الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل أسماء القرآن وسُوَره وآيهِ
قال أبو جعفر: إنّ الله تعالى ذكرهُ سمَّى تنزيله الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة:
منهن: "القرآن"، فقال في تسميته إياه بذلك في تَنزيله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف: 3]، وقال:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة النمل: 76] .
ومنهنّ: "الفرقان"، قال جل ثناؤه في وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يُسمِّيه بذلك:{تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [سورة الفرقان: 1] .
ومنهن: "الكتاب": قال تباركَ اسمهُ في تسميته إياه به: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [سورة الكهف: 1] .
ومنهنّ: "الذكر"، قال تعالى ذكره في تسميته إياه به:{إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9] .
ولكلّ اسم من أسمائه الأربعة في كلام العرب، معنى ووجهٌ غيرُ معنى الآخر ووجهه.
فأما "القرآن"، فإن المفسرين اختلفوا في تأويله. والواجبُ أن يكون تأويله على قول ابن عباس: من التلاوة والقراءة، وأن يكون مصدرًا من قول القائل:
قرأت، كقولك "الخُسران" من "خَسِرت"، و "الغُفْران" من "غفر الله لك"، و "الكُفران" من "كفرتُك"، "والفرقان" من "فَرَق الله بين الحق والباطل".
117-
وذلك أن يحيى بن عثمان بن صالح السهمي حدثني، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: بيَّناه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سورة القيامة: 18] يقول: اعمل به (1) .
ومعنى قول ابن عباس هذا: فإذا بيَّناه بالقراءة، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة. ومما يوضح صحة ما قلنا في تأويل حديث ابن عباس هذا، ما:-
118-
حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة: 17] قال: أن نُقرئك فلا تنسى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} عليك {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} يقول: إذا تُلي عليك فاتَّبعْ ما فيه (2) .
قال أبو جعفر: فقد صرَّح هذا الخبرُ عن ابن عباس: أنّ معنى "القرآن" عنده القراءة، فإنه مصدر من قول القائل: قَرأتُ، على ما بيَّناه.
وأما على قول قتادة، فإن الواجب أن يكون مصدرًا، من قول القائل: قرأتُ الشيء، إذا جمعتَهُ وضممتَ بعضه إلى بعض، كقولك:"ما قرأتْ هذه الناقةُ سَلًى قطُّ"(3) تريد بذلك أنها لم تضمُمْ رحمًا على ولد، كما قال عَمرو بن كلثوم التغلبيّ:
(1) الأثر 117- سيأتي في تفسير سورة القيامة: 17-18، وفي إسناده هناك خطأ، ذلك أنه قال:"حدثنا علي قال حدثنا أبو صالح.." وصوابه: "حدثنا يحيى قال حدثنا أبو صالح". وأبو صالح هو: عبد الله بن صالح المبين في إسنادنا هذا.
(2)
الأثر 118- سيأتي أيضا في تفسير هذه الآية من سورة القيامة.
(3)
السلى: الجلدة الرقيقة التي يكون الولد في بطن أمه ملفوفًا فيها، وهو في الدواب والإبل: السلى، وفي الناس: المشيمة.
تُرِيكَ -إذَا دَخَلْتَ على خَلاء،
…
وَقَدْ أمِنَت عُيُونَ الكاشِحِينا- (1)
ذِرَاعَىْ عَيْطَلٍ، أدْماءَ، بِكْرٍ،
…
هِجَانِ الّلوْن، لَمْ تَقْرَأ جَنِينا (2)
يعني بقوله: "لم تقرأ جنينًا"، لم تضمُمْ رحمًا على ولد.
119-
وذلك أن بشر بن مُعاذ العَقَديّ حدثنا قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع قال: حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادةَ في قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} يقول: حفظه وتأليفه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} اتَّبع حلاله، واجتنب حرامه.
120-
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: حدثنا معمر، عن قتادة بمثله. (3)
فرأى قتادة أن تأويلَ "القرآن": التأليفُ.
