانظر:"الإصابة" لابن حجر (1/ 52).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 147 رقم 1689).
النبي عليه السلام[فلم أجده، فانطلقت أطلبه، فاستقبلته، فلما رآني عرف الذي جئت له](1) فضرب بيديه ضربة إلى الأرض، فمسح وجهه وكفيه" انتهى. وهذا مشكل لأن إسلام أبي هريرة بعد نزول آية التيمم بزمان؛ لأنه أسلم عام خيبر، وكانت في سبع من الهجرة، ونزول آية التيمم كان في سنة خمس أو ست، على ما بَيَّنَّا من الاختلاف فيه.
قلت: استشكلوا هذا، ولم يُجبْ أحد عنه، وقد وقع في خاطري من الأنوار الربانية: أنه لما أسلم، وبلغه آية التيمم وتعلمها، لم يدر كيف التيمم، فسأل النبي عليه السلام عنه، فَعَلَّمه إياه، ثم إنه لا أَخْبر به قال:"لما نزلت آية التيمم"، بناء على نزولها فيما مضى، لا في تلك الحالة، فيكون التقدير: لا نزلت آية التيمم وتعلمتها بعد إسلامي، لم أدر كيف أصنع، فسألته عليه السلام، فضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه وكفيه (2).
ثم إنه يستفاد من الحديث المذكور أحكام:
الأول: خروج النساء مع الرجال في الأسفار والغزوات، إذا كان العسكر كثيرا يؤمن عليهن، فإذا كانت له نساء فله أن يُخرج أيتها شاء، ويستحب أن يُقرع بينهن، فمن خرجت قرعتها أخرجها معه، وعند الأئمة الثلاثة القرعة واجبة.
الثاني: جواز التيمم بالصعيد الطاهر لكل مسلم، مريض أو مسافر، محدث أو جنب، ولم يختلف فيه علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب.
وقد كان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهم يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء؛ لقوله عز وجل {كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ} (3)، وقوله:{جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ} (4) وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: {كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة".
(2)
قارن: "فتح الباري"(1/ 518).
(3)
سورة المائدة، آية:[6].
(4)
سورة النساء، آية:[43].
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} (1) ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء؛ للأحاديث الثابتة في تيمم الجنب.
الثالث: استدل بقوله: "فصلوا بغير وضوء" في رواية مسلم وغيره طائفة أن من لم يجد ماء ولا ترابا لا يترك الصلاة إذا حضر وقتها على كل حال، وعن الشافعي أربعة أقوال:
أصحها: يجب عليه أن يصلي، ويجب عليه أن يعيد إذا زالت الضرورة.
الثاني: لا تجب عليه الصلاة ولكن تستحب، ويجب القضاء سواء صلى أو لم يصل.
الثالث: تجب الصلاة ولا تجب عليه الإعادة، وبه قال المزني.
والرابع: تحرم عليه الصلاة؛ لكونه محدثا، وتجب عليه الإعادة، وهو قول أصحابنا الحنفية؛ لقوله عليه السلام:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور"(2).
والجواب عن هذا: أنهم صلوا صلاتهم تلك اجتهادا، والمجتهد يخطئ ويصيب.
وقال أبو عمر (3): قال ابن خواز منداد: الصحيح من مذهب مالك أن كل من لم يقدر على الماء ولا على الصعيد حتى خرج الوقت، أنه لا يصلي ولا شيء عليه. ورواه المدنيون عن مالك، وهو الصحيح.
قال أبو عمر: كيف أقدم على أن جعل هذا صحيحا، وعلى خلافه جمهور السلف، وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين؟!
فكأنه قاسه على ما روي عن مالك فيمن كتَّفه الوالي وحبسه، فمنعه من الصلاة حتى خرج وقتها، أنه لا إعادة عليه.
(1) سورة النساء، آية:[43]، والمائدة، آية:[6].
(2)
رواه مسلم في "صحيحه"(1/ 204 رقم 224) من حديث ابن عمر.
(3)
"التمهيد"(19/ 275).
ثم قال: والأسير المغلول، والمريض الذي لا يجد من يناوله الماء، ولا يستطيع التيمم، لا يصلي وإن خرج الوقت حتى يجد إلى الوضوء أو التيمم سبيلا.
وعن الشافعي روايتان: إحدهما هكذا، والأخرى يصلي، (وأعاد)(1) إذا قدر، وهو المشهور عنه، وقال أبو حنيفة في المحبوس في العصر: إذا لم يجد ماء، ولا ترابا نظيفا لم يصل، وإذا وجده صلى.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي والثوري والطبري: يصلي ويعيد.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي: إن وجد المحبوس في العصر ترابا نظيفا صلى وأعاد.
وقال زفر: لا يتيمم ولا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا؛ بناء على [أصله في](2) أنه لا تيمم عنده في الحضر.
وقال ابن القاسم: لو تيمم على التراب النظيف، أو على وجه الأرض، لم يكن عليه إعادة إذا صلى ثم وجد الماء.
وقال أبو عمر: أما الذين قالوا: إن من لم يقدر على الماء ولا على الصعيد صلى كما هو وأعاد إذا قدر على الطهارة [فإنهم احتاطوا للصلاة](2).
الرابع: يستفاد منه التيمم في السفر وهو أمر مجمع عليه.
واختلفوا في الحضر، فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر سواء، إذا عدم الماء أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد، أو خوف خروج الوقت.
قال أبو عمر: وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد.
(1) كذا "بالأصل، ك" وفي "التمهيد"(19/ 276): يعيد.
(2)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "التمهيد"(19/ 277).
وقال الشافعي لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم، إلَّا أن يخاف التلف. وبه قال الطبري.
وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف خروج الوقت.
وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف فوت الوقت، الصحيح والسقيم يتيمم ويصلي ويعيد.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، ولا غير المريض.
قلت: قوله وهذا كله قول أبي حنيفة؛ غير صحيح، فإن عنده لا يجوز التيمم لأجل خوف فوت الوقت، كما هو مقرر في كتب أصحابه.
الخامس: فيه دليل على أنه ليس للمرء أن ينصرف عن سفر لا يجد فيه ماء، ولا يترك سلوك طريق لذلك، وخشية سلوك ما أباح الله له.
السادس: فيه دليل على حرمة الأموال الحلال.
السابع: فيه دليل على جواز حفظ الأموال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت.
ص: ومما يدل أيضا على أن هذه الآية تنفي ما فعلوا من ذلك، أن عمار بن ياسر رضي الله عنه وهو الذي روى ذلك عن النبي عليه السلام قد روي عنه في التيمم الذي عمله بعد ذلك خلاف ذلك، فمنه: ما حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبْزى، عن أبيه:"أن عمار بن ياسر سأل النبي عليه السلام عن التيمم، فأمره بالوجه والكفين".
ش: أي: ومن جملة الدليل الذي يدل على أن آية التيمم تنفي وترد ما كان الصحابة قد فعلوا من ذلك، أي: من تيممهم إلى الآباط والمناكب، أن عمار بن ياسر وهو الذي روى ذلك الفعل عن النبي عليه السلام قد روي عنه أيضا في صفة التيمم الذي عمله بعد ذلك، خلاف ذلك، فدل أن المتأخر ناسخ لما قد كان أولا، كما قد ذكرناه.
