الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طَافَ الخَيَالُ - وأَيْنَ مِنْكَ? - لِمَامَا
…
فَارْجِعْ لزَوْرِكَ بالسَّلام سَلاما (1)
بمعنى طاف الخيال لمامًا، وأين هو منك؟ وكما قال جل ثناؤه في كتابه:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا)[سورة الكهف: 1] بمعنى (2) : الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيِّمًا ولم يجعل له عوجًا، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهدٌ على صحة قول من أنكر أن تكون - (بسم الله الرحمن الرحيم) من فاتحة الكتاب - آيةً (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
قال أبو جعفر: القرَّاء مختلفون في تلاوة (ملك يَوْمِ الدِّينِ) . فبعضهم يتلوه " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ "، وبعضهم يتلوه (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وبعضهم يتلوه (مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) بنصب الكاف. وقد استقصينا حكاية الرواية عمن رُوي عنه في ذلك قراءةٌ في " كتاب القراآت "، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحّة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قَصَدْنا له، في كتابنا هذا، البيانَ عن وجوه تأويل آي القرآن، دون وجوه قراءتها.
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن المَلِك من "المُلْك"
(1) ديوانه: 5
4
1، والنقائض:38. طاف الخيال: ألم بك في الليل، واللمام: اللقاء اليسير. والزور: الزائر، يقال للواحد والمثنى والجمع: زور. "فارجع لزورك"، يقول: رد عليه السلام كما سلم عليك.
(2)
في المطبوعة: "المعنى: الحمد لله. . . "
(3)
وهكذا ذهب أبو جعفر رحمه الله إلى أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست آية من الفاتحة، واحتج لقوله بما ترى. وليس هذا موضع بسط الخلاف فيه، والدلالة على خلاف ما قال ابن جرير.
وقد حققت هذه المسألة، أقمت الدلائل الصحاح -في نظري وفقهي- على أنها آية من الفاتحة -: في شرحي لسنن الترمذي 2: 16 - 25. وفي الإشارة إليه غنية هنا. أحمد محمد شاكر.
مشتق، وأن المالك من "المِلْك" مأخوذٌ. فتأويل قراءةِ من قرأ ذلك:(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، أن لله المُلْك يوم الدين خالصًا دون جميع خلقه، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفرادَ بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية (1) . فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصَّغَرة الأذِلّة (2) ، وأنّ له - من دُونهم، ودون غيرهم - المُلك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال جلّ ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله:(يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[سورة غافر: 16] . فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالمُلك دون ملوك الدنيا، الذين صارُوا يوم الدّين منْ مُلكهم إلى ذِلّة وصَغار، ومن دُنياهم في المعاد إلى خسار.
وأما تأويلُ قراءة من قرأ: (مالك يوم الدين)، فما:-
166 -
حدثنا به أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معهُ حكمًا كمِلْكِهم في الدنيا. ثم قال: (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)[سورة النبأ: 38] وقال: (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ)[سورة طه: 108] . وقال: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى)(3)[سورة الأنبياء: 28] .
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، وأصحُّ القراءتين في التلاوة عندي،
(1) الجبرية والجبروت واحد، وهو من صفات الله العلي. الجبار: القاهر فوق عباده، يقهرهم على ما أراد من أمر ونهي، سبحانه وتعالى.
(2)
الصغرة جمع صاغر: وهو الراضي بالذل المقر به. والأذلة جمع ذليل.
(3)
الخبر 166 - سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد 137. وهذا الخبر، مع باقيه الآتي 167 نقله ابن كثير 1: 46 دون إسناد ولا نسبة، ونقله السيوطي 1: 14 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. وقال ابن كثير: " وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف. وهو ظاهر".
التأويلُ الأول، وهي قراءةُ من قرأ "مَلِكِ" بمعنى "المُلك". لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك، إيجابًا لانفراده بالمِلْك، وفضيلة زيادة المِلك على المالك (1) ، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا.
وبعدُ، فإن الله جلّ ذكره، قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله (ملِكِ يوم الدين) أنه مالكُ جميع العالمين وسيَّدهم، ومُصلحُهم، والناظرُ لهم، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة، بقوله:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه
(1) في المخطوطة: "الملك على الملك"، وهما سواء.
إيَّاهم كذلك بقوله: (ربِّ العالمين) ، فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله (ربِّ العالمين الرَّحمن الرحيم) ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه (مالِكِ يوم الدين) ، إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله (ربِّ العالمين) ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله:(مالك يوم الدين)، المعنى الذي في قوله:(مَلِك يوم الدين) ، وهو وصْفه بأنه الملِك.
فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحقّ التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ (مالك يوم الدين) الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء، متفرِّدًا به دون سائر خلقه.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله (رَبّ العَالمين) نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة، يوجبُ وصْلَ ذلك بالنبأ عن نفسه أنه: مَنْ مَلَكهم في الآخرة على نحو مِلْكه إياهم في الدنيا بقوله (مالك يوم الدين) - فَقد أغفلَ وظنَّ خطأ (1) .
وذلك أنه لو جاز لِظانّ أنْ يظنّ أن قوله (ربّ العالمين) محصورٌ معناه على الخبر عن ربوبِيَّة عالم الدنيا دُونَ عالم الآخرة، مع عدم الدلالة على أن مَعنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل، أو في خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقولٍ، أو بحجّة موجودة في المعقول - لجاز لآخر أن يظنّ أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله (رب العالمين) ، دون سائر ما يحدث بعدَه في الأزمنة الحادثة من العالمين. إذْ كان صحيحًا بما قد قدّمنا من البيان، أنّ عالمَ كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده.
فإن غَبِيَ - عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا - ذو غباء، فإنّ في قول الله جل ثناؤه:(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)[سورة الجاثية: 16] دلالةً واضحةً على أنّ عالم كلّ زمان، غيرُ عالم الزمان الذي كان قَبله، وعالم الزمان الذي بعدَه، إذْ كان الله جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية [سورة آل عمران: 110] . فمعلومٌ بذلك أن بَني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا -مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم أفضلَ العالمين، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتَّبِعون منهاجهُ، دون من سِواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه.
وإذْ كان بيِّنًا فساد تأويل متأوِّلٍ لو تأوّل قوله (ربّ العالمين) أنه معنيٌّ به
(1) قوله "أغفل"، فعل لازم غير متعد. ومعناه: دخل في الغفلة والنسيان ووقع فيهما، وهي عربية معرقة، وإن لم توجد في المعاجم، وهي كقولهم: أنجد، دخل نجدًا، وأشباهها. وحسبك بها عربية أنها لغة الشافعي، أكثر من استعمالها في الرسالة والأم. من ذلك قوله في الرسالة: 42 رقم: 136: "وبالتقليد أغفل من أغفل منهم".
أن الله ربُّ عَالمي زَمن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي سائر الأزمنة غيره - كان واضحًا فساد قول من زعم أنّ تأويلَهُ: ربُّ عالَمِ الدنيا دُون عالَمِ الآخرة، وأنّ "مالك يوم الدين" استحقَّ الوصلَ به ليُعلَم أنه في الآخرة من مِلْكِهم ورُبُوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا.
ويُسْأل زاعم ذلك، الفرقَ بينه وبين متحكم مثله - في تأويل قوله (رب العالمين)، تحكَّم فقال: إنه إنما عنى بذلك أنه ربّ عالمي زمان محمّد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله، والحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول: أنه عَنى به عالمي الدنيا دُون عالمي الآخرة - من أصل أو دلالة (1) . فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الزاعم أن تأويل قوله (مالك يوم الدين) أنه الذي يملكُ إقامة يَوم الدين، فإن الذي ألزمْنا قَائلَ هذا القول الذي قبله - له لازمٌ. إذْ كانت إقامةُ القيامة، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك، في الدار التي أعَدّ الله لهم فيها ما أعدّ. وُهمُ العالَمون الذين قد أخبر جلّ ذكره عنهم أنه ربُّهم في قوله (ربّ العالمين) .
وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ (مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ)، فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصَبه بنيّة النداء والدعاء، كما قال جلّ ثناؤه:(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)[سورة يوسف: 29] بتأويل: يا يوسف أعرضْ عن هذا، وكما قال الشاعر من بني أسد، وهو شعر -فيما يقال- جاهلي:
إنْ كُنْتَ أَزْنَنْتَني بِهَا كَذِبًا
…
جَزْءُ، فلاقَيْتَ مِثْلَهَا عَجِلا (2)
(1) سياق العبارة: "ويسأل زاعم ذلك، الفرق. . . من أصل أو دلالة "، وما بينهما فصل.
(2)
الشعر لجاهلي مخضرم هو حضرمي بن عامر الأسدي، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من بني أسد فأسلموا جميعًا. وسبب قوله هذا الشعر: أن إخوته كانوا تسعة، فجلسوا على بئر فانخسفت بهم، فورثهم، فحسده ابن عمه جزء بن مالك بن مجمع، وقال له: من مثلك؟ مات إخوتك فورثتهم، فأصبحت ناعمًا جذلا. وما كاد، حتى جلس جزء وإخوة له تسعة على بئر فانخسفت بإخوته ونجا هو، فبلغ ذلك حضرميًا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلمة وافقت قدرًا وأبقت حقدًا. يعني قوله لجزء:"فلاقيت مثلها عجلا". وأزننته بشيء: اتهمته به. انظر أمالي القالي 1: 67، والكامل 1: 41 - 42 وغيرهما.
يريد: يا جزءُ، وكما قال الآخر:
كَذَبْتُمْ وبيتِ الله لا تَنْكِحُونَهَا،
…
بَني شَاب قَرْنَاها تَصُرُّ وتَحْلبُ (1)
يريد: يا بني شابَ قرْناها. وإنما أوْرطه في قراءة ذلك - بنصب الكاف من "مالك"، على المعنى الذي وصفتُ - حيرتهُ في توجيه قَوله:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وِجْهَته، مع جر (مالك يوم الدين) وخفضِه. فظنّ أنّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرِّه (مالك يوم الدين)، فنصب:"مالكَ يوم الدين" ليكون (إياك نعبد) له خطابًا. كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نَستعين. ولو كان عَلم تأويل أول السورة، وأن "الحمدُ لله رَبّ العالمين" أمرٌ من الله عبدَه بقيلِ ذلك - كما ذكرنا قبلُ من الخبر عن ابن عباس: أن جبريلَ قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره: قل يا محمد، (الحمدُ لله رب العالمين الرحمن الرحيم مَالكِ يوم الدين)، وقل أيضًا يا محمد:(إياك نَعبد وإياك نَستعين)(2) - وكان عَقَل (3) عن العرب أنَّ من شأنها إذا حكَت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القولَ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبرَ عن الغائب ثم تعودَ إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلتُ لأخيك: لو قمتَ لقمتُ، وقد قلتُ لأخيك: لو قام لقمتُ (4) - لسَهُل عليه مخرجُ ما استصعب عليه وجْهتُه من جر "مالك يوم الدين".
(1) نسبه في اللسان (قرن) ومجاز القرآن: 100 إلى رجل من بني أسد والبيت في سيبويه 1: 295 / 2: 7، 65، وهو شاهد مشهور. "وبني شاب قرناها" يعني قومًا، يقول: بني التي يقال لها: شاب قرناها، أي يا بني العجوز الراعية، لا هم لها إلا أن تصر، أي تشد الصرار على الضرع حتى تجتمع الدرة، ثم تحلب. وذلك ذم لها. والقرن: الضفيرة.
(2)
انظر: 151، 155.
(3)
عطف على قوله: " ولو كان علم. . . ".
(4)
جواب " لو كان علم. . . وكان عقل ".
ومن نظير "مالك يوم الدين" مجرورًا، ثم عَوْده إلى الخطاب بـ "إياك نعبد "، لما ذكرنا قبل - البيتُ السائرُ من شعر أبي كبير الهُذَلي:
يَا لَهْفَ نَفْسي كان جِدَّةُ خَالِدٍ
…
وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للتُّرابِ الأَعْفَرِ (1)
فرجعَ إلى الخطاب بقوله: " وبياضُ وَجْهك "، بعد ما قد مضى الخبرُ عن خالد على معنى الخبر عن الغائب.
ومنه قول لبيد بن ربيعة:
بَاتَتْ تَشَكَّى إليّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً
…
وقد حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا (2)
فرجع إلى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب.
ومنه قول الله، وهو أصدق قيلٍ وأثبتُ حجةٍ:(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)[سورة يونس: 22] ، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: وَجرَين بكم. والشواهدُ من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تُحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فقراءة: " مالكَ يوم الدين " محظورة غير جائزة، لإجماع جميع الحجة من القرّاء وعلماء الأمة على رَفض القراءة بها.
* * *
(1) ديوان الهذليين 2: 101. في المطبوعة: "جلدة" وهو خطأ وقوله "جدة" يعني شبابه الجديد. والجدة: نقيض البلى. والتراب الأعفر: الأبيض، قل أن يطأه الناس لجدبه. وخالد: صديق له من قومه، يرثيه.
(2)
القسم الثاني من ديوانه: 46، وقال ابن سلام في طبقات فحول الشعراء: ص 50 وذكر البيت وبيتًا معه، أنهما قد رويا عن الشعبي (ابن سعد 6: 178) ، وهما يحملان على لبيد، ثم قال:"ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث، ويستعان به على السهر عند الملوك والملوك لا تستقصي". أجهش بالبكاء: تهيأ له وخنقه بكاؤه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يَوْمِ الدِّينِ} .
قال أبو جعفر: والدين في هذا الموضع، بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال، كما قال كعب بن جُعَيْل:
إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُم
…
ودِنَّاهُمُ مِثْلَ ما يُقْرِضُونَا (1)
وكما قال الآخر:
وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أنَّ مُلْككَ زائلٌ
…
واعلمْ بأَنَّكَ مَا تدِينُ تُدَانُ (2)
يعني: ما تَجْزِي تُجازى.
ومن ذلك قول الله جل ثناؤه (كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) - يعني: بالجزاء - (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)[سورة الانفطار: 9، 10] يُحصون ما تعملون من الأعمال، وقوله تعالى (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) [سورة الواقعة: 86] ، يعني غير مجزيِّين بأعمالكم ولا مُحاسَبين.
وللدين معانٍ في كلام العرب، غير معنى الحساب والجزاء، سنذكرها في أماكنها إن شاء الله.
