المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ طهارة البدن والثوب والمكان للصلاة - الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب - جـ ١

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌1 - كتاب الطهارة

- ‌1 - المياه:

- ‌طهورية ماء البحر

- ‌طهورية الماء المستعمل

- ‌2 - أسآر البهائم:

- ‌3 - تطهير النجاسات:

- ‌4 - الأواني

- ‌5 - التخلي

- ‌القول عند الدخول والخروج

- ‌6 - المناهي:

- ‌7 - الوضوء

- ‌فرضيته:

- ‌وجوب النية

- ‌جواز المعاونة على الوضوء

- ‌الوضوء لمن أراد النوم:

- ‌الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود:

- ‌الوضوء عند كل حدث

- ‌الوضوء قبل الغسل

- ‌الوضوء على من حمل الميت

- ‌8 - المسح على الخفين

- ‌9 - المسح على الجوربين

- ‌10 - نواقض الوضوء

- ‌1، 2 - البول، الغائط:

- ‌3 - المذي:

- ‌4 - النوم:

- ‌5 - أكل لحم الإبل

- ‌6 - لمس العضو بشهوة

- ‌11 - المتطهر يشك في الحدث

- ‌12 - ما يستحب الوضوء لأجله

- ‌13 - موجبات الغسل

- ‌1 - خروج المني بشهوة:

- ‌2 - خروجه في الاحتلام

- ‌3 - مس الختان الختان:

- ‌4 - الحيض

- ‌5 - النفاس

- ‌14 - الأغسال الواجبة

- ‌1 - الغسل على الكافر الذي أسلم

- ‌2 - غسل الجمعة على كل محتلم

- ‌3 - غسل ميت المسلمين

- ‌15 - الأغسال المستحبة

- ‌1 - الغسل من غسل الميت

- ‌2 - الغسل من مواراة المشرك

- ‌(3) الغسل للإحرام

- ‌(4) لدخول مكة

- ‌(5) عقب الجماع:

- ‌(6) عقب الإغماء

- ‌16 - صفة الغسل

- ‌17 - قدر الماء في الغسل والوضوء

- ‌18 - آداب الاغتسال ودخول الحمام

- ‌19 - التيمم

- ‌20 - صفة التيمم

- ‌21 - الحيض

- ‌22 - النفاس

- ‌2 - كتاب الصلاة

- ‌1 - هي أحد الأركان الخمسة:

- ‌2 - وفرضت أولا خمسين ثم جعلت خمسا:

- ‌3 - ويجوز لولاة الأمر أن يقبلوا إسلام الكافر ولولم يرض بإقامة كل الصلوات الخمس:

- ‌4 - وفرضت أولا ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم زيدت في الحضر إلا الصبح وتركت على ما هي عليه في السفر قالت عائشة:

- ‌5 - وتاركها يخشى عليه الكفر

- ‌6 - وتاركها يقتل:

- ‌7 - ولا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ:

- ‌8 - ولكن يجب على ولي الأمر أن يأمره بالصلاة إذا بلغ السبع سنين وأن يضربه إذا بلغ العاشرة:

- ‌9 - ولا قضاء على المجنون سواء قل زمن الجنون أو كثر

- ‌10 - وكذا المغمى عليه لا قضاء عليه

- ‌11 - وكذا الكافر إذا أسلم لا قضاء عليه:

- ‌12 - وأما النائم فيقضي ما فاته من الصلوات في حالة نومه:

- ‌1 - الظهر

- ‌2 - العصر

- ‌3 - المغرب

- ‌4 - العشاء

- ‌5 - الفجر

- ‌ الأذان

- ‌الإقامة

- ‌ وجوب ستر العورة وحدها

- ‌ طهارة البدن والثوب والمكان للصلاة

- ‌أفضل المساجد وأعظمها حرمة أربعة:

- ‌أ - المسجد الحرام

الفصل: ‌ طهارة البدن والثوب والمكان للصلاة

والحديث يدل على وجوب ستر قدمي المرأة وهو مذهب الشافعي وغيره

واعلم أنه لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة لعدم وجود دليل الفرق نعم جاءت بعض الأحاديث في الفرق لكنها ضعيفة الأسانيد لا تقوم بها حجة وقد بين ضعفها الحافظ ابن حجر في (التلخيص) فليراجعها من شاء. وما أحسن ما قال ابن حزم رحمه الله:

(وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله تعالى واحد والخلقة والطبيعة واحدة فكل ذلك في الحرائر والإماء سواء حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء فيوقف عنده) ثم قال:

(وما اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرة كتحريم الأمة وأن الحد على الزاني بالحرة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق وأن تعرض الحرة في التحريم كتعرض الأمة ولا فرق ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام

9 -

‌ طهارة البدن والثوب والمكان للصلاة

(1 - ويجب تطهير البدن من كل نجس لقوله صلى الله عليه وسلم: (عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا من البول) وقوله: (فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي)

الحديث الأول حسن كما قال النووي في (المجموع) وهو من حديث ابن عباس عند الدارقطني وقال:

ص: 324

(لا بأس به)

وله طريقان ذكرناهما في (التعليق الرغيب)

والحديث الثاني صحيح متفق عليه وقد مضى

وفي الباب أحاديث الاستنجاء

وقد يقال: إن الحديث الأول خاص بالبول والثاني بدماء النساء. ولا يخفى أن قياس النجاسات الأخرى عليهما قياس صحيح بجامع اشتراكها في علة النجاسة فيجب التنزه من كل نجاسة وغسلها إذا أصابت البدن. وقد قال الخطابي:

(إن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينه وبينها إجماعا) كما نقله في (الفتح)

(2 - ولذلك يجب تطهير الثياب من كل نجاسة لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر / 4])

أي: اغسلها بالماء. قال ابن زيد:

(كان المشركون لا يتطهرون فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه)

وفي الآية أقوال أخرى أوردها ابن كثير وغيره والقول المذكور هو الأظهر وهو الذي رجحه النووي في (المجموع) تبعا للبيهقي واختاره ابن جرير وكذا ابن حزم في (المحلى) وقال:

ص: 325

(ومن ادعى أن المراد بذلك القلب فقد خص الآية بدعواه بلا برهان والأصل في اللغة التي بها نزل القرآن: أن الثياب هي الملبوسة والمتوطأة ولا ينقل عن ذلك إلى القلب والعرض إلا بدليل)

وذهب ابن كثير إلى أن الآية قد تشمل الأقوال التي ذكرها وفيها هذا القول الذي رده ابن حزم أي طهارة القلب قال:

(فإن العرب تطلق الثياب عليه)

وابن حزم لم ينكر هذا وإنما أنكر تخصيص الآية بالقلب

وقد ذهب إلى ما ذهب إليه ابن كثير وابن القيم ولعلهما أخذاه من شيخهما ابن تيمية رحمه الله. فقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) - بعد أن ساق الأقوال المشار إليها -:

(قلت: الآية تعم هذا كله - وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم إن لم تتناول ذلك لفظا فإن المأمور به إن كان طهارة القلب فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك ولذلك حرم لبس جلود النمور والسباع بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في عدة أحاديث صحاح لا معارض لها لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات فإن الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور لما يكتسب القلب من الهيئة التي تكون لمن ذلك لبسه من النساء وأهل الفخر والخيلاء. والمقصود أن طهارة

ص: 326

الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها والمقصود لنفسه أولى أن يكون مأمورا به وإن كان مأمورا به طهارة القلب وتزكية النفس فلا يتم إلا بذلك فتبين دلالة القرآن على هذا وهذا)

(وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم تصلي فيه)

هو من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت:

سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . الحديث

أخرجه مالك وعنه البخاري ومسلم وأبو داود عن هاشم بن عروة عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير عنها

وأخرجه البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه والدارمي وابن ماجه والبيهقي والطيالسي وأحمد والطيالسي عن هشام ومحمد بن إسحاق عن فاطمة به نحوه

وله شاهد من حديث أم قيس بنت محصن أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب؟ قال:

ص: 327

(حديه بضلع واغسليه بماء وسدر)

أخرجه أبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجه والبيهقي وأحمد عن سفيان قال: ثني ثابت الحداد عن عدي بن دينار عنها

وهذا سند حسن رجاله ثقات غير ثابت وهو ابن هرمز صدوق يهم كما في (التقريب)

والحديث يدل على وجوب تطهير الثياب من النجاسات وهو وإن كان واردا في الدم فسائر النجاسات بمثابته لا فرق بينها في القياس كما قال الخطابي في (المعالم) وفي الباب الأمر بغسل الثوب من بول الجارية وقد مضى في أول الكتاب

(وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ قال: (نعم إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله)

هو من حديث جابر بن سمرة قال: سأل. . . إلخ

أخرجه أحمد وابن ماجه عن عبيد الله بن عمر وعن عبد الملك بن عمير عنه. قال في (الزوائد):

(هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات)

قلت: ورجاله رجال الشيخين

وفي الباب عن معاوية أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: هل

ص: 328

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم إذا لم يكن فيه أذى

أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وأحمد عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن حديج عنه

وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات وصححه ابن خزيمة وابن حبان كما في (الفتح)

ورواه محمد بن أبي سفيان عن أخته أم حبيبة بلفظ: قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعلي وعليه ثوب واحد فيه كان ما كان)