قال أبو جعفر: ولكلا القولين -أعنى قولَ ابن عباس وقول قتادة- اللذين حكيناهما، وجهٌ صحيح في كلام العرب. غيرَ أنّ أولى قولَيْهما بتأويل قول الله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قول ابن عباس.
لأن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه في غير آيةٍ من تنزيله باتباع ما أوحى إليه، ولم يرخِّص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقتِ تأليفِه القرآنَ له. فكذلك قوله:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} نظير سائر ما في آي القرآن التي أمره الله فيها باتباع ما أوحى إليه في تنزيله.
(1) من معلقته المشهورة. والضمير في قوله: "تريك" إلى أم عمرو صاحبته. والكاشح: العدو المضمر العداوة، المعرض عنك بكشحه. وقوله:"على خلاء"، أي على غرة وهي خالية متبذلة.
(2)
العيطل: الناقة الطويلة العنق في حسن منظر وسمن. والأدماء: البيضاء مع سواد المقلتين، وخير الإبل الأدم، والعرب تقول:"قريش الإبل أدمها وصهبها"، يعنون أنها في الإبل كقريش في الناس فضلا. ووصفها بأنها بكر، لأن ذلك أحسن لها، وهي في عهدها ذلك ألين وأسمن. وهجان اللون: بيضاء كريمة. وسيأتي هذا البيت الثاني في تفسير الطبري 29: 118 "بولاق".
(3)
الأثر 119، 120- سيأتي بإسناديه في تفسير سورة القيامة.
ولو وَجب أنْ يكون معنى قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فإذا ألَّفناه فاتبع ما ألَّفنا لك فيه - لوجب أن لا يكون كان لزِمه فرضُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ولا فرضُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر: 1، 2] قبل أن يؤلَّف إلى ذلك غيرُه من القرآن. وذلك، إنْ قاله قائل، خروجٌ من قول أهل المِلَّة.
وإذ صَحَّ أن حكم كلّ آية من آي القرآن كانَ لازمًا النبيَّ صلى الله عليه وسلم اتباعُه والعملُ به، مؤلَّفة كانت إلى غيرها أو غيرَ مؤلَّفة -صحّ ما قال ابن عباس في تأويل قوله:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أنه يعني به: فإذا بيَّناه لك بقراءتنا، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا- دون قول من قال: معناه، فإذا ألَّفناه فاتَّبع ما ألفناه.
وقد قيل إن قول الشاعر:
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوانُ السُّجُودِ بِه
…
يُقَطِّع الَّليلَ تَسْبِيحًا وقُرْآنَا (1)
يعني به قائله: تسبيحًا وقراءةٌ.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يسمى "قرآنًا" بمعنى القراءة، وإنما هو مقروء؟
قيل: كما جاز أن يسمى المكتوب "كتابًا"، بمعنى: كتاب الكاتب، كما قال الشاعر في صفة كتاب طَلاقٍ كتبه لامرأته:
تُؤَمِّل رَجْعةً مِنّى، وفيها
…
كِتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِرَاءُ (2)
(1) البيت لحسان بن ثابت، ديوانه: 410، وضحى: ذبح شاته ضحى النحر، وهي الأضحية. واستعاره حسان لمقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35، رضي الله عنهما. والعنوان: الأثر الذي يظهر فتستدل به على الشيء.
(2)
لم أجد هذا البيت في شيء من المراجع التي بين يدي. وتنصب "مثل" على أنه بيان لحال المفعول المطلق المحذوف، وتقديره:"كتاب لاصق لصوقًا مثل ما لصق الغراء"
يريد: طلاقًا مكتوبًا، فجعل "المكتوب" كتابًا.
وأما تأويل اسمه الذي هو "فُرْقان"، فإن تفسيرَ أهل التفسير جاء في ذلك بألفاظ مختلفة، هي في المعاني مؤتلفة.
121-
فقال عكرمة، فيما حدثنا به ابن حُميد، قال: حدثنا حَكَّام بن سَلْم، عن عَنْبسة، عن جابر، عن عكرمة: أنه كان يقول: هو النَّجاة.
وكذلك كان السُّدِّيّ يتأوَّلهُ.
122-
حدثنا بذلك محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المُفَضَّل، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّي - وهو قول جماعة غيرهما.
