المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١١

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ

القول في تأويل قوله: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‌

(113) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، في قولكم لي"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" =: إنا إنما قلنا ذلك، وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة، فنعلم يقينًا قدرته على كل شيء ="وتطمئن قلوبنا"، يقول: وتسكن قلوبنا، وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد، (1)"ونعلم أن قد صدقتنا"، ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث ="ونكون عليها"، يقول: ونكون على المائدة ="من الشاهدين"، يقول: ممن يشهد أن الله أنزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقكَ في نبوّتك. (2)

* * *

(1) انظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف 5: 492/9: 165.

(2)

انظر تفسير"الشاهد" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) .

ص: 224

القول في تأويل قوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ‌

(114) }

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، أنه أجاب القوم إلى ما سألوا من مسألة ربه مائدةً تنزل عليهم من السماء.

ص: 224

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا". فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليومَ الذي نزلت فيه عيدًا نُعَظِّمه نحن ومن بعدَنا.

* ذكر من قال ذلك:

12997 -

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا"، يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظِّمه نحن ومن بعدنا.

12998 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا"، قال: أرادوا أن تكون لعَقِبهم من بعدهم.

12999 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا"، قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ ="وآخرنا"، من بعدهم منهم.

13000-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، قال سفيان:"تكون لنا عيدًا"، قالوا: نصلي فيه. نزلت مرتين.

* * *

وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعًا.

* ذكر من قال ذلك:

13001 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس أنه قال: أكل منها = يعني: من المائدة = حين وضعت بين أيديهم، آخر الناس، كما أكل منها أولهم.

* * *

وقال آخرون: معنى قوله"عيدًا"، عائدة من الله تعالى ذكره علينا، وحجة وبرهانًا.

* * *

ص: 225

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال:"معناه: تكون لنا عيدًا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه، ونصلي له فيه، كما يعبد الناس في أعيادهم"، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في"العيد"، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال:"معناه: عائدة من الله علينا". وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به، أولى من توجيهه إلى المجهول منه، ما وجد إليه السبيل.

* * *

وأما قوله:"لأولنا وآخرنا"، فإن الأولى من تأويله بالصواب، قولُ من قال:"تأويله: للأحياء منا اليوم، ومن يجيء بعدنا منا"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"تكون لنا عيدًا"، لأن ذلك هو الأغلب من معناه.

* * *

وأما قوله:"وآية منك"، فإن معناه: وعلامةً وحجة منك يا رب، على عبادك في وحدانيتك، وفي صدقي على أنّي رسولٌ إليهم بما أرسلتني به (1) ="وارزقنا وأنت خير الرازقين"، وأعطنا من عطائك، فإنك يا رب خير من يعطي، وأجود من تفضَّل، لأنه لا يدخل عطاءه منٌّ ولا نكَد. (2)

* * *

وقد اختلف أهل التأويل في"المائدة"، هل أنزلت عليهم، أم لا؟ وما كانت؟

فقال بعضهم: نزلت، وكانت حوتًا وطعامًا، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداثٍ منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى ذكره.

ذكر من قال ذلك:

13002 -

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا

(1) انظر تفسير"آية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .

(2)

وانظر تفسير"الرزق" فيما سلف من فهارس اللغة (رزق) .

ص: 226

شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلت المائدة، خبزًا وسمكًا.

13003 -

حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية قال:"المائدة"، سمكة فيها طعم كلِّ طعام.

13004-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل، عن مسروق، عن عطية قال:"المائدة"، سمك فيه من طعم كل طعام.

13005-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن قال: نزلت المائدة خبزًا وسمكًا.

13006 -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خِوانٌ عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا.

13007 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان، أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا"، قال: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات = قال الحسن، قال أبو بكر:(1) فحدَّثت به عبد الصمد بن معقل فقال: سمعت وهبًا، وقيل له: وما كان ذلك يُغْني عنهم؟ فقال: لا شيء، ولكن الله حَثَا بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكلوا جميعهم وأفضَلُوا.

13008 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال: هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا.

13009 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا

(1)"أبو بكر" هو"عبد الرزاق"، وهو:"عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري".

ص: 227

عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"مائدة من السماء"، قال: مائدة عليها طعام، أُتوا بها؛ حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. ألوان من طعام ينزل عليهم. (1)

13010 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال:"لعلها لا تنزل غدًا! "، فرفعت.

