الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقال منه:"اجتبى فلان لنفسه كذا"، إذا اختاره واصطفاه،"يجتبيه اجتباء". (1)
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-
13516-
حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"واجتبيناهم"، قال: أخلصناهم.
13517-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
="وهديناهم إلى صراط مستقيم"، يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ، وذلك دين الله الذي لا عِوَج فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربُّنا لأنبيائه، وأمر به عباده. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(88) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك هدى الله"، هذا الهدي الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل، فوفقتهم به لإصابة الدين الحقّ الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم، وشرفَ الدنيا، وكرامة الآخرة، هو"هدى
(1) انظر تفسير"اجتبى" فيما سلف 7: 427.
(2)
انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 10: 146، تعليق: 2، والمراجع هناك.
الله"، يقول: هو توفيق الله ولطفه، الذي يوفق به من يشاء، ويلطف به لمن أحب من خلقه، حتى ينيب إلى طاعة الله، وإخلاص العمل له، وإقراره بالتوحيد، ورفضِ الأوثان والأصنام (1) ="ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون"، يقول: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم، بربهم تعالى ذكره، فعبدوا معه غيره ="لحبط عنهم"، يقول: لبطل فذهبَ عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملون، (2) لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملا.
* * *
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله، نوحًا وذريته الذين هداهم لدين الإسلام، واختارهم لرسالته إلى خلقه، هم"الذين آتيناهم الكتاب"، يعني بذلك: صحفَ إبراهيم وموسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين ="والحكم"، يعني: الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه من الأحكام. وروي عن مجاهد في ذلك ما:-
13518 -
حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبان قال، حدثنا مالك بن شداد، عن مجاهد:"والحكم والنبوة"، قال:"الحكم"، هو اللبُّ. (3)
(1) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
(2)
انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317/6: 287/9: 592/10: 409.
(3)
الأثر: 13518 -"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، مضى مرارًا آخرها رقم:7487.
و"أبان" هو: "أبان بن يزيد العطار"، مضى برقم: 3832، 9656.
"مالك بن شداد" هكذا هو في المطبوعة والمخطوطة، ولم أجد له ذكرًا فيما بين يدي في الكتب، ولعله محرف عن شيء لا أعرفه.
وعنى بذلك مجاهد، إن شاء الله، ما قلت، لأن"اللب" هو"العقل"، فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب، وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به.
* * *
وقد بينا معنى"النبوة" و"الحكم"، فيما مضى بشواهدهما، فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن يكفر: يا محمد، بآيات كتابي الذي أنزلته إليك فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم، كالذي:-
13519 -
حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يقول: إن يكفروا بالقرآن.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب"هؤلاء".
فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش = وعنى بقوله:"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، الأنصار.
* ذكر من قال ذلك:
13520 -
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله تعالى ذكره:"فإن يكفر بها هؤلاء"، قال: أهل مكة ="فقد وكلنا بها"، أهل المدينة.
(1) انظر تفسير"النبوة" فيما سلف: 2: 140 - 142/6: 284، 380.
= وتفسير"الحكم" فيما سلف 3: 86 - 88، 211/6:538.
13521 -
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك،"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، قال: الأنصار.
13522-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن يكفر بها هؤلاء"، قال: إن يكفر بها أهل مكة ="فقد وكلنا بها"، أهل المدينة الأنصار="ليسوا بها بكافرين".
13523 -
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يقول: إن تكفر بها قريش ="فقد وكلنا بها"، الأنصار.
13524 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فإن يكفر بها هؤلاء"، أهل مكة ="فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، أهلَ المدينة.
13525 -
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، قال: كان أهل المدينة قد تبوءوا الدار والإيمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنزل الله عليهم الآيات، جحد بها أهل مكة. فقال الله تعالى ذكره:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين". قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس، ولكن سمعته من غيره. (1)
13526-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فإن يكفر بها هؤلاء"، يعني أهل
(1) الأثر: 13525 -"عطية"، هو"عطية بن سعد العوفي"، جد"محمد بن سعد" الأعلى، وهو مفسر في شرح هذا الإسناد رقم:305.
مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن =" فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، يعني أهلَ المدينة والأنصار.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة، فقد وكلنا بها الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
13527 -
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن أبي رجاء:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، قال: هم الملائكة.
13528-
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي وعبد الوهاب، عن عوف، عن أبي رجاء، مثله.
* * *
وقال آخرون: عنى بقوله:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يعني قريشًا= وبقوله:"فقد وكلنا بها قومًا"، الأنبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبلَ هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
13529-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يعني أهل مكة ="فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ.
13530-
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"فإن يكفر بها هؤلاء"، قال: يعني قوم محمد. ثم قال:"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، يعني: النبيين الذين قص قبل هذه الآية قصصهم. ثم قال:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قولُ من قال: عنى بقوله:"فإن يكفر بها هؤلاء"، كفار قريش ="فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، (1) أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم.
* * *
فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: فإن كفر قومك من قريش، يا محمد، بآياتنا، (2) وكذبوا وجحدوا حقيقتها، فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رُسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتها، ولا يكذبون بها، ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى قوله:"فقد وكّلنا بها قومًا"، رزقناها قومًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"أولئك"، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحق، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم جل ثناؤه لذلك ="فبهداهم اقتده"،
(1) في المطبوعة: "ففيما بينها"، وفي المخطوطة""فما بينهم"، والصواب بينهما ما أثبت.
(2)
في المطبوعة: "فإن يكفر قومك من قريش"، وفي المخطوطة:"فإن يكفر بها قومك" والكلام لا يستقيم إلا بحذف"بها" ولكن الجملة لا تستقيم أيضًا في العطوف المتتابعة حتى تكون"فإن كفر قومك"، فعلا ماضيًا كالذي عطف عليه.
يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم ="اقتده"، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه، فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى.
* * *
وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله:"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة. وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك.
* * *
وأما على تأويل من تأول ذلك: أن القوم الذين وكّلوا بها هم أهل المدينة = أو: أنهم هم الملائكة = فإنهم جعلوا قوله:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، اعتراضًا بين الكلامين، ثم ردّوا قوله:" أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، على قوله:"أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة".
* ذكر من قال ذلك:
13531 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ووهبنا له إسحاق ويعقوب" إلى قوله:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، يا محمد.
13532-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أولئك الذين هدى الله"، يا محمد،"فبهداهم اقتده"، ولا تقتد بهؤلاء.
13533 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده".
13534 -
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء
الذين سماهم في هذه الآية:"فبهداهم اقتده".