وكان ابن عباس يقول: "الفرقان": المخرَجُ.
123-
حدثني بذلك يحيى بن عثمان بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وكذلك كان مجاهد يقول في تأويله بذلك.
124-
حدثنا بذلك ابن حُميد، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد (1) .
وكان مجاهد يقول في قول الله عز وجل: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [سورة الأنفال: 41] يومٌ فَرَقَ الله فيه بين الحقّ والباطل.
125-
حدثني بذلك محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثني أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (2) .
وكل هذه التأويلات في معنى "الفرقان" -على اختلاف ألفاظها- متقاربات المعاني. وذلك أنّ من جُعِل له مخرجٌ من أمر كان فيه، فقد جُعل
(1) الآثار السالفة كلها مروية في تفسير آية الأنفال: 29.
(2)
الأثر 125- يأتي في تفسير آية الأنفال: 41
له ذلك المخرجُ منه نجاةٌ. وكذلك إذا نُجِّي منه، فقد نُصِر على من بَغَاه فيه سُوءًا، وفُرِق بينه وبين باغيه السُّوءَ.
فجميع ما روينا -عمن روينا عنه- في معنى "الفرقان"، قولٌ صحيح المعاني، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك.
وأصل "الفُرْقان" عندنا: الفرقُ بين الشيئين والفصل بينهما. وقد يكون ذلك بقضاءٍ، واستنقاذٍ، وإظهار حُجَّة، ونَصْرٍ (1) وغير ذلك من المعاني المفرِّقة بين المحقّ والمبطِل. فقد تبين بذلك أنّ القرآن سُمّي "فرقانًا"، لفصله -بحججه وأدلَّته وحدود فرائضه وسائر معاني حُكمه- بين المحق والمبطل. وفرقانُه بينهما: بنصره المحقّ، وتخذيله المبطل، حُكمًا وقضاءً.
وأما تأويل اسمه الذي هو "كتابٌ": فهو مصدر من قولك "كتبت كتابًا" كما تقولُ: قمت قيامًا، وحسبت الشيء حسابًا. والكتابُ: هو خطُّ الكاتب حروفَ المعجم مجموعةً ومفترقة. وسُمي "كتابًا"، وإنما هو مكتوب، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به:
وفيها كِتابٌ مثلَ ما لَصِقَ الغِراءُ
يعني به مكتوبًا.
وأما تأويل اسمه الذي هو "ذِكْرٌ"، فإنه محتمل معنيين: أحدهما: أنه ذكرٌ من الله جل ذكره، ذكَّر به عباده، فعرَّفهم فيه حدوده وفرائضه، وسائرَ ما أودعه من حُكمه. والآخر: أنه ذكرٌ وشرف وفخرٌ لمن آمن به وصدَّق بما فيه، كما قال جل ثناؤه:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [سورة الزخرف: 44] ، يعني به أنه شرفٌ له ولقومه.
(1) في المطبوعة: "وتصرف" مكان "ونصر"، وهو خطأ محض.
ثم لسوَر القرآن أسماءٌ سمّاها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
126-
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا أبو العوَّام -وحدثني محمد بن خلف العَسْقلاني، قال: حدثنا رَوَّاد بن الجرّاح، قال: حدثنا سعيد بن بَشير، جميعًا- عن قتادة، عن أبي المَليح، عن واثلة بن الأسْقَع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطِيتُ مكان التوراةِ السبعَ الطُّوَل، وأعطيت مكان الزَّبور المِئِين، وأعطيتُ مكان الإنجيل المَثَاني، وفُضِّلت بالمفصَّل (1) .
127-
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلية، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قِلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطِيتُ السبعَ الطُّوَل مكان التوراة، وأعطيت المثانِيَ مكانَ الزَّبور، وأعطيت المئين مكانَ الإنجيل، وفُضِّلت بالمفصَّل (2) . قال خالد: كانوا يسمُّون المفصَّل: العربيَّ. قال خالد: قال بعضهم: ليس في العربيّ سجدةٌ.