(1) الكامل للمبرد 1: 191، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم 1: 52، المخصص 17:155.
(2)
الكامل للمبرد 1: 192 منسوبًا إلى يزيد بن أبي الصعق الكلابي، وكذلك في جمهرة الأمثال للعسكري: 196، والمخصص 17: 155، وفي اللسان (زنأ) و (دان) منسوبين إلى خويلد بن نوفل الكلابي، وفي الخزانة 4: 230 إلى بعض الكلابيين. يقولون: إن الحارث بن أبي شمر الغساني كان إذا أعجبته امرأة من قيس عيلان بعث إليها واغتصبها، فأخذ بنت يزيد بن الصعق الكلابي، وكان أبوها غائبًا، فلما قدم أخبر. فوفد إليه فوقف بين يديه وقال: يَا أَيُّهَا المَلِكُ المُقِيتُ! أمَا تَرى
…
لَيْلاً وصُبْحًا كَيْف يَخْتَلِفَانِ ?
هَلْ تَسْتَطِيعُ الشَّمْسَ أن تَأتِي بها
…
لَيْلاً ? وهل لَكَ بِالْمَلِيك يَدَانِ?
يَا حَارِ، أيْقِنْ أنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبما قُلنا في تأويل قوله (يوم الدين) جاءت الآثار عن السلف من المفسِّرين، مع تصحيح الشواهد تأويلَهم الذي تأوّلوه في ذلك.
167 -
حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس:(يَوْمِ الدِّينِ)، قال: يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إلا من عَفا عنه، فالأمرُ أمرُه. ثم قال:(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)[سورة الأعراف: 54] . (1)
168 -
وحدثني موسى بن هارون الهَمْدَاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القَنَّاد، قال: حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، هو يوم الحساب. (2)
169 -
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
(1) الخبر 167 - سبق تخريجه في الخبر 166.
(2)
الخبر 168 - هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري، إن لم يكن أكثرها، فلا يكاد يخلو تفسير آية من رواية بهذا الإسناد. وقد عرض الطبري نفسه في (ص 121 بولاق، سطر: 28 وما بعده) ، فقال، وقد ذكر الخبر عن ابن مسعود وابن عباس بهذا الإسناد:"فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كان بإسناده مرتابًا. . . . ". ولم يبين علة ارتيابه في إسناده، وهو مع ارتيابه قد أكثر من الرواية به. ولكنه لم يجعلها حجة قط.
بيد أني أراه إسنادا يحتاج إلى بحث دقيق. ولأئمة الحديث كلام فيه وفي بعض رجاله. وقد تتبعت ما قالوا وما يدعو إليه بحثه، ما استطعت، وبدا لي فيه رأي، أرجو أن يكون صوابًا، إن شاء الله. وما توفيقي إلا بالله:
أما شيخ الطبري، وهو "موسى بن هارون الهمداني": فما وجدت له ترجمة، ولا ذكرًا في شيء مما بين يدي من المراجع، إلا ما يرويه عنه الطبري أيضًا في تاريخه، وهو أكثر من خمسين موضعًا في الجزئين الأول والثاني منه. وما بنا حاجة إلى ترجمته من جهة الجرح والتعديل، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد، معروف عند أهل العلم بالحديث. وما هو إلا رواية كتاب، لا رواية حديث بعينه.
"وعمرو بن حماد": هو عمرو بن حماد بن طلحة القناد، وقد ينسب إلى جده، فيقال عمرو بن طلحة، وهو ثقة، روى عنه مسلم في صحيحه، وترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 285، وقال:"وكان ثقة إن شاء الله" مات سنة 222. وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 228، وروى عن أبيه ويحيى بن معين أنهما قالا فيه: "صدوق".
أسباط بن نصر الهمداني: مختلف فيه، وضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات: 410، ةترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 53 فلم يذكر فيه جرحًا، وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 332، وروى عن يحيى بن معين قال:"أسباط بن نصر ثقة". وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند، في الحديث 1286.
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي: هو السدي الكبير، قرشي بالولاء، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة، من بني عبد مناف، كما نص على ذلك البخاري في تاريخيه: الصغير: 141 - 142، والكبير 1 / 1 / 361، وهو تابعي، سمع أنسًا، كما نص على ذلك البخاري أيضًا، وروى عن غيره من الصحابة، وعن كثير من التابعين. وهو ثقة. أخرج له مسلم في صحيحه، وثقه أحمد بن حنبل، فيما روى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 184، وروى أيضًا عن أحمد، قال:"قال لي يحيى بن معين يومًا عند عبد الرحمن بن مهدي: السدي ضعيف، فغضب عبد الرحمن، وكره ما قال": وفي الميزان والتهذيب "أن الشعبي قيل له: إن السدي قد أعطي حظًا من علم القرآن، فقال: قد أعطي حظًا من جهل بالقرآن! ". وعندي أن هذه الكلمة من الشعبي قد تكون أساسا لقول كل من تكلم في السدي بغير حق. ولذلك لم يعبأ البخاري بهذا القول من الشعبي، ولم يروه، بل روى في الكبير عن مسدد عن يحيى قال:" سمعت ابن أبي خالد يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي". وروى في تاريخيه عن ابن المديني عن يحيى، وهو القطان، قال:"ما رأيت أحدًا يذكر السدي إلا بخير، وما تركه أحد". وفي التهذيب: "قال العجلي: ثقة عالم بالتفسير راوية له". وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند 807. وتوفي السدي سنة 127.
و"السدي": بضم السين وتشديد الدال المهملتين، نسبة إلى "السدة"، وهي الباب، لأنه كان يجلس إلى سدة الجامع بالكوفة، ويبيع بها المقانع.
أبو مالك: هو الغفاري، واسمه غزوان. وهو تابعي كوفي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 108، وابن سعد في الطبقات 6: 206، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 2 / 55، وروى توثيقه يحيى بن معين.
أبو صالح: هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب، واسمه باذام، ويقال باذان. وهو تابعي ثقة، رجحنا توثيقه في شرح المسند 2030، وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 144، وروى عن محمد بن بشار، قال:"ترك ابن مهدي حديث أبي صالح". وكذلك روى ابن أبي حاتم في ترجمته في الجرح والتعديل 1 / 1 / 431 - 432 عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي. ولكنه أيضًا عن يحيى بن سعيد القطان، قال:" لم أرَ أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان". وروى أيضًا عن يحيى بن معين، قال:" أبو صالح مولى أم هانئ ليس به بأس، فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه، ومرة عن أبي صالح، ومرة عن أبي صالح عن ابن عباس". يعني بهذا أن الطعن فيما يروي عنه هو في رواية الكلبي، كما هو ظاهر.
هذا عن القسم الأول من هذا الإسناد. فإنه في حقيقته إسنادان أو ثلاثة. أولهما هذا المتصل بابن عباس.
والقسم الثاني، أو الإسناد الثاني:"وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود". والذي يروي عن مرة الهمداني: هو السدي نفسه.
ومرة: هو ابن شراحيل الهمداني الكوفي، وهو تابعي ثقة، من كبار التابعين، ليس فيه خلاف بينهم.
والقسم الثالث، أو الإسناد الثالث:"وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وهذا أيضًا من رواية السدي نفسه عن ناس من الصحابة.
فالسدي يروي هذه التفاسير لآيات من القرآن: عن اثنين من التابعين عن ابن عباس، وعن تابعي واحد عن ابن مسعود، ومن رواية نفسه عن ناس من الصحابة.
وللعلماء الأئمة الأقدمين كلام في هذا التفسير، بهذه الأسانيد، قد يوهم أنه من تأليف من دون السدي من الرواة عنه، إلا أني استيقنت بعدُ، أنه كتاب ألفه السدي.
فمن ذلك قول ابن سعد في ترجمة "عمرو بن حماد القناد" 6: 285: "صاحب تفسير أسباط بن نصر عن السدي". وقال في ترجمة "أسباط بن نصر" 6: 261: "وكان راوية السدي، روى عنه التفسير". وقال قبل ذلك في ترجمة "السدي" 6: 225: "إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، صاحب التفسير". وقال قبل ذلك أيضًا، في ترجمة "أبي مالك الغفاري" 6: 206: "أبو مالك الغفاري صاحب التفسير، وكان قليل الحديث".
ولكن الذي يرجح أنه كتاب ألفه السدي، جمع فيه التفسير، بهذه الطرق الثلاث، قول أحمد بن حنبل في التهذيب 1: 314، في ترجمة السدي:"إنه ليحسن الحديث، إلا أن هذا التفسير الذي يجئ به، قد جعل له إسنادًا، واستكلفه". وقول الحافظ في التهذيب أيضًا 1: 315: "قد أخرج الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما، في تفاسيرهم، تفسير السدي، مفرقًا في السور، من طريق أسباط بن نصر عنه".
وقول السيوطي في الإتقان 2: 224 فيما نقل عن الخليل في الإرشاد: "وتفسير إسماعيل السدي، يورده بأسانيد إلى ابن مسعود وابن عباس. وروى عن السدي الأئمة، مثل الثوري وشعبة. ولكن التفسير الذي جمعه، رواه أسباط بن نصر. وأسباط لم يتفقوا عليه. غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي". ثم قال السيوطي: "وتفسير السدي، [الذي] أشار إليه، يورد منه ابن جرير كثيرًا، من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، و [عن] ناس من الصحابة. هكذا. ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا، لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد. والحاكم يخرج منه في مستدركه أشياء، ويصححه، لكن من طريق مرة عن ابن مسعود وناس، فقط، دون الطريق الأول، وقد قال ابن كثير: إن هذا الإسناد يروي به السدي أشياء فيها غرابة".
وأول ما نشير إليه في هذه الأقوال: التناقض بين قولي الحافظ ابن حجر والسيوطي، في أن ابن أبي حاتم أخرج تفسير السدي مفرقًا في تفسيره، كما صنع الطبري، في نقل الحافظ، وأنه أعرض عنه، في نقل السيوطي. ولست أستطيع الجزم في ذلك بشيء، إذ لم أرَ تفسير ابن أبي حاتم. ولكني أميل إلى ترجيح نقل ابن حجر، بأنه أكثر تثبتًا ودقة في النقل من السيوطي.
ثم قد صدق السيوطي فيما نقل عن الحاكم. فإنه يروي بعض هذا التفسير في المستدرك، بإسناده، إلى أحمد بن نصر:"حدثنا عمرو بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". ثم يصححه على شرط مسلم، ويوافقه الذهبي في تلخيصه. من ذلك في المستدرك 2: 258، 260، 273، 321.
والحاكم في ذلك على صواب، فإن مسلمًا أخرج لجميع رجال هذا الإسناد. من عمرو بن حماد بن طلحة القناد إلى مرة الهمداني. ولم يخرج لأبي صالح باذام ولا لأبي مالك الغفاري، في القسم الأول من الإسناد الذي روى به السدي تفاسيره.
أما كلمة الإمام أحمد بن حنبل في السدي "إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به، قد جعل له إسنادًا واستكلفه" فإنه لا يريد ما قد يفهم من ظاهرها: أنه اصطنع إسنادا لا أصل له؛ إذ لو كان ذلك، لكان -عنده- كذابًا وضاعًا للرواية. ولكنه يريد -فيما أرى، والله أعلم- أنه جمع هذه التفاسير، من روايته عن هؤلاء الناس: عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، ثم ساقها كلها مفصلة، على الآيات التي ورد فيها شيء من التفسير، عن هذا أو ذاك أو أولئك، وجعل لها كلها هذا الإسناد، وتكلف أن يسوقها به مساقًا واحدًا.
أعني: أنه جمع مفرق هذه التفاسير في كتاب واحد، جعل له في أوله هذه الأسانيد. يريد بها أن ما رواه من التفاسير في هذا الكتاب، لا يخرج عن هذه الأسانيد. ولا أكاد أعقل أنه يروي كل حرف من هذه التفاسير عنهم جميعا. فهو كتاب مؤلف في التفسير، مرجع فيه إلى الرواية عن هؤلاء، في الجملة، لا في التفصيل.
إنما الذي أوقع الناس في هذه الشبهة، تفريق هذه التفاسير في مواضعها، مثل صنيع الطبري بين أيدينا، ومثل صنيع ابن أبي حاتم، فيما نقل الحافظ ابن حجر، ومثل صنيع الحاكم في المستدرك. فأنا أكاد أجزم أن هذا التفريق خطأ منهم، لأنه يوهم القارئ أن كل حرف من هذه التفاسير مروي بهذه الأسانيد كلها، لأنهم يسوقونها كاملة عند كل إسناد، والحاكم يختار منها إسنادًا واحدًا يذكره عند كل تفسير منها يريد روايته. وقد يكون ما رواه الحاكم -مثلا- بالإسناد إلى ابن مسعود، ليس مما روى السدي عن ابن مسعود نصًا. بل لعله مما رواه من تفسير ابن عباس، او مما رواه ناس من الصحابة، روى عن كل واحد منهم شيئًا، فأسند الجملة، ولم يسند التفاصيل.
ولم يكن السدي ببدع في ذلك، ولا يكون هذا جرحًا فيه ولا قدحًا. إنما يريد إسناد هذه التفاسير إلى الصحابة، بعضها عن ابن عباس، وبعضها عن ابن مسعود، وبعضها عن غيرهما منهم. وقد صنع غيره من حفاظ الحديث وأئمته نحوًا مما صنع، فما كان ذلك بمطعن فيهم، بل تقبلها الحفاظ بعدهم، وأخرجوها في دواوينهم. ويحضرني الآن من ذلك صنيع معاصره: ابن شهاب الزهري الإمام. فقد روى قصة حديث الإفك، فقال:"أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضا "، إلخ.
فذكر الحديث بطوله. وهو في صحيح مسلم 2: 333 - 335. وسيأتي في تفسير الطبري (18: 71 - 74 بولاق) . ورواه الإمام أحمد والبخاري في صحيحه، كما في تفسير ابن كثير 6: 68 - 73. ثم قال ابن كثير: " وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري كذلك، قال: " وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة، وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة ". وإسناد ابن إسحاق الأخير في الطبري أيضًا. والإسنادان كلاهما رواهما ابن إسحاق عن الزهري، في السيرة (ص 731 من سيرة ابن هشام) .
والمثل على ذلك كثيرة، يعسر الآن تتبعها.