أخرجه أحمد من طريق معاوية بن صالح قال: ثنا ضمرة بن حبيب عنه

ورجاله ثقات غير محمد بن أبي سفيان فقال الحافظ في (التقريب):

(مقبول وقيل: الصواب: عنبسة بن أبي سفيان)

قلت: وجزم بذلك الخزرجي في (الخلاصة) فإذا صح ذلك فالإسناد صحيح لأن عنبسة بن أبي سفيان ثقة من رجال مسلم

وعن عائشة قالت:

كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد وأنا طامث حائض فإن أصابه مني شيء غسل مكانه ولم يعده وصلى فيه ثم يعود فإن أصابه مني

ص: 329

شيء فعل مثل ذلك ولم يعده وصلى فيه)

أخرجه أبو داود والنسائي والدارمي عن يحيى بن سعيد القطان: ثني جابر بن صبح قال: سمعت خلاس بن عمرو قال: سمعت عائشة به

وهذا سند صحيح متصل بالسماع رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير جابر بن صبح - بضم المهملة وسكون الموحدة - وثقه ابن معين وفي (التقريب) أنه صدوق

ورواه أحمد من طريق أخرى مختصرا بلفظ:

(كان يصلي في الثوب الذي يجامع فيه)

رواه من طريق برد بن سنان عن سليمان بن موسى عنها ورجاله ثقات لكنه منقطع بين سليمان وعائشة وبين وفاتيهما ستون سنة فأكثر

وفي هذه الأحاديث والأحاديث المتقدمة في المسألة الأولى دلالة وجوب تطهير البدن والثياب من النجاسة وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الشافعية إلى أن إزالتها شرط لصحة الصلاة قال النووي في (المجموع):

(وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف وعن مالك في إزالة النجاسة ثلاث روايات:

أصحها وأشهرها أنه إن صلى عالما بها لم تصح صلاته وإن كان جاهلا أو

ص: 330

ناسيا صحت وهو قول قديم عن الشافعي

والثانية: لا تصح الصلاة علم أو جهل أو نسي

والثالثة: تصح الصلاة مع النجاسة وإن كان عالما متعمدا وإزالتها سنة ونقل أصحابنا عن ابن عباس وسعيد بن جبير نحوه)

ثم احتج النووي لما ذهب إليه الجمهور بالآية السابقة الذكر وبالأوامر الواردة في الأحاديث المتقدمة ولا يخفى أن غاية ما تفيده هذه الأوامر هو الوجوب والوجوب لا يستلزم الشرطية لأن كون الشيء شرطا حكم شرعي وضعي لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط أو ينفي الفعل بدونه (1) نفيا متوجها إلى الصحة لا إلى الكمال أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به كما قال الشوكاني رحمه الله. فالحق أن إزالة النجاسة ليست شرطا لصحة الصلاة وهو قول الشافعي في القديم وإنما هي واجبة لهذه الأوامر يأثم مخالفها فمن صلى وعلى بدنه أو ثوبه نجاسة كان تاركا لواجب وأما إن صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة فلا لما عرفت. ويدل لذلك حديث أبي سعيد الآتي

(1) ثم لاحظ بعض الإخوان أن حديث ابن سمرة يوجد فيه نفي الفعل أي ترك الصلاة إذا رأى شيئا وحينئذ يلزم إثبات شرطية طهارة الثوب. وهذا أمر ظاهر لأول وهلة فليتأمل ثم ليحرر

ص: 331

(3 - ومن علم وهو يصلي بأنه يحمل نجسا فعليه أن يزيله ويستمر في صلاته ويبني على ما كان قد صلى قبل الإزالة وصلاته صحيحة فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ذات يوم فلما كان في بعض صلاته خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى الناس ذلك خلعوا نعالهم فلما قضى صلاته قال: (ما بالكم ألقيتم نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا - أو قال أذى وفي رواية: خبثا - فألقيتهما. فإذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر في نعليه فإن رأى فيهما قذرا - أو قال: أذى وفي رواية: خبثا - فليمسحها وليصل فيهما)

هو من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. . . إلخ

أخرجه أبو داود والدارمي والحاكم والبيهقي وكذا الطحاوي في (شرح المعاني) والطيالسي وأحمد والسياق له والرواية الأخرى في الموضعين هي رواية له ورواية غيره أخرجوه كلهم عن حماد بن سلمة إلا أبا داود فعن حماد بن زيد كلاهما عن أبي نعامة السعدي عن أبي نضرة عنه. وقال الحاكم:

(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي وابن الوزير في (الروض الباسم) وهو كما قالوا وصححه النووي أيضا في (المجموع)

ص: 332

وأخرجه ابن خزيمة أيضا وابن حبان وأما البيهقي فقد ضعفه أو حاول تضعيفه بقوله:

(حماد بن سلمة عن أبي نعامة عن أبي نضرة كل واحد منهم مختلف في عدالته)

كذا قال وثلاثتهم ثقات احتج بهم مسلم ووثقهم الحافظ في (التقريب)

وقد رد على البيهقي قوله هذا ابن التركماني في (الجوهر النقي) وأطال في ذلك وأحسن ثم إن حماد بن سلمة لم يتفرد به بل تابعه ابن زيد كما سبق على أن البيهقي نفسه روى له شاهدا من حديث أنس وقال:

(وإسناده لا بأس به)

أخرجه من طريق الحاكم - وهو في (المستدرك) - موسى ابن إسماعيل وإبراهيم بن الحجاج قالا: ثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخلع نعليه في الصلاة إلا مرة فخلع الناس فقال (مالكم؟) قالوا: خلعت فخلعنا فقال:

(إن جبريل عليه السلام أخبرني أن فيهما قذرا)

قال البيهقي:

(تفرد به عبد الله بن المثنى)

قلت: وهو من رجال البخاري وكذلك ثمامة فهو صحيح على شرطه (1)

(1) وكذلك صححه الحاكم ووافقه الذهبي

ص: 333

وإن كان ابن المثنى قد تكلم فيه من قبل حفظه حتى قال في (التقريب):

(صدوق كثير الغلط)

قلت: فحديثه في الشواهد لا بأس به وقد أورده الهيثمي في (المجمع) وقال:

(رواه الطبراني في (الأوسط) ورجاله رجال الصحيح ورواه البزار باختصار)

وله شاهد آخر مرسل أخرجه أبو داود: ثنا موسى - يعني ابن إسماعيل -: ثنا أبان: ثنا قتادة: ثني بكر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا قال: فيهما خبث وفي الموضعين: (خبث)

وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين

وله شواهد أخرى موصولة في أسانيدها ضعف فليراجعها من شاء في (التلخيص)

وبالجملة فالحديث بهذه الشواهد صحيح حجة لا شبهة فيه وقد صححه من عرفت من الأئمة

والحديث دليل واضح لما احتججنا له وفي الباب عن عائشة وسيأتي في خاتمة الكلام على المسألة الرابعة. وقد قال الخطابي في (المعالم:

(قلت: فيه من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه)

ص: 334

وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم كما قال البيهقي وعليه يدل عمل ابن عمر رضي الله عنه فقد روى البيهقي عن يزيد بن هارون: أنبأ محمد بن مطرف عن زيد بن مسلم قال: رأيت ابن عمر يصلي في ردائه وفيه دم فأتاه نافع فنزع عنه ردائه وألقى عليه رداءه ومضى في صلاته

وعن عبد الرزاق: أنبأ معمر عن الزهري عن سالم أن ابن عمر بينما هو يصلي رأى في ثوبه دما فانصرف فأشار إليهم فجاؤوه بماء فغسله ثم أتم ما بقي على ما مضى من صلاته ولم يعد

قلت: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد قال في (باب اجتناب النجاسة) من الاختيارات العلمية):

(ومن صلى بالنجاسة ناسيا أو جاهلا فلا إعادة عليه وقاله طائفة من العلماء لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله مخطئا أو ناسيا فلا تبطل العبادة به)

وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان):

(ومن ذلك - يعني مما سهل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وشدد فيها الموسوسون - ما أفتى به عبد الله بن عمر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وطاوس وسالم ومجاهد والشعبي وإبراهيم النخعي والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري والحكم والأوزاعي ومالك وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والإمام أحمد في أصح الروايتين وغيرهم: أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم

ص: 335

يكن عالما بها أو كان يعلمها لكنه نسيها أو لم ينسها لكنه عجز عن إزالتها أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه)

ونسب النووي القول بذلك إلى جمهور العلماء ثم قال في (المجموع):

(قال ابن المنذر: وبه أقول وهو مذهب ربيعة ومالك وهو قوي في الدليل وهو المختار)

وإذا صح ما ذهبنا إليه فالحديث دليل على أن إزالة النجاسة ليس شرطا لصحة الصلاة لأنه عليه الصلاة والسلام بنى على ما كان صلى قبل الخلع

فلو كانت شرطا لاستأنف الصلاة لأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط كما تقرر في الأصول قال الشوكاني:

(والحديث استدل به القائلون بأن إزالة النجاسة من شروط صحة الصلاة وهو كما عرفناك عليهم لا لهم لأن استمراره على الصلاة التي صلاها قبل خلع النعل وعدم استئنافه لها يدل على عدم كون الطهارة شرطا وأجاب الجمهور عن هذا بأن المراد بالقذر هو الشيء المستقذر كالمخاط والبصاق ونحوهما ولا يلزم من القذر أن يكون نجسا وبأنه يمكن أن يكون دما يسيرا معفوا عنه وإخبار جبريل له بذلك لئلا تتلوث ثيابه بشيء مستقذر. ويرد هذا الجواب بما قاله في (البارع) في تفسيره قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [المائدة / 6] أنه كنى بالغائط عن القذر وقول

