المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من التراث الأدبي - نصرة الثائر على المثل السائر

[الصفدي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌عفوك اللهم

- ‌الابتداء بالحمدلة

- ‌عجز الحريري عن إنشاء ما طلب منه

- ‌في الديوان

- ‌ثقافة الكاتب

- ‌هل تضر مخالفة النحو في معنى

- ‌هل يقدح اللحن في حسن الكلام

- ‌حول لون البقرة في الآية صفراء فاقع لونها

- ‌التأدب في الحديث عن العظماء

- ‌إنكار التلقب بالناصر على السلطان صلاح الدين

- ‌رسالة ابن زيادة البغدادي

- ‌البلاغة والفصاحة

- ‌تحديد معنى البلاغة والفصاحة

- ‌أقسام علم البيان

- ‌الاستعارة والكناية

- ‌تعليلات النحاة

- ‌ما يشترك فيه الكاتب والشاعر

- ‌كيف يستفيد الكاتب المنشىء

- ‌من التراث الأدبي

- ‌الصفدي ينتقد ابن الأثير في بعض من إنشائه

- ‌ادعاء ابن الأثير الإبداع في رسالة له

- ‌في ذم الشيب

- ‌مناقشة مثال لابن الأثير

- ‌مناقشة مثال آخر لابن الأثير

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها

- ‌مناسبة اللفظ للمعنى

- ‌اللفظ والتركيب

- ‌هل سورة النجم مسجوعة على حرف الياء

- ‌مناسبة اللفظ للمعنى

- ‌ونماذج من خطب ابن نباته

- ‌الموضوعات والألفاظ

- ‌مناسبة اللفظ للسجع

- ‌مناقشة حول معنى أخطا فيه ابن الأثير

- ‌في إنشائه

- ‌عودة إلى الإبتداء بالحمد

- ‌أقسام التصريع

- ‌كلامه على التجنيس

- ‌التجنيس المعكوس

- ‌التجنيس المجنب

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌مناقشة حول معنى أخطأ ابن الأثير فيه

- ‌في إنشائه

- ‌لفظة خود متى تكون حسنة أو قبيحة

- ‌هل كلمة الإمة بالكسر فصيحة

- ‌حول المعاظلة اللفظية

- ‌من أنواع المعاظلة

- ‌رد التعصب

- ‌حول وصل همزة القطع وقطع همزة الوصل

- ‌هل صح اطلاع بعض الشعراء والكتاب

- ‌على حكم اليونان وعلومهم

- ‌شاهد الحال ودوره في استخراج المعاني

- ‌فضل المتنبي في لاميته في خيمة سيف الدولة

- ‌هل أبدع أبو نواس في أبياته

- ‌هل يمكن إبداع معنى من معنى غير مبتدع

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها التقدم

- ‌الحسن في أبيات ابن بقي

- ‌أحسن ما قيل في الخمر وكأسها

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها السمو

- ‌نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌في ذم الشيب يدعي فيه الإبداع

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌نموذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيه الإبداع

- ‌مناقشة رسالة لابن الأثير من عاشق إلى معشوق

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌رسالة لابن الأثير في وصف قسي البندق وحامليها

