الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(39) }
يعني: والذين جَحدوا آياتي وكذّبوا رسلي. وآيات الله: حُجَجه وأدلتُه على وحدانيّته وربوبيّته، وما جاءت به الرُّسُل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأتْ عن ربّها. وقد بيّنا أن معنى الكفر، التغطيةُ على الشيء (1) .
"أولئك أصحاب النار"، يعني: أهلُها الذين هم أهلها دون غيرهم، المخلدون فيها أبدًا إلى غير أمَدٍ ولا نهاية. كما:-
797-
حدثنا به عُقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غَسان بن مُضَر، قال حدثنا سعيد بن يزيد - وحدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مَسْلَمَة سعيد بن يزيد - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد بن يزيد - عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة (2) .
* * *
(1) انظر ما مضى ص: 255.
(2)
الحديث: 797- رواه الطبري هنا بثلاثة أسانيد، تنتهي إلى سعيد بن يزيد. وذكره ابن كثير 1: 158، ولكنه سها فذكر أنه رواه من طريقين، وهي ثلاثة كما ترى:
و"عقبة بن سنان بن عقبة بن سنان البصري" - شيخ الطبري في الإسناد الأول: ثقة، سمع منه أبو حاتم، وقال:"صدوق". ولم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل 3/1/311. و"غسان بن مضر الأزدي البصري": ثقة من شيوخ أحمد القدماء، وقال أحمد: "شيخ ثقة ثقة". وترجمه البخاري في الكبير 4/1/107، وابن أبي حاتم 3/2/51. و"أبو بكر بن عون" - شيخ الطبري في الإسناد الثالث: لم أستطع أن أعرف من هو؟ ولا أثر لذلك في الإسناد، فإن الطبري رواه عنه وعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، كلاهما عن ابن علية. و"سعيد بن يزيد بن مسلمة أبو مسلمة الأزدي البصري": تابعي ثقة، روى له الجماعة. وترجمه البخاري 2/1/476، وابن أبي حاتم 2/1/73. وكنيته"أبو مسلمة" بالميم في أولها. ووقع في تفسير ابن كثير"أبو سلمة" بحذفها، وهو خطأ مطبعي.
وهذا الحديث رواه مسلم 1: 67-68، وابن ماجه: 4309- كلاهما من طريق بشر بن المفضل، عن سعيد بن يزيد أبي مسلمة، به. ولكنه عندهما أطول مما هنا. ولم يروه من أصحاب الكتب الستة غيرهما، كما يدل على ذلك تخريجه في جامع الأصول لابن الأثير:8085. وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند: 11093 (3: 11 حلبي) عن ابن علية. ورواه أيضًا أحمد: 11769 (3: 78-79)، ومسلم 1: 68- كلاهما من طريق شعبة، عن سعيد بن يزيد.
وهو في الحقيقة جزء من حديث طويل، ورواه أحمد في المسند، مطولا ومختصرًا، من أوجه، عن أبي نضرة، منها: 11029، 11168، 11218- 11220 (3: 5، 20، 25-26 حلبي) .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"يا بني إسرائيل" ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن (1) وكان يعقوب يدعى"إسرائيل"، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه. و"إيل" هو الله، و"إسرا" هو العبد، كما قيل:"جبريل" بمعنى عبد الله. وكما:-
798-
حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن عُمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله. (2)
799-
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال:"إيل"، الله بالعبرانية. (3)
(1) في المطبوعة: "يا ولد يعقوب. . . " بزيادة النداء".
(2)
الخبر: 798- في ابن كثير 1:: 149، والدر المنثور 1:63. وهذا إسناد صحيح. إسماعيل بن رجاء بن ربيعة: ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. عمير مولى ابن عباس: هو عمير بن عبد الله الهلالي، مولى أم الفضل، وقد ينسب إلى ولاء زوجها"العباس"، كما ورد في إسناد حديث آخر في المسند: 77، وقد ينسب إلى ولاء بعض أولادها، كما في هذا الإسناد. وهو تابعي ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/380، وأخرج له الشيخان وغيرهما.
(3)
الأثر: 799- في الدر المنثور 1: 63. و"المنهال": هو ابن عمرو الأسدي. و"عبد الله بن الحارث": هو الأنصاري البصري أبو الوليد، وهو تابعي ثقة.
وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله:"يا بني إسرائيل" أحبارَ اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظَهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال:(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[سورة الأعراف: 31] وما أشبه ذلك. وإنما خصّهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكَّرهم فيها نعمَه -وإن كان قد تقدّم ما أنزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم- أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبارُ أوائلهم، وَقصَصُ الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثلُ الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرَّفهم بإطلاع محمّد على علمها- مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم درَاسةَ الكتب التي فيها أنباء ذلك (1) - أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم
(1) قوله: "وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم دراسة الكتب. . . "، هو كما نقول اليوم في عبارتنا المحدثة:"وعدم مزاولة محمد. . . ". قال الجاحظ في البيان والتبيين 1: 285: "واستجار عون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، بمحمد بن مروان بنصيبين، وتزوج بها امرأة فقال محمد: كيف ترى نصيبين؟ قال: "كثيرة العقارب، قليلة الأقارب". يريد بقوله:"قليلة"، كقول القائل:"فلان قليل الحياء"، وليس يريد أن هناك حياء وإن قل. يضعون:"قليلا، في موضع"ليس". انتهى.
قلت: ومنه قول دريد بن الصمة في أخيه: قَلِيلُ التَّشَكِّي للمصيبات، حافظٌ
…
مِنَ الْيَوْمِ أعقابَ الأحاديث في غَدِ
وسيأتي قول الطبري في تفسير قوله تعالى من (سورة البقرة: 88)"فقليلا ما يؤمنون": (1: 324، بولاق) : "وإنما قيل: فقليلا ما يؤمنون، وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: "قلما رأيت مثل هذا قط". وقد روى عنها سماعًا منها: "مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل"، يعني ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بالقلة، والمعنى فيه نفي جميعه"، انتهى.
وفي الحديث: "إنه كان يقل اللغو" أي لا يلغو أصلا، قال ابن الأثير: وهذا اللفظ يستعمل في نفي أصل الشيء (اللسان: قلل) .
ولولا زمان فسد فيه اللسان، وقل الإيمان، واشتدت بالمتهجمين الجرأة على تفسير الكلمات، وتصيد الشبهات - ولولا أن يقول قائل فيفتري على الطبري أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدارس كتب أهل الكتاب، لكنت في غنى عن مثل هذه الإطالة.
لم يَصلْ إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنزيلٍ منه ذلك إليه - لأنهم من عِلْم صحة ذلك بمحلّ ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله:"يا بني إسرائيل" خطابهم كما:-
800-
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله:"يا بني إسرائيل"، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جلّ ذكره، اصطفاؤه منهم الرسلَ، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذُه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضَّرَّاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلَف منه إلى آبائهم على ذُكْر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحلّ بهم من النقم ما أحلّ بمن نسي نعمَه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:-
801-
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"اذكروا نعمتِي التي أنعمتُ عليكم"، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه (2) .
802-
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن
(1) الأثر 800- في الدر المنثور 1: 63، والشوكاني 1: 61 بتمامه. وسيأتي تمامه في الأثر التالي.
(2)
الأثر: 801- من تمام الأثر السالف، المراجع السالفة، وابن كثير 1:149.
الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"اذكروا نعمتي"، قال: نعمتُه أنْ جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب (1) .
803-
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"، يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون (2) .
804-
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"نعمتي التي أنعمت عليكم" قال: نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (3) [سورة الحجرات: 17]
وتذكيرُ الله الذين ذكّرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافَهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)[سوة المائدة: 20] .
* * *
(1) الأثر: 802- في ابن كير 1: 149.
(2)
الأثر: 803- في ابن كثير 1: 149 وفيه: "وفيما سوى ذلك: أن فجر"، بالزيادة.
(3)
الأثر: 804- لم أجده في مكان.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (40) }
قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى -عن معنى العهد- من كتابنا هذا (1) ، واختلاف المختلفين في تأويله، والصوابُ عندنا من القول فيه (2) . وهو في هذا الموضع: عهدُ الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبيِّنوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله.
"أوف بعهدكم": وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه:(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[سورة المائدة: 12]، وكما قال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا
(1) انظر ما مضى: 410-415.
(2)
في المطبوعة: "قد تقدم بياننا معنى العهد فيما مضى من كتابنا. . . "، غيروه ليستقيم الكلام على ما ألفوه.
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1)[سورة الأعراف: 156-157] .
805-
وكما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وأوفوا بعهدي" الذي أخذتُ في أعناقكم للنبِيّ محمد إذا جاءكم، (2)"أوف بعهدكم"، أي أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعْناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم (3) .
806-
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"أوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم"، قال: عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه،"أوف بعهدكم"، يعني الجنة (4) .
807-
وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"أوفوا بعهدي أوف بعهدكم": أما"أوفوا بعهدي"، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما"أوف بعهدكم" فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة (5) .
