المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١١

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ

القول في تأويل قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‌

(69) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن اتقى الله فخافه، فأطاعه فيما أمره به، واجتنب ما نهاه عنه، فليس عليه بترك الإعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله، شيء من تبعة فيما بينه وبين الله، إذا لم يكن تركه الإعراضَ عنهم رضًا بما هم فيه، وكان لله بحقوقه متقيًا، (1) ولا عليه من إثمهم بذلك حرج، ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ ذكرى لأمر الله ="لعلهم يتقون"، يقول: ليتقوا.

* * *

ومعنى"الذكرى"، الذكرُ. و"الذكر" و"الذكرى" بمعنًى.

* * *

وقد يجوز أن يكون"ذكرى" في موضع نصب ورفع:

فأما النصب، فعلى ما وصفت من تأويل: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى.

وأما الرفع، فعلى تأويل: وما على الذين يتقون من حسابهم شيء بترك الإعراض، ولكن إعراضهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون. (2)

* * *

وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله، لأن قيامه عنهم كان مما يكرهونه، فقال الله له: إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم، ليتقوا الخوضَ فيها ويتركوا ذلك.

(1) هكذا في المخطوطة أيضا"بحقوقه متقيًا"، وأرجح أن تكون:"بخوفه متقيًا"، ولم أغيرها لأن الأخرى تكاد تكون جائزة.

(2)

انظر معاني القرآن للفراء 1: 339.

ص: 439

* ذكر من قال ذلك:

13396 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا، فنزلت:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، الآية، قال: فجعل إذا استهزءوا قام، فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم! فذلك قوله:"لعلهم يتقون"، أن يخوضوا فيقوم، ونزل:" وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، إن قعدوا معهم، ولكن لا تقعدوا. ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، [سورة النساء: 140] ، فنسخ قولَه:"وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، الآية.

13397 -

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، يقول: من حساب الكفار من شيء ="ولكن ذكرى"، يقول: إذا ذكرت فقم ="لعلهم يتقون" مساءتكم، إذا رأوكم لا تجالسونهم استحيوا منكم، فكفوا عنكم. ثم نسخها الله بعد، فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدًا، قال: وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا، الآية.

13398 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، إن قعدوا، ولكن لا تقعد.

13399-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

ص: 440

13400 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى"، قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذرْ هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبًا ولهوًا، (1) فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، (2) واللهوَ والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم، فأعرض عنهم، فإني لهم بالمرصاد، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعادَ إلى الله تعالى ذكره والمصيرَ إليه بعد الممات، كالذي:-

13401 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:{وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا} ، قال: كقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} ، [سورة المدثر: 11] .

13402-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

* * *

(1) انظر تفسير"ذر" فيما سلف 6: 22/7: 424.

(2)

انظر تفسير"اللعب" فيما سلف 10: 429، 432.

ص: 441

وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، [سورة التوبة:5] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

13403-

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة:"وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا"، ثم أنزل في"سورة براءة"، فأمر بقتالهم.

13404-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال: قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة:"وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا"، ثم أنزل الله تعالى ذكره"براءة"، وأمر بقتالهم فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، [سورة التوبة: 5] .

* * *

وأما قوله:"وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت"، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه (1) =" أن تبسل نفس"، بمعنى: أن لا تبسل، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا (2) = وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق، (3) فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار= ولكن حذفت"لا"، لدلالة الكلام عليها.

* * *

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أن تبسل نفس".

فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.

(1) انظر تفسير"التذكير" فيما سلف 6: 63، 64، 66، 211/10: 130/11: 357

(2)

انظر ما سلف 9: 445، 446.

(3)

في المطبوعة: "وذكر به"، وأثبت ما في المخطوطة.

ص: 442

* ذكر من قال ذلك:

13405 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة قوله:"أن تبسل نفس بما كسبت"، قال: تُسلم.

13406 -

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن:"أن تبسل نفس"، قال: أن تُسلم.

13407-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن، مثله.

13408 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"أن تبسل"، قال: تسلم.

13409-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أن تبسل نفس"، قال: تسلم.

13410-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا، أسلموا.

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس.

* ذكر من قال ذلك:

13411-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"أن تبسل نفس"، قال: تؤخذ فتحبس.

13412-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

13413 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في

ص: 443

قوله:"أن تبسل نفس بما كسبت"، أن تؤخذ نفس بما كسبت.

* * *

وقال آخرون: معناه: تُفضَح.