- ‌هل من شرط بلاغة التشبيه

- ‌أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم

- ‌مناقشة حول التشبيه في أبيات أحد الشعراء

- ‌مناقشة نماذج من التشبه من إنشاء ابن الأثير

- ‌براعة التشبيه في بيت للبحتري

- ‌مناقشة نموذج آخر من إنشاء ابن الأثير

- ‌الالتفات في بعض الآيات

- ‌اقحام النحو

- ‌حول توكيد الضميرين

- ‌ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره

- ‌ حول ورود أن بعد لما

- ‌وأثرها في الدلالة على تراخي الزمن

- ‌حول الكناية

- ‌حول المغالطات المعنوية

- ‌الأحاجي والمغالطات في مقامات الحريري

- ‌الفرق بين الإلغاز والوصف

- ‌أمثلة من وصف السفن

- ‌مناقشة الصفدي لابن الأثير

- ‌في تعليقه على لغز في حمام

- ‌من أقوالهم في الحمام

- ‌أمثلة على الألغاز الحسان

- ‌ومناقشة‌‌ الفرق بين اللغز والتعريض

- ‌ الفرق بين اللغز والتعريض

- ‌المبادىء والافتتاحات

- ‌من المحاسن افتتاح الكتاب بآية أو حديث أو بيت شعر

- ‌في التخلص والاقتضاب

- ‌التخلص في القرآن الكريم

- ‌حول أمثلة من ذلك أوردها ابن الأثير من القرآن الكريم

- ‌نماذج من التخلص في إنشاء ابن الأثير

- ‌التناسب بين المعاني ومناقشة أمثلة من ذلك

- ‌مناقشة ابن الأثير في الاقتصاد والتفريط والإفراط

- ‌المفاضلة بين التسميتين الإرصاد والتوشيح

- ‌حول السرقات الشعرية

- ‌الاقتصاد في اللفظ

- ‌بين النثر والنظم

الفصل: ‌من التراث الأدبي

أقول: هذا فيه تسامح، فإن الشاعر في كل وقت ما يفتتح قصيدته بما يدل على مقصوده. فإن من مدح يطلب الإرفاد والإعانة بمال أو مركوب أو شفاعة أو طلب ولاية، ثم صدر تلك القصيدة بغزل يصف فيه محبوبه، أو وصف هوى أو غربة أو شوق أو مسير، كيف يتأتى له ذلك؟. نعم إذا كان مدحا مجردا بلا غزل لاق به ذلك، وأكثر ما يكون المدح مجردا من الغزل إذا كان في واقعة تجددت للمدوح فيهنئه الشاعر إما بولاية منصب أو بظفره بعدو أو بمولود أو بسلامة من حادثة أصابته أو هناء بعافية أو بتشيف أو غير ذلك من مجددات الوقائع. ولولا خوف الإطالة ذكرت الشواهد على ذلك.

وأما الكاتب فإنه إن كتب إلى من هو دونه أو مساويه أو أرفع منه، بحيث أنه تمكن مخاطبته بالدعاء، فيحتاج إلى أن يكون الدعاء مناسبا لما يتضمنه الكتاب من شوق أو وحشة أو هدية أو استهداء أو شفاعة أو سؤال أمر أو شكر أو هناء أو عزاء أو ما هو بحسب الحال. وهذا النوع إنما حافظ عليه المتأخرون من الكتاب خصوصا في التقاليد والتواقيع فإنهم راعوا ذلك. ولولا خوف الإطالة لأوردت من ذلك جملة كافية.

على أن هذا لا يحتاج أهل هذا العصر إلى التنبيه عليه، لأنه هذا الأمر قد اشتهر بين كتابه.. وقد بقي هو الغاية المطلوبة من الكاتب. حتى إنه ليقال: افتتح تقليده أو توقيعه أو كتابه بكيت وكيت. ويذكر اسم صاحب التقليد في أول السجعة، أو ينبه على معنى ما اشتمل عليه الكتاب. فمنهم السابق ومنهم المقصر. وقد يتفق في غالب الأوقات اسم المكتوب له والوظيفة، فينبه الكاتب على المعنى. ألا ترى ما أحسن قول.... وقد كتب تقليدا بولاية العهد للسلطان الملك الأشرف صلاح الدين فقال: الحمد لله الذي جعل الملك الأشرف صلاح الدين. فما استعار له شيئاً. واتفق لي مثل هذا في توقيع كتبته لقاضي القضاة الحنفية عماد الدين علي بتدريس المدرسة القايمازية فقلت: الحمد لله الذي جعل عماد الدين عليا فما استعرت له شيئاً. وهذا كثير الاتفاق.

وقول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وقد كتب تقليدا بولاية العهد للسلطان الملك الصالح علاء الدين علي عن والده السلطان الملك المنصور فقال: الحمد لله الذي شرف سرير الملك بعليه، وحاطه منه بوصيه، وعضد منصوره بولاية عهد مهدية وقول القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في تقليد كتبه لركن الدين بيبرس المظفر، عندما تملك عن مولانا أمير المؤمنين أبي الربيع سليمان أدام الله أيامه فافتتحه بأن قال: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم.

وكتب فخر الدين بن لقمان عن الملك السعيد بن الملك الظاهر رحمهما الله تعالى تقليدا بوزارة برهان الدين السنجاري، افتتحه بقوله تعالى:" يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ". وفي هذه اللمعة كفاية. ولكن قد ظهر أولا أن الشاعر لا يلزمه الكاتب من مراعاة المطالع.

