الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
عفوك اللهم
الحمد لله الذي فطر عقول البشر متغايرة، وجعل النفوس برأيها عل نقطة الرضى دائرة، وزين لها أعمالها حتى توهمت أنها في الأمثال السائرة.
أحمده على نعمه التي أوضحت ما أبهم وألبس، وأبدت نار الهدى التي لم تكن بسوى أنامل الذوق تقبس، وراضت جواد الانتقاد الذي إذا أم غاية لم يثن عنانه ولم يحبس. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يسجع بها حمام اللسان من اليقين على أراكه، وتنجي قائلها من الوقوع في حبائل الشرك وأشراكه، وتكون له ذخيرة إذا عدم سكونه بعد حراكه. وأشهد أن محمدا سيدنا وعبده الذي عصمه الله من الخطأ في القول والعمل، وحرس به سرح الفصاحة ولولاه لاختلط المرعى بالهمل، وآتاه من جوامع الكلم ما لم تطمح إليه عين أمنية ولم تطمع فيه يد أمل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هابتهم الأساود وخافتهم الأسود، وتجانست أفعالهم فما منهم إلا من يجول ويجود، ويسوس ويسود، وتبرأت شيمهم من النقائص فلم يكن فيهم مختال ولا متكبر ولا حسود، صلاة تتبسم عن ثغرها شفة الفجر في لعس الظلام، ويتلثم بنورها وجه البدر في عرس التمام.
وبعد: فإن كتاب المثل السائر للصاحب ضياء الدين بن أثير الجزيرة، عامله الله بلطفه، وسامحه بما هزت به نسمات الخيلاء من غصن عطفه، من الكتب التي خفقت له في الاشتهار عذبات أوراقه، وسعى القلم في خدمته على رأسه إذا سعى الخادم على ساقه. واشتهر بين أهل الإنشاء اشتهار الليل بالكتمان والنهار بالإفشاء، لا بل اشتهار بني عذرة في الحب بتحرق الأحشاء، وأولع به أهل الأدب في الآفاق ولع الكريم بالإنفاق، لا بل ولع الرقباء بالعشاق.
إلا أن واضعه رحمه الله، وان جمع فيه العلم والعمل، وسجع فيه بين الثقيل والرمل، وتوهم أن بدر فضله قد تم وكمل، وتخيل أن جيد الإنشاء بعده قد عطل، وفنه قد خمل، قد أذهب حسناته النادرة، بتوالي سيئاته البادرة، وأضاع تلك الزهرات الفذة، في قفار الدعاوى التي لا يجد فيها السالك لذة، وطال على الناس بعد هلاله سواد ليله، ورفضوا مواقع طله لغثاء سيله. ونعم فإنه:
ما الجزع أهلٌ أن تردّد نظرةٌ
…
فيه وتثنى نحوه الأعناق
لأنه أفنى ذلك البسط في الإعجاب بنفسه والإطراء، وأطال في الغض من أبناء جنسه والازدراء، وظن أن الله قد حرم الفصاحة على من يأتي من بعده، وأن الذين من قبله إما شيخ قد خرف في هرمه، وإما طفل يعبث في مهده. وجر رداء الكبر والخيلاء مخيطا بإبر الحمد، وبالغ في ذلك مبالغة أبي زبيد الطائي في وصف الأسد. ووصف نفسه ولا وصف امرىء القيس لأفراسه، ومدحها ولا مدح أبي نواس سلافة كاسه، وكرر ذلك فغثى النفوس بذلك الغث، وزاد حتى رثى القلق ثوب الصبر لمارث.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احذروا ثلاثا: الحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والكبر فإنه حط إبليس عن مرتبته، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ويقال: إنه أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل: الكبرياء ردائي فمن نازعنيه أدختله النار. وقال جعفر بن محمد: علم الله أن الذنب للمؤمن خير من العجب، ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب.
وقال بعض الحكماء: البلية التي لا يؤجر المرء عليها العجب، والنعمة التي لا يحسد عليها التواضع.
ومما قيل: لا شيء أكتم للمحاسن من التيه والعجب.
هذا إلى ما في الكتاب من فلتات عديدة، واختيارات غير موفقة ولا سديدة، ونصر باطل، وتحلية عاطل، وترجيح ما ضعف ووهى، وتوهين ما تحرر وانتهى.
مساوٍ لو قسمن على الغواني
…
لما أمهرن إلا بالطّلاق
وكنت أقف على أطلالها عند المراجعة ناديا، وأعثر في أذيالها حين المطالعة غالبا، وأتأوه لانفراد تلك اللآلىء في سلوك السبج، وأستطيل سواد لياليه والصبح من محاسنه ما أسفر ولا انبلج.
