المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قول الله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قول الله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا

القول في تأويل قول الله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‌

(28)

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا}

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم بما:

576-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم"، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة.

577-

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله:(أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)[سورة غافر: 11]، قال: هي كالتي في البقرة:"كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم".

578-

حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا عَبْثَر، قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا، ثم أمَتَّنَا، ثم أَحْيَيْتَنَا.

579-

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم، عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله، ثم أماتهم، ثم أحياهم (1) .

(1) الأثر: 579-"حصين". بضم الحاء المهملة: هو ابن عبد الرحمن السلمي. و"أبو مالك": هو الغفاري الكوفي، واسمه"غزوان". سبقت ترجمته في:168.

ص: 418

580-

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد في قوله:"كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم"، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم، ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ، ثم يحييكم. وقوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، مثلها.

581-

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: هو قوله:"أمتَّنا اثنين وأحييتنا اثنين".

582-

حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية، في قول الله:"كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"، يقول: حين لم يكونوا شيئًا، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.

583-

حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون".

وقال آخرون بما:

584-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السُّدّيّ، عن أبي صالح:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون"، قال: يحييكم في القبر، ثم يميتكم.

وقال آخرون بما:

585-

حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد،

ص: 419

عن قتادة، قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم (1) ، فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان (2) .

وقال بعضهم بما:

586-

حدثني به يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى:"ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين". قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ:(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)، حتى بلغ:(أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[سورة الأعراف: 172-173] . قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى (3) فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا)[سورة النساء: 1]، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا (4)، وقرأ:(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ)[سورة الزمر: 6]، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله:(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) ،

(1) في المخطوطة: "في أصلبة"، والصواب"صلبة" (بكسر الصاد وفتح اللام) أو"أصلب" (بسكون الصاد وضم اللام) . وكلها جمع صلب (بضم فسكون) : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلى عجب الذنب.

(2)

الآثار: 575 - 585: بعضها في ابن كثير 1: 122 مجملة، وبعضها في الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 46، وكرهنا الإطالة بتفصيلها.

(3)

القصيري، بالتصغير: هي الضلع التي تلي الشاكلة أسفل الأضلاع، وهي أقصرهن.

(4)

في المطبوعة: "وبث فيهما بعد ذلك. . "، وهو خطأ.

ص: 420

وقرأ قول الله: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[سورة الأحزاب: 7] . قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)(1)[سورة المائدة: 7] .

قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل.

* * *

فأما وجه تأويل من تأول قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، أي لم تكونوا شيئًا، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ، وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ، وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ:

فَأَحْيَيْتَ لِي ذكْري، وَمَا كُنْتُ خَامِلا

وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (2)

يريد بقوله:"فأحييتَ لي ذكري"، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله:"وكنتم أمواتًا" لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم، وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم، وتعفِّي آثاركم، وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها،

(1) الأثر: 586- في ابن كثير 1: 122، والشوكاني 1: 47، مختصرًا جدًا.

(2)

الأغاني 18: 140، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 193، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته، كما قال أبو الفرج، ويقال اسمه: يعمر بن حزن بن زائدة، من بني سعد بن زيد مناة، وكان الأغلب عليه الرجز، وله قصيد قليل، وكان عاقًّا بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه. والبيت من أبيات، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك.

ص: 421

وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم (1) .

* * *

وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله"وكنتم أمواتًا"، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ (2) . وقوله جل ذكره:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة، ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.

* * *

وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود.

* * *

وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك، وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب (3) ، والمصير في البرزخ إلى اليوم

(1) في المطبوعة: "لتعارفوا"، وهي قريبة في المعنى.

(2)

الاستعتاب: الاستقالة من الذنب، والرجوع إلى ما يجلب الرضا، أي أن يستقيلوا وبهم ويستغفروه، ويرجعوا عن إساءتهم ويطلبوا رضاه. واستعتبه: طلب إليه الرجوع إلى ما يرضى. والاسترجاع: طلب الرجوع. واسترجعه: رده الله إلى الطاعة.

(3)

في المخطوطة: "للعودة إلى التراب"، وهي قريب.

ص: 422

البعث، وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.

وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه -عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا:"ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات، وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف -فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية، وقوله:"ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث، فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.

* * *

وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه (1) ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ

(1) في المخطوطة: "فيرد في جسمه"، وهي قريب.

ص: 423

ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه، والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (1) ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ، كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً، نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.

* * *

وأولى ما ذكرنا -من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم" الآية، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله:"وكنتم أمواتًا" أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك، كما قال:"ثم إليه تُرجعون"، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال جل ذكره:(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)[سورة المعارج: 43] وقال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)[سورة يس: 51] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.

وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين:"آمنَّا بالله وباليوم الآخر"، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن

(1) في المطبوعة: "وأبينت"، وهذه أجود.

ص: 424

بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه -بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم] (1) وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.

ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله:"إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرْهم لا يؤمنون" - (2) نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية، محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم، ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم، ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه، وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب (3) .

فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه، وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه، وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل، وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة، منبهًا لهم على حكمه

(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

(2)

قوله"نعمه" مفعول قوله"ثم عدد ربنا. . "، وما بينهما فصل.

(3)

في المطبوعة"يحذرهم بذلك. . . ويخوفهم. . . أحل بأوائلهم، ويعرفهم"، وانظر ما سيأتي في ص: 154 بولاق. وفي المخطوطة والمطبوعة: "من الخلاص. . " بغير واو، هو لا يستقيم، فلذلك زدناها. وقوله:"حلول مثلاته" جمع مثلة (بفتح الميم وضم الثاء) : وهي العقوبة والعذاب والنكال.

ص: 425

في المنيبين إليه بالتوبة، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة، إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان -بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (1) ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك، أنه لله رسولٌ مبعوث، وأن ما جاءهم به فمن عنده، إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم، ومصون ما في كتبهم، وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.

* * *

وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا، ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا، فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به، وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته-:(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[سورة البقرة: 29] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.

فلذلك قال جل ذكره:"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا".

(1) سياق هذه العبارة: "وخاصًّا أهل الكتاب. . بالاحتجاج عليهم. . لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم". وما بين هذه الأحرف المتعلقة بمراجعها، فصل متتابع، كعادة الطبري في كتابته.

ص: 426

وقوله:"هو" مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله:"كيف تكفرون بالله". ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و"ما" بمعنى"الذي".

فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً، ثم يميتكم، ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب، وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.

و"كيف" بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام، كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله، كما قال:(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)[سورة التكوير: 26] . وحل قوله:"وكنتم أمواتًا فأحياكم" محلّ الحال. وفيه ضميرُ"قد"(1) ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن"فعل" إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية"قد"، كما قال ثناؤه:(أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)[سورة النساء: 90]، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك، تريد: قد كثرت ماشيتك.

وبنحو الذي قلنا في قوله:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا"، كان قتادة يقول:

587-

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا"، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (2) .

* * *

(1) في المطبوعة"وفيه إضمار قد"، ولم يرد بالضمير ما اصطلح عليه النحويون، وإنما أراد المضمر الذي أخفى وستر. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 23 - 25.

(2)

الأثر: 587- في الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 48، وفيهما زيادة على الذي في أصول الطبري، وهي:". . ما في الأرض جميعًا، كرامةً من الله ونعمةً لابن آدم متاعًا، وبُلْغةً ومنفعة إلى أجل".

هذا وقد زادا معًا أثرًا آخر قالا أخرجه ابن جرير عن مجاهد، هذا هو:"في قوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا، قال: سخّر لكم ما في الأرض جميعًا". وإسناد هذا الأثر، هو الذي يأتي برقم: 591، لأنه من تمامه، كما هو بين فيما نقله السيوطي والشوكاني. ويوشك أن يكون في نسخ الطبري التي بين أيدينا حذف ألجأ النساخ إليه طول الكتاب، فقد مضى آنفًا مثل هذا النقص، ومثل هذه الزيادة

ص: 427

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}

قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله:"ثم استوى إلى السَّماء".

فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:

أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى

سَوَامِدَ، وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ (1)

فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع، وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله:"واستوين من الضجوع"، استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه.

وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد:

(1) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم: 795، 857)، وروايته"ثواني" مكان"سوامد". وشرورى: جبل بين بني أسد وبني عامر، في طريق مكة إلى الكوفة. والضجوع -بفتح الضاد المعجمة-: موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم. وقوله: "سوامد" جمع سامد. سمدت الإبل في سيرها: جدت وسارت سيرًا دائمًا، ولم تعرف الإعياء. وسوامد: دوائب لا يلحقهن كلال. والنون في"قطعن" للإبل.

ص: 428

تحوّل فِعله. [وقال بعضهم: قوله:"ثم استوى إلى السماء" يعني به: استوت](1) . كما قال الشاعر:

أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ

عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ (2)

وقال بعضهم:"ثم استوى إلى السماء"، عمدَ لها (3) . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.

وقال بعضهم: الاستواء هو العلو، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.

588-

حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"ثم استوى إلى السماء". يقول: ارتفع إلى السماء (4) .

ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (5) .

قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته، فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:

طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْ

وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه (6)

(1) هذه الجملة بين القوسين، ليست في المخطوطة، وكأنها مقحمة.

(2)

لم أجد هذا البيت. وفي المطبوعة: "قبل الرأس مصعب"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة:"في ثراته"، ولا معنى لها، ولعلها"في تراثه". وأنا في شك من كل ذلك. بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير.

(3)

في المطبوعة: "عمد إليها".

(4)

الأثر: 588- في الدر المنثور 1: 43، والأثر التالي: 589، من تمامه.

(5)

في المطبوعة: "العالى إليها".

(6)

ديوانه: 110، واللسان (سوى) قال:"وهذا البيت مختلف الوزن، فالمصراع الأول من المنسرح، والثاني من الخفيف". والرسم: آثار الديار اللاصقة بالأرض. ومهدد اسم امرأة. والأبد: الدهر الطويل، والهاء في"أبده" راجع إلى الرسم. وعفا: درس وذهب أثره. والبلد: الأثر يقول: انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر.

ص: 429

يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (1)، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.

وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه:"ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن"، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.

والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله:"ثم استوى إلى السماء"، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله"استوى" أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.

قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل (2) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟

قيل: بعده، وقبل أن يسويهن سبعَ سموات، كما قال جل ثناؤه:

(1) في المخطوطة: "الاستيلاء والاحتواء".

(2)

في المطبوعة: "وإن قال. . . ".

ص: 430

(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا)[سورة فصلت: 11] . والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا، وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.

وقال بعضهم: إنما قال:"استوى إلى السّماء"، ولا سماء، كقول الرجل لآخر:"اعمل هذا الثوب"، وإنما معه غزلٌ.

وأما قوله"فسواهن" فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهنّ على إرادته، وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (1) .

589-

كما: حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فسوَّاهن سبع سموات" يقول: سوّى خلقهن،" وهو بكل شيء عليم (2) .

