الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد وردت رسالة من جزيرة قبرص على يد كليام الفرنجي التاجر في سنة عشرين وسبعمائة تقريبا، ووقفت عليها بمدينة صفد، فوجدت واضعها قد استدل على صحة مذهب النصارى في القول بالثالوث، بأشياء نقلية من القرآن العظيم. بمثل قوله تعالى:" قال ربِّ ارجعون "" وكفى بنا حاسبين ". وبمثل هذه الآيات، وبأشياء أخر يضحك من الاستدلال بها.
ثم أخذ يستدل على الثالوث بقوله تعالى: " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق " فذكر ثلاثة، وهذا شيء يضحك منه.
على أن بعض الرافضة، له في القول بصحة الزواج بتسعة دليل من هذا النوع. وهو قوله تعالى:" فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع " وقال: هذه العدة مجموعها تسعة، والنبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة.
وأما هذه الرسالة القبرسية؛ أجاب عنها الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله في مجلدين، وعبث بها مدةً وأولع بها.
فإن قلت بمثل قوله تعالى: " ربِّ ارجعون "" وكفى بنا حاسبين " يشكل عليك فيما قررته في الفاتحة، قلت: ثبت لنا في القرآن من غير هذا، وقامت الأدلة على الوحدانية بمثل قوله تعالى:" لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسَدتا "، وإذا جاء مثل هذا علمنا أنه المراد به التعظيم. وما أخذ الناس خطاب العظيم بلفظ الجمع إلا من القرآن العظيم.
والعلة في أن المعظم نفسه يقول: نحن فعلنا وأمرنا.. وما أشبه ذلك، هو أنه لا يقول هذا إلا من هو مطاع معظم في قومه، ولا يكون المطاع إلا من له أتباع وخدم يقولون بقوله، ويرجعون إلى ما يقوله. كصاحب المذهب يقول: رأينا، ومذهبنا. أي أنا ومن يقول بهذا القول.
ولهذا، الفقهاء والنظار يقول الواحد منهم: لا نسلم. ويكون واحدا لا غير، والمراد أن هذا أمنعه أنا ومن وافق قولي.
فلما كان المتكلم إذا كان عظيما قال: نحن فعلنا، حمل على ذلك خطابه فقيل له: أنتم فعلتم ليكون ذلك مقابلة لما يقوله.
وأما في هذا العصر، فقد استراح الناس من خطاب الملوك في مكاتباتهم وغير مكاتباتهم من الكاف ومن ضمير الجمع. فإنه لا يقال إلا: المراسم الشريفة، والآراء الشريفة، والصدقات الشريفة، والأبواب الشريفة، إلا ما كان يجل الشرف أن ينعت به مثل: الاسطبل، والمناخ والمطابخ وأشباه ذلك، فإنه ينعت بالسعيدة.
وان كان المتكلم بين يدي السلطان قال: رأس مولانا السلطان خلد الله ملكه وكل شيء يذكره، أضافه إلى هذه الجملة.
المفاضلة بين التسميتين الإرصاد والتوشيح
قال في النوع الثامن والعشرين في الإرصاد: ورأيت أبا هلال العسكري قد سمى هذا النوع: التوشيح. وليس كذلك، بل تسميته بالإرصاد أولى.
أقول: هذا الإرصاد الذي ذهب إلى أنه أليق من التوشيح بالمعنى الذي قرره، مثاله قول البحتري:
أحلّت دمي يوم الفراق وحرّمت
…
بلا سببٍ يوم اللقاء كلامي
وليس الذي حلّلته بمحلّلٍ
…
وليس الذي حرّمته بحرام
وهو أن الشاعر يأتي بنصف بيت يفهم منه النصف الثاني، أو صدر يفهم منه العجز، أو من البعض يفهم الكل، وهو دليل التمكن وجودة الطبع.
ووجه المناسبة بين هذا المعنى وبين التوشيح، أن ينزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح، وينزل دلالة ما في أوله على آخره منزلة الوشاح الجائل عليهما. وهذا معنى لائق بهذا المسمى، ونفس اللفظ أعذب في السمع من الإرصاد.
قال: وقد سلك قوم في منثور الكلام ومنظومه طرقا خارجةً عن موضوع علم البيان وهي بنجوة عنه، لأنها في واد وعلم البيان في واد.
فممن فعل ذلك الحريري صاحب المقامات، فإنه ذكر تلك الرسالة التي هي كلمة معجمة وكلمة مهملة، والرسالة التي هي حرف من حروف ألفاظها معجم والآخر غير معجم.
ونظم غيره شعرا، آخر كل بيت منه، أول البيت الذي يليه. وكل هذا وإن تضمن مشقةً من الصناعة، فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة.
أقول: إن الحريري رحمه الله تعالى لم يأت بما أتى به من هذه الأنواع وادعى أن هذا هو الفصاحة والبلاغة، وإنما أتى بذلك ليستوعب أنواع الأدب، ويبين للأديب ما يلزمه معرفته، وكل ذلك دليل القدرة والتمكن.