‌كيف يستفيد الكاتب المنشىء

‌من التراث الأدبي

وقال في الفصل العاشر في الطريق إلى تعلم الكتابة: الثاني أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجده لنفسه من زيادة حسنة: إما في تحسين ألفاظ أو تحسين معان ثم قال: إلا أن هذه الطريق مستوعرة جدا، ولا يستطيعها إلا من رزقه الله لسانا هجاما وخاطرا رقاما، وقد سهلت لي صعابها وذللت فجاجها، وكنت أشح بإظهار ذلك لما عانيت في نيله من العناء.

أقول: وقد سلك هو طريقا والقاضي الفاضل طريقاً:

عاجوا إلى تلفي وعجت إلى الرضى

شتان بين طريقهم وطريقي

فإن القاضي رحمه الله، أذهل لما أسهل، وابن الأثير سامحه الله أحزن لما أحزن، على أن ابن الأثير أكثر ما جاء به في طريقه: حل المنظوم، وتضمين الأمثال. وليس هو بأبي هذه العذرة، ولا ناظم تلك الشذرة. وأين كلامه من كلام الوزير أبي الوليد ابن زيدون: ومن وقف على ترسله، على حسن توصله إلى هذا الفن ولطف توسله. لا سيما رسالته التي كتبها على لسان ولادة بنت المستكفي إلى الوزير أبي عامر ابن عبدوس، والرسالة التي كتبها إلى ابن جهور يستعطفه بها. فإنه أتى في هاتين الرسالتين بالغرائب والعجائب، وضمنهما من الأمثال والوقائع وحل الأبيات ما زاد، وضوع نده في كل ناد، لأنه حشر فيهما فنادى، ونظم لآلىء ذلك توأما وفرادى فجاءت كل رسالة.

يحرك أعطاف المعالي سماعها

وتبعث أطراب النهى وتهيّج

ص: 15

وهناك يعلم قدر هذا الرجل في إطلاعه، وبسط ظله وغاية ارتفاعه. حتى قيل: إن نثره أشبه منه بالمنظوم.

وقد نثر ابن خلف الحماسة وزاد عليها في مجلدة وسمها بالمنثور البهائي وادعى فيه أنه هو الذي ابتدع حل المنظوم، كما أن الخليل بن أحمد اخترع العروض.

وأما ابن الأثير، فإنه أكثر من الحل، وأتى فيه بما حرم وما حل، وزاد من رقمه في بروده، وبالغ من نظمه في عقوده.

والخد بهجته بخالٍ واحد

وتقلّ فيه بكثرة الخيلان

وأتى فيه بالسمين والغث، وما جاء فيه بجديد إلا وقرنه بالرث. وحل المنظوم إنما هو نوع واحد، وقسم لو فقد ما كان عليه واجد، وما لم تمكن فيه خفة تروجه، وحلاوة تقرنه بالسمع وتزوجه، لم يعلق بالسمع قرطه، ولم يجاز بالقبول شرطه. وما أمثله إلا بعقد نثرت حباته، وروض صوحت زهراته. فأي حسن لقريض خانه وزنه، وأي نضارة لروض جفاه مزنه. اللهم إلا أن يكون المنشىء سليم الفطرة، قويم الفكرة، يستدرك على الناظم ما فاته، ويرهف صارمه ويثقف قناته، إما باحتراز ما لم يحد عنه، أو الإتيان بملائم لم يتمكن لضيق الوزن منه، أو باختصار ما يقوم المعنى بدونه، أو بزيادة زهر غصونه، أو بجودة سبكه، أو بإتقان حبكه. وهنا تظهر القدرة المتمكنة، وتكون أدلة الفصاحة بينه.