وقال جل ذكره:"فسواهن"، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (3)، وقد قال قبلُ:"ثم استوى إلى السماء" فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ، وذُكِّرت أخرى (4) فقيل:(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)[سورة المزمل: 18] ،

(1) في المطبوعة: "بعد إرتاقهن" وليست بشيء، وفي المخطوطة:"بعد أن تتاقهن"، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه. وارتتق الشيء: التأم والتحم حتى ليس به صدع. وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء: 30 من قول الله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} والفتق: الشق.

(2)

الأثر: 589- في الدر المنثور 1: 43، وهو من تمام الأثر السالف:588.

(3)

المكني: هو الضمير، فيما اصطلح عليه النحويون، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره. وفي المطبوعة:"الجمع" مكان"الجميع" حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة.

(4)

في المطبوعة: "أنث السماء. . . وذكر" بطرح التاء.

ص: 431

كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها، فيقال: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل، وما أشبه ذلك.

وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة، غير أنها تدلّ على السموات، فقيل:"فسواهن"، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (1) . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة، فيقال:"السماء منفطر به"، كما يذكر المؤنث (2)، وكما قال الشاعر:

فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا

وَلا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقَالَهَا (3)

وكما قال أعشى بني ثعلبة:

فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ

فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا (4)

(1)"بعض أهل العربية" هو الفراء، وإن لم يكن اللفظ لفظه، في كتابه معاني القرآن 1: 25، ولكنه ذهب هذا المذهب، في كتابه أيضًا ص: 126 - 131.

(2)

هكذا في الأصول"كما يذكر المؤنث"، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة:"كما تذكر الأرض، كما قال الشاعر:. . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال: ". . فإن السماء في معنى جمع فقال: (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات. وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: (رب السموات والأرض) ثم قال: (وما بينهما) ، ولم يقل: بينهن. فهذا دليل على ما قلت لك". معاني القرآن. 1: 25، وانظر أيضًا ص: 126 - 131.

(3)

البيت من شعر عامر بن جوين الطائي، في سيبويه 1: 240، ومعاني القرآن 1: 127 والخزانة 1: 21 - 26، وشرح شواهد المغني: 319، والكامل 1: 406، 2: 68، وقبله، يصف جيشًا: وَجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُو

كِ قَعْقَعْتُ بِالْخَيْلِ خَلْخَالَهَا

كَكِرْ فِئَةِ الْغَيْثِ ذَاتِ الصَّبِيرِ

تَرْمِي السَّحَابَ وَيَرْمِي لَهَا

تَوَاعَدْتُهَا بَعْدَ مَرِّ النُّجُومِ،

كَلْفَاءَ تُكْثِرُ تَهْطَالَهَا

فلا مزنة. . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4)

أعشى بني ثعلبة، وأعشى بني قيس، والأعشى، كلها واحد، ديوانه 1: 120، وفي سيبويه 1: 239، ومعاني القرآن للفراء 1: 128، والخزانة 4: 578، ورواية الديوان: فَإِنْ تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ

فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَلْوَى بِهَا

ورواية سيبويه كما في الطبري، إلا أنه روى"أودى بها". وألوى به: ذهب به وأهلكه. وأودى به: أهلكه، أيضًا. وأما"أزرى بها": أي حقرها وأنزل بها الهوان، من الزرارية وهي التحقير. وكلها جيد.

ص: 432

وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض، فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت، ثم تكون تلك الواحدة جماعًا، كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ، وبُرْمة أعشار، للمتكسرة، وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق (1) .

فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات، ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها، فكيف زعمت أنها جِماع؟

قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات، فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-

590-

حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ، ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا، ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (2) . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها، فجرى فيها الليل والنهار، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال، وقدر فيها الأقوات، وبث فيها ما أراد من الخلق، ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان -كما قال- فحبكهن، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها، وأوحى في كل سماء أمرها، فأكمل

(1) أخلاق، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي. وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي. وبرمة أجبار، ضد قولهم برمة أكسار، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا، كما لم يقولوا برمة كسر، مفردًا. وأصله من جبر العظم، وهو لأمه بعد كسره.

(2)

في المخطوطة: "ولم يحبكن".

ص: 433

خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته، ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما، فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا، قالتا: أتينا طائعين (1) .

فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (2) وما فيها - وهن سبع من دخان، فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (3) ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (4) ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها:"ثم استوى إلى السماء" بمعنى الجميع (5)، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه:"فسوَّاهن"، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله"فسواهن"، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها، أم بمعنى غير ذلك (6) ؟

قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق، ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (7) .

(1) الأثر: 590- هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات 9 - 12 من سورة فصلت. ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (24: 60 - 65 طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني- في هذا الموضع، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت. وهو من كلام ابن إسحاق، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه. وقد صرح الطبري -بعد- أنه إنما ذكره استشهادًا، لا استدلالا، إذ وجده أوضح بيانا، وأحسن شرحًا.

(2)

في المطبوعة: "بعد خلقه الأرض".

(3)

في المطبوعة: "عن خبر السموات".

(4)

في المطبوعة: "بتسويتها"، وسياق كلامه:"أوضح بيانًا. . . من غيره"، وما بينهما فصل.

(5)

في المطبوعة"بمعنى الجمع"، وفي التي تليها، وقد مضى مثل ذلك آنفًا.

(6)

في المطبوعة: "أم بمعنى"، وهذه أجود.

(7)

في المطبوعة: "ونزيد ذلك توكيدًا".

ص: 434

591-

فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن:"ن والقلم"، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاةُ على ظهر ملَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فالجبال تخر على الأرض، فذلك قوله:(وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)(1)[سورة النحل: 15] . وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول:(أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا) يقول: أنبت شجرها (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) يقول: أقواتها لأهلها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر (2)(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)[سورة فصلت: 9-11] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها

(1) في الأصول: "وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح، والآية كما ذكرتها في سورة النحل، ومثلها في سورة لقمان: 10

(2)

في المخطوطة: "يقول: من سأل، فهكذا الأمر".

ص: 435

سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض -"وأوحى في كل سماء أمْرها" قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول:(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)[سورة الأعراف: 54] . ويقول: (كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)(1)[سورة الأنبياء: 30] .

592-

وحدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء". قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان، فذلك حين يقول:"ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: بعضُهن فوق بعض، وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض (2) .

(1) الخبر: 591- في ابن كثير 1: 123، والدر المنثور 1: 42 - 43، والشوكاني 1:48. وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر: 168) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم: 465 ص: 353: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. . ". وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده. فلئن سألت: فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده؟ وجواب ذلك: أنه لم يسقه ليحتج بما فيه، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فحبكهن سبعًا، وأوحى في كل سماء أمرها. وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه. وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه. وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال.

(2)

الأثر: 592- في ابن كثير 1: 124، والدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1:48.

ص: 436

593-

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فسواهنّ سبعَ سموات" قال: بعضُهن فوق بعض، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.

594-

حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء -"ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات"، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله:(وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)[سورة النازعات: 30] .

595-

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين، وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.

قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم، ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسوَّاهنَّ وحبَكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (1) .

* * *

(1) الآثار: 593 - 595، لم نجدها في شيء من تلك المراجع.

ص: 437

القول في تأويل قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) }

يعني بقوله جل جلاله:"وهو" نفسَه، وبقوله:"بكل شيء عليم" أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا، وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (1) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم -ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (2) ، إني بكل شيء عليم.

وقوله:"عليم" بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.

596-

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه (3) .

* * *

(1) في المخطوطة: "وأهل الكتاب" عطفًا.

(2)

في المطبوعة: "بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم. . ".

(3)

الخبر: 596- ليس في مراجعنا.

ص: 438

القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}

قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة (1) : أن تأويل قوله:"وإذ قال ربك"، وقال ربك؛ وأن"إذ" من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر:

فَإِذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرهِ

وَالدَّهْرُ يُعْقِب صَالِحًا بِفَسَادِ (2)

(1) هو أبو عبيدة (انظر تفسير ابن كثير 1: 125) ، وكما مضى آنفًا في مواضع من كلام الطبري. ويؤيد ذلك أن البغدادي نقل في شرح بيت عبد مناف بن ربعى، (الخزانة 3: 171) ، عن ابن السيد:"وقال أبو عبيدة: إذا، زائدة، فلذلك لم يؤت لها بجواب". هذا والشاهدان الآتيان في زيادة"إذا" لا في زيادة"إذ"، وهو من جرأة أبي عبيدة وخطئه، وأيا ما كان قائله، فهو جريء مخطئ.

(2)

المفضليات، القصيدة رقم: 44، وليس البيت في رواية ابن الأنباري شارح المفضليات. وقوله"لامهاه"، يقال: ليس لعيشنا مهه (بفتحتين) ومهاه: أي ليس له حسن أو نضارة. وقد زعموا أن الواو في قوله"فإذا وذلك. . " زائدة مقحمة، كأنه قال: فإذا ذلك. . .، وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى:"حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" ج 24 ص 24: "واختلف أهل العربية في موضع جواب"إذا" التي في قوله: (حتى إذا جاءوها) ، فقال بعض نحويي البصرة، يقال إن قوله:(وقال لهم خزنتها) في معنى: قال لهم. كأنه يلغى الواو. وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة، كما قال الشاعر: فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ

إِلا تَوَهُّمَ حَالِمٍ بِخَيَالِ

فيشبه أن يكون يريد: فإذا ذلك لم يكن". وقال أبو سعيد السكري في شرح أشعار الهذليين 2: 100، في شرح بيت أبي كبير الهذلي: فَإِذَا وَذَلِكَ لَيْسَ إِلا حِينَهُ

وَإِذَا مَضَى شَيْءٌ كَأَنْ لَمْ يُفْعَلِ

قال أبو سعيد: "الواو زائدة. قال: قلت لأبي عمرو: يقول الرجل: ربنا ولك الحمد. فقال: يقول الرجل: قد أخذت هذا بكذا وكذا. فيقول: وهو لك".

وقال ابن الشجري في أماليه 1: 358: "قيل في الآية إن الواو مقحمة، وليس ذلك بشيء، لأن زيادة الواو لم تثبت في شيء من الكلام الفصيح". والذي ذهب إليه ابن الشجري هو الصواب، ولكل شاهد مما استشهدوا به وجه في البيان، ليس هذا موضع تفصيله. وكفى برد الطبري في هذا الموضع ما زعمه أبو عبيدة من زيادة"إذ" كما سيأتي:"وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام" إلى آخر ما قال. وهو من سديد الفهم. وشرحه للبيت بعد، يدل على أنه لا يرى زيادة الواو، وذلك قوله في شرحه:"فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا".

ص: 439

ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ:

حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ

شَلا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا (1)

وقال: معناه، حتى أسلكوهم.

قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن"إذ" حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل: هو بمعنى التطوُّل، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به: وهو بمعنى التطوُّل (2) .