وقوله: "أن عمار بن ياسر" في محل الرفع على أنه فاعل "يَدُلّ"، والواو في قوله:"وهو الذي روى" للحال.
قوله: "فمنه ما حدثنا" أي فمن الذي دل على نفي ما فعلوا أو لا: حديث عبد الرحمن بن أَبْزى.
أخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عَزْرة -بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة وفتح الراء- ابن عبد الرحمن الكوفي الأعور، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى -بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة بعد الزاي المعجمة- عن أبيه، عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، مختلف في صحبته.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أبو داود (1): نا محمَّد بن المنهال نا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر قال:"سألت النبي عليه السلام عن التيمم، فأمرني ضربة واحدة (بالوجه) (2) والكفين".
وأخرجه الترمذي (3): عن عمرو بن علي الفلاس، عن يزيد بن زيع .. إلى آخره نحوه، وقال: حديث عمار حديث حسن صحيح.
فهذا يدل على أن ما كان من رواية عمار التي [فيها](4): "إلى الآباط والمناكب" قد نسخ بهذه الرواية.
فإن قيل: كيف تستدلون بهذا على مذهبكم، وهو لا يقتضي إلا أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين؟
(1)"سنن أبي داود"(1/ 89 رقم 327).
(2)
"كذا بالأصل، ك"، وفي "السنن":"للوجه".
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 268 رقم 144).
(4)
في "الأصل، ك": فيه، والصواب المثبت.
قلت: نحن لا نستدل بهذا إلَّا على انتساخ ما كان روى عمار من أن التيمم إلى الآباط والمناكب، وأما كون التيمم بضربتين: ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين، فبأحاديث غير ذلك على ما نذكره، إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت ذر بن عبد اللهَ يحدث، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه:"أن رجلًا أتي عمر رضي الله عنه فقال: إني كنت في سفر، فأجْنَبْتُ، فلم أجد الماء، فقال عمر: لا تصل. فقال عمار: يا أمير المؤمنين أما تذكر أني كنت أنا وإياك في سرية، فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الزاب، فأتينا النبي عليه السلام فأخبرناه، فقال: أما أنت فكان يكفيك، وقال بيديه وضرب بهما، ونفخ فيهما، ومسح وجهه وكفيه".
قال أبو جعفر رحمه الله: ففعل عمار إذ تمرغ يريد بذلك التيمم، وإن كان ذلك بعد نزول الآية، فإنما كان ذلك منه -عندنا والله أعلم- لأنه عمل على أن التيمم للجنابة غير التيمم للحديث، حتى علمه النبي عليه السلام أنهما سواء.
ش: أورد هذا الحديث لمعنيين:
الأول: أنه ناسخ لما تقدم من التيمم إلى المناكب والآباط.
والثانى: أن فعل عمار رضي الله عنه أعني: تمرغه لأجل التيمم- إنما كان ذلك منه ظنّا منه أن هذا هو تيمم الجنابة، وأن تيمم الجنابة غير تيمم الحدث، حتى علمه النبي أنهما سواء.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي، والحكم هو ابن عتيبة، وذرّ -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- بن عبد الله بن زُرارة المُرْهِبِىّ الهمدني، روى له الجماعة.
وأخرجه الجماعة: فقال البخاري (1): نا آدم، نا شعبة، ثنا الحكم، عن ذرّ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال:"جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنَبْتُ فلم أصب الماء، فقال لا تصل. فقال عمار بن ياسر لعمر: أما تذكر أنّا كنا في سفر أنا وأنت؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرتُ ذلك النبي عليه السلام، فقال: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بههما وجهه وكفيه".
وقال مسلم (2): حدثني عبد الله بن هاشم العبدي، قال: نا يحيى -يعني: ابن سعيد القطان- عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه:"أن رجلا أتى رضي الله عنه فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. قال: لا تصل. فقال عمار: أتذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية، فأجنبنا فلم نجد ماء؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، وقال النبي عليه السلام: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بههما وجهك وكفيك. فقال عمر: أتق الله يا عمار، قال: إن شئت لم أحدث به".
قال الحكم: وحدثنيه ابنُ عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، مثل حديث ذر، قال: وحدثني سلمة، عن ذر، في هذا الإسناد، والذي ذكره الحكم، فقال عمر:"نُوليك ما توليت".
وقال أبو داود (3): حدثنا محمَّد بن كثير العبدي، قال: نا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك، عن عبد الرحمن بن أبزى، قال: "كنت عند عمر، فجاءه رجل فقال: إنا نكون بالمكان [الشهر](4) أو الشهرين، فقال عمر: أما أنا
(1)"صحيح البخاري"(1/ 129 رقم 331).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 280 رقم 368).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 88 رقم 322).
(4)
في "الأصل، ك": المشهور، والمثبت من "السنن".
فلم أكن أصلي حتى أجد الماء. قال: فقال عمار: يا أمير المؤمنين، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة؟ فأما أنا فتمعكت، فأتينا النبي عليه السلام فذكرت ذلك له، فقال إنما كان [يكفيك](1) أن تقول هكذا، وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع، فقال عمر: يا عمار، اتق الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن شئت -والله- لم أذكره أبدا، فقال عمر: كلَّا والله، لَنُوَليَنَّكَ من ذلك ما توليت".
وأخرجه من طرق كثيرة، وفي بعض طرقه:"ومسح بها وجهه وكفيه إلى المرفقين أو الذراعين".
وأخرجه الترمذي (2): مختصرا وقال: قال إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحمصي: حديث عمار في التيمم للوجه والكفين حديث صحيح.
وأخرجه النسائي (3): أيضا بطرق متعددة، مطولة ومختصرة منها ما قال: أخبرنا عمرو بن يزيد، قال: ثنا بهزٌ، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه:"أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن التيمم فلم يَدْر ما يقول، فقال عمار: أتذكر حيث كنا في سرية، فأجنبت، فتمعكت في التراب، فأتيت النبي عليه السلام قال: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب شعبة يديه على ركبتيه ومسح في يديه، ومسح بهما وجهه وكفيه مرة واحدة".
وأخرجه ابن ماجه (4): فقال: نا محمَّد بن بشار، نا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن الحكم
…
إلى آخره نحو رواية مسلم، وليس فيه: "فقال عمر: اتق الله
…
" إلى آخره.
(1) في "الأصل، ك ": يفكيك، وهو سبق قلم، والمثبت من "سنن أبي داود".
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 268 رقم 144).
(3)
"المجتبى"(1/ 169 رقم 317).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 188 رقم 2569).
قوله: "أَمَا تذكر" بفتح الهمزة وتخفيف الميم، تستعمل في الكلام على وجهين:
أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة "ألا" وتكثر قبل القسم.
الثاني: أن تكون بمعنى "حقّا".
قوله: "في سرية" وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مائة، تُبعثُ إلى العدو، وجمعها: السرايا، سموا بذلك؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم؛ من الشيء السَّريِّ: النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم يبعثون سرّا وخفية، وليس بالوجه؛ لأن لام السِرِّ: راء، وهذه ياء، فافهم (1).
قوله: "فأجنبنا" أي صرنا جُنُبا، والجنب يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، والمؤنث، وقد فسرناه فيما مضى مستقصى.
قوله: "فتمرغت" أي: تمعكت.