* ذكر من قال ذلك:

13414 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت"، يقول: تفضح.

* * *

وقال آخرون: معناه: أن تجزَى.

* ذكر من قال ذلك:

13415 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد قال، قال الكلبي:"أن تبسل"، أن تجزَى.

* * *

وأصل"الإبسال" التحريم، يقال منه:"أبسلت المكان"، إذا حرّمته فلم يقرب، (1) ومنه قوله الشاعر:(2)

بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى،

بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلامَتِي وَعِتَابِي (3)

(1) في المطبوعة: "فلم تقر به"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

هو ضمرة بن ضمرة النهثلي.

(3)

نوادر أبي زيد: 2، الأمالي 2: 279، الشعر والشعراء: 250، الوحشيات رقم: 424، الأزمنة والأمكنة 1: 160، اللسان (بسل) وغيرها، وبعد هذا البيت من أبيات حسان: قالها لامرأته إذ عاتبته على حلب إبله ونحرها لضيفه وأهله، وتحبب إليه الشح، وتنهاه عن بذل المال، في القحط والجدب: أَأَصُرُّهَا، وَبُنَيُّ عَمِّي سَاغِبٌ

فَكَفَاكِ من إبَةٍ عَلَيَّ وَعَابِ!

وَلَقَدْ عَلِمْتُ، فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ

أَنْ سَوْفَ يَخلِجُني سَبيلُ صِحَابِي

أرَأيتِ إنْ صَرَخَتْ بِلَيْلٍ هَامَتي

وَخَرَجْتُ مِنْهَا عَارِيًا أثْوَابِي

هَلْ تَخْمِشَنْ إبِلِي عَلَيَّ وُجُوهَهَا

أمْ تَعْصِبَنَّ رُؤُوسَهَا بِسِلَابِ!!

"بكرت"، عجلت في أول السحر."بعد وهن"، أي بعد قومة من جوف الليل. أرقها ما يبذل لبني عمه من ماله، فلم تتأن به مطلع النهار حتى أخذت تلومه في وجه الصبح. ثم أخذ يذكرها بالمروءة فيقول:"أأصرها"، يعني النوق، يشد عليها الصرار (وهو خيط يشد فوق الخلف) ، لئلا تحلب، أو يرضعها ولدها، يقول: لا أفعل ذلك، وبني عمي جياع حتى، أرويهم؛ و"السغب" الجوع، فإن ذلك لؤم. و"الإبة" الخزي يستحي منه، و"العاب"، العيب. يقول: كفاك بهذا الفعل لؤمًا يخزي فاعله. ثم احتج عليها بما يجد بنو عمه وضيفانه من اللوعة عليه إذا مات، وأن الإبل لا تفعل ذلك. فقال لها: إن الموت سبيل كل حي، وأني سلك سبيل أصحابي الذين ذهبوا وخلفوني، فإن هذه السبيل تخجلني (أي: تجذبني وتنتزعني) كما خلجتهم من قبل. وقوله: "صرخت بليل هامتي"، وهو من عقائد الجاهلية، أبطله الله بالإسلام، يزعمون أن روح القتيل تصير طائرًا كالبومة يزقو عند قبره، يقول: اسقوني، اسقوني! وقوله:"عاريًا أثوابي" أي: عاريًا من أثوابي التي كنت أستمتع بلباسها في الدنيا. ويروى: "باليًا أثوابي"، ويعني عندئذ: أكفانه التي تبلى في التراب. وقول"هل تخمش إبلي"، أي: هل تلطم الإبل على وجوهها فيخمشها اللطم ويؤثر فيها ويجرحها، كما يفعل بنو عمي وبنات عمي إذا مت. و"السلاب": عصائب للرأس سود، يلبسنها عند الحداد. يقول: هذا حزن بنات عمي علي، فهل تفعل الإبل فعلهن حتى آسى على نحرها وإهلاكها في إطعامهم وإروائهم في زمان الجدب وهم جياع؟

ص: 444

أي: حرام [عليك ملامتي وعتابي] . ومنه قولهم:"أسد باسل"، (1) ويراد به: لا يقربه شيء، فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال:"أعط الراقي بُسْلَتَه"، (2) يراد بذلك: أجرته،"وشراب بَسِيل"، بمعنى متروك. وكذلك"المبسَلُ بالجريرة"، وهو المرتهن بها، قيل له:"مُبْسَل"، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي:

وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ

بَعَوْنَاهُ وَلا بِدَمٍ مُرَاقِ (3)

(1) كانت هذه العبارة في المطبوعة والمخطوطة: "أي حرام. ومنه قولهم: وعتابي أسد آسد"، وهو خطأ صرف. استظهرت صوابه من سياق الشرح، ومن معاني القرآن للفراء 1: 339، وزدت ما بين القوسين استظهارًا أيضًا.