(1) ديوان الهذليين 2: 42، ويأتي في تفسير الطبري 14: 8، 18: 13، 24: 25 (طبعة بولاق) والخزانة 3: 170 - 174، وأمالى ابن الشجري 1: 358، 2: 289، وكثير غيرها. وسلك الرجل الطريق، وسلكه غيره فيه، وأسلكه الطريق: أدخله فيه أو اضطره إليه. وقتائدة: جبل بين المنصرف والروحاء، أي في الطريق بين مكة والمدينة. وشل السائق الإبل: طردها أمامه طردًا. ومر فلان يشل العدو بالسيف: يطردهم طردًا يفرون أمامه. والجمالة: أصحاب الجمال. وشرد البعير فهو شارد وشرود: نفر وذهب في الأرض، وجمع شارد شرد (بفتحتين) مثل خادم وخدم. وجمع شرود شرد (بضمتين) . ويذكر عبد مناف قومًا أغاروا على عدو لهم، فأزعجوهم عن منازلهم، واضطروهم إلى"قتائدة" يطردونهم بالسيوف والرماح والنبال، كما تطرد الإبل الشوارد. وجواب"إذا" تقديره: شلوهم شلا، فعل محذوف دل عليه المصدر، كما سيأتي في كلام الطبري بعد.

(2)

في المخطوطة: "هو بمعنى التطول في الكلام". وهو خطأ. والتطول، في اصطلاح الطبري وغيره: الزيادة في الكلام بمعنى الإلغاء، كما مضى آنفًا في ص 140 من بولاق، وأراد الطبري أن ينفي ما لج فيه بعض النحاة من ادعاء اللغو والزيادة في الكلام، فهو يقول: إذا كان للحرف أو الكلمة معنى مفهوم في الكلام، ثم ادعيت أنه زيادة ملغاة، فجائز لغيرك أن يدعي أن جملة كاملة مفهومة المعنى، أو كلامًا كاملا مفهوم المعنى - إنما هي زيادة ملغاة أيضًا. وبذلك يبطل كل معنى لكل كلام، إذ يجوز لمدع أن يبطل منه ما يشاء بما يهوى من الجرأة والادعاء. وهذا تأييد لمذهبنا الذي ارتضيناه في التعليق السالف.

ص: 440

وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله (1) - في بيت الأسود بن يعفر: أن"إذا" بمعنى التطوّل - وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:

فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه

وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله"ذلك" إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه -"لامهاه لذكره" يعني لا طعمَ له ولا فضلَ، لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ:

حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ

شَلا.................

لو أسقط منه"إذا" بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله."أسلكوهم شلا" على معنى المحذوف، فاستغنى عن ذكره بدلالة"إذا" عليه، فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا (2) - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب:

فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا

فَسَوْفَ تُصَادِفُه أَيْنَما (3)

وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب:"أتيتك من قبلُ ومن بعدُ". تريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في"إذا" كما يقول القائل:

(1) في المطبوعة"وليس لمدعي الذي. . " وهو خطأ.

(2)

في المطبوعة: "كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل. . . "، وفي المخطوطة:"كما قال. قد ذكرنا فيما مضى. . "، وكلاهما خطأ، الأول من تغيير المصححين، والثاني تصحيف في"قال"، فهي"دل"، والنقطة السوداء، بياض كان في الأصل المنقول عنه، أو"ما" ضاعت ألفها وبقيت"م" مطموسة، فظنها ظان علامة فصل.

هذا وقد أشار الطبري إلى ما مضى في كتابه هذا ص: 114، ص: 327 فانظره.

(3)

من قصيدة محكمة في مختارات ابن الشجري 1: 16، والخزانة 4: 438، وشرح شواهد المغني: 65، وبعده: وإنْ تتخطّاكَ أسْبابُها

فإن قُصَاراكَ أنْ تهرمَا

ص: 441

"إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه، وإذا لا فلا". يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه.

ومن ذلك قول الآخر:

فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ

فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ (1)

نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه:"وإذ قالَ ربك للملائكة"، لو أبْطِلت"إذ" وحُذِفت من الكلام، لاستحال عن معناه الذي هو به (2) ، وفيه"إذ".

فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ "إذ"، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه (3) ؟

قيل له: قد ذكرنا فيما مضى (4) : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، بهذه الآيات والتي بعدها، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؛ ومذكِّرَهم -بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم- بأسَه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته (5) ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، وسخّر لهم ما في السموات من شمسها

(1) لم أعرف صاحبه. وفي المطبوعة: "في يوم أثل نائلا أو أنكدا"

وهو خطأ عريق. وفي المطبوعة: "أسل نائلا"، وهي أقرب إلى الصواب. الضر: سوء الحال من فقر أو شدة أو بلاء أو حزن. والنائل: ما تناله وتصيبه من معروف إنسان. ونكده ما سأله: قلل له العطاء، أو لم يعطه البتة، يقول القائل: وأعْطِ ما أعطيتَهُ طَيِّبًا

لا خيرَ في المنكودِ والنَّاكِدِ

(2)

قوله: "الذي هو به"، أي: الذي هو به كلام قائم مفهوم.

(3)

في المطبوعة: "فإن قال قائل"، بحذف:"لنا".

(4)

انظر ما سلف في ص: 424 وما بعدها.

(5)

في المطبوعة: "من أسلافهم في معصية الله"، وفي المخطوطة:"سلافهم" مضبوطة بالقلم بضم السين وتشديد اللام، وفي المواضع السالفة:"أسلاف". والأسلاف والسلاف جمع سلف وسالف: وهم آباؤنا الذين مضوا وتقدمونا إلى لقائه سبحانه.

ص: 442

وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون"، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله:"وإذ قال رَبُّك للملائكة" على المعنى المقتضَى بقوله:"كيف تكفرون بالله"، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً (1) .

فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم، أكثرُ من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر:

أجِدَّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ

وَلا بَيْدَانَ نَاجِيةَ ذَمُولا (2) وَلا مُتَدَاركٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ

بِبَعْضِ نَوَاشغ الوَادي حُمُولا (3)

فقال:"ولا متداركٍ"، ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه (4) ، ولا حرف

(1) هذا الذي قاله أبو جعفر تغمده الله بمغفرته، من أجود النظر في تأويل كتاب الله، ومن حسن بصره بالعربية وأسرار إيجازها، واعتمادها على الاكتفاء بالقليل من اللفظ الدال على الكثير من المعنى، واتخاذها الحروف روابط للمعاني الجامعة، لا لرد حرف على حرف سبق.

(2)

هو للمرار بن سعيد الفقعسي، معاني القرآن للفراء 1: 171، مجالس ثعلب: 159، اللسان (بيد)(طفل)(نشغ)، ومعجم البلدان (ثعيلبات) . وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية: الناقة السريعة، من النجاء: وهو سرعة السير. والذمول: الناقة التي تسير سيرًا سريعًا لينًا ذملت ذميلا وذملانًا.

(3)

يروى"ولا متلافيًا" بالنصب. وتدارك القوم (متعديًا) ، بمعنى أدركهم، أو حاول اللحاق بهم. وتلافاه: تداركه أيضًا. والشمس طفل: يعني هنا: عند شروقها -لا عند غروبها- أخذت من الطفل الصغير. ونواشغ الوادي جمع ناشغة: وهي مجرى الماء إلى الوادي. الحمول: هي الهوادج التي فيها النساء تحملها الإبل. وسميت الإبل وما عليها حمولا، لأنهم يحملون عليها الهوادج للرحلة. يقول: لن تدركهم، فقد بكروا بالرحيل.

(4)

في المطبوعة: "يعطف عليه". وفي المخطوطة"يعطف به"، وقوله"به" ملصقة إلصاقًا في الفاء من "يعطف".

ص: 443

مُعرَب إعرابَه، فيردّ "متدارك" عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدّمه فعل مجحود بـ "لن" يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف (1) ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حُذِف، وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا (2) . لأن قوله:

أجدّك لن تَرَى بِثُعَيْلِبَات

بمعنى:"أجدّك لستَ بِرَاءٍ"، فردّ "متداركًا" على موضع"ترى"، كأنْ "لست" و"الباء" موجودتان في الكلام. فكذلك قوله:"وإذ قالَ رَبُّك"، لمّا سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه، وكانَ قوله:"وإذ قال ربك للملائكة" مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها - رَدّ "إذْ" على موضع" وكنتم أمواتًا فأحياكم". لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية"إذ"، عطف بـ "إذ" على موضعها في الأولى (3) ، كما وصفنا من قول الشاعر في"ولا متدارك".

* * *

القول في تأويل قوله: {لِلْمَلائِكَةِ}

قال أبو جعفر: والملائكة جمع مَلأكٍ (4) ، غيرَ أن أحدَهم (5) ، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز، وذلك أنهم يقولون في واحدهم: مَلَك من

(1) في المطبوعة: "في الكلام، وعلى المحذوف"، لعله من تغيير المصححين. وأراد الطبري أن الفعل المجحود، يدل على المعنى المطلوب من المحذوف. وهذا بين.

(2)

في المخطوطة: "إذ لو كان ما هو محذوف منه ظاهر"، وهو خطأ.

(3)

في المطبوعة: "عطف"وإذ" على موضعها في الأولى"، وليس بشيء.

(4)

في المطبوعة والمخطوطة: "جمع ملك"، وظاهر كلام الطبري يدل على صواب ما أثبتناه.

(5)

في المطبوعة: "غير أن واحدهم"، وهما سواء.

ص: 444

الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو هُمز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها: فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة.

وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال، وبهمزها في أخرى، كقولهم:"رأيت فلانا" فجرى كلامهم بهمز"رأيت" ثم قالوا:"نرى وترى ويرى"، فجرى كلامهم في"يفعل" ونظائرها بترك الهمز، حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في"ملك وملائكة"، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزًا، كما قال الشاعر:

فلَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ

تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (1)

وقد يقال في واحدهم، مألك، فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب، وشأمَل وشمأل، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم

"مألك" أن يجمع إذا جمع على ذلك"مآلك"، ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا، ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة، ومِسْمع: مَسامع ومَسامِعة، قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك:

وَفِيهِمَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمٌ

مَلائِك ذُلِّلوا وهُمُ صِعَابُ (2)

وأصل الملأك: الرسالة، كما قال عدي بن زيد العِبَادِيّ:

(1) سلف الكلام على هذا البيت في ص: 333، ورواية المخطوطة في هذا الموضع:"ولستَ لجنّيّ ولكنّ مَلأكًا"

(2)

ديوانه: 19. "ذللوا" من الذل (بكسر الذال) وذلله: راضه حتى يذل ويلين ويطيع.

ص: 445

أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَلأَكًا

إِنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي (1)

وقد ينشد: مألَكًا، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكًا فهو مَفْعل، من لأك إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة مَلأكة (2) ؛ ومن قال: مَألَكًا فهو مَفْعَل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألَكة وألُوكًا (3)، كما قال لبيد بن ربيعة (4) :

وَغُلامٍ أَرْسَلَتْه أُمُّه

بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ (5)

فهذا من"ألكت"، ومنه قول نابغة بني ذبيان:

أَلِكْنِي يَا عُيَيْنَ إِلَيْكَ قَوْلا

سَأَهْدِيه، إِلَيْكَ إِلَيْكَ عَنِّي (6)

(1) الأغاني 2: 14، والعقد الفريد 5: 261، وفي المطبوعة"وانتظار"، وهي إحدى قصائد عدي، التي كان يكتبها إلى النعمان، لما حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. وبعده البيت المشهور، وهو من تمامه: لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شرِقٌ

كُنْت كالغَصَّانِ بالماء اعتصارِي

(2)

في المطبوعة والمخطوطة: "يلئك"، وهذا الثلاثي:"لأك يلأك" لم أجده منصوصًا عليه في كتب اللغة، بل الذي نصوا عليه هو الرباعي:"ألكني إلى فلان: أبلغه عني. أصله ألئكني، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها"، ولكنهم نصوا على أنه مقلوب، فإذا صح ذلك، صح أيضًا أن تكون"لأك" مقلوب"ألك" الثلاثي، وهو مما نصوا عليه.