وبلغني ما وضعه عز الدين بن أبي الحديد رحمه الله على الكتاب من المؤاخذة، وأنه استصرخت به تلك الظلامات عائذة. فلما وقفت على الفلك الدائر وجدته قد أغفل كثيراً، وأخذ قليلا وترك أثيرا. فأحببت بعد ذلك أن ألتقط ما غادره، وأتتبع شاذه ونادره.
وعليّ أن أقضي صلاتي بعدما
…
فاتت إذا لم أقضها في وقتها
على أنني بعد ابن أبي الحديد كمن جاء بعد اجتحاف سيل، وأصبح بعد قاطف النهار حاطب ليل. فإن هذا الرجل له تصانيف تدل على تمكنه واطلاعه، وسداد مراميه عند مد باعه، وريه من الفنون وقيامه بها واضطلاعه. منها تعليقان على المحصل والمحصول للإمام فخر الدين وتعليقة ثالثة على الأربعين لفخر الدين، ونظم فصيح ثعلب نظما جيدا في يوم وليلة، وهذا الفلك الدائر علقه في ثلاثة عشر يوما مع أشغال ديوانه.
وكتب إليه أخوه موفق الدين ابن أبي الحديد لما وضع الفلك الدائر:
المثل السائر يا سيدي
…
صنفت فيه الفلك الدائرا
لكنّ هذا فلكٌ دائرٌ
…
أصبحت فيه المثل السائرا
ووضع على نهج البلاغة شرحا في ستة عشر مجلدا، وناهيك بمن يتصدى لنهج البلاغة ويشرحه، ويأتي على ما يتعلق به من كل علم: أصولا وفقها وعربية وتاريخا وأسماء رجال وغير ذلك. ومن وقف على هذا الشرح، علم أنه قل من يدخل معه ذلك الصرح، أو يسام معه في مثل هذا السرح، وحسبك بمن وأخذ الإمام فخر الدين وأورد عليه. ووجدت له أبياتا أولها:
وحقك لو أدخلتني النار قلت لل
…
لذين بها قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في دقيق علومه
…
وما بغيتي إلاّ رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله
…
وأوبقه دون البرية ذنبه
أما يقتضي شرع التكرم عفوه
…
أيحسن أن ينسى هواه وحبه
أما ردّ زيغ ابن الخطيب وشكه
…
وتمويهه في الدّين إذ جلّ خطبه
أما كان ينوي الحق فيما يقوله
…
ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه
فقلت أنا رادا عليه في وزنه ورويه:
علمنا بهذا القول أنك آخذ
…
بقول اعتزالٍ جل في الدين خطبه
فتزعم أن الله في الحشر ما يرى
…
وذاك اعتقاد سوف يرديك غبّه
وتنفي صفات الله وهي قديمةٌ
…
وقد أثبتتها عن إلهك كتبه
وتعتقد القرآن خلقا ومحدثا
…
وذلك داء عزّ في الناس طبه
وتثبت للعبد الضعيف مشيئةً
…
يكون بها ما لم يقدره ربه
وأشياء من هذي الفضائح جمةً
…
فأيكما داعي الضلال وحزبه؟
ومن ذا الذي أضحى قريبا من الهدى
…
وحامى عن الدين الحنيفي ذبّه
وما ضر فخر الدين قولٌ نظمته
…
وفيه شناع مفرط إذ تسبه
وقد كان ذا نورٍ يقود إلى الهدى
…
إذا طلعت في حندس الشك شهبه
ولو كنت تعطي حق نفسك قدره
…
لأخمدت جمرا بالمحال تشبّه
وما أنت من أقرانه يوم معرك
…
ولا لك يوما بالامام تشبّه
ونقلت من خط الحافظ اليغموري قال: أنشدني الإمام ركن الدين أبو القاسم لنفسه في عز الدين بن أبي الحديد وقد صنف الفلك الدائر على المثل السائر:
لقد أتى باردا ثقيلا
…
ولم يرث ذاك من بعيد
فهو كما قد علمت شيء
…
أشهر ما كان في الحديد
وصنف كتابا يرد فيه على ابن أبي الحديد وسماه: نشر المثل السائر وطي الفلك الدائر قلت: هذا ركن الدين أبو القاسم، هو محمود بن الحسين ابن الإمام أرشد الدين الأصبهاني الأصل السنجاري المولد. كان حنفيا يعرف المذهب والأصولين والخلاف والأدب، قرأ على السيف الآمدي وعلى ضياء الدين ابن الأثير، وبطل خرقة الفقهاء وتزيي بزي الأجناد، وتوفي بدمشق في سادس شهر رمضان سنة خمسين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون. ومولده في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وقال في انتقاله إلى الجندية أبياتا منها:
فانظر أخا العقل إلى حرفةٍ
…
منها هربنا للوغى الجحفل
لو لم تكن أنحس ما في الورى
…
لم ترض عنها بالردى الاعجل
وكنت أنا في وقت قد كتبت على المحصل للإمام فخر الدين الرازي أبياتا يحسن هنا ذكرها وهي:
علم الأصول بفخر الدين منتصرٌ
…
به نصول بإعجاب وإعجاز
أضحت به السنة الغراء واضحةً
…
قد استقامت لمختار ومجتاز
له مباحث كم قد أحرقت شبها
…
بشهبها فمن الزاري على الرازي!
