الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأقول: إنه نفخ في غير ضرم، وطاف بغير حرم، وليس ذلك بكبير أمر، ولا مما ينبه عليه بعد الفراغ منه، بل هو في الرتبة الوسطى لا ينحط انحطاطه في عادته، ولا يرتفع ارتفاع القاضي الفاضل.
وقد استعمل الناس أسماء المنازل والكواكب في كلامهم جدا وهزلا، كقول سيف الدين المشد ابن قزل:
ضلّ فؤادي بين أبياتكم
…
وناره تضرمها الأهويه
يا ذابح النوم بطرفي أما
…
ترثي لقلبٍ ضل في الأخبيه
وقوله أيضاً:
ألا يا وادي الشقرا
…
ء كم قد حزت من نزهه
غياضٌ ماؤها يجري
…
فما في طيبها شبهه
وكم بدرٍ يروق الطر
…
ف أضحى منك في الجبهه
وقوله أيضاً:
بدا في الدرع مثل الرم
…
ح في الأعطاف والسمره
فيا لله من بدرٍ
…
يروق الطرف في النثره
وقول العدل برهان الدين بن الفقيه نصر:
بخدمتكم لم أنل طائلا
…
وميزان نقصي بكم راجح
ففي الطرف من أدمعي نثرةٌ
…
وفي القلب من سعدكم ذابح
ومن أحسن الكنايات قول الآخر:
ألم ترني أكابد فيك وجدي
…
وأحمل منك ما لا يستطاع
إذا ما أنجم الجو استقلّت
…
ومال الدلو وارتفع الذراع
وقول محمد سبط التعاويذي:
فبتّ وباتت إلى جانبي
…
نعدّ المنازل فيها كلانا
تريني البطين ولكنني
…
أقارضها فأريها الزبانى
وقول الآخر من أبيات:
فأعجلته عن دخول الكنيف
…
بجهلٍ مطاعٍ وحلمٍ مطاع
فغرّقت منه بنوء البطين
…
وروّاه مني نوء الذراع
وأما قوله: وليت لو فدي أحدهما بصاحبه، أحسن من هذا قول المتنبي:
فليت طالعة الشمسين غائبةٌ
…
وليت غائبة الشمسين لم تغب
وتمام السجعة نصف بيت من هذه القصيدة لأبي الطيب، أول:
قد كان قاسمك الشخصين دهرهما
…
فعاش درهما المفديّ بالذهب
قال: ومن هذا الباب ما أوردته في رسالة طردية في وصف قسي البندق وحامليها ثم إنه ساقها.
أقول: وهي أيضاً من الوسط، فلا تكون في العالي ولا السقط، وذكرت بالطريق التي سلكها فيها ما جاء لبعض كتاب العجم فيما أظن، في القوس التي للسهام، فإنها في حسنها فذة، ونكتها في سلب العقول مغذة، وصناعتها لم تدع في المثاني والمثالث عند النفوس بعدها لذة. وهي:
رسالة لابن الأثير في وصف قسي البندق وحامليها
ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا، حكيم جبل على السداد، يهدي إلى سبل الرشاد، آثار بأسه مشهورة على ذوي الأعواد ويسألونك عن الأهلة، فقل صفر من غير علة، مجرة تنقض منها نجوم الرجوم، برج ذو جسدين يطلع بالطائر المشؤوم، شيطان تطلع شمس النصر بين قرنيه، مارد لا يسكن إلا بتعريك أذنيه، صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. مطية تخالف سائر الأنعام، قيامها باليد وقيامهن بالأقدام. متحرك يعض على ناجذ التصبر في الشدة والرخاء، من صحبه طرفة عين مشى على الهواء، فقل في نون التقم مرسلا فنبذه بالعراء. مقيد يحمل عليه المطلق، طريد العنق من جيد عاتقه معلق. ناحل ألصق بطنه بظهره، حتى بدت للناظرين بنات صدره، وغارت كلاه في خصره، لاستيلاء قوتيه الجاذبة والماسكة على قوتيه الدافعة والهالكة. مقبوض يقارب السريع، ويفارقه عند التقطيع. وهري أتى عليه قرن بعد قرن فانحنى مطاه، لا ينصب إلا على اليد متكاه، وينشد إذا فتح فاه:
سلبت عظامي لحمها فتركتها
…
مجردةً تضحي لديك وتحصر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب تنظري
…
ضنى جسدي لكنني أتستّر
منحني الظهر يتوكأ على عصا، ويلقيها فإذا هي حية تسعى.
تنكب رماح الخط والبيض خلها
…
وأما الحنايا حلّها وتنكبا
أقبل على تعاطي القنا من مغاوير الرجال، وتناولتها بالساعد مساعير الأبطال. آلة حدباء تنذر بالمنون، وأعوجي ضامر كحرف النون. أنضاء تحن على غلظ أكبادها، عطوف تئن لفراق أولادها. فرع شد بهداب الدمقس المفتل، ضارب بسهميه في أعشار قلب مقتل. غلاظ شداد قاسية القلوب جافية الطباع، توكل بقبض الأرواح ذي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. نضو يهدر إذ لن في قرن، جامع إلى بطن الشارخ انحناء اليفن، مكدود كاد ينقطع منه الوتين، منحني الظهر شارف عقد الستين....
