المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره - نصرة الثائر على المثل السائر

[الصفدي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌عفوك اللهم

- ‌الابتداء بالحمدلة

- ‌عجز الحريري عن إنشاء ما طلب منه

- ‌في الديوان

- ‌ثقافة الكاتب

- ‌هل تضر مخالفة النحو في معنى

- ‌هل يقدح اللحن في حسن الكلام

- ‌حول لون البقرة في الآية صفراء فاقع لونها

- ‌التأدب في الحديث عن العظماء

- ‌إنكار التلقب بالناصر على السلطان صلاح الدين

- ‌رسالة ابن زيادة البغدادي

- ‌البلاغة والفصاحة

- ‌تحديد معنى البلاغة والفصاحة

- ‌أقسام علم البيان

- ‌الاستعارة والكناية

- ‌تعليلات النحاة

- ‌ما يشترك فيه الكاتب والشاعر

- ‌كيف يستفيد الكاتب المنشىء

- ‌من التراث الأدبي

- ‌الصفدي ينتقد ابن الأثير في بعض من إنشائه

- ‌ادعاء ابن الأثير الإبداع في رسالة له

- ‌في ذم الشيب

- ‌مناقشة مثال لابن الأثير

- ‌مناقشة مثال آخر لابن الأثير

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها

- ‌مناسبة اللفظ للمعنى

- ‌اللفظ والتركيب

- ‌هل سورة النجم مسجوعة على حرف الياء

- ‌مناسبة اللفظ للمعنى

- ‌ونماذج من خطب ابن نباته

- ‌الموضوعات والألفاظ

- ‌مناسبة اللفظ للسجع

- ‌مناقشة حول معنى أخطا فيه ابن الأثير

- ‌في إنشائه

- ‌عودة إلى الإبتداء بالحمد

- ‌أقسام التصريع

- ‌كلامه على التجنيس

- ‌التجنيس المعكوس

- ‌التجنيس المجنب

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌مناقشة حول معنى أخطأ ابن الأثير فيه

- ‌في إنشائه

- ‌لفظة خود متى تكون حسنة أو قبيحة

- ‌هل كلمة الإمة بالكسر فصيحة

- ‌حول المعاظلة اللفظية

- ‌من أنواع المعاظلة

- ‌رد التعصب

- ‌حول وصل همزة القطع وقطع همزة الوصل

- ‌هل صح اطلاع بعض الشعراء والكتاب

- ‌على حكم اليونان وعلومهم

- ‌شاهد الحال ودوره في استخراج المعاني

- ‌فضل المتنبي في لاميته في خيمة سيف الدولة

- ‌هل أبدع أبو نواس في أبياته

- ‌هل يمكن إبداع معنى من معنى غير مبتدع

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها التقدم

- ‌الحسن في أبيات ابن بقي

- ‌أحسن ما قيل في الخمر وكأسها

- ‌نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها السمو

- ‌نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌في ذم الشيب يدعي فيه الإبداع

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌نموذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيه الإبداع

