الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخذ يقول في نفسه: في البيت الأول، جارية جاءت من الهند يحثها السير، ما في ذا شيء، فإذا سمع الثاني: لها بنات لسن من جنسها، رجع في الحيرة وفكر وقال: كيف يكن من غير جنس أمهن. فإذا سمع الثالث: لهم قرون ولها حافر، زاد في حيرته وقال: لسن هؤلاء ولا أمهن من الأناسي. فإذا سمع الرابع: يكلمون الناس في المهد، تأكدت حيرته، ثم رجع إلى أنهن من الأناسي لإثبات المهد والكلام، وأخذ يعمل فكرته في موجود متصف بهذه الصفات. فإذا أعيى مال إلى الألفاظ المشتركة، ونزله بقوة فكرته وإصابة حدسه على أن ذلك لا يصدق إلا على الدست الذي للقاصد وريشه وما أحلى ما استعمل هذا الشاعر، السير والحافر والتكليم، وهكذا يكون اللغز.
وحكاية ثعلب رحمه الله مشهورة مع الأعرابي الذي وقف عليه وأنشده ملغزا بيتا بعد بيت وثعلب يقول: هذا كذا، ثم ينتقل في الثاني إلى غير التفسير الأول، حتى إذا فرغ الأعرابي من إنشاده قال ثعلب: هذا قلم.
وإذا ثبت هذا في اللغز، فليس الذي ساقه ابن الأثير من الألغاز، وإنما ذلك من باب التعريض والإشارة، كأن المتكلم بمثل هذا يعرض للمخاطب بما قيل ويشير له إلى واقعة وقعت. وما رأيت من عد مثل هذا لغزا غير ابن الأثير رحمه الله تعالى على أنه قال في المثل في الكناية والتعريض: إنما سمي التعريض بهذا لأن المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ، أي: من جانبه، وعرض كل شيء جانبه.
أقول: وكذا واقعة عمر وشريك، كل منهما فهم مقصود صاحبه من عرض كلامه. فإن غض جانب من قول الشاعر:
فغض الطرف
…
البيت.
وكذا الكتب جانب من قوله: واكتبها بأسيار. فتعين أن التعريض غير اللغز. وهذا شريك صاحب أجوبة حادة. يقال: إن أهل الكوفة كانوا إذا تمنى منهم أحد شيئاً يقول: أتمنى أن يكون لي فقه أبي حنيفة، وحفظ سفيان وورع مسعر بن كدام وجواب شريك.
ومثل حكاية عمر وشريك، ما ذكره صاحب الأغاني. قال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحكم خيله، فمر به فرس فقال: كيف تراه؟ قال: هذا سابح. ثم عرض عليه آخر. فقال: وهذا ذو علالة. ثم مر به آخر فقال: وهذا أجش هزيم. فقال له معاوية: أبي تعرض؟! قد علمت ما أردت، إنما عرضت بقول النجاشي:
ونجّى ابن حربٍ سابحٌ ذو علالةٍ
…
أجشّ هزيمٌ والرّماح دوان
اخرج فلست تساكنني في بلد.
فانظر إلى كلام معاوية رضي الله عنه كيف صرح بلفظة التعريض في الموضعين.
وقد ساق علماء الأدب من هذا الباب جملة في كتبهم. وأما أبو عبد الله محمد بن السيد البطليوسي فقد ساق واقعة شريك وعمر بن هبيرة هذه في شرح أدب الكاتب، ثم قال بعد الفراغ منها: عرض له ابن هبيرة بقول جرير، وعرض له شريك بقول سالم بن دارة. وساق أمثال هذه الواقعة، وفي الكل يقول: عرض. وهذا صريح من مثل هذا الرجل وهو إمام فيما يقوله وقوله حجة.
وما أحسن قول من قال وما ألطفه:
إسقني خمرةً كرقّة ديني
…
أو كعقلي ولا أقول كحالي
خيفةً من توهّم النّاس أني
…
قلت هذا في معرضٍ للسّؤال
ومن التعريض قول السراج الوراق يعرض بطلب صابون:
بعثت لك الكتاب وقلّ سعيي
…
على رأسي لبابك بالكتاب
وعذري عنك في التأخير أنّي
…
تبددت الدّواة على ثيابي
ونقلت من خط السراج الوراق رحمه الله ما صورته: كان أبو الحسين النحوي يجلس عند شرابي، فجاء يوماً فوجد في موضعه قمقم ما ورد. فقال له الشرابي: يا سيدنا نشيل القمقم وتجلس. فقال له: كيف وقد أمرتني بالقيام مرتين بقولك: قمقم؟! واتفق أن أهدى إلي شخص قمقما فأنشدته:
إن كان ذلك قال: قم قم طاردا
…
لجليسه بإشارةٍ في القمقم
فأنا الذي قعد الزمان بحظه
…
فأتى بذاك له ونادى: قم قم
المبادىء والافتتاحات
قال في النوع الثاني والعشرين في المبادىء والافتتاحات:
ومن الحذاقة في هذا الباب، أن يجعل الدعاء في أول المكاتبات السلطانيات والإخوانيات وغيرهما مضمنا من المعنى ما بني عليه ذلك الكتاب، وهذا شيء انفردت بابتداعه، وتراه كثيراً فيما انشأته. ثم قال: ومن ذلك ما ذكرته في الهناء بمولود وهو: جدد الله مسرات المجلس الفلاني، ورسل صبوح هنائه بغبوقه، وأمتعه بسليله المبشر بطروقه، وأبقاه حتى يستضيء برأيه ويرمي عني فوقه، وسر به أبكار المعالي حتى يخلق أعطافها بخلوقه، وجعله كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه.