فليس لوصل من يدعى فيأتي

عذوبة وصل من يدعى فيأبى

وأما القاضي الفاضل رحمه الله، فإنه سلك طريقا غريبة، وأظهر فنونا عجيبة، زعم بعضهم أنه كان جل اعتماده على حفظ كلام ابن أبي الشخباء، وأنه كان يستحضر أكثر كلامه، وبعضهم زعم أنه اعتمد على كلام ابن أبي الخصال، وبعضهم زعم أنه اعتمد على كلام البديع وهيهات، ليس في كلام واحد منهم تلك النشوة، ولا لمتكلم غيره تلك الخطوة في نيل الحظوة، ولا لمترسل حسنه الذي شق قلوب الرجال إن لم يقطع أيدي النسوة. بينما هو يخاطبك بالكلام، إذا به قد عاطاك كؤوس المدام، وبينا هو يناوح مهبك، إذا به قد سحر لبك، وبينا هو يتكلم مثل الناس على العادة، إذا به قد سرد الكواكب الوقادة، وبينا هو قد ألفتك ظهره، إذا به قد أدار لك المحيا، وبينا هو يسايرك في الثرى، إذا به قد تبختر عند الثريا.

فإن كان من درٍ فما الدرّ هكذا

وإن كان سحرا إن ذا لعجيب

وها أنا أورد هنا من كلامه نبذة تكون لباقيه عنوانا، وفلذة تكون بينه وبين غيره ميزانا، من ذلك كتاب كتبه في وصف كتاب كتبه موفق الدين خالد بن مهذب الدين القيسراني بذهب وهو: وقف الخادم على ما دبجته أنامل الحضرة التي إذا صاب سحابها روض لساعته، وإذا عدمت حقيقة السحر فهي التي نفثها بيانه في روع يراعته، فانتقل من الاستحسان إلى التسبيح لأن حروفه شذور السبح، وخلص التفضيل من الترجيح بأول ما صافح الطرف من الطرف واللمح من الملح. فتناول منها جنة قد زخرفت بنار، وليلة قد وشحت بنهار، وروضة قد سقيت بأنها عقار، وغصون أقلام قد فتحت بنوار نضار، وعارض ذهب قد أذيب يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. فتعالى من ألان لداود عليه السلام الحديد ولها الذهب، وأيقظ به جد هذه الصناعة بعد أن نام بين الأنام فهب، وأعلم الناس أن القلم في يد ابن البواب للضرب لا للطرب، وأن قيمة لك منها ومنه ما به في هذه الصناعة كتب، وحلاها بتمام البدور وأعطاه ما أعطى أباه هلالاً من المحاق، وأخر زمانها وقدم زمانه ورزقها السبق وحرمه اللحاق.

ص: 16

فمن ألفات ألفت الهمزات غصونها حمائم، ومن لام ألفات بعدها يحسدها المحب على عناق قدودها النواعم، ومن صادات نقعت غلل العيون الصوادي والقلوب الحوائم، ومن واوات ذكرت بما في جنة الأصداغ من العطفات، ومن ميمات دنت الأفواه من ثغورها لتنال جنى الرشفات، ومن سينات كأنها التأشير في تلك الثغور، ومن دالات دالات على الطاعة لكاتبها بانحناء الظهور، ومن جيمات كالمناسر تصيد القلوب التي تخفق لروعات الاستحسان كالطيور، وفها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وخالد فيها خالد، وتحيته فيها المحامد، ويده تضرب في ذهب ذائب والخلق تضرب في حديد بارد. فهي اليد التي تنظم تيجان الملوك بدرها، وتظهر آية الكرم على قراطيسها بما تظهره من تبرها. وما كنت قبل يدها أحسب أن سحابا تمطر نضارا، ولا أن ماء يستمد نارا، ولا أن أقلامها سيوف قد سفكت دم المال فأجرته أنهارا، ولا قبل لحظها أن الشفق لا يشفق من طلوع الفجر، ولا أن لون الوصل ينفض على لون الهجر، ولا أن الليل يتشبث بعطف البرق فلا يريم، ولا أن ذهب الأصيل يجري به سواد الليل البهيم، ولا أن يدا كريمة تدعي من آيات قلمها ومعجزات كرمها أن الجلمود بها يفارق الجمود، وأن البراعة تسير فرقدها على الظما فيشافه منهل النضارة المورود، وما كانت خطوط الفضلاء إلا تجربة بين يدي تحريرها الآن، ولا أقلامها إلا حطبا أوقدته على الذهب فذاب لها ولان، ولا يحسب الخط إلا يحسب بيدها فغيرت له أثواب الحداد وجلت عرائس حروفه مضمخة الأجساد بالجساد، وأطلعت إنسان عين الإحسان بدليل كونه لم يلمح إلا في سواد، وسجد له والسجود فرضه لأنه دون التيجان، وقبله والتقبيل حقه لأن الجنان يحاور منه حور الجنان، وكيف لا يفضل جوهرها بأن يفصل، وتقابل حروفها بأن تقبل، وقد كتب الناس باليد وكتب بالعين، وحصل الناس من هذه الصناعة بعد حرب حنين على خفي حنين، وفازت بما أظهرت من نروتها للنظار من النضار، وصحت لها الكيمياء، لأنه كتب بشطر دينار سطرا بألف دينار، وأن له في نهارها بل في أنهارها سبحا طويلا، وأنها على خفة وزنها وقلة أسطرها لتكلف من الشكر عبئا ثقيلا، وكيف لا يخف ميزان الثناء على أنهار حجته بذائب ذهب، وكيف يضل وفد الشكر وقد هدته بذوائب لهب، وقد نشره وطواه حتى كاد أن يخلفه، وأسام فيه ناظر لا يسأمه، فكان آخر ما تأمله أول ما رمقه، ومأسى لافتنائه يعبد مذهبه على حرف أو على ورقه، وورده إذ يقسى ورده فازداد عطشاً على كثرة العل والنهل، وأعشاه إذ أغشاه وكثرة النور تعشى ناظر المقل.