وأنشدني من لفظه شيخنا الإمام الحافظ أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بالديار المصرية سنة ثمان وعشرين وسبعمائة قال: أنشدنا شيخنا النسابة حافظ المشرق والمغرب شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي يوم الاربعاء الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة ثمانين وستمائة بالقاهرة بقراءتي عليه قال: أنشدنا الشيخ العالم الصاحب عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد، ومولده بالمدائن مستهل ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة لنفسه:
لولا ثلاثٌ لم أخف صرعتي
…
ليست كما قال فتى العبد
أن أنصر التوحيد والعدل في
…
كل مكان باذلا جهدي
وأن أناجي الله مستمتعا
…
بخلوةٍ أحلى من الشّهد
وأن أتيه الدهر كبرا على
…
كل لئيمٍ أصعر الخد
لذاك أهوى لا فتاةٍ ولا
…
خمرٍ ولا ذي ميعة نهد
قول ابن أبي الحديد هنا: لولا ثلاث.. البيت، إشارة إلى قول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاثٌ هنّ من لذّة الفتى
…
وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
…
كميت متى ما تعل بالماء تزيد
وكري، إذا نادى المضاف، مجنبا
…
كسيد الغضا، نبهته، المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الخباء المعمّد
ومن شعر ابن أبي الحديد قصيدة بائية من جملة مدائحه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
ألا إن نهج المجد أبيض محلوب
…
على أنه جم المسالك مرهوب
هو العسل الماذيّ يشتاره امرؤ
…
بغاه وأطراف الرماح اليعاسيب
ذق الموت إن شئت العلا واطعم الردى
…
فنيل الأماني بالمنيّة مكسوب
خض الحتف تأمن خطة الخسف إنما
…
يبوح ضرام الخطب والخطب مشبوب
ألم تخبر الأخبار عن فتح خيبر
…
ففيها لذي اللب الملب أعاجيب
وفوز عليٍ بالعلا فوزها به
…
فكلٌ إلى كلٍ مضافٌ ومنسوب
حصونٌ حصان الفرج حيث تبرجت
…
وما كل ممتط الجزارة مركوب
تناط عليها للنجوم قلائد
…
وتسفل عنها للغمام أهاضيب
منها:
وأرعن موار العنان يمورها
…
فلم يغن عنها جرّ مجرٍ وتلبيب
فللخطب عنها والصروف صوارفٌ
…
كما كان عنها للنوائب تنكيب
منها
نهار سيوفٍ في دجى ليل عثيرٍ
…
فأبيض وضاحٌ وأسود غربيب
ينوح عليها نوح قارون يوشعٌ
…
ويذري عليها دمع يوسف يعقوب
بها من زماجير الرجال صواعق
…
ومن صوب آذيّ الدماء شآبيب
منها
يمج منونا سيفه وسنانه
…
ويلهب نارا غمده والأنابيب
ومن مدائحه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قصيدة أولها:
عن ريقها يتحدّث المسواك
…
أرجا فهل شجر الأراك أراك
ولطرفها خنث الجبان فإن رنت
…
باللحظ فهي الضيغم الفتاك
شرك القلوب ولم أخل من قبلها
…
أن القلوب تصيدها الأشراك
منها
يا وجهها المصقول ماء شبابه
…
ما الحتف لولا طرفك الفتاك
أم هل أتاك حديث وقفتها ضحى
…
وقلوبنا بشبا الفراق تشاك
لا شيء أقطع من نوى الأحباب أو
…
سيف الوصيّ كلاهما سفاك