(1) الحديث 126- رواه الطبري هنا بإسنادين، أحدهما صحيح، والآخر ضعيف: فرواه من طريق أبي داود الطيالسي عن أبي العوام، وهذا إسناد صحيح. ورواه من طريق رواد بن الجراح عن سعيد بن بشير، وهذا إسناد ضعيف- كلاهما عن قتادة.
أما طريق الطيالسي، فإنه في مسنده رقم 1012، ورواه أحمد في المسند رقم 17049 (4: 107 طبعة الحلبي) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 158، ونسبه أيضًا للطبراني "بنحوه". وأبو العوام، في الإسناد الأول: هو "عمران بن داور" بفتح الدال وبعد الألف واو مفتوحة وآخره راء- "القطان"، وهو ثقة.
وأما الطريق الثاني، ففي إسناده "رواد بن الجراح العسقلاني"، وهو صدوق، إلا أنه تغير حفظه في آخر عمره، كما قال أبو حاتم، فيما نقله عنه ابنه في الجرح والتعديل 1\2: 524، وقال البخاري في الكبير 2\1: 307: "كان قد اختلط، لا يكاد أن يقوم حديثه". و" رواد" بفتح الراء وتشديد الواو وآخره دال. ووقع في الأصول هنا "داود"، وهو خطأ. وفي إسناده أيضًا "سعيد بن بشير"، وهو صدوق يتكلمون في حفظه. ولكن لم ينفرد "رواد" بروايته عن سعيد، فقد ذكره ابن كثير في التفسير 1: 64 من كتاب أبي عبيد: عن هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير، وقال ابن كثير:"هذا حديث غريب، وسعيد بن بشير: فيه لين"، وهو تعليل غير محرر! فإن سعيد بن بشير لم ينفرد به -كما هو ظاهر- بل تأيدت روايته برواية الطيالسي عن أبي العوام عمران بن داور، وهو إسناد صحيح، كما قلنا. وسيأتي بإسناد ثالث، رقم 129.
(2)
الحديث 127- هذا خبر مرسل عن أبي قلابة.
128-
وحدثنا محمد بن حميد، قال حدثنا حَكَّام بن سَلْم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن المسيَّب، عن ابن مسعود قال: الطُّوَل كالتوراة، والمئون كالإنجيل، والمثاني كالزَّبور، وسائر القرآن بعدُ فَضْلٌ على الكتب (1) .
129-
حدثني أبو عُبيد الوَصَّابي، قال: حدثنا محمد بن حفص، قال: أنبأنا أبو حميد، حدثنا الفزاري، عن ليث بن أبي سُلَيم، عن أبي بُرْدة، عن أبي المَلِيح، عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال أعطاني ربيّ مكانَ التوراة السبعَ الطول، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزَّبور المئين، وفضّلني ربي بالمفصَّل (2) .
قال أبو جعفر: والسبع الطُّوَل: البقرةُ، وآل عِمْران، والنساء، والمائدة،
(1) الخبر 128- لم نجد خبر ابن مسعود هذا. و "عاصم": هو ابن أبي النجود، بفتح النون، وهو عاصم بن بهدلة. و "المسيب": هو ابن رافع الأسدي، وهو تابعي ثقة، ولكنه لم يلق ابن مسعود، إنما يروى عن مجاهد ونحوه، كما قال أبو حاتم. انظر التهذيب 10: 153، والمراسيل لابن أبي حاتم: 76، وشرح المسند، في الحديث:3676.
(2)
الحديث 129- هذا إسناد آخر للحديث الماضي 126، وهو إسناد مشكل، لم تستبن لنا حقيقته:
فأوله "أبو عبيد الوصابي حدثنا محمد بن حفص"! كذا وقع في الأصول. وأخشى أن يكون خطأ، بل لعله الراجح عندي، فإن أبا عبيد الوصابي: هو محمد بن حفص نفسه، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3\2: 237، قال:"محمد بن حفص الوصابي الحمصي أبو عبيد، روى عن محمد بن حمير وأبي حيوة شريح بن يزيد. أدركته وأردت قصده والسماع منه، فقال لي بعض أهل حمص: ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير، فتركته". وترجمه الحافظ في لسان الميزان 5: 146 بنحو هذا، وزاد أن ابن مندة ضعفه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات. وكذلك ذكره الدولابي في الكنى 2: 75، 76 باسمه وكنيته، وروى حديثًا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبيد هذا.