- ‌مناقشة رسالة لابن الأثير من عاشق إلى معشوق

- ‌مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

- ‌رسالة لابن الأثير في وصف قسي البندق وحامليها

- ‌هل من شرط بلاغة التشبيه

- ‌أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم

- ‌مناقشة حول التشبيه في أبيات أحد الشعراء

- ‌مناقشة نماذج من التشبه من إنشاء ابن الأثير

- ‌براعة التشبيه في بيت للبحتري

- ‌مناقشة نموذج آخر من إنشاء ابن الأثير

- ‌الالتفات في بعض الآيات

- ‌اقحام النحو

- ‌حول توكيد الضميرين

- ‌ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره

- ‌ حول ورود أن بعد لما

- ‌وأثرها في الدلالة على تراخي الزمن

- ‌حول الكناية

- ‌حول المغالطات المعنوية

- ‌الأحاجي والمغالطات في مقامات الحريري

- ‌الفرق بين الإلغاز والوصف

- ‌أمثلة من وصف السفن

- ‌مناقشة الصفدي لابن الأثير

- ‌في تعليقه على لغز في حمام

- ‌من أقوالهم في الحمام

- ‌أمثلة على الألغاز الحسان

- ‌ومناقشة‌‌ الفرق بين اللغز والتعريض

- ‌ الفرق بين اللغز والتعريض

- ‌المبادىء والافتتاحات

- ‌من المحاسن افتتاح الكتاب بآية أو حديث أو بيت شعر

- ‌في التخلص والاقتضاب

- ‌التخلص في القرآن الكريم

- ‌حول أمثلة من ذلك أوردها ابن الأثير من القرآن الكريم

- ‌نماذج من التخلص في إنشاء ابن الأثير

- ‌التناسب بين المعاني ومناقشة أمثلة من ذلك

- ‌مناقشة ابن الأثير في الاقتصاد والتفريط والإفراط

- ‌المفاضلة بين التسميتين الإرصاد والتوشيح

- ‌حول السرقات الشعرية

- ‌الاقتصاد في اللفظ

- ‌بين النثر والنظم

الفصل: ‌ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره

ألا ترى أنهم أوردوا على الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في قوله: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد، الضمائر المستكنة في أفعال الأمر جميعاً وقالوا: هي كلمات ولم يلفظ بها اللسان. حتى إن الشيخ بدر الدين محمد بن مالك رحمه الله تعالى قال: الكلمة لفظ بالقوة أو الفعل فاحترز بقوله بالقوة من مثل الضمائر التي تتحملها أفعال الأمر، ولهذا فسر بعضهم اللفظ فقال: اللفظ ما يطرحه اللسان أو في حكمه حتى يخلص حد ابن الحاجب.

وإذا تقرر هذا فأقول: إن أنت في قوله تعالى: " اسكن أنت " ضمير آخر بارز غير الضمير المستكن في اسكن، وتقديره: اسكن أنت أنت وزوجك. ومع ذلك فلا يجوز أن يحذف الضمير الظاهر ها هنا لأنه لا يجوز عطف زوجك على الضمير المستتر، لضعف ما هو بالقوة بالنسبة إلى ما هو بالفعل. وهذا بخلاف قوله تعالى:" وإِمّا أن نكون نحنُ المُلقين ". فثبت أن صاحب المعاني إذا لم يعرف النحو، لم يدر ما يقوله.

ويمكن أن يجاب عنه ويعتذر له فيقال: إنه إنما يتكلم في التوكيد، وقوله تعالى:" اسكن أنتَ وزوجُك " ليس هو من باب التوكيد، إنما أتى به لأمر آخر وهو عدم الجواز في العطف على المضمر المستكن، وهذا غير التوكيد.

قلت: وعلى كل حال، فهي عبارة مدخولة غير سادة، تحتاج إلى قيد يخرج مثل هذا، وإلا ورد على قاعدته التي قررها، فإن القواعد تحتاج إلى أن تكون محكمة غير موهمة.

‌ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره

قال في النوع الثامن من استعمال العام في النفي، والخاص في الإثبات: وقد أغفل كثير من الشعراء ذلك، من جملتهم أبو الطيب حيث يقول:

يا بدر يا بحر يا غمامة يا

ليث الشرى يا حمام يا رجل

فإنه إذا فعل ذلك، كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منه، وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منه.

فأما قوله: يا بدر فإنه اسم الممدوح والابتداء به أولى، ثم يجب أن يقول بعده: يا رجل يا ليث يا غمامة يا بحر يا حمام لأن الليث أعظم من الرجل، والغمامة، أعظم من الليث والبحر أعظم من الغمامة، والحمام أعظم من البحر.

أقول: قد ناقشه ابن أبي الحديد، وقال كلاما أذكر ملخصه، وهو أن المتنبي قصد مقصدا صالحا لأنه ابتدأ بالبحر وهو دون الغمامة، لأن البحر هنا هو الذي يورد وهو مثل الغدير والنهر لا البحر الملح، فإن ذلك استقص كلي، والأنهار والغدران يتفرعا عن الغمامة، ثم انتقل فقال: يا ليث الشرى وانتقل منه إلى الحمام لأنه أعلى من الليث، لأنه لولا الحمام لم يرهب الليث. ولذكر الجود أولا قال يا بحر، ولذكر الشجاعة ثانيا قال يا ليث، وقدم الجود لأن حاجة جمهور الناس إلى الجود أكثر من حاجتهم إلى الشجاعة، انتهى، هذا ملخص كلام ابن أبي الحديد، وهو لعمري تأويل حسن، كونه عكس على ابن الأثير مقصده وجعل البيت من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، وغالب الناس طعن في البيت كما طعن ابن الأثير.