وقد أفادنا هذا البحث أن تفسير السدي من أوائل الكتب التي ألفت في رواية الأحاديث والآثار.
وهو من طبقة عالية، من طبقة شيوخ مالك من التابعين.
وبعد: فأما هذا الخبر بعينه، فقد رواه الحاكم في المستدرك 2: 258، بالإسناد الذي أشرنا إليه، من رواية السدي عن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة. وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". وافقه الذهبي. ونقله السيوطي في الدر المنثور 1: 14 عن ابن جرير والحاكم، وصححه، عن ابن مسعود وناس من الصحابة ".
مَعمر، عن قتادة في قوله:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال: يوم يَدينُ الله العبادَ بأعمالهم. (1)
170 -
وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، (مالك يوم الدين) قال: يوم يُدان الناس بالحساب. (2)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} .
قال أبو جعفر: وتأويل قوله (إيَّاكَ نعبُدُ) : لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك.
171 -
كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريلُ لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، إياكَ نُوحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك (3) .
(1) الأثر 169 - نقله السيوطي 1: 14 ونسبه لعبد الرزاق وعبد بن حميد. وهو ظاهر في رواية الطبري هذه - أنه من مصنف عبد الرزاق. ونسبه الشوكاني 1: 12 لهما وللطبري.
(2)
الأثر 170 - مضى الكلام على هذا الإسناد: 144. وأما لفظه فلم يذكره أحد منهم.
(3)
الخبر 171 - إسناده ضعيف، بيناه في:137. وهذا الخبر والذي بعده 172 جمعهما السيوطي 1: 14، ونسبهما أيضًا لابن أبي حاتم.
وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نَخشع ونذلّ ونستكينُ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونَخاف- وإن كان الرّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة- لأنّ العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبَّدًا. ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد:
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت
…
وَظِيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ (1)
يعني بالموْر: الطريق. وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء (2) . ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد. ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه. والشواهد على ذلك -من أشعار العرب وكلامها- أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفّق لفهمه إن شاء الله تعالى.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : وإياك رَبنا نستعين على عبادتنا إيّاك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها -لا أحدًا سواك، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أمورِه معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة.
172 -
كالذي حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد،
(1) ديوان الستة الجاهليين: 31. يصف ناقته. تباري: تجاريها وتسابقها. والعتاق جمع عتيق: وهو الكريم المعرق في كرم الأصل. وناجيات: مسرعات في السير، من النجاء، وهو سرعة السير. والوظيف: من رسغي البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه. وعنى بالوظيف هنا: الخف.
(2)
في المخطوطة: "الموطن"، وهو قريب المعنى.
قال: حدثني بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس:(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قال: إياك نستَعِينُ على طاعتك وعلى أمورنا كلها (1) .
فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عبادَه بأن يسألوه المعونةَ على طاعته؟ أوَ جائزٌ، وقد أمرهم بطاعته، أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك مُعانٌ، وذلك هو الطاعة. فما وجهُ مسألة العبد ربَّه ما قد أعطاه إياه؟
قيل: إن تأويلَ ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما الداعي ربَّه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عُمره على ما كلّفه من طاعته، دون ما قد تَقضَّى ومَضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره. وجازت مسألةُ العبد ربَّه ذلك، لأن إعطاء الله عبدَه ذلك -مع تمكينه جوارحَه لأداء ما كلَّفه من طاعته، وافترض عليه من فرائضه، فضلٌ منه جل ثناؤه تفضّل به عليه، ولُطْف منه لَطَف له فيه. وليس في تَركه التفضُّلَ على بعض عبيده بالتوفيق -مع اشتغال عبده بمعصيته، وانصرافه عن مَحبته، ولا في بَسطه فضلَه على بعضهم، مع إجهاد العبد نفسه في مَحبته، ومسارعته إلى طاعته -فسادٌ في تدبير، ولا جَور في حكم، فيجوز أن يجهلَ جاهل موضع حُكم الله في أمرِه عبدَه بمسألته عَونَه على طاعته (2) .
وفي أمر الله جل ثناؤه عبادَه أن يقولوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، بمعنى مسألتهم إياه المعونةَ على العبادة، أدلُّ الدليل على فساد قول القائلين بالتَّفويض من أهل القدر (3) ، الذين أحالوا أن يأمُرَ الله أحدًا من عبيده بأمرٍ، أو يكلّفه
(1) الخبر 172 - هو بالإسناد الضعيف قبله. وأشرنا إليه هناك.
(2)
في المطبوعة: "حكم الله وأمره عبده"، وفي المخطوطة:"حكم الله امره" بغير واو. والذي أثبتناه أصوب. والحكم: الحكمة، كما مر مرارًا
(3)
أهل القدر: هم نفاة القدر لا مثبتوه. والقائلون بالتفويض هم القدرية والمعتزلة والإمامية. يزعمون أن الأمر فوض إلى الإنسان (أي رد إليه) ، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان أو معصية، وهو خالق لأفعاله، والاختيار بيده.
فرضَ عمل، إلا بعدَ إعطائه المعونة على فعلِه وعلى تركِه. ولو كانَ الذي قالوا من ذلك كما قالوا، لبطلت الرَّغبة إلى الله في المعونة على طاعته. إذ كان -على قولهم، مع وجود الأمر والنهي والتكليف- حقًّا واجبًا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبدُه أو تركَ مسألة ذلك. بل تَرك إعطائه ذلك عندهم منه جَورٌ. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا، لكان القائل:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، إنما يسأل رَبَّه أن لا يجور.
وفي إجماع أهل الإسلام جميعًا -على تصويب قول القائل: "اللهم إنا نستعينك"، وتخطئَتِهم قول القائل:"اللهم لا تَجُرْ علينا"- دليل واضحٌ على خطأ ما قال الذين وصفتُ قولهم. إذْ كان تأويلُ قول القائل عندهم: "اللهم إنّا نستعينك- اللهم لا تترك مَعونتنا التي تركُكَها جَوْرٌ منك.
فإن قال قائل: وكيف قيل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، فقُدِّم الخبرُ عن العِبادة، وأخِّرتْ مسألةُ المعونة عليها بعدَها؟ وإنما تكون العِبادة بالمعونة، فمسألةُ المعونة كانت أحقَّّ بالتقديم قبلَ المُعَان عليه من العمل والعبادةُ بها.
قيل: لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه. كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها:"قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ "، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي"، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله: اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ.
قال أبو جعفر: وقد ظنّ بعض أهل الغفلة أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرؤ القيس:
ولَوْ أَنّ مَا أسْعَى لأَدْنَى مَعِيشةٍ
…
كَفاني، ولم أطلُبْ، قليلٌ من المالِ (1)
يريد بذلك: كفاني قليلٌ من المال ولم أطلب كثيرًا. وذلك -من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرئ القيس- بمعْزِل. من أجل أنّه قد يكفيه القليلُ من المال ويطلُب الكثيرَ، فليس وُجودُ ما يكفيه منه بموجبٍ له تركَ طلب الكثير، فيكونَ نظيرَ العبادة التي بوجُودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وُجُودها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالا على الآخر، فيعتدلَ في صحة الكلام تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبه، أن يكونَ موضوعًا في درجته ومرتَّبًا في مرتَبتِه.
فإن قال: فما وجْه تكراره: "إياك" مع قوله: "نستعين"، وقد تقدَّم ذلك قَبْل "نعبد"؟ وهلا قيل:"إياك نعبُدُ ونستعين"، إذ كان المخبَرُ عنه أنه المعبودُ، هو المخبر عنه أنه المستعانُ؟
قيل له: إن الكاف التي مع " إيَّا "، هي الكاف التي كانت تصل بالفعل -أعني بقوله:"نعبد" -لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعل. وهي كنايةُ اسم المخاطبِ المنصوب بالفعل، فكُثِّرت بـ "إيّا " متقدِّمةً، إذْ كان الأسماء إذا انفردتْ بأنفسِها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد.
فلمّا كانت الكاف من " إياكَ " هي كنايةَ اسم المخاطَب التي كانت تكون كافًا وحدها متصلةً بالفعل إذا كانتْ بعد الفعل، ثم كان حظُّها أن تعادَ مع كلّ فعل اتصلتْ به، فيقال:"اللهم إنا نعبدكَ ونستعينكَ ونحمدكَ ونشكرك"، وكان ذلك أفصحَ في كلام العرب من أن يقال:"اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد"- كان كذلك، إذا قدِّمت كنايةُ اسم المخاطب قبل الفعل موصولةً بـ "إيّا "، كان الأفصح إعادَتها مع كل فعل. كما كان الفصيحُ من الكلام إعادَتها مع
(1) ديوانه 1: 71.
كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلةً به، وإن كان تركُ إعادتها جائزًا.
وقد ظنّ بعضُ من لم يُنعم النظرَ (1) أنّ إعادة " إياك " مع " نستعين "، بعد تقدّمها في قوله:"إياك نستعين"، بمعنى قول عدي بن زيد العِبَاديّ:
وجَاعِل الشَّمس مِصْرًا لا خَفَاءَ بِه
…
بَيْن النَّهارِ وَبيْنَ اللَّيل قد فَصَلا (2)
وكقول أعشى هَمْدان:
بَيْنَ الأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ باذخٌ
…
بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وللمَولُودِ (3)
وذلك من قائله جهل، من أجل أن حظ "إيّاك" أن تكون مكررة مع كل فعل، لما وصفنا آنفًا من العلة، وليس ذلك حُكم " بين " لأنها لا تكون -إذ اقتضت اثنين- إلا تكريرًا إذا أعيدت، إذْ كانت لا تنفَرد بالواحد. وأنها لو أفْرِدت بأحد الاسمين، في حال اقتضائها اثنين، كان الكلام كالمستحيل. وذلك أنّ قائلا لو قال:"الشمس قد فَصَلت بين النهار"، لكان من الكلام خَلْفًا (4) لنُقصان الكلام عما به الحاجة إليه، من تمامه الذي يقتضيه " بين ".
ولو قال قائل: " اللهمّ إياك نعبد "، لكان ذلك كلامًا تامًّا. فكان معلومًا بذلك أنّ حاجةَ كلِّ كلمةٍ -كانت نظيرةَ " إياك نعبد " - إلى " إياك " كحاجة
(1) في المطبوعة: "لم يمعن النظر"، بدلوها، كما فعلوا في ص: 55، تعليق:3.
(2)
في اللسان (مصر) منسوبًا إلى أمية بن أبي الصلت. واستدركه ابن بري ونسبه لعدي بن زيد. والمصر: الحاجز والحد بين الشيئين. يقول: جعل الشمس حدا وعلامة بين الليل والنهار.
(3)
ديوان الأعشين: 323، والأغاني 6: 46، 61. وأعشى همدان هو عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أبو مصبح، كان أحد الفقهاء القراء، ثم ترك ذلك وقال الشعر. يمدح عبد الحمن بن الأشعث بن قيس الكندي، وكان خرج على الحجاج، فخرج معه الفقهاء والقراء، فلما أسر الحجاج الأعشى، قال له: ألست القائل: وأنشده البيت - والله لا تبخبخ بعدها أبدًا! وقتله. الأشج: هو الأشعث والد عبد الحمن، وقيس جده. وبخ بخ: كلمة للتعظيم والتفخيم. وهذا البيت والذي سبقه شاهدان على صحة تكرار "بين"، مع غير الضمير المتصل، ومثلهما كثير. وأهل عصرنا يخطئون من يقوله، وهم في شرك الخطأ.
(4)
الخلف (بفتح فسكون) : الرديء من القول. يقال هذا خلف من القول، أي رديء. وفي المثل:"سكت ألفًا ونطق خلفًا"، يقال للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ. أي سكت دهرًا طويلًا، ثم تكلم بخطأ. كنى بالألف عن الزمن الطويل، ألف ساعة مثلا.
" نُعْبد " إليها (1) وأنّ الصواب أن تكونَ معها " إياك "، إذْ كانت كل كلمة منها جملةَ خبرِ مبتدأ، وبيّنًا حُكم مخالفة ذلك حُكم " بين " فيما وَفّق بينهما الذي وصفنا قوله.
* * *
القول في تأويل قوله: {اهْدِنَا} .
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، في هذا الموضع عندنا: وَفِّقْنا للثبات عليه، كما رُوي ذلك عن ابن عباس:-
173 -
حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه: " قل، يا محمد، اهدنا الصراط المستقيمَ ". يقول: ألهمنا الطريق الهادي (2) .
وإلهامه إياه ذلك، هو توفيقه له، كالذي قلنا في تأويله. ومعناه نظيرُ معنى قوله:" إياك نستعين "، في أنه مَسألةُ العبد ربَّه التوفيقَ للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمَره به ونهاه عنه، فيما يَستَقبِلُ من عُمُره، دون ما قد مضى من أعماله، وتقضَّى فيما سَلف من عُمُره. كما في قوله:"إياك نستعين"، مسألةٌ منه ربَّه المعونةَ على أداء ما قد كلَّفه من طاعته، فيما بقي من عُمُره.
فكانَ معنى الكلام: اللهمّ إياك نعبدُ وحدَك لا شريك لك، مخلصين لك العبادةَ دونَ ما سِواك من الآلهة والأوثان، فأعِنَّا على عبادتك، ووفِّقنا لما
(1) يعني أن حاجة الأولى منهما كحاجة الثانية، فلذلك وجب تكرارها. سياق العبارة:"فكان معلومًا أن حاجة كل كلمة. . . وكان معلومًا أم الصواب أن تكون معها. . . وكان بينًا. . . " إلى آخر الفقرة.
(2)
يأتي بتمامه وتخريجه برقم 179.
وفَّقت له مَن أنعمتَ عليه من أنبيائك وأهل طاعتك، من السبيل والمنهاج.
فإن قال قائل: وأنَّى وَجدتَ الهدايةَ في كلام العرب بمعنى التَّوفيق؟
قيل له: ذلك في كلامها أكثرُ وأظهر من أن يُحصى عددُ ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد. فمن ذلك قول الشاعر:
لا تَحْرِمَنِّي هَدَاكَ الله مَسْألتِي
…
وَلا أكُونَنْ كمن أوْدَى به السَّفَرُ (1)
يعنى به: وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر:
ولا تُعْجِلَنِّي هدَاَك المليكُ
…
فإنّ لكلِّ مَقامٍ مَقَالا (2)
فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري.
