الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدخيل، ويسّرها الله لذلك ليظهر آية نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها أنها فى وسط جزيرة العرب فى الحجاز ونجد وتهامة، فلم تطرقها الأمم، فأما اليمن وهى جنوبى الجزيرة فأفسدت كلام عربه خلطه الحبشة والهنود، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس المبرد، قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التى نزل القرآن بلسانها ..
وأما ما والى العراق من جزيرة العرب، وهى بلاد ربيعة، وشرقى الجزيرة فأفسدت لغتها مخالطة الفرس والنبط ونصارى الحيرة، وغير ذلك.
وأما الذى يلى الشام، وهو شمالى الجزيرة، وهى بلاد آل جفنة، وابن الرافلة، وغيرهم، فأفسدها مخالطة الروم، وكثير من بنى إسرائيل.
وأما غربى الجزيرة فهى جبال تسكن بعضها هذيل وغيرهم، وأكثرها غير معمور، فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللّغات، لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم .. فمعنى
قول النبى صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»
أى فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز فى اللّفظة .. فأباح الله تعالى لنبيه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل فى عرضاته على الوجه الذى فيه الإعجاز وجودة الوصف «1» .
ما تدل عليه النصوص بعامة وما جاء عن لغة قريش بخاصة:
وأيا كان الاختلاف فى معرفة اللّغات السبع بعينها باعتبارها الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن، فإن دراسة النصوص الواردة فى ذلك، وفيما يناقضها فى الظاهر من نزول القرآن بلغة قريش تدل على أربعة أمور:
(1) مقدمة تفسير المحرر الوجيز 1/ 27 وما بعدها.
أحدها: أن اللّغات السبع ليست بالضرورة فى كل كلمة من القرآن، أو فى كلمة بعينها، بل حيث يوجد فى لغات العرب تفاوت فى الألفاظ الدالة على معنى واحد ينزل القرآن باللّغات السبع أو ببعضها، وحيث لا يوجد فلا.
ثانيها: أن بعض هذه اللّغات كان أشهر من بعض، وأعلاها لغة قريش، والشأن فيها جميعا أن تكون من اللّغات الأكثر انتشارا وذيوعا.
ثالثها: أن القراءة بهذه اللّغات كانت على سبيل الاختيار عند الصحابة، حتى يسهل على كلّ أن يقرأ بما تيسر له.
رابعها: أن اللّغات السبع- أى الأحرف السبعة على ما سبق- انتهت بجمع عثمان رضى الله عنه المصحف على حرف واحد قطعا لدابر الخلاف.
وعلى هذا يحمل ما كتب به عمر إلى ابن مسعود رضى الله عنهما، قال بعضهم: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزّل عليهم أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم فى الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربى إذا فارق لغته التى طبع عليها يدخل عليه الحميّة من ذلك، فتأخذه العزة، فجعلهم يقرءونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم منا منه عز وجل، لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان، وكان الأصل على ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الألفاظ والإعراب جميعا مع اتفاق المعنى، فمن أجل ذلك جاء فى القرآن مخالفة ألفاظ المصحف المجمع عليه، كالصوف، وهو «العهن» «1» ،
(1) القارعة: 5 - وقراءة «الصوف» لعبد الله بن مسعود، جاء فى البخارى: وقرأ عبد الله- يعنى ابن مسعود: «كالصوف» (فتح البارى 8/ 728) وفى الكشاف للزمخشرى: وقرأ ابن مسعود: «كالصوف» .
(4 - نزول القرآن)
وزقية، وهى:«صيحة» «1» ، وحططنا وهى:«وضعنا» «2» ، وحطب جهنم، وهى:«حصب» «3» ، ونحو ذلك، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رجل منهم متمسك بما أجازه له صلى الله عليه وسلم، وإن كان مخالفا لقراءة صاحبه فى اللّفظ، وعوّل المهاجرون والأنصار ومن تبعهم على العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل فى العام الذى قبض فيه، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه فى كل سنة مرة جميع ما أنزل عليه فيها إلّا فى السنة التى قبض فيها فإنه عرض عليه مرتين.
قال أبو شامة: «وهذا كلام مستقيم حسن، وتتمته أن يقال: أباح الله تعالى أن يقرأ على سبعة أحرف ما يحتمل ذلك من ألفاظ القرآن، وعلى دونها ما يحتمل ذلك من جهة اختلاف اللّغات وترادف الألفاظ توسيعا على العباد، ولهذا
كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول لما أوحى إليه أن يقرأ على حرفين وثلاثة: «هوّن على أمتى»
على ما سبق ذكره فى أول الباب، فلما انتهى إلى سبعة وقف، وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا يحتاج من ألفاظه لفظة إلى أكثر من ذلك غالبا، والله أعلم» «4» .
إن أبا شامة بهذا الكلام يرى:
1 -
أن نزول القرآن على سبعة أحرف كان فيما يحتمل ذلك من ألفاظ القرآن، لا فى كل لفظ من ألفاظه.
