المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تدعون من دونه، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١١

[ابن جرير الطبري]

الفصل: تدعون من دونه، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من

تدعون من دونه، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك، ولا أوافقكم عليه، ولا أعطيكم محبّتكم وهواكم فيه. وإن فعلت ذلك، فقد تركت محجَّة الحق، وسلكت على غير الهدى، فصرت ضالا مثلكم على غير استقامة. (1)

* * *

وللعرب في"ضللت" لغتان: فتح"اللام" وكسرها، واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها، وبها قرأ عامة قرأة الأمصار، وبها نقرأ لشهرتها في العرب. وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها، والقراأة بها قليلون. فمن قال"ضَلَلتُ" قال:"أَضِلُّ"، ومن قال"ضَلِلتُ" قال في المستقبل"أَضَلُّ". وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن:(وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلنَا) بفتح اللام [سورة السجدة: 10] .

* * *

القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‌

(57) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين لك إلى الإشراك بربك =" إني على بيّنة من ربي"، أي إني على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي ="من ربي"، يقول: من توحيدي، (2) وما أنا عليه من إخلاص عُبُودته (3) من غير إشراك شيء به.

* * *

وكذلك تقول العرب:"فلان على بينة من هذا الأمر"، إذا كان على بيان

(1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .

(2)

في المطبوعة: "توحيده"، وأثبت ما في المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: "عبوديته"، وأثبت ما في المخطوطة.

ص: 397

منه، (1) ومن ذلك قول الشاعر:(2)

أَبَيِّنَةً تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ

وقَوْلِ سُوَيْدٍ قَدْ كَفَيْتُكُمُ بِشْرَا (3)

* * *

"وكذبتم به" يقول: وكذبتم أنتم بربكم = و"الهاء" في قوله"به" من ذكر الرب جلّ وعز =" ما عندي ما تستعجلون به"، يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي، ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوحيده، فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [سورة الأنبياء: 3] . وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام. وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون = فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك، وإنما أنت رسول، وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به، وأنّ الله يقضي الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحقُّ منكم والمبطل (4) ="وهو خير الفاصلين"، أي: وهو خير من بيّن وميّز بين المحق والمبطل وأعدلهم، لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حَيْف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة، ولا في قضائه جور، لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور، فهو أعدل الحكام وخيرُ الفاصلين.

وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: (وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ) .

13302 -

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أنه قال: في قراءة عبد الله:

(1) انظر تفسير"البينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .

(2)

لم أعرف قائله.

(3)

مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 193.

(4)

انظر تفسير"الفصل" فيما سلف 5: 338.

ص: 398

(يَقْضِي الْحَقَّ وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ) .

* * *

واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يقصُّ الحق". (1)

فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة أهل الكوفة والبصرة:" إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ"، بالصاد، بمعنى"القصص"، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى ذكره: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [سورة يوسف: 3] . وذكر ذلك عن ابن عباس.

13303 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال،"يقص الحق"، وقال: نحن نقص عليك أحسن القصص.

* * *

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة والبصرة: (إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقْضِي الْحَقَّ) بالضاد، من"القضاء"، بمعنى الحكم والفصل بالقَضَاء، (2) واعتبروا صحة ذلك بقوله:"وهو خير الفاصلين"، وأن"الفصل" بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقَصَص.

* * *

وهذه القراءة عندنا أولى القراءَتين بالصواب، لما ذكرنا لأهلِها من العلّة.

* * *

فمعنى الكلام إذًا: ما الحكم فيما تستعجلون به، أيها المشركون، من عذاب الله وفيما بيني وبينكم، إلا الله الذي لا يجور في حكمه، وبيده الخلق والأمر، يقضي الحق بيني وبينكم، وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه.

* * *

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يقضي الحق"، وهو سهو هنا، والصواب ما أثبته.

(2)

انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543، وسائر فهارس اللغة.

ص: 399