ومنه قول الله جل ثناؤه: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) في غير آيه من تنزيله. وقد عُلم بذلك، أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه؟ ولكنه عَنى جلّ وعزّ أنه لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم.
وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله: (اهدِنا) : زدْنا هدايةٍ.
وليس يخلُو هذا القولُ من أحد أمرين: إما أن يكون ظنَّ قائلُه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بمسألة الزيادة في البيان، أو الزيادةَ في المعونة والتوفيق.
فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيان، فذلك ما لا وجه له؛ لأن الله جلّ ثناؤه لا يكلِّف عبدًا فرضًا من فرائضه، إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان مَعنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ، لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه، وذلك من الدعاء خَلفٌ (3) ، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبيَّنًا
(1) لم أعرف نسبة البيت، وأخشى أن يكون من أبيات ودقة الأسدي يقولها لمعن بن زائدة. أمالي المرتضى 1:160.
(2)
نسبه المفضل بن سلمة في الفاخر: 253، وقال:"أول من قال ذلك طرفة بن العبد، في شعر يعتذر فيه إلى عمرو بن هند"، وليس في ديوانه، وانظر أمثال الميداني 2:125.
(3)
أي رديء من القول. انظر ما سلف ص 165 رقم: 1.
لمن فرضَه عليه. أو يكون أمِر أن يدعوَ ربَّه أن يفرض عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها.
وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك، ما يوضِّح عن أن معنى:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، غير معنى: بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك.
أو يكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدُث.
وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تقضَّى من عمله (1) ، ما يُعلِمُ أنّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث من عمله. وإذْ كانَ ذلك كذلك، صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك: من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه، فيما يَستقبل من عُمُره.
وفي صحة ذلك، فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنّ كل مأمور بأمرٍ أو مكلَّف فرضًا، فقد أعطي من المعونة عليه، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه (2) . لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك، لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . وفي صحة معنى ذلك، على ما بيَّنا، فسادُ قولهم.
وقد زعم بعضُهم أنّ معنى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) : أسْلِكنا طريق الجنة في المعاد، أيْ قدِّمنا له وامض بنا إليه، كما قال جلّ ثناؤه:(فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)[سورة الصافات: 23] ، أي أدخلوهم النار، كما تُهْدَى المرأة إلى زوجها، يُعني بذلك أنها تُدخَل إليه، وكما تُهدَى الهديَّة إلى الرجل، وكما تَهدِي الساقَ القدمُ، نظير قَول طَرفة بن العبد:
(1) ارتفع الأمر: زال وذهب، كأنه كان موضوعا حاضرا ثم ارتفع. ومنه: ارتفع الخلاف بينهما.
(2)
انظر ص: 162 التعليق رقم 2.
لَعبتْ بَعْدِي السُّيُولُ بهِ
…
وجَرَى في رَوْنَقٍ رِهمُهْ (1)
لِلفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ
…
حَيْثُ تَهْدِي سَاقَه قَدَمُهْ (2)
أي تَرِدُ به الموارد.
وفي قول الله جل ثناؤه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل، مع شهادة الحجة من المفسِّرين على تخطئته. وذلك أنّ جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمِعُون على أنّ معنى " الصراط " في هذا الموضع، غيرُ المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله:" إياك نستعينُ" مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادته. فكذلك قوله " اهْدِنا " إنما هو مسألةُ الثباتِ على الهدى فيما بقي من عُمُره.
والعربُ تقول: هديتُ فلانًا الطريقَ، وهَديتُه للطريق، وهديتُه إلى الطريق، إذا أرشدتَه إليه وسدَّدته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال الله جلّ ثناؤه:(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)[سورة الأعراف: 43]، وقال في موضع آخر:(اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[سورة النحل: 121]، وقال:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) .
وكل ذلك فاش في منطقها، موجودٌ في كلامها، من ذلك قول الشاعر:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ،
…
رَبَّ العِباد، إليهِ الوَجْهُ والعَمَلُ (3)
(1) ديوان الستة الجاهليين: 234، 237، والبيت الأول في فاتحة الشعر، والأخير خاتمته. والضمير في قوله:"لعبت" للربع، في أبيات سلفت. ورونق السيف والشباب والنبات: صفاؤه وحسنه وماؤه. ويروى: "في ريق". وريق الشباب: أوله والتماعه ونضرته. وعنى نباتًا نضيرًا كأنه يقول: في ذي رنق، أو في ذي ريق. والرهم -بكسر الراء- جمع رهمة: وهي المطرة الضعيفة المتتابعة، وهي مكرمة للنبات. يقول: أعشبت الأرض، وجرى ماء السماء في النبت يترقرق. والضمير في "رهمه" عائد على الغيث، غائب كمذكور.
(2)
يقول: حيث سار الفتى عاش بعقله وتدبيره واجتهاده.
(3)
يأتي في تفسير آية سورة آل عمران: 121، وآية سورة القصص:88. وسيبويه 1: 17، والخزانة 1: 486، وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. قال الشنتمري: "أراد من ذنب، فحذف الجار وأوصل الفعل فنصب" والذنب هنا اسم جنس بمعنى الجمع. فلذلك قال: "لست محصيه". والوجه: القصد والمراد، وهو بمعنى التوجه".
يريد: أستغفر الله لذنْب، كما قال جل ثناؤه:(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)[سورة غافر: 55] .
ومنه قول نابغة بني ذُبْيان:
فَيَصِيدُنَا العَيْرَ المُدِلَّ بِحُضْرِهِ
…
قَبْلَ الوَنَى وَالأَشْعَبَ النَبَّاحَا (1)
يريد: فيصيدُ لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية.
* * *
القول في تأويل قوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
قال أبو جعفر: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن "الصراط المستقيم"، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي:
أميرُ المؤمنين عَلَى صِرَاطٍ
…
إذا اعوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقيمِ (2)
يريد على طريق الحق. ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب:
صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بالخَيْلِ حَتّى
…
تركْنَاها أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ (3)
(1) البيت ليس في ديوانه. ومن القصيدة أبيات فيه: 23، (مطبوعة محمد جمال)، والمجتنى لابن دريد: 23، يصف فرسًا. والعير: حمار الوحش. والحضر: العدو الشديد، وحمار الوحش شديد العدو. والونى: التعب والفترة في العدو أو العمل. والأشعب: الظبي تفرق قرناه فانشعبا وتباينا بينونة شديدة. ونبح الكلب والظبي والتيس ينبح نباحًا، فهو نباح، إذا كثر صياحه، من المرح والنشاط. والظبي إذا أسن ونبتت لقرونه شعب، نبح (الحيوان 1: 349) . يصف فرسه بشدة العدو، يلحق العير المدل بحضره، والظبي المستحكم السريع، فيصيدها قبل أن يناله تعب.
(2)
ديوانه: 507، يمدح هشام بن عبد الملك. والموارد جمع موردة: وهي الطرق إلى الماء. يريد الطرق التي يسلكها الناس إلى أغراضهم وحاجاتهم، كما يسلكون الموارد إلى الماء.
(3)
ليس في ديوانه، ونسبه القرطبي في تفسيره 1: 128 لعامر بن الطفيل، وليس في ديوانه، فإن يكن هذليا، فلعله من شعر المتنخل، وله قصيدة في ديوان الهذليين 2: 18 - 28، على هذه القافية. ولعمرو بن معد يكرب أبيات مثلها رواها القالي في النوادر 3:191.
ومنه قول الراجز:
* فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّراطِ القَاصدِ (1) *
والشواهد على ذلك أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرنا غنًى عما تركنا.
ثم تستعيرُ العرب "الصراط" فتستعمله في كل قولٍ وعمل وُصِف باستقامة أو اعوجاج، فتصفُ المستقيمَ باستقامته، والمعوجَّ باعوجاجه.
والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أن يكونا معنيًّا به: وَفّقنا للثبات على ما ارتضيتَه ووَفّقتَ له مَنْ أنعمتَ عليه من عبادِك، من قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصِّراط المستقيم. لأن من وُفّق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيِّين والصديقين والشهداء، فقد وُفّق للإسلام، وتصديقِ الرسلِ، والتمسكِ بالكتاب، والعملِ بما أمر الله به، والانزجار عمّا زَجره عنه، واتّباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وكلِّ عبدٍ لله صالحٍ، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
وقد اختلفتْ تراجمةُ القرآن في المعنيِّ بالصراط المستقيم (2) . يشمل معاني جميعهم في ذلك، ما اخترنا من التأويل فيه.
ومما قالته في ذلك، ما رُوي عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال، وذكر القرآن، فقال: هو الصراط المستقيم.
174 -
حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا حسين الجُعْفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
(1) رواه القرطبي في تفسيره 1: 128 "الصراط الواضح".
(2)
تراجمة القرآن: جمع ترجمان: وأراد المفسرين، وانظر ما مضى: 70 تعليق: 1
(3)
الحديث 174 - إسناده ضعيف جدًا. موسى بن عبد الرحمن المسروقي: ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، وغيرهم. مات سنة 258، مترجم في التهذيب. حسين الجعفي: هو حسين بن علي بن الوليد، ثقة معروف، روى عنه أحمد، وابن معين، وغيرهم، بل روى عنه ابن عيينة وهو أكبر منه. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. حمزة الزيات: هو حمزة بن حبيب، القارئ المعروف. وتكلم في رواية بعضهم، والحق أنه ثقة، وأخرج له مسلم في صحيحه. أبو المختار الطائي: قيل اسمه: سعد، وهو مجهول، جهله المديني وأبو زرعة. ابن أخي الحارث الأعور: أشد جهالة من ذلك، لم يسم هو ولا أبوه. عمه الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني، وهو ضعيف جدا. وقد اختلف فيه العلماء اختلافا كثيرا، حتى وصفه الشعبي وغيره بأنه "كان كذابًا"، وقد رجحت في شرح الحديث 565 وغيره من المسند أنه ضعيف جدا.
وأما متن الحديث: فقد رواه -بمعناه- ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة عن يحيى بن يمان عن حمزة الزيات، بهذا الإسناد، فيما نقل ابن كثير 1: 50 ووقع فيه تحريف الإسناد هناك. وهو جزء من حديث طويل، في فضل القرآن - رواه الترمذي (4: 51 - 52 من تحفة الأحوذي) ، عن عبد بن حميد عن حسين الجعفي، بهذا الإسناد. وقال الترمذي:"هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال". كذلك رواه الدارمي في سننه 2: 435 عن محمد بن يزيد الرفاعي عن حسين الجعفي. ونقله السيوطي 1: 15 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في شعب الإيمان. وأشار إليه الذهبي في الميزان 3: 380 في ترجمة أبي المختار الطائي، قال:"حديثه في فضائل القرآن منكر". ونقله ابن كثير في الفضائل: 14 - 15 عن الترمذي، ونقل تضعيفه إياه، ثم قال:"لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور. فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث، فإنه إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث - فلا. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح ".
وسيأتي 175، 176 بإسنادين آخرين، موقوفًا، من كلام علي رضي الله عنه.
ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها ابن كثير- هي حديث أحمد في المسند: 565. عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق. وقد ضعفنا إسناده هناك، بالحارث الأعور، وبانقطاعه بين ابن إسحاق ومحمد بن كعب. وليس فيه الحرف الذي هنا، في تفسير "الصراط المستقيم".
175 -
وحُدِّثْتُ عن إسماعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سَلمة، عن أبي سِنان، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي البَخْتريّ، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله (1) .
(1) الحديث 175 - هو الحديث السابق بإسناد آخر. وهذا الإسناد جيد إلى الحارث الأعور، ثم يضعف به الحديث جدا، كما قلنا من قبل.
ومحمد بن سلمة: هو الباهلي الحراني، وهو ثقة، روى عنه أحمد بن حنبل وغيره، وأخرج له مسلم في صحيحه، مات سنة 191. وشيخه أبو سنان: وهو سعيد بن سنان الشيباني، وهو ثقة، ومن تكلم فيه إنما يكون من جهة خطئه بعض الخطأ، وقال أبو داود:"ثقة من رفعاء الناس"، وأخرج له مسلم في الصحيح. وعمرو بن مرة: هو المرادي الجملي، ثقة مأمون بلا خلاف، قال مسعر:"عمرو من معادن الصدق ". وأبو البختري - بفتح الباء الموحدة والتاء المثناة بينهما خاء معجمة ساكنة: هو سعيد بن فيروز الطائي الكوفي، تابعي ثقة معروف.
176 -
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن أبن أخي الحارث الأعور، عن الحارث، عن عليّ، قال:" الصِّراطُ المستقيم: كتاب الله تعالى ذكره (1) ".
177 -
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان -ح- وحدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال. حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن منصور عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: " الصِّراطُ المستقيم" كتابُ الله (2) ".
178 -
حدثني محمود بن خِدَاشِ الطالَقاني، قال: حدثنا حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسِي، قال: حدثنا علي والحسن ابنا صالح، جميعًا، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد الله:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: الإسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والأرض (3) .
(1) الخبر 176 - هو الحديث السابق بالإسنادين قبله، بمعناه. ولكنه هنا موقوف على ابن أبي طالب. والإسناد إليه منهار انهيار الإسناد 174، من أجل الحارث الأعور وابن أخيه. أما من دونهما، فأبو المختار الطائي وحمزة مضيا في 174، وأبو أحمد الزبيري وأحمد بن إسحاق مضيا في 159.
(2)
الخبر 177 - هذا موقوف من كلام عبد الله بن مسعود. وقد رواه الطبري بإسنادين إلى سفيان، وهو الثوري. أما أولهما: أحمد بن إسحاق عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري - فإسناده صحيح، لا كلام فيه. وأما ثانيهما: محمد بن حميد الرازي عن مهران، وهو ابن أبي عمر العطار - فقد بينا في الإسناد 11 أن في رواية مهران عن الثوري اضطرابًا، ولكنه هنا تابعه عن روايته حافظ ثقة، هو أبو أحمد الزبيري. وقد رواه الثوري عن منصور، وهو ابن المعتمر الكوفي، وهو ثقة ثبت حجة، لا يختلف فيه أحد. وأبو وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي، من كبار التابعين الثقات، قال ابن معين:"ثقة لا يسأل عن مثله".
وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك 2: 258 من طريق عمر بن سعد أبي داود الحضري عن الثوري، بهذا الإسناد. وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي 1: 15، والشوكاني 1:13.
(3)
الخبر 178 - وهذا موقوف على جابر بن عبد الله. وإسناده صحيح: محمود بن خداش بكسر الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وآخره شين معجمة - الطالقاني: ثقة من أهل الصدق، مات يوم الأربعاء 14 شعبان سنة 250، كما في التاريخ الصغير للبخاري:247. وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي: ثقة ثبت عاقل، روى عنه أحمد وغيره من الحفاظ. والحسن وعلي ابنا صالح بن صالح بن حي: ثقتان، وهما أخوان توأم. ومن تكلم في الحسن تكلم بغير حجة، وقد وثقناه في المسند:2403. وأخاه فيه: 220. وعبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وأمه زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب: تابعي ثقة، ولا حجة لمن تكلم فيه.
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 258 - 259، من طريق أبي نعيم عن الحسن بن صالح -وحده- بهذا الإسناد. وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 1: 50، والسيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13
179 -
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يقول: ألهمنا الطريقَ الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له (1) .
180 -
حدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفُرَات بن السائب، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، في قوله:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: ذلك الإسلام (2) .
181 -
حدثني محمود بن خِدَاش، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكِلابي، عن إسماعيل الأزرق، عن أبي عُمر البزّار، عن ابن الحنفية، في قوله:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العِباد غيرَه (3) .
182 -
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدّثنا عَمرو بن طلحة القنَّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السدِّي -في خبر ذكره- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود -وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: هو الإسلام (4)
183 -
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: الطريق (5) .
184 -
حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآمُلي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية، في قوله:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباه من بعدِه أبو بكر وعمر. قال: فذكرتُ ذلك للحسن، فقال: صدَق أبو العالية ونصح (6)
(1) الحديث 179 - إسناده ضعيف، سبق بيان ضعفه:137. وهذا اللفظ نقله ابن كثير 1: 50 دون إسناد ولا نسبة. ونقله السيوطي 1: 14 مختصرًا، ونسبه للطبري فقط.
(2)
الخبر 180 - إسناده ضعيف جدا، على ما فيه من جهلنا بحال بعض رجاله: فموسى بن سهل الرازي، شيخ الطبري: لم نجزم بأي الرجال هو؟ ولعله " موسى بن سهل بن قادم، ويقال ابن موسى أبو عمر الرملي، نسائي الأصل ". فهو شيخ للطبري مترجم في التهذيب 10: 347، ولكنه لم ينسب "رازيا". وكتب في المخطوطة:"سهل بن موسى"! ولم نجد هذه الترجمة أيضًا، ونرجح أنه خطأ من الناسخ. . ويحيى بن عوف: لم نجد ترجمة بهذا الاسم قط فيما لدينا من مراجع. واما علة الإسناد، فهو "الفرات بن السائب الجزري"، وهو ضعيف جدا، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 130:"تركوه، منكر الحديث"، وكذلك قال الأئمة فيه، وقال ابن حبان في المجروحين (في الورقة 187) : كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، ويأتي بالمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه، ولا كتبة الحديث إلا على سبيل الاختبار". وأما ميمون بن مهران فتابعي ثقة معروف، فقيه حجة.
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 50 مجهلا بلفظ "وقيل: هو الإسلام". ونقله السيوطي 1: 15 منسوبا لابن جريج فقط، على خطأ مطبعي فيه "ابن جريج"!
(3)
الأثر 181 - ابن الحنفية: هو محمد بن علي بن أبي طالب، والحنفية أمه، وهي خولة بنت جعفر من بني حنيفة، عرف بالنسبة إليها. وهذا الإسناد إليه ضعيف: محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي: ثقة من شيوخ أحمد وابن معين. وإسماعيل الأزرق: هو إسماعيل بن سلمان، وهو ضعيف، قال ابن معين:"ليس حديثه بشيء"، وقال ابن نمير والنسائي:"متروك"، وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص 78 رقم 35) :"ينفرد بمناكير يرويها عن المشاهير". وأبو عمر البزار: هو دينار بن عمر الأسدي الكوفي الأعمى، وهو ثقة. والأثر ذكره ابن كثير 1: 51 دون نسبة ولا إسناد.
(4)
الخبر 182 - هذا من تفسير السدي، وقد سبق شرح إسناده 168. وقد نقله ابن كثير 1: 50 والسويطي 1: 15.
(5)
الخبر 183 - نقله السيوطي 1: 14 منسوبا للطبري وابن المنذر. وقد سبق أول هذا الإسناد: 144، وهو هنا منقطع، لأن ابن جريج لم يدرك ابن عباس، إنما يروي عن الرواة عنه.
(6)
الأثر 184 - عبد الله بن كثير أبو صديف الآملي، شيخ الطبري: لم أعرف من هو، ولم أجد له ذكرًا، وأخشى أن يكون فيه تحريف. هاشم بن القاسم: هو ابو النضر - بالنون والصاد المعجمة - الحافظ الخراساني الإمام، شيخ الأئمة: أحمد وابن راهويه وابن المديني وابن معين وغيرهم.
حمزة بن المغيرة بن نشيط - بفتح النون وكسر الشين المعجمة - الكوفي العابد: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 2 / 1 / 44، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 214 - 215، وذكره ابن حبان في الثقات 443، قال:"حمزة بن المغيرة العابد، من أهل الكوفة. يروي عن عاصم الأحول عن أبي العالية (اهدنا الصراط المستقيم) ، قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه. روى عنه أبو النضر هاشم بن القاسم". ووقع هنا: في الأصول "حمزة بن أبي المغيرة". وهو خطأ من الناسخين.
عاصم: هو ابن سليمان الأحول، تابعي ثقة ثبت. أبو العالية: هو الرياحي - بكسر الراء وتخفيف الياء، واسمه: رفيع -بالتصغير- ابن مهران، من كبار التابعين الثقات، مجمع على توثيقه.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 51 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. والسيوطي 1: 15 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن عدي وابن عساكر. وأبو العالية لم يقله من قبل نفسه: فقد رواه الحاكم في المستدرك 2: 259 من طريق أبي النضر بهذا الإسناد إلى "أبي العالية عن ابن عباس". وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. واختصره السيوطي ونسبه للحاكم فقط.
185-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: " اهدنا الصراط المستقي"، قال: الإسلام (1) .
186-
حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، أنّ عبد الرحمن بن جُبير، حدّثه عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا ". والصِّراط: الإسلامُ.
187 -
حدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله (2) .
(1) الأثر 185 - هذا من كلام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد نقله ابن كثير 1: 51 دون نسبة. وعبد الرحمن بن زيد: متأخر، من أتباع التابعين، مات سنة 182. وهو ضعيف جدا، بينت ضعفه في حديث المسند: 5723، ويكفي منه قول ابن خزيمة: "ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، لسوء خفظه، وهو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس من أحلاس الحديث".
(2)
الحديث 186، 187 - رواه الطبري عن شيخه "المثنى" بإسنادين، أولهما أعلى من الثاني درجة: بين المثنى وبين معاوية بن صالح في أولهما شيخ واحد، وفي ثانيهما شيخان.
أما المثنى شيخ الطبري: فهو المثنى بن إبراهيم الآملي، يروي عنه الطبري كثيرا في التفسير والتاريخ. وأبو صالح، في الإسناد الأول: هو عبد الله بن صالح المصري، كاتب الليث بن سعد، صحبه عشرين سنة. وهو ثقة، ومن تكلم فيه، في بعض حديثه عن الليث، تكلم بغير حجة. وله ترجمة في التهذيب جيدة، وكذلك في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 2 / 86 - 87، وتذكرة الحفاظ 1: 351 - 353. ولد عبد الله بن صالح سنة 137 ومات سنة 222. ووقع تاريخ مولده في التهذيب (173) وهو خطأ مطبعي، صوابه في تذكرة الحفاظ. وآدم العسقلاني، في الإسناد الثاني: هو آدم بن أبي إياس، وهو ثقة مأمون متعبد، من خيار عباد الله، كما قال أبو حاتم. الليث: هو ابن سعد، إمام أهل مصر. معاوية بن صالح، في الإسنادين: هو الحمصي، أحد الأعلام وقاضي الأندلس، ثقة، من تكلم فيه أخطأ. عبد الرحمن بن جبير بن نفير - بالتصغير فيهما - الحضرمي الحمصي: تابعي ثقة. وأبوه: من كبار التابعين، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو ثقة مشهور بالعلم، وقد ذكره الطبري في طبقات الفقهاء. النواس -بفتح النون وتشديد الواو- بن سمعان الكلابي: صحابي معروف.
وهذا الحديث مختصر من حديث طويل، رواه احمد في المسند: 17711 (ج 4 ص 182 حلبي) عن الحسن بن سوار عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح، به. ونقله ابن كثير 1: 51 من رواية المسند، قال:"وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد، به. ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن علي بن حجر بن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان، به. وهو إسناد حسن صحيح". ونسبه السيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13 أيضًا للحاكم "وصححه"، ولغيره.
قال أبو جعفر: وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء، أنه سمّاه مستقيمًا، لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويلٌ لتأويل جميع أهل التفسير خلافٌ، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه.
* * *
القول في تأويل قوله:: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
وقوله (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، إبانةٌ عن الصراط المستقيم، أيُّ الصراط هو؟ إذْ كان كلّ طريق من طرُق الحق صراطًا مستقيمًا. فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، بطاعتك وعبادتك، من مَلائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين.
وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنزيله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء: 66-69] .
قال أبو جعفر: فالذي أمِر محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمّتُه أن يسألوا ربَّهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وَصف الله جلّ ثناؤه صفتَه. وذلك الطريق، هو طريق الذي وَصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سَلكه فاستقام فيه طائعًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد.
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس وغيره.
188 -
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"صراطَ الذين أنعمت عليهم" يقول: طَريقَ من أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبَدُوك (1) .
189 -
حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عن ربيع:"صراط الذين أنعمتَ عليهم"، قال: النبيّون (2) .
190 -
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: "أنعمت عليهم " قال: المؤمنين (3) .
191-
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع: "أنعمت عليهم"، المسلمين (4) .
(1) الخبر 188 - ضعف هذا الإسناد مفصل في: 137. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 52. وانظر أيضًا: 179.
(2)
الأثر 189 - ربيع: هو ابن أنس البكري. وسبق شرح هذا الإسناد إليه: 164. والأثر نقله ابن كثير 1: 53، والسيوطي 1: 16.
(3)
الخبر 190 - هذا كالخبر 183 منقطع بين ابن جريج وابن عباس. وقد نقله ابن كثير 1: 53، والسيوطي 1: 16، ولكن وقع فيه "ابن حميد" بدل "ابن جرير".
(4)
الأثر 191 - وهذا نقله ابن كثير أيضًا 1: 53.
192-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله " صراط الذين أنعمت عليهم "، قال: النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه (1) .
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليلٌ واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول:"صراط الذين أنعمت عليهم"، فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟
فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر؟ وقد علمتَ أنّ قول القائل لآخر: "أنعمت عليك"، مقتضٍ الخبرَ عمَّا أنعمَ به عليه، فأين ذلك الخبرُ في قوله:"صراط الذين أنعمت عليهم"؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟
قيل له: قد قدّمنا البيان -فيما مضى من كتابنا هذا- عن إجراء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض، إذا كان البعضُ الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيًا منه. فقوله:"صراط الذين أنعمتَ عليهم" من ذلك. لأن أمرَ الله جل ثناؤه عبادَه بمسألته المعونةَ، وطلبهم منه الهدايةَ للصراط المستقيم، لما كان متقدّمًا قولَه:"صراطَ الذين أنعمت عليهم"، الذي هو إبانةٌ عن الصراط المستقيم وإبدالٌ منه -كان معلومًا أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمَرنا بمسألته الهدايةَ لطريقهم، هو المنهاجُ القويمُ والصراطُ المستقيم، الذي قد قدّمنا البيان عن تأويله آنفًا، فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين- مغنيًا عن تكراره.
كما قال نابغة بني ذبيان:
كأَنَّك مِنْ جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ
…
يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بشَنِّ (2)
(1) الأثر 192 - مضى هذا الإسناد: 185. وأما نص الأثر، فهو عند ابن كثير 1: 53. وقال بعد هذه الروايات: "والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل". يعني الخبر 188.
(2)
ديوانه: 58، سيبويه 1: 375، مجاز القرآن: 101 الخزانة 2: 314، وهذا الشعر يقوله النابغة لعيينة بن حصن الفزاري. بنو أقيش: هم بنو أقيش بن عبيد. وقيل: فخذ من أشجع. وقيل: حي من اليمن في إبلهم نفار شديد. وقيل: هم حي من الجن يزعمون. وقعقع حرك شيئا يابسا فتسمع له صوت. والشن: القربة البالية. يصف عيينة بالجبن والخور وشدة الفزع، كأنه جمل شديد النفار، إذا سمع صوت شن يقعقع به
يريد: كأنك من جمال بني أقيش، جملٌ يُقعقع خلف رجليه بشنّ، فاكتفى بما ظهر من ذكر "الجمال" الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب:
تَرَى أَرْباقَهُمْ مُتَقَلِّدِيها
…
إِذا صَدِئَ الحديدُ عَلَى الكُمَاةِ (1)
يريد: متقلديها هم، فحذف "هم "، إذ كان الظاهرُ من قوله أرباقَهُم، دالا عليها.
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله: "صراط الذين أنعمت عليهم".
* * *
القول في تأويل قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} .
قال أبو جعفر: والقرَأةُ مجمعةٌ على قراءة " غير " بجر الراء منها (2) . والخفضُ يأتيها من وجهين:
أحدهما: أن يكون "غير" صفة لِ"الذين" ونعتًا لهم فتخفضها. إذ كان " الذين " خفضًا، وهي لهم نعتٌ وصفةٌ. وإنما جاز أن يكون " غير " نعتًا لِـ " الذين "، و " الذين " معرفة و"غير" نكرة، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء
(1) ديوانه: 131 والنقائض: 773، ويأتي في تفسير آية سورة الشعراء: 4 (19: 38 بولاق) ، وهو هناك "على الكتاب"، وهو خطأ. يهجو جريرا وقومه بني كليب بن يربوع. الأرباق: جمع ربق، والربق جمع ربقة: وهو الحبل تشد به الغنم الصغار لئلا ترضع. وتقالد السيف: وضع نجاده على منكبه. والكماة، جمع كمى: وهو البطل الشديد البأس. يصف بني كليب بأنهم رعاء أخساء بخلاء، لا هم لهم إلا رعية الغنم، والأبطال في الحرب يصلون حرها الأيام الطوال حتى يصدأ حديد الدروع على أبدانهم من العرق.