أقول: هذا وقد عاب على الصابي وعلى جماعة من الشعراء في الافتتاحات، وادعى هذه الدعوى، ثم أتى بمثل هذا الافتتاح في الهناء بمولود.
وليس في أول سجعة ما يدل على أن الهناء بمولود أو ختان أو عرس أو فتح أو عيد أو برء من مرض أو غير ذلك من أنواع المسار، وإنما دلت على مطلق الهناء.
وأما قوله: وسر به أبكار المعالي حتى تخلق أعطافها بخلوقه، ما أدري ما في هذا من البلاغة.
وكتبت أنا في هناء بمولود: وزان أفق السعادة بنجمه الذي أصبح بازغا، وبلغه في صباه أعلى المفاخر حتى يكون قبل البلوغ لغايات المعالي بالغا، وشغل به السيادة فإن قلبها إلا من هذا البيت لا يزال فارغا.
وكتبت أيضاً: وحفظ على غاب الممالك شبله، وجعله طليعة بشرى لما بعده كما جاء ساقة خير لما قبله، وأهله لأن يكون أمام صفوف الحرب إماما، كما جعل وجهه للحسن جامعا ويده للقبل قبلة.
وكتبت أيضاً: وأقر عينه بهذه القرة، وبلغه نهايات آماله فيه من السعود فإنها مترجمة في هذه الطرة، وجعل الأصيل زعفران هذا الخلوق والشفق عقيقة هذه الدرة.
وقد كتبت جوابا عن كتاب ورد قرين تفاصيل قماش مطاير. فقلت يقبل الباسطة لا زالت جمل جودها مشكورة التفاصيل، وتحف برها المرقومة تعمل لوليه ما يشاء من محاريب وتماثيل، ونقوش هداياها ترمي نفوس العدى بالهلاك من طيورها الأبابيل.
وعلى ذكر الهناء بالولد. فمما جاء في كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى وهذا الولد المبارك هو الموفي لاثنى عشر ولدا، بل لاثنى عشر نجما متقدا، فقد زاده الله في أنجمه عن أنجم يوسف نجما، ورآهم المولى يقظةً ورأى تلك حلما، ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق لهم سجودا، وهو قادر أن يزيد حدود المولى إلى أن يراهم أبا وجدودا.
ومن كلامه أيضاً: ونهي أن الله وله الحمد رزق الملك العزيز عز نصره ولدا مباركا عليا، ذكرا سويا، نقيا تقيا، من ذرية بعضها من بعض، ومن بيت كادت ملوكه تكون ملائكةً في السماء ومماليكه ملوكا في الأرض، في غرة الهلال من جمادى فلهذه الليلة غرتا هلالين، بشرتا بالأنواء صادقتين. وأصدر المملوك هذه الخدمة مبشرا بأن الله تعالى لا يخلي مولانا في كل وقت من زيادة أولاد يمنحها، أو زيادة بلاد يفتحها. فهو في كل يوم مبشر، بما هو له ميسر، والفلك بما نرجوه له جار وله مسمر، فيطلع عليه نجومه نجما نجما، وتستهل سحبه عليه سجما سجما، وقد ورد في الأثر أن الولد ريحان الجنة، فالبيوت الكريمة على هذه بساتين، والأولاد البررة على هذه رياحين، فلا عفا بستاننا، ولا ذوى ريحاننا، وعلا جد بني مولانا الذي هو جدهم وأبوهم وسلطاننا.
وقد ادعى ابن الأثير أنه الذي انفرد بمناسبات المبادىء، وهذا ما زال غالب الناس يراعيه. وقد نص على ذلك ابن خلف في المنثور البهائي قال: ومن ذلك مفتتح كتاب إلى ديوان الخلافة، وساق مقدمة الكتاب، وفي آخرها: وقد يعبر عن الكتاب ونائله، بالسحاب ووابله، فإن صدر عن يد كيد الديوان العزيز فقد وقع التشبيه موقع الصواب، وصدق حينئذ قول القائل، إن البحر عنصر السحاب.
أقول: ليس هذا من التحقيق في شيء، ومن ادعى أن السحاب من البحر، فليس عنده علم بحقيقة ذلك وكيف والبحر ملح أجاج، والقطر المنزل من السحب عذب فرات؟.
وقد فسر قوله تعالى: " وفي السماء رزقُكم وما تُوعدون " أنه السحاب التي تمطر، ولو كان كما زعمه، لقال: وفي البحر رزقكم.
وقال الله تعالى: " الله الذي يُرسِل الرّياح فتُثير سَحابا "، فجعل علة منشأ السحاب إرسال الرياح، ولم يذكر البحر.
وما أحسن قول ابن زيدون:
للشفيع الغناء والحمد في صو
…
ب الحيا للرّياح لا للغيوم