(3)

كلام الطبري يشعر بأنه أراد وزن"مفعل" بفتح العين، فهي مألك، بفتح اللام، والأشهر الأفصح: والمألك والمألكة (بفتح الميم وضم اللام فيهما) .

(4)

في المطبوعة: "لبيد بن أبي ربيعة"، وهو خطأ.

(5)

ديوانه القصيدة رقم: 37، البيت: 16، وقوله"وغلام" مجرور بواو"رب". أرسلت الغلام أمه تلتمس من معروف لبيد، فأعطاها ما سألت.

(6)

في المطبوعة: "ستهديه الرواة إليك. . "، وأثبتنا نص المخطوطة، والديوان: 85 وغيرهما. ويضبطونه"سأهديك" بضم الهمزة، من الهدية، أي سأهديه إليك، ولست أرتضيه، والشعر يختل بذلك معناه. وإنما هو عندي بفتح الهمزة، من"هديته الطريق" إذا عرفته الطريق وبينته له. ومنه أخذوا قولهم: هاداني فلان الشعر وهاديته: أي هاجاني وهاجيته. وقوله: "إليك إليك" أي خذها، كما قال القطامي: إذا التَّيَّازُ ذُو الْعَضَلاتِ قُلْنَا:

إِلَيْكَ إِلَيْكَ! ضَاقَ بِهَا ذِرَاعَا

وقوله: "عني" أي مني، كما في قولهم:"عنك جاء هذا" أي منك، أو من قبلك. وكذلك هو في قوله تعالى:(وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) ، أي من عباده، وقوله تعالى:(أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) ، أي نتقبل منهم. وليس قول النابغة من قولهم"إليك عني"، أي كف وأمسك - في شيء. والشعر الذي يليه دال على ذلك، والبيت الذي يلي هذا فيه الكلمة المنصوبة بقوله"إليك إليك": قَوَافِيَ كَالسِّلامِ إِذَا اسْتَمَرَّتْ

فَلَيْسَ يرُدّ مَذْهَبَهَا التَّظَنِّي

أي خذها قوافي كالسلام، وهي الحجارة.

وقوله: "عيين" يعني عيينة بن حصن الفزاري، وكان أعان بني عبس على بني أسد حلفاء بني ذبيان" رهط النابغة.

ص: 446

وقال عبدُ بني الحَسْحَاس:

أَلِكْنِي إِلَيْهَا عَمْرَكَ اللَّهُ يَا فَتًى

بِآيَةِ ما جاءتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا (1)

يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة، لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده.

* * *

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ}

اختلف أهل التأويل في قوله:"إني جاعل"، فقال بعضهم: إني فاعل.

* ذكر من قال ذلك:

597-

حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن، وأبي بكر -يعني الهذلي- عن الحسن، وقتادة، قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"(2) قال لهم: إني فاعل (3) .

(1) سلف القول في هذا البيت: 106 آنفًا.

(2)

في المطبوعة: "قال الله للملائكة إني. . ". وهو موافق لما نقله ابن كثير.

(3)

الأثر: 597- نقله ابن كثير 1: 127 عن الطبري. ووقع في إسناده هناك سقط، والظاهر أنه خطأ مطبعي. وذكره السيوطي 1: 44 مختصرًا. وسيأتي مرة أخرى: 611 مطولا، بهذا الإسناد نصًّا. وهو هنا بإسنادين بل ثلاثة: رواه الحجاج -وهو ابن المنهال- عن جرير ابن حازم، وعن المبارك -وهو ابن فضالة- ثم رواه عن أبي بكر الهذلي، ثلاثتهم عن الحسن البصري، والإسنادان الأولان جيدان، والثالث ضعيف، بضعف أبي بكر الهذلي، ضعفه ابن المديني جدًّا، وقال ابن معين:"ليس بشيء"، وترجمه البخاري في الكبير 2/2/199 باسم"سلمى أبو بكر الهذلي البصري"، وقال:"ليس بالحافظ عندهم. قال عمرو بن علي: عدلت عن أبي بكر الهذلي عمدًا". وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/ 313 - 314، وأبان عن ضعفه. و"سلمى": بضم السين وسكون اللام مع إمالة الألف المقصورة.

ص: 447

وقال آخرون: إني خالق.

* ذكر من قال ذلك:

598-

حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، قال: كل شيء في القرآن"جَعَل"، فهو خلق (1) .

قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة": أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا (2) . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.

وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي"مكة".

* ذكر من قال ذلك:

599-

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دُحِيت الأرضُ من مكة، وكانت الملائكة تطوفُ بالبيت، فهي أوّل من طاف به، وهي"الأرضُ" التي قال الله:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، وكان النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا. فإنّ قَبر نُوحٍ وهودٍ وصَالحٍ وشعَيْب، بين زَمزَم والرُّكن والمَقَام (3) .

* * *

(1) الأثر: 598- نقله السيوطي 1: 44 عن الطبري، ولكنه جعله من كلام الضحاك. وأبو روق يكثر رواية التفسير عن الضحاك. فلعل ذكر"الضحاك" سقط من الناسخين في بعض نسخ الطبري. وأيًّا ما كان فهذا الإسناد ضعيف. سبق بيان ضعفه:137. ويزيده ضعفًا هنا جهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري عن المنجاب، في قوله"حدثت"، بتجهيل من حدثه.

(2)

في المخطوطة: "خلقًا"، بالقاف.

(3)

الحديث: 599- نقل ابن كثير في التفسير 1: 127 معناه من تفسير ابن أبي حاتم: "حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن ابن سابط"، فذكره مرفوعا بنحوه مختصرًا. وقال ابن كثير:"وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم - فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك". أما إرساله: فإن"عبد الرحمن بن سابط": تابعي، وهو ثقة، ولكنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل لم يدرك كبار الصحابة، كعمر وسعد ومعاذ وغيرهم. ويقال إنه"عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط". واختلف في ذلك جدًّا، فلذلك ترجمه الحافظ لأبيه في الموضعين:"سابط"، أو"عبد الله بن سابط"، وفي الإصابة 3: 51 - 52، 4:73. ونقله السيوطي 1: 46، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم وابن عساكر، مطولا كرواية الطبري، ونقله الشوكاني 1: 50 مختصرًا، كرواية ابن أبي حاتم، ونقل تعليل ابن كثير إياه.

وفي المطبوعة"أتى هو ومن معه". وفي المخطوطة"فيعبدوا الله بها".

ص: 448

القول في تأويل قوله: {خَلِيفَةً}

والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [سورة يونس: 14] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلَفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلُف خِلافة وخِلِّيفَى (1) .

وكان ابن إسحاق يقول بما:

600-

حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني جاعل في الأرض خليفة"، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم (2) .

وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وخليفًا"، والصواب ما أثبتناه. في حديث عمر:"لولا الخليفى لأذنت"(بكسر الخاء وتشديد اللام المكسورة، بعدها ياء، ثم فاء مفتوحة) قالوا: وهو وأمثاله من الأبنية كالرمي والدليلي، مصدر يدل على معنى الكثرة. يريد عمر: كثرة اجتهاده في ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنتها.

(2)

الأثر: 600- في ابن كثير 1: 127 وفي المطبوعة هنا، وفي: 615"خلقا ليس منكم" بالقاف، وهو خطأ، والصواب في ابن كثير 1:127. وقوله"خلفًا": أي بدلا ممن مضى، وهو سكان الأرض قبل أبينا آدم عليه السلام، كما يأتي في الخبر التام: 615. وقوله: "ليس منكم"، كلام مستأنف، أي ليس منكم أيتها الملائكة. أما المخطوطة ففيها:"ليس خلفًا منكم" وهو خطأ محض.

ص: 449

ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها - ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ.

فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا (1) وفيها منه خلَفًا؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك.

601-

فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال:"إني جاعل في الأرض خليفة"(2) .

فعلى هذا القول:"إني جاعل في الأرض خليفة"، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.

602-

وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم

(1) في المطبوعة: "بدلا منه" بالتقديم.

(2)

الخبر: 601- في ابن كثير 1: 127. وقد روى الحاكم في المستدرك 2: 261 خبرًا يشبهه في بعض المعنى ويخالفه في اللفظ قال: "أخبرنا عبد الله بن موسى الصيدلاني، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس:. . . " وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأما إسناد الطبري هنا فضعيف، كما بينا فيما سبق:137.

ص: 450

الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض (1) .

وقال آخرون في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري.

ونظيرٌ له ما:-

603-

حدثني به محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم.

604-

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أنْ أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفةً. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق (2) .

وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابنُ زيد أنَّ الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفةً له يحكم فيها بين خلقه بحكمه، نظيرَ ما:-

605-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي

(1) الأثر: 602- رواه الطبري في التاريخ 1: 43، بهذا الإسناد. سيأتي أيضًا بهذا الإسناد بأطول منه:612. ونقله ابن كثير 1: 128، والسيوطي 1: 45 بالرواية المطولة، ولكنهما جعلاه من كلام أبي العالية. فهو من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية. وزاد السيوطي في نسبته أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة.

(2)

الأثران: 603، 604 - في ابن كثير 1:128.

ص: 451

صلى الله عليه وسلم: أنّ الله جل ثناؤه قال للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذُرّيةٌ يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا (1) . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.

وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله -لأنهما أخبرَا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته- إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟ =: إنه خليفة يكون له ذُرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته.

وهذا التأويل، وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرْفُ متأوِّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم (2) بمعنى استخلاف الله إياه فيها. وإضافة الحسن الخلافةَ إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضًا، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.

والذي دعا المتأوِّلين قولَه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" -في التأويل الذي ذُكر عن الحسن- إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها- إذ قال لهم ربهم:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"-:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبرَ الله جل ثناؤه أنه

(1) الأثر: 605 - في ابن كثير 1: 127.

(2)

في المطبوعة: "فإضافتهم"، والصواب ما في المخطوطة، ويعني بهما ابن مسعود وابن عباس كما مضى آنفًا.

ص: 452

جاعله في الأرض لا عنْ غيره (1) . لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنهُ جرتْ. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك -وكان الله قد بَرّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهَّره من ذلك- عُلم أن الذي عنى به غيرَه من ذرّيته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غيرُ آدم، وأنهم وَلدُه الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرَها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنًا غيرَهم لما وصفنا.

وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأوّلو الآية هذا التأويل، سبيلَ التأويل. وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربها:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، لم تُضف الإفساد وسفك الدماء في جَوابها ربَّها إلى خليفته في أرضه، بل قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها"؟ وغير مُنْكَر أن يكون ربُّها أعلمها أنه يكون لخليفتِه ذلك ذرّيةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا"أتجعل فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء". كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل (2) .

* * *

(1) في المطبوعة"لا غيره" بإسقاط"عن".