(2)
في المطبوعة "والقراء مجمعة"، والقَرَأَة: جمع قارئ. انظر ما مضى: 51 في التعليق، و 64 تعليق: 4 و: 109 تعليق: 1.
التي هي أماراتٌ بين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك (1) ؛ وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك. فلما كان " الذين " كذلك صفتُها، وكانت "غير" مضافةً إلى مجهول من الأسماء، نظيرَ " الذين "، في أنه معرفة غير موقتة، كما " الذين " معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون "غير المغضوب عليهم" نعتًا لِ "الذين أنعمت عليهم" كما يقال:" لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل"، يراد: لا أجلس إلا إلى مَن يعلم، لا إلى مَن يجهل.
ولو كان "الذين أنعمت عليهم" مَعرفة موقتة. كان غير جائز أن يكون "غير المغضوب عليهم" لها نعتًا. وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقَّتة بنكرة- أن تُلْزِم نَعتها النكرةَ إعرابَ المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعربَ المنعوتَ بها. خطأ في كلامهم أن يقال:"مررت بعبد الله غير العالم"، فتخفض " غير "، إلا على نية تكرير الباء التي أعرَبتْ عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مَرَرتُ بعبد الله، مررت بغيرِ العالم. فهذا أحد وجهي الخفض في:"غير المغضوب عليهم".
والوجهُ الآخر من وجهي الخفض فيها: أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت "غير" مخفوضةً بنية تكرير "الصراط" الذي خُفِض "الذين" عليها، فكأنك قلت: صراطَ الذين أنعمت عليهم، صراطَ غير المغضوب عليهم.
وهذان التأويلان في "غير المغضوب عليهم"، وإن اختلفا باختلاف مُعرِبَيْهما، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أنَّ من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق، فقد سلم من غضب رَبه ونجا من الضلال في دينه.
فسواءٌ - إذ كان سَبب قوله: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت
(1) يعني بقوله: "المعرفة المؤقتة" المعرفة المحددة، وهو العلم الشخصي الذي يعين مسماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد. فقولك "زيد" يعين تعيينًا مطلقًا أو محددًا. والمعرف بالألف واللام إنما يعين مسماه ما دامت فيه "ال"، فإذا فارقته فارقه التعيين. وانظر معاني الفراء 1:7.
عليهم" غيرَ جائزٍ أن يرتاب، مع سماعه ذلك من تاليه، في أن الذين أنْعم الله عليهم بالهداية للصِّراط غيرُ غاضب ربُّهم عليهم، مع النعمة التي قد عظمت مِنَّته بها عليهم في دينهم؛ ولا أن يكونوا ضُلالا وقد هداهم الحقَّ ربُّهم. إذْ كان مستحيلا في فِطَرِهم اجتماعُ الرضَى من الله جلّ ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة، واجتماعُ الهدى والضلال له في وقت واحد - أوُصِف (1) القوم؛ معَ وَصْف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم، وإنعامه عَليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم، بأنهم غيرُ مغضوب عليهم ولا هم ضَالُّون؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصِّفة الظاهرة التي وُصفوا بها، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يصرِّح وصفَهُم به.
هذا، إذا وجَّهنا " غير " إلى أنها مخفوضة على نية تكرير "الصراطِ" الخافضِ "الذين"، ولم نجعل "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" من صفة "الذين أنعمت عليهم"، بل إذا حملناهم غيرَهم. وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَمًا عليهما في أدْيانهم.
فأمّا إذا وجهنا "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" إلى أنها من نَعت، "الذين أنعمت عليهم". فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال، إذْ كان الصريحُ من معناه قد أغنى عن الدليل.
وقد يجوز نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم"، وإن كنتُ للقراءة بها كارهًا لشذوذها عن قراءة القُرّاء. وإنَّ ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرًا مستفيضًا، فرأيٌ للحق مخالف. وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين مُتجانفٌ. وإن كان له - لو كانت جائزًا القراءةُ به (2) - في الصواب مخرجٌ.
(1) سياق العبارة: "سواء. . . أوصف القوم. . . أم لم يوصفوا"، وما بين هذين فصل طويل كدأب أبي جعفر في بيانه.
(2)
في المطبوعة: "لو كانت القراءة جائزة به "، بدلوه ليوافق عبارتهم، دون عبارة الطبري
وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ: أن يوجَّه إلى أن يكون صفةً للهاء والميم اللتين في " عليهم " العائدة على " الذين ". لأنها وإن كانت مخفوضة بِ " على "، فهي في محل نصب يقوله:" أنعمت ". فكأن تأويل الكلام -إذا نصبت " غير " التي مع " المغضوب عليهم"-: صراطَ الذين هَدَيتهم إنعامًا منك عليهم، غيرَ مغَضوبٍ عليهم، أي لا مغضوبًا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ، كالنصب في " غير " في قولك: مررت بعبد الله غيرَ الكريم ولا الرشيدِ، فتقطع "غيرَ الكريم" من "عبد الله"، إذْ كان "عبدُ الله" معرفة مؤقتة، و"غير الكريم" نكرة مجهولة.
وقد كان بعضُ نحويِّي البصريين يزعم أنّ قراءة مَنْ نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم"، على وَجه استثناءِ "غير المغضوب عليهم" من معاني صفة "الذين أنعمت عليهم"، كأنه كان يرى أنّ معنى الذين قرأوا ذلك نصبًا: اهدنا الصراط المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، إلا المغضوبَ عَليهم -الذين لم تُنعم عليهم في أديانهم ولم تَهْدهم للحق- فلا تجعلنا منهم. كما قال نابغة بني ذبيان:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلالا أُسَائِلُها
…
عَيَّت جَوابًا، ومَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ (1) إلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُهُا
…
والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ (2)
(1) ديوانه: 23، ويأتي في تفسير آية البقرة: 35 (1: 186 بولاق)، وآية النساء: 114 (5: 178)، وآية يونس: 98 (11: 117) وآية سورة الليل: 20 (30: 146) . يقال: لقيته أصيلالا وأصيلانًا، إذا لقيته بالعشي. وذلك أن الأصيل هو العشي، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأصلان (بضم فسكون)، ثم صغروا الجمع فقالوا: أصيلان، ثم أبدلوا من النون لامًا. فعلوا ذلك اقتدارا على عربيتهم، ولكثرة استعمالهم له حتى قل من يجهل أصله ومعناه. وعى في منطقه: عجز عن الكلام.
(2)
أواري جمع آري (مشدد الياء) : وهو محبس الدابة ومأواها ومربطها، من قولهم: تأرى بالمكان أقام وتحبس. ولأيا: بعد جهد ومشقة وإبطاء. والنؤى: حفرة حول الخباء تعلى جوانبها بالتراب، فتحجز الماء لا يدخل الخباء، والمظلومة: يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم، وليس بموضع تحويض لبعدها عن مواطئ السابلة. فلذلك سماها مظلومة، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. والجلد: الأرض الصلبة، يعني أنها لا تنبت شيئًا فلا يرعاها أحد.
والأواريُّ معلومٌ أنها ليست من عِدَاد "أحد" في شيء. فكذلك عنده، استثنى "غير المغضوب عليهم" من "الذين أنعمت عليهم"، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء.
وأما نحِويُّو الكوفيين، فأنكروا هذا التأويل واستخفُّوه (1) ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة، لكان خطأ أن يقال:"ولا الضالين".
لأن " لا " نفي وجحد، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا: لم نجد في شيء من كلام العرب استثناءً يُعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء، وبالجحد على الجحد، فيقولون في الاستثناء: قام القومُ إلا أخاك وإلا أباك.
وفي الجحد: ما قام أخوك ولا أبوك. وأما: قام القومُ إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا: فلما كان ذلك معدومًا في كلام العرب، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزولُه، علمنا -إذ كان قولُه"ولا الضالين" معطوفًا على قوله"غير المغضوب عليهم" -أن " غير " بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجَّهها إلى الاستثناء خطأ.
فهذه أوجه تأويل "غير المغضوب عليهم"، باختلاف أوجه إعراب ذلك.
وإنما اعترضْنا بما اعترضنا في ذلك من بَيان وُجوه إعرابه- وإن كان قصدُنا في هذا الكتاب الكشفَ عن تأويل آي القرآن- لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله. فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وُجوه تأويله، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته.
والصَّوابُ من القول في تأويله وقراءته عندنا، القول الأول، وهو قراءةُ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بخفض الراء من " غير ". بتأويل أنها صفة لِ "الذين أنعمت عليهم" ونعتٌ لهم -لما قد قدمنا من البيان- إن شئتَ، وإن شئت فبتأويلِ تكرار " صراط ". كلُّ ذلك صوابٌ حَسنٌ.
(1) في المطبوعة: "واستخطئوه"، واستخفوه: رأوه خفيفا لا وزن له.
فإن قال لنا قائل: فمنْ هؤلاء المغضوبُ عليهم، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم؟
قيل: هم الذين وصفهم الله جَلّ ثناؤه في تنزيله فقال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)[سورة المائدة: 60] . فأعلمنا جلّ ذكره ثَمَّة (1) ، ما أحَلَّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا، منّهً منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة من أن يَحِلَّ بنا مثل الذي حَلّ بهم من المَثُلات، ورأفة منه بنا (2) .
فإن قيل: وما الدليلُ على أنهم أولاء الذين وصفَهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت؟ قيل:
193 -
حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: المغضوبُ عليهم، اليهود (3) .
194-
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عباد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المغضوبَ عليهم اليهود (4) .
(1) بدلوها في المطبوعة إلى "بمنه"؛ وثم وثمة (بفتح الثاء) : إشارة للبعيد بمنزلة "هنا" للقريب.
(2)
المثلات جمع مثلة (بفتح فضم ففتح) : وهي العقوبة والتنكيل.
(3)
الحديث 193 - هذا إسناد صحيح، وسيأتي بعض هذا الحديث أيضًا بهذا الإسناد 207. وتخريجه سيأتي في 195.
(4)
الحديث 194 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. عباد بن حبيش، بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة ولآخره شين معجمة، الكوفي، ذكره ابن حبان في الثقات، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 78. وبعض الحديث سيأتي أيضًا 208 بهذا الإسناد.
195-
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرِّي بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جلّ وعزّ "غير المغضوب عليهم" قال: هم اليهود (1) .
196 -
حدثنا حُميد بن مَسْعَدة السّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجُرَيْري، عن عبد الله بن شَقِيق: أنّ رُجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى، فقال: مَنْ هؤلاء الذين تحاصرُ يا رسول الله؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم، اليهود (2) .
(1) الحديث 195 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. مري بن قطري الكوفي: ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 57، وقال:"سمع عدي بن حاتم، روى عنه سماك بن حرب، يعد في الكوفيين". و "مري": بضم الميم وتشديد الراء المكسورة مع تشديد الياء. و "قطري" بفتح القاف والطاء وبعد الراء ياء مشددة. وبعضه سيأتي أيضًا بالإسناد نفسه 209.
وهذا الحديث عن عدي بن حاتم: أصله قصة مطولة في إسلامه. فرواه -بطوله- أحمد في المسند 4: 378 - 379 عن محمد بن جعفر عن شعبة، بالإسناد السابق 194. . ورواه الترمذي 4: 67 من طريق عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عباد بن حبيش عن عدي. وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب. وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عباد بن حبيش عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله". وروى بعضه الطيالسي في مسنده: 1040 عن عمرو بن ثابت "عمن سمع عدي بن حاتم". وقد تبين لنا من روايات الطبري هنا أن سماك بن حرب سمعه من عباد بن حبيش ومن مري بن قطري، كلاهما عن عدي، وأن سماك بن حرب لم ينفرد بروايته أيضًا، إذ رواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي. وأن لم يعرفه الترمذي إلا من حديث سماك - لا ينفي أن يعرفه غيره من وجه آخر. وذكره ابن كثير 1: 54 من رواية أحمد في المسند، وأشار إلى رواية الترمذي، وإلى روايات الطبري هنا، ثم قال:"وقد روى حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها ". وذكره الحافظ في الإصابة، في ترجمة عدي 2: 229 من رواية أحمد والترمذي. وذكر السيوطي منه 1: 16 تفسير الحرفين، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه. وكذلك صنع الشوكاني 1:15.
(2)
الحديث 196 - حميد بن مسعدة السامي، شيخ الطبري: هو "السامي" بالسين المهملة، نص على ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب. وهو نسبة إلى "سامة بن لؤي بن غالب". ووقع في نسخ الطبري -هنا وفيما يأتي 210- "الشامي" بالمعجمة، وهو تصحيف. و "الجريري"، بضم الجيم: هو سعيد بن إياس البصري. و "عبد الله بن شقيق العقيلي"، بضم العين وفتح القاف: تابعي كبير ثقة. وهذا الإسناد مرسل، لقول عبد الله بن شقيق:"أن رجلا". وسيأتي مرسلا أيضًا 197، 199 ولكنه سيأتي موصولا 198.
197-
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، عن سعيد الجُرَيْري، عن عروة، عن عبد الله بن شَقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
198-
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شَقيق: أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم -وهو بوادي القُرَى، وهو عَلى فَرسه، وسأله رجل من بني القَين فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ - قال: المغضوبُ عليهم. وأشار إلى اليهود (1) .
199-
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحَذَّاء، عن عبد الله بن شقيق، أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه
200 -
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"غير المغضوب عليهم"، يعني اليهودَ الذين غَضب الله عليهم (2) .
(1) الحديث 198 - بديل، بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة: هو ابن ميسرة العقيلي، وهو تابعي ثقة. وهذه الرواية متصلة بإسناد صحيح. لأن عبد الله بن شقيق صرح فيها بانه أخبره "من سمع النبي صلى الله عليه وسلم "، وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معروف. والوصل بذكر الصحابي المبهم - زيادة من الثقة، فهي مقبولة.