ثم "أبو حميد" الراوي عنه محمد بن حفص: لم أستطع أن أعرف من هو؟ وكذلك "الفزاري" شيخ أبي حميد، وقد يكون هو أبا إسحاق الفزاري.
وأما أبو بردة: فهو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو يروي في هذا الإسناد عن أبي المليح بن أسامة الهذلي، وكلاهما تابعي، إلا أن أبا بردة أكبر من أبي المليح، فيكون من رواية الأكابر عن الأصاغر.
وفي مجمع الزوائد 7: 158 حديث نحو هذا من حديث أبي أمامة، قال الهيثمي:"رواه الطبراني، وفيه ليث بن أبي سليم، وقد ضعفه جماعة، ويعتبر بحديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح".
والأنعام، والأعراف، ويونس،، في قول سعيد بن جبير (1) .
130-
حدثني بذلك يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم، عن أبي بِشر، عن سعيد بن جبير.
وقد روي عن ابن عباس قولٌ يدلّ على موافقته قولَ سعيد هذا.
131-
وذلك ما حدثنا به محمد بن بَشَّار، قال: حدثنا ابن أبي عَديّ، ويحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، وسهل بن يوسف، قالوا: حدثنا عَوْف، قال: حدثني يزيد الفارسيّ، قال: حدثني ابن عباس: قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عَمَدْتُم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطرًا:"بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتموهما في السبع الطُّوَل؟ ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا يأتي عليه الزمانُ وهو تُنزل عليه السُّورُ ذواتُ العَدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا ببعض من كان يكتبُ فيقول: ضَعُوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءةُ من آخر القرآن نزولا وكانت قِصَّتُها شبيهةً بقصتها، فظننت أنها منها. فقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنتُ بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتهما في السبَّع الطُّوَل"(2) .
فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رحمة الله عليه، أنه لم يكن تَبيَّن له أنَّ
(1) انظر تفسير ابن كثير في أول سورة البقرة 1: 64. و "الطول"، بضم الطاء وفتح اللام: جمع "الطولى"، مثل "الكبر" و "الكبرى".
(2)
الخبر 131 - رواه أحمد بن حنبل في المسند عن يحيى بن سعيد، وعن إسماعيل بن إبراهيم، وعن محمد بن جعفر، كلهم عن عوف الأعرابي، بهذا الإسناد، مطولا، برقمي: 399، 499 وهو حديث ضعيف جدًا، فصلت طرقه، ووجه ضعفه، في شرح المسند:399.
الأنفال وبراءةَ من السبع الطُّوَل، ويصرِّح عن ابن عباس انه لم يكن يَرى ذلك منها.
وإنما سميت هذه السور السبعَ الطُّوَل، لطولها على سائر سُوَر القرآن.
وأما "المئون: فهي ما كان من سور القرآن عددُ آية مئة آية، أو تزيد عليها شيئا أو تنقص منها شيئا يسيًرا.
وأما "المثاني: فإنها ما ثَنيَّ المئين فتلاها، وكان المئون لها أوائلَ، وكان المثاني لها ثواني. وقد قيل: إن المثاني سميت مثاني، لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثالَ والخبرَ والعبرَ، وهو قول ابن عباس.
132-
حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وروى عن سعيد بن جبير، أنه كان يقول: إنما سميت مثاني لأنها ثنيت فيها الفرائضُ والحدود.
133-
حدثنا بذلك محمد بن بَشَّار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير.
وقد قال جماعة يكثر تعدادهم: القرآن كله مَثانٍ.
وقال جماعة أخرى: بل المثاني فاتحة الكتاب، لأنها تُثْنَى قراءتُها في كل صلاة.
وسنذكر أسماء قائلي ذلك وعللَهم، والصوابَ من القول فيما اختلفوا فيه من ذلك، إذا انتهينا إلى تأويل قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر: 87] إن شاء الله ذلك.
