المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أوحيت إلى الحواريين"، يقول: قدفت - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١١

[ابن جرير الطبري]

الفصل: قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أوحيت إلى الحواريين"، يقول: قدفت

قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أوحيت إلى الحواريين"، يقول: قدفت في قلوبهم.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم.

* * *

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذْ ألقيتُ إلى الحواريين أنْ صدّقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا:"آمنا"، أي: صدقنا بما أمرتنا أن نؤمنَ يا ربنا ="واشهد" علينا"بأننا مسلمون"، يقول: واشهد علينا بأننا خاضِعُون لك بالذّلة، سامعون مطيعُون لأمرك.

* * *

القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‌

(112) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا عيسى، أيضًا نعمتي عليك، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء - ف"إذ"، الثانية من صلة"أوحيت".

* * *

واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يستطيع ربك"

فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين: (هَلْ تَسْتَطِيعُ) بالتاء (رَبَّكَ) بالنصب، بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو: هل تستطيع أن تدعوَ ربَّك؟

ص: 218

أو: هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكِّين أن الله تعالى ذكره قادرٌ أن ينزل عليهم ذلك، وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟ (1)

12993 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة، ولكن قالوا: يا عيسى هل تَسْتطيع ربَّك؟

12994-

حدثني أحمد بن يوسف التَّغْلِبيّ قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا ابن مهدي، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن حسّان بن مخارق، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها كذلك: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ)، وقال: تستطيع أن تسأل ربَّك. وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون؟ (2)

* * *

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق: (هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ)، بمعنى: أن ينزل علينا ربُّك، كما يقول الرجل لصاحبه:"أتستطيع أن تنهض معنا في كذا"؟ وهو يعلم أنه يستطيع، ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مرادُ قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويُطِيعك أنْ تنزل علينا؟

* * *

(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 325.

(2)

الأثر: 12994 -"أحمد بن يوسف التغلبي"، مضى قريبًا برقم: 12957، وكان في المطبوعة هنا أيضًا:"الثعلبي"، وهو خطأ.

و"جابر بن يزيد بن رفاعة العجلي"، ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/210، وابن أبي حاتم 1/1/498.

"حسان بن مخارق". قال البخاري: "أراه: الشيباني"، مترجم في الكبير 2/1/31، وابن أبي حاتم 1/2/235، وقال المعلق على تاريخ البخاري:"في الثقات رجلان، أحدهما في التابعين: حسان بن مخارق الكوفي، يروي عن أم سلمة. روى عنه أبو إسحق الشيباني = والآخر في أتباع التابعين: حسان بن مخارق الشيباني، وقد قيل: حسان بن أبي المخارق، أبو العوام، يروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ: هل تستطيع ربك. روى عنه جابر بن يزيد، وجعلهما ابن أبي حاتم واحدًا".

وكان في المطبوعة: "حيان بن مخارق" حرف ما هو صواب في المخطوطة.

ص: 219

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب، قراءة من قرأ ذلك:(هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ) برفع"الربّ"، بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟

وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب، لما بيّنّا قبلُ من أن قوله:"إذ قال الحواريون"، من صلة:"إذ أوحيت"، وأنَّ معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريون أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربَّك؟ فبيِّنٌ إذ كان ذلك كذلك، أن الله تعالى ذكره قد كرِه منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قِيلهم ذلك، والإقرارِ لله بالقدرة على كل شيء، وتصديقِ رسوله فيما أخبرهم عن ربِّهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم، عند قيلهم ذلك له، استعظامًا منه لما قالوا:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين". ففي استتابة الله إيّاهم، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك، واستعظام نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم = (1) الدلالةُ الكافيةُ من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع"الرب"، إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى، لو كانوا قالوا له:"هل تستطيع أن تسأل ربَّك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟ أن يُستكبر هذا الاستكبار.

فإن ظنّ ظانّ أنّ قولهم ذلك له إنما استُعظِمَ منهم، (2) لأنّ ذلك منهم كان مسألة آيةٍ، [فقد ظنّ خطأ] . (3) فإن الآيةَ، إنّما يسألها الأنبياء مَنْ كان بها مكذّبًا

(1) السياق: ". . . ففي استتابة الله إياهم. . . الدلالة الكافية. . ."، وما بينهما عطوف.

(2)

في المطبوعة: "إنما هو استعظام منهم"، غير ما في المخطوطة وزاد على نصها، فضرب على الكلام فسادا لا يفهم!! و"استعظم" بالبناء للمجهول.

(3)

هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، لا أشك أن الناسخ قد أسقطها غفلة، فاضطرب سياق الكلام، وسياق حجة أبي جعفر، فاضطر الناشر أن يعبث بكلمات أبي جعفر لكي تستقيم معه، فأفسد الكلام إفسادًا بينًا لا يحل له. وقد رددت الكلام إلى أصله، كما سترى في التعليقات التالية.

