المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله: "لقضي الأمر بيني وبينكم" من ذلك في شيء، وإنما - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١١

[ابن جرير الطبري]

الفصل: قوله: "لقضي الأمر بيني وبينكم" من ذلك في شيء، وإنما

قوله: "لقضي الأمر بيني وبينكم" من ذلك في شيء، وإنما هذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصلَ القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي، لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك، ولكنه بيد من هو أعلم بما يُصلح خلقه، منّي ومن جميع خلقه.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}

قال أبو جعفر: يقول: وعند الله مفاتح الغيب. (1)

و"المفاتح": جمع"مِفْتَح"، يقال فيه:"مِفْتح" و"مِفْتَاح". فمن قال:"مِفْتَح"، جمعه"مفاتح"، ومن قال:"مفتاح"، جمعه"مفاتيح".

* * *

ويعني بقوله:"وعنده مفاتح الغيب"، خزائن الغيب، كالذي:-

13305-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعنده مفاتح الغيب"، قال، يقول: خزائن الغيب.

13306-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن ابن مسعود قال: أعطي نبيُّكم كل شيءٍ إلا مفاتح الغيب. (2)

(1) في المطبوعة: "يقول: وعنده مفاتح الغيب"، والصواب ما في المخطوطة.

(2)

الأثر: 13306 -"عبد الله بن سلمة المرادي"، تابعي ثقة، من فقهاء الكوفة بعد الصحابة. مضى برقم:12398.

وهذا خبر الإسناد، رواه أحمد في مسنده: 36‌

‌59

، انظر شرح أخي السيد أحمد لهذا الخبر هناك.

ص: 401

13307 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"وعنده مفاتح الغيب"، قال: هن خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ إلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان: 34] .

* * *

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم بالظالمين من خلقه، وما هم مستحقُّوه وما هو بهم صانع، فإنّ عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه، ولن يعلموه ولن يدركوه (1) ="ويعلم ما في البر والبحر"، يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضًا عنكم، لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين، يعلمه العباد. فكأن معنى الكلام: وعند الله علم ما غابَ عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثرَ بعلمه نفسَه، ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعُكم، لا يخفى عليه شيء، لأنه لا شيءَ إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد، وذلك هو الغيب. (2)

* * *

(1) في المطبوعة: "ولم يعلموه، ولن يدركوه"، وفي المخطوطة:"ولم يعلموه ولا يدركوه"، والصواب الدال عليه السياق، هو ما أثبته.

(2)

انظر تفسير"الغيب" فيما سلف ص: 371 تعليق: 1، والمراجع هناك.

ص: 402

القول في تأويل قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقةٌ في الصحاري والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها ="ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين"، يقول: ولا شيء أيضًا مما هو موجود، أو ممّا سيوجد ولم يوجد بعد، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، مكتوبٌ ذلك فيه، ومرسوم عددُه ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحالُ التي يفنى فيها.

ويعني بقوله:"مبين"، أنه يبين عن صحة ما هو فيه، بوجود ما رُسم فيه على ما رُسم. (1)

* * *

فإن قال قائل: وما وجهُ إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين، ما لا يخفى عليه، وهو بجميعه عالم لا يُخَاف نسيانَه؟

قيل له: لله تعالى ذكره فعل ما شاء. وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانًا منه لحفَظَته، واختبارًا للمتوكلين بكتابة أعمالهم، فإنهم فيما ذُكر مأمورون بكتابة أعمال العباد، ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ، حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم. وقيل إن ذلك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، [سورة الجاثية: 29] . وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك، مما هو أعلم به، إمّا بحجة يحتج بها على بعض ملائكته، وأما على بني آدم وغير ذلك، وقد:-

(1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .

ص: 403

13308 -

حدثني زياد بن يحيى الحسّاني أبو الخطاب قال، حدثنا مالك بن سعير قال، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرِز إبرة، إلا عليها ملك موكّل بها يأتي الله بعلمها:(1) يبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رَطبت. (2)

* * *

(1) في المطبوعة: "يأتي الله يعلمه يبسها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، وهذا عبث من الناشر.

(2)

الأثر: 13308 -"زياد بن يحيى بن زياد بن حسان الحساني النكري"، أبو الخطاب، ثقة، روى له الستة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/549.

هذا، وقد جاء في المخطوطة وتفسير ابن كثير"زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن الذي يروي عن"مالك بن سعير" هو"زياد بن يحيى الحساني، أبو الخطاب"، فضلا عن أنه ليس في الرواة من يسمى"زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب". و"مالك بن سعير بن الخمس التميمي"، قال أبو زرعة وأبو حاتم:"صدوق"، وضعفه أبو داود، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو مترجم في التهذيب، والبخاري في الكبير 4/1/315، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4/1/209.

و"يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي" هو مولى"عبد الله بن الحارث"، مضى مرارًا، آخرها رقم:12740.

