المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها - نصرة الثائر على المثل السائر

[الصفدي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌عفوك اللهم

- ‌الابتداء بالحمدلة

- ‌عجز الحريري عن إنشاء ما طلب منه

- ‌في الديوان

- ‌ثقافة الكاتب

- ‌هل تضر مخالفة النحو في معنى

- ‌هل يقدح اللحن في حسن الكلام

- ‌حول لون البقرة في الآية صفراء فاقع لونها

- ‌التأدب في الحديث عن العظماء

- ‌إنكار التلقب بالناصر على السلطان صلاح الدين

- ‌رسالة ابن زيادة البغدادي

- ‌البلاغة والفصاحة

- ‌تحديد معنى البلاغة والفصاحة

- ‌أقسام علم البيان

- ‌الاستعارة والكناية

- ‌تعليلات النحاة

- ‌ما يشترك فيه الكاتب والشاعر

- ‌كيف يستفيد الكاتب المنشىء

- ‌من التراث الأدبي

- ‌الصفدي ينتقد ابن الأثير في بعض من إنشائه

- ‌ادعاء ابن الأثير الإبداع في رسالة له

- ‌في ذم الشيب

- ‌مناقشة مثال لابن الأثير

- ‌مناقشة مثال آخر لابن الأثير

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها

- ‌مناسبة اللفظ للمعنى

- ‌اللفظ والتركيب

- ‌هل سورة النجم مسجوعة على حرف الياء

- ‌مناسبة اللفظ للمعنى

- ‌ونماذج من خطب ابن نباته

- ‌الموضوعات والألفاظ

- ‌مناسبة اللفظ للسجع

- ‌مناقشة حول معنى أخطا فيه ابن الأثير

- ‌في إنشائه

- ‌عودة إلى الإبتداء بالحمد

- ‌أقسام التصريع

- ‌كلامه على التجنيس

- ‌التجنيس المعكوس

- ‌التجنيس المجنب

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌مناقشة حول معنى أخطأ ابن الأثير فيه

- ‌في إنشائه

- ‌لفظة خود متى تكون حسنة أو قبيحة

- ‌هل كلمة الإمة بالكسر فصيحة

- ‌حول المعاظلة اللفظية

- ‌من أنواع المعاظلة

- ‌رد التعصب

- ‌حول وصل همزة القطع وقطع همزة الوصل

- ‌هل صح اطلاع بعض الشعراء والكتاب

- ‌على حكم اليونان وعلومهم

- ‌شاهد الحال ودوره في استخراج المعاني

- ‌فضل المتنبي في لاميته في خيمة سيف الدولة

- ‌هل أبدع أبو نواس في أبياته

- ‌هل يمكن إبداع معنى من معنى غير مبتدع

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها التقدم

- ‌الحسن في أبيات ابن بقي

- ‌أحسن ما قيل في الخمر وكأسها

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها السمو

- ‌نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌في ذم الشيب يدعي فيه الإبداع

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌نموذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيه الإبداع

- ‌مناقشة رسالة لابن الأثير من عاشق إلى معشوق

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌رسالة لابن الأثير في وصف قسي البندق وحامليها