13011 -

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عَمار بن ياسر، فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال فقلت: لا! قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد. قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإنّي أعذبكم عذابًا لا أعذّبه أحدا من العالمين! قال: فما تمّ يومهم حتى خبئوا ورَفعوا وخانوا، فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم معشر العرب، كنتم تتْبعون أذنابَ الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهارون على العرَب، ونهاكم أن تكنزوا الذهبَ والفضة. وايمْ الله. لا يذهبُ الليلُ والنهارُ حتى تكنزوهما، ويعذِّبكم عذابًا أليمًا.

13012 -

حدثنا الحسن بن قزعة البصري قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر

(1) في المطبوعة، غير هذه العبارة تغيرًا شاملا مزيلا لمعناها، فكتب: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم"، وأثبت ما في المخطوطة.

أما المعنى الذي صحح الناشر الأول عليه هذا الأثر، فهو مخالف لهذا كل المخالفة، لأنه من قول من قال:"لم تنزل على بني إسرائيل مائدة"، وهو قول مروي عن مجاهد فيما سيأتي رقم:13021.

ص: 228

قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت المائدة خبزًا ولحمًا، وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادّخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير. (1)

13013-

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في المائدة قال: كانت طعامًا ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا.

* * *

* ذكر من قال ذلك:

13014-

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمرٌ من ثمر الجنة، فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا، قال: فخان القوم وخبئوا وادَّخروا، فحوّلهم الله قردة وخنازير. (2)

13015 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمرُ من ثمار الجنة، وأمروا أن لا

(1) الأثر: 13012 -"الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي البصري"، ثقة. مضى برقم:8281.

و"سفيان بن حبيب البصري"، ثقة، مضى برقم: 11302، 11321.

و"خلاس بن عمرو الهجري"، مضى مرارًا، منها: 4557، 5134، وغيرهما.

وكان في المطبوعة: "جلاس بن عمرو"، وهو خطأ.

وهذا الخبر، رواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، بإسناده عن الحسن بن قزعة، ثم قال:"هذا حديث رواه أبو عاصم وغير واحد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار، موقوفًا. ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة = حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا سفيان بن حبيب، عن سعيد بن أبي عروبة، نحوه، ولم يرفعه. وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا".

وانظر الأثر التالي رقم: 13014، وهو الخبر الموقوف.

(2)

الأثر: 13014 - انظر التعليق على رقم: 13012، وكان في المطبوعة هنا أيضًا"جلاس بن عمرو" وهو خطأ.

ص: 229

يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، (1) وكانوا إذا فعلوا شيئًا من ذلك، أنبأهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبئوا وادّخروا لغدٍ.

* * *

وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم.

* ذكر من قال ذلك:

13016 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال: كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل، اختلفت عليها الأيدي بكل طعام.

13017 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان قالا كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام.

13018-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن زاذان وميسرة، في:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء"، قالا رأوا الأيدي تختلف عليها بكل شيء إلا اللحم. (2)

* * *

وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة.

* * *

ثم اختلف قائلو هذه المقالة.

فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لخلقه، نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات.

* ذكر من قال ذلك:

13019 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك،

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أبلاهم الله به"، وهو لا يصح، صواب قراءته ما أثبت.

(2)

الأثران: 13017، 13018 -"زاذان الكندي الضرير"، مضى برقم:9508.

ص: 230

عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء"، قال: مثل ضُرب، لم ينزل عليهم شيء.

* * *

وقال آخرون: إنّ القوم لما قيل لهم:"فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذِّبه عذابًا لا أعذِّبه أحدًا من العالمين"، استعفَوْا منها فلم تنزل.

* ذكر من قال ذلك:

13020 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم:"فمن يكفر بعد منكم"، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.

13021-

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن: أنه قال في المائدة: لم تنزل. (1)

13022 -

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تَنزل عليهم.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه.

وإنما قلنا ذلك، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه.

وبعدُ، فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف، وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك:"إني منزلها عليكم"، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره:

(1) الأثر: 13021 -"منصور بن زاذان الثقفي الواسطي"، أبو المغيرة. ثقة، روى عن أبي العالية، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين. مترجم في التهذيب.

ص: 231