ومن ذلك ما وصف به الخيام من جملة كتاب وهو: أما الخيام فقد بليت وصارت أمشاجا، ورقت فخالطت كأس الغمام مزاجا، ولقيت معنا الشدة وكانت شدتنا أن رأينا بها انفراجا. ففيها من السماء رقاع، وكأنما أخذها في شق الثياب سماع، وإذا هبت الرياح فهي بتقدمها وتأخرها في نزع حثيث، ونزغ من الشيطان خبيث، طلقتنا وهي بعد في حبالنا، وطعنت وهي بعد في عقالنا، إن أرسلت الريح آية ظلت أعناقها لها خاضعة، وإن قعدنا فيها فعلى قارعة الطريق وهي قاعدة على طريق القارعة، وإن وقعت ليلا فما لوقعتها الخافضة رافعة. بها للدهر جراح الإبر لا تقطبها، ومنها على الدهر أطلال تصدقها العين تارة وتكذبها، وقد فرجت سماؤها وانشقت، وأذنت لربها وحقت. لم يبق في أديمها بشرة تعاتب، ولا في صبرها مسكة تجاذب. كأنها وأخواتها إذا هبت الرياح المجرمون رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، بحيث ترى حماها نافضا، والعارض قد دخل عليها على الحقيقة عارضاً، فعمدها الأغصان هزها البارح، وشرائطها الشرار أطاره القادح، وأما إذا نشأت السحائب فسلت سيوف برقها، وسلسلت سيول ودقها، فإنها أمام تلك السيوف جرحى، ووراء تلك السيول طرحى. تود ما ود ابن نوح يوم لا عاصم، وتراها كبط الماء ونحن بين غريق وعائم. نضربها في كل يوم فوق الحد، ونأخذها في المصيف بحرب حر في الشتاء ببرد برد.

ص: 17

ومن ذلك كتاب أصدره من بعرين، وهو: المستقر ببعرين، حيث أخرجت السماء أثقالها وفتحت من عزاليها أقفالها، وركضت خيل الرعود لابسة من الغيم جلالها، وثوب الليل بماء الغمام غسيل، وشبح الظلام بسيف البرق قتيل، وغراب الأفق في الجو باز، إلا أنه في قوس قزح ناز، وكأن عقارب الظلماء بالثلج أفاع، فليكن ليل قرينتها ليل السليم، وكأن مواقع الرعد قعاقع حلي الغواني فهو لا ينام ولا ينيم، وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا، وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قد قال آتوني أفرغ عليه قطرا، وقد ابتل جناح الليل المغدف فما يطير، وأبطا حمام الصبح خلاف ما نحاه في رسالة نوح فما يسير، والرياح وقد أعصفت فقصفت عيدان نجد ورتمها، وخيولها قد ركضها السحاب فكان البرق تحجيلها ورثمها.