(2)

في المطبوعة: "بسيلته"، وهو خطأ صرف، صوابه في المخطوطة، لم يحسن قراءتها. وانظر معاني القرآن للفراء 1:339.

(3)

نوادر أبي زيد: 151، مجاز القرآن 1: 194، المعاني الكبير: 1114، واللسان (بسل)(بعا)، يقول: فَلَوْلا أَنَّنِي رَحُبَتْ ذِرَاعِي

بِإعْطَاءِ المَفَارِقِ والحِقَاقِ

وَإنْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ

بَعَوْنَاهً، وَلا بِدَمٍ مُرَاقِ

لَقِيتُمْ مِنْ تَدَرُّئِكُمْ عَلَيْنَا

وَقَتْلِ سَرَاتِنَا ذَاتَ العَرَاقِي

"المفارق" جمع"ناقة مفرق"، فارقها ولدها. و"الحقاق" جمع"حقة"(بكسر الحاء) ، وهي الناقة إذا استكملت السنة الثالثة، ودخلت في الرابعة. يقول: طابت نفسي ببذل ذلك من المال، لكن أحقن الدماء، وأبقي على الوشائج. و"بعا الذنب يبعوه بعوا": اجترمه واكتسبه. يقول لهم: وأسلمت إليكم بني في الفداء، ولم نجرم جريمة، ولم نرق دمًا، فنحمل الحمالة في الذي اجترحناه. و"تدرأ على فلان" أي: تطاول وتهجم. و"السراة" أشراف القوم. و"ذات العراقي"، أي: ذات الدواهي المنكرة، يقول: لولا ما فعلت إبقاء، لفعلنا بكم الأفاعيل.

ص: 445

وقال الشنفرى: (1)

هُنَالِكَ لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي

سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلا بِالْجَرَائِرِ (2)

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين، كيلا تُبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله (3) ="ليس لها من دون الله"، يقول: ليس لها، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها، أحدٌ ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها (4) ="ولا شفيع"، يشفع لها، لوسيلة له عنده. (5)

* * *

(1) وتروى لتأبط شرا.

(2)

ديوانه (الطرائف) : 36، وفيه المراجع، ومجاز القرآن 1: 195، اللسان (بسل) . وقبله، وهي أبيات مشهورة: لا تَقْبُرُونِي، إنَّ قَبْرِي مُحَرَّمٌ

عَلَيْكُمْ، وَلِكنْ أبْشِرِي أمَّ عامِرِ

إذَا احْتَمَلُوا رَأْسِي، وَفِي الرّأسِ أكْثَرِي،

وَغُودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِري

و"سمير الليالي": أبد الليالي، ويروى"سجيس الليالي"، وهو مثله.

(3)

انظر تفسير"كسب" فيما سلف ص: 261، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(4)

انظر تفسير"من دون" فيما سلف 11: 486، وفهارس اللغة (دون) .

(5)

انظر تفسير"شفيع" فيما سلف ص: 373: تعليق 4، والمراجع هناك.

ص: 446

القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت، يعني:"وإن تعدل كل عدل"، يعني: كل فداء.

* * *

يقال منه:"عَدَل يعدِل"، إذا فدى،"عَدْلا"، ومنه قول الله تعالى ذكره: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، [سورة المائدة: 95] ، وهو ما عادله من غير نوعه. (1)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

13416 -

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها.

13417 -

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قُبل منها.

13418-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، قال:"وإن تعدل"، وإن تفتد، يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها ="لا يؤخذ منه"، عدلا عن نفسه، لا يقبل منه.

* * *

وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تُقسط كل قسط لا يقبل منها. وقال: إنها التوبة في الحياة. (2)

(1) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 2: 34، 35، 574/11: 43، 44.

(2)

هو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 195.

ص: 447

وليس لما قال من ذلك معنى، وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى ذكره يقبل توبته.

* * *

القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم، هم"الذين أبسلوا بما كسبوا"، يقول: أسلموا لعذاب الله، فرهنوا به جزاءً بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار، (1) ="لهم شرابٌ من حميم".