* * *
ومعنى:"الاقتداء" في كلام العرب، بالرجل: اتباع أثره، والأخذ بهديه. يقال:"فلان يقدو فلانًا"، إذا نحا نحوه، واتبع أثره،"قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل" لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد:"لا أسألكم"، على تذكيري إياكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به، عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم، (2) وما ذلك مني إلا تذكير لكم، ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم = وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد، لتذكروا وتنزجروا. (3)
* * *
(1) في المطبوعة: "كتب مكان"وقدية""وقدوة"، وهو خطأ صرف، خالف ما في المخطوطة وهو الصواب.
(2)
انظر تفسير"الأجر فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) .
(3)
انظر تفسير"ذكرى" فيما سلف ص: 439.
القول في تأويل قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"وما قدروا الله حق قدره"، وما أجلُّوا الله حق إجلاله، ولا عظموه حق تعظيمه ="إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، يقول: حين قالوا: لم ينزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله:"إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، وفي تأويل ذلك.
فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود.
* * *
ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل.
فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف.
* * *
وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص.
* * *
واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك.
* * *
* ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف.
13535 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا، فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال:
(1) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538/10: 152.
والله ما أنزل الله على بشر من شيء! فأنزل الله:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى"، الآية.
13536 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قال: نزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود ="قل" يا محمد"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس"، الآية.
* * *
* ذكر من قال: نزلت في فنحاص اليهوديّ.
13537 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنزل الله على محمد من شيء!
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى.
* ذكر من قال ذلك:
13538 -
حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ، فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، الآية [سورة النساء: 153] . فجثا رجل من يهود فقال: ما أنزل الله عليك
ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنزل الله:"وما قدروا الله حق قدره". = قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله (1) ="إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا"، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته، وجعل يقول:"ولا على أحَدٍ". (2)
13539 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، إلى قوله:"في خوضهم يلعبون"، هم اليهود والنصارى، قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به، (3)
ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به، فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت، فماذا عملت فيما علمت؟
13540 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنزل الله:"قل" يا محمد"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدًى للناس"، إلى قوله:"ولا آباؤكم"، قال: الله أنزله.
* * *
وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء".
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ما علموا كيف الله"، هكذا، وهو تعبير غريب جدًا أكاد أستنكره، وأخشى أن يكون تحريفًا، وهو تفسير للآية، أي:"قدروا الله".
(2)
الأثر: 13538 - هذا الخبر لم يذكر في تفسير الآية من سورة النساء 9: 356 - 358، وهذا من وجوه اختصار أبي جعفر تفسيره.
(3)
في المطبوعة: "فلم يهتدوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
* ذكر من قال ذلك:
13541 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: (قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا)، (1) قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله:"وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، قال: هذه للمسلمين.
13542 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وما قدروا الله حق قدره"، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره.
13543 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما قدروا الله حق قدره"، يقول: مشركو قريش.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله (2)"وما قدروا الله حق قدره"، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود: الإقرار
(1) هذه إحدى القراءتين في الآية بالياء فيها جميعا"يجعلونه"، "يبدونها"، "يخفون"، وهي غير قراءتنا في مصحفنا، وسيذكرها أبو جعفر فيما يلي.
(2)
في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت.
بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، (1) بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند = ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ = وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان = وكان قوله:"وما قدروا الله حق قدره"، موصولا بذلك غير مفصول منه = (2) لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.
ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود، وجدوا قوله:"قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة، فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، (3) فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم، إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله:"وما قدروا الله حق قدره"، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل، فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم.
والأصوب من القراءة في قوله: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) ، أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، ويكون الخطاب بقوله:"قل من أنزل الكتاب"، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ.
13544 -
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا لم يكن بما روى هذا الخبر"، وهو كلام غير مستقيم، صوابه ما أثبت إن شاء الله - أي:"وإذا لم يأت بما روى. . . خبر صحيح".
(2)
السياق: "وإذا لم يأت بما روى. . . خبر صحيح. . .ولا كان. . . وكان الخبر. . . وكان قوله.. . . لم يجز"، كل ذلك عطوف متتابعة، وجواب"وإذ لم يأت" قوله:"لم يجز".
(3)
هذه القراءة الثانية للآية، وهي قراءتنا اليوم في مصحفنا.
حماد، عن أيوب، عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف:(يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) .
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}
(1)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك:"ما أنزل الله على بشر من شيء" = قل:"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا"، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة (2) ="وهدى للناس"، يقول: بيانًا للناس، يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم (3) ="تجعلونه قراطيس تبدونها".
* * *
فمن قرأ ذلك: (تَجْعَلُونَهُ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك.
* * *
ومن قرأه بالياء: (يَجْعَلُونَهُ)، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس، وجرى الكلام في"يبدونها" بذكر"القراطيس"، والمراد منه المكتوب في القراطيس، يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس. (4)
* * *
(1) أثبت الآية على قراءتنا في مصحفنا، وإن كان تفسير أبي جعفر بعد على القراءة الأخرى. فليتنبه قارئ التفسير إلى موضع الخلاف كما حرره أبو جعفر، ص: 524، 525.
(2)
انظر تفسير"النور" فيما سلف 10: 338، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3)
انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
(4)
انظر تفسير"القرطاس" فيما سلف ص365: 366.
ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:-
13545 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا"، اليهود.
13546 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"قل" يا محمد"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها"، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة ="ويخفون كثيرًا"، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه = قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول:"يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا"، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنزله إليكم، (1) ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة ="ولا آباؤكم"، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:-
13547 -
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد:"وعلمتم"، معشرَ العرب"ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم".
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "الكتاب" بغير باء الجر، والصواب إثباتها، فإن مفعول"علمكم"، هو:"ما لم تعلموا".
13548 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله:"وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، قال: هذه للمسلمين.
* * *
وأما قوله:"قل الله"، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله:"قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا"، (1) بقيل الله، (2) كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله:(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، [سورة الأنعام: 63] . (3) فأمره باستفهام المشركين عن ذلك، كما أمره باستفهامهم إذ قالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله:{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام: 64]، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنزله على موسى، كما:-
13549 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس"، قال: الله أنزله. (4)
* * *
ولو قيل: معناه:"قل: هو الله"، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن
(1) هذه القراءة الأخرى التي اختارها أبو جعفر، فتركت تفسيره على حاله، لئلا يختلط الكلام على قارئه.
(2)
قوله"بقيل الله" متعلق بقوله"أن يجيب. . .".
(3)
وتركت هذه الآية أيضًا على قراءة أبي جعفر التي اختارها"لئن أنجيتنا"، كما سلف ص: 414، وأما قراءتنا في مصحفنا:"لئن أنجانا". وانظر ما مضى في ترجيح أبي جعفر أولى القراءتين على الأخرى.
(4)
الأثر: 13549 - هذا مختصر الأثر السالف رقم: 13540.