- ‌هل من شرط بلاغة التشبيه

- ‌أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم

- ‌مناقشة حول التشبيه في أبيات أحد الشعراء

- ‌مناقشة نماذج من التشبه من إنشاء ابن الأثير

- ‌براعة التشبيه في بيت للبحتري

- ‌مناقشة نموذج آخر من إنشاء ابن الأثير

- ‌الالتفات في بعض الآيات

- ‌اقحام النحو

- ‌حول توكيد الضميرين

- ‌ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره

- ‌ حول ورود أن بعد لما

- ‌وأثرها في الدلالة على تراخي الزمن

- ‌حول الكناية

- ‌حول المغالطات المعنوية

- ‌الأحاجي والمغالطات في مقامات الحريري

- ‌الفرق بين الإلغاز والوصف

- ‌أمثلة من وصف السفن

- ‌مناقشة الصفدي لابن الأثير

- ‌في تعليقه على لغز في حمام

- ‌من أقوالهم في الحمام

- ‌أمثلة على الألغاز الحسان

- ‌ومناقشة‌‌ الفرق بين اللغز والتعريض

- ‌ الفرق بين اللغز والتعريض

- ‌المبادىء والافتتاحات

- ‌من المحاسن افتتاح الكتاب بآية أو حديث أو بيت شعر

- ‌في التخلص والاقتضاب

- ‌التخلص في القرآن الكريم

- ‌حول أمثلة من ذلك أوردها ابن الأثير من القرآن الكريم

- ‌نماذج من التخلص في إنشاء ابن الأثير

- ‌التناسب بين المعاني ومناقشة أمثلة من ذلك

- ‌مناقشة ابن الأثير في الاقتصاد والتفريط والإفراط

- ‌المفاضلة بين التسميتين الإرصاد والتوشيح

- ‌حول السرقات الشعرية

- ‌الاقتصاد في اللفظ

- ‌بين النثر والنظم

الفصل: ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها

لم أورده اختيارا له، وإنما مثلت به ليعلم توكيد المنفصل بالمنفصل. وإلا فالبيت ليس بالمرضي لأن سبكه سبك عار من الحسن.

أقول: فليت شعري أي طلاوة على قوله هو: أما أبو تمام فإنه خاطب نفسه كالمنكر ما كان منه في شغفه بتلك الديار التي وقف عليها بعد سلوه وتقضي أوطاره. وحق له أن يقول: لا أنت ذاك الذي كنت أولا، ولا هذه الديار تلك التي كانت أولا. يعني كأن نفسه أصبحت غير تلك والديار بدلت بصفة أخرى.

وما أحسن قول الحظيري الوراق:

تركتك فامض إلى من تحبّ

ففعلك برّد نار الجوى

وقبّحك الغدر في ناظريّ

وغودر عود الهوى قد ذوى

وصرت أراك بعين السلوّ

وكنت أراك بعين الهوى

ومن المعلوم أن العين ما تغيرت في ذاتها، ولا كانت ثم عين وبدلت غيرها. إنما السلو أوجب أن يريه بعين القبح، والحب أوجب أن يريه بعين الحسن.

ومن هذا قول....

وعين الرضى عن كل عيبٍ كليلةٌ

كما أن عين السّخط تبدي المساويا

وهذا دائر على ألسنة الناس. يقولون في من يتغير عليهم منه صفة من الصفات: كأنه راح وجاء غيره. وهذا من أبي تمام في غاية الحسن في بابه.

وأما قول أبي الطيب، فتحته من المعنى ما يكسوه حسنا فائقا، لأن هذا من أمدح ما يكون للقبيلة التي ذكرها، لأنه قال: قبيلة أنت منهم، وأنت أنت، معناه: فيا لها من قبيلة لأنها أنت منهم وأنت ذاك العظيم. فأخر المعطوف عليه عن المعطوف كقوله:

...

... عليك ورحمة الله السلام.

وقدرة الشيخ تاج الدين الكندي تقديرا آخر، وهذا أحسن مع الضرورة التي فيه وكأن ابن الأثير رحمه الله، لمح معنى الأبيات التي وردت لبعض شعراء الذخيرة لابن بسام وهي:

أصبحت رمةً تزايل عنها

فصلها الجوهريّ والعرضيّ

وتلاشى كيانها الحيواني

وأودى بيانها المنطقيّ

وقوى عقله الثلاث تلاشت

إن ذا كله لأمرٌ خفيّ

والحواس الخمس التي كنّ فيه

ولإدراكهنّ فعلٌ وحيّ

ذهبت تلكم الصفات جميعاً

ومحالٌ أن يذهب الأزلي

فأراد أن يأتي بهذا المعنى فأفسده، وهدم ما جاء به هذا الشاعر وشيده. وبعض الناس يدعي أن هذه الأبيات للرئيس أبي علي بن سينا، وابن بسام أثبتها في الذخيرة لبعض المغاربة. ولكن قصيدة الرئيس في النفس التي أولها:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تّعزّزٍ وتمنع

في غاية الحسن، وما لأحد مثلها في بابها، وشهرتها تمنع من سردها. وقد اعتنى بها الفضلاء وخمسوها وشرحوها.

وما أحسن قوله وقد ذكرها عند الموت:

وكأنها برقٌ تألّق بالحمى

ثم انطوى فكأنه لم يلمع

‌نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها

قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف كلام بالفصاحة، وهو فصل من كتاب فقلت: وله البيان الذي يفض من نسق الفريد ولا تخلق نضرة لباسه الجديد، وهو فوق الكلام المجيد، ودون القرآن المجيد.