ولو أن الحريري فعل ذلك في المقامات كلها لكان غير حسن.
ومثل هذه الأشياء من اللغز والأُحجية والأغاليط، والإتيان بالكلمة المعجمة وبعدها المهملة، وبالحرف المعجم وبعده المهمل، أو صدر بيت كذا وعجزه كذا.. كل ذلك لائق بالمقامات. أما في الترسل والخطب، فإنه يكره ويستثقل. لأن الترسل ليس المراد منه التفقه في الأدب وإنما هو إما لهناء أو عزاء أو شكر أو مدح أو وصف أو استعطاف أو عتب أو شوق أو غير ذلك. ومثل هذه الأشياء لا يليق بها التكلف.
على أنه وإن كان هذه الأنواع في المقامات، فينبغي أن يكون كاللمع اليسيرة، فإنها إذا كثرت سمجت. ألا ترى أن العماد الكاتب رحمه الله تعالى لما جعل كلامه مشحونا بالجناس لا تكاد كلمة تخلو من ذلك، ثقل على الأسماع والقلوب، ولم يكن له خفة كلام القاضي الفاضل على القلوب.
وقد يكون الشاعر مجيدا، فيأتي بنوع من التكلف وليس عليه أثر الكلفة. كقول ابن حمديس:
مزرفن الصدغ يسطو لحظه عبثا
…
بالخلق، جذلان أن أشك الهوى ضحكا
لا تعرضنّ لوردٍ فوق وجنته
…
فإنما نصبته عينه شركا
فالأول يجمع حروف المعجم كلها على عدم تبين الكلفة عليه.
وكذلك قول القائل:
لبقٌ أقبل فيه هيفٌ
…
كلّ ما أملك إن غنّى هبه
فإن كل كلمتين من هذا لا يتغير معناهما بالانعكاس إلا القافية فإنها في نفسها معلومة. وليس عليه أثر الكلفة.
ومثله أيضاً:
أرضٌ خضرا فيها
…
أهيف ساكب كاس
وكذا قول القائل:
أرانا الإله
…
هلالا أنارا
وكذلك قول القائل:
تقتل تأثم
…
تجور تندم
إذا عكس وصحف كان:
مذيب روحي متى نلتقي
ومثله قول القائل:
رفّت شمائل قاتلي
…
فلذاك روحي لا تقرّ
ردّ الحبيب جوابه
…
فكأنّه في اللفظ درّ
أول كل بيت، عكس الكلمة الأخيرة منه. وليس عليه كلفة.
وأما ابن الأثير، فكأنه يظن أن الأدب عبارة عن الترسل فقط، ولم يعلم أنه جزء منه وإن كان جزءا كبيرا، ونوعا جليلا.
وأقل هذه التكلفات استثقالا ما كان كله مهملا، لا بل لا يعد في شيء من الاستثقال، بل هو خفيف عذب في السمع والقلب. كقول الحريري:
أعدد لحسّادك حدّ السّلاح
…
وأورد الآمل ورد السّماح
القصيدة كلها في غاية الحسن.
وقد وجدت للقاضي الفاضل رحمه الله تعالى خطبة وضعها لدخول العام الجديد، وهي طويلة كلها عري عن الإعجام، وهي في غاية الحسن. ولولا خوف الإطالة لأثبتها.
وقد وجدت الوراق الحظيري قد تكلف أشياء من هذه الأنواع، من ذلك بيتان كل كلمة منهما مهموزة. وهما:
بأبي أغيدٌ أذاب فؤادي
…
إذ تناءى وأظهر الإعراضا
رشأٌ يألف الجفاء فإن أق
…
بل أبدى لآمليه انقباضا
وفي انقباض نظر؛ كاد قول أبي الطيب:
أُمّي أبا الفضل المبرّ أليّتي
…
لأُيممنّ أجلّ بحرٍ جوهرا
يكون من هذا اللزوم، وفيه مع تكرار الهمز تكرار الشدات.
ومن ذلك قطعة إذا قرئت لا تتحرك فيها الشفتان. وهي:
ها أنذا عاري الجلد
…
أسهرني الذي رقد
آهٍ لعينٍ نظرت
…
إلى غزالٍ ذي غيد
أريتني يا ناظري
…
صيد الغزال للأسد
إنّ الضّنى لهجره
…
يا عاذلي هدّ الجسد
حشا حشاي إذ نأى
…
نار الغضا حين شرد
يا غادرا غادرني
…
على لظى نارٍ تقد
ألاّ اصطنعت ناحلا
…
لا يشتكي إلى أحد
ومن ذلك قطعة، أنصافها الأول معجمة، والثواني مهملة. منها:
بي شغفٌ شبّ بين جنبي
…
دواؤه الودّ والوصال
يبثّ بثّي خفيّ غيظٍ
…
أحور موعوده محال
زين بشيئين غنج جفنٍ
…
وملح دلٍّ له كمال
قال: وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم:
وفتىً من مازنٍ
…
قد فاق أهل البصره
أمّه معرفةٌ
…
وأبوه نكره
وهل يشك في حسن هذا المعنى ولطافته.