ذلك = لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله:"قل من أنزل الكتاب" مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله:"قل الله"، جوابًا لهم عن مسألتهم، وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم:"من أنزل الكتاب"؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله = كان جائزًا، (1) من أجل أنه استفهام، ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.
* * *
وأما قوله:"ثم ذرهم في خوضهم يلعبون"، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، (2) بعد احتجاجك عليهم في قيلهم:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، بقولك:"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس"، وإجابتك ذلك بأن الذي أنزله: الله الذي أنزل عليك كتابه ="في خوضهم"، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته (3) ="يلعبون"، يقول: يستهزئون ويسخرون. (4)
* * *
وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي، وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي. (5)
* * *
(1) قوله: "كان جائزًا"، جواب قوله آنفًا"ولو قيل: معناه. . ."، وما بينهما فصل.
(2)
انظر تفسير"ذر" فيما سلف ص: 441، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3)
انظر تفسير"الخوض" فيما سلف 9: 320/11: 436.
(4)
انظر تفسير"اللعب" فيما سلف ص: 441، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5)
في المطبوعة: "وتهديد لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض، ولكن الناشر غيره في جميع المواضع السالفة، فجعله"تهديد"، ولا أدري لم؟
القول في تأويل قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد ="كتاب".
* * *
وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب، فوضع"الكتاب" مكان"المكتوب". (1)
* * *
="أنزلناه"، يقول: أوحيناه إليك ="مبارك"، وهو"مفاعل" من"البركة"(2) ="مصدّق الذي بين يديه"، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه قبلك، لم يخالفها [دلالة ومعنى](3)"نورًا وهدى للناس"، يقول: هو الذي أنزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه، إذ كان قد تقدم [من] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [له] مواصل، (4) فقال:"وهذا كتاب أنزلناه إليك مبارك"، ومعناه: وكذلك أنزلت إليك كتابي هذا مباركًا، كالذي أنزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا.
* * *
وأما قوله:"ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها"، فإنه يقول: أنزلنا إليك، يا محمد،
(1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 1: 97، 99.
(2)
انظر تفسير"مبارك" فيما سلف 7: 25.
(3)
في المطبوعة: "لم يخالفها ولا ينبأ وهو معنى نورًا وهدى"، وهو كلام لا يستقيم.
وفي المخطوطة: "لم يخالفها ولا ينبأ ومعنى نورًا وهدى"، وهو غير منقوط، وهو أيضًا مضطرب، فرجحت ما كتبته بين القوسين استظهارًا لسياق المعنى.
(4)
في المطبوعة: "ما يدل على أنه به متصل"، وفي المخطوطة:"ما يدل على أنه من أصل"، فرجحت ما أثبت، وزدت"من" و"له" بين القوسين، فإن هذا هو حق المعنى إن شاء الله.
هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب، ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة ="ومن حولها"، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد، والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13550 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، يعنى ب"أم القرى"، مكة ="ومن حولها"، من القرى إلى المشرق والمغرب.
13551-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، و"أم القرى"، مكة ="ومن حولها"، الأرض كلها.
13552 -
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"ولتنذر أم القرى"، قال: هي مكة = وبه عن معمر، عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة.
13553-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة = وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض.
13554 -
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، أما"أم القرى" فهي مكة، وإنما سميت"أم القرى"، لأنها أول بيت وضع بها.
* * *
وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة"أم القرى"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب، فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنزله، ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، (2) لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه، وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة، لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا، ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا"، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا ="ممن افترى على الله كذبًا"، يعني: ممن اختلق
(1) انظر تفسير"أم القرى" فيما سلف 1: 108، وانظر أيضًا الأثر رقم:6589.
(2)
انظر تفسير"المحافظة على الصلوات" فيما سلف 5: 167، 168.
على الله كذبًا، (1) فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا، وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب.
* * *
وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم = ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
13555 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، قال: نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به ="ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخي بني عامر بن لؤي، كان كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، (2) وكان فيما يملي"عزيز حكيم"، فيكتب"غفور رحيم"، فيغيره، ثم يقرأ عليه"كذا وكذا"، لما حوَّل، فيقول:"نعم، سواءٌ". فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينزل عليه"عزيز حكيم" فأحوِّله، ثم أقرأ ما كتبت، (3) فيقول:"نعم سواء"! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة، إذ
(1) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 296، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2)
في المطبوعة: "كان يكتب للنبي. . ."، والصواب الجيد ما في المخطوطة.
(3)
في المطبوعة: "ثم أقول لما أكتب"، وفي المخطوطة:"ثم أقول أكتب"، وفوق الكلام حرف (ط) من الناسخ، دلالة على الخطأ، وأنه خطأ قديم في النسخة التي نقل عنها. ورجحت قراءتها كما أثبت، وهو سياق الكلام.
نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرّ. (1)
* * *
وقال بعضهم: بل نزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
13556 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء" إلى قوله:" تجزون عذاب الهون". قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه:"سميعًا عليمًا"، كتب هو:"عليمًا حكيمًا"، وإذا قال:"عليمًا حكيمًا" كتب:"سميعًا عليمًا"، فشكّ وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله! قال محمد:"سميعًا عليمًا" فقلت أنا:"عليمًا حكيمًا"! فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ. (2) فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه، فأنزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}
(1)"مر"، هي"مر الظهران".
(2)
"جدعت أذنه"، قطعت، وكان يقال له"الأجدع"، انظر ابن سعد 3:181.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وجدع أذن عمار"، ذهب إلى تذكير"الأذن"، والصواب تأنيثها، لم يذكروا فيها تذكيرًا فيما أعلم. وهذا خبر غريب وقد روى ابن سعد في الطبقات 3: 181 عن ابن عمر: "رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة، على صخرة قد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين! أمن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر، هلموا إلي! = وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تذبذب، وهو يقاتل أشد القتال".
ثم قال: "قال: شعبة: لم ندر أنها أصيبت باليمامة". فهذا خبر آخر، والمشهور من خبره أنها أصيبت مع النبي صلى الله عليه وسلم. كأن ذلك كان في بعض الغزوات.
[سورة النحل:106]، فالذي أكره: عمار وأصحابه = والذي شرح بالكفر صدرًا، فهو ابن أبي سرح. (1)
* * *
وقال آخرون: بل القائل:"أوحي إلي ولم يوح إليه شيء"، مسيلمة الكذاب.
* ذكر من قال ذلك:
13557 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب، فكبرا عليّ وأهمّاني، (2) فأوحى إليّ: أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة، وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له:"الأسود". (3)
13558 -
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال:"أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، قال: نزلت في مسيلمة.