أقول: ما رأينا من مدح كلاما ولا قرظه بمثل هذا. وفي أفانين المديح وضروب الثناء عن ذلك مندوحة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم. ومع هذا فما سمعت أحدا مدح آخر فقال له: أنت دون النبي عليه السلام. لأن لفظة دون وأقل وتحت ما تستعمل في جانب الممدوح. وكلام الله تعالى قد تقرر وثبت أنه ليس في قدرة البشر أن يأتوا بسورة منه، فكل كلام دونه.

فقوله: كلام دون القرآن المجيد لا معنى تحته لأنه من باب تحصيل الحاصل. ومثل هذا عند الشيخ جمال الدين بن مالك ومن تابعه، لا يطلق عليه كلاما لأنه ما أفاد فائدة تامة لم تكن عند المخاطب كقولك: السماء فوق الأرض لأنه معلوم عند كل أحد. فإن قلت: أراد بذلك الأدب. قلت ما ضاق المجال عليه، ولا حصره ضيق المقام إلى هذا حتى يحتاج أن يأتي بما يحترز فيه. وما أوقعه في ذلك إلا لفظة المجيد والمجيد وطلب الجناس.

قال: وإذا اختصروا صفة قال: إنه يستميل سمع الطروب، ويستخف وقار القلوب ويتمثل آيات بيضا من غير ضم إلى الجيوب، ويرى في الأرض غير لاغب إذا مس غيره فتنة اللغوب.

ص: 25

أقول: إذا كان يستميل سمع الطروب، فما في هذا كبير مدح، وذلك أن صيغة فعول مبالغة فيمن يطرب. ولا يقال طروب إلا لمن يميل لأدنى لذة، ويتحرك لأقل نعمة. مثل: أكول وشروب لكثير الأكل والشرب لما يمر به. وإذا كان الذي يميل إلى الطرب ويتكرر ذلك منه، يطرب لهذا الكلام فما في هذا مزية توجب مدحه، ولهذا قيل: المستعد للشيء يكفيه أدنى سبب، وإنما المدح أن يقال: يستميل من لا يرتاح للطرب. كما قال في الثانية: ويستخف وقار القلوب. فإن هذا هو المعهود في المدح. فإن قلت: هذا يرد على البحتري في قوله:

مستميلٌ سمع الطروب المعنّى

عن أغانيّ معبدٍ وعقيد

قلت: هذا مما يؤيد ما قلته، لأنه قال: يستميل سمع الطروب المعنى عن سماع معبد وعقيد اللذين هما أصل الغناء. وإذا كان يلفت من هو بهذه الصفة عن لذته إلى سماعه، كان ذلك مدحا فهو من باب يستخف الحليم ويصبي الناسك. وما خلص هذا للبحتري إلا بقوله: عن أغاني معبد. ولو قال ابن الأثير: يستميل الطروب عن أغانيه بفصاحته، لما أوردت عليه هذا الإيراد. وهذا الذي قلته هو المعهود في المدح.

ألا ترى قول النابغة الذبياني:

لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ

عبد الإله صرورة متعبد

لرنا لبهجتها وحسن حديثها

ولخاله رشدا وإن لم يرشد

وقول امرىء القيس:

إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً

إذا ما اسبكرّت بين درع ومجول

وما أحسن قول كشاجم في عوادة، من أبيات:

دارت ملاويه فيه فاختلفت

مثل اختلاف اليدين شبّكتا

لو حرّكته وراء منهزمٍ

على بريدٍ لعاج والتفتا

وقلت أنا:

جسّت مثاني عودها بأناملٍ

عبثت بلبّ الخاشع المتورع

وشدت فلو شاءت عذوبة لفظها

عطفت عنان البارق المتسرع

وعجبت من ريح الصّبا إذ لم تقف

طربا ولكن ما لها أذن تعي

وأما قوله: ويرى في الأرض غير لاغب، ما سمعت بمن مدح الكلام الفصيح بمثل هذا، والكلام لا يوصف بإعياء ولا لغوب. ولكن هذا من باب إضافة العقل والدين والجوارح للخمر في الفصل الذي تقدم. أتراه ما علم أن اللغوب من صفات الأجسام ولواحقها عند الحركة وإدمانها، فإن الكلام لا يتعب وإنما التعب لجارحة من تكلم به، والكتاب لا يتعب وإنما الكاتب الذي خطه.