قوله: "قال بيديه هكذا" من العرب (2) من يجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، ويطلقه على غير الكلام واللسان، فيقول: قال بيده: أي أخذ (3)، وقال برجله: أي مشي، وقالت العينان: سمعا وطاعة، أي: أومأت، وقال بالماء على يده: أي قلَّب، وقال بثوبه: أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتساع.
ويقال: "قال" ها هنا بمعنى: ضرب، ولهذا فسره بقوله:"وضرب بهما".
وتجيء "قال" بمعنى "أقبل" وبمعنى "مال" و"استراح" و"ضرب" و"غلب" وغير ذلك.
قوله: "اتق الله" أي: خَفِ الله فيما ترويه، وتَثَبَّتْ، لعلك نسيت، أو اشتبه عليك الأمر.
(1) انظر "النهاية" لابن الأثير (2/ 363).
(2)
في "النهاية" لابن الأثير (4/ 124)"العرب تجعل" فعَمَّم، وباقي البحث مأخوذ عنه، وانظر "اللسان" و"القاموس" في نفس المادة.
(3)
في "الأصل، ك": أخذه، والصواب المثبت كما في أصله.
قوله: "إن شئت لم أحدث به" أراد إن رأيت المصلحة في إمساكي عن التحدث به راجحة على مصلحة تحديثي أمسكت، فإن طاعتك واجبة علىَّ في غير معصية.
قوله: "كلا والله" كلا ردع وزجر وتنبيه على الخطأ، ومنه قوله تعالى: في {كَلَاّ} بعد قوله: {إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (1) وتجيء بمعنى "حقّا" ومنه قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (2).
ويستفاد منه أحكام:
الأول: استدل به من ذهب إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين جميعا.
والجواب: أن المراد ها هنا صورة الضرب للتعليم، وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، وقد أوجب الله غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء، ثم قال في التيمم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) والظاهر أن اليد المطلقة ها هنا هي المقيدة في الوضوء في أول الآية، فلا يترك هذا الصريح إلا بدلالة [صريحة](4).
الثانى: استدل به أبو حنيفة على جواز التيمم من الصخرة التي لا غبار عليها؛ لأنه لو كان معتبرا لم ينفخ في يديه.
الثالث: فيه حجة لما كان يذهب إليه عُمَر وعبد الله بن مسعود من أن الجنب لا يطهره إلا الماء، ولكن الأصح أنهما رجعا عن ذلك فإن قيل: إن عمر لم يقنع بقول عمار، حيث قال:"اتق الله يا عمار" فكيف يكون ذلك؟
(1) سورة الفجر، آية:[16].
(2)
سورة العلق، آية:[6].
(3)
سورة النساء، آية:[43].
(4)
في "الأصل، ك": صريح.
قلت: لما أخبره عمار عن النبي عليه السلام أن التيمم يكفيه، سكت عنه ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه وقع في قلبه تصديق عمار؛ لأن عمارا قال له:"إن شئت لم أذكره" ولو وقع بقلبه تكذيب عمار لنهاه؛ لما كان الله عز وجل قد جعل في قلبه من تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم على عمر أن يَسْكت على صلاة تصلى عنده من غير طهارة، وهو الخليفة المسئول عن الأمور، وكان أتقى الناس لربه وأنصحهم له في دينه في ذلك الوقت.
الرابع: فيه جواز الاجتهاد في زمن النبي عليه السلام فإن عمارا رضي الله عنه اجتهد في صفة التيمم، وقد اختلف أهل الأصول فيه، وقد ذكرناه مستوفي.
الخامس: في قوله: "إلى نصف الذراع"، في رواية أبي داود، حجة لمالك، حيث يقول: إن التيمم إلى الكوعين. والجواب عنه ما ذكرناه في الوجه الأول.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: أنامبو داود، قال: نا زائدة وشعبة، عن حصين عن أبى مالك، عن عمار، أنه قال:"إلى المفصل" ولم يرفعه.
ش: هذا طريق أخر، وهو موقوف، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زائدة بن قدامة، وعن شعبة بن الحجاج، كلاهما عن حُصَيْن -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السُلَمي الكوفي، عن أبي مالك، حَبيب بن صُهْبان، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال:"إلى المفصل"، يعني في قوله:"بالوجه والكفين".
قوله: "ولم يرفعه" أي: الحديث إلى النبي عليه السلام.
وقال الدارقطني: لم يروه عن حصين مرفوعا غير إبراهيم بن طهمان، وأوقفه شعبة وزائدة وغيرهما.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث حصين، عن أبي مالك، قال:"سمعت عمارا يخطب، فذكر التيمم، فضرب بكفيه الأرض، فمسح بهما وجهه وكفيه" ورواه إبراهيم بن طهمان، عن حصين فرفعه.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 209 رقم 950).
وأخرجه ابن أبى شيبة؛ في "مصنفه"(1): وقال: نا ابن إدريس، عن حصين، عن أبي مالك، عن عمار:"أنه تيمم فمسح بيديه التراب، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه، ولم يمسح ذراعيه".
وفيه حجة لمالك إلى الكوعين.
ص: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: نا علي بن مَعبد، قال: نا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن رسول الله عليه السلام قال له:"إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب الأعمشُ بيديه الأرض ثم نفخهما ومسح بهما وجهه وكفيه".
ش: هذا طريق آخر من حديث عبد الرحمن بن أبزى، عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن علي بن معبد بن شداد العَبدي البَصْري نزيل مصر، عن عيسى ابن يونس بن أبي إسحاق السَبيعي، عن سليمان الأعمش، عن سلمة بن كهيل بن حصين الحضرمي الكوفي، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة؛ في "مصنفه"(2): نا وكيع، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن ابن أبزى، عن أبيه:"قال عمار لعمر: أما تذكر [يوم]، (3) كنا في كذا وكذا، فأجنبنا، فلم نجد الماء، فتمعكنا في التراب، فلما قدمنا على النبي عليه السلام ذكرنا له ذلك، فقال: إنما كان [ويكفيكما]، (4) هذا؛ ثم ضرب الأعمشُ بيديه ضربة، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 147 رقم 1685).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة "(7/ 302 رقم 3692).
(3)
في "الأصل، ك": يوما، والمثبت من "المصنف".
(4)
في "الأصل، ك": يكفيك، والمثبت من "المصنف".
وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن العلاء، قال: نا حفص، قال: نا الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن ابن أبزى، عن عمار بن ياسر .. بهذا الحديث فقال:"يا عمار إنما كان يكفيك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرى، ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعد، ولم يبلغ المرفقين، ضربة واحدة".
قوله: "أن تقول هكذا" معناه: أن تضرب بيديك كهذا، وقد مرَّ أن القول يستعمل في جميع معاني الأفعال.
وفيه: حجة لأبي حنيفة في عدم اشتراط الاستيعاب، ولمالك في رؤيته إلى الكوعين، ولمن رأى أن التيمم ضربة واحدة.
ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا شعبة، قال: أخبرني الحكم، عن ذر، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن رسول الله عليه السلام قال له:"إنما كان يكفيك هكذا، وضرب شعبة بكفيه إلى الأرض وأدناهما من فيه، فنفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه".
قال أبو جعفر رحمه الله: هكذا قال محمَّد بن خزيمة في إسناد هذا الحديث: عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه. وإنما هو عن ذر، عن ابن عبد الرحمن، عن أبيه.