808-
وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:"وأفوا بعهدي أوف بعهدكم"، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
(1) في الأصول: ". . . اثنى عشر نقيبًا، الآية". و"النبي الأمي، الآية". وآثرنا إتمام الآيتين، كما جرينا عليه فيما سلف، وفيما سيأتي.
(2)
في المطبوعة: ". . . للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم. . . "، وفي المراجع الأخرى.
(3)
الأثر: 805- من تمام الأثر السالف رقم: 800، ورقم 801، ومراجعه ما سلف.
(4)
الأثر: 806- في ابن كثير 1: 150.
(5)
الأثر: 807- في ابن كثير 1: 150 تضمينًا.
نَقِيبًا) إلى آخر الآية [سورة المائدة: 12] . فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده (1) .
809-
وحُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله"وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره،"أوف بعهدكم"، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة (2) .
810-
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، قال: أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) حتى بلغ (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)[سورة التوبة: 111]، قال: هذا عهده الذي عهده لهم (3) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) }
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"وإياي فارهبون"، وإياي فاخْشَوْا - واتَّقُوا أيها المضيّعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذتُ ميثاقكم - فيما أنزلتُ من الكتُب على أنبيائي -أن تؤمنوا به وتتبعوه- أن أُحِلّ بكمْ من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللتُ بمن خالف أمري وكذّب رُسلي من أسلافكم. كما:-
811-
حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،
(1) الأثر: 808- لم أجده بنصه في مكان.
(2)
الأثر: 809- في ابن كثير 1: 150، الدر المنثور 1: 63، والشوكاني 1:61.
(3)
الأثر: 810- لم أجده في مكان.
عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإيايَ فارهبون"، أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره. (1)
812-
وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"وإياي فارهَبُون"، يقول: فاخشَوْن.
813-
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وإياي فارهبون"، يقول: وإياي فاخشون. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"آمنوا"، صدِّقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. (3) ويعني بقوله:"بما أنزلت، ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويعني بقوله:"مصدِّقًا لما معكم"، أن القرآن مصدِّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في التوراة والإنجيل ففي تصديقهم بما
(1) الأثر: 812- من تمام الآثار السالفة الأرقام: 800، 801، 805. وابن كثير 1: 150 من تمام ما سلف في ص 149. المراجع المذكورة.
(2)
الأثر: 813- في ابن كثير 1: 150.
(3)
انظر ما مضى: 234، 235.
أنزل على محمد تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة.
وقوله:"مصدقًا"، قطع من الهاء المتروكة في"أنزلته" من ذكر"ما"(1) . ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:-
814-
حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم"، يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل. (2) .
815-
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
816-
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"وآمنوا بما أنزلت مصدِّقًا لما معكم"، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنزلت على محمّد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمّدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. (3) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قِيل:"ولا تكونوا أول كافر به"،
(1) قوله"قطع"، أي حال. وانظر ما سلف ص 230: تعليق: 4، وص 330 تعليق:1.
(2)
الأثر: 814- في ابن كثير 1: 150 تضمينًا، والدر المنثور 1: 264، والشوكاني 1:61.
(3)
الأثر: 815- في ابن كثير 1: 150، والدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1:61.
والخطاب فيه لجميع (1)، وقوله:"كافر" واحد؟ وهل نجيز -إن كان ذلك جائزًا- أن يقول قائل:"ولا تكونوا أول رجُل قام"؟
قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له"أفعل"، وهو خبر لجميع (2) إذا كان اسمًا مشتقًّا من"فعل ويفعل"، لأنه يؤدِّي عن المرادِ معه المحذوفَ من الكلام وهو"مَنْ"، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه"مَنْ" من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوَّلَ من يكفر به."فمن" بمعنى جميع (3) ، وهو غير متصرف تصرفَ الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسمُ المشتق من"فعل ويفعل" مُقَامه، جرى وهو موحّد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه"مَنْ" من معنى الجمع والتأنيث، كقولك:"الجيش مُنهزم"،"والجند مقبلٌ"(4)، فتوحِّد الفعلَ لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال:"الجيش رجل، والجند غلام"، حتى تقول:"الجند غلمان والجيش رجال". لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من"فعل ويفعل"، لا يؤدّي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر:
وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طَاعِمٍ
…
وَإِذَا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ (5)
فوحّد مَرّةً على ما وصفتُ من نية"مَنْ"، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من"فعل ويفعل" مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء
(1) في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع. . . لجمع. . . جمع".
(2)
في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع. . . لجمع. . . جمع".
(3)
في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع. . . لجمع. . . جمع".
(4)
في المطبوعة. "الجيش ينهزم، والجند يقبل"، وهو خطأ صرف.