وما أحسن قول القائل:

إذا أخذ القرطاس أودع طرسه

خميلة زهر أو قلادة جوهر

حمى كلّ فكرٍ عن عراك رويّه

وحطّ عن الأقلام ثقل التفكر

فإن كان ابن الأثير أراد الكاتب الذي صدر عنه هذا الكتاب الذي وصفه، فليس في سياق الكلام ما يدل عليه.

وقد عاب الوحيد على أبي الطيب قوله:

كلّ السيوف إذا طال الضراب بها

يمسّها غير سيف الدولة السأم

وقال: السأم لا يلحق السيوف إلا أن يكون جاء به استعارة في موضع كلال الحد قال: ولما وقفت عليه قلت: سبحان من أعطى سيدنا فلم يبخل، وخصه بنبوة البيان إلا أنه لم يرسل، ولولا أن الوحي قد سد بابه لقيل هذا كتاب منزل، ولقد خار الله لأولي الفصاحة إذ لم يحيوا إلى عصره، ولم يبلوا بداء الحسد الذي يصليهم بتوقد جمره، ولئن سلموا من ذلك فما سلمت أقوالهم من أقواله التي محتها محو المداد، وقد كانت باقية من بعده فلما أتى صارت كما صاروا إلى الألحاد.

أقول: في هذا من اساءة الأدب ما فيه، وللإنسان عن مثل هذا المدح مندوحة تخرجه من هذه المضائق.

وقوله: وخصه بنبوة البيان إلا أنه لم يرسل مأخوذ من قول أبي العلاء المعري:

لولا انقطاع الوحي بعد محمدٍ

قلنا محمد من أبيه بديل

هو مثله في الفضل إلا أنه

لم يأته برسالةٍ جبريل

وقد كفر قائل مثل هذا.

قال: وإن لكلمه طعما يعرف مذاقه من بين الكلام، وخفة الأرواح معلومة من بين ثقل الأجسام، فلو لم يعرف بطعمه عرف بوسمه، والصبح لا يتمارى في إسفاره، ولا يفتقر إلى دليل على أنواره. وقد علم أن العرق يعرف بغصنه، وأن القول يعرف بلحنه.

أقول: قوله: وإن لكلمه طعما يعرف مذاقه من بين الكلام، ما أحسن ما أجاب به ابن عميرة ابن الأبار عن كتاب بعثه إليه، فجاء من جملة الجواب:

ص: 26

فمهلا أيها الموفي على علمه النافث بسحر قلمه، أتظن منزلتك في البلاغة تخفى ومهيعها لا حب. ومنزعها بالعقول لاعب. أتسفل وقد ترفعت، أو تخفى وقد تلفعت. عرفناك يا سوده، وشهرت حلة عطارد بالملاحة والجوده.

وقوله: والصبح لا يتمارى في إسفاره، السجعتين. مأخوذ من قول أبي الطيب:

وليس يصح في الأفهام شيءٌ

إذا احتاج النهار إلى دليل

ومن قول الغزي:

فلا تبغ برهانا على مكرماته

طلابك برهانا على الصبح بارد

وقوله: وقد علم أن العرق يعرف بغصنه مأخوذ من قول أبي الطيب:

أفعاله نسب لو لم يقل معها

جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن

على أن المتنبي أخذه من البحتري حيث يقول:

لست أعتدّ للفتى نسبا

ما لم يكن في فعاله نسبه

ومن قول ابن الرومي:

كدأب عليٍ في المواطن جده

أبي حسنٍ والغصن من حيث يخرج

وقد نقلت أنا هذا المعنى إلى الغزل، فقلت في مليح رأيته في طاقة:

رأيت في طاقةٍ كالبدر فتى

فقلت من تحت هذا البانة النضره

قالوا حكمت وما أبصرت قامته

فقلت: إني عرفت الغصن بالثمره

قال: ونفائس هذه العقود لا تبرزها إلا أنفاسه، فدررها لفظه، وسلوكها قرطاسه ثم قال ومن هذا الباب قولي أيضاً وهو ألفاظ كخفق البنود وزأر الأسود، ومعان تدل بإرهافها أنها هي السيوف وأن قلوبا نمتها هي الغمود، فيخالها المتأمل حومة طعان أو حلبة رهان.