وبمثل ما جاءتْ به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء سور القرآن التي ذُكرَتْ، جاء شعرُ الشعراء. فقال بعضهم:
حَلفتُ بالسَّبع اللّواتي طُوِّلتْ
…
وبِمِئينَ بعدَها قد أُمْئِيَت (1)
وبمَثَانٍ ثُنِّيتْ فكُرِّرتْ
…
وبالطَّواسِينِ التي قد ثُلِّثَتْ (2)
وبالحَوامِيم اللَّوَاتِي سُبِّعتْ
…
وبالمفصَّلِ اللَّواتِي فُصِّلتْ (3)
قال أبو جعفر رحمة الله عليه: وهذه الأبيات تدل على صحّة التأويل الذي تأوَّلناه في هذه الأسماء.
وأما "المفصَّل": فغنها سميت مفصَّلا لكثرة الفصول التي بين سورَها ب "بسم الله الرحمن الرحيم".
قال أبو جعفر: ثم تسمى كل سورة من سور القرآن "سورة"، وتجمع سُوَرًا"، على تقدير "خُطبة وخُطب"، "وغُرفة وغُرَف".
والسورة، بغير همز: المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سُور المدينة، سمي بذلك الحائطُ الذي يحويها، لارتفاعه على ما يحويه. غير أن السُّورة من سُور المدينة لم يسمع في جمعها "سُوَر"، كما سمع في جمع سورة من القرآن "سور". قال العجاج في جمع السُّورة من البناء:
فرُبَّ ذِي سُرَادِقٍ مَحْجُورِ
…
سُرْتُ إليه في أعالي السُّورِ (4)
فخرَج تقدير جمعها على تقدير جَمع بُرَّة وبُسْرة، لأن ذلك يجمع بُرًّا وبُسرًا. وكذلك لم يسمع في جمع سورة من القرآن سُوْرٌ، ولو جمعت كذلك لم يكن خطأ في القياس، إذا أريد به جميعُ القرآن. وإنما تركوا -فيما نرى- جمعه كذلك، لأن كل جمع كان بلفظ الواحد المذكَّر مثل: بُرّ وشعير وقَصَب وما أشبه ذلك، فإن
(1) الأبيات في مجاز القرآن لأبي عبيدة: 7. أمأيت لك الشيء: أكملت لك عدته حتى بلغ المئة.
(2)
الطواسين التي ثلثت، يعني طسم الشعراء، وطس النمل، وطسم القصص.
(3)
الحواميم التي سبعت: سبع سور من سورة غافر إلى سورة الأحقاف.
(4)
ديوانه: 27. والسرادق: كل ما أحاط بالشيء واشتمل عليه، من مضرب أو خباء أو بناء. ويعني حريم الملك. ومحجور: محرم ممنوع لا يوطأ إلا بإذن. وسار الحائط يسوره وتسوره: علاه وتسلقه. "سرتُ إليه": تسلقته.
جِماعَه يجري مجرى الواحد من الأشياء غيره (1). لأن حكم الواحد منه منفردًا قَلَمَّا يُصاب، فجرى جماعه مجرى من الأشياء غيره (2) ثم جُعلت الواحدة منه كالقطعة من جميعه، فقيل: بُرَّة وشعيرة وقصبة، يراد به قطعة منه (3). ولم تكن سور القرآن موجودةً مجتمعةً اجتماعَ البرّ والشعير وسور المدينة، بل كلّ سورة منها موجودةٌ منفردة بنفسها، انفرادَ كل غُرْفة من الغُرف وخُطبة من الخطب، فجُعِل جمعُها جمع الغُرَف والخطب، المبنيِّ جمعها من واحدها.
ومن الدلالة على أنّ معنى السورة: المنزلةُ من الارتفاع، قول نابغة بني ذُبيان:
أَلَمْ تَرَ أنَّ الله أعطاكَ سُورَةً
…
تَرَى كلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ (4)
يعني بذلك: أنّ الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصَّرت عنها منازلُ الملوك.