ص: 336

الأزهري: النجس القذر الخارج من بدن الإنسان. فجعله المستقذر غير نجس أو نجس معفو عنه تحكم وإخبار جبريل في حالة الصلاة بالقذر الظاهر أنه لما فيها من النجاسة التي يجب تجنبها في الصلاة لا لمخافة التلوث لأنه لو كان لذلك لأخبره قبل الدخول في الصلاة لأن القعود حال لبسهما مظنة للتلوث بما فيها على أن هذا الجواب لا يمكن مثله في رواية الخبث المذكورة في الباب للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الأخبثين هما البول والغائط)

وقال ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان) بعد أن ساق الحديث:

(وتأويل ذلك على ما يستقذر من مخاط أو نحوه من الطاهرات لا يصح لو جوه:

أحدها: أن ذلك لا يسمى خبثا

الثاني: أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة فإنه لا يبطلها

الثالث: أنه لا تخلع النعل في الصلاة فإنه عمل لغير حاجة فأقل أحواله الكراهة

الرابع: أن الدارقطني روى في (سننه) في حديث الخلع من رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما دم حلمة) والحلم كبار القراد)

ص: 337

(4 - وتجوز الصلاة في أحوال:

الأول: في الثياب التي هي مظنة النجاسة كثياب الحائض والمربية والمرضع والصبي فقد (كان عليه الصلاة والسلام يصلي من الليل وعائشة إلى جانبه وهي حائض وعليها مرط وعليه بعضه) و (كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب فإذا ركع وسجد وضعها وإذا قام حملها [فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على عاتقه حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها]

الحديث الأول هو من رواية عائشة رضي الله عنه بلفظ: (وأنا) بالضمير المتكلم بدل: (وعائشة) و (وهي) وبلفظ: (وعلي) بدل: وعليها

أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وأحمد من طريق عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عنها

وله طريق أخرى مختصرا بلفظ: كان نبي الله يصلي وإن بعض مرطي عليه

أخرجه الحاكم وأحمد عن قتادة عن كثيرة بن أبي كثير عن أب عياض عنها. وقال الحاكم:

(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي

وهو كما قالا ورجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير كثير بن أبي كثير وهو مولى عبد الرحمن بن سمرة وقد وثقه العجلي وروى عنه أيوب أيضا

ورواه أبو يعلى عنها بلفظ:

ص: 338

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فوجد القر فقال:

(يا عائشة أرخي علي مرطك) قالت: إني حائض قال:

(إن حيضتك ليست في يدك). قال الهيثمي:

(وإسناده حسن)

وله شاهد من حديث ميمونة:

أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعليه مرط وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض وهو يصلي وهو عليه

أخرجه أبو داود وأبو عوانة وعنه البيهقي وابن ماجه وأحمد من طريق سفيان بن عيينة عن الشيباني عن عبد الله بن شداد عنها. واللفظ لأبي داود ولأحمد نحوه وقال ابن ماجه: (بعضه عليه وعليها بعضه) ورواه البيهقي من طريق الشافعي عن سفيان بلفظ: (بعضه علي وبعضه عليه) وإسناده صحيح على شرط الشيخين وهو عند البخاري ومسلم وأحمد من طرق أخرى عن الشيباني بلفظ: كان يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض وربما أصابني ثوبه إذا سجد

وللحديث شاهد آخر من رواية حذيفة بن اليمان قال:

بت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه طرف اللحاف وعلى عائشة طرفه وهي حائض لا تصلي

ص: 339

أخرجه أحمد: ثنا أبو نعيم: ثنا يونس عن الوليد بن العيزار قال: قا ل حذيفة. قال الهيثمي:

(رواه أحمد ورجاله ثقات)

قلت: وكلهم من رجال الشيخين لكنه ظاهر الانقطاع فقد أخرجه أحمد أيضا: ثنا وكيع عن يونس عن العيزار بن حريث عن حذيفة به مختصرا. فهذا سند صحيح رجاله رجال مسلم إن كان يونس سمعه من العيزار ولعله سمعه من ابنه الوليد بن العيزار كما في الرواية الأولى. والله أعلم

(المرط): بكسر الميم وسكون الراء قال في (المعالم): (ثوب يلبسه الرجال والنساء يكون إزارا ويكون رداء وقد يتخذ من صوف ويتخذ من خز وغيره)

والحديث الآخر هو من رواية عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه

أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وكذا مالك والنسائي والدارمي والبيهقي والطيالسي وأحمد من طرق عنه. وما بين المعكوفتين زيادة في رواية لأبي داود والنسائي وأحمد وهي صحيحة الإسناد على شرط الشيخين

ص: 340

وقد أخرجه مسلم إلا أنه لم يسق لفظه. وفي رواية له:

رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وفي أخرى له ولأبي داود: يصلي للناس. وفي أخرى لأبي داود أنها الظهر أو العصر

ووردت نحو هذه القصة عن أبي بكرة:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي: فإذا سجد وثب الحسن على ظهره وعلى عنقه فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعا رفيقا لئلا يصرع قال: فعل ذلك غير مرة. . . الحديث

أخرجه الطيالسي وأحمد عن مبارك ابن فضالة عن الحسن: أخبرني أبو بكرة

وهذا سند حسن

ولهما طريق أخرى من حديث أبي هريرة بنحوها عند أحمد والطبراني في ترجمة الحسن بن علي من (المعجم الكبير) والحاكم من طريق كامل بن العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة

كذا قالا ورجاله رجال مسلم غير أبي صالح هذا وليس هو ذكوان بل هو مولى ضباعة وثقه ابن حبان وفي (التقريب):

(لين الحديث)

ص: 341

وقد أورد الحديث الهيثمي في (المجمع) وقال:

(رواه أحمد والبزار باختصار ورجال أحمد ثقات)

وللحسن والحسين قصة أخرى لعلها تأتي في السجود إن شاء الله تعالى

والحديث قال ابن القيم في (الإغاثة): (دليل على جواز الصلاة في ثياب المربية والمرضع والحائض والصبي ما لم يتحقق نجاستها) وقال النووي في (شرح مسلم):

(فيه دليل لصحة صلاة من حمل آدميا أو حيوانا طاهرا من طير وشاة وغيرهما وأن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة حتى تتحقق نجاستها. . . إلخ) ثم قال:

(وهو يدل لمذهب الشافعي رحمه الله ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان الطاهر في صلاة الفرض والنفل ويجوز ذلك للإمام والمأموم والمنفرد وحمله أصحاب مالك رضي الله عنه على النافلة ومنعوا جواز ذلك في الفريضة. وهذا التأويل فاسد لأن قوله: (يؤم الناس) صريح أو كالصريح في أنه كان في الفريضة. وادعى بعض المالكية أنه منسوخ وبعضهم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم أنه كان لضرورة. وكل هذه الدعاوى باطلة مردودة فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدته وثياب الأطفال

ص: 342

وأجسادهم على الطهارة ودلائل الشرع متظاهرة على هذا والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت) ثم قال:

(فالصواب الذي لا معدل عنه: أن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين)

هذا وقد يعارض ما تقدم حديث عائشة أيضا قالت: كان لا يصلي في لحف نسائه

أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عنها. وقال الترمذي:

(حديث حسن صحيح)

قلت: ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير أشعث هذا وهو ثقة ففيه كما في (التقريب)

ثم رواه أبو داود عن حماد عن هشام عن ابن سيرين عن عائشة وهذا منقطع. قال حماد:

(وسمعت سعيد بن أبي صدقة قال: سألت محمدا عنه فلم يحدثني وقال: سمعته منذ زمان ولا أدري ممن سمعت ولا أدري أسمعته من ثبت أو لا فسلوا عنه)

ص: 343

قلت: وكذلك رواه سلمة بن علقمة عن ابن سيرين لم يذكر شقيق في إسناده

أخرجه البيهقي وأخرجه أحمد أيضا عنه عن ابن سيرين قال:

نبئت أن عائشة قالت

ورواه قتادة عن ابن سيرين:

أن النبي صلى الله عليه وسلم كره الصلاة في ملاحف النساء

أخرجه أحمد: ثنا عفان قال: ثنا همام قال: ثنا قتادة به

ورجاله ثقات رجال الستة لكنه مرسل فهو ضعيف لا سيما بهذا اللفظ الشاذ ولعله رواية بالمعنى وليس هذا المعنى صحيحا لأن امتناعه عليه الصلاة والسلام من أمر لا يدل على كراهته لا سيما إذا ثبت أنه فعله مرارا كما تقدم في تلك الأحاديث عن عائشة وميمونة وحذيفة وهي مثبتة وحديث عائشة ناف والمثبت مقد على النافي عند التعارض وعدم إمكان الجمع ولعل الجمع هنا ممكن بأن يقال: إن عائشة في حديثها هذا إنما نفت استمرار الرسول عليه الصلاة والسلام على الصلاة في لحف نسائه لما يدل عليه صيغة: (كان) وكان لا ينفي أنه كان يفعل ذلك أحيانا ويقوي هذا الجمع أن عائشة نفسها قد روت فعله لذلك كما في الحديث الأول من هذا الفصل وأصرح منه ما سبق في المسألة الثانية عنها أيضا بلفظ:

كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد وأنا طامث حائض فإن

ص: 344

أصابه مني شيء غسل مكانه ولم يعده وصلى فيه. . . الحديث. فإن مفهومه أنه كان يصلي في الشعار إن لم يصبه منها شيء

و (الشعار): هو الثوب الذي يستشعره الإنسان أي: يجعله مما يلي بدنه والدثار: ما يلبسه فوق الثياب وهو اللحاف

وأصرح من هذا كله حديثها الآخر قالت:

كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارنا وقد ألقينا فوقه كساء فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس فقال: رجل: يا رسول الله هذه لمعة من دم فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليها فبعث بها إلى مصرورة في يد الغلام فقال: (اغسلي هذه وأجفيها ثم أرسلي بها إلي) فدعوت بقصتي فغسلتها ثم أجففتها فأحرتها إليه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهي عليه)

لكنه من رواية أم يونس بنت شداد قالت: حدثتني حماتي أم جحدر العامرية عنها. ولا يعرف حالهما كما في (التقريب) وقد قال الذهبي في (الميزان):

(وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها)

والحديث أخرجه أبو داود فهو صريح في صلاته عليه السلام في الكساء الذي كان ملتحفا به هو زوجه حتى تبين له أن فيه لمعة الدم فأمر بغلسه ولم يعد الصلاة من أجله لأنه لو أعادها لنقلت إلينا فهو - لو صح

ص: 345

دليل آخر على أن إزالة النجاسة ليس شرطا لصحة الصلاة وهو الحق إن شاء الله تعالى كما سبق بيانه

وبالجملة فحديث عائشة الذي نحن في صدد الكلام عليه ليس المراد منه نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في لحف النساء وثيابهن مطلقا بل المراد نفي دوامه عليه الصلاة والسلام على ذلك هذا ما يفيده مجموع الأحاديث الواردة في هذا الموضوع وطريقة الجمع بينها. والله أعلم

(الثاني: على مركوب قد أصابته نجاسة لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر [تطوعا])

الحديث صحيح الإسناد. وقد أخرجه مالك وعنه مسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي وأحمد كلهم عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبي الحباب سعيد بن يسار عن عبد الله بن عمر أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار. . . إلخ

وقد توبع عليه مالك فأخرجه أحمد عن الثوري وعن حماد بن سلمة وعن زائدة ثلاثتهم عن عمرو بن يحيى به والزيادة التي بين المربعين للثوري

وقد أعل هذا الحديث بتفرد عمرو بن يحيى بذكر الحمار فيه كما قال ابن عبد البر لأن المعروف الثابت في (الصحيحين) وغيرهما عن ابن عمر

ص: 346

وغيره الصلاة على البعير وهذا ليس بعلة قادحة عندي لأن عمرو بن يحيى ثقة كما قال النووي والذهبي والعسقلاني في (التقريب) وقد روى أمرا جائز الوقوع فوجب الأخذ به ورواية غيره من الثقات بلفظ البعير لا ينافيه ولا يعارضه لا احتمال أن الرسول عليه الصلاة والسلام ركب على هذا مرة وعلى هذا أخرى وقد فصلت القول في صحة الحديث ودفع علته في (التعليقات الجياد على زاد المعاد) فليراجع

وللحديث شاهد من حديث أنس بن مالك:

أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو راكب إلى خيبر والقبلة خلفه

أخرجه النسائي عن محمد بن عجلان عن يحيى بن سعيد عنه

وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات غير ابن عجلان ففيه كلام وهو حسن الحديث

والحديث عزاه الحافظ في (الفتح) للسراج فقط ثم قال:

(إسناده حسن)

قلت: إلا أن النسائي قال بعد أن ساقه:

(الصواب موقوف على أنس)

قلت: أخرجه كذلك موقوفا مالك عن يحيى بن سعيد قال:

رأيت أنس بن مالك في السفر وهو يصلي على حمار وهو متوجه إلى غير

ص: 347

القبلة يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع وجهه على شيء)

وأخرجه البخاري ومسلم والبيهقي وأحمد من طريق أخرى عن أنس بن سيرين قال:

استقبلنا انسا حين قدم من الشام فلقيناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب - يعني عن يسار القبلة - فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟ فقال:

لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله لم أفعله

وبوب له البخاري (باب صلاة التطوع على الحمار). قال ابن رشيد:

(مقصوده أنه لا يشترط في التطوع على الدابة أن تكون طاهرة الفضلات بل الباب في المركوبات واحد بشرط أن لا يماس النجاسة. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من هذا الحديث طهارة عرق الحمار لأن ملامسته مع التحرز منه متعذر لا سيما إذا طال الزمان في ركوبه واحتمل العرق) كذا في (الفتح) لابن حجر ثم قال:

(وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مضى أن من صلى على موضع فيه نجاسة لا يباشر بشيء منه أن صلاته صحيحة لأن الدابة لا تخلو من نجاسة ولو على منفذها)

والحديث ترجم له أبو البركات مجد الدين ابن تيمية في (المنتقى) ب (باب من صلى على مركوب نجس أو قد أصابته نجاسة) وساق فيه

ص: 348

حديث ابن عمر وحديث أنس. فقال الشوكاني في (شرحه):

(واستدل المصنف بالحديثين على جواز الصلاة على المركوب النجس والمركوب الذي أصابته نجاسة وهو لا يتم إلا على القول بأن الحمار نجس عين نعم يصح الاستدلال به على جواز الصلاة على ما فيه نجاسة لأن الحمار لا ينفك عن التلوث بها)

والحديث فيه دليل أيضا على جواز صلاة التطوع على الراحلة وهو متفق عليه وسيأتي البحث في محله

(الثالث: في النعلين فقد صلى فيهما النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر ذلك عنه لكنه يجب النظر فيهما قبل الشروع في الصلاة فإن رأى خبثا دلكهما بالأرض ثم صلى فيهما)

اعلم أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في النعلين قد رواه عنه جمع من الصحابة وقد ذكرت أحاديث من ثبت إسناده إليه منهم في كتابنا الكبير في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أنس بن مالك وأبو هريرة وعائشة وابن مسعود وعبد الله بن الشيخر وعبد الله بن عمرو وأوس بن أبي أوس. ولذلك صرح الإمام الطحاوي بأن:

(الآثار متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته في نعليه)

وقد ساق الكثير منها بأسانيدها ونحن نذكر هنا حديثا واحدا منها ونحيل في سائرها على كتابنا المشار إليه

ص: 349

قال سعيد بن يزيد الأزدي: سألت أنس بن مالك: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين؟ قال: نعم

أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي والدارمي والطحاوي والبيهقي والطيالسي وأحمد قال الترمذي:

(حديث أنس حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم). قال العلامة الأستاذ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي:

(نعم لا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز الصلاة في النعال في المسجد وغير المسجد ولكن انظر إلى شأن العامة من المسلمين الآن حتى من ينتسب إلى العلم: كيف ينكرون علىمن يصلي في نعليه؟ ولم يؤمر بخلعهما عند الصلاة إنما أمر أن ينظر فيهما فإن كان فيهما أذى دلكهما بالأرض وذلك طهورهما ولم تؤمر فيهما بغير ذلك)

وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان) ما ملخصه:

(ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين: الصلاة في النعال وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا منه وأمرا). ثم ذكر حديث أنس وحديث شداد بن أوس الآتي قريبا ثم قال:

(وقيل للإمام أحمد: أيصلي الرجل في نعليه؟ فقال: إي والله. وترى أهل الوسواس إذا بلي أحدهما بصلاة الجنازة في نعليه قام على عقبيهما كأنه واقف على الجمر حتى لا يصلي فيهما)

ص: 350

(والصلاة فيهما تخيير لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليلبس نعليه أو ليجعلهما بين رجليه ولا يؤذ بهما غيره)

هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من طريق الأوزاعي: ثنا محمد بن الوليد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عنه

وهذا سند صحيح على شرط الشيخين

ثم أخرجه الحاكم من طريق عياض بن عبد الله القرشي عن سعيد عن أبي هريرة فلم يقل: (عن أبيه) وقال:

(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي وهو كما قالا وقال العراقي:

(رواه أبو داود بسند صحيح وضعفه المنذري وليس بجيد)

قلت: ولعل تضعيف المنذري له إنما هو لأجل هذا الاختلاف على سعيد وهو اختلاف لا يضر إن شاء الله تعالى كما بينته في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

(لكن يستحب الصلاة فيهما أحيانا مخالفة لليهود ومن تنطع مثلهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)

الحديث صحيح الإسناد أخرجه أبو داود والحاكم وعنه البيهقي عن قتبية بن سعيد: ثنا مروان بن معاوية الفزاري

ص: 351

عن هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه مرفوعا به. وقال الحاكم:

(صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي

قلت: ورجاله كلهم ثقات وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) أيضا ولا مطعن في إسناده كما قال الشوكاني ونقل المناوي في (شرح الجامع) عن الزين العراقي أنه قال:

(إسناده حسن)

وله شاهد من حديث أنس ذكرته في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

والحديث دليل لما ذكرنا من استحباب الصلاة في النعلين وإنما منعنا من الجزم بالوجوب حديث أبي هريرة الذي قبله وكذلك بعض الأحاديث المشار إليها قريبا مثل حديث عبد الله بن عمرو قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيا ومنتعلا