* * *

و"الحميم" هو الحارّ، في كلام العرب، وإنما هو"محموم" صرف إلى"فعيل"، ومنه قيل للحمّام،"حمام" لإسخانه الجسم، ومنه قول مرقش:

فِي كُلِّ مُمْسًى لَهَا مِقْطَرَةٌ

فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ (2)

يعني بذلك ماء حارًّا، ومنه قول أبي ذويب الهذلي في صفة فرس:

(1) انظر تفسير"أبسل" فيما سلف قريبًا = وتفسير"كسب" ص: 446، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(2)

المفضليات: 505، واللسان (قطر)(حمم)، وسيأتي في التفسير 11: 61 (بولاق) . من قصيدته في ابنة عجلان، جارية صاحبته فاطمة بنت المنذر، وكان لابنه عجلان قصر بكاظمة، وكان لها حرس يجرون الثياب كل ليلة حول قصرها، فلا يطؤه إلا بنت عجلان. وكانت تأخذ كل عشية رجلا من أهل المال يبيت عندها، فبات عندها المرقش ليلة، وقال ذاك الشعر، فوصفها بالنعمة والترف. و"المقطرة": المجمرة، يكون فيها القطر (بضم فسكون)، وهو العود الذي يتبخر به. و"الكباء": ضرب من العود. يصف ما هي فيه من الترف، بين تبخر بالعود الطيب، وتنزه بالاستحمام بالماء الساخن، من شدة عنايتها ببدنها.

ص: 448

تَأبَى بِدِرَّتِهَا إذَا مَا اسْتُضْغِبَتْ

إلا الْحَمِيمَ فَإنّهُ يَتَبَضَّعُ (1)

يعني بالحميم: عرق الفرس.

* * *

وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابًا من حميم، لأن الحارّ من الماء لا يروي من عطش. فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم، ولكن بما يزيدون به عطشًا على ما بهم من العطش ="وعذاب أليم"، يقول: ولهم أيضًا مع الشراب الحميم من الله العذابُ الأليم والهوان المقيم ="بما كانوا يكفرون"، يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله، وإنكارهم توحيده، وعبادتهم معه آلهة دونه.

* * *

13419 -

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا"، قال يقال: أسلموا.

13420 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" أولئك الذين أبسلوا"، قال: فُضحوا.

13421 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا"، قال: أخذوا بما كسبوا.

* * *

(1) ديوانه 17؛ المفضليات 879، اللسان (حمم)(بصع)(بضع) ، وغيرها. وهذا من الأبيات التي أخذت على أبي ذؤيب، وأنه لا علم له بالخيل. وقد اختلف في روايته. روي: وإذا ما استغضبت" و"إذ اما استكرهت"، ورواية الطبري مذكورة في اللسان في (بضع) وروي أيضًا"يتصبع" بالصاد. أي يسيل قليلا قليلا. و"تبضع العرق" بالضاد، سال سيلا منقطعًا. وانظر شرح هذا البيت في المراجع، فإنه يطول ذكره هنا. وأما رواية: "استضغبت"، وهي التي هنا، فقد فسرت بأنه: فزعت، لأن"الضاغب"، هو الذي يختبئ في الخمر ليفزع بمثل صوت الأسد. و"الضغاب" و"الضغيب" صوت الأرنب والذئب إذا تضور.

ص: 449

القول في تأويل قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا}

قال أبو جعفر: وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت، إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر؟ فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره، أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره!

* * *

="ونرد على أعقابنا"، يقول: ونرد إلى أدبارنا، فنرجع القهقري خلفنا، لم نظفر بحاجتنا.

* * *

وقد بينا معنى:"الرد على العقب"، وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها:"رد على عقبيه"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)

* * *

وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر ="بعد إذ هدانا الله، فوفقنا له، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان، يهوي في الأرض حيران.

* * *

وقوله:"استهوته"،"استفعلته"، من قول القائل:"هوى فلان إلى كذا يهوي

(1) انظر تفسير"الرد على الأعقاب" فيما سلف 3: 163، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1:196.

ص: 450

إليه"، ومن قول الله تعالى ذكره: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، [سورة إبراهيم: 37] ، بمعنى: تنزع إليهم وتريدهم.

* * *

وأما"حيران"، فإنه"فعلان" من قول القائل:"قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة"، (1) وذلك إذ ضل فلم يهتد للمحجَّة.

="له أصحاب يدعونه إلى الهدى"، يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه، يقولون له: ائتنا.

* * *

وترك إجراء"حيران"، لأنه"فعلان"، وكل اسم كان على"فعلان" مما أنثاه"فعلى" فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة.