ص: 220

ليتقرَّر عنده حقيقةُ ثبوتها وصحَّة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصَّفَا ذهبًا، ويفجر فجَاج مكة أنهارًا، مَنْ سأله من مشركي قومه = وكما كانت مسألة صالح الناقةَ من مكذّبي قومه = ومسألة شُعَيْب أن يسقط كِسْفًا من السماءِ، من كفّار من أرسل إليه. (1)

فإنْ وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، (2) على هذا الوجه كانت مسألتهم، فقد أحلّهم الذين قرءوا ذلك ب"التاء" ونصب"الرب" محلا أعظم من المحلِّ الذي ظنوا أنَّهم يحيدون بهم عنه (3) = أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسلٌ، وأن الله تعالى ذكره على ما سألوا من ذلك قادر.

فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك، وإنما كانت مسألتهم إيَّاه ذلك على نحو ما يسأل أحدُهم نبيَّه، إذا كان فقيرًا، أن يسأل له ربه أن يُغْنيه = وإن عرضتْ له حاجة، (4) أن يسأل له ربه أن يقضيَها، فليسَ ذلك من مسألةَ الآية في شيء، (5) بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه، فسأل نبيَّه مسألةَ ربه أن يقضيها له.

وخبر الله تعالى ذكره عن القوم، ينبئ بخلاف ذلك. وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="نُريد أن نأكل منها وتطمئنَّ

(1) في المطبوعة: "من أرسل إليهم"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.

(2)

في المطبوعة: "وكان الذين سألوا. . ."، حذف"فإن"، وعطف الكلام بعضه على بعض فاضطرب اضطرابًا فاحشًا.

(3)

في المطبوعة: "الذي ظنوا أنهم نزهوا ربهم عنه"، سبحانه وتعالى، ولكن ما فعله الناشر بنص المخطوطة جعل هذا الكلام كله لا معنى له. وكان في المخطوطة:"يحمدوا ربهم"، مضطربة الكتابة، فأساء الناشر قراءتها، وأبلغ في الإساءة حين غير الكلام على الوجه الذي نشره به.

(4)

في المطبوعة والمخطوطة: "إن عرضت به حاجة"، وهو غير عربي، عربيته ما أثبت

(5)

في المطبوعة: "فأنى ذلك من مسألة الآية"، وفي المخطوطة:"فإن ذلك" وصواب ذلك ما أثبت.

ص: 221

قلوبنا ونعلم أنْ قد صدقتنا". فقد أنبأ هذا من قِيلهم، (1) أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدَقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته. فلا بيان أبين من هذا الكلام، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبَهم مرضٌ وشك فى دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سَألوا ما سألوا من ذلك اختبارًا.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

12995 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس: أنه كان يحدِّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجرَ العامل على من عمل له! ففعلوا، ثم قالوا: يا معلِّم الخير، قلت لنا:"إن أجر العامل على من عمل له"، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحدٍ ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نفرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبُنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين"، إلى قوله:"لا أعذبه أحدًا من العالمين". قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السماء عليها سبعةُ أحواتٍ وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.

12996 -

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، قالوا: هل يطيعك ربُّك، إن سألته؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطَّعام إلا اللحم، فأكلوا منها.

* * *

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقد أنبأ هذا عن قيلهم"، وهو خطأ محض، مخل بالسياق.

ص: 222

وأما"المائدة" فإنها"الفاعلة" من:"ماد فلان القوم يَميدهم مَيْدًا"، إذا أطعمهم ومارهم، ومنه قول رؤبة:

نُهْدِي رُؤُوسَ المتْرَفينَ الأنْدَادْ

إلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (1)

يعني بقوله:"الممتاد"، المستعْطَى. ف"المائدة" المطعِمة، سميت"الخوان" بذلك، لأنها تطعم الآكل ممّا عليها. و"المائد"، المُدَار به في البحر، يقال:"مادَ يَمِيدُ مَيْدًا".

* * *

وأما قوله:"قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإنه يعني: قال عيسى للحواريّين القائلين له:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" = راقبوا الله، أيها القوم، وخافوه (2) أن يَنزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به، فاتقوا الله أن يُنزل بكم نقمته ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم مصدقيَّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟

* * *

(1) ديوانه: 40، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 183، واللسان (ميد)، وسيأتي في التفسير 12: 84 (بولاق) ، من رجز تمدح فيه بنفسه، ومدح قومه تميما وسعدًا وخندفًا. ثم قبله في آخرها يذكر قومه: نَكْفِي قُريشًا مَنْ سَعَى بِالإفْسَادْ

مِنْ كُلِّ مَرْهُوبِ الشِّقَاقِ جَحَّادْ

ومُلْحِدٍ خَالَطَ أَمْرَ الإلْحَادْ

وقوله: "نهدي" بالنون، لا بالتاء كما في لسان العرب، وكما كان في المطبوعة هنا. و"المترفون": المتنعمون المتوسعون في لذات الدنيا وشهواتها. و"الأنداد" جمع"ند"(بكسر النون) وهو هنا بمعنى"الضد"، يقال للرجل إذا خالفك، فأردت وجهًا تذهب إليه، ونازعك في ضده:"هو ندى، ونديدي". ويأتي أيضًا بمعنى"المثل والشبيه". ورواية الديوان، ورواية أبي جعفر في المكان الآتي بعد:"الصداد"، جمع"صاد"، وهو المعرض المخالف. يقول: نقتل الخارجين على أمير المؤمنين، ثم نهدي إليه رؤوسهم، وهو المسئول دون الناس.

(2)

في المطبوعة: "وخافوا"، وأثبت ما في المخطوطة.

ص: 223