قلت: وللناس فيه تأويل آخر، وهو أنه لا يلزمه الانتقال من الأدنى إلى الأعلى فيما قصده، لأنه أراد وصفه بالمدح الذي ادعاه فيه قبل. وقال: يا بدر اسمه، ثم قال يا بحر، فإن لم أصدق فيما أقوله فيا غمامة، فإن لم أصدق فيا ليث، فإن لم أصدق فيا حمام لأنك تعدم نفوس أعدائك الحياة، فإن لم أصدق فيا رجل، جمع هذه الأوصاف التي ذكرتها، على أن هذا التأويل ليس في قوة ما ذكره ابن أبي الحديد ولا في حسنه.

وابن الأثير ادعى أن الحمام أكبر من البحر وأعلى ولم يبين وجه ذلك، والذي أقوله في ذلك: لأن الموت عبارة عن عدم الحياة، والبحر عبارة عن وجود الماء الكثير الغمر، والعدم أعم من الوجود، فهو أعلى منه بهذا الاعتبار ومقدم عليه. ومن هذا قوله تعالى:" الحمدُ لِلّه الذي خلَقَ السّمواتِ والأرضَ، وجعلَ الظُّلماتِ والنُّور ". قيل: إنه قدم الظلمات على النور، لأن الظلمة عبارة عن عدم النور، والعدم مقدم على الوجود. ولولا هذا التأويل في هذه الآية الكريمة، لكان قول المتنبي: يا بدر يا بحر البيت من هذا الباب.

ص: 71

ويشكل على من قرر أنه لا ينتقل إلا من الأدنى إلى الأعلى، وبهذه القاعدة التي قرروها تمسك من فضل الملائكة على الأنبياء وقال: إن الله تعالى انتقل من الأدنى إلى الأعلى في قوله تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لِلّه ولا الملائكةُ المُقَّربون " فإن الحكيم لا ينتقل من الأعلى إلى الأدنى، ولا يقول البليغ: لا أفكر في السلطان ولا في الوزير بل يقول: لا أفكر في الوزير ولا في السلطان.

والصحيح الذي ذهب إليه علماء السنة، أن الأنبياء أفضل من الملائكة إلا من شذ منهم مثل: القاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي.

وقوله: ومثل جدودها في عيون الأعداء شيئاً عجابا، هذا كلام فارغ كالجسد الذي لا روح فيه.

وقوله: وأراهم في اليقظة إرهابا وإرعابا، وفي المنام إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، أصل هذا المعنى لأشجع السلمي.

وعلى عدوك يا بن عم محمدٍ

رصدان: ضوء الصبح والإظلام

فإذا تنبّه رعته وإذا غفا

سلّت عليه سيوفك الأحلام

وما زان سجعته الثانية إلا تضمينه السجع الذي جاء في رؤية الموبذان ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في ذلك من كلام سطيح.

وابن الأثير احتفل لهاتين السجعتين، وأراد مماثلة القاضي الفاضل في دعاء الكتاب الذي كتبه في فتح القدس. ومنه: ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.

وأنت أيها الواقف على هذه الأوراق حكم بين هذين الخصمين، وبيدك الأمر في الفرق بين الكلامين:

فمن استحقّ الاتقاء فرقّه

ومن استحطّ فحطّه في حشه

وإن كان هواي مال بي إلى كلام الفاضل.

فلله ابن سناء الملك حيث قال:

إني رأيت البدر ثم رأيتها

ماذا عليّ إذا عشقت الأحسنا

ثم قال: وهي فتح القدس الذي تفتحت له أبواب السماء، وكثرت بأحاديث مجده كواكب الظلماء، واسترد حق الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماء.

وأي همم هذه، وما عسى أن تناله إذا لم يكن معها إلا الزاد والماء. أما كان لها مهم غير الزاد والماء، ولا لها فكرة غير ذلك؟ وهمة لا يكون همها الخيل والرجل والسلاح والدأب والسرى وركوب الأخطار، وقطع المفاوز، والصبر على السهر وأنواع المشاق، أي شيء تناله..