وهي طويلة تدخل في كراسة، وكلها من هذا الأنموذج.
وقد عارضها جماعة، منهم القاضي ناصر الدين بن المنير، ضنع ثلاثة أو أكثر، وغيره، وكلهم لم يشق لها غبارا، ولم يجر من الذيل خلفها إلا ما كان عثاراً.
وأما البندق، فلشيخنا القاضي شهاب الدين أبي الثناء محمود رحمه الله تعالى فيه رسالة طنانة، الدرة مع الشذرة تزدحم فيها كالحب في الرمانة، أثبتها في كتابه الموسوم بحسن التوسل وهي من الحسن في غاية، ومن طبقات الأدب في نهاية. ولولا طولها لأثبتها هنا، وأوجدت فقر هذا التأليف منها الغني.
ولابن الرومي قصيدة عينية في البندق والرماة رجز طويلة. ولمحمد سبط التعاويذي قصيدة في رمي البندق أولها:
حيّيت يا دار الهوى من دار
…
ولا عدتك السحب السواري
في غاية الحسن، وهي في ديوانه.
ومن أحسن ما ذكرته في قوس البندق قول ابن وضاح المرسي:
عجبا من القوس الكريمة إنها
…
لم ترع حق حمائم الأغصان
أضحت لها حتفا وكانت مأمنا
…
وكذاك حكم تصرف الأزمان
وأما أنا فقد كتبت توقيعا بالحكم بين رماة البندق، لا بأس بإثباته هنا. وهو: الحمد لله الذي لم يزل حمده واجبا، ورفده لكل خير واهبا، وشكره للنعم جالبا وللنقم حاجباً، وذكره للبؤس سالبا، وللنعيم كاسبا. نحمده على نعمه التي نصرع بالحمد أصناف أطيارها ونقص بالشكر أجنحتها فلا قدرة لها على مطارها. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يكون لنا بها عن الفوز بالجنة عذر، ولا نجد بها نفوسنا يوم البعث إلا في حواصل طوير خضر.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من قدم ذوي الرتب، وأشرف من حكم بالعدل العاري من الشبه والريب. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا في الحروب عقبانها الكواسر، وفرسانها الذين أشبعوا من لحوم العدى ذوات المخالب والمناسر، ما أحمد الرامي في المرام عزمه، وسعت له في الرتب قدم قدمة. وسلم تسليما كثير. وبعد.
فلما كان الرمي بالبندق فناً تعاطاه الخلفاء والملوك، وسلك الأمراء والعظماء منه طريقة لطيفة المأخذ طريفة السلوك يرتاضون به عند الملل لاسترواح نفوسهم، ويجنون ثمرات المنى في التنزه من عروش غروسهم، ويبرزون إلى ما يروق الطرف ويروع الطير من برزاتهم، وينالون ببنادق الطين من الطير ما لا يناله سواهم بجوارح صقورهم ولا بزاتهم. قد نبذوا في تحصيل المراتب العلية شواغل العلق، وتدرعوا شعار الصدق بينهم وهم أصحاب الملق، ومنعوا جفونهم من ورد حياض النوم إلا تحلة، وبرزوا بوجوه هي البدور وقسي هي الأهلة. وتنقلوا في صيد النسور تنقل الرخ، وصادوا الطيور في الجو لما نثروا حبات الطين من كل قوس هو كالفخ، وصرخوا على الأوتار وكانت ندامى الأطيار على سلاف المياه من جملة صرعاها، واقتطفوا زهرات كل روضة أخرجت ماءها ومرعاها، احتاجت هذه الطريق إلى ضوابط تراعى في شروطها، وتسحب على الجادة أذيال مروطها، ليقف كل رام عند طور طيره، ويسبر بتقدمه غور غيره، ليؤمن التنازع في المراتب، ويسلم أهل هذه الطريقة من العائب والعاتب.
وكان المجلس السامي الأميري الشهابي هو الذي جر فيها على المجرة مطرفه، وأصبح ابن بجدتها علما ومعرفة، تطرب الأطيار لنغمة أوتاره، وتنشق مرائر الطير غيرة من لون غياره، وتود المجرة لو كانت له طريقا والشمس جراوة والسماء ملقة، وتتمنى قوس السحاب الملونة لو كانت قوسه والنسر طائره والنجوم بندقه. كم جعل حلل الروض المرقومة بما صرعه مطايره، وكم خرج في زمر والطير فوقهم صافات فصاد بدر تم حين بادره، وكم ضرج في معرك الجو من قتيل ريشه كالزرد الموضون، وكم أرسل البندق فكان سهما ماضيا لأنه من حمأ مسنون.