ش: هذا الطريق آخرجه النسائي (2): ولكن في روايته: عن ذر عن ابن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه، عن عمار، وكما أشار إليه الطحاوي بقوله: وإنما هو عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، وابن عبد الرحمن هو سعيد وقد مَرَّ في الروايات المتقدمة.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 88 رقم 323).
(2)
"المجتبى"(1/ 165 رقم 312).
وأما رواية محمَّد بن خزيمة شيخ الطحاوي التي فيها عن ذر، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، بدون ذكر "ابن" فَتُبْتَنَى على صحة قول مَنْ يقول: إن أبزى والد عبد الرحمن صحابي، وهو قول ابن مندة، فإنه جعله من الصحابة، وروى بإسناده عن هشام بن عبيد الله الرازي، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام "أنه خطب الناس قائما، ثم قال: ما بال أقوام لا يُعَلِّمون جيرانهم، ولا يفقهونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم"
…
الحديث.
ورواه إسحاق بن راهويه في "المسند": عن محمَّد بن أبي سهل، عن بكير ابن معروف، عن مقاتل، عن علقمة بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام بهذا وقد رده أبو نعيم عليه وقال: ذكر ابن مندة أن البخاري ذكره في كتاب "الوحدان"، وأخرج له حديث أبي سلمة -عن ابن أبزى- عن النبي عليه السلام ولم يقل فيه: عن أبيه.
وقال ابن الأثير: أبزى والد عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، ذكره البخاري في"الوحدان"، ولا تصح له صحبة ولا رؤية، ولابنه عبد الرحمن صحبة ورؤية.
قلت: وكذا أبو عمر لم يذكر أبزى، وإنما ذكر عبد الرحمن؛ لأنه لم تصح عنده صحبة أبزى، والله أعلم.
ومع هذا، ومع الاختلاف في صحبة عبد الرحمن أيضا، ذكره ابن حبان في التابعين، وقال أبو بكر بن أبي داود: لم يحدث ابن أبي ليلى عن التابعين إلَّا عن ابن أبزى، وقال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي عليه السلام وصلى خلفه، روى عنه ابناه عبد الله وسعيد.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: أنا شعبة، عن سلمة، قال: سمعت ذرّا يحدث، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، نحوه.
قال سلمة: لا أدري بلغ الذراعين أم لا؟.
ش: أشار بهذا إلى بيان قوله: "وإنما هو عن ذر عن ابن عبد الرحمن، عن أبيه".
وأخرجه عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل .. إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (1): نا محمَّد بن بشار، قال: نا محمَّد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن سلمة، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بهذه القصة، فقال:"إنما كان يكفيك، وضرب النبي عليه السلام[بيده]، (2) ثم نفخ فيهما ومسح بها وجهه وكفيه" شك سلمة فقال: لا أدري فيه: "إلى المرفقين"، أو "إلى الكفين".
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا محمَّد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك، عن عبد الرحمن بن أبزى، مثله وزاد:"فمسح بهما يديه إلى أنصاف الذراع".
ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار البصري، عن محمَّد بن كثير العبدي البصري، أحد مشايخ البخاري في الصحيح، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك حبيب بن صُهْبان، عن عبد الرحمن بن أبزى، مثله.
وأخرجه أبو داود (3): عن محمَّد بن كثير العبدي، عن سفيان .. إلى آخره، بأتم منه. وقد ذكرناه عن قريب.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: أنا مؤمل بن إسماعيل، قال: أنا سفيان .. فذكره بإسناده مثله.
ش: هذا طريق آخر عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمَّل بن إسماعيل القرشي العدوي البصري، عن سفيان الثوري .. إلى آخره.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 88 رقم 324).
(2)
ليست في "الأصل، ك". واستدركتها من "سنن أبي داود".
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 88 رقم 322).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فقد اضطرب علينا حديث عمار هذا، غير أنهم جميعا قد نَفَوا أن يكون بلغ المنكين والإبطين، فثبت بذلك انتفاء ما روي عنه في حديث عبيد الله، عن أبيه، أو ابن عباس، وثبت أحد القولين الآخرين، فنظرنا في ذلك فإنا أبو جُهَيْم قد روى عن رسول الله عليه السلام أنه يَمَّم وجهه وكفيه، فذلك حجة لمن ذهب إلى أن التيمم إلى الكفين.
روى نافع، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام:"أنه تيمم إلى مرفقيه" وقد ذكرتُ هذين الحديثين جميعا في باب: "قراءة الجُنُب والحائض".
وقد حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: أنا علي بن معبد، قال: أنا أبو يوسف، عن الربيع بن بدر، قال: حدثني أبي، عن جَدّي، عن أَسْلع التميمي، قال:"كنت مع النبي عليه السلام في سفر، فقال لي: يا أَسْلع، قم فأرحل لنا، قلت: يا رسول الله عليه السلام أصابتني جنابة بعدك، قال: فسكت عني حتى جبريل عليه السلام بآية التيمم، فقال لي: يا أسلع، قم فتيمم صعيدا طيبا، ضربتين: ضربة لوجهك، وضربة لذرعيك، ظاهرهما وباطنهما، فلما انتهينا إلى الماء، قال لي: يا أُسَيْلعُ قُم فاغتسل".
فلما اختلفوا في التيمم كيف هو، واختلفت هذه الروايات فيه، رجعنا إلى النظر في ذلك؛ لنستخرج به من هذه الأقاويل قولا صحيحا، فاعتبرنا ذلك فوجدنا الوضوء على الأعضاء التي قد ذكرناها في كتابه، وكان التيمم قد أسقط عن بعضها؛ فأسقط عن الرأس والرجلين، فكان التيمم هو على بعض ما عليه الوضوء، فبطل بذلك قول مَنْ قال: إنه إلى المنكب؛ لأنه لما بطل عن الرأس والرجلين، وهما مما يُوضَّآن، كان أَحْرى أن لا يجب على ما لا يُوَضَّأ.
ثم اختُلِف في الذراعين، هل يُؤَمّمان أم لا؟ فرأينا الوجه الذي يُؤَمّم بالصعيد كما يغسل بالماء، ورأينا الرأس والرجلين لا يؤمم منهما شيء، فكان ما سقط التيمم عن بعضه سقط عن كله، وكان ما وجب فيه التيمم، كان كالوضوء سواء؛ لأنه جعل بدلا منه.
فلما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين في حال وجود الماء تيمم في حال عدمه؛ ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا ونظرا على ما بَيَّنَّا من ذلك.
وهذا قول أبي حنيفة وفي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: ملخص هذا الكلام، أن حديث عمار لا يصلح حجة في كون التيمم إلى المرفقين أو الكوعين أو الكفين، كما ذهبت إلى كل واحد طائفة من أهل العلم، وذلك لاضطرابه كما قد رأيت، ولذلك قال الترمذي: وقد ضعف بعض أهل العلم حديث عمار رضي الله عنه في التيمم للوجه والكفين، لما رُوِي عنه حديثُ المناكب والآباط.
ولكنه يندفع به ما روي عنه في حديث عبيد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، عن عمار.
وفي حديث عبيد الله أيضا، عن ابن عباس، عن عمار، المذكورين في أول الباب، اللذين فيهما:"فمسحنا وجوهنا وأيدينا إلى المناكب".