أقول: ما طبق في هذا المفصل على المفصل، فإنه شبهها بخفق البنود وزأر الأسود. فأي مدخل في هذين لحلبة الرهان فيما بعد ولم يتقدم للخيل ذكر. والتناسب أن يقول: حومة طعان، وغيل ليوث، وجلاد فرسان. ومثل هذه الأوصاف لا تكون في شيء من الكلام، إلا أن يوصف بذلك كلام فيه تهديد وتقريع أو إرهاب عدو أو ما جرى مجراه.

ألا ترى ما أحسن قول البحتري:

عتابٌ بأطراف القوافي كأنه

عتابٌ بأطراف القنا المتكسر

ولا بأس بإيراد شيء من كلام القاضي الفاضل رحمه الله في وصف المراسلات الواردة، لتعلم أيها الواقف على هذه الأوراق كيف يكون التقريظ.

فمن ذلك قوله: وصلني كتابه فوصلني منه ما وصلني، وعرفت من بلاغته ما جهلني، وشربت من بحر كلامه ما شربني وأكلني، وعلوت به قدرا على أنه عن صهوة الكلام استنزلني. فإنها بدائع، ما سر البلاغة قبلها بذائع، ووقائع خاطر صفت صفاتها فهي التي رقته وروقته الوقائع، وغرائب سهلت وجزلت فتارة أقول جرأة نبع وتارة أقول جرية نابع. قد ضمن الدر إلا أنه كما قال أبو الطيب كلم، وأحيى حي الشوق إلا أنه كما قال أبو تمام لو مات من شغله بالبين ما علم. ففديت يدها وقد مدت ظلا من الخط كاد يقصر ظلا من الحظ، ولله قلمها الذي طال وأناف فما كأنه تحيفه القط قط.

وقوله: وما أحسب الأقلام جعلت ساجدة إلا لأن طرسه محراب، ولا أنها سميت خرسا إلا قبل أن ينفث سيدنا في روعها رائع هذا الصواب، ولا أنها اضطجعت في دويها إلا ليبعثها ما ينفخ فيها من روحه في مرقدها، ولاسودت رؤوسها إلا لأنها أعلام عباسية تناولتها الحضرة بيدها، لا جرم أنها تحمي الحمى، وتسفك دما وتحقن دما وتتشح بهايده عنانا، ويرسلها فيعلم الفرسان أن في الكتاب فرسانا، ويقوم الخطباء بما كتبت فتعلم الألسنة أن في الأيدي كما في الأفواه لسانا، ولقد عجبت من هذه الأقلام تحز ألسنتها قطعا فتنطق فصيحه، وتجدع أنوفها بريا فتخرج صحيحة، وتجلى مليحه، وما هي إلا آية في يد سيدنا البيضاء موسويه، وما مادتها في الفصاحة إلا علوية ولولا الغلو لقال علويه.

وقوله: ولو ادعى سحر البيان أنه يقضي أيسر حقوقه، ويثمر ما يجب من شكر فروعه وعروقه، لكنت أفضح باطل سحره، وأذيقه وبال أمره، وأصلب الخواطر السحارة على جذوع الأقلام، وأعقد ألسنتها كما تعقد السحرة الألسن عن الكلام.

ص: 27

وقوله: كتاب كريمي من حيث نسبته إليه، كليمي من حيث نسبته إلى اليد لبيضاء من يديه، مسيحي من حيث أن أحيى موات الأنس، محمدي من حيث كاد يكون بما نفثه في روعي روح القدس، فلا عدمت مخاطبته التي تخلع على الأيام يوم العيد، وعلى الليالي ليلة العرس. فأبقاه الله للسان العربي فلولاه كان مزويا لا مرويا، مدحورا لا مدخورا، ولولاه لحالت أحرفه عن حالاتها، وأبت الفصاحة أن تكون قوائم الأحرف من آلاتها. فكانت تقعد ألفه القائمة، وتموت باؤه النائمة، ويزيد حني ظهر داله حتى يلحق بالرغام خدها ويغض، وحتى تدرد أسنان سنه فلا يبقى لها ناجذ عليه تعض.