(2)

في الأصل المخطوط بعد هذا الموضع ما نصه: -

[بلغتُ من أوّله بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب ابن عبد الله الخصيبيّ، عن أبي محمد الفَرْغانيّ، عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي علي بن أحمد بن عيسى، ونصر بن الحسن الطبري. وسمع أبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري، من موضع سماعه.

وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعمئة]

* * *

"تذكرة" تبين لي مما راجعته من كلام الطبري، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة. فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى"الخليفة"، و"الخلافة"، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى"الخليفة". وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بين في الفقرة التالية للأثر رقم: 605، إذ ذكر ما روي عن ابن مسعود وابن عباس، وما روي عن الحسن في بيان معنى"الخليفة"، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر: 465 عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص: 353"فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. . "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضًا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين، ولا في التفسير التام لآي كتاب الله.

فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها. فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا. ولما لم يكن مستنكرًا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم.

وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شيء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر. ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولا وآخرًا.

ص: 453

القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل (1) : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، ولم يكن آدمُ بعد مخلوقًا ولا ذُرّيته، فيعلموا ما يفعلونَ عيانًا؟ أعلمتِ الغيبَ فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادة منها بالظنّ وقولٌ بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أمْ ما وجه قيلها ذلك لربها؟ (2)

(1) في المطبوعة: "إن قال قائل".

(2)

في المطبوعة: "فما وجه".

ص: 454

قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثم مخبرون بأصحِّها برهانًا وأوضحها حُجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما:

606-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم"الحِنّ"، خُلقوا من نار السَّمُوم من بين الملائكة (1) قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخُلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخُلق الإنسان من طين. فأوّل من سكن الأرضَ الجنُّ. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحِن (2) - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه. وقال:"قد صنعتُ شيئًا لم يصنعه أحد"! قال: فاطَّلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة". فقالت الملائكة مجيبين له:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفِك الدماء"، كما

(1) في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان 7: 177، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء)، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في 1: 291-292، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك: إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ

من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ

أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ

مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ

ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان 6: 193، أيضًا، واللسان (جنن) ، وغيرهما.

(2)

في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان 7: 177، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء)، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في 1: 291-292، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك: إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ

من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ

أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ

مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ

ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان 6: 193، أيضًا، واللسان (جنن) ، وغيرهما.

ص: 455

أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل -أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)[سورة الرحمن: 14] . يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت (1) . قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره، ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا! -للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهضَ فلم يقدرْ، فهو قول الله:(وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا)[سورة الإسراء: 11] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال:"الحمد لله ربّ العالمين" بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين -يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله (2) ، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة -يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض (3) . قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم - أيها الملائكة خاصة - إني أعلم غيبَ السموات والأرض، ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تبدون - يقول: ما تُظهرون - وما كنتم تكتمون - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (4) .

قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه:"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرص خليفة"، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع، وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم، وأنّ كرامته

(1) المصمت: الذي لا جوف له، وكل ذي جوف إذ قرع صوت، أما المصمت فهو صامت لا صوت له. فمن الصمت أخذوه.

(2)

في المطبوعة: "وآيسه الله. . . ".

(3)

في المطبوعة: "أنكم تعلمون أني أجعل في الأرض خليفة"، وقوله"لم أجعل. . " سقط"لم" من المخطوطة أيضًا. والصواب من الدر المنثور، والشوكاني، حيث يأتي تخريجه. وسيأتي على الصواب أيضًا في رقم: 671 ص: 490، وهو مختصر من هذا الأثر.

(4)

الخبر: 606 - خرجه السيوطي في الدر المنثور مفرقًا 1: 44-45، 49، 50. والشوكاني 1: 52 بعضه مفرقًا. وروى الطبري قطعة منه، بهذا الإسناد، في تاريخه 1: 42-43.

ص: 456

لا تنال بقوَى الأبدان وشدّة الأجسام، كما ظنه إبليس عدوّ الله. ومُصَرِّح بأن قيلهم لربِّهم (1) :"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب؛ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقَفَهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رَجْم الغيْب بالظُّنون، وتبرَّأوا إليه أن يعلم الغيب غيرُه، وأظهرَ لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبْر الذي قد كان عنهم مستخفيًا (2) .

وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية، وهو ما:-

607-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"لما فرَغ الله من خلق ما أحبّ، استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ (3) - وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيّة لي - هكذا قال موسى بن هارون، وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة (4) - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه،

(1) في المطبوعة: "ويصرح"، وسياق الكلام:"تنبئ عن أن قول الله. . . خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع،. . ومصرح بأن قيلهم"، عطفًا على خبر "أن".

(2)

هذا التعقيب على خبر ابن عباس، دليل على ما ذهبنا إليه في بيان طريقة الطبري في الاستدلال بالأخبار والآثار انظر ص: 453-454. فهو لم يروه لاعتماد صحته، بل رواه لبيان أن قول الله سبحانه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، إنما هو خطاب فيه لفظ العموم"الملائكة"، ويراد به الخصوص لبعض الملائكة، كما هو معروف في لسان العرب. وأن قول هؤلاء الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها. . . "، لم يكن عن علم عرفوه من علم الغيب، بل كان ظنًّا ظنوه. وسيأتي بعد ما يوضح مذهب الطبري في الاستدلال، كما سأشير إليه في موضعه.

(3)

في المخطوطة: "الحن" بالحاء، وتفسيرها التالي يدل على أنها بالجيم. وانظر ما كتبناه آنفًا في ص: 455 التعليق: 1.

(4)

غيره، الذي أبهمه الطبري هنا، بينه في التاريخ 1: 43، قال:"وحدثنى به أحمد بن أبي خيثمة، عن عمرو بن حماد".

ص: 458

اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا،"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبِّح بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون". يعني من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقُص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعذْتُها. فبعث الله ميكائيل، فعاذَت منه، فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث مَلَك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تُرْبة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصَعِد به، فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا -واللازبُ: هو الذي يلتزق بعضه ببعض- ثم ترك حتى أنتن وتغير (1) . وذلك حين يقول: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)[سورة الحجر: 28] . قال: منتن - ثم قال للملائكة: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[سورة ص: 71-72] . فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيديّ، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة: فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوّت الجسدُ كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول:(مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)[سورة الرحمن: 14] ويقول لأمر ما خُلقت! ودخل من فيه فخرج من دُبُره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإنّ ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف (2) . لئن سُلطت عليه لأهلكنّه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من رُوحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الرّوح فدخل الروح في رأسه عَطَس، فقالت له الملائكة: قل الحمدُ لله. فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربُّك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعامَ، فوَثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عَجْلانَ إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول:(خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[سورة الأنبياء: 37] . فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين -أي استكبرَ (3) - وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لِما خلقتُ بيديّ؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجدَ لبشر خلقته من طين. قال الله له: أخرج منها فما يكون لك -يعني ما ينبغي لك- أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين - والصَّغار: هو الذل -. قال: وعلَّم آدم الأسماء كلها، ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنّ بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنتَ العليم الحكيم. قال الله: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. قال قولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فهذا الذي أبدَوْا،"وأعلم ما كنتم تكتمون"، يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر (4) .

قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل، وموافقٌ معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوّله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إني جاعلٌ في الأرض خليفة. فأجابها أنه تكون له ذُرّية يُفسدون في الأرض وَيتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قولُ الملائكة ما قالت من ذلك لرَبِّها، بعد إعلام الله إياها أنّ ذلك كائن من ذُرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه.

وأما موافقته إياه في آخره، فهو قولهم في تأويل قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين": أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك، تبرِّيًا من علم الغيب -:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم".

وهذا إذا تدبّره ذو الفهم، علم أن أوّله يفسد آخرَه، وأن آخره يُبطل معنى أوّله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء، فقالت الملائكة لربها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربُّها، فيجوزَ أن يقالَ لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به، فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خُلفٌ من التأويل، ودعوَى على

(1) في المطبوعة"حين أنتن"، وصحته"حتى أنتن"، كما في تاريخ الطبري، وتفسير ابن كثير - فيما تبين في تخريجه.

(2)

الصمد هنا: هو الذي لا جوف له، والمصمد والمصمت واحد. وانظر ما سلف ص: 456 تعليق: 1.

(3)

في المطبوعة: "أبى واستكبر"، وهو تحريف.

(4)

الخبر: 607- روى الطبري قطعة منه في تاريخه 10: 41-42، بهذا الإسناد. وقطعة أخرى أيضًا 1:43. وثالثة 1: 45-46. ورابعة 1: 47. وخامسة 1: 47-48. وسادسة 1: 50. وبعضه عن السيوطي 1: 45-47، والشوكاني 1: 50. وقد مضى تعليل هذا الإسناد، في: 168، ورأى الطبري نفسه فيه: 452، وأنه فيه مرتاب. وقد ساقه ابن كثير بطوله 1: 137-138، ثم قال:"فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة. فلعل بعضها مدرج، ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه، بهذا الإسناد بعينه، أشياء، ويقول: على شرط البخاري! ".

ص: 459

الله ما لا يجور أن يكون له صفة (1) . وأخشى أن يكون بعض نَقَلة هذا الخبر هو الذي غَلِط على من رواه عنه من الصحابة، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العِلم بخبَري إياكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم:"إنه يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء"، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرّية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء، فقد كانَ طوَى عنهم الخبرَ عما يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحهم في أرْضه، وحقن الدماء، ورفعِه منزلتَهم، وكرامتِهم عليه، فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، على ظنٍّ منها -على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرتُ وظاهرِهما- أنّ جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يُفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم -إذ علّم آدم الأسماء كلها -: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم - إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم، وهو من صفة خاصِّ ذرّية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفةٌ منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية (2) .

ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم، ما:-

608-

حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي (3) قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، قال: يعنون الناس (4) .

وقال آخرون في ذلك بما:-

609-

حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً"، فاستشار الملائكة في خلق آدمَ، فقالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض -"ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم -وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله:(اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(5)[سورة فصلت: 11] .

وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظنّ، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من

(1) نقد الطبري دال أيضًا على ما ذهبنا إليه من الاستدلال بالآثار كاستدلال المستدل بالشعر. وأنت تراه ينقض هذا الخبر نقضًا، ويبين الخطأ في سياقه، وتناقضه في معناه. وهذا بين إن شاء الله.

(2)

وهذا أيضًا دليل واضح على أن استدلال الطبري بالأخبار والآثار، ليس معناه أنه ارتضاها، بل معناه أنه أتى بها ليستدل على سياق تفسير الآية مرة، وعلى بيان فساد الأخبار أنفسها مرة أخرى. وقد أخطأ كثير ممن نقل عن الطبري في فهم مراده، وتحامل عليه آخرون لم يعرفوا مذهبه في هذا التفسير.

(3)

في المطبوعة. "ابن أحمد بن إسحاق الأهوازي"، وزيادة"ابن" خطأ.

(4)

الأثر: 608- لم أجده.

(5)

الأثر: 609- في ابن كثير 1: 129، وبعضه في الدر المنثور مفرقًا 1: 45، 46، 50.

ص: 462

قيلها، وردّ عليها ما رأت بقوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله.

وقد رُوي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويل، وهو ما:-

610-

حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"أتجعل فيها من يُفسد فيها" قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها"(1) .

وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل، منهم الحسن البصري:

611-

حدثنا القاسم: قال حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة- قالا قال الله لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرص خليفة" - قال لهم: إني فاعلٌ - فعرضُوا برأيهم، فعلّمهم علمًا وطوَى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد كانت الملائكة علمتْ من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء -"ونحن نسبّح بحمدك ونُقدس لكَ. قال إني أعلم ما لا تعلمون". فلما أخذ في خلق آدم، هَمست الملائكة فيما بينها، فقالوا: ليخلق رَبنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرَهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضّله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلمُ منه، لأنا كنا قَبله، وخُلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ "علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمَاء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القومُ إلى التوبة -وإليها يفزع كل مؤمن- فقالوا:"سبحانك لا علم لنا إلا

(1) الأثر: 610- لم أجده.

ص: 464

ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال: يا آدم أنبئهم بأسمَائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم إني أعلمُ غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدُون وما كنتم تكتمون" - لقولهم:"ليخلقْ ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرمَ عليه منا ولا أعلم منا". قال: علمه اسم كل شيء، هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه كل أمة، فقال:"ألم أقل لكم إني أعلم غَيبَ السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: أما ما أبدَوْا فقولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وأمَّا ما كتموا فقول بعضهم لبعض:"نحن خير منه وأعلم"(1) .

612-

وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفةً" الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماءُ، وكان الفسادُ في الأرض. فمن ثمّ قالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية (2) .

613-

[حدثنا محمد بن جرير، قال] : حدثت عن عمار بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن أَبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله-:"ثم عَرَضهم

(1) الأثر: 611- سبق بعضه بهذا الإسناد نصًّا. وشرحنا جودة بعضه وضعف بعضه. ونقل السيوطي 1: 49، بعضه عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وذكر ابن كثير 1: 128 قسما منه، من تفسير ابن أبي حاتم: عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد بن سليمان، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن - وهو البصري. وهذا إسناد صحيح إلى الحسن البصري: فإن"الحسن بن محمد بن الصباح": هو الزعفراني الثقة المأمون، تلميذ الشافعي وراوية كتبه بالعراق. وسعيد بن سليمان: هو سعدويه الضبي الواسطي، وهو ثقة مأمون من شيوخ البخاري ومن أقران الإمام أحمد. ومبارك بن فضالة: ثقة، من أخص الناس بالحسن البصري، جالسه 13 أو 14 سنة.

(2)

الأثر: 612- مضى صدره برقم: 602، وأشرنا إلى هذا هناك.

ص: 465

على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين". إلى قوله:"إنك أنتَ العليم الحكيم". قال: وذلك حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرمَ. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدَم. وَعلم آدم الأسماء كلها، فقال للملائكة:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، إلى قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، وكان الذي أبدَوْا حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وكان الذي كتموا بينهم قولهم:"لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم"، فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم (1) .

وقال ابن زيد بما:-

614-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: لما خلق الله النارَ ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا، وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خُلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله:(هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)[سورة الإنسان: 1] . قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين (2) . ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! -لا يرَوْن له خلقًا غيرهم- قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا

(1) الأثر: 613- هو رواية أخرى للأثر السالف. ولم أجده في المراجع السالفة.

(2)

كلمة عمر رضي الله عنه: "ليت ذلك الحين"، يعني ليت الإنسان بقي شيئًا غير مذكور، طينًا لازبًا. يقولها من مخافة عذابه ربه يوم القيامة. وفي الدر المنثور 6: 297: "أخرج ابن المبارك، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب: أنه سمع رجلا يقرأ: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا) ، فقال عمر: ليتها تمت". فهذا في معنى كلمة عمر هنا.

ص: 466

وأجعل فيها خليفةً، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال:"إني أعلمُ ما لا تعلمون"."يا آدم أنبئهم بأسمائهم". فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيث إبليس أن يقرَّ له، قال:"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". قال:"فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها"(1) .

وقال ابن إسحاق بما:-

615-

حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه -وكان أوّل بلاء ابتُليت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحبّ وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم- جمع الملائكة من سكان السموات والأرض، ثم قال:"إني جاعل في الأرض خليفة"- ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرُها - خَلَفًا، ليس منكم (2) . ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"

(1) الأثر: 614- سيأتي بعض معناه بهذا الإسناد: (ص 176 بولاق) . وأما هذا النص، فقد ذكر السيوطي بعضه 1: 45 ونسبه لابن جرير فقط. ولم يذكر فيه كلمة عمر بن الخطاب. وقد أشرنا إلى ورود معناها من وجه آخر، في الهامشة قبل هذه. وكلمة عمر هنا سيقت مساق الحديث المرفوع، إذ قال:"يا رسول الله، ليت ذلك الحين". فتكون حديثًا مرفوعًا مرسلا، بل منقطعًا، لأن ابن زيد -وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- لم يدرك إلا بعض التابعين. هذا إلى أنه ضعيف جدًّا، كما سبق في:185.

(2)

في المطبوعة: "عامر وساكن يسكنها ويعمرها خلقًا ليس منكم"، وانظر ما مضى، رقم: 600، وانظر تخريجه بعد.

ص: 467

لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال:"إني أعلم ما لا تعلمون" - قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يُبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم، مما يكون في الأرض، مما ذكرتُ في بني آدم. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم:(مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[ص: 69-72] . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان منْ ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالقٌ بشرًا من صلصال من حمإٍ مسنون بيدي -تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفا له- حفظت الملائكة عهده وَوَعوْا قوله، وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدوّ الله إبليس، فإنه صمتَ على ما كان في نفسه من الحسد والبغْيِ والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدَمة الأرض، من طين لازب من حَمَإٍ مسنون، بيديه، تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار، ولم تمسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عَطس فقال: الحمد لله! فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبليس من بينهم فلم يَسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له:(يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) إِلَى (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)[سورة ص: 75-85] .

قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال:"يا آدم

ص: 468

أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" - أي، إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدمُ من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة (1) .

وقال ابن جُريج بما:-

616-

حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت -على التعجب منها-: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون، يعني: أن ذلك كائن منهم -وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه (2) .

وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها" على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم، وإنما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يُعصَى الله، لأن الجن قد كانت أمرتْ قبل ذلك فعصتْ.

وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا:"يا رب خبرنا"، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ.

قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس

(1) الأثر: 615- مضى صدره برقم: 600.

(2)

الأثر: 616- لم أجده في مكان.

ص: 469

لك"، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك - لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه.

وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلكَ فسألته على

ص: 470

وجه التعجب، فدعْوَى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطعُ العذرَ. وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة.

وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت -في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة - من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، على ما وصفت من الاستخبار.

فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟

قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض -قبل آدم- من الجنّ، فقالت لربها:"أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون"؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه.

وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو (1) . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد.

فأولى التأويلات -إذ كان الأمر كذلك- بالآية، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالةٌ، مما يصح مخرجُه في المفهوم.

فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟

قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر:

فَلا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ

عَلَيْكُمْ، وَلَكِن خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ (2)

فحذف قوله"دعوني للتي يقال لها عند صَيدها": خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله:"قالوا

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يمتنع منه. . . ويستحيل منه"، وليست بشيء. وفي المخطوطة مكان"التشاغب":"الساعر" غير مبينة.

(2)

البيت للشنفري الأزدي في قصة. شرح الحماسة 2: 24-26، والأغاني 21: 89 وغيرهما. ويروى: "لا تقبروني إن قبري"، "ولكن أبشري". وقوله"خامري": أي استتري، وأصله من الخمرة (بكسر فسكون) وهو الاستخفاء. يريدون بذلك دنو الضبع مستخفية ملازمة لمكانها حتى تخالط القتيل فتصيب منه. وأم عامر: كنية الضبع. وذلك مما يقوله لها الصائد حين يريد صيدها، يغرها بذلك حتى يتمكن منها، فيقول لها:"أبشري أم عامر بشياه هزلى، وجراد عظلى، +وكسر رجال قتلى"، فتميل الضبع إليه فيصيدها.

ص: 471

أتجعل فيها من يفسد فيها"، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله:"إنّي جاعل في الأرض خليفة"، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله:"قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء".

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}

قال أبو جعفر: أما قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك" فإنه يعني: إنا نعظِّمك بالحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه:(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)[سورة النصر: 3]، وكما قال:(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)[سورة الشورى: 5]، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيحٌ وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيتُ سُبْحَتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاةُ الملائكة.

617-

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي، فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين، فقال له: النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وأنت جالس! فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظنّ إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمرّ عليه عمر بن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي صلى الله عليه وسلم يصَلِّي وأنت جالس! فقال له مثلها، فقال: هذا من عَملي. فوثب عليه فضربَه حتى انتهى، ثم دخل المسجدَ فصلّى

ص: 472

مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر فقال: يا نبيَّ الله مررت آنفًا على فلان وأنت تُصلي، فقلت له: النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلّي وأنت جالس! فقال: سرْ إلى عملك إن كان لكَ عمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ضربْتَ عُنقه. فقام عمر مسرعًا. فقال: يا عُمر ارجع فإن غضبك عِزّ ورضاك حُكْم، إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنًى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله، وما صَلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئًا، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عُمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم. فقال: اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي الملك والملكوت"، وأهل السماء الثانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي العزة والجبروت"، وأهل السماء الثالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان الحي الذي لا يموت"(1) .

618-

قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وسهل بن موسى الرازي، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة، قال: أخبرنا الجُرَيْرِي، عن أبي عبد الله الجَسْري، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَادَه -أو أن أبا ذَرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بأبي أنتَ، أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته:"سبحان رَبي وبحمده، سبحان ربي وبحمده"(2) .

(1) الحديث: 617 هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي. وإسناده إليه إسناد جيد. يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي أبو الحسن: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 4/2/391، فلم يذكر فيه جرحًا. وفي التهذيب:"قال محمد بن حميد الرازي [وهو شيخ الطبري هنا] : دخلت بغداد، فاستقبلني أحمد وابن معين، فسألاني عن أحاديث يعقوب القمي". جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي: ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 1/2/200، وابن أبي حاتم في الجرح 1/1/490-491، فلم يذكرا فيه مطعنًا. وفي التهذيب أن ابن حبان نقل في الثقات توثيقه عن أحمد بن حنبل. وهذا الحديث بطوله، رواه أبو نعيم في الحلية 4: 277-278، من طريق محمد بن حميد -شيخ الطبري- بهذا الإسناد. وذكر السيوطي في الدر المنثور 1: 46 آخره، من أول سؤال عمر عن صلاة الملائكة، ولم ينسبه لغير الطبري وأبي نعيم.

(2)

الحديث: 618 - في الدر المنثور ولم ينسبه لابن جرير، وقال:"أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر. . . " 5: 161، 176. وهو في المسند 5: 148 ومسلم 2: 319، 8:86.

ص: 473

- في أشكال لما ذكرنا من الأخبار (1) ، كرهنا إطالةَ الكتاب باستقصائها.

وأصلُ التسبيح لله عند العرب: التنزيهُ له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة:

أَقُولُ -لمَّا جَاءَنِي فَخْرُه-:

سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ (2)

يريد: سُبحان الله من فَخر علقمة، أي تنزيهًا لله مما أتى علقمة من الافتخار، على وجه النكير منه لذلك.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم:"نسبح بحمدك": نصلي لك.