وذلك لأنه قد روى عن النبي عليه السلام أنه أمر بالتيمم للوجه والكفين، فلا يجوز ذلك إلَّا بعد أن ثبت انتساخ حكم الأول، كما قد ذكرنا، أو ثبت بعد ذلك أحد القولين الآخَرين -بفتح الخاء- وهما قول مَنْ يرى التيمم إلى الكفين، وقول مَنْ يراه إلى المرفقين، ولكن من غير ترجيح أحدهما على الآخر، فلا يتمُّ به الاستدلال أيضا لواحد من الفريقين.
فوجدنا حديث أبي الجُهَيْم بن الحارث بن الصمة الأنصاري يُرجّح قول مَنْ يقول التيمم إلى الكفين؛ لأنه ذكر في حديثه أنه عليه السلام مسح بوجهه وبيديه، ووجدنا حديث نافع عن ابن عباس رضي الله عنهما يُرجّحُ قول من يقول التيمم إلى المرفقين؟ لأنه ذكر في حديثه أنه تيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فتيمم لذراعيه، وقد ذكرهما الطحاوي في باب: قراءة الجنب والحائض. وتكلمنا فيهما بما فيه الكفاية هناك.
وحديث الأسلع أيضا يرجح قول مَنْ يقول إلى المرفقين؛ لأنه ذكر: فيه "ضربة لوجهك وضربة لذراعيك ظاهرهما وباطنهما".
فلما وقع هذا الاختلاف باختلاف الروايات، وأخذت كل طائفة برواية، (نحتاج)(1) في ذلك إلى النظر ليُسْتَخرج من هذه الأقاويل قولٌ صحيح يوافق القياس والنظر، كما هو الأصل والقاعدة.
وفي ذلك قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت، كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، قياسا على الوضوء، واتباعا لفعل ابن عمر رضي الله عنه.
وأشار إلى وجه النظر بقوله: فاعتبرنا ذلك، فوجدنا الوضوء .. إلى آخره.
تحريره: أن الوضوء يكون على الأعضاء الأربعة غسلا ومسحا، ثم إن الشارع جعل التيمم بدلا منه عند عدم الماء، وأسقط منه بعض الأعضاء، (الذي أمر به في الأصل، وهو)(2) الرأس الرجلان، تيسيرا على عباده، ولئلا يتساوى البدل والمبدل منه، فيكون التيمم على بعض ما عليه الوضوء وهو الوجه واليدان، فيجب أن يكون البدل ها هنا مثل الأصل؛ لئلا يلزم مزية الفرع على الأصل، فبطل حينئذ قول من قال: إن التيمم إلى الآباط والمناكب، وذلك لأنه لما بطل التيمم عن الرأس والرجلين، والحال أنهما مما يجب غسلهما ومسحهما، كان بطريق الأولى أن لا يجب التيمم على ما لا يُوضَّأ، وهو ما وراء المرفقين.
ثم بقي الكلام في الذراعين اللذين وقع فيهما الخلاف؛ هل يدخلان تحت التيمم أم لا؟ فرأينا الرأس والرجلين لا يقع عليهما التيمم، فكان ما سقط التيمم عن بعضه
(1) كذا في "الأصل، ك"، وهي غير منقوطة، كما يفعل كثيرًا ولعل الصواب: احتجنا .. ، وقد مر في كلام الطحاوي -المشروح- رجعنا، وهو يرجح ما استظهرنا.
(2)
كذا العبارة في "الأصل، ك"، بضمير المفرد المذكر، والمناسب: التي أمر بها
…
وهي.
سقط عن كله، وكان ما وجب فيه التيمم كان كالوضوء سواء؛ لأنه جُعِلَ بدلا منه.
ولما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين، في حال وجود الماء، يقع عليه التيمم في حال عدم الماء، ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا ونظرا على الأصل.
قوله: "الأقاويل" جمع: أقوال، جمع: قول، ويجوز أن يكون جمع أُقْووله؟ كأغاليط جمع أغُلوطة. قوله:"مما يُوضَّآن" على صيغة المجهول، أي: مما يدخلان في الوضوء، تحت الغسل والمسح.
قوله: "هل يُؤَممان" على صيغة المجهول أيضا، أي: مما يدخلان في التيمم؛ هو من يَمَّمَ يُيَمِّم -بيائين- ويجوز يؤمم بإبدال الثانية همزة، يقال: أمّ وتأمّم ويمّم وتيمّم، كلها بمعنى واحد.
قوله: "سواء" بالنصب لأنه حال، معناه: متساويا، أو متساوية، بحسب ما يقتضيه المقام.
ثم إنه أخرج حديث الأسلع بن شريك الأعرجي التميمي، خادم النبي عليه السلام وصاحب راحلته.
عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي.
عن علي بن معبد بن شداد الرقي، أحد أصحاب محمَّد بن الحسن، وثقه أبو حاتم.
عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، الإِمام المشهور القاضي، أكبر أصحاب أبي حنيفة.
عن الربيع بن بدر التميمي السعدي الأعرج، المعروف بعُلَيْلة، قال أبو حاتم: ضعيف ذاهب الحديث، وأبوه بَدْر بن عمرو التميمي السَعْدي قال في "الميزان": لا يدرى حاله وفيه جهالة، وجده هو عمرو بن جراد التميمي، لم أعرف حاله.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): نا محمَّد بن عبد الله الحضرمي والحسن بن إسحاق التستري قالا: ثنا يحيى الحماني، نا الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن الأسلع -رجل من بني الأعرج بن كعب- قال: "كنت أخذم النبي عليه السلام -فقال لي: يا أسلع، قم أرني كذا وكذا، قلت: يا رسول الله عليه السلام أصابتني جنابة، فسكت عني ساعة حتى جاءه جبريل عليه السلام بالصعيد التيمم، قال: قم يا أسلع فتيمم، قال: ثم [أراني](2) الأسلع كيف علمه رسول الله عليه السلام التيمم، قال: ضرب رسول الله عليه السلام بكفيه الأرض ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه حتى أمرّ على لحيته، ثم أعادهما إلى الأرض، فمسح بكفيه فدلك إحداهما بالأخرى ثم نفضهما، ثم مسح ذراعيه [ظاهرهما وباطنهما](3).
وأخرجه الدارقطني (4)، وليس فيه ذكر جبريل ولا نزول آية التيمم.
وكذلك البيهقي في "سننه"(5): وأبو بكر الرقي في "معرفة الصحابة" والجاحظ في كتاب "البرهان".
وابن الأثير في كتاب "الصحابة"(6)، وابن حزم في "المحلى"(7)، ثم قال: رويناه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عُلَيلة وهو الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن الأسلع [وكل](8) من ذكرنا فليسوا بشيء، انتهى.
وما قيل: إن بين هذا وبين حديث العِقْد تناقضا، فقد مرَّ جوابه.
(1)"المعجم الكبير"(1/ 298 رقم 876).
(2)
في "الأصل، ك": رآني، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الكبير".
(3)
في "الأصل، ك": ظهرهما وبطنهما، والمثبت من "المعجم الكبير".
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 179 رقم 14).
(5)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 208 رقم 944).
(6)
"أسد الغابة"(1/ 91).
(7)
"المحلى"(2/ 149).