13559-
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة = وزاد فيه: وأخبرني الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينا أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب، فكبر ذلك عليّ، فأوحي إلي
(1) الأثر: 13556 - كان حق هذا الخبر أن يذكر في تفسير آية"سورة النحل"، لبيان أنها نزلت أيضًا في"عبد الله بن سعد بن أبي سرح"، ولكن أبا جعفر لم يفعل، وذلك دلالة أخرى قاطعة على اختصاره تفسيره.
(2)
في المخطوطة: "فأهمني"، وعلى الكلمة حرف (ط) دلالة على الخطأ، والصواب ما في المطبوعة، موافقًا لرواية البخاري ومسلم.
(3)
الأثر: 13557 - خبر الرؤيا، رواه البخاري (الفتح 8: 69، 70) ، ومسلم في صحيحه: 15: 34.
أن انفخهما، فنفخهما فطارا، فأوّلت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال:"إني قد قلت مثل ما قال محمد"، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك، فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره:"أوحى الله إلي"، وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنزيل، فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم = وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم = وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب = إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون، ولنبوّته جاحدون، ولآيات كتاب الله وتنزيله دافعون، فقال لهم جل ثناؤه:"ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا"، وقال:"أوحي إلي"، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، فينقض قولَه بقوله، ويكذب بالذي تحققه، وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله:"ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، ما:-
(1) الأثر: 13559 - انظر التعليق على رقم: 13557.
13560 -
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، قال: زعم أنه لو شاء قال مثله = يعني الشعر.
* * *
فكأنّ ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوّله، يوجِّه معنى قول قائل:"سأنزل مثل ما أنزل الله"، إلي: سأنزل مثل ما قال الله من الشعر. وكذلك تأوّله السدي. وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد، والقائلين:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، والمفترين على الله كذبًا، الزاعمين أنّ الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء، والقائلين:"سأنزل مثل ما أنزل الله"، (2) فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم، والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، كما قال جل ثناؤه:{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [سورة محمد: 27، 28] . يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم.
(1) لم يذكر"الشعر" في خبر السدي السالف رقم: 13556، ولعل أبا جعفر نسي أن يكتبه، أو لعله أراد أن ذلك مروي في خبر السدي السالف وإن كان لم يذكره هناك.
(2)
هكذا جاء على الجمع في المخطوطة أيضًا"والمفترين. . . الزاعمين. . . والقائلين"، والسياق يقتضي الإفراد، ولكني تركته على حاله، لظهور معناه، وإن كنت أرجح أن الصواب:"والمفتري على الله كذبًا الزاعم أن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء، والقائل: سأنزل مثل ما أنزل الله".
و"الغمرات" جمع"غمرة"، و"غمرة كل شيء"، كثرته ومعظمه، وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، ومنه قول الشاعر:(1)
وَهَلْ يُنْجِي مِنَ الْغَمَرَاتِ إلا
…
بُرَاكَاءُ القِتَالِ أوِ الفِرَارُ (2)
* * *
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما:-
13561 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله:"ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت"، قال: سكرات الموت.
13562 -
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" في غمرات الموت"، يعني سكرات الموت.
* * *
وأما"بسط الملائكة أيديها"، (3) فإنه مدُّها. (4)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك.
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
13563 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(1) هو بشر بن أبي حازم.
(2)
شرح المفضليات: 677، النقائض: 423، الأغاني 13: 137، ديوان الخنساء: 216، واللسان (برك) ، وغيرها. وهذا البيت آخر قصيدة في المفضليات، وروايته:"ولا ينجي". و"البراكاء"(بفتح الباء وضمها) : الثبات في ساحة الحرب، والجد في القتال، وهو من"البروك"، يبرك المقاتل في مكانه، أي: يثبت. وكان في المطبوعة: "تراك للقتال"، وهو خطأ صرف. وفي المخطوطة:"براكا للقتال"، وهو أيضًا خطأ.
(3)
في المطبوعة: "أيديهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(4)
انظر تفسير"بسط الأيدي" فيما سلف 10: 100، 213.
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم"، قال: هذا عند الموت،"والبسط"، الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم.
13564 -
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم"، يقول:"الملائكة باسطو أيديهم"، يضربون وجوههم وأدبارهم = والظالمون في غمرات الموت، وملك الموت يتوفّاهم.
13565 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والملائكة باسطو أيديهم"، يضربونهم.
* * *
وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب.
* ذكر من قال ذلك:
13566 -
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"والملائكة باسطو أيديهم"، قال: بالعذاب.
13567 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح:"والملائكة باسطو أيديهم"، بالعذاب.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى: باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم. (1)
* * *
فإن قال قائل: ما وجه قوله:"أخرجوا أنفسكم"، ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار، وأمروا في
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 345.
حال الموت بإخراج أنفسهم؟ فإن كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم!
قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [إليه] ذهبت (1) وإنما ذلك أمرٌ من الله على ألسن رُسله الذين يقبضون أرواحَ هؤلاء القوم من أجسامهم، بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه، وتسليمها إلى رسله الذين يتوفَّونها.
* * *
القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقولُ رسل الله التي تقبض أرواحَ هؤلاء الكفار لها، (2) يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها:"أخرجوا أنفسكم"، إلى سخط الله ولعنته، فإنكم اليوم تُثابون على كفركم بالله، (3) وقيلكم عليه الباطل، وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوحَ إليكم شيئًا، وإنكاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا، (4) واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله، والانقياد لطاعته ="عذابَ الهون"، وهو عذاب جهنم الذي يُهينُهم فيذلّهم، حتى يعرفوا صَغَار أنفسهم وذِلَّتَها، كما:-
13568 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"عذاب الهون"، فالذي يهينهم.
(1) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.
(2)
قوله: "لها"، أي للكفار.
(3)
انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزي) .
(4)
في المطبوعة والمخطوطة: "وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا"، وهو لا معنى له، وإنما هو تحريف من الناسخ، والصواب ما أثبت.
13569 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"اليوم تجزون عذاب الهون"، قال: عذاب الهون، في الآخرة ="بما كنتم تعملون".
* * *
والعرب إذا أرادت ب"الهون" معنى"الهوان"، ضمت"الهاء"، وإذا أرادت به الرفق والدَّعَة وخفة المؤونة، فتحت"الهاء"، (1) فقالوا: هو"قليل هَوْن المؤونة"، ومنه قول الله:{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا} [سورة الفرقان: 63]، يعني: بالرفق والسكينة والوقار، ومنه قول جندل بن المثنَّى الطُّهويّ:(2)
وَنَقْضَ أَيْامٍ نَقَضْنَ أَسْرَهُ
…
هَوْنًا وَأَلْقَى كُلُّ شَيْخٍ فَخرَهُ (3)
ومنه قول الآخر: (4)
هَوْنَكُمَا لا يَرُدُّ الدَّهْرُ ما فَاتَا
…
لا تَهْلِكَا أَسَفًا فِي إِثْرِ مَنْ مَاتَا (5)
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 200.