* ذكر من قال ذلك:

619-

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك"، قال: يقولون: نصلّي لك.

وقال آخرون:"نُسبّح بحمدك"(3) التسبيح المعلوم.

* ذكر من قال ذلك:

620-

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك"، قال: التسبيحَ التسبيحَ (4) .

* * *

(1) في المطبوعة: "في كل أشكال لما ذكرنا. . . "، و"كل" مقحمة هنا بلا شك.

(2)

ديوانه: 106، من قصيدته المشهورة، التي قالها في هجاء علقمة بن علاثة، في خبر منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل (الأغاني 15: 50-56) . وذكر ابن الشجري في أماليه 1: 348 عن أبي الخطاب الأخفش، قال:"وإنما ترك التنوين في"سبحان" وترك صرفه، لأنه صار عندهم معرفة". وقال في 2: 250: "لم يصرفه، لأن فيه الألف والنون زائدين، وأنه علم للتسبيح، فإن نكرته صرفته". وانظر ص: 495 وتعليق رقم: 3.

(3)

في الأصول: "نسبح لك"، والصواب ما أثبتناه، وهو نص الآية.

(4)

الأثران: 619، 620- في ابن كثير 1: 129، والدر المنثور 1: 46، والشوكاني 1:50.

ص: 474

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ}

قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم:"سُبُّوح قُدُّوس"، يعني بقولهم:"سُبوح"، تنزيهٌ لله، وبقولهم:"قُدوسٌ"، طهارةٌ له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض:"أرض مُقدسة"، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا:"ونحن نسبِّح بحمدك"، ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك، ونصلي لك."ونقدس لك"، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صَلاتها له. كما:-

621-

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديسُ: الصلاة (1) .

وقال بعضهم:"نقدس لك": نعظمك ونمجدك.

* ذكر من قال ذلك:

622-

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدّب، قال: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله:"ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك"، قال: نعظمك ونمجِّدك (2) .

623-

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"ونقدس لك"، قال نعظّمك ونكبِّرك (3) .

(1) الأثر: 621- في ابن كثير 1: 129، والدر المنثور 1: 46، والشوكاني 1:50.

(2)

الأثر: 622- في الدر المنثور 1: 46.

(3)

الأثر: 623- في ابن كثير 1: 129، والدر المنثور 1:46.

ص: 475

624-

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق:"ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"، لا نَعْصي ولا نأتي شيئًا تكرهُه (1) .

625-

وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديس: التطهير (2) .

وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أنّ صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكانَ:"ونقدِّس لك" و"نقدِّسك"، كان فصيحا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدِّسه، ويسبح لله ويقدِّس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن، قال الله جل ثناؤه:(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا)[سورة طه: 33-34]، وقال في موضع آخر:(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)[سورة الجمعة: 1]

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله:"أعلم ما لا تعلمون"، مما اطلع عليه من إبليس، وإضماره المعصيةَ لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته.

* ذكر من قال ذلك:

626-

حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"إني أعلم

(1) الأثر: 624- في ابن كثير 1: 129.

(2)

الأثر: 625- في ابن كثير 1: 129، وفي الدر المنثور 1: 46: "وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: التقديس: التطهير"، ولم ينسبه للضحاك، ولا لابن جرير.

ص: 476

ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره (1) .

627-

وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يعني من شأن إبليس.

628-

وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد -وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.

629-

وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد، بمثله (2) .

630-

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عَن مجاهد مثله (3) .

631-

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (4) .

(1) الخبر: 626- لم يذكر في المصادر السالفة. و"بشر بن عمارة": مضت ترجمته في: 137، وتكرر مرارًا، ولكن مصححو طبعة بولاق قالوا في هذا الموضع:"كذا في النسخ بالتاء، وتكرر بها فيها كلها. وهو في الخلاصة بدون تاء"!! وهو"عمارة" بالتاء في جميع الكتب والدواوين. والذي في الخلاصة خطأ مطبعي فقط!!

(2)

الأثر: 629-"علي بن بذيمة"، بفتح الباء الموحدة وكسر الذال المعجمة، وهو ثقة.

(3)

الأثر: 630-"ابن يمان"، بفتح الياء وتخفيف الميم: هو يحيى بن يمان العجلي الكوفي، وهو صدوق من شيوخ أحمد بن حنبل. و"سفيان" في هذا والذي قبله - هو الثوري.

(4)

الأثر: 631-"القاسم بن أبي بزة"، بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاي: ثقة مكي، قال ابن حبان:"لم يسمع التفسير من مجاهد -أحد غير القاسم، وكل من يروي عن مجاهد التفسير- فإنما أخذه من كتاب القاسم". وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/2/122: "هو القاسم بن نافع بن أبي بزة، واسم أبي بزة: يسار". و"محمد بن عبد الرحمن" الراوي عنه هنا: هو ابن أبي ليلى.

ص: 477

632-

وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري، قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس كتمانه الكِبْر أن لا يسجُد لآدم.

633-

وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قول الله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية.

634-

وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.

635-

وحدثني المثنى، قال: حدثنا سُويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: قال مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (1) .

وقال مرَّة آدم.

636-

وحدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقَه لها (2) .

(1) الأثر: 635- ذكره السيوطي 1: 46. والشوكاني 1: 50. ولكن سقط اسم"مجاهد"، من الدر المنثور، خطأ مطبعيًّا.

(2)

الأثر: 636 - أما"مجاهد بن جبر"، فهو التابعي الكبير، الثقة الفقيه المفسر. ولكن ابنه"عبد الوهاب بن مجاهد": ضعيف جدًّا، قال أحمد بن حنبل:"لم يسمع من أبيه، ليس بشيء، ضعيف الحديث". وضعفه أيضًا ابن معين وأبو حاتم. ومر عبد الوهاب بسفيان الثوري، في مسجد الحرام، فقال سفيان:"هذا كذاب". وأما هذا الأثر، بزيادة:"وعلم من آدم الطاعة -. . . "- فلم نجده في موضع آخر.

ص: 478

637-

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، والثوري، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (1) .

638-

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني أعلم ما لا تعلمون". أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدِها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء.

وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهلُ الطاعة والولايةِ لله.

* ذكر من قال ذلك:

639-

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورُسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة (2) .

وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم:"إني أعلم ما لا تعلمون". يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك

(1) الأثر: 637- هو في معنى الآثار السالفة: 633-635.

(2)

الأثر: 639- في ابن كثير 1: 130، والدر المنثور 1: 46، والشوكاني 1:50. وفي ابن كثير: "في تلك الخليقة" وفي الدر المنثور"من تلك الخليقة" وفي الشوكاني: "سيكون من الخليقة": وجميعها بالقاف، وهو خطأ، والصواب ما في نص الطبري.

ص: 479

ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ -ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه- فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَعَلَّمَ آدَمَ}

640-

حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: بعث ربُّ العزة مَلكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها، فخلق منه آدم. ومن ثَمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض (1) .

641-

وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: إن آدم خُلق من أديم الأرض، فيه الطيّب والصالح والرديء، فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء (2) .

(1) الخبر: 640- هذا إسناد صحيح. ورواه الطبري في التاريخ أيضًا 1: 46، بهذا الإسناد، بزيادة في آخره. ولكن فيه:"بعث رب العزة إبليس" بدل"ملك الموت". وهذا هو الصواب الموافق لسائر الروايات، فلعل ما هنا تحريف قديم من الناسخين. وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات 1/1/6، عن حسين بن حسن الأشقر، عن يعقوب بن عبد الله القمي، بهذا الإسناد. وكذلك نقله السيوطي 1: 47، مطولا، عن ابن سعد، والطبري، وابن أبي حاتم، وابن عساكر.

(2)

الخبر: 641- رواه الطبري في التاريخ 1: 46، بهذا الإسناد. وذكره السيوطي 1: 47، منسوبًا للطبري وحده، ولم أجده عند غيره. وإسناده ضعيف جدًّا. عمرو بن ثابت: هو ابن أبي المقدام الحداد، ضعيف جدًّا، قال ابن معين:"ليس بثقة ولا مأمون". وأما أبوه"ثابت بن هرمز أبو المقدام"، فإنه ثقة. ويزيد هذا الإسناد ضعفًا وإشكالا - قوله فيه:"عن جده"! فإن ترجمة ثابت في المراجع كلها ليس فيها أنه يروي عن أبيه"هرمز". ثم لا نجد لهرمز هذا ذكرا ولا ترجمة، فما أدرى مم هذا؟

ص: 480

642-

وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مِسعر، عن أبي حَصين، عن سعيد بن جُبير، قال: خُلق آدم من أديم الأرض، فسمِّي آدم.

643-

وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض (1) .

644-

وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربةَ آدم، أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاءَ وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم، لأنه أخذ من أديم الأرض (2) .

وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم. وذلك ما-:

645-

حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عوف -وحدثنا محمد بن بشار، وعمر بن شَبة- قالا حدثنا يحيى بن سعيد -قال: حدثنا عوف- وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف -وحدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا عنبسة- عن عوف الأعرابي، عن قَسامَة بن زُهير، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض، فجاء

(1) الأثران: 642، 643- رواهما الطبري في التاريخ أيضًا 1: 46، بهذين الإسنادين. وذكره بنحوه السيوطي 1: 49، والشوكاني 1:52. و"أبو حصين"، فيهما بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، وهو: عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، ثقة ثبت صاحب سنة.

(2)

الخبر: 644- مضى ضمن خبر مطول، بهذا الإسناد:607.

ص: 481

بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب (1) .

فعلى التأويل الذي تأول"آدم" من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض، يجب أن يكون أصْل"آدم" فعلا سُمي به أبو البشر، كما سمي"أحمد" بالفعل من الإحماد، و"أسعد" من الإسعاد، فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ، يعني به بلغ أدمتها -وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين، كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا، لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس ما-:

646-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: علم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة، وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. (2) .

(1) الحديث: 645- هو حديث صحيح. ورواه أحمد في المسند 4: 400، 406 (حلبى) ، وابن سعد في الطبقات 1/1/5-6، وأبو داود: 4693، والترمذي 4: 67-68، والحاكم 2: 261-262، كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن قسامة بن زهير، به. قال الترمذي:"حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي 1: 46، ونسبه لهؤلاء، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وغيرهم. ورواه أيضًا الطبري في التاريخ 1: 46، بهذه الأسانيد التي هنا، بزيادة في آخره.

(2)

الخبر: 646- في ابن كثير 1: 132، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1: 52 وقد مضى برقم: 606، مطولا.

ص: 482

647-

وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء.

648-

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خُصيف، عن مجاهد:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء (1) .

649-

وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم الجَرمي، عن محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن خُصيف، عن مجاهد، قال: علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء (2) .

650-

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شَريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: علمه اسمَ كل شيء، حتى البعير والبقرة والشاة (3) .

651-

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شَريك، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس، قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة (4) .

652-

وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك،

(1) الأثران: 647، 648- في الدر المنثور 1: 49، وكأنهما اختصار لما بعدهما.

(2)

الأثر: 649- لم أجده بنصه ولعله مطول الذي قبله، وانظر ما سيأتي رقم:666. و"مسلم الجرمي": ثبت في الأصول بالحاء. وقد مضى في: 154 ترجيحنا أنه بالجيم.