(5)
نوادر أبي زيد: 152، لرجل جاهلي، ومعاني القرآن للفراء 1: 33، وهي ثلاثة أبيات نوادر، وقبله: ومُوَيْلكٌ زمَعُ الكِلابِ يَسُبُّنِي
…
فَسَماعِ أسْتَاهَ الكلابِ سَمَاعِ
هَلْ غير عَدْوِكُمُ عَلَى جَارَاتكُمْ
…
لبُطُونِكُمْ مَلَثَ الظَّلامِ دَوَاعِي
وقوله: "طعموا" أي شبعوا، فهم عندئذ ألأم من شبع. وفي الحديث:"طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة"، يعني شبع. الواحد قوت الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة.
المخبر عنهم، ولو وحَّد حيث جَمع، أو جمع حيث وحَّد، كان صوابًا جائزًا (1) .
وأما تأويل ذلك (2) فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدِّقوا بما أنزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدِّق كتابَكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيِّيَ المبعوثُ بالحق، ولا تكونوا أوَّل أمّتكُمْ كذَّبَ به (3) وَجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.
وكفرهم به: جُحودهم أنه من عند الله (4) . والهاء التي في"به" من ذكر"ما" التي مع قوله:"وآمنوا بما أنزلت". كما:-
817-
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال قال ابن جريج في قوله:"ولا تكونوا أوّل كافر به"، بالقرآن. (5)
قال أبو جعفر: وروى عن أبي العالية في ذلك ما:-
818-
حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تكونوا أول كافر به"، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. (6) .
وقال بعضهم:"ولا تكونوا أول كافر به"، يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدانِ. وذلك أن الله جل ثناؤه
(1) انظر مثل ما قال الطبري في معاني القرآن للفراء 1: 32-33.
(2)
في المطبوعة: "فأما. . . " بالفاء.
(3)
في المطبوعة: "أول من كذب به"، والذي أثبتناه هو صواب بيان الطبري.
(4)
في المخطوطة: "وكفرهم به وجحودهم. . . " وهو خطأ.
(5)
الأثر: 817- في الدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1:61.
(6)
الأثر: 818- في ابن كثير 1: 150، والدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1:61.
أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره:"وآمِنُوا بما أنزلتُ مصدقًا لما معكم". ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنزيلٌ مُنْزَل، والمنْزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية (1) ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله:"ولا تكونوا أول كافر به" - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام (2) .
وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في"به" على"ما" التي في قوله:"لما معكم". لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام (3) ، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن (4) . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. (5) .
819-
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
(1) في المطبوعة زيادة بين هاتين الجملتين، وهي مقحمة مفسدة للكلام نابية في السياق. ونصها". . . في أول الآية من أهل الكتاب، فذلك هو الظاهر المفهوم. ولم يجر لمحمد. . . ".
(2)
بيان الطبري جيد محكم، وإن ظن بعض من نقل كلامه أن كلا القولين صحيح، لأنهما متلازمان. لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن (ابن كثير 1: 150) . ونعم، كلا القولين صحيح المعنى في ذاته، ولكن الطبري يحدد دلالة الألفاظ والضمائر في الآية، ويعين ما يحتمله ظاهر التلاوة والتنزيل، ويخلص معنى من معنى، وإن كان كلاهما صحيحًا في العقل، صحيحًا في الحكم، صحيحًا في الدين. وما أكثر ما يتساهل الناس إذا تقاربت المعاني، ولا يخلص معنى من معنى إلا بصير بالعربية كأبي جعفر رضي الله عنه.
(3)
في المطبوعة: "محتمل ظاهر الكلام".
(4)
في المخطوطة: ". . . أن الأمر بالإيمان به في أول الآية. . . أن يكون النهي عن الكفر به في آخرها. . . "، والذي في المطبوعة أجود وأبين.
(5)
وهذا أيضًا من جيد البصر؛ بمنطق العربية، وإن ظنه بعضهم قريبًا من قريب.
بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به"، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
820-
فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تشترُوا بآياتي ثمنًا قليلا"، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمتَ مَجَّانًا (2) .
وقال آخرون بما:-
821 -
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، يقول: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع (3) .
(1) الخبر: 819- من تمام الأخبار السالفة الأرقام 805، 811، في الدر المنثور 1:63.
