الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الأخبار
التي غلِطَ في تأويلها منكر والقول في تأويل القرآن
فإن قال لنا قائل: فما أنت قائلٌ فيما:-
90 -
حدثكم به العباس بن عبد العظيم، قال: حدثنا محمد بن خالد ابن عَثْمة، قال: حدثني جعفر بن محمد الزبيري، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفسِّر شيئًا منَ القرآن إلا آيًا بعَددٍ، علَّمهنّ إياه جبريلُ.
91 -
حدثنا أبو بكر محمد بن يزيد الطرسوسي، قال: أخبرنا مَعْن، عن جعفر بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفسر شيئًا من القرآن، إلا آيًا بعَددٍ، علمهنّ إياه جبريل عليه السلام (1).
(1) الحديث 90، 91 - هو بإسنادين، ونقلهما ابن كثير في التفسير 1: 14 - 15 عن الطبري، وقال:"حديث منكر غريب. وجعفر هذا: هو ابن محمد بن خالد بن الزبير العوام القرشي الزبيري، قال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 303، وقال:"رواه أبو يعلى، والبزار بنحوه. وفيه راو لم يتحرر اسمه عند واحد منهما، وبقية رجاله رجال الصحيح. أما البزار فقال: عن حفص أظنه ابن عبد الله عن هشام بن عروة. وقال أبو يعلى: عن فلان بن محمد بن خالد عن هشام". أما ما ذكر عن البزار، فإنه لم يقع له الراوي بنسبه، ووقع له باسم "حفص" فظنه "ابن عبد الله"، ولعله تصحف عليه في نسخته عن "جعفر" أو تصحف من الناسخين، فظنه "جعفر بن عبد الله بن زيد بن أسلم". و "جعفر بن عبد الله" هذا: مترجم في التهذيب، وذكر أنه وقع اسمه في بعض نسخ مسند مالك للنسائي "حفص بن عبد الله". وأيا ما كان فقد بان خطأ البزار في ظنه، وأن الراوي هو "جعفر بن محمد بن خالد الزبيري".
و"جعفر الزبيري"، راوي هذا الحديث: ذكر في الإسناد الثاني منسوبًا إلى جده، وهو جعفر بن محمد بن خالد، كما بينه ابن كثير، وكما ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1\ 1: 487 - 488، وابن حجر في لسان الميزان 2:124. وترجمه البخاري في الكبير 1\ 2: 189 منسوبًا لجده، ثم قال: "قال لي خالد بن مخلد: حدثنا جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام
…
وقال معن: عن جعفر بن خالد".
والراجح عندي أنه "جعفر بن محمد بن خالد"، لما ذكرنا، ولأن ابن سعد ترجم لجده "خالد بن الزبير" 5: 137، وذكر أولاده، وفيهم "محمد الأكبر" و "محمد الأصغر"، ولم يذكر أن له ولدًا اسمه "جعفر".
وسيأتي أن يعل الطبري نفسه هذين الإسنادين بأن جعفرًا راويهما "ممن لا يعرف في أهل الآثار". ص: 89 وقد نقل ابن كثير أن البخاري قال فيه: "لا يتابع في حديثه"، وكذلك نقل الذهبي عنه في الميزان، وتبعه ابن حجر في لسان الميزان. ولكن البخاري ترجم له في التاريخ الكبير، فلم يقل شيئًا من هذا ولم يذكر فيه جرحًا، وكذلك ابن أبي حاتم لم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء. ونقل ابن حجر أن ابن حبان ذكره في الثقات. وأن يذكره البخاري في التاريخ دون جرح أمارة توثيقه عنده. وهذان كافيان في الاحتجاج بروايته. ولئن لم يعرفه الطبري في أهل الآثار لقد عرفه غيره.
وفي الإسناد الأول من هذين "محمد بن خالد ابن عثمة"، وقد ترجمه البخاري في الكبير 1\ 1: 73 - 74، وقال:"محمد بن خالد، ويقال: ابن عثمة، وعثمة أمه"، ونحو ذلك في الجرح والتعديل 3\ 2: 243، فينبغي أن ترسم "ابن" بالألف، وهي مرفوعة تبعًا لرفع "محمد" وأمه "عثمة" بفتح العين المهملة وسكون الثاء المثلثة. ومحمد بن خالد هذا: ثقة.
وقوله في الروايتين "إلا آيًا بعدد" غيره مصححو المطبوعة "آيا تعد". وفعلوا ذلك في حيث كرر لفظ الحديث بعد.
92-
وحدثنا أحمد بن عَبدة الضبي، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا عُبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير (1) منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيَّب، ونافع.
93-
وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا بشر بن عمر، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيب عن آيةٍ من القرآن، فقال: لا أقول في القرآن شيئًا.
94-
حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئًا.
(1) في المطبوعة: "ليعظمون القول"، وهما سواء.
95-
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت الليث يحدث، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيَّب: أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن (1) .
96-
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عَبِيدة السلماني عن آيةٍ، قال: عليك بالسَّداد، فقد ذهب الذين علمُوا فيمَ أنزل القرآن.
97-
حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابنُ عليَة، عن أيوب وابن عون، عن محمد، قال: سألت عَبِيدة عن آية من القرآن فقال: ذهبَ الذين كانوا يعلَمون فيمَ أنزل القرآن، اتّق الله وعليك بالسَّداد.
98-
حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة: أنّ ابن عباس سُئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.