(2)
في المطبوعة والمخطوطة: "المثني بن جندل الطهوي" وهو خطأ صرف، وإنما هو"جندل بن المثني الطهوي"، وهو شاعر إسلامي راجز، كان يهاجي الراعي. انظر سمط اللآلى ص: 644، وغيره.
(3)
لم أعثر على الرجز، وإن كنت أذكره. و"الأسر": القوة. وقوله: "ألقى كل شيخ فخره"، كناية عن عجز الشيخ إذا بلغ السن.
(4)
هو ذو جدن الحميري، ويقال هو:"علقمة بن شراحيل بن مرثد الحميري".
(5)
سيرة ابن هشام 1: 39، تاريخ الطبري 2: 107، الأغاني 16: 70، معجم ما استعجم: 1398، ومعجم البلدان (بينون) و (سلحون) واللسان (هون)، وبعد البيت: أبَعْدَ بَيْنُونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أثَرٌ
…
وَبَعْدَ سَلْحُونَ يَبْنِي النَّاس أبْيَاتَا
وَبَعْدَ حِمْيَرَ إذْ شَالَتْ نعَامَتُهُمْ
…
حَتَّهُمُ غَيْبُ هَذَا الدَّهْرِ حتَّاتَا
و"بينون"، و"سلحون"، و"غمدان" من حصون اليمن التي هدمها أرياط الحبشي، في غزوة اليمن، فذكرها ذو جدن، يأسى على ما دخل أهل حمير من الذل والهوان.
يريد: أرْوِدا. (1) وقد حكي فتح"الهاء" في ذلك بمعنى"الهوان"، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَين:(2)
يُهِينُ النفُوسَ، وَهَوْنُ النُّفُو
…
سِ عِنْدَ الكَرِيهَةِ أَغْلَى لَهَا (3)
والمعروف من كلامهم، ضمُّ"الهاء" منه، إذا كان بمعنى الهوان والذل، كما قال ذو الإصبع العدواني:
اذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أُمِّي بِرَاعِيَةٍ
…
تَرْعَى الْمَخَاضَ وَلا أُغْضِي عَلَى الهُونِ (4)
يعني: على الهوان = وإذا كان بمعنى الرفق، ففتْحُها.
* * *
(1) في المطبوعة: "رودا"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. و"الإرواد"، الإمهال والرفق، والتأني، ومنه قيل:"رويدك"، أي: أمهل، وتأن، وترفق.
(2)
هكذا قال أبو جعفر، والمشهور أنه للخنساء، وهو في شعرها، وبعض أبيات قصيدة الخنساء، تروى لعامر بن جوين الطائي، فلعل هذا مما يروى له من شعرها. أو لعله من شعر عامر بن جوين، وروى للخنساء.
(3)
ديوان الخنساء: 215، والأغاني 13: 136، والنقائض: 423، واللسان (هون) . وروايتهم جميعًا"يوم الكريهة أبقى لها". وفي المطبوعة:"أعلى"، والصواب من المخطوطة.
(4)
شرح المفضليات: 323، وما بعدها، والأمالي 1: 256، واللسان (هون) ، وغيرها كثير. وقد جاء أبو جعفر برواية لم تذكر إلا في اللسان، عن ابن بري، وأما رواية الرواة، فهي: عَنِّي إلَيْكَ فَمَا أُمِّي بِرَاعِيَةٍ
…
تَرْعَى المَخَاضَ، وَلا رأيي بمَغْبُونِ
إِنِّي أَبِيٌّ ذُو مُحَافَظَةٍ
…
وَابنُ أَبِيٍّ أَبِيٍّ مِنْ أَبِيِّينِ
لا يُخْرِجُ القَسْرُ مِنِّي غَيْرَ مَا بِيَةٍ
…
وَلا أَلِينُ لِمَنْ لا يَبْتَغِي لِينِي
عَفٌّ نَدُودٌ، إذَا مَا خِفْتُ مِنْ بَلَدٍ
…
هُونًا، فَلَسْتُ بوَقَّافٍ عَلَى الهُونِ
فالشاهد في البيت الأخير
القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد، يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه:"لقد جئتمونا فرادى".
ويعني بقوله:"فرادى"، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، (1) ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا ="كما خلقناكم أوّل مرة"، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم، (2) وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم، لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا.
* * *
و"فرادى"، جمع، يقال لواحدها:"فَرِد"، كما قال نابغة بني ذبيان:
مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشيٍّ أَكَارِعُهُ
…
طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ (3)
(1) في المطبوعة: "ولا أثاث ولا رفيق"، والصواب ما في المخطوطة، يعني نساءهم وخدمهم، وانظر الأثر التالي رقم: 13571، وانظر تفسير البغوي (بهامش ابن كثير 3: 361) قال: "وحدانا لا مال معكم، ولا زوج، ولا ولد، ولا خدم". فهذا صواب القراءة بحمد الله.
(2)
"غلف جمع"أغلف"، وهو الذي لم يختتن. و"الغرل" جمع"أغرل"، وهو أيضًا الذي لم يختتن، وهذا حديث مسلم في صحيحه من حديث عائشة: "يحشر الناس يوم القيامة حفة عراة غرلا" (17: 192، 193) .
(3)
ديوانه: 26، واللسان (فرد) ، وغيرهما كثير. من قصيدته المشهورة التي اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر، يقول قبله في صفة الثور: كأنّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا
…
يَوْمَ الجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأنِسٍ وَحَدِ
و"وجرة"، منزل بين مكة والبصرة، مربة للوحوش والظباء."موشي أكارعه"، في قوائمه نقط سود."طاوي المصير"، ضامر البطن، و"المصير" جمع"مصران". يصف بياض الثور والتماعه. كأنه سيف مصقول جديد الصقل.
و"فَرَدٌ" و"فريد"، كما يقال:"وَحَد" و"وَحِد" و"وحيد" في واحد"الأوحاد". وقد يجمع"الفَرَد""الفُرَاد" كما يجمع"الوَحَد"،"الوُحَاد"، ومنه قول الشاعر:(1)
تَرَى النَّعَرَاتِ الزُّرْقَ فَوْقَ لَبَانِه
…
فُرَادَى وَمَثْنًى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ (2)
وكان يونس الجرْميّ، (3) فيما ذكر عنه، يقول:"فُراد" جمع"فَرْد"، كما قيل:"تُؤْم" و"تُؤَام" للجميع. ومنه:"الفُرَادى"، و"الرُّدَافى" و"القُرَانى". (4) يقال:"رجل فرد" و"امرأة فرد"، إذا لم يكن لها أخٌ."وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا"، يراد به تفرَّد،"فهو فارد".