أخرجه أبو داود وعنه البيهقي وابن ماجه والطحاوي وأحمد عن عمرو بن سعيب عن أبيه عن جده

وهذا سند حسن أو صحيح على الخلاف المشهور فيه ومثله حديث أبي هريرة وعائشة فصلاته صلى الله عليه وسلم حافيا أحيانا دليل على عدم الوجوب قال الشوكاني:

ص: 352

(ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة وما بعده صارفا للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى الندب لأن التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الأوامر لا ينافي الاستحباب كما في حديث: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) وهذا أعدل المذاهب وأقواها عندي). وقال الحافظ العراقي:

(وحكمة الصلاة في النعلين مخالفة أهل الكتاب كما تقرر وخشية أن يتأذى أحد بنعليه إذا خلعهما مع ما في لبسهما من حفظهما من سارق أو دابة تنجس نعله). نقهل المناوي في (فيض القدير)

(5 - ويجب أيضا طهارة المكان لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في المسجد:

(إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء) فأمر رجلا فجاء بدلو من ماء فشنه عليه)

الحديث صحيح أخرجه مسلم والبيهقي وأحمد من طريق عكرمة بن عمار: ثنا إسحاق بن أبي طلحة: ثني أنس بن مالك - وهو عم إسحاق - قال:

بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(لا تزرموه دعوه) فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله دعاه فقال له. . . الحديث. وتمامه:

ص: 353

(إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه

والسياق لمسلم وليس فيه: (والخلاء) وإنما هو عند أحمد والبيهقي في رواية له

وله شاهد من حديث أبي هريرة قال:

دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقال: (اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد احتظرت واسعا) ثم ولى حتى إذا كان في ناحية المسجد فشج يبول فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

(إنما بني هذا البيت لذكر الله والصلاة وإنه لا يبال فيه) ثم دعا بسجل من ماء فأفرغه عليه قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلي - بأبي هو وأمي - فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب

أخرجه ابن ماجه وأحمد من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه

وهذا إسناد حسن

ورواه أبن حبان أيضا كما في (الفتح)

والحديثين في (الصحيحين) وغيرهما عن أنس وأبي هريرة مختصرا ليس فيه موضع الشاهد منه وقد مضى

ص: 354

والحديث دليل لما ذكرنا من وجوب طهارة المكان قال شيخ الإسلام في (الاختيارات):

(وطهارة البقعة يستدل عليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة) وأمره بصب الماء على البول. فقد أمر عليه السلام بتطهير مكان الصلاة والأمر يفيد الوجوب)

ويدل لذلك أيضا حديث جابر وهو:

(وقوله: (وجعلت لي الأرض [طيبة] طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته)

هو قطعة من حديث جابر بلفظ:

(أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)

أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي وأحمد عنه والسياق للبخاري والجملة المذكورة أعلاه لأحمد وما بين المربعين زيادة لمسلم والدارمي وهي ثابتة في حديث أنس أيضا بلفظ:

(جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا)

ص: 355

رواه ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح كما في (الفتح) وصححه العراقي أيضا كما في (النيل) حيث قال:

(وهو ثابت بزيادة (طيبة) من رواية أنس عند ابن السراج في (مسنده) قال العراقي: بإسناد صحيح) ثم قال الشوكاني:

(وهي تدل على أن المراد بالأرض المذكورة في الحديث الأرض الطاهرة المباحة لأن المتنجسة ليست بطيبة لغة والمغصوبة ليست بطيبة شرعا)

فمفهوم الحديث أنه يجب اجتناب الأرض الخبيثة في الصلاة لكنه لا يدل هو ولا حديث الأعرابي قبله على شرطية طهارة المكان فالقول فيه كالقول في شرطية طهارة البدن والثوب وقد سبق تفضيل القول فيهما ولم أجد لمن قال بالشرطية دليلا صحيحا سوى ما تقدم هناك

وأما حديث ابن عمر بلفظ: نهى أن يصلى في ستة مواطن. . . الحديث. الذي احتج به الرافعي وصاحب (المهذب) على الشرطية فضعيف لا يجوز الاحتجاج به كما بينه النووي والعسقلاني وتكلمنا عليه في (نقد التاج). ولذلك قال النووي بعد أن تكلم على الحديث:

(ودليل الشرطية ما سبق في أول الباب وأما الحديث المذكور هنا فلا يصح الاحتجاج به ومما يحتج به حديث بول الأعرابي في المسجد وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صبوا عليه ذنوبا من ماء) رواه البخاري ومسلم)

ص: 356

قلت: هذا لا يفيد الشرطية وإنما يفيد الوجوب كما سبق. ومثله ما أشار إليه مما سبق فكل ذلك أوامر لا تفيد إلا الوجوب وقد نقلنا كلام النووي الذي أشار إليه في خاتمة المسألة الثانية وبينا هناك ما فيه الكفاية فراجعه

(6 - ولا تجوز الصلاة في أماكن عشرة:

الأول: المقبرة وهي الموضع الذي دفن فيه إنسان واحد فأكثر لقوله عليه الصلاة والسلام:

(الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)

وسواء في ذلك أكان القبر قبلته أو عن يمينه أو عن يساره أو خلفه لكن استقباله بالصلاة أشد لقوله صلى الله عليه وسلم:

(لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقوله:

(إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد)

الحديث الأول هو من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي وابن حزم وأحمد عن عبد الواحد بن زياد والترمذي والدارمي والحاكم أيضا والبيهقي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وابن ماجه والبيهقي وابن حزم وأحمد عن حماد بن سلمة ثلاثتهم عن عمرو بن يحيى الأنصاري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا به

ص: 357

ثم أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو به بلفظ:

(كل الأرض مسجد وطهور إلا المقبرة والحمام)

فزاد ابن إسحاق فيه: (وطهور) وهي زيادة شاذة ضعيفة. والحديث بدونها صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم ووافقه الذهبي

وأما الترمذي والبيهقي فأعلاه بأن الثوري رواه عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا بدون ذكر أبي سعيد

أخرجه هكذا ابن ماجه والبيهقي وأحمد عن يزيد بن هارون عن الثوري. وهذا إعلال عجيب بعد اتفاق أولئك الثقات الأربعة على وصله والوصل زيادة يجب قبولها على أن الثوري قد وصله في بعض الروايات فقال الدارقطني في (العلل) كما في (التلخيص): ثنا جعفر بن محمد المؤذن - ثقة -: ثنا السري بن يحيى: ثنا أبو نعيم وقبيصة: ثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد موصولا. وقال:

(المرسل المحفوظ)

كذا قال ولئن صح ذلك في خصوص رواية الثوري فلا يصح في رواية الآخرين ولذلك قال صاحب (الإمام):

(حاصل ما علل به الإرسال وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول). قال الحافظ:

(وأفحش ابن دحية فقال في كتاب (التنوير) له: هذا لا يصح من طريق

ص: 358

من الطرق. كذا قال: فليم يصب). وقال في (الفتح):

(ورجاله ثقات لكن اختلف في وصله وإرساله وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان)

ولذلك قوى الحديث ابن حزم ورد على من أعله بالإرسال

وللحديث طريق أخرى عن يحيى الأنصاري هو في منجى عن كل هذا الاختلاف

أخرجه الحاكم وعنه البيهقي من طريق عمارة بن غزية عن يحيى بن عمارة الأنصاري عن أبي سعيد الخدري مرفوعا به

وهذا سند صحيح على شرط مسلم. ثم قال الحافظ:

(قلت: وله شواهد منها حديث عبد الله بن عمر مرفوعا: نهى عن الصلاة في المقبرة. أخرجه ابن حبان ومنها حديث علي إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة. أخرجه أبو داود)

قلت: وحديث علي سيأتي الكلام عليه إن شاء الله قريبا ومن شواهده أيضا حديث أنس:

أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور. قال الهيثمي:

(رواه البزار ورجاله رجال الصحيح)

وبعد كتابة ما تقدم رايت المناوي في (فيض القدير) نقل عن ابن حبان أنه صحح الحديث. وعن ابن تيمية أنه قال:

ص: 359

(اسانيده جيدة ومن تكلم فيه ما استوفى طرقه) ثم رأيته في (الاقتضاء) لشيخ الإسلام

والحديث الثاني هو من رواية عائشة وابن عباس معا قالا:

لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك. . . فذكره

أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي وأحمد من طريق عبيد الله بن عبيد الله بن عتبة عنها وزاد أحمد في رواية له: يحرم ذلك على أمته. وفيه ابن إسحاق وقد عنعنه

وله طريق أخرى عنها وحدها بلفظ (لعن الله) والباقي مثله وزاد:

قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا

أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن عروة عنها

وله طريق ثالث عند أحمد عن سعيد بن المسيب عنها

وإسناده صحيح على شرط الستة

وله شاهد من حديث أبي هريرة مثل حديث عائشة

أخرجه مسلم من طريق يزيد بن الأصم عنه

ص: 360

وهو عند البخاري ومسلم أيضا وأبي داود وأحمد ومحمد في (موطأه) كلهم عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ

(قاتل الله. . .)

