الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
ثم عاد «جولد زيهر» وتكلم عن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وأنه يبدى شبها كبيرا برأى التلمود «1» ، فى نزول التوراة بلغات كثيرة فى وقت واحد، وأشار إلى تفسير الحرف بالقراءة، أو أن يكون العدد سبعة لا مفهوم له «2» .
وسبق لنا مناقشة ما أشار إليه «جولد زيهر» من هذين القولين.
5 -
وزعم «جولد زيهر» أن الاختلاف فى القراءات كان تصحيفا، لأن مصحف عثمان كتب بغير نقط ولا شكل، والقراءات سنّة متّبعة، نقلت بالرواية والمشافهة من فىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن وليدة خط أو رسم أو عدم شكل لكتاب الله تعالى.
6 -
ولم تخرج شبهات المستشرق الفرنسى «بلادشير» «3» ، فى كتابه «مدخل إلى القرآن» عن شبهات «جولد زيهر» بما يغنى عن الرد عليه «4» .
حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف: تتلخص حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف فى أمور:
1 -
تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين لكل قبيل منهم لسان، ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلا عن أن يكون ذلك مما ألفوه، وهذه الحكمة نصّت عليها الأحاديث فى عبارات:
(1) التلمود: مجموعة الشرائع اليهودية التى نقلت شفويا مقرونة بتفاسير رجال الدين، أما الكتاب المقدّس فهو الذى يشتمل على تشريع مكتوب. (الموسوعة العربية الميسّرة).
(2)
انظر: مذاهب التفسير الإسلامى، ص 53 - 54.
(3)
«بلادشير» (1900 م-
…
) مستشرق فرنسى، تعلم فى شمال إفريقيا، ودرس فى معهد الدراسات العليا بالرباط، ومدرسة اللّغات الشرقية بباريس. (الموسوعة العربية الميسّرة).
(4)
انظر: مناهج المستشرقين 1/ 40.
عن أبىّ قال: «لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال: «إنى بعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام، والخادم، والشيخ العاس، والعجوز، فقال جبريل: فليقرءوا
القرآن على سبعة أحرف» «1» .
«إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه» .
«إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك» .
«إنّ الله أمرنى أن أقرأ القرآن على حرف، فقلت: اللهم ربّ خفّف عن أمتى» .
«أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه: أن هوّن على أمتى» .
وقال أبو جعفر الطحاوى: «كانت هذه السبعة للناس فى الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها، لأنهم كانوا أميين، لا يكتبون إلّا القليل منهم،
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والطبرى بإسناد صحيح، وأحجار المراء: موضع بقباء، وعسا الشيخ: كبر وأسنّ وضعف.
(2)
تأويل مشكل القرآن ص 30.
فكان يشق على كل ذى لغة منهم أن يتحوّل إلى غيرها من اللّغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسّع لهم فى اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك، حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرءوا بذلك على تحفظ ألفاظه، ولم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها، وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت فى وقت خاص، لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد».
قال أبو عمر: «وهو الذى عليه الناس فى مصاحفهم وقراءاتهم من بين سائر الحروف، لأن عثمان رضى الله عنه جمع المصاحف عليه» قال: «وهذا الذى عليه جماعة الفقهاء فيما يقطع عليه، وتجوز الصلاة به، وبالله العصمة والهدى» «1» .
فالواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزّل عليهم أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم فى الألفاظ، واتفاقهم فى المعنى، ولم يكلّف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربى إذا فارق لغته التى طبع عليها يدخل عليه الحميّة من ذلك، فتأخذه العزّة، فجعلهم يقرءونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم منّا منه عز وجل لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان، وكان الأصل على ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الألفاظ والإعراب جميعا مع اتفاق المعنى، فمن أجل ذلك جاء فى القرآن ألفاظ مخالفة ألفاظ المصحف المجمع عليه، كالصوف، وهو: كَالْعِهْنِ «2» ، وزقية، وهى: صَيْحَةً «3» ، وحططنا، وهى: وَضَعْنا «4» ،
(1) المحرر الوجيز ص 106 - 107 نقلا عن التمهيد لابن عبد البر.
(2)
القارعة: 5.
(3)
يس: 29.
(4)
الشرح: 2.
وحطب جهنم، وهى: حَصَبُ ونحو ذلك، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل رجل منهم متمسك بما أجازه به صلى الله عليه وسلم، وإن كان مخالفا لقراءة صاحبه فى اللّفظ، وعوّل المهاجرون والأنصار ومن تبعهم على العرضة الأخيرة التى عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام فى العام الذى قبض فيه، وهى التى كتب بها مصحف عثمان.
2 -
تيسير قراءة القرآن على المسلمين جميعا فى كل عصر: فالإسلام هو دين الله للبشرية كافة، ولم تكن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لجنس دون جنس، ولا لوطن دون وطن، بل كانت رسالته للإنسانية كلها على اختلاف الجنس والوطن واللّغة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «1» .
والقرآن الكريم هو دستور الإسلام، وكلام الله المنزّل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليبلغه للناس يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «2» .