(2)
الأثر: 820- من تمام الأثر السالف رقم: 818 ومراجعه هناك. وفي ابن كثير 1: 151. والمجان: عطية الشيء بلا منة ولا ثمن. قال أبو العباس: سمعت ابن الأعرابي يقول: المجان عند العرب الباطل، وقالوا:"ماء مجان". قال الأزهري: العرب تقول: تمر"مجان"، وماء"مجان"، يريدون أنه كثير كاف. قال: واستطعمني أعرابي تمرًا فأطعمته كتلة واعتذرت إليه من قلته، فقال: هذا والله"مجان". أي كثير كاف. وقولهم: أخذه مجانًا: أي بلا بدل، وهو فعال لأنه ينصرف (اللسان: مجن) .
(3)
الأثر: 821- في ابن كير 1: 151. وفي المطبوعة وابن كثير: "فذلك الطمع هو الثمن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو أجود.
فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيسٍ وعَرضٍ من الدنيا قليل. وبيعُهم إياه - تركهم إبانةَ ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل - بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجرَ ممَّن بيّنوا له ذلك على ما بيّنوا له منه.
وإنما قلنا بمعنى ذلك:"لا تبيعوا"(1) ، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائعٌ الآياتِ بالثمن، فكل واحد من الثمَّن والمثمَّن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري: وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية (2) ، بينوا للناس أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيُه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهيَ عن شراء الثمن القليل بآياته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}
قال أبو جعفر: يقول: فاتقونِ - في بَيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أنْ أُحِلّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمَات.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"ولا تلبسُوا"، لا تخلطوا. واللَّبْس هو الخلط.
(1) في المطبوعة: "وإنما قلنا معنى ذلك. . . ".
(2)
في المطبوعة: "وإنما معناه على ما تأوله. . . ".
يقال منه: لَبَست عليه هذا الأمر ألبِسُه لبسًا: إذا خلطته عليه (1) . كما:-
822 -
حُدِّثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)[سورة الأنعام: 9] يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون (2) .
ومنه قول العجاج:
لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي
…
غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي (3)
يعني بقوله:"لبسن"، خلطن. وأما اللُّبس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا، وذلك الكسوةُ يكتسيها فيلبسها (4) . ومن اللُّبس قول الأخطل:
لَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الدَّهْرِ أَعْصُرَهُ
…
حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا (5)
ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) . [سورة الأنعام: 9]
* * *
فإن قال لنا قائل (6) وكيف كانوا يلبِسون الحق بالباطل وهم كفّار؟ وأيُّ حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟
قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به. وكان عُظْمُهم يقولون (7) : محمد نبيٌّ مبعوث، إلا أنه
(1) في المطبوعة: "لبست عليهم الأمر. . . خلطته عليهم".
(2)
الخبر: 822- لم أجده في مكان، ولم يذكره الطبري في مكانه من تفسير هذه الآية في سورة الأنعام (7: 98 بولاق) .
(3)
ديوانه: 65. غني عن الشيء واستغنى: اطرحه ورمى به من عينه ولم يلتفت إليه.
(4)
في المطبوعة: "وذلك في الكسوة. . . "، بالزيادة.
(5)
ديوانه: 142، وفيه"وقد لبست". وأعصر جمع عصر: وهو الدهر والزمان. وعني هنا اختلاف الأيام حلوها ومرها، فجمع. ولبس له أعصره: عاش وقاسى خيره وشره. وتجلل الشيب رأسه: علاه.
(6)
في المطبوعة: "إن قال. . . ".
(7)
في المطبوعة: "وكان أعظمهم. . . "، وهو تحريف قد مضى مثله مرارًا. وعظم الشيء: معظمه وأكثره.
مبعوث إلى غيرنا. فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقَّ بالباطل، إظهارَه الحقّ بلسانه، وإقرارَه بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارًا (1) ، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه (2) . وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحدُ أنه مبعوث إليهم، إقرارَه بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحودَه أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بَعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولَبْسهم إياه به. كما:-
823 -
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله:"ولا تلبِسُوا الحق بالباطل"، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب (3) .
824 -
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل"، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدُّوا النصيحةَ لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم (4) .
825 -
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد:"ولا تلبسوا الحق بالباطل"، اليهوديةَ والنصرانية بالإسلام (5) .
826 -
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل"، قال: الحقّ، التوراةُ الذي أنزل الله على موسى، والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم (6) .
* * *
(1) في المطبوعة: "وإقراره لمحمد. . . ".
(2)
في المطبوعة: "بالباطل الذي يستبطنه".
(3)
الخبر: 823- في ابن كثير 1: 152، والدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1:62.
(4)
الأثر: 824- في ابن كثير 1: 152.
(5)
الأثر: 825- لم أجده عن مجاهد، ومثله عن قتادة في ابن كثير 1: 152، والدر المنثور 1:64.
(6)
الأثر: 826- في الدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1:62.