وتابعه عن الزهري يونس عند مسلم وجماعة من الثقات عند أحمد

وتابع الزهري عن سعيد قتادة

أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف)

وله طريق ثالث عن أبي هريرة بلفظ:

(اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)

أخرجه أحمد: ثنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه

وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير حمزة بن المغيرة وهو المخزومي وهو ثقة بلا خلاف

وعزاه الهيثمي لأبي يعلى فقط وقال:

(وفيه إسحاق بن أبي إسرائيل وفيه كلام لوقفه في القرآن وبقية رجاله ثقات)

ص: 361

قلت: هو في نفسه ثقة وقد وثقه ابن معين وأحمد وغيرهما والكلام المذكور لا يضره من حيث الرواية على أن الهيثمي قد ذهل عن كون الحديث في (المسند) من غير هذه الطريق كما رأيت فسبحان من لا يسهو ولا ينسى

وللحديث شواهد أخرى أوردتها وخرجتها في (التعليقات الجياد) من كتاب الجنائز فلا نطيل بذكرها هنا

والحديث الثالث هو من حديث ابن مسعود رضي الله عنه

أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في (المصنف) من طريق عاصم بن أبي النجود عن شقيق عنه

وهذا سند حسن رجاله رجال الشيخين غير أنهما أخرجا لابن أبي النجود مقرونا بآخر وهو حسن الحديث. والحديث قال الهيثمي:

(رواه الطبراني في (الكبير) وإسناده حسن)

وذهل عن كونه في (المسند). وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه - ك (منهاج السنة) - لابن حبان في (صحيحه) وكذلك عزاه في (اقتصاء الصراط المستقيم) وقال:

(إسناده جيد)

قلت: وقد وجدت للحديث طريقا آخر أخرجه أحمد أيضا: ثنا عفان: ثنا قيس: أنا الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة السلماني عن عبد الله ابن مسعود مرفوعا بلفظ:

ص: 362

(إن من البيان سحرا وشرار الناس الذين تدركهم الساعة أحياء والذي يتخذون قبورهم مساجد)

وهذا سند حسن أيضا رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير قيس وهو ابن الربيع وهو حسن الحديث لا سيما في المتابعات فالحديث بمجموع الطريقين صحيح عندي. والله أعلم

واعلم أن الاستدلال بالحديث على ما ذكرنا إنما هو على أحد القولين في تفسيره وهو أن المراد بالاتخاذ: استقبال القبر. قال البيضاوي:

(لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا - لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنع المسلمين عن مثل ذلك)

والحديث معناه عندنا أعم مما ذكره البيضاوي كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله

ومن عجائب الفهم المصادم للقصد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم إن لم نقل للنص منه - قول البيضاوي في تمام كلامه وهو:

(وأما من اتخذ مسجدا بجوار صالح أو صلى في مقبرة وقصد به الاستظهار بروحه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا التعظيم له والتوجه نحوه فلا حرج عليه)

كذا قال ولا يخفى ما فيه من أثار الوثنية والضلال والمعصوم من عصمه

ص: 363

الله ولذلك تعقبه العلماء فقال المناوي بعد أن نقل كلامه هذا:

(لكن في خبر الشيخين كراهة بناء المسجد على القبور مطلقا والمراد قبور المسلمين خشية أن يعبد فيها القبور لقرينة خبر: اللهم لا تجعل قبري وثنا بثعيد)

وقد نص الإمام محمد تلميذ أبي حنيفة على كراهة اتخاذ المسجد عند القبر كما يأتي نصه في ذلك والتعبير ب (عند) أعم من قوله: (فوق) أو (على) كما لا يخفى فمن بنى مسجدا بجوار صالح فقد بنى عنده وعليه فكلام محمد رحمه الله رد على البيضاوي في رأيه هذا المبتدع ورد عليه الصنعاني أيضا في (سبل السلام) فقال:

(قوله: لا لتعظيم له يقال: اتخاذ المساجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له ثم أحاديث النهي مطلقة ولا دليل على التعليل بما ذكر والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تنفع ولا تضر ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية) قال:

(ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر)

والحديث الأول يفيد تحريم الصلاة في المقبرة على التفصيل المذكور لعموم الحديث ولأن النهي أصله التحريم. وذهب بعضهم إلى بطلان الصلاة فيها وهو محتمل والله أعلم وقد ذهب إلى هذا ابن حزم في (الملحى) ورواه عن أحمد أنه قال:

ص: 364

(من صلى في مقبرة أو إلى قبر أعاد أبدا). ثم قال:

(وكره الصلاة إلى القبر وفي المقبرة وعلى القبر: أبو حنيفة والأوزاعي وسفيان ولم ير مالك بذلك بأسا واحتج له بعض مقلديه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة السوداء) قال ابن حزم:

(وهذا عجب ناهيك به أن يكون هؤلاء القوم يخالفون هذا الخبر فيما جاء فيه فلا يجيزون أن تصلى صلاة الجنازة على من قد دفن ثم يستبيحون - بما ليس فيه منه أثر ولا إشارة - مخالفة السنن الثابتة). قال:

(وكل هذه الآثار حق فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. نحرم ما نهى عنه ونعد من القرب إلى الله تعالى أن نفعل مثل ما فعل فأمره ونهيه حق وفعله حق وما عدا ذلك فباطل والحمد لله رب العالمين)

وقال الشوكاني بعد أن حكى مذاهب العلماء في المسألة:

(وأحاديث النهي المتواترة كما قال ذلك الإمام (ابن حزم) لا تقصر عن الدلالة على التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له وقد تقرر في الأصول أن النهي يدل على فساد المنهي عنه فيكون الحق التحريم والبطلان لأن الفساد الذي يقتضيه النهي هو المرادف للبطلان من غير فرق بين الصلاة على القبر وبين المقابر وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة)

وقال شيخ الإسلام في (الاختيارات):

ص: 365

(ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها والنهي عن ذلك هو سد لذريعة الشرك وذكر طائفة من أصحابنا أن المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور وهو الصواب والمقبرة كل ما قبر فيه لا أنه جمع قبر وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه. فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه وذكر الآمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد)

وقد اختلفوا في علة النهي عن الصلاة في المقبرة فقيل: النجاسة وقيل: التشبه بأهل الكتاب وسدا لذريعة الشرك كما سبق في كلام شيخ الإسلام وغيره. وهو الظاهر من مجموع الأحاديث الواردة في هذا الباب وقد مضى البعض ويأتي بعضها وعليه جرى علماؤنا المتأخرون من الحنفية فقال ابن عابدين في (حاشيته):

(واختلف في علته (يعني: الكراهة) فقيل: لأن فيها عظام الموتى وصديدهم وهو نجس وفيه نظر (1) وقيل: لأن أصل عبادة الأصنام اتخاذ قبور الصالحين مساجد وقيل: لأنه تشبه باليهود وعليه مشى في الحاشية)

(1) لعل وجهه أن الاستحالة عندنا مطهرة. ا. هـ منه

ص: 366

وهذا القيل الأخير هو الذي اعتمده الطحطاوي في (حاشيته على مراقي الفلاح) ونص كلامه:

(قوله: وفي المقبرة بتثليث الباء لأنه تشبه باليهود والنصارى قال صلى الله عليه وسلم: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وسواء كانت فوقه أو خلفه أو تحت ما هو واقف عليه ويستثنى مقابر الأنبياء عليهم السلام فلا تكره الصلاة فيها مطلقا منبوشة أو لا بعد أن لا يكون القبر في جهة القبلة لأنهم أحياء في قبورهم ألا ترى أن مرقد إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب وأن بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى للصلاة بخلاف مقابر غيرهم. أفاده في (شرح المشكاة)

هذا كله كلام الطحطاوي وهو كلام مدخول يناقض بعضه بعضا فإنه إذا كان يصرح ويعلل الكراهة بالتشبه باليهود والنصارى - وهم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد - فكيف يستثني قبور الأنبياء وإنما يتحقق التشبه بالكفار بالصلاة فيها؟

نعم ربما كان يصح هذا الاستثناء فيما لو كانت علة الكراهة هي النجاسة وذلك لطهارة قبورهم عليهم السلام ومع ذلك فلا يصح هذا الاستثناء مطلقا بعد لعنه عليه الصلاة والسلام من كان يتخذ قبور الأنبياء مساجد ونهيه أمته عن ذلك كما يأتي

ص: 367

وأنا أخشى أن يكون الطحطاوي قد أتي في هذا التناقض الصريح من جهة التقليد الذي كثيرا ما لا يدع صاحبه يفكر فيما يكتب أو يقول فهو فيما يظهر نقل التعليل الصحيح عن بعض العلماء الذين لا يتصور أن يقولوا بالاستثناء ثم نقل الاستثناء عن بعض من يقول بالعلة الأخرى وهي النجاسة وهو منقول عنهم ويدل على هذا قوله: (منبوشة أو لا) فإن هذا إنما يصح أن يقال على أساس القول بهذه العلة المرجوحة وعليها يتفرع القول بالفرق بين المقبرة المنبوشة وغير المنبوشة في غير مقابر الأنبياء فإن لم يكن هذا الذي ذهبنا إليه حقا فما معنى هذا القول ههنا؟ وما معنى الاستثناء المصادم للنص؟

قد يقال: إن النص ليس معناه عند الطحطاوي على العموم بل معناه الاستقبال كما سبق ذكره عن البيضاوي ويدل على ذلك قوله بعد الاستثناء: (بعد أن لا يكون القبر جهة القبلة) فهو بهذا القيد لم يصادم النص حسب فهمه