وقد همز بعضهم السورةَ من القرآن. وتأويلُها، في لغة من هَمَزها، القطعةُ التي قد أفضِلت من القرآن عما سواها وأبقيت. وذلك أن سؤر كل شيء: البقية منه تَبقى بعدَ الذي يُؤخذ منه، ولذلك سميت الفضْلة من شراب الرجل -يشرَبُه ثم يُفضلها فيبقيها في الإناء- سُؤْرًا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، يصف امرأةً فارقته فأبقت في قلبه من وجْدِها بقية:
فبَانَتْ، وقد أَسْأَرتْ في الفُؤادِ
…
صَدْعًا، على نَأيِهَا، مُسْتَطِيَرا (5)
(1) في المطبوعة: "فإن جماعه كالواحد". وفي المخطوطة "فإن جماعه مجرى الواحد"، سقط من الناسخ قوله "يجري
…
".
(2)
في المطبوعة "مفردا" مكان "منفردا".
(3)
يعني أنه اسم جنس، سبق الجمع الواحد. لأنه لم يوضع للآحاد، وإنما وضع لجملته مجتمعًا، وهو الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء.
(4)
ديوانة: 57، ويأتي في تفسير الطبري: 215 (بولاق). يتذبذب: يضطرب ويحار. والذبذبة: تردد الشيء المعلق في الهواء يمنة ويسرة. يقول: أعطاك الله من المنزلة الرفيعة، ما لو رامه ملك وتسامى إليه، بقى معلقًا دونها حائرًا يضطرب ويتردد، لا يطيق أن يبلغها.
(5)
ديوانه: 67، ويأتي في تفسير للطبري 29: 129 (بولاق). استطار الصدع في الزجاجة وغيرها: تبين فيها من أولها إلى آخرها، وفشا وامتد.
وقال الأعشى في مثل ذلك:
بَانَتْ، وقد أَسْأَرْت في النَّفس حَاجتَهَا،
…
بعدَ ائتِلاف; وخيرُ الوُدِّ ما نَفَعَا (1)
وأما الآية من آي القرآن، فإنها تحتمل وجهين في كلام العرب:
أحدهُما: أن تكون سمِّيت آية، لأنها علامةٌ يُعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالةً على الشيء يُستدلْ بها عليه، كقول الشاعر:
ألِكْنى إليها، عَمْرَك اللهُ يا فَتى،
…
بآيةِ ما جَاءتْ إلينا تَهَادِيَا (2)
يعني: بعلامة ذلك (3). ومنه قوله جل ذكرُه: {رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ} [سورة المائدة: 114] أي علامةً منك لإجابتك دُعاءنا وإعطائك إيَّانا سُؤلَنا.
والآخر منهما: القصةُ، كما قال كعب بن زهير بن أبي سُلمى:
ألا أبْلغا هذا المُعَرِّض آيَةً:
…
أَيْقَظانَ قالَ القولَ إذْ قَالَ، أمْ حَلَم (4)
يعني بقوله "آية": رسالةً منّي وخبرًا عني.
فيكون معنى الآيات: القصص، قصةٌ تتلو قصةً، بفُصُول ووُصُول.
(1) ديوانه: 73. "بعد ائتلاف": أي بعد ما كنا فيه من جمّاع وألفة.
(2)
الشعر لسحيم عبد بني الحسحاس، ديوانه: 19، ويأتي في تفسير الطبري 1: 156 (بولاق) ألكنى إليها: أبلغها رسالة مني، والرسالة: الألوك والمألكة. وتهادى في مشيه: تمايل دلالا أو ضعفًا.
(3)
في المخطوطة: "بعلامة دلت"، وهو خطأ.
(4)
ديوانه: 64، وروايته:"أنه أيقظان". وقد استظهرت في شرح كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 89، أن الصواب "آية"، كما جاء في مخطوطة الطبقات، وشرح الطبري دال على صواب ما استظهرت. وأهملت كتب اللغة تفسير هذا الحرف على وجهه، مع مجيئه في شعر كعب وغيره، كقول حجل بن نضلة:
أبلغْ معاويةَ الممزَّق آيَةً
…
عنِّي، فلستُ كبَعض من يتَقَوَّلُ