و"عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم"، هو"ببة"، ثقة، مضى برقم:12740.

وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره من طريق ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري، عن مالك بن سعير، بمثله.

وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 15، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وأبي الشيخ.

ص: 404

القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وقل لهم، يا محمد، والله أعلم بالظالمين، والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم ="ويعلم ما جرحتم بالنهار"، يقول: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار.

ص: 404

ومعنى"التوفي"، في كلام العرب استيفاء العدد، (1) كما قال الشاعر:(2)

إِنَّ بَنِي الأدْرَم لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ

وَلا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي العَدَدْ (3)

بمعنى: لم تدخلهم قريش في العدد.

* * *

وأما"الاجتراح" عند العرب، فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه، وهي"الجوارح" عندهم، جوارح البدن فيما ذكر عنهم. ثم يقال لكل مكتسب عملا"جارح"، لاستعمال العرب ذلك في هذه"الجوارح"، ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكل مكتسب كسبًا، بأيّ أعضاء جسمه اكتسب:"مجترِح". (4)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

13309 -

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"، أما"يتوفاكم بالليل" ففي النوم = وأما"يعلم ما جرحتم بالنهار"، فيقول: ما اكتسبتم من الإثم.

13310 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"، يعني: ما اكتسبتم من الإثم.

(1) انظر تفسير: التوفي" فيما سلف 6: 455، 456/8: 73/9: 100/11: 239

(2)

هو منظور الوبري.

(3)

اللسان (وفي)، وسيأتي في التفسير 21: 61 (بولاق)، وكان في المطبوعة هنا:"إن بني الأدم"، وفي اللسان"إن بني الأدرد"، وهما خطأ، صوابه ما جاء في التفسير بعد.

و"بنو الأدرم" هو بنو"تيم بن غالب بن فهر بن مالك"، وهم من قريش الظواهر، لا قريش الأباطح. وهذا الراجز يهجوهم بأن قريشًا أهل الأباطح، لا يجعلون بني الأدرم (وهم من قريش الظواهر) تمامًا لعددهم، ولا يستوفون بهم عددهم إذا عدوا.

(4)

انظر تفسير"الجوارح" و"الاجتراح" فيما سلف 9: 543، 544.

ص: 405

13311 -

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"ما جرحتم بالنهار"، قال: ما عملتم بالنهار.

13312-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

13313 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وهو الذي يتوفاكم بالليل"، يعني بذلك نومهم ="ويعلم ما جرحتم بالنهار"، أي: ما عملتم من ذنب فهو يعلمه، لا يخفى عليه شيء من ذلك.

13314 -

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"، قال: أمّا وفاته إياهم بالليل، فمنامهم = وأما"ما جرحتم بالنهار"، فيقول: ما اكتسبتم بالنهار.

* * *

قال أبو جعفر: وهذا الكلام وإن كان خبرًا من الله تعالى عن قدرته وعلمه، فإنّ فيه احتجاجًا على المشركين به، الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم. فقال تعالى ذكره محتجًا عليهم:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى"، يقول: فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار، لتبلغوا أجلا مسمى، وأنتم ترون ذلك وتعلمون صحّته، غير منكرٍ له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم، ثم ردِّها إلى أجسادكم، وإنشائكم بعد مماتكم، فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون، وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك، القدرةُ على ما لم تعاينوه. وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك، شبيه ما رأيتم وعاينتم.

* * *

ص: 406

القول في تأويل قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) }

(1)

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ثم يبعثكم"، يثيركم ويوقظكم من منامكم (2) ="فيه" يعني في النهار، و"الهاء" التي في"فيه" راجعة على"النهار"(3) ="ليقضي أجلٌ مسمى"، يقول: ليقضي الله الأجل الذي سماه لحياتكم، وذلك الموت، فيبلغ مدته ونهايته (4) ="ثم إليه مرجعكم"، يقول: ثم إلى الله معادكم ومصيركم (5) ="ثم ينبئكم بما كنتم تعملون"، يقول: ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا، (6) ثم يجازيكم بذلك، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

13315 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ثم يبعثكم فيه"، قال: في النهار.

13316 -

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:" ثم يبعثكم فيه"، في النهار، و"البعث"، اليقظة.

13317-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.

(1) أسقط في المطبوعة والمخطوطة: "ثم يبعثكم فيه"، وهو نص التلاوة.

(2)

انظر تفسير"البعث" فيما سلف 2: 84، 85/5: 457/10: 229.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "والهاء التي فيه راجعة"، بإسقاط"في"، والصواب إثباتها.

(4)

انظر تفسير"أجل مسمى" فيما سلف 6: 43/11: 259.

(5)

انظر تفسير"المرجع" فيما سلف 6: 464/10: 391/11: 154.

(6)

انظر تفسير"النبأ" فيما سلف ص: 335 تعليق: 2، والمراجع هناك.

ص: 407