الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناقشة الرأى الثانى:
ويجاب عن الرأى الثانى الذى يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه فى جملته لا يخرج فى كلماته عنها فهو يشتمل فى مجموعه عليها- بأن لغات العرب أكثر من سبع، وبأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشى من لغة واحدة، وقبيلة واحدة، وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، فدلّ ذلك على أن المراد بالأحرف السبعة غير ما يقصدونه، ولا يكون هذا إلّا باختلاف الألفاظ فى معنى واحد، وهو ما نرجّحه.
وكان عمر شديدا فى الأمر بالمعروف إذ يقول: «فلببته بردائه» أى جمع عليه ثيابه عند لبته لئلا ينفلت منه، وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه فى الإسلام وسابقته بخلاف هشام، فإنه كان قريب العهد بالإسلام، فهو من مسلمة الفتح، فكان النبى صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرا، فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرة عمر بالإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع
حديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»
إلا فى هذه الواقعة.
قال ابن جرير الطبرى بعد أن ساق الأدلة مبطلا هذا الرأى: «بل الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن هن لغات سبع فى حرف واحد، وكلمة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى، كقول القائل: هلم، وأقبل، وتعال، وإلىّ، وقصدى، ونحوى، وقربى، ونحو ذلك، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعانى، وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذى روينا آنفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمن روينا عنه ذلك من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قولك:
«هلم وتعال وأقبل» وقوله: «ما ينظرون إلّا زقية» ، وإِلَّا صَيْحَةً.
وأجاب الطبرى عن تساؤل مفترض: ففي أى كتاب الله نجد حرفا واحدا مقروءا بلغات سبع مختلفات الألفاظ متفقات المعنى؟ أجاب: بأننا لم ندّع أن
ذلك موجود اليوم، وإنما أخبرنا أن معنى
قول النبى صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»
على نحو ما جاءت به الأخبار التى تقدّم ذكرنا لها، وهو ما وصفنا، دون ما ادعاه مخالفونا فى ذلك، للعلل التى قد بينّا.
فإن قال- المتسائل- فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة إن كان الأمر فى ذلك على ما وصفت، وقد أقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ أنسخت فرفعت؟ فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الامة، فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه؟
أم ما القصة فى ذلك؟
قيل له: لن تنسخ فترفع، ولا ضيّعتها الامة، وهى مأمورة بحفظها، ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيّرت فى قراءته وحفظه بأى تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا هى حنثت فى يمين وهى موسرة، أن تكفر بأى الكفّارات الثلاث شاءت، إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظرها التكفير بأى الثلاث شاء المكفّر، كانت مصيبة حكم الله، مؤدية فى ذلك الواجب عليها من حق الله، فكذلك الأمة، أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيّرت فى قراءته بأى الأحرف السبعة شاءت- فرأت- لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد- قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف السبعة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه، بما أذن له فى قراءته به.
فإن قال: وما العلّة التى أوجبت عليها الثبات على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية؟
قيل: حديث رواه زيد بن ثابت «1» ، قال: لما قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) زيد بن ثابت الأنصارى الخزرجى، كاتب الوحى، وهو الذى كتب القرآن فى المصحف لأبى بكر ثم لعثمان- ت 45 هـ (الإصابة 1/ 543).
باليمامة، دخل عمر بن الخطاب على أبى بكر «1» رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة تهافتوا تهافت الفراش فى النار، وإنى أخشى أن لا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا- وهم حملة القرآن- فيضيع القرآن وينسى، فلو جمعته وكتبته! فنفر منها أبو بكر وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتراجعا فى ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، قال زيد: فدخلت عليه وعمر محزئل «2» ، فقال أبو بكر: إن هذا قد دعانى إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحى، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقنى لا أفعل، قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلى أن قال عمر كلمة: «وما عليكما لو فعلتما ذلك» ؟ قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شىء والله، ما علينا فى ذلك شىء، قال زيد: فأمرنى أبو بكر فكتبته فى قطع الادم وكسر الأكتاف والعسب «3» ، فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتب ذلك فى صحيفة واحدة، فكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة «4» ، زوج النبى صلى الله عليه وسلم، ثم إن حذيفة بن اليمان «5» قدم من غزوة كان غزاها بمرج أرمينية، فلم يدخل بيته
(1) أبو بكر الصدّيق هو عبد الله بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن كعب بن تميم القرشى، أول من آمن من الرجال، وأول الخلفاء الراشدين- ت 13 هـ (الإصابة 2/ 333).
(2)
احزأل الرجل: اجتمع وتحفز ورفع صدره كالمتهيئ لأمر، فهو محزئل: منضم بعضه إلى بعض، جالس جلسة المستوفز.
(3)
الأدم: جمع أديم، وهو الجلد المدبوغ، كانوا يكتبون فيه، والكسر: جمع كسرة، وهى القطعة المكسورة من الشيء، والأكتاف: جمع كتف، وهو عظم عريض فى أصل كتف الحيوان من الناس والدواب، كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم يومئذ، والعسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل إذا نحى عنه خوصه.
(4)
أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، كانت صوامة قوامة- ت 27 هـ (الإصابة 1/ 264).
(5)
حذيفة بن حسل بن جابر العبسى، واليمان لقب حسل، صحابي من الولاة الشجعان الفاتحين توفى سنة 36 هـ (الإصابة 1/ 317) والمرج: أرض واسعة تمرج فيها الدواب، أى تذهب وتجئ.
حتى أتى عثمان بن عفان «1» ، فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس! فقال عثمان:«وما ذاك» ؟ قال: غزوت مرج أرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبىّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتكفّرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام فتكفّرهم أهل الشام، قال زيد: فأمرنى عثمان بن عفان أكتب لهم مصحفا، وقال: إنى مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلىّ، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص «2»
…
ثم أرسل عثمان رضى الله عنه إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا فى شىء، فردها إليها، وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر «3» فى الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها، فغسلت غسلا، وروى أن عثمان حين دعا إلى كتابة المصحف قال:
«اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماما» وكتب إلى أهل الأمصار:
«إنى قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندى، فامحوا ما عندكم» .
والآثار دالة على أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه، جمع المسلمين على مصحف واحد وحرف واحد، وحرق ما عدا المصحف الذى جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذى جمعهم عليه
(1) عثمان بن عفان بن أبى العاص القرشى الأموى، أمير المؤمنين أحد المبشرين بالجنة- توفي سنة 23 هـ (الإصابة 2/ 455).
(2)
أبان بن سعيد بن العاص بن أمية القرشى الأموى، اختلفوا فى سنة وفاته، أتوفي فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم فى عهد أبى بكر، أم فى عهد عثمان؟ والمعروف أن المأمور بذلك سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ابن أخى أبان بن سعيد (الإصابة 1/ 23 - 25).
(3)
عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشى العدوى، أحد علماء الصحابة العبّاد الأتقياء الذين يستقصون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ت 73 هـ (الإصابة 2/ 338).