ثم قال: ومن أحسن ما أتى به أنه آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى.

أقول: المليح النادر في هذا، ما ورد في خطبة القاضي محيي الدين ابن الزكي رحمه الله تعالى وهو على المنبر في أول جمعة أقيمت في القدس: ومسجدكم هذا أول القبلتين، وثاني الحرمين، وثالث المسجدين

واستعمل العماد الكاتب ذلك أيضاً في كتاب كتبه إلى ديوان الخلافة بفتح القدس أيضاً، فقال وقد ذكر الصخرة: فصافحت الأيدي منها موضع القدم، وتجدد لها من البهجة والرسالة ما كان لها في القدم، فهو ثاني المسجدين بل ثالث الحرمين.

ثم قال: وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعه، وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعه.

أقول: أكذا يكتب عن مثل ملك عانى من الأهوال ما عانى، وكابد ما كابد، وبذل نفسه وولده وأهله وماله وعساكره، حتى استنقذ مثل القدس من مثل الفرنج.. وهو يريد أن يمت إلى الخليفة بهذه اليد، ويعظم الأمر ويفخمه، ويصف الشدائد التي كابدها حتى صار هذا الفتح العظيم في أيام الخليفة، وانضاف إلى ملكه ودخل في قبضته. ويقال: خدعهم بالسواد الأعظم والحرب خدعة. ليس هذا بلائق في هذا المقام.

ثم قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، ولا تحمى بعوالي الأسوار بل بعوالي الصعاد.

أقول: كان الأحسن أن لو قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، بل ببياض الرأي وكثرة السداد.

ص: 72

على أن هذا الكتاب الذي أورده ابن الأثير رحمه الله في معارضة الفاضل من أجل ما أنشاه، وأحسن ما وشاه. وإنما سبب ذلك كونه عارضه به معارضه، وأخذ محاسنه من المهلة والتأني مقارضه، فلهذا جاء منقحا وزهره مفتحا. ولو أنه أخذ درجاً، والقاضي الفاضل درجا وقعدا في مكان واحد، وأخذا في العمل على غير مثال، لبان المجلي في الحلبة من الفسكل، كما اقترح السلطان المعز على ابن رشيق وابن شرف القيرواني أن ينظما في الشعر الدقيق الذي على ساق بعض النساء ويمدحاه لكونه يستحسنه ويعيبه بعض الضراير. وقال: أريد أن يكون ذلك حجة لها على من يعيبها. فانفرد كل واحد منهما ونظما في الوقت. فكان الذي أتى به ابن شرف:

وبلقيسيّةٍ زينت بشعرٍ

يسيرٍ مثل ما يهب الشحيح

حكى زغب الخدود وكلّ خدٍّ

به زغب فمعشوقٌ مليح

فإن يك صرح بلقيس زجاجا

فمن حدق العيون لها صروح

وكان الذي أتى به ابن رشيق:

يعيبون بلقيسيةٍ إذ رأوا بها

كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا

وقد زادها التزغيب ملحا كمثل ما

يزيد خدود المرد تزغيبها ملحا

فاستحسن المعز أبيات ابن شرف وعاب قول ابن رشيق وقال: لقد أوجدت خصمها حجةً بقولك يعيبون، فإن بعض الناس عاب ذلك. وهذا نقد حسن.

وانظر إلى هذين الشاعرين كيف نطقا بلسان واحد، عن رؤية واحدة، ومعنى واحد، وقافية واحدة.

ولا بأس بإثبات شيء من كتاب القاضي الفاضل في الفتح المذكور. ولولا خوف الإطالة لأثبت الكتابين برمتهما، ولكن يؤخذان من مكانيهما.

قال القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زال مظفرا بكل جاحد، غنيا بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد سحاب الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي لسل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.