فأقول: لكن يشكل عليه قوله: (وسواء كانت فوقه أو خلفه. . .) إلخ

قال ذلك عن الحديث بما يشعر أنه عنده على عمومه ثم ما هو الفرق المعقول ين المنع من ذلك كله في قبور غير الأنبياء وإباحته في قبورهم مع القيد المذكور مع العلم بأن الخطر على العقيدة من الصلاة عندها مطلقا أعظم من الصلاة عند غيرها؟

وبعد كتابة ما تقدم رجعت إلى شرح (المشكاة) المسمى: (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) للشيخ علي القاري فتبين لي أن الطحطاوي نقل جل

ص: 368

كلامه ولكنه أساء في النقل وقدم وأخر بحيث أخل بالمعنى ولزم منه ما أشرنا إليه من المحاذير وتبين منه أيضا وتحقق أن الاستثناء إنما نقله عن بعض من ذهب إلى التعليل بالنجاسة وعليها جاء التفصيل الذي ذكره الطحطاوي في قوله: (وسواء. . .) إلخ وهو نقله من كلام ابن حجر - يعني الهيتمي - ونص كلامه في ذلك:

(أشار الشارح إلى استشكال الصلاة عند قبر إسماعيل عليه السلام بأنها تكره في المقبرة. وأجاب بأن محلها مقبرة منبوشة لنجاستها وكله غفلة عن قولهم: يستثنى مقابر الأنبياء فلا يكره الصلاة فيها مطلقا لأنهم أحياء في قبورهم وعلى التنزل فجوابه غير صحيح لتصريحهم بكراهة الصلاة في مقبرة غير الأنبياء وإن لم تنبش لأنه محاذ للنجاسة ومحاذاتها في الصلاة مكروهة سواء كانت فوقه أو خلفه أو تحت ما هو واقف عليه) ا. هـ ما في (المرقاة)

وأما ما احتج به الطحطاوي تبعا لشرح (المشكاة) من أفضلية الصلاة عند قبر إسماعيل عليه السلام وقبر السبعين نبيا فقد أجاب عنه القاري نفسه في الشرح المذكور بقوله:

(وفيه أن صورة قبر إسماعيل وغيره مندرسة فلا يصلح للاستدلال به)

ونحن نقول: هب أنها غير مندرسة فذلك لا يدل على أن فضيلة الصلاة إنما هو من أجلها. ألا ترى أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه بألف صلاة مما

ص: 369

سواه من المساجد إلا المسجد الحرام كما صح عنه صلى الله عليه وسلم؟ ومن المعلوم أنه قال ذلك قبل أن يدفن عليه السلام في الحجرة الشريفة وقبل أن تضم هذه إلى المسجد النبوي فهل يلزم من وجود القبر الشريف الآن فيه أن يقال: إن فضيلة الصلاة فيه من أجل القبر الشريف؟ كلا لا يقول ذلك إلا الجهال من العوام فكذلك لا يلزم من فضيلة الصلاة عند قبر إسماعيل وغيره أن ذلك من أجل القبور وكيف يكون وقد نهى عليه السلام عن اتخاذها مساجد ولعن من فعل ذلك؟ وهذا كله يقال على تسليم ثبوت تلك القبور في ذلك المكان وليس بثابت عند المحدثين قال الشيخ علي القاري في (الموضوعات):

(قال العلامة الشيخ محمد بن الجزري: لا يصح تعيين قبر نبي غير نبينا عليه الصلاة والسلام نعم سيدنا إبراهيم عليه السلام في تلك القرية لا بخصوص تلك البقعة. انتهى)

قلت: وقد حكى شيخ الإسلام في (الاقتضاء) نحوه من غير واحد من أهل العلم ثم ذكر:

(إن المسلمين قد أجمعوا ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الصلاة عند القبر - أي قبر كان - لا فضل فيها لذلك ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلا بل مزية شر) وقال قبل ذلك بصفحة:

(واعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة ليس إلا لكونها مظنة النجاسة لما يختلط بالتراب من صديد الموتى وبنى على هذا

ص: 370

الاعتقاد الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل أو لا يكون ونجاسة الأرض مانعة من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة أو لم تكن لكن المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور ليس هو هذا فإنه قد بين أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا). ثم قال:

(وروي عنه أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).) ثم ذكر حديث عائشة وغيره مما تقدم وحديث جندب الآتي: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) ثم قال:

(فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا كما قال الشافعي رضي الله عنه: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. وقد ذكر هذا المعنى أبو بكر الأثرم في (ناسخ الحديث ومنسوخه) وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء فإن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل الصالح لم يكن ينبش والقبر الواحد لا نجاسة عليه وقد نبه هو صلى الله عليه وسلم على العلة بقول: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) وبقوله: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فلا تتخذوها مساجد) وأولئك إنما كانوا يتخذون قبورا لا نجاسة عندها ولأنه قد روى مسلم في (صحيحه) عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها). ولأنه صلى الله عليه وسلم قال:

(كانوا إذا مات فيهم

ص: 371

الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) فجمع بين التماثيل والقبور

وأيضا فإن اللات كان سبب عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك)

وقال فيما بعد وقد ذكر العلة الأولى:

(وهذه العلة في صحتها نزاع لاختلاف العلماء في نجاسة تراب القبور وهي من مسائل الاستحالة وأكثر العلماء المسلمين يقولون: إن النجاسة تطهر بالاستحالة وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد وقد ثبت في (الصحيح) أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان حائطا لبني النجار وكان فيه قبور من قبور المشركين ونخل وخرب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخيل فقطعت وبالخرب فسويت وبالقبور فنبشت وجعل النخل في صف القبلة فلو كان تراب القبور نجسا لكان تراب قبور المشركين نجسا ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقل ذلك التراب فإنه لا بد أن يختلط ذلك التراب بغيره)

ثم ذكر العلة الثانية ثم قال:

(وهذه العلة صحيحة باتفاقهم والمعللون بالأولى - كالشافعي وغيره - عللوا بهذه أيضا وكرهوا ذلك لما فيه من الفتنة وكلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك كأبي بكر الأثرم صاحب أحمد وغيره علل بهذه الثانية أيضا وإن كان منهم من قد يعلل بالأولى وقد قال تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا} [نوح / 23 - 24] ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح فلما

ص: 372

ماتوا عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وقد ذكر هذا البخاري في (صحيحه) وأهل التفسير كابن جرير وغيره)

(الثاني: المساجد المبنية على القبور لما في الصلاة فيها من التشبه باليهود والنصارى وقد قال صلى الله عليه وسلم فيهم:

(إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) وقال:

(ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)

الحديث الأول هو من حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال. . . فذكره

أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد وابن شيبة في (المصنف)

والحديث الثاني هو من رواية جندب بن عبد البجلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم. . . الحديث

تفرد بإخراجه مسلم دون الستة وقد نسبه الشوكاني للنسائي أيضا وكأنه يعني (سننه الكبرى) وإلا فإني لم أجده

ص: 373

في (الصغرى) له ولم ينسبه في (الذخائر) إلا لمسلم

وفي الباب عن عائشة وابن عباس معا وعن أبي هريرة وعن ابن مسعود وقد مضت أحاديثهم قريبا وعن ابن عباس أيضا بلفظ:

(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)

أخرجه الأربعة إلا ابن ماجه والحاكم والبيهقي والطيالسي وأحمد وهو بهذا اللفظ ضعيف إلا الجملة الأولى منه فهي صحيحة لمجيئها من طريق أخرى عن أبي هريرة وحسان بن ثابت وقد فصلت القول في ذلك في (التعليقات الجياد) بما لا يوجد في كتاب والحمد لله

واعلم أن الحديث الأول يفيد تحريم بناء المساجد على القبور وذلك يستلزم تحريم الصلاة فيها من باب أولى لأنه - كما لا يخفى - من قبيل النهي عن الوسيلة - وهو البناء - لكي لا تتحقق الغاية - وهي العبادة في هذا البناء الذي أقيم على معصية الله تعالى - لما يترتب من وراء ذلك من المفاسد الاعتقادية كما هو الواقع

وأما الحديث الثاني فهو أعم من الأول لأنه بلفظه يشمل الوسيلة والغاية فاتخاذ المكان مسجدا معناه الصلاة فيه (1) ومعناه البناء عليه من

(1) قال شيخ الإسلام في (الاقتضاء): وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا بل كل موضع يصلى فيه فإنه يسمى مسجدا وإن لم يكن هناك بناء كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)

ص: 374

أجل الصلاة والسجود فيه فكل منهما مستلزم للآخر كما أفاده المناوي في (الفيض) ومن المعلوم بالبداهة أن اليهود والنصارى الملعونين إنما بنوا تلك المساجد للصلاة فيها فمن صلى في مسجد فيه قبر ولو لم يقصد القبر فقد شابه أولئك المغضوب عليهم والضالين وقد نهينا عن التشبه بهم في نصوص عامة وخاصة ولذلك قال العلامة ابن الملك - وهو من علمائنا الحنفية - في شرح حديث ابن عباس المذكور آنفا:

(إنما حرم اتخاذ المساجد عليها لأن في الصلاة فيها استنانا بسنة اليهود). نقله الشيخ علي القاري في (المرقاة)