* * *
13570 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [قال ابن زيد قال]، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله:"ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة"، فقالت: واسوأتاه، إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه"، لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض. (5)
* * *
(1) هو تميم بن أبي بن مقبل.
(2)
مضى البيت وتخريجه وتفسيره 7: 543، بغير هذه الرواية، فراجعه هناك.
(3)
مضى في 10: 120، تعليق: 1، ذكر"يونس [الحرمري] "، وقد أشكل على أمره، كما ذكرت هناك، وصح بهذا أنه"الجرمي"، ولم أجد في قدماء النحاة من يقال له:"يونس الجرمي"، وذكرت هناك أن"يونس بن حبيب"، ضبي لا جرمي، فعسى أن يهديني من يقرأ هذا إلى الصواب فيه، متفضلا مشكورا.
(4)
في المطبوعة: "والغواني"، وفي المخطوطة:"والعواي" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، يقال: جاءوا قرانى" أي مقترنين، قال ذو الرمة: قُرَانَى وَأَشْتَاتًا، وَحَادٍ يَسُوقُهَا
…
إلَى المَاءِ مِنْ جَوْزِ التَّنُوفَةِ مُطْلِقُ
(5)
الأثر: 13570 -"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري"، ثقة مضى برقم: 1387، 5973، 6889، 10330. وأما "ابن أبي هلال"، فهو: "سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة. مضى برقم: 1495، 5465.
وأما "القرظي"، فقد بينه الحاكم في المستدرك في إسناده وأنه:"عثمان بن عبد الرحمن القرظي"، ولكنه مع هذا البيان، لم يزل مجهولا، فإني لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من الكتب. وكان في المطبوعة والمخطوطة:"القرطبي"، وهو خطأ. وهذا الخبر، أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 565، من طريق"عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث"، ليس فيه"قال ابن زيد"، وقال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وعلق عليه الذهبي فقال:"صحيح، فيه انقطاع". والذي في إسناد الطبري"قال ابن زيد قال"، عندي أنه زيادة من الناسخ، لأن عبد الله بن وهب، يروي مباشرة عن"عمرو بن الحارث"، كما يروي عن"عبد الرحمن بن زيد بن أسلم"، ولما كثر إسناد أبي جعفر"حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد"، أسرع قلم الناسخ بإثبات"ابن زيد" مقمحًا في هذا الإسناد، كما دل عليه إسناد الحاكم. وانقطاع هذا الإسناد، كما بينه الذهبي، هو فيما أرجح، أن"عثمان بن عبد الرحمن القرظي" لم يسمع من عائشة.
وأما قوله:" وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم"، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم.
وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم.
* * *
وكل ما ملكته غيرك وأعطيته:"فقد خوّلته"، (1) يقال منه:"خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال" بكسر الخاء ="وهو خائل"، ومنه قول أبي النجم:
أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ
…
كَومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوِّلِ (2)
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وكل من ملكته غيرك. . ."، وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت.
(2)
لامية أبي النجم في كتاب (الطرائف) ، والمراجع هناك، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وهو مطلع رجزه، وقبله: الَحْمُد لِله الوَهُوبِ المُجْزِلُ
وقوله: "كوم الذرى"، أي: عظام الأسمنة، "كوم" جمع"كوماء"، وهي الناقة العظيمة السنام. و"المخول" بكسر الواو، الله الرَّزَّاق ذو القوة المتين. وانظر تعليقي على البيت في طبقات فحول الشعراء: 576، تعليق:4.
وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير:
هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلُوا الْمَالَ يُخوِلُوا
…
وَإن يُسْأَلُوا يُعطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13571 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وتركتم ما خوّلناكم"، من المال والخدم ="وراء ظهوركم"، في الدنيا.
* * *
(1) ديوانه" 112، واللسان (خبل)(خول)، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وغيرها كثير. من قصيدته المشهورة في هرم بن سنان بن أبي حارثة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، يذكر قومهما بالكرم في زمن الجدب، وقبله: إذَا السَّنَةُ الشَّهْبَاءِ بِالنَّاسِ أجْحَفَتْ
…
وَنَالَ كِرَامَ المَالِ فِي السَّنَةِ الأَكْلُ
رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ
…
قَطِينًا لَهُمْ، حَتَّى إذَا أَنْبَتَ البَقْلُ
هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلوا. . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية غير أبي عمرو بن العلاء: "إن يستخبلوا المال يخبلوا"، يقال:"استخبل الرجل ناقة فأخبله"، إذا استعاره ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها فأعاره. و"الاستخوال" مثله. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قال:"ولو أنشدتها لأنشدتها: إن يستخولوا المال يخولوا"، وقال:"الاختبال: المنيحة، ولا أعرف الاستخبال، وأراه: يستخولوا. والاستخوال أن يملكوهم إياه".
وقوله: "ييسروا"، من"الميسر" الذي تقسم فيه الجزر. وقوله:"يغلوا"، أي: يختاروا سمان الجزر للنحر، فهم لا ينحرون إلا غالية.
القول في تأويل قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. (1)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة.
* * *
وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان.
* ذكر من قال ذلك:
13572 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء"، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله.
13573-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث:"سوف تشفع لي اللات والعزَّى"! فنزلت هذه الآية:"ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة"، إلى قوله:"شركاء".
* * *
(1) انظر تفسير"الشفيع" فيما سلف ص: 446، تعليق: 5، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد:"لقد تقطع بينكم"، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا، ذهب ذلك اليوم، فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر، وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة، فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13574 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لقد تقطع بينكم"،"البين"، تواصلهم.
13575-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لقد تقطع بينكم"، قال: تواصلهم في الدنيا.
13576 -
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"لقد تقطع بينكم"، قال: وصلكم.
13577-
وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لقد تقطع بينكم"، قال: ما كان بينكم من الوصل.
13578 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(1) انظر تفسير"البين" فيما سلف 8: 319.
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون"، يعني الأرحام والمنازل.
13579 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد تقطع بينكم"، يقول: تقطع ما بينكم.
13580 -
حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش:"لقد تقطع بينكم"، التواصل في الدنيا. (1)
* * *
واختلفت القرأة في [قراءة] قوله:"بينكم".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) ، رفعًا، بمعنى: لقد تقطع وصلُكم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
وذلك أن العرب قد تنصب"بين" في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها:"أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك"، (2) نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في"بين"، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل:
كَأَنَّ رِماحَهُم أَشْطَانُ بِئْرٍ
…
بَعِيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ (3)
(1) الأثر: 13580 - هذا إسناد منقطع كما أشرت إليه فيما سلف رقم: 1246، 2150 و"أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي"، ثقة معروف، مضى برقم: 1246، 2150، 3000، 5725، 8098.