(8)
في "الأصل، ك": فكل، والمثبت من "المحلى"(2/ 150).
فإن قلت: هذا الحديث ضعفه في "النهاية"، فما بال الطحاوي احتج به؟
قلت: الطحاوي إمام، فيمكن أن يكون قد ثبت عنده، ووثَّقَ مَنْ ضَعَّفَهُ غيره.
ولئن سلمنا ذلك فليس الاحتجاج بانفراده هو، وإنما أخرجه في معرض شاهد وتابع لغيره طلبا للتأكيد، فافهم.
قوله: "فأرحل لنا" من قولهم: رحلتُ البعيرَ أرحُله رَحْلا إذا شددت على ظهره الرحْل من باب: نصح ينصح.
قوله: "صعيدا طييا" أي أرضا طاهرة. قال الأصمعي: الصعيد وجه الأرض.
فقيل: بمعنى مفعول، أي مصعود عليه، وحكاه ابن الأعرابي، وكذا قاله الخليل وثعلب.
وفي "الجمهرة": وهو التراب الذي لا يخالطه رمل ولا سبخ، هذا قول أبي عبيدة.
وقيل: هو الظاهر من وجه الأرض.
وقال الزجاج في "المعاني": الصعيد وجه الأرض ولا يبالى، كان في الموضع تراب أم لم يكن؛ لأن الصعيد ليس إسما للتراب، إنما هو وجه الأرض، ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه، أو غيره، قال تعالى:{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} (1) فأعلمك أن الصعيد يكون زلقا.
وعن قتادة: الصعيد الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر.
وقال أبو إسحاق: الطيب: النظيف، وأكثر العلماء على أنه الطاهر، وقيل: الحلال، وقيل: الطيب: ما تستطيبه النفس.
(1) سورة الكهف، آية:[40].
قوله: "يا أسلع، قم فاغتسل" وقع في بعض النسخ بالتصغير.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: أن التيمم كما يجوز عند الحدث الأصغر، فكذلك يجوز عند الحدث الأكبر.
الثاني: عدم جوازه بغير ما كان من جنس الأرض، ويجوز بكل ما كان من جنس الأرض حتى بالغبار.
وقال أبو عمر (1): أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز.
وعند مالك يجوز بالتراب، والرمل، وبالحشيش، والشجر، والثلج (2)، والمطبوخ كالجَصّ والآجر.
وقال الثوري والأوزاعي: يجوز بكل ما كان على الأرض حتى الشجر والثلج والجلد. ونقل النقاش عن ابن عُليَّة وابن كيسان جوازه بالمسك والزّعفران.
وعن إسحاق: منعه بالسباخ. ويجوز عند أبي حنيفة بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر الأملس المغسول، والجصّ والنُّورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا، والطين الأحمر والأسود والأبيض، والحائط المطين والمجصَّص، والياقوت والزبرجد والزمرد والفيروزج والمرجان والأرض النديّة والطين الرطب.
وفي "البدائع": يجوز بالملح الجبلي. وفي "قاضي خان": لا يجوز على الأصح، ولا يجوز بالزجاج، ويجوز بالآجر في ظاهر الرواية.
وشرط الكرخي أن يكون مدقوقًا. وفي "المحيط": لا يجوز بمسبوك الذهب والفضة، ويجوز بالمختلط بالتراب، إذا كان التراب غالبًا، وبالخزف، إذا كان من
(1)"التمهيد"(19/ 290).
(2)
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(19/ 289): واختلفت الرواية عنه -أي مالك- في التيمم على الثلج، فأجازه مرة، ومنع منه أخرى.
طين خالص. وفي المرغيناني: يجوز بالذهب والفضة والحديد والنحاس وشبهها ما دام على الأرض.
وذكر الشاشي في "الحلية": لا يجوز التيمم بتراب خالطه دقيق، أو (جص)(1) وحكى وجه آخر أنه يجوز إذا كان التراب غالبًا.
ولا يصح التيمم بتراب استعمل في التيمم، وعند أبي حنيفة يجوز، وهو وجه لبعض أصحابنا. ومذهب الشافعي وأحمد: لا يجوز إلا بالتراب الذي له غبار.
في "المغني" لابن قدامة (2): قال الأوزاعي: الرمل من الصعيد، وقال حماد بن أبي سليمان: لا بأس أن يتيمم بالرخام. وعن أحمد في رواية في السَّبَخَة والرمل: أنه يجوز التيمم به. فإن دق الخزف والطين المحترق لم يجز التيمم به، فإن ضرب بيده على لِبْد أو ثوب أو الجوالق أو البرذعة، أو في الشعير، فعَلِق بيديه غبار فتيمم به جاز. نص أحمد على ذلك كله.
وإذا خالط التراب ما لا يجوز التيمم به كالنُّورة والزرنيخ والجص، قال القاضي: حكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، إن كانت الغلبة للتراب جاز، وإن كانت الغلبة للمخالط لم يَجُزْ (3).
وقال ابن عقيل: يُمْنع وإن كان قليلًا. وهو مذهب الشافعي.
وإذا كان في طين لا يجد ترابا، فحكى (4) عن ابن عباس أنه قال: يأخذ الطين فيطلي به جسده، فإذا جف تيمم به. وإن خاف ذوات الوقت قبل جفافه فهو كالعادم. وإن لطخ وجهه بطين لم يجز (5)؛ لأنه لا يقع عليه اسم الصعيد.
الثالث: أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة للذراعين.
(1) في "الأصل، ك": جبص.
(2)
"المغني"(1/ 326).
(3)
في "الأصل، ك": لم يجزه، والمثبت من "المغني"(1/ 327)، وهو المناسب لقوله أولًا:"جاز".
(4)
في "الأصل، ك": يُحكى، والمثبت من "المغني".
(5)
لم يجز: كذا في الأصل، وفي "المغني": لم يُجْزِه.
الرابع: دخول المرفقين فيه، من قوله:"ظاهرهما وباطنهما"؛ لأن المرفق داخل في حكم الذراع.
الخامس: أن الجنب إذا تيمم وصلى، ثم وجد الماء يغتسل، فإن ذلك يرفع تيممه.
ص: وقد روي في ذلك عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهم.
حدثنا يونس، قال: أنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن نافع، قال:"سألت ابن عمر عن التيمم، فضرب بيديه إلى الأرض ومسح بهما يديه ووجهه وضرب ضربة أخرى فمسح بهما ذراعيه".
حدثنا علي بن شيبة، قال: أنا محمَّد بن عبد الله الكُنَاسِي، قال: نا عبد العزيز ابن أبي رَوّاد، عن نافع، عن ابن عمر مثله.
حدثنا رَوح بن الفرج، قال: نا سعيد بن كثير بن عُفَيْر، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن هشام بن عروة، عن نافع، عن ابن عمر، مثله.
حدثنا يونس قال: نا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع:"أن عبد الله بن عمر أقبل من الجرف، حتى إذا كان بالمزبد تيمم صعيدًا طييًا، فمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين، ثم صلى".
ش: أي قد روي في أن التيمم في اليدين إلى المرفقين عن عبد الله ابن عمر وجابر رضي الله عنهم، فأخرج عن ابن عمر من أربع طرق صحاح كلها موقوفة.
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن نافع.
وأخرج البيهقي (1) من حديث عبيد الله وغيره، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يقول: التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين".