(1) الآية 29 من سورة يس، وفى الكشاف:«وقرأ ابن مسعود: إلا «زقية واحدة» من زقا الطائر يزقو ويزقى: إذا صاح».
(2)
الآية 2 من سورة الشرح، وفى الكشاف:«وقرأ أنس: وحللنا وحططنا، وقرأ ابن مسعود: وحللنا عنك وقرك» .
(3)
الآية 98 من سورة الأنبياء، ونسب ابن جرير الطبرى فى تفسيره هذه القراءة لعلى بن أبى طالب وعائشة 17/ 94
(4)
المرشد الوجيز ص 96
2 -
وأن هذا يرجع إلى اختلاف اللّغات وترادف الألفاظ توسيعا على العباد.
3 -
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى فى طلبه إلى سبعة أحرف لعلمه بأن أمته على اختلاف لغات العرب لا تحتاج فى لفظة من ألفاظ القرآن إلى أكثر من ذلك.
أما ما
روى من أن القرآن أنزل بلسان قريش
فإنه يحمل على أحد وجهين جمعا بين الروايات:
أحدهما: أن يكون المراد بذلك أن القرآن نزل فى الابتداء بلسانهم، ثم أبيح بعد ذلك أن يقرأ بسبعة أحرف.
وثانيهما: أن معظم القرآن نزل بلسانهم، فإذا وقع الاختلاف فى كلمة فوضعها على موافقة لسان قريش أولى من لسان غيرهم.
وكان هذا سائغا قبل جمع الصحابة المصحف حتى يسهل على الأمة حفظ القرآن، يحفظ كل بلغته، ثم إن الصحابة رضى الله عنهم بعد أن ظهر الاختلاف فى القراءة وكثر حفظة القرآن أدركوا أن القراءة على حرف من الحروف السبعة كانت رخصة أول الأمر لتيسير القراءة، أما وقد كثر الحفّاظ فإنه لم يعد هناك حاجة لهذه الرخصة، ولا سبيل لتجاوز الاختلاف إلا بجمع الناس على حرف واحد، وهذا هو ما ألهمه الله عثمان رضى الله عنه، فحسم مادة الخلاف بنسخ القرآن على اللّفظ المنزّل به فى لغة قريش دون اللّفظ المرادف له، وفق ما استقرت عليه القراءة فى السنة التى توفى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن عارضه به جبريل فى تلك السنة مرتين، وأجمع الصحابة معه على ذلك، وأصبحت القراءة قاصرة على ما وافق رسم المصحف فى جمع عثمان، وما عدا ذلك فهو قراءة شاذة.
وصحّ عن زيد بن ثابت رضى الله عنه وعن غيره أنه قال: «إن القراءة سنّة»
.
قال البيهقى معلّقا على ذلك: أراد أن اتباع من قبلنا فى الحروف سنّة متبعة، لا يجوز مخالفة المصحف الذى هو إمام، ولا مخالفة القراءات التى هى مشهورة، وإن كان غير ذلك سائغا فى اللّغة، أو أظهر منها.
قال أبو بكر بن العربى: سقط جميع اللّغات والقراءات إلا ما ثبت فى المصحف بإجماع من الصحابة، وما أذن فيه قبل ذلك ارتفع وذهب، والله أعلم «1» .
وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون فى القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، فقال:
«وليس يوجد فى كتاب الله تعالى حرف قرئ على سبعة أوجه يصح فيما أعلم» «2» .
ورد عليه ابن الأنبارى «3» بمثل: عَبَدَ الطَّاغُوتَ «4» (المائدة: 60)
(1) المرشد الوجيز ص 90
(2)
تأويل مشكل القرآن ص 26
(3)
محمد بن القاسم بن محمد أبو بكر الأنبارى البغدادى، من كتبه:«إيضاح الوقف والابتداء فى كتاب الله عز وجل» و «عجائب علوم القرآن» - توفى سنة 328 هـ (بغية الوعاة ص 91).
(4)
فيه عشر قراءات: 1 - «وعبد الطاغوت» على فعل ونصب «الطاغوت» ، 2 - «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال وخفض «الطاغوت» وهما فى السبعة، 3 - «وعبد الطاغوت» بضم العين والباء وفتح الدال وخفض «الطاغوت» ، 4 - «وعبّد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء وتشديدها وفتح الدال وخفض «الطاغوت» ، 5 - «وعبّاد الطاغوت» بضم العين وتشديد الباء وألف بعدها وفتح الدال وخفض «الطاغوت» ، 6 - «وعباد الطاغوت» بكسر العين وألاف بعد الباء المفتوحة وفتح الدال وخفض «الطاغوت» ، 7 - «وعبد الطاغوت» مبنيا للمجهول، 8 - «وعابد الطاغوت» اسم الفاعل، 9 - «وعبدوا الطاغوت» بواو، 10 - «وعبد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء والدال وخفض «الطاغوت» .
انظر: «المحتسب» لأبى الفتح عثمان بن جنى- ت 392 هـ (1/ 214 دار سزكين للطباعة والنشر).