وإذا كانت حكمة نزول القرآن على سبعة أحرف تتجلى فى تيسير الله تعالى لنبيه بأن يقرئ كل أمة بلغتهم على اختلاف اللهجات العربية، أما يوحى هذا بأن نتجاوز عن بعض الخلافات الصوتية اليسيرة لدى جميع المسلمين فى بقاع الأرض، عربا وعجما، ما دام كل واحد منهم يبذل غاية جهده فى النطق الصحيح، ولا يقدر على غيره، دون إخلال جوهرى باللّفظ العربى، أو لحن فاحش لا يغتفر؟
إننى لا أرى بأسا بهذا إذا كان لا يعدو النواحى الصوتية، من اختلاف فى مخرج الصوت، وتباين فى صفته، بين جهر وهمس، أو شدة ورخاوة، أو تباين فى موضع النبر من الكلمة، أو مقاييس أصوات اللين، إلى غير ذلك مما يعرف فى علم الأصوات اللّغوية، لأن لكل شعب من الشعوب صفات صوتية تميّزه.
(1) سبأ: 28.
(2)
المائدة: 67.
والإسلام يفرض على المسلمين جميعا لا على العرب وحدهم قراءة بعض آيات القرآن بالعربية فى صلاتهم، فإذا انحرفت الألسنة بعض الانحراف عن النطق الصحيح لمشقة وعسر، فإن هذا يكون معفوا عنه، متى صدرت تلك القراءات عن قلب طاهر، وإيمان قوى، وبذل الجهد فى تحرى الصواب، إذ لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها.
والتفاوت الصوتى فى النطق قد نجده بين أبناء اللّغة الواحدة إذا اختلفت البيئة، ولا نعد ذلك لحنا، فكيف بأبناء اللّغات والبيئات فى أصقاع الأرض من المسلمين؟
والخلافات الصوتية فى النطق للاعتبارات السابقة لا تعدو أن تكون قراءة فردية، لا تكاد تجاوز بضع آيات من القرآن الكريم، يقوم بها أفراد المسلمين فى جميع أنحاء الدنيا على قدر استطاعتهم فى النطق، وليست القراءة التى تحتذى.
وهناك عوامل عضوية وبيئية ونفسية واجتماعية للتفاوت الصوتى بالنطق، كاختلاف أعضاء النطق فى بنيتها واستعدادها، ومنهج أدائها لوظائفها، لاختلاف الحناجر والحبال الصوتية والألسنة والحلوق وسائر أعضاء النطق.
وكاختلاف الشعوب وبيئتها وتنوع الخواص الطبيعية والوراثية فى أعضاء النطق وتأثرها بالبيئة.
وكاختلاف الحالات النفسية والاجتماعية التى لها أثرها على أصوات الكلمة فى النطق بها.
لهذا كان التجاوز اليسير فى القراءة أمرا مقبولا ما توافرت دواعيه.
3 -
تمييز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السابقة: فللقرآن خصائص كثيرة، منها أنه انماز بخصيصة نزوله بسبعة ألسن من لغات العرب، كل منها
هو وحى الله المنزّل، وليس تفسيرا ولا تأويلا، أما الكتب السماوية السابقة فنزل كل كتاب منها بلسان واحد، وإذا عدل عنه فإنه يكون من باب الترجمة والتفسير، وليس بالذى أنزل الله.
قال أبو جعفر الطبرى: «أخبر النبى صلى الله عليه وسلم عما خصّه الله تعالى به وأمته من الفضيلة والكرامة التى لم يؤتها أحدا فى تنزيله.
وذلك أن كل كتاب تقدّم كتابنا نزوله على نبى من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حوّل إلى غير اللّسان الذى نزل به، كان ذلك ترجمة له وتفسيرا، لا تلاوة له على ما أنزل الله.
وأنزل كتابنا بألسن سبعة، بأى تلك الألسن السبعة تلاه التالى كان له تاليا على ما أنزل الله، لا مترجما ولا مفسرا، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ- إذا أصاب معناه- له مترجما، لا تاليا على ما أنزله الله به.
فذلك معنى
قول النبى صلى الله عليه وسلم: «كان الكتاب الأول نزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف» «1» .
4 -
إعجاز القرآن للفطرة اللّغوية عند العرب: فتعدد مناحى التأليف الصوتى للقرآن تعددا يكافئ الفروع اللسانية التى عليها فطرة اللّغة فى العرب، حتى يستطيع كل عربى أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطرى ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز الذى تحدى به الرسول صلى الله عليه وسلم العرب، ومع اليأس من معارضته، لا يكون إعجازا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازا للفطرة اللّغوية نفسها عند العرب، وإعجاز الفطرة اللّغوية إعجاز لا يحده زمن، بل يمتد دائما مع اللّغة ما دامت هذه اللّغة قائمة.
(1) مقدمة التفسير 1/ 70، 71.
5 -
إعجاز القرآن فى معانيه وأحكامه: فإن تقلب الصور اللّفظية فى بعض الأحرف والكلمات يعطى مزيدا من المعانى التى يدل عليها اللّفظ، وبتهيإ معه استنباط الأحكام التى تجعل القرآن ملائما لكل عصر، يلبى حاجات البشرية ويقيم حياتها على نهج الله الأقوم، ولهذا احتج الفقهاء فى الاستنباط والاجتهاد فى معرفة الأحكام بقراءات الأحرف السبعة.
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.
مناع بن خليل القطان الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمشرف على الدراسات العليا