وقوله: وقف عليه والشكر عن المنعم به غير واقف بل وقف، واستمطر منه صوب الغمام فما انقطع له ولا كف وكف، ورأى بنيان تبيان لو رأته المجارون لأتي بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف، فلله هو من بليغ إن قال فالقول عنده أكثر يوم البين من ماء الطرف، وإن رام القول غيره فهو أقل عنده يوم الحسين من ماء الطف.

وقوله في جواب كتاب للشيخ تاج الدين الكندي: وظننته وحقق الله فيه الظن وقد ارتقى الأسباب وأخذ اللفظ من القطر والقرطاس من السحاب، وآمنت بصحة رقيه، وتبينت التقاطه للنجوم حين أوردها في بارع اللفظ ونقيه، وقلت للجماعة: كلام التاج تاج الكلام، والملك في كندة وكانت أقلامها سيوفا وسيوفها الآن أقلام.

وقوله: فوقفت منه على ظرف الظرف، وتحفة الطرف، وكدت أعبده منه على حرف، وكل حرف ذلك الحرف. ولولا إشفاقي أن يفطن الدهر لمكانه من قلبي، وخوفي أن أعرفه بحسنته منه فأغريه منها برفع أوزار حربي، لقلت قولا يغض الأولين والآخرين من هذه الصناعة، وأنفذت فيهم سهاما لا تحمي شاعرا منها صخرة وجه ولا كاتبا درع دراعة. وما هي إلا آيات كل واحدة أكبر من أختها، وفكر مرزوقة في أيام الجمعة كلها إذا أتت الفكر أرزاقها يوم سبتها.

وقوله: كتب كريمة كادت ألفاظها تتبسم، ومعانيها تتكلم، وكادت حروفها تكون أناسي لعين المسار، وكادت سطورها تجلي عرائس وعليها من الشكل حلي ومن النقط نثار.

وقوله: كتاب سني المعاني سيني القوافي، وحق سينه أن يخلص لها الإقبال، والسين تصحب الفعل فتخلصه للاستقبال، وهذا أفق لامطار فيه إلا للعقاب وابنه، وبحر لا سبح فيه إلا لمن يخرج الدر من فيه ويدخل البحر في ردنه، وما عنيت ها هنا بالبحر إلا يده الكريمة فأما البحر فلم أعنه.

وقوله: كتب المجلس روح الله قلبه، وأتاح قربه، ولا برحت أقلامه سلاح أوليائه على الزمن إذا خافوا حربه، تؤنس راجيها، وتؤيس مجاريها، ويخصب بها السمع، ويتظاهر بها النفع، لولا أنها تغير علينا شيمنا فتخلق فيها الحسد، وتشد أيدينا إذا تعاطينا المجاراة بحبل من مسد.

وقوله: وسيدنا ما بعد بيانه بيان، وبين فكيه سيف وبين فكي كل إنسان لسان، فقولي يا أقلامه فقد خرست في الغمود المناصل، وتبختري يا تغلب ابنة وائل فقد أعطي من البلغاء التقدمة وهم صارغون، وأفلح المعترف بفضله وقد علم أنه لا يفلح الكافرون.

وقوله: ووقف على الميمية فأطاف به منها الطوفان، وحياة منها الروح والريحان، وهي مما أملاه ملك إن كان يملي الأشعار شيطان، وعجبت لاطراد تلك القوافي، ورأيت الشعراء أتت بما ألفت في ضيق الأودية وخاطره وقلمه أتيا بما ألقيا في الفيافي، وكل بيت منها بديوان، كما أن قائلها إنسان يفدى بألف إنسان، كما أن قلمه قصير فما جدع أنفه إلا ليأخذ ثأر القلم من السنان.

قلت: وعلى ذكر الفيافي في قول القاضي الفاضل، وما ركبه في هذه السجعة من الجناس المليح، فكنت كتبت إلى شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس أبياتا، وأجابني عنها بنظم ونثر. من جملة النثر: بل ذلك السحر الحلال الشافي، بل تلك القوى في القوافي، بل تلك المقاصد التي أقصدت المنى في المنافي.

فكتبت الجواب إليه ومنه: وعكف منه على كعبة البلاغة، فيا حسن ما نشر في استلامي وطوى في طوافي، وأراد طائر القلب أن ينهض بالجواب فذهبت القوى من القوادم، وظهر الخوى في الخوافي. رجع إلى كلام الفاضل.

ص: 28