(3)

الأثر: 650- في الدر المنثور 1: 49.

(4)

الخبر: 651- سعيد بن معبد: تابعي، يروي عن ابن عباس، لم أجد له ترجمة إلا في التاريخ الكبير للبخاري 2/1/468، والجرح لابن أبي حاتم 2/1/63. وكلاهما ذكر أنه يروي عن ابن عباس، ويروي عنه: القاسم بن أبي بزة. فجاءنا الطبري بفائدة زائدة، في هذا الإسناد، وفي الإسناد: 653: أنه يروي عنه أيضًا عاصم بن كليب. وهذا الخبر ذكره بنحوه: ابن كثير 1: 132، والسيوطي 1:49. ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم. وهذا الخبر والثلاثة بعده، متقاربة المعنى، هي روايات لخبر واحد.

ص: 483

عن عاصم بن كليب، عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: حتى الفسوة والفُسيَّة.

653-

حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعب، عن قيس، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس في قول الله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة.

654-

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم بن كليب، قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القُصيعة، والفسوة من الفسية (1) .

655-

وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها" حتى بلغ:"إنك أنتَ العليمُ الحكيم" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم"، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه (2) .

656-

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، لكل شيء، ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (3) .

657-

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم -ومبارك، عن الحسن- وأبي بكر عن الحسن وقتادة،

(1) الخبر: 654- عاصم بن كليب الجرمي: ثقة يحتج به. ولكنه إنما يروي عن التابعين، فروايته عن ابن عباس هنا منقطعة. وقد دلتنا الأسانيد الثلاثة الماضية على أنه إنما روى هذا المعنى عن سعيد بن معبد، وعن الحسن بن سعد، عن ابن عباس.

(2)

الأثر: 655- في الدر المنثور 1: 49، بغير هذا اللفظ. وانظر رقم:697.

(3)

الأثر: 656- في ابن كثير 1: 133 مختصرًا، وفي الدر المنثور 1: 49 مطولا وفي ابن كثير: "ثم عرض تلك الأسماء".

ص: 484

قالا علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه. (1)

658 -

وحُدِّثت عن عمّار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شيء. (2)

وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة.

* ذكر من قال ذلك:

659 -

حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وعلم آدمَ الأسماء كلها"، قال: أسماء الملائكة. (3)

وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها.

* ذكر من قال ذلك:

660 -

حدثني محمد بن جرير، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: أسماء ذريته أجمعين. (4)

وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها" إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال:"ثمّ عرَضهم على الملائكة"، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت:"عرضهن" أو"عرضها"، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف

(1) الأثر: 657- في ابن كثير 1: 133 بغير هذا اللفظ مختصرًا، وفي الدر المنثور 1: 49، وسيأتي كما جاء فيهما برقم:667.

(2)

الأثر: 658- لم أجده.

(3)

الأثر: 659- في ابن كثير 1: 132، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1:52.

(4)

الأثر: 660- في ابن كثير 1: 132، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1:52.

ص: 485

من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف. وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك (1) بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه:(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)[سورة النور: 45] ، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون. فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة، وإن كان ما قال ابن عباس جائزًا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله:"والله خَلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بَطنه" الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود:"ثم عَرضهن"، وأنها في حرف أبَيّ:"ثم عَرضَها". (2)

ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسيَّة، على قراءة أبيّ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ. وتأويل ابن عباس - على ما حُكي عن أبيّ من قراءته - غيرُ مستنكر، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب، على نحو ما تقدم وصفي ذلك.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ}

قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية، على قراءتنا ورَسم مُصْحفنا، وأن قوله:"ثم عَرَضهم"، بالدلالة على بني آدم والملائكة،

(1) في المطبوعة: "إذ كان. . . " وهو خطأ.

(2)

انظر تفسير ابن كثير 1: 132 في التعقيب على كلام الطبري.

ص: 486

أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غيرَ فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم، للعلل التي وصفنا.

ويعني جل ثناؤه بقوله:"ثم عَرضَهم"، ثم عرَض أهل الأسماء على الملائكة.

وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله:"ثم عَرضَهم على الملائكة" نحو اختلافهم في قوله:"وعلم آدمَ الأسماء كلها". وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ.

661 -

حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"ثم عَرضهم على الملائكة"، ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق. (1)

662 -

وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ثم عرضهم"، ثم عرض الخلقَ على الملائكة (2) .

663 -

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة (3) .

664 -

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ثم عرضهم"، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة (4) .

(1) الخبر: 661- هو من تمام الآثار السالفة قريبًا.

(2)

الخبر: 662- مختصر من الخبر الطويل الماضي قريبًا، وفي ابن كثير 1:132.

(3)

الأثر: 663- في الدر المنثور 1: 49.

(4)

الأثر: 664- مختصر أثر سلف بإسناده هذا، وفي ابن كثير 1:133.

ص: 487

665 -

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"ثم عرضهم"، عرض أصحاب الأسماء على الملائكة (1)

666 -

وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس، عن خُصَيف، عن مجاهد:"ثم عرضهم على الملائكة"، يعني عرض الأسماء، الحمامةَ والغراب (2) .

667 -

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علّمه اسم كل شيء: هذه الخيلَ، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعُرضت عليه أمة أمة (3) .

* * *

القول في تأويل قوله: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ}

قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"أنبئوني": أخبروني، كما:-

668 -

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"أنبئوني"، يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء (4) .

ومنه قول نابغة بني ذُبيان:

(1) الأثر: 665- في ابن كثير: 1: 133، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1:52.

(2)

الأثر: 666- في ابن كثير 1: 134، وانظر ما مضى قريبًا بإسناده.

(3)

الأثر: 667- انظر ما مضى رقم: 657 وابن كثير 1: 133، والدر المنثور 1:49.

(4)

الخبر: 668- مختصر من الخبر رقم: 606.

ص: 488

وَأَنْبَأَهُ الْمُنَبِّئُ أَنَّ حَيًّا

حُلُولٌ مِنْ حَرَامٍ أَوْ جُذَامِ (1)

يعني بقوله:"أنبأه": أخبره وأعلمه.

* * *

القول في تأويل قوله جل ذكره: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ}

قال أبو جعفر:

669 -

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله:"بأسماء هؤلاء"، قال: بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدمَ.

670-

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" يقول: بأسماء هؤلاء التي حَدّثت بها آدم. (2)

* * *

(1) ديوانه: 87 من قصيدة له، في عمرو بن هند، وكان غزا الشام بعد قتل المنذر أبيه. وقال أبو عبيدة: هذه القصيدة لعمرو بن الحارث الغساني في غزوة العراق. ورواية الديوان: "أن حيًّا حلولا" بالنصب، صفة "حيًّا" وهي الرواية الجيدة. وخبر"أن" محذوف، كأنه يقول: قد تألبوا يترصدون لك. وحذفه للتهويل في شأن اجتماعهم وترصدهم. والبيت الذي يليه دال على ذلك، وهو قوله: وَأَنَّ الْقَوْمَ نَصْرُهُمُ جَمِيعٌ

فِئَامٌ مُجْلِبُونَ إِلَى فِئَامِ

ورواية الرفع، لا بأس بها، وإن كنت لا أستجيدها. وقوله:"حرام" كأنه يعني بني حرام ابن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد هذيم. أو كأنه يعني بني حرام بن جذام بن عدي بن الحارث ابن مرة بن أدد بن زيد. ودار جذام جبال حسمى، وأرضها بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة، وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نهيل (معجم البلدان: حسمى) . فمن أجل أن بنى عذرة هذه ديارهم قريبة من جذام، شككت فيمن عني النابغة ببني حرام في هذا البيت.

(2)

الأثران: 669، 670- لم أجدهما في مكان.

ص: 489

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.

671 -

فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"إن كنتم صادقين"، إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. (1)

672 -

وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"إن كنتم صادقين" أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. (2)

673 -

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (3) .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويلُ ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة - القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك

(1) الخبر: 671- مختصر من الخبر السالف رقم 606، وانظر التعليق، هناك على هذه الفقرة. وانظر الشوكاني 1:52.

(2)

الخبر: 672- مختصر من الخبر السالف رقم 607، وابن كثير 1: 133، والدر المنثور 1: 50، والشوكاني 1:52.

(3)

الأثر: 673- مختصر من الأثر السالف رقم 611، وابن كثير 1:133.

ص: 490

ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم = بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم = أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.

وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال:(رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)[سورة هود: 45]-: لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (1) . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره:"إني أعلم ما لا تعلمون". يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، - فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ - بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم:"أنبئوني

(1) في المطبوعة: "وأنت أحكم الحاكمين فلا تسألن"، وهو خطأ فاحش، فإن الآية التي تلي قوله:"وأنت أحكم الحاكمين": "قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم. . . "، ولم يرد الطبري أن يسوق الآيتين، بل ساق قول الله سبحانه لنبيه حين قال ما قال. والصواب ما في المخطوطة كما أثبتناه.

ص: 491

بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح - حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم (1) -: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[سورة هود: 47] . وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له - سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته.

وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك وفضله، فقال:"أنبئوني إن كنتم صادقين" - كما يقول الرجل للرجل:"أنبئني بهذا إن كنت تعلم". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهلٌ.

وهذا قول إذا تدبره متدبر، علم أن بعضَه مُفسدٌ بعضًا. وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة - إذ عرَض عليهم أهل الأسماء -: أنبئوني بأسماء هؤلاء، وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يُوبَّخوا بهذا القول.

وزعم أن قوله:"إن كنتم صادقين" نظير قول الرجل للرجل:"أنبئني بهذا إن كنت تعلم". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل.

ولا شك أن معنى قوله:"إن كنتم صادقين" إنما هو: إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإما في فعلكم. لأن الصّدق في كلام العرب، إنما هو صدق في الخبر لا في

(1) في المطبوعة هنا أيضًا: "فلا تسألن".

ص: 492

أسباط، عن السُّدّيّ في قوله:"ومتاعٌ إلى حين"، قال يقول: بلاغ إلى الموت (1) .

771 -

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس:"ومتاعٌ إلى حين"، قال: الحياة (2) .

* * *

وقال آخرون: يعني بقوله:"ومتاعٌ إلى حين"، إلى قيام الساعة.

* ذكر من قال ذلك:

772 -

حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"ومتاع إلى حين"، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا.

* * *

وقال آخرون:"إلى حين"، قال: إلى أجل.

* ذكر من قال ذلك:

773 -

حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ومتاع إلى حين"، قال: إلى أجل (3) .

* * *

والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك (4) . فإذْ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد جَعل حياة كل حيّ متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان مَتاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتًا (5) ، ولجسمه منزلا وَقرارا؛ وكان اسم المتاع يَشمل جميع ذلك - كان أولى التأويلات

(1) الأثر: 770 - لم أجده في مكان.

(2)

الأثر: 771 - في الدر المنثور 1: 55، وهو من تمام الأثرين: 761، 768.

(3)

الأثران: 772، 773: لم أجدهما في مكان.

(4)

في المخطوطة: "في معاش استمتع. . . ".

(5)

الكفات: الموضع الذي يضم فيه الشيء ويقبض.

ص: 450