(2)
في المطبوعة: "إيابي نحوك. . ." وهو خطأ محض، وهي في المخطوطة غير منقوطة، والصواب في معاني القرآن للفراء 1:345.
(3)
أمالي القالي 2: 132، واللسان (بين) ، وغيرهما، من قصيدته المشهورة التي قالها لما أدرك بثأر أخيه كليب وائل. وقبله: فِدًى لِبَنِي الشَّقِيقَةِ يَوْمَ جَاءوا
…
كَأُسْدِ الغَابِ لَجَّتْ فِي زَئِيرِ
و"الأشطان" الحبال الشديدة الفتل، التي يستقي بها، واحدها"شطن". (بفتحتين) و"الجال" و"الجول" (بضم الجيم) : ناحية البئر وجانبها وما يحبس الماء منها. و"جرور" صفة البئر البعيدة القعر، لأن دلوها يجر على شفرها، لبعد قعرها. يصف طول رماحهم، وحركة أيديهم في الضرب بها، ثم نزعها من بدن من أصابته.
برفع"بين"، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا.
* * *
وأما قوله:"وضل عنكم ما كنتم تزعمون"، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم، وأنه لكم شفيع عند ربكم، فلا يشفع لكم اليوم. (1)
* * *
(1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}
قال أبو جعفر: وهذا تنبيهٌ من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجّته عليهم، وتعريفٌ منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة، أيها الناس، دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان، هو الله الذي فَلق الحبَّ = يعني: شق الحبَّ من كل ما ينبت من النبات، فأخرج منه الزرع ="والنوى"، من كل ما يغرس مما له نَواة، فأخرج منه الشجر.
* * *
و"الحبّ" جمع"الحبة"، و"النوى" جمع"النواة".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13581 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله فالق الحب والنوى"، أما"فالق الحب والنوى": ففالق الحب عن السنبلة، وفالق النواة عن النخلة.
13582 -
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"فالق الحب والنوى"، قال: يفلق الحب والنوى عن النبات.
13583-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"فالق الحب والنوى"، قال: الله فالق ذلك، فلقه فأنبت منه ما أنبت. فلق النواة فأخرج منها نَبَات نخلة، وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق.
* * *
وقال آخرون: معنى"فالق"، خالق.
* ذكر من قال ذلك:
13584 -
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن الله فالق الحب والنوى"، قال: خالق الحب والنوى.
13585-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
13586 -
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الله فالق الحب والنوى"، قال: خالق الحب والنوى.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه فلق الشقّ الذي في الحبّة والنواة.
* ذكر من قال ذلك:
13587 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فالق الحب والنوى"، قال: الشقان اللذان فيهما.
13588-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
13589-
حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله:"إن الله فالق الحب والنوى"، قال: الشق الذي يكون في النواة وفي الحنطة.
13590-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فالق الحب والنوى"، قال: الشقان اللذان فيهما.
13591 -
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فالق الحب والنوى"، يقول: خالق الحب والنوى، يعني كلّ حبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، ما قدّمنا القول به. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحي من الميت والميت من الحي، فكان معلومًا بذلك أنه إنَّما عنى بإخباره عن نفسه أنّه فالق الحب عن النبات، والنوى عن الغُرُوس والأشجار، كما هو مخرج الحي من الميت، والميّت من الحي.
* * *
وأما القول الذي حكي عن الضحاك في معنى"فالق"، أنه خالق، فقولٌ = إن لم يكن أراد به أنّه خالق منه النبات والغُروس بفلقه إياه = لا أعرف له وجهًا، لأنه لا يعرف في كلام العرب:"فلق الله الشيء"، بمعنى: خلق.
* * *
القول في تأويل قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحيّ من الحبّ الميت، ومخرج الحبِّ الميت من السنبل الحيّ، والشجرِ الحيّ من النوى الميت، والنوى الميِّت من الشجر الحيّ.
* * *
والشجر ما دام قائمًا على أصوله لم يجفّ، والنبات على ساقه لم ييبَس، فإن العرب تسميه"حَيًّا"، فإذا يبس وجفّ أو قطع من أصله، سمّوه"ميتًا".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13592 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"يخرج الحي من الميت"، فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة، ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية، ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة، ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية.
13593 -
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك:"يخرج الحي من الميت ومخرج المميت من الحي"، قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
* * *
وقال آخرون بما:-
13594-
حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن الله فالق الحبّ والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحيّ"، قال: يخرج
النطفة الميتة من الحي، ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًّا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك، لأنه عَقِيب قوله:"إن الله فالقُ الحب والنوى"، على أن قوله:"يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي"، وإن كان خبرًا من الله عن إخراجه من الحبّ السنبل ومن السنبل الحب، فإنه داخل في عمومه ما رُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك. وكل ميّت أخرجه الله من جسمٍ حَيٍّ، وكل حيّ أخرجه الله من جسمٍ ميتٍ.
* * *
وأما قوله:"ذلكم الله"، فإنه يقول: فاعل ذلك كلِّه اللهُ جل جلاله ="فأنى تؤفكون"، يقول: فأيّ وجوه الصدّ عن الحقّ، أيها الجاهلون، تصدّون عن الصواب وتصرفون، (1) أفلا تتدبرون فتعلمون أنّه لا ينبغي أن يُجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى، فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعًا وحُروثًا وثمارًا تتغذون ببعضه وتفكّهون ببعضه، شريكٌ في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يبصر؟
القول في تأويل قوله: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"فالق الإصباح"، شاقٌّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده. (2)
* * *
و"الإصباح" مصدر من قول القائل:"أصبحنا إصباحًا".
* * *
(1) انظر تفسير"الأفك" فيما سلف 10: 485، 486.
(2)
انظر تفسير"الفلق" فيما سلف قريبًا ص: 550.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
13595 -
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:"فالق الإصباح"، قال: إضاءة الصبح.
13596 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي، نجيح، عن مجاهد:"فالق الإصباح"، قال: إضاءة الفجر.
13597-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
13598 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فالق الإصباح"، قال: فالق الصُّبح.
13599 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فالق الإصباح"، يعني بالإصباح، ضوءَ الشمس بالنهار، وضوءَ القمر بالليل.
13600 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فالق الإصباح"، قال: فالق الصبح.
13601-
حدثنا به ابن حميد مرة بهذا الإسناد، عن مجاهد فقال في قوله:"فالق الإصباح"، قال إضاءة الصبح.
13602 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"فالق الإصباح"، قال: فلق الإصباح عن الليل.
13603 -
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فالق الإصباح"، يقول: خالق النور، نور النهار.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار.