وقد ذكر ابن كثير 1: 54 - 55 هذه الرواية الموصولة، ثم أشار إلى الروايات الثلاث المرسلة، ثم قال:" ووقع في رواية عروة تسمية: عبد الله بن عمرو، فالله أعلم". ولكنه لم يذكر من خرج رواية عروة التي يشير إليها. ثم قال ابن كثير: "وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم، قال: اليهود، قلت: الضالين؟ قال: النصارى". وأشار الحافظ في الفتح 8: 122 إلى رواية ابن مردويه هذه عن أبي ذر "بإسناد حسن". وذكر أيضًا أن رواية عبد الله بن شقيق الموصولة " أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم" - رواها أحمد. وهذه الروايات أيضًا عند السيوطي 1: 16، والشوكاني 1: 14 - 15. وسيأتي تفسير (الضالين) بهذه الأسانيد 210، 211، 212، 213. وسيأتي في 211 بيان من عروة الذي في الإسناد 197.
(2)
الأثر 200 - أثر الضحاك عن ابن عباس لم يخرجوه. وسيأتي باقيه 215.
201-
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"غير المغضوب عليهم"، هم اليهود (1) .
202-
حدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال:"غير المغضوب عليهم"، قال: هم اليهود.
203-
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر، عن ربيع:"غير المغضوب عليهم"، قال: اليهود.
204-
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: "غير المغضوب عليهم" قال: اليهود.
205-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: "غير المغضوب عليهم"، اليهود.
206-
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد، عن أبيه، قال:"المغضوب عليهم"، اليهود (2) .
قال أبو جعفر: واختُلِف في صفة الغضب من الله جلّ ذكره:
فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال:(فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)[سورة الزخرف: 55] .
وكما قال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ
(1) الخبر 201 - ابن كثير 1: 55، والدر المنثور 1: 16، والشوكاني 1:15. وسيأتي باقيه: 217.
(2)
الآثار 202 - 206: في ابن كثير، والدر المنثور، الشوكاني، كالذي مضى. وسيأتي باقيها: 214، 216، 218، 219، 220.
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) [سورة المائدة: 60] .
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول.
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه -وإن كان كذلك من جهة الإثبات (1) - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم.
لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلا الضَّالِّينَ} .
قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام، والمعنى إلغاؤها، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج:
(1) الإثبات: مذهب أهل السنة في إثبات الصفات لله تعالى كما وصف نفسه، وإثبات القدر بلا تأويل، خلافا لأهل القدر، وهم نفاته، وللجهمية والمعطلة للصفات.
(2)
بعد هذا الموضع من نسخة دار الكتب المصرية رقم: 100 تفسير، ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
-على الأصل المنقول منه-
سمعت وأحمد ومحمد والحسن بني عبد الله بن أحمد الفرغاني في يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وثلثمائة. ومحمد بن محمد الطوسي".
فِي بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ (1)
ويتأوله بمعنى: في بئر حور سرى، أي في بئر هلكة، وأن " لا " بمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم:
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لا تَسْخَرَا
…
لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَا (2)
وهو يريد: فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص:
وَيَلْحَيْنَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لا أُحِبَّه
…
وَللَّهْوُ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ (3)
يريد: وَيلحينني في اللهو أن أحبه، وبقوله تعالى:(مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ)[سورة الأعراف: 12] ، يريد أن تسجد. وحُكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول " غير " التي " مع "المغضوب عليهم "، أنها بمعنى " سوى (4) . فكأنّ معنى الكلام كانَ عنده: اهدنا الصراط المستقيمَ، صراط الذين أنعمتَ عليهم، الذين همُ سوى المغضوب والضالين.
وكان بعضُ نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله (5) ، ويزعمُ أن " غير "
(1) ديوانه: 16، ومعاني القرآن للفراء 1: 8، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 25 والخزانة 2: 95، وأمالي الشجري 2: 231، والأضداد لابن الأنباري:186. والقائل بأنها زائدة من البصريين هو أبو عبيدة.
(2)
نسبه شارح القاموس عن الصاغاني لأبي النجم وقال: روايته: "إذا رأت ذا الشيبة القفندرا"
وضبطوا "الشمط" بفتح الميم، أي الشيب، وجائز أن يكون أبو النجم قاله "الشمط" بكسر الميم على أنه فرح، طرح ألف "أشمط"، كما فعلوا في أشعث وشعث. وأحدب وحدب، وأتعس وتعس، وأحول وحول، في الصفات المشبهة من العيوب الظاهرة والحلي. وانظر الفائق للزمخشري 2: 326 فقد عدد ألفاظًا غيرها. وكأن الصاغاني أبى من رواية "الشمط" بفتحتين، لأن القفندر: هو الصغير الرأس القبيح المنظر.
والبيت برواية البري في مجاز القرآن لأبي عبيدة: 26، والأضداد لابن الأنباري: 185، واللسان (قفندر)، ثم انظر أمالي الشجري 2: 231، وغيرها.
(3)
الكامل 1: 49، والأضداد لابن الأنباري: 186، ولحاه يلحاه لحيًا: عذله ولامه.
(4)
هو أبو عبيدة كما أسلفنا في أول هذه الفقرة. وأشار إليه الفراء في معاني القرآن: 8 بقوله: "وقد قال بعض من لا يعرف العربية. . . "، وكذلك فعل الطبري من قبل في مواضع. وانظر اللسان (غير) .
(5)
يعني الفراء الكوفي في كتابه معاني القرآن: 8، أو غيره من كتبه.
التي " مع المغضوب عليهم "، لو كانت بمعنى سوى، لكان خطأ أن يعطف عليها بـ " لا "، إذْ كانت " لا " لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها. كما كان خطأ قول القائل:"عندي سِوَى أخيك ولا أبيك"، لأن سِوَى ليست من حروف النفي والجحود. ويقول: لما كان ذلك خطأ في كلام العرب، وكان القرآن بأفصحِ اللغات من لغات العرب، كان معلومًا أن الذي زَعمه القائل: أن "غير" مع "المغضوب عليهم" بمعنى: سوى المغضوب عليهم، خطأ. إذ كان قد كرّ عليه الكلامَ بـ " لا ". وكان يزعم أن " غير " هنالك إنما هي بمعنى الجحد. إذْ كان صحيحًا في كلام العرب، وفاشيًا ظاهرًا في منطقها توجيه " غير " إلى معنى النفي ومستعملا فيهم:"أخوك غير مُحسِن ولا مُجْمِل"، يراد بذلك أخوك لا محسن، ولا مجمل، ويَستنكرُ أن تأتي " لا " بمعنى الحذف في الكلام مُبتدأً، ولمَّا يتقدمها جحد. ويقول: لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مُبتدأ، قبل دلالة تدلّ ذلك من جحد سابق، لصحَّ قول قائل قال:"أردْتُ أن لا أكرم أخاك"، بمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك، دلالةٌ واضحة على أنَّ " لا " تأتي مبتدأة بمعنى الحذف، ولَمَّا يتقدَّمها جحد. وكان يتأوّل في " لا " التي في بيت العجاج، الذي ذكرنا أن البصْريّ استشهد به، بقوله: إنها جَحْدٌ صحيح، وأنّ معنى البيت: سَرَى في بئر لا تُحيرُ عليه خيرًا، ولا يتبيَّن له فيها أثرُ عملٍ، وهو لا يشعُر بذلك ولا يدري به (1) . من قولهم:"طحنت الطَّاحنة فما أحارت شيئًا"، أي لم يتبيَّن لها أثرُ عملٍ. ويقول في سائر الأبيات الأخر، أعني مثل بَيت أبي النجم::
فما ألُوم البيضَ أن لا تسخَرَا
إنما جاز أن تكون " لا " بمعنى الحذف، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام، فكان الكلام الآخر مُواصِلا للأول، كما قال الشاعر:
(1) عبارة الفراء في معاني القرآن: "كأنك قلت: إلى غير رشد توجه وما درى".
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمُ
…
وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (1)
فجازَ ذلك، إذْ كان قد تقدَّم الجحدُ في أوّل الكلام.
قال أبو جعفر: وهذا القولُ الآخر أولى بالصواب من الأول، إذ كان غيرَ موجودٍ في كلام العرب ابتداءُ الكلام من غير جحد تقدَّمه بـ " لا " التي معناها الحذف، ولا جائزٍ العطفُ بها على " سوى "، ولا على حرف الاستثناء. وإنما لِـ " غير " في كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والآخر الجحد، والثالث سوى. فإذا ثبت خطأ " لا " أن يكون بمعنى الإلغاء مُبتدأ (2) ، وفسدَ أن يكون عطفًا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم "، لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء، ولم يَجز أيضًا أن يكون عطفًا عليها لو كانت بمعنى " سوى "، وكانت " لا " موجودة عطفًا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قَبلها -صحَّ (3) وثبت أن لا وجهَ لـ " غير "، التي مع " المغضوب عليهم "، يجوز توجيهها إليه على صحَّة إلا بمعنى الجحد والنفي، وأن لا وَجه لقوله:" ولا الضالين "، إلا العطف على " غير المغضوب عليهم ".
فتأويلُ الكلام إذًا - إذْ كان صحيحًا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا- اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن قال لنا قائل: ومَن هؤلاء الضَّالُّون الذين أمرنا اللهُ بالاستعاذة بالله أن يَسْلُكَ بنا سبيلهم، أو نَضِلَّ ضلالهم؟
قيل: هم الذين وصَفهم الله في تنزيله فقال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا
(1) الشعر لجرير يهجو الأخطل، ديوانه 263، ونقائض جرير والأخطل: 174، وأضداد ابن الأنباري: 186، ثم تفسير آية سورة البقرة:158.
(2)
في المخطوطة: "فإذا ثبت خط أن لا يكون بمعنى الإلغاء" غير منقوطة، ولم يحسن طابعو المطبوعة قراءتها فجعلوها:"فإذا بطل حظ لا أن تكون بمعنى الإلغاء". وقد صححنا ما في المخطوطة من تقديم "لا" على "يكون".
(3)
جواب قوله "فإذا ثبت خطأ. . . ".
وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة: 77] .
فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟
قيل:
207-
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشَّعبي، عن عدي بن أبي حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا الضالين" قال: النصارى (1) .
208-
حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة، عن سِمَاك، قال: سمعت عبّاد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الضَّالين: النَّصارى ".
209 -
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مُصْعَب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرّيّ بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: "ولا الضالين"، قال: النصارى هم الضالون.
210-
حدثنا حُميد بن مَسعدة السَّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضّالون: النصارى.
211 -
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابنُ عُلَيَّة، عن سعيد الجُرَيري، عن عروة، يعني ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه (2) .
(1) هذه الأحاديث والأخبار والآثار 207 - 220، في تفسير (الضالين) ، سبقت أوائلها في تفسير (المغضوب عليهم) ، مع تخريجها، في الأرقام 193 - 206، مع شيء من التقديم والتأخير.
(2)
الحديث 211 - سبق هذا الإسناد 197 ولم ينسب فيه "عروة" هذا، وفي التعليق على الحديث 198 إشارة ابن كثير إلى رواية "عروة"، ولم يذكر نسبه أيضًا. وقد بين الطبري هنا أنه "عروة بن عبد الله بن قيس". وأنا أرجح أن كلمة "قيس" محرفة من الناسخين عن كلمة "قشير".
فإني لم أجد في التراجم قط من يسمى "عروة بن عبد الله بن قيس"، ويبعد جدا أن لا يذكروه، وهو يروي عن رجل من كبار التابعين. والذي في هذه الطبقة، هو "عروة بن عبد الله بن قشير أبو مهل الكوفي"، مترجم في التهذيب 7: 186، والتاريخ الكبير للبخاري 4 / 1 / 34، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3 / 1 / 397، والثقات لابن حبان: 574، والكنى للدولابي 2:135. وذكر الأخيران قولا آخر في اسم جده، أنه "بشير". و "أبو مهل": بفتح الميم والهاء، كما ذكره الذهبي في المشتبه:508.
212 -
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العُقَيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سَمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القَين، فقال: يا رسولَ الله، من هؤلاء؟ - قال: هؤلاء الضَّالون "، يعني النصارى.
213 -
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محاصرٌ وادي القُرى وهو على فرس: من هؤلاء؟ قال: الضالّون. يعني النصارى.
214-
حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد:"ولا الضالين" قال: النصارى.
215-
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"ولا الضالين" قال: وَغير طريقِ النَّصارى الذين أضلَّهم الله بِفرْيَتهمْ عليه. قال: يقول: فألهِمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، حتى لا تغضَبَ علينا كما غضبتَ على اليهود، ولا تضلَّنا كما أضللتَ النصارى فتعذّبنا بما تعذِّبهم به. يقول امنعْنا من ذلك برفْقِك ورَحمتك وقدرتك.
216-
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الضالين النصارى.
217-
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ولا الضالين"، هم النصارى.
218-
حدثني أحمد بن حازم الغِفاري، قال: أخبرنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع:"ولا الضالين"، النصارى.
219-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: "ولا الضالين"، النصارى.
220-
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه. قال: الضالين، النصارى.
* * *
قال أبو جعفر: فكلّ حائدٍ عن قَصْد السبيل، وسالكٍ غيرَ المنهج القويم، فضَالٌّ عند العرب، لإضلاله وَجهَ الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارَى ضُلالا لخطئهم في الحقِّ مَنهجَ السبيل، وأخذهم من الدِّين في غير الطريق المستقيم.
فإن قال قائل: أوَ ليس ذلك أيضًا من صفة اليهود؟
قيل: بلى!
فإن قال: كيف خَصّ النصارَى بهذه الصفة، وَخصّ اليهودَ بما وصفَهم به من أنهم مغضوب عليهم؟
قيل: كلا الفريقين ضُلال مغضوبٌ عليهم، غيرَ أن الله جلّ ثناؤه وَسم كل فريق منهم من صِفَته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسمِّ واحدًا من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفاتِ الذمّ زياداتٌ عليه.
فيظنُّ بعض أهل الغباء من القدريّة أن في وصف الله جلّ ثناؤه النصارى
بالضّلال، بقوله:"ولا الضالين"، وإضافته الضَّلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضلَّلون، كالذي وَصف به اليهود أنهم المغضوبُ عليهم -دلالةً على صحة ما قاله إخوانُه من جهلة القدرية، جهلا منه بسَعَة كلام العرب وتصاريف وُجوهه.