فأما الخيام التي قد نضجت جلودها بإيقاد الشمس واسودت، ثم نضحت بدموع الغمام فتراخت أجفانها بعدما اشتدت. فما هي إلا أعين سال منها بالدموع كحلها، وخيول دهم حل عنها بالرياح من الأطناب شكلها، ولا يزال الخصام بينها وبين الأهوية إلى أن تشق الثياب من حربها كما شقها السحاب من طربها، ونحن ندأب في عقد ظنبها، لندخل في عقد حسبها. وهيهات سلبت في البيكار أشباحها، وخرجت بالرياح أرواحها. فالشمس إن طلعت ألقى الشرق جامات تقر على العيان، لا دنانير أبي الطيب التي تفر من البنان. وما لاذت بجانبها الرياح، وأبت على الأطناب من إرسالها في عنان الجماح، إلا أشبهت قطاة غرها شرك وقد علق الجناح، وقذاة هزها درك وقد أبت البراح.

وقد زادت السيول إلى أن صارت هذه الخيام عليها فواقع، وهمهم الرعد قاريا فاستقلت قيامها بين ساجد وراكع. وأنا فيها كعثمان في داره، والخطب قد أخذ في حصاره. فلا يزال نبل الوبل مغرقا، ولا أزال على نفسي من السيل مخندقا. وقد رجعنا إلى النشأة الأولى فعدنا في هذا الماء علقا. ولا كفران لله فإني ملقى على طرق الطوارق، ملقا ما شاب العيش من فراق يشوب بالشيب المفارق. وما كنت أخشى أن ينقلني الدهر من درجة مجانيه المقتطفة، إلى مدرجة مجاريه المجتحفه، ولن يرى أعجب مني ممحلا وأنا أشكو الغدران الغادرة، ومجدبا أتظلم من ظلمات الليالي الماطرة. وقبح الله بعرين، وإن استجن أسد الإسلام منها بعرين، وأنا بريء منها بعدد رمل يبرين.

ومن ذلك: وتلك الجهة وإن كانت غريبة، فإن الغرب مستودع الأنوار، وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار.

ومن ذلك: وبالجملة، إن كانت البلاغة دينا فقد ألحد من لا يوحده وإن كانت سيفا فقد تعرض للحد من لا يقلده، وإن كانت فراشا فقد نفي عن ظهر البلاغة مالا يلده.

ومن ذلك: فلو ملكتم الدهر لامتطيتم لياليه أداهم، وتقلدتم أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وبدوره دنانير ودراهم، وأيامكم أعراس وكأنه ما تم على الأموال فيها مآتم، والجود في أيديكم خاتم ونفس حاتم في نقش ذلك الخاتم.

ومن ذلك: فروح الله تلك الروح، وفتح لها أبواب الجنة فهي آخر ما كانت ترجوه من الفتوح.

ومن ذلك في شرك صنيعه: والله إن صنيعته كالشمس وضوحا لا أجحدها، ولو جاز أن تعبد الشمس في دين الله لكنت أعبدها، فإنها شمس ما ألقت يدا في كافر، ولا وضعت يدا إلا في شاكر.

ومن ذلك: ولو بلغ القول مني إلى السمع لما بلغ إلى القلب، ولو رأيت سيفه خضيبا من مقره في صدري لما استشعرت الحرب، ولو صمم على الضرب لحركته حتى يصير من الضرب لا من الضرب.

ومن ذلك: والقلوب طيبة، والغيوث صيبة، وقد صار على عطف كل زرع منها جبيرة تتبرج وعلى أذن كل قرط منها لؤلؤة تترجرج.

ومن ذلك: فلا عدمت تلك الأنفاس من النفائس، وتلك العقائل العرائس، وتلك الجواهر التي تسرني أن تفضح عرضي، وتلك السهام التي هي والله غرضي.

ومن ذلك: ووثقنا بنجح الطلب، وأمسكنا بقرون حماة فحصلنا على حلب حلب.

ومن ذلك في ذكر النيل يتدافع تياره دافعا في صدر الجدب بيد الخصب، وترضع أمهات خلجه حتى أبناؤها بالعصف والأب.

ومن ذلك: والمهامه قد نشرت ما ملأها من ملاء السراب وزخر فيها ما ولد لغير رشده على فراش السحاب.

ومن ذلك: وإن يصفح عنه الصفح الجميل المألوف من هذا البيت، فبصفحهم أمضى الله حدهم، وبعفوهم أنجح الله جهدهم، وباتباعهم لأبيهم رحمه الله عليه أعلى الله سبحانه جدهم.

ص: 18