(1)"السنن الكبرى"(1/ 207 رقم 941).
الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى الأسدي الكوفي الكُنَاسِي، بضم الكاف وفتح النون - نسبة إلى كُنَاسة- وهو لقب أبيه عبد الله، ويقال لابنه: أبي كناسة أيضًا، عن عبد العزيز بن أبي رَواد ميمون بن بدر المكي، عن نافع.
الثالث: عن روح بن الفرج القطان، عن سعيد بن كثير بن عُفَير بن مسلم بن عمار المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن هشام بن عروة، عن نافع.
الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع.
وأخرجه مالك في "موطئه"(1) عن نافع: أنه أقبل هو وعبد الله بن عمر من الجرف، حتى إذا كانا بالمِرْبد، نزل عبد الله فتيمم صعيدًا طيبًا، فمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن ابن عُليَّة، عن أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر تيمم في مربد الغنم، فقال بيديه على الأرض فمسح بهما [وجهه]، (3)، ثم ضرب بهما على الأرض ضربة أخرى، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين".
ورواه الدارقطني (4) مرفوعًا أيضًا، وقال: نا أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل الفارسي، نا عبد الله بن الحسين بن جابر، ثنا عبد الرحيم بن مطرف، ثنا علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين".
كذا رواه علي بن ظبيان مرفوعًا، ووقفه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما، وهو الصواب.
(1)"موطأ مالك"(1/ 56 رقم 121)
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 146 رقم 1673).
(3)
في "الأصل، ك": وجه، والمثبت من "المصنف".
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 180 رقم 16)
قوله: "من الجُرُف" بضم الجيم والراء، وهو اسم موضع قريب من المدينة، وأصله ما تجرفه السيول من الأودية و"الجَرْف" بفتح الجيم وسكون الراء: أخذك الشيء عن وجه الأرض بالمجرفة.
وزعم الزبير أن الجُرُف على ميل من المدينة، وقال ابن إسحاق على فرسخ، وهناك كان المسلمون يعسكرون إذا أرادوا الغزو.
وزعم ابن قرقول أنه على ثلاثة أميال إلى جهة الشام، به مال عمر وأموال أهل المدينة، وتعرف ببئر جُشم وبئر الجمل (1).
قوله: "بالمِرْبَد" بكسر الميم وفتح الباء، من ربد بالمكان إذا أقام فيه، وربده إذا حبسه، وأراد به الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم، وبه سمى مِرْبَد البصرة والمدينة.
والمربد أيضًا الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف، كالْبَيْدَر للحِنطة. وزعم ابن قرقول: أن المربد على ميلين من المدينة، وقال السفاقسي: رويناه بفتح الميم، وهي في اللغة بكسرها.
وفي "المحكم": المربد: مَحْبس الإبل، وقيل: هي خشبة أو عصًا تعترض صدور الإبل فتمنعها من الخروج. ومربد البصرة من ذلك؛ لأنهم يحبسون فيه الإبل.
والمربد: فضاء وراء البيوت [يُرْتَفَقُ](2) به، والمربد كالحجرة في الدار، ومربد التمر: جَرِينة الذي يوضع فيه بعد الِجذاذ ليَيْبَس، قال سيبويه: هو اسم كالمطبخ، وإنما مثل به لأن الطبخ [يُيبِّسُ](3)، وقال السهيلي: المربد والجَرِين والمِسْطح والبَيْدر والأَنْدَر والجرجاذ لغات بمعنى واحد.
(1) انظر معجم البلدان (2/ 128).
(2)
في "الأصل، ك": برهق، والمثبت من "اللسان"، وفي "العمدة" (2/ 14): ترتفق، وطبعته -تصوير بيروت عن المنيرية- كثيرة التحريف، لا يوثق بها.
(3)
في "الأصل، ك": يُيَبَّسُ، غير مستقيمة اللفظ، وفي "اللسان":" .. لأن الطبخ تَيْبِيس"، والكلام في "عمدة القاري" -أيضًا- لكنه محرف تحريفًا فاحشًا!!
وقال محمَّد بن سلمة: إنما تيمم ابن عمر بالمربد؛ لأنه خاف فوت الوقت.
لعله يريد فوات الوقت المستحب، وهو أن تصفَرَّ الشمس.
فإن قيل: قال البخاري في "جامعه" وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف، فحضرت العصر بمِرْبَد الغنم، فصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يُعِدْ.
قلت: قوله: "والشمس مرتفعه" يحتمل أن تكون مرتفعة عن الأفق، والصفرة دخلتها. ويحتمل أن يكون ظَنَّ أنه لا يدخل المدينة حتى يخرج الوقت، فتيمم على ذلك الاجتهاد.
وعن ابن القاسم: "من رجا إدراك الماء في آخر الوقت، فتيمم في أوله وصلى أجزأه، ويُعيد في الوقت استحبابًّا". فيحتمل أن يكون ابن عمر كان يرى هذا.
وقال سحنون في شرح "الموطأ": كان ابن عمر على وضوء؛ لأنه كان يتوضأ لكل صلاة، فجعل التيمم عند عدم الماء عوضًا من الوضوء. وقيل: كان ابن عمر يرى أن الوقت إذا دخل حل التيمم، وليس عليه أن يؤخر لقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1).
وقال عبد العزيز ابن بُزيزة: الحاضر الصحيح يَعْدِم الماء، هل يتيمم أم لا؟ قالت طائفة: يتيمم، وهو مذهب ابن عمر وعطاء والحسن، وجمهور العلماء. وقال قوم من العلماء: لا يتيمم. وعن أبي حنيفة: يُستحب لعادم الماء، وهو يرجوه، أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، ليقع الأداء بأكمل الطهارتين. وعن محمَّد: إن خاف فوت الوقت يتيمم. وفي شرح الأقطع: التأخير، عن أبي حنيفة ويعقوب حَتْم. كأنه يشُير إلى ما رواه الدارقطني (2) من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي:"إذا أجنب الرجل في السفر تَلَوَّمَ ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء، تيمم وصلى".
(1) سورة النساء، آية:[43]، وسورة المائدة، آية:[6].
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 186 رقم 5).
ولفظ البيهقي (1): "اطلب الماء حتى يكون آخر الوقت، فإن لم تجد الماء تَيَمَّمْ، ثم صَلِّ".
قال ابن حزم (2): وبه قال سفيان بن سعيد وأحمد بن حنبل وعطاء. وقال مالك: لا يعجل ولا يؤخر، ولكن في وسط الوقت. وقال مرة: إن أيقن بوجود الماء قبل خروج الوقت آخَّره إلى وسط الوقت، وإن كان موقنًا أنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت فليتيمم في أول الوقت ويصلي، وعن الأوزاعي: كل ذلك سواء.
وعند مالك إذا وجد الحاضر الماء في الوقت هل يعيد أم لا؟ فيه قولان في "المدونة"، وقيل: إنه يعيد أبدًا.
قلت: مَنْ صلى بالتيمم، ثم وجد الماء قبل خروج الوقت، لا إعادة عليه؛ لما روى أبو داود في "سننه" (3): نا محمَّد بن إسحاق المُسَيَّبيِّ، قال: نا عبد الله بن نافع، عن الليث بن سَعْد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: "خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء.