* ذكر من قال ذلك:
13604 -
حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:(فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا)، (1) يقول: خلق الليل والنهار.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنّه كان يقرأ: (فَالِقُ الأصْبَاحِ) ، بفتح الألف، كأنه تأول ذلك بمعنى جمع"صبح"، كأنه أراد صبح كل يوم، فجعله"أصباحًا"، ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز تعدِّيها، بكسر الألف:(2)(فالِقُ الإصْبَاح) ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفضِ خلافه.
* * *
وأما قوله:"وجاعِلُ الليل سكنًا"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض البصريين: (3)(وَجَاعِلُ اللَّيْلِ) بالألف على لفظ الاسم، ورفعه عطفًا على"فالق"، وخفض"الليل" بإضافة"جاعل" إليه، ونصب"الشمس والقمر"، عطفًا على موضع"الليل"، لأن"الليل" وان كان مخفوضًا في اللفظ، فإنه في موضع النصب، لأنه مفعول"جاعل". وحسن عطف ذلك على معنى"الليل" لا على لفظه، لدخول قوله:"سكنًا" بينه وبين"الليل"، قال الشاعر:(4)
قُعُوداً لَدَى الأبْوَابِ طُلابَ حاجَةٍ
…
عَوَانٍ مِنَ الْحَاجَاتِ أَوْ حَاجَةً بِكْرًا (5)
(1) هذه قراءة أهل الحجاز كما سيذكر بعد، وتركتها على قراءتهم في هذا الخبر.
(2)
في المطبوعة: "لا نستجيز غيرها"، يدل ما كان في المخطوطة وهو محض صواب.
(3)
في المطبوعة: "عامة قراء الحجاز"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4)
هو الفرزدق.
(5)
سلف البيت وتخريجه وتفسيره فيما سلف 2: 195، وأزيد هنا مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 201 وروي هناك: "قعود" بالرفع، كما أشرت إليه ثم.
فنصب"الحاجة" الثانية، عطفًا بها على معنى"الحاجة" الأولى، لا على لفظها، لأن معناها النصب، وإن كانت في اللفظ خفضًا. وقد يجيء مثل هذا أيضًا معطوفًا بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه، وإن لم يكن بينهما حائل، كما قال بعضهم:(1)
بَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرْهُ أَتَانَا
…
مُعلِّقَ شِكْوَةٍ وَزِنادَ رَاعِ (2)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ) ، على"فَعَلَ"، بمعنى الفعل الماضي، ونصب"الليل".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، متفقتا المعنى، غير مختلفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في الإعراب والمعنى.
* * *
وأخبر جل ثناؤه أنه جعل الليل سكنًا، لأنه يسكن فيه كل متحرك بالنهار، ويهدأ فيه، فيستقر في مسكنه ومأواه.
* * *
(1) لرجل من قيس عيلان، ونسب أيضا لنصيب
(2)
سيبويه 1: 87، معاني القرآن للفراء 1: 346، الصاحبي: 118، شرح شواهد المغني: 270، والذي هنا رواية الفراء وابن فارس. ورواية سيبويه"بيننا نحن نطلبه"، وفي شرحه"نرقبه"، وروايته أيضًا"معلق وفضة". وكان في المطبوعة هنا:"فبيننا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المطبوعة:"شلوه" وهو خطأ.
"ننظره": نرقبه وننتظره. و"الشكوة": وعاء كالدلو أو القرية الصغيرة، يبرد فيه الماء، ويحبس فيه اللبن. وأما "الوفضة"، فهي خريطة كالجعبة، يحمل فيها الراعي أدلته وزاده.
ولم أجد بقية الشعر.
القول في تأويل قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب.
* ذكر من قال ذلك:
13605 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والشمس والقمر حسبانًا"، يعني: عدد الأيام والشهور والسنين.
13606 -
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والشمس والقمر حسبانًا"، قال: يجريان إلى أجلٍ جُعل لهما.
13607 -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والشمس والقمر حسبانًا"، يقول: بحساب.
13608 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والشمس والقمر حسبانًا"، قال: الشمس والقمر في حساب، فإذا خَلَتْ أيامهما فذاك آخرُ الدهر، وأول الفزع الأكبر ="ذلك تقدير العزيز العليم".
13609-
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والشمس والقمر حسبانًا"، قال: يدوران في حساب.
13610 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"والشمس والقمر حسبانًا"، قال هو مثل قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس: 40]، ومثل قوله:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [سورة الرحمن: 5] .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء.
* ذكر من قال ذلك:
13611-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والشمس والقمر حسبانًا"، أي ضياء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب، تأويل من تأوَّله: وجعل الشمس والقمرَ يجريان بحساب وعددٍ لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما، ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره ذكَر قبلَه أياديه عند خلقه، وعظم سلطانه، بفلقه الإصباح لهم، وإخراج النبات والغِراس من الحب والنوى، وعقّب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البر والبحر. فكان وصفه إجراءه الشمس والقمرَ لمنافعهم، أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما، لأنه قد وصف ذلك قبلُ بقوله:"فالق الإصباح"، فلا معنى لتكريره مرة أخرى في آية واحدة لغير معنى.
* * *
و"الحسبان" في كلام العرب جمع"حِساب"، كما"الشُّهبان" جمع شهاب. (1) وقد قيل إن"الحسبان"، في هذا الموضع مصدر من قول القائل:"حَسَبْتُ الحساب أحسُبُه حِسابًا وحُسْبانًا". وحكي عن العرب:"على الله حُسْبان فلان وحِسْبته"، أي: حسابه.
* * *
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 201.
وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء، ذهب إلى شيء يروى عن ابن عباس في قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة الكهف: 40] . قال: نارًا، فوجه تأويل قوله:"والشمس والقمر حسبانًا"، إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شيء.
* * *
وأما"الحِسبان" بكسر"الحاء"، فإنه جمع"الحِسبانة"، (1) وهي الوسادة الصغيرة، وليست من الأوَّليين أيضًا في شيء. يقال:"حَسَّبته"، أجلستُه عليها.
* * *
ونصب قوله:"حسبانًا" بقوله:"وجعل".
* * *
وكان بعض البصريين يقول: معناه:"والشمس والقمرَ حسبانًا"، أي: بحساب، فحذف"الباء"، كما حذفها من قوله: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ " [سورة الأنعام: 117]، أي: أعلم بمن يضل عن سبيله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله، وهو فلقه الإصباح، وجعله الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا، تقدير الذي عزّ سلطانه، فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام، من الامتناع منه ="العليم"، بمصالح خلقه وتدبيرهم = لا تقديرُ الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله، ولا تضر ولا تنفع، وإن أريدت بسوء لم تقدر على
(1) هكذا قال أبو جعفر"بكسر الحاء" والذي أطبقت عليه كتب اللغة أنه بضم الحاء، ولم يشيروا إلى كسر الحاء في هذه.
(2)
قائل هذا هو الأخفش، كما هو بين في لسان العرب (حسب) .