منه: ولله في إعادة شكره رضى، وللنعمة الراهنة دوام لا يقال معه هذا مضى، وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصائرها، وقد استتبت عقائد أهلها على بصائرها، وتقلص ظل الكافر المبسوط، وقد صدق الله أهل دينه فلما وقع الشرط وقع المشروط، وقد كان الإسلام غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا وقد بذلت الأنفس في ثمنه، وجاء أمر الله وأنوف الشرك راغمة، وأدلجت السيوف والآجال نائمة، وصدق الله وعده في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها جبان الجبين، واسترد المسلمون تراثا كان عنهم آبقا، فظفروا منه يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفا على النأي طارقا، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشتفي بالماء غللهم. ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه، فلله الحمد على أن أحرمت بخلع ذلك البنيان المخيط، وطهرها ما قطر من دعم الكفر وما كان ليطهرها البحر المحيط، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا بهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤس إلا لهذه النعمى، ولا يحارب من يستظلمه إلا لتكون الكلمة مجموعة وكلمة الله هي العليا، وليفوز بجواهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا. ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقةً رابحةً خاسر، ومن سما لأن يجلي غمرة غامر.

منه لما ذكر الخلفاء لا جرم أنهم ورثوا سرهم وسريرتهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطليعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم، لا عدم الإسلام سواد القلم وبياض الصحيفة.

منه: والشرق يهتدي بأنواره، بل إن بدا نور من ذاته هتف الغرب بأن واره، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف.

منه وقد ذكر الكفر: ونام سيف جفنه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى راعفة بالمنون، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المفرد الواحد وكان في زعمهم الثالث.

ص: 73

منه: وبدل الله مكان السيئة الحسنه، ونقل بيت عبادته من يد أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة.

منه: فكم أهلة سيوف تقارضها الضراب حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم قنا تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكان اليوم مشهودا والملائكة شهودا، وكان الصليب صارخا والإسلام مولودا، وكانت ضلوع الكفار لنار جهنم وقودا.

منه وقد ذكر القومص وفراره: وكان مليا يوم الظفر بالقتال ويوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف، وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرمح وجناح السيف، وكان لعدتهم كذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك. وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغا البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، هي وعزائم أوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر.

منه: ويحصد كفرا ويزرع إيمانا، ويحط من جوامعها صلبانا ويرفع أذانا، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوىء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال مقاعد، ويقر عينه وعين أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجارٍ ومجرور، وأن يظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصفح.

منه: وقبالها ثم قاتلها، ونزل إليها ثم نازلها، وبرز لها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمةً ارتقب بعدها الفتح، وصدع جمعها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الحد عن عتق الصفح.

منه: وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي تضرب ولا تفارق سهامها نصالها، فصافحت السور فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادغ أبراجها، وأسمع صوت عجاجها، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، وأمكن للنقاب أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقتله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن يبرح الأرض، وفتح من السور بابا سد من نجاتهم أبوابا، وأخذ يفت في حجره فقال الكافر يا ليتني كنت ترابا.

منه في تسلم البلد: وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله تعالى أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم.

منه: وفيها كل غريب من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا ينطرد لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توسيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض بها من بياض الترخيم رقراق، وعمدا كالأشجار لها من التنبيت أوراق.

منه: وأقيمت الخطبة وكادت السموات ينفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب تنتثر للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة، وطهرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجهر باسم أمير المؤمنين في موطنه الأشرف من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في خافقتيه فلو طار سرورا لطار بجناحيه.

منه: وكل مشقة بالإضافة إلى الفتح محتملة، وأطماع الفرنج بعد ذلك غير مرجئة ولا معتزلة، فإن يدعوا دعوةً يرجو الخادم من الله أن لا تسمع ولن يفكوا أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع، ولهذه البشائر أخبار لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص، فلذلك نفذ فلانا شارحا، ومبشرا صادحا، يطالع بالخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته. وهو فلان.

وقال من كتاب آخر عند ذكر الصخرة: فقد كان بخت الناصر في رد القدس أمضى من سيف بخت ناصر.

وذكرت هنا أبيات الصاحب جمال الدين ابن مطروح رحمه الله وهي:

المسجد الأقصى له عادةٌ

سارت فصارت مثلا سائرا

إذا غدا للكفر مستوطنا

أن يبعث الله له ناصرا

فناصرٌ طهّره أولا

وناصرٌ طهّره آخرا

رجع إلى كلام الفاضل:

ص: 74