* * *

قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشياطين، من أهل الشرك بالله = وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحق، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون، وهو له مفارق وعنه زائل، يقولون له:"ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى"! وهو يأبى ذلك، ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان.

* * *

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل، وخالف في ذلك جماعة.

* ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا:

(1)"حيرورة"، مصدر مثل"صيرورة"، ولم تذكره كتب اللغة، فهذا مما يستفاد من أبي جعفر، ويزاد على كتب اللغة.

ص: 451

13422 -

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا"، قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد = صلى الله عليه وسلم. فقال الله تعالى ذكره:"قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا"، هذه الآلهة ="ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله"، فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضلّ الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم، يقولون:"ائتنا، فإنا على الطريق"، فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام.

13423 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا"، قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعونَ إلى الله، كمثل رجل ضل عن الطريق تائهًا ضالا (1) إذ ناداه مناد:"يا فلان بن فلان، هلمّ إلى الطريق"، وله أصحاب يدعونه:"يا فلان، هلم إلى الطريق"! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله:" كالذي استهوته الشياطين في الأرض"، وهم"الغيلان" يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده، فيتبعها، فيرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في الهلكة، وربما أكلته

(1) قوله"تائهًا ضالا"، ساقطة من المطبوعة، ثابتة في المخطوطة.

ص: 452

= أو تلقيه في مضلّة من الأرض يهلك فيها عطشًا. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تُعبد من دون الله عز وجل.

13424 -

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"استهوته الشياطين في الأرض"، قال: أضلته في الأرض حيران.

13425 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ما لا ينفعنا ولا يضرنا"، قال: الأوثان.

13426 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"استهوته الشياطين في الأرض حيران"، قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، فذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي. (1)

13427-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، حدثنا رجل، عن مجاهد قال،"حيران"، هذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: الكافر حيران، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب.

13428 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا"، حتى بلغ"لنسلم لرب العالمين"، علمها الله محمدًا وأصحابه، يخاصمون بها أهلَ الضلالة.

* * *

وقال آخرون في تأويل ذلك، بما:-

13429 -

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي

(1) في المطبوعة: "كذلك مثل"، وفي المخطوطة:"لذلك مثل. . ."، والصواب ما أثبت.

ص: 453

قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى"، فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاعَ الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحار عن الحقّ وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه هدًى. يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس: إن الهدى هدى الله، والضلالة ما تدعو إليه الجنّ.

* * *

فكأنّ ابن عباس = على هذه الرواية = يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنّ ذلك هدى، وأنّ الله أكذبهم بقوله:"قل إنّ هدى الله هو الهدى"، لا ما يدعوه إليه أصحابه.

وهذا تأويل له وجه، لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيرانَ إليه أصحابه"هدى"، وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه: أنهم هم الذين سموه، ولكن الله سماه"هدى"، وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله"الضلال" هدى، لأن ذلك كذب، وغير جائز وصف الله بالكذب، لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب، لو كان ذلك خبرًا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له:"تعال إلى الهدى"، فأما وهو قائل:"يدعونه إلى الهدى"، فغير جائز أن يكون ذلك، وهم كانوا يدعونه إلى الضلال.

* * *

وأما قوله:"ائتنا"، فإن معناه: يقولون: ائتنا، هلم إلينا = فحذف"القول"، لدلالة الكلام عليه.

* * *

وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: (يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا) .

13430 -

حدثنا بذلك ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن شعبة، عن

ص: 454

أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله: (يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا) .

13431 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: في قراءة ابن مسعود: (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا)، قال:"الهدى" الطريق، أنه بين.

* * *

وإذا قرئ ذلك كذلك، كان"البين" من صفة"الهدى"، ويكون نصب"البين" على القطع من"الهدى"، (1) كأنه قيل: يدعونه إلى الهدى البين، ثم نصب"البين" لما حذفت"الألف واللام"، وصار نكرة من صفة المعرفة.

* * *

وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال:"الهدى" في هذا الموضع، هو الهدى على الحقيقة.

* * *

القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، القائلين لأصحابك:"اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإنا على هدى" =: ليس الأمر كما زعمتم ="إن هدى الله هو الهدى"، يقول: إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه، وسبيلنا الذي أمرنا بلزومه، ودينه الذي شرعه لنا فبينه، هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها، لا عبادة الأوثان والأصنام

(1) انظر تفسير"القطع" فيما سلف من فهارس المصطلحات، وهذا بيان صريح أن"القطع" هو النكرة إذا صار صفة لمعرفة.

ص: 455