99-
حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاءَ طلْق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله، فسأله عن آية من القرآن، فقال له: أحَرِّج عليك إن كنت مُسلمًا، لمَّا قمت عنى - أو قال: أن تجالسني.
100-
حدثني عباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا عبد الله ابن شَوْذَب، قال: حدثني يزيد بن أبي يزيد، قال: كنا نسأل سعيدَ بن المسيَّب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سَكَتَ كأن لم يسمع.
101-
وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة، عن عمرو بنُ مرة، قال: سأل رجلٌ سعيد بن المسيب عن آية من القرآن،
(1) في المخطوطة: "إلا في المعلوم من التفسير"، والمعنى قريب.
فقال: لا تسألني عن القرآن، وسَل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه- يعني عكرمة.
102-
وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السَّفَر، قال: قال الشعبي: والله مَا مِن آية إلا قد سألتُ عنها، ولكنها الروايةُ عن الله (1) .
103-
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن صالح -يعني ابن مسلم- قال: حدثني رجل، عن الشعبي، قال: ثلاثٌ لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي (2) .
وما أشبه ذلك من الأخبار؟ (3) .
قيل له: أما الخبر الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يفسِّر من القرآن شيئًا إلا آيًا بعَددٍ، فإن ذلك مصحِّح ما قلنا من القول في الباب الماضي قَبْل، وهو: أنّ من تأويل القرآن ما لا يُدرك علمُه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك تفصيل جُمَلِ ما في آيه من أمر الله ونَهْيه (4) وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمَلٌ في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة - لا يدرَك علمُ تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك مما تحويه آيُ القرآن، من سائر حُكْمه الذي جعلَ الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يعلم أحدٌ من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله
(1) الأخبار السالفة جميعًا نقلها ابن كثير عن الطبري في تفسيره 1: 13-14.
(2)
الأثر 103- صالح بن مسلم: هو البكري، وهو ثقة من الطبقة العليا، كما قال يحيى بن سعيد القطان، فيما نقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2\1:413. وترجمه البخاري في الكبير أيضًا 2\2: 291. وهو من الرواة عن الشعبي، ولكنه روى عنه هنا بالواسطة، وستأتي رواية له عن الشعبي رقم 114.
(3)
هذا آخر السؤال الذي بدأ منذ ص: 84.
(4)
في المطبوعة "وذلك يفصل". والإشارة في قوله "وذلك" إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صلى الله عليه وسلم إلا بتعليم الله إيَّاه ذلك بوحْيه إليه، إما مع جبريل، أو مع من شاء من رُسله إليه. فذلك هو الآيُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسِّرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه، وهنَّ لا شك آيٌ ذوات عَددٍ.
ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثرَ بعلم تأويله، فلم يُطلعْ على علمه مَلَكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلا ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فأما ما لا بُدَّ للعباد من علم تأويله، فقد بيّن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل. وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم فقال له جل ذكره:{وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل: 44] .
ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه كان لا
يفسر من القرآن شيئًا إلا آيًا بعَددٍ- هو ما يسبقُ إليه أوهامُ أهل الغياء، من أنه لم يكن يفسّر من القرآن إلا القليل من آيه واليسير من حروفه، كان إنما أُنزلَ إليه صلى الله عليه وسلم الذكرُ ليَترك للناس بيانَ ما أنزل إليهم، لا ليبين لهم ما أُنزل إليهم.
وفي أمر الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ببلاغ ما أنزل إليه، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم، وقيامِ الحجة على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ وأدّى ما أمره الله ببلاغه وأدائِه على ما أمره به، وصحةِ الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله (1) : كان الرجل منا إذا تعلم عشرَ آيات لم يجاوزهُن حتى يعلم معانيهنّ والعملَ بهنّ - (2) ما ينبئ عن جهل من ظنَّ أو توهَّم أنّ معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيًا بعَددٍ، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه.
هذا مع ما في الخبر الذي رُوي عن عائشة من العلَّة التي في إسناده، التي لا يجوز معها الاحتجاجُ به لأحدٍ ممن علم صحيحَ سَند الآثار وفاسدَها في الدين. لأنّ راويه ممن لا يُعْرف في أهل الآثار، وهو: جعفر بن محمد الزبيري.
وأما الأخبار التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من التابعين، بإحجامه عن التأويل، فإنّ فِعلَ من فعل ذلك منهم، كفعل من أحجم منهم عن الفُتيا في النَّوازل والحوادث، مع إقراره بأنّ الله جل ثناؤه لم يقبض نبيه إليه، إلا بعد إكمال الدين به لعباده، وعلمه بأن لله في كل نازلة وحادثة حُكمًا موجودًا بنصٍّ أو دلالة. فلم يكن إحجامُه عن القول في ذلك إحجامَ جاحدٍ أن يكون لله فيه حكم موجود بين أظهُرِ عباده، ولكن إحجامَ خائفٍ أن لا يبلغَ في اجتهاده ما كلَّف الله العلماء من عباده فيه.
فكذلك معنى إحجام مَن أحجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من العلماء السَّلف، إنما كان إحجامه عنه حِذارًا أن لا يبلغ أداءَ ما كلِّف من إصابة صوابِ القول فيه، لا على أن تأويل ذلك محجوبٌ عن علماء الأمة، غير موجود بين أظهرهم.
(1) في المطبوعة "قد بلغ فأدى.." و "لقيله".
(2)
سياق عبارته من أول هذه الفقرة هو: "وفي أمر الله جل ثناؤه.. وفي قيام الحجة..، وفي صحة الخبر.. ما ينبئ.."