فتيمما صعيدًا طيبًا، فصليا. ثم وَجَدَا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله عليه السلام[فذكرا] (4) ذلك له فقال للذي لم يُعِد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين".
وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسفيان وإسحاق والشعبي، وقال عطاء وطاوس وابن سيرين ومكحول والزهري: يعيد الصلاة. واستحبه الأوزاعي ولم يوجبه.
فإن قيل: قال أبو داود: ذكرُ أبي سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ، هو مرسل.
(1)"السنن الكبرى"(1/ 233 رقم 1041).
(2)
"المحلى"(2/ 120).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 93 رقم 338).
(4)
في "الأصل، ك": "فذكروا"، والمثبت من "السنن".
قلت: أسنده أبو الوليد الطيالسي، عن الليث، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وقال أبو علي بن السكن: تفرد به أبو الوليد ولم يُسْنِد عميرة غير هذا الحديث.
وأخرجه الحكم (1) مسندًا وقال: صحيح على شرطهما، فإن ابن نافع ثقة، وقد وصل هذا الإسناد عن الليث، وقد أرسله غيره.
وقال الطبراني في "الأوسط"(2): لم يروه متصلًا إلا ابن نافع، تفرد به المسيَّبي.
وقال الدارقطني (3): تفرد به ابن نافع عن الليث بهذا الإسناد متصلًا، وخالفه ابن المبارك وغيره، فلم يذكروا أبا سعيد.
فإن قيل: قال ابن القطان: عميرة مجهول الحال.
قلت: ليس كذلك؛ لأن النسائي لما ذكره في التمييز، قال: ثقة، وقال ابن يونس: كانت له عبادة وفضل، وقال ابن بكير: هو ثقة. وسئل أحمد بن صالح عنه وعن ابن شريح، فقال: هما متقاربان في الفضل، وذكره ابن حبان في الثقات.
ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: نا أبو نعيم، قال: نا عَزْرَة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"أتاه رجل فقال أصابتني جنابة، وإنني تمعكت في التراب، فقال: أَصرْتَ حمارًا؟! فضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب بيده إلى الأرض فمسح بيديه إلى المرفقين، وقال: هكذا التيمم".
ش: إسناده صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وعَزْرَةَ -بفتح العين المهملة، وسكون الزاي المعجمة وفتح الراء- وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدْرُس المكي.
وأخرجه الدارقطني (4): عن محمَّد بن مخلد وإسماعيل بن علي وعبد الباقي بن
(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 286 رقم 632).
(2)
"المعجم الأوسط"(2/ 235 رقم 1842)
(3)
"سنن الدارقطني"(1/ 188 رقم 1).
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 182 رقم 23).
قانع، كلهم عن إبراهيم الحربي، عن أبي نعيم، عن عزرة
…
إلى آخره نحوه، وليس في روايته:"أصرت حمارًا".
وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن عَزْرَة
…
إلى آخره.
ورواه الدارقطني (2) مرفوعًا أيضًا: نا محمَّد بن مخلد وإسماعيل بن علي وعبد الباقي ابن قانع، قالوا: نا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا عثمان بن محمَّد الأنماطي، نا حرميُّ بن عمارة، عن عَزْرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام، قال:"التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين".
وأخرجه البيهقي (3) مرفوعًا أيضًا.
وأخرجه الحكم (4): من حديث [إبراهيم بن](5) إسحاق الحربي نحوه، وقال هذا إسناد صحيح، وقال الذهبي أيضًا: إسناده صحيح، ولا يلتفت إلى قول من يمنع صحته.
قوله: "تمعكت" أي تمرغت.
ص: وقد روي مثل ذلك عن الحسن:
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن قَتَادة، عن الحسن، أنه قال:"ضربة للوجه والكفين، وضربة للذراعين إلى المرفقين".
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج بن المنهال، قال: أنا أبو الأشهب، عن الحسن، مثله، ولم يَقُل:"إلي المرفقين".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 147 رقم 1688).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 181 رقم 21).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 207 رقم 943).
(4)
"مستدرك الحاكم"(1/ 288 رقم 638).
(5)
سقط من "الأصل"، والمثبت من "المستدرك".
ش: أي: قد روي عن الحسن البصري مثل ما روي عن ابن عمر وجابر.
وأخرجه بطريقين صحيحين:
أولهما: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن قَتَادَة.
الثاني: عن محمَّد، عن حجاج، عن أبي الأَشْهب جَعْفر بن حَيَّان الأسدي السَعْدي العُطاردي البصري الخزَّاز الأعمى، عن الحسن.
وروى الدارقطنى (1): ثنا القاضيان الحسن بن إسماعيل وأبو عمر محمَّد بن يوسف، قالا: نا إبراهيم بن هانئ، نا موسى بن إسماعيل، نا أبان، قال:"سئل قَتَادَةُ عن التيمم في السفر، فقال: كان ابن عمر يقول: إلى المرفقين، وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان: إلى المرفقين".
وروى عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن الثوري، عن يونس، عن الحسن، وقاله: عن معمر عن الحسن أيضًا، قال:"مرة للوجه، ومرة لليدين إلى المرفقين" انتهى.
قلت: وروي عن إبراهيم وطاوس وسالم والشعبي وسعيد ابن المسيب نحوه.
فروى محمَّد عن أبي حنيفة، قال: نا حماد، عن إبراهيم، في التيمم قال:"تضع راحتيك في الصعيد فتمسح وجهك، ثم تضعهما الثانية فتمسح يديك وذراعيك إلى المرفقين" قال محمَّد وبه نأخذ.
وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): نا ابن مهدي، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال:"التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين".
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 182 رقم 24).
(2)
مصنف عبد الرزاق (1/ 212 رقم 820).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 146 رقم 1681).
نا ابن عُلَية (1) عن أيوب، قال:"سألت سالمًا عن التيمم، قال: فضرب بيديه على الأرض (2) ضربة أخرى فمسح بهما يديه إلى المرفقين".
نا ابن عُليَّة، عن داود، عن الشعبي، قال:"التيمم ضربة للوجه ولليدين إلى المرفقين".
نا أبو داود الطيالسي (3)، عن حماد، عن قَتَادةَ، عن ابن سيرين وصالح أبي الخليل أنهما قالا:"التيمم الوجه والكفان".
وقال سعيد بن المسيب وابن عمر: "الوجه والذراعان".
وروي عن أبي أمامة وعائشة مرفوعًا.
أما حديث أبي أمامة: فأخرجه الطبراني (4) بإسناده إليه، عن النبي عليه السلام، قال:"التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين". وفي إسناده جعفر بن الزبير، قال شعبة: وضع أربع مائة حديث.
وأما حديث عائشة فأخرجه البزار (5) بإسناده عنها، عن النبي عليه السلام، قال في التيمم:"ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين"، وفي إسناده الحَرِيشُ بن حُرَيْث، ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة والبخاري.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 146 رقم 1674).
(2)
كذا في "الأصل، ك" و"المصنف"، ولعله قد وقع ها هنا سقط ولعل موضعه:"ضربة فمسح بهما وجهه ثم ضرب".
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 47 رقم 1672).
(4)
"المعجم الكبير"(8/ 245 رقم 7959).
(5)
عزاه له الهيثمي في "المجمع"(1/ 263)، وانظر "نصب الراية"(1/ 151).