ولو كان الأمر على ما ظَنّه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكونَ شأنُ كلِّ موصوفٍ بصفةٍ أو مضافٍ إليه فعلٌ، لا يجوزُ أن يكون فيه سببٌ لغيره، وأنْ يكون كلُّ ما كان فيه من ذلك لغيره سببٌ، فالحقُّ فيه أن يكون مضافًا إلى مُسبِّبه، ولو وَجب ذلك، لوجبَ أن يكون خطأ قولُ القائل:" تحركت الشجرةُ "، إذْ حرَّكتها الرياح؛ و " اضطربت الأرض "، إذْ حرَّكتها الزلزلة، وما أشبهَ ذلك من الكلام الذي يطولُ بإحصائه الكتاب.
وفي قول الله جلّ ثناؤه: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)[سورة يونس: 22]-بإضافته الجريَ إلى الفلك، وإن كان جريها بإجراء غيرِها إيَّاها- ما دلّ على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله:"ولا الضالين"، وادّعائه أنّ في نسبة الله جلّ ثناؤه الضلالةَ إلى من نَسبها إليه من النصارى، تصحيحًا لما ادَّعى المنكرون: أن يكون لله جلّ ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم، مع إبانة الله عزّ ذكره نصًّا في آيٍ كثيرة من تنزيله، أنه المضلُّ الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)[سورة الجاثية: 23] . فأنبأ جلّ ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره.
ولكنّ القرآن نزلَ بلسان العرب، على ما قدَّمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه -وإن كان مسبِّبُه غيرَ الذي وُجِد
منه- أحيانًا، وأحيانًا إلى مسبِّبه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويُوجِده الله جلّ ثناؤه عَيْنًا مُنْشَأةً؟ بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبِه؛ كسبًا له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له -وَإلى الله جلّ ثناؤه، بإيجاد عينِه وإنشائها تدبيرًا. (مسألة يَسأل عنها أهل الإلحاد الطَّاعنون في القرآن)
إن سألَنا منهم سائل فقال: إنك قد قدَّمتَ في أول كتابك هذا في وصْف البيان: بأنّ أعلاه درجة وأشرفَه مرتبة، أبلغُه في الإبانة عن حاجة المُبين به عن نفسه، وأبينُه عن مُراد قائله، وأقربُه من فهم سامعه. وقلتَ، مع ذلك: إنّ أوْلى البيان بأن يكون كذلك، كلامُ الله جل ثناؤه، لِفَضْله على سائر الكلام وبارتفاع دَرَجته على أعلى درجات البيان (1) ، فما الوجه -إذ كان الأمر على ما وصفت- في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله:(مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين)، إذْ كان لا شك أنّ من عَرف: مَلك يوم الدين، فقد عَرَفه بأسمائه الحسنى وصفاته المُثْلى. وأنّ من كان لله مطيعًا، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه مُتَّبع، وعن سبيل من غَضِب عليه وضَلَّ مُنْعَدِل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية، من الحكمة التي لم تَحْوِها الآيتان اللتان ذكرنا؟
قيل له: إنّ الله تعالى ذكرُه جَمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته -بما أنزل إليه من كتابه- معانيَ لم يجمعْهُنّ بكتاب أنزله إلى نبيّ قبله، ولا لأمَّة من الأمم قبلهم. وذلك أنّ كُلّ كتاب أنزله جلّ ذكرُه على نبيّ من أنبيائه قبله، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعَها كتابُه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كالتَّوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزَّبُور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير -لا مُعجزةَ في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتابُ الذي أنزل على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرًا من المعاني التي سائرُ الكتب غيرِه منها خالٍ.
(1) انظر ما مضى: 9 - 11.
وقد قدَّمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب (1) .
ومن أشرفِ تلك المعاني التي فَضَل بها كتابُنا سائرَ الكتب قبله، نظْمُه العجيبُ ورصْفُه الغريب (2) وتأليفُه البديع؛ الذي عجزتْ عن نظم مثْلِ أصغرِ سورة منه الخطباء، وكلَّت عن وَصْف شكل بعضه البلغاء، وتحيَّرت في تأليفه الشُّعراء، وتبلَّدت -قصورًا عن أن تأتيَ بمثله- لديه أفهامُ الفُهماء، فلم يجدوا له إلا التسليمَ والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوي، مَع ذلك، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمرٌ وزجرٌ، وقَصَص وجَدَل ومَثَل، وما أشبهَ ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء.
فمهما يكن فيه من إطالة، على نحو مَا في أمِّ القرآن (3) ، فلِما وصفتُ قبلُ من أن الله جل ذكره أرادَ أن يجمعَ - برَصْفه العجيب ونظْمِه الغريب، المنعدِلِ عن أوزان الأشعار، وسجْع الكُهَّان وخطب الخطباء ورَسائل البلغاء، العاجز عن رَصْف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد - الدلالةَ (4) على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه، تنبيهَ (5) العباد على عَظمته وسلطانه وقدرته وعِظم مَملكته، ليذكرُوه بآلائه، ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيدَ، ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل؛ وبما فيه من نَعْتِ من أنعم عليه بمعرفته، وتفضَّل عليه بتوفيقه لطاعته، تعريفَ (6) عباده أن كل ما بهم من نعمة، في دينهم ودنياهم، فمنه، ليصرفوا رَغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دُون ما سواهُ من الآلهة والأنداد، وبما فيه من ذكره ما أحلّ بمن عَصَاه منْ مَثُلاته، وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته -ترهيبَ (7) عباده عن ركوب
(1) انظر ما مضى: 71
(2)
في المطبوعة "ووصفه". ورصف الشيء ضم بعضه إلى بعض ونظمه حتى يكون مستويا محكما منضدا.
(3)
في المخطوطة: "آية القرآن" غير منقوطة.
(4)
"الدلالة" مفعول "أن يجمع. . . "، ثم عطف عليها بعد، ما سننبه له.
(5)
هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا.
(6)
هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا.
(7)
هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا.
معاصيه، والتعرُّضِ لما لا قِبَل لهم به من سَخَطه، فيسلكَ بهم في النكال والنَّقِمات سبيلَ من ركب ذلك من الهُلاك.
فذلك وَجْه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيرًا لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة.
* * *
221-
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي السائب مولى زُهْرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال العبد: "الحمد لله ربّ العالمين"، قال الله:"حمدني عبدي". وإذا قال: "الرحمن الرحيم"، قال:"أثنى عليّ عبدي". وإذا قال: "مالكِ يوم الدين"، قال:"مجَّدني عبدي. فهذا لي". وإذا قَال: "إيّاك نَعبُد وإيّاكَ نستعين" إلى أن يختم السورة، قال: "فذاكَ لهُ (1) .
222 -
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: إذا قال العبد: "الحمد لله"، فذكر نحوه، ولم يرفعه (2) .
223 -
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرَقَة، عن أبي السائب، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله (3) .
224-
حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: حدثنا زيد بن الحُبَاب،
(1) الحديث 221 - المحاربي: هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد، وهو ثقة، أخرج له الجماعة.
محمد بن إسحاق: هو ابن يسار، صاحب السيرة، ثقة معروف، تكلم فيه بعضهم بغير حجة وبغير وجه. العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة -بضم الحاء وفتح الراء-: تابعي ثقة. أبو السائب مولى زهرة: تابعي ثقة، قال ابن عبد البر:"أجمعوا على أنه ثقة مقبول النقل". والحديث رواه الطبري بعد هذا موقوفًا بإسنادين. وسنذكر تخريجه في آخرهما: 223.
(2)
الحديث 222 - عبدة: هو ابن سليمان الكلابي، من شيوخ أحمد وإسحاق، قال أحمد:"ثقة ثقة وزيادة، مع صلاح في بدنه".
(3)
الحديث 223 - أبو أسامة: هو حماد بن أسامة. الوليد بن كثير المخزومي: ثقة ثبت أخرج له الجماعة.
وهذا الحديث -بإسناديه الموقوفين- مرفوع حكمًا، وإن كان في هاتين الروايتين موقوفًا لفظًا. فإن هذا مما لا يعلم بالرأي، ولا يدخل فيه مناط الاجتهاد.
ثم إن الرفع زيادة من الثقة، وهي مقبولة. وفوق هذا كله، فإنه لم ينفرد برفعه راويه في الإسناد الأول، وهو المحاربي، بل ورد بأسانيد أخر مرفوعًا.
وهو قطعة من حديث طويل، رواه مالك في الموطأ: 84 - 85 عن العلاء بن عبد الرحمن، بهذا الإسناد مرفوعًا. وكفى بمالك حجة في التوثق من رفعه لفظا فوق رفعه حكمًا. وكذلك رواه مسلم 1: 166 (4: 101 - 104 من شرح النووي) ، من طريق مالك، ومن طريق سفيان بن عيينة، ومن طريق ابن جريج، ومن طريق أبي أويس -كلهم عن العلاء عن أبي السائب، به مرفوعًا. وزاد أبو أويس عن العلاء قال:"سمعت من أبي ومن أبي السائب، وكانا جليسي أبي هريرة. . . "، فذكره مرفوعا.
ونسبه السيوطي 1: 6 لسفيان بن عيينة في تفسيره، وأبي عبيدة في فضائله، وابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة، وابن حبان، وغيرهم. وذكر ابن كثير 1: 24 - 25 بعض طرقه مفصلة.
قال: حدثنا عَنْبسة بن سعيد، عن مُطَرِّف بن طَرِيف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: "قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفين، وله ما سَأل". فإذا قال العبد: "الحمدُ لله ربّ العالمين" قال الله: "حمدَني عَبدي"، وإذا قال:"الرحمن الرحيم"، قال:"أثنى عليّ عَبدي"، وإذا قال:"مالكِ يَومِ الدين" قال: "مجَّدني عَبدي" قال: "هذا لي، وما بقي"(1) . "آخرُ تفسيرِ سُورَةِ فَاتِحةُ الكتابِ".
(1) الحديث 224 - هذا إسناد جيد صحيح. صالح بن مسمار السلمي المروزي: ثقة، روى عنه مسلم في صحيحه، وقال أبو حاتم:"صدوق"، كما في كتاب ابنه 2 / 1 / 415، وذكره ابن حبان في الثقات. عنبسة بن سعيد الضريس الرازي قاضي الري: ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو داود وغيرهم، وصرح البخاري في الكبير 4 / 1 / 35 بأنه يروي عن مطرف. و "الضريس": بضم الضاد المعجمة وآخره سين مهملة، كما ضبطه الحافظ في التقريب. مطرف بن طريف: ثقة ثبت، أخرج له الجماعة. سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: ثقة لا يختلف فيه، كما قال ابن عبد البر، وهو من شيوخ مالك. وروايته عن جابر متصلة، لأنه يروي عن أبيه "إسحاق بن كعب" يوم الحرة سنة 63، وقد عاش جابر بعدها أكثر من عشر سنين.
والحديث ذكره السيوطي 1: 6 ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما. وذكره ابن كثير 1: 25 عن هذا الموضع من الطبري - ووقع في إسناده غلط مطبعي - وقال: "وهذا غريب من هذا الوجه" ّ ولعله يريد أنه لم يروه أحد من حديث جابر إلا بهذا الإسناد. وليس من ذلك باس، وقد ثبت معناه من حديث أبي هريرة، فهو شاهد قوي لصحته.
جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، قال: إخوانهم من المشركين، (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) .
357-
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين.
358-
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: وقال مجاهد: شياطينُهم: أصحابُهم من المنافقين والمشركين (1) .
فإن قال لنا قائل: أرأيتَ قولَه (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ؟ فكيف قيل: (خلوا إلى شياطينهم)، ولم يقل خَلَوْا بشياطينهم؟ فقد علمتَ أنّ الجاريَ بين الناس في كلامهم:"خلوتُ بفلان" أكثر وأفشَى من:"خلوتُ إلى فلان"؛ ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان!
قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب. فكان بعض نحويِّي البصرة يقول: يقال"خلوتُ إلى فلان" إذا أريدَ به: خلوتُ إليه في حاجة خاصة. لا يحتَمِل -إذا قيل كذلك- إلا الخلاءَ إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل:"خلوت به" احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة، والآخَر في السخرية به. فعلى هذا القول، (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) ، لا شكّ أفصحُ منه لو قيل"وإذا خلوا بشياطينهم"، لما في قول القائل:"إذا خلوا بشياطينهم" من التباس المعنى على سامعيه، الذي هو مُنتفٍ عن قوله:"وإذا خلوا إلى شياطينهم". فهذا أحد الأقوال.
والقول الآخر: فأن تُوَجِّه معنى (2) قوله (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ،"وإذا
(1) هذه الآثار السالفة: 349 - 358: ذكر أكثرها ابن كثير في تفسيره 1: 93، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1:33.
(2)
في المطبوعة: "والقول الآخر: أن توجيه معنى قوله".
خلوا مع شياطينهم"، إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا (1) ، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) [سورة الصف: 14] ، يريد: مع الله. وكما توضع"على" في موضع"من"، و" في" و"عن" و"الباء"، كما قال الشاعر:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ
…
لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا (2)
بمعنى عَنِّي.
وأما بعض نحويي أهل الكوفة، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى: وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ "إلى"، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ: من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم، لا قوله"خَلَوْا". وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع"إلى" غيرُها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.
وهذا القول عندي أولى بالصواب، لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره (3) فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ "إلى" في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها.
* * *
(1) حروف الصفات: هي حرف الجر، وسميت حروف الجر، لأنها تجر ما بعدها، وسميت حروف الصفات، لأنها تحدث في الاسم صفة حادثة، كقولك:"جلست في الدار"، دلت على أن الدار وعاء للجلوس. وقيل: سميت بذلك، لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات. ويسميها الكوفيون أيضًا: حروف الإضافة، لأنها تضيف الاسم إلى الفعل، أي توصله إليه وتربطه به. (همع الهوامع 2: 19) وتسمى أيضًا حروف المعاني، كما سيأتي بعد قليل. والمعاقبة: أن يستعمل أحدهما مكان الآخر بمثل معناه.
(2)
الشعر للعقيف العقيلي، يمدح حكيم بن المسيب القشيري. نوادر أبي زيد: 176، خزانة الأدب 4: 247، وغيرهما كثير.
(3)
حروف المعاني، هي حروف الصفات، وحروف الجر، كما مضى آنفًا، تعليق: 1