يضاف إلى ما تقدم أن الصلاة في المساجد المبنية على القبور قد تفضي بصاحبها أو بمن يقتدي به من العوام والجهال إلى تخصيص الميت ببعض العبادات الخاصة بالله تعالى كالاستغاثة والسجود كما هو واقع في أكثر المساجد المبنية على القبور وهو مشاهد فنهى عن ذلك سدا للذريعة فهو كالنهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة المكروهة تحريما بل المفسدة في تلك المساجد أوضح وأظهر منها في هذه الأوقات كما يشهد به الواقع

وهذا كله فيمن لم يقصد الصلاة في تلك المساجد وأما قصدها لأجل صاحب القبر متبركا به معتقدا أن الصلاة عنده أفضل من الصلاة في المساجد المجردة عن القبور فهو عين المشاقة والمحادة لله ولرسوله وهذه الصلاة حقيق بها قول من قال ببطلانها كما يأتي عن بعض العلماء

ص: 375

وإن مما يتعجب منه المؤمن البصير في دينه تهاون أكثر الفقهاء بهذه المسألة الخطيرة حيث إنهم لم يتعرضوا لها بذكر صريح في كتبهم وفتاويهم فيما علمت. ولذلك كان من العسير إقناع المقلدين بها على وضوح الحجة فيها وأنى لهم أن يأخذوا بها وهم أو أكثرهم يقدمون قول الإمام - بل قول بعض أتباعه ولو من المتأخرين - على قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله

ولذلك سأعنى بصورة خاصة بنقل بعض أقوال العلماء المحققين حول هذه المسألة ليعلم الواقف على كتابنا هذا أننا لم نأت بشيء من عندنا بدعة في الدين ولم نسئ فهم أحاديث سيد المرسلين بل هو الحق من ربك فلا تكونن من الممترين

وقد اعتنى بهذه المسألة عناية خاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرا فقلما ترى كتابا له لا يتعرض فيه لهذه المسألة بإسهاب أو اختصار ولذلك فسأنقل عنه ما يناسب المقام من أقواله وفتاويه مع بعض اختصار وتلخيص

قال رحمه الله في (القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة):

(واتخاذ المكان مسجدا هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها كما تبنى المساجد لذلك والمكان المتخذ مسجدا إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلاة فيها كما تقصد

ص: 376

المساجد وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصد المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به والدعاء عنده فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذلك ذريعة ينهى عنه كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات وهو أظهر قولي العلماء لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذه الأوقات فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة وفيه مفسدة توجب النهي عنه فإذا كان نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذي يدعونها ويسألونها كان معلوما أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم في نفسه أعظم تحريما من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي ذلك إلى دعاء الكواكب. كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم والسجود لهم - كان دعاؤهم والسجود لهم

ص: 377

أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد). وقال في (الاقتضاء):

(فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولأحاديث أخرى وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها واحدا وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد هل حددها ثلاثة أقبر أو ينهى عن الصلاة عن القبر الفذ وإن لم يكن عنده قبر آخر؟ على وجهين (قلت: ورجح شيخ الإسلام في كتاب آخر النهي ولو عند القبر الواحد وقد سبق ذلك ثم قال:) وقد كانت البينة التي على قبر إبراهيم عليه السلام مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة فقيل: إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في ذلك مناما فنقبت لذلك وقيل: إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك ثم ترك مسجدا بعد الفتوح المتأخرة وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية وينهون أصحابهم عن الصلاة فيها اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتقاء لمعصيته كما تقدم). ثم قال فيه:

(فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها وعن قصد الصلاة عندها وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء فإنهم قد نهو عن بناء المساجد على القبور بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص واتفقوا أيضا على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور

ولم

ص: 378

يقل أحد من المسلمين: إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبن على القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك بل وبإبطال الصلاة فيها وإن كان في هذا نزاع والمقصود هنا أن هذا ليس بواجب ولا مستحب باتفاقهم بل هو مكروه باتفاقهم). وقال في (الجواب الباهر في زوار المقابر):

(والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهي عنها مطلقا بخلاف مسجده صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة فيه بألف صلاة فإنه أسس على التقوى وكانت حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه). ثم قال:

(ومن اعتقد أنه قبل القبر لم تكن فيه فضيلة وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد لما أدخلت الحجرة فيه فهو جاهل مفرط في الجهل أو كافر مكذب لما جاء به عليه السلام مستحق للقتل)

وقد أفتى رحمه الله مرارا بكراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور فقد جاء في الفتاوى له ما نصه:

(مسألة: في المسجد إذا كان فيه قبر والناس يجتمعون فيه لصلاة الجماعة فهل تجوز الصلاة فيه أم لا؟ وهل يمهد القبر أم لا؟

(1) رسالة جامعة لما تفرق في كتبه الكثيرة مما يتعلق بهذا الموضوع وهي من مخطوطات المكتبة الظاهرية تحت رقم (129) مجموع. وما نقلناه منها في الورقة (22 و 55)

ص: 379

الجواب: اتفق الأئمة على أنه لا يبنى مسجد على قبر لأن من قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غير: إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدا فإن كان المسجد بني بعد القبر فإما أن يزال المسجد وإما أن يزال صورة القبر فالمسجد المبني على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل فإنه منهي عنه. والله أعلم)

وله فتوى أخرى نحو هذه انظرها - إن شئت - في الجزء الثاني صفحة (192)(1)

وقال الشيخ محمد يحيى الكاندهلوي الهندي الحنفي في كتابه (الكوكب الدري على جامع الترمذي) ما نصه:

(وأما اتخاذ المساجد عليها فإنما فيه من الشبه باليهود في اتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم ولما فيه من تعظيم الميت وشبه بعبدة الأصنام لو كان القبر في جانب القبلة. وكراهة كونه في جانب القبلة أكثر من كراهة

(1) وقال تلميذه المحقق ابن القيم في (زاد المعاد)(3/ 22):

(فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو ضما معا لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجدا أو أوقد عليه سراجا. فهذا دين الإسلام الذين بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى)

ص: 380

كونه يمينا أو يسارا وإن كان خلف المصلي فهو أخف كراهة من كل ذلك لكن لا يخلو عن كراهة)

وقد ذكر الحافظ في (الفتح) والعيني في (العمدة):

(أن القبر في المسجد إذا كان في جهة القبلة فإنه تزداد الكراهة)

وهذا هو الحق في المسألة حسب التفصيل الذي ذكره الهندي ومرجع ذلك إلى التشبه باليهود والنصارى في صلاتهم في المساجد المبنية على القبور والمشابهة حاصله في كل الصور التي قد ذكرها كما لا يخفى وهذا لمن لا يقصد الصلاة فيها وأما القاصد فاسمع ما نقله الفقيه ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر):

(قال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا بها عين المحادة لله ورسوله وابتداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناؤهها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة)

هذا وقد أفادت الأحاديث السابقة تحريم بناء المساجد على القبور أيضا وهي مسألة أخرى تكلمنا عليها في (التعليقات الجياد) وذكرنا فيه أقوال

ص: 381

العلماء في النهي عن ذلك ولعلنا نذكرها في (أحكام المساجد) من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى

(الثالث: معاطن الإبل ومباركها لقوله صلى الله عليه وسلم:

(إذا حضرت الصلاة فلم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل) وعلل ذلك في حديث آخر بقوله:

(فإنها خلقت من الشياطين [ألا ترون عيونها وهبابها إذا نفرت)])

الحديث الأول هو من حديث أبي هريرة

أخرجه الدارمي واللفظ له وابن ماجه والطحاوي والبيهقي وأحمد وابن حزم من طرق عن هاشم بن حسان عن محمد بن سيرين عنه

وهذا سند صحيح على شرط الشيخين

وأخرجه الترمذي من طريق أبي بكر بن عياش عن هشام به مختصرا بلفظ:

(صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل)

وهو لفظ لأحمد

ثم أخرجه الترمذي من طريق أبي بكر بن عياش أيضا عن أبي حصين عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو بنحوه. وقال:

ص: 382

(حديث غريب. ورواه إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا ولم يرفعه)

قلت: وقد ورد من الطريق الأولى أيضا موقوفا

أخرجه الإمام أحمد من طريق أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أنه قال. . . فذكره مثل لفظ أبي بكر تماما إلا أنه قال:

(أو مبارك الإبل)

وسنده صحيح أيضا على شرطهما. لكن هشام بن حسان ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين كما في (التقريب) وقد رواه عنه مرفوعا والرفع زيادة يجب قبولها كما تقرر في المصطلح ومثله يقال في الطريق الأخرى عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هر فقد رواه إسرائيل موقوفا وأبو بكر بن عياش مرفوعا وكلاهما ثقة لكن أبا بكر لما كبر ساء حفظه فذلك يمنعنا من ترجيح روايته على رواية إسرائيل وإن كان الحديث صحيحا مرفوعا من الطريق الأولى وإنما الكلام في الطريق الأخرى

وللحديث شواهد منها: عن عقبة بن عامر

أخرجه أحمد عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني - كذا في الأصل والصواب: السيباني بالسين المهملة - عن أبيه عنه مرفوعا مثل حديث أبي هريرة الموقوف

وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات غير أبي عمرو السيباني وقد وثقه

ص: 383

ابن حبان ويعقوب بن سفيان وفي (التقريب):

(مقبول)

ورواه الطبراني أيضا في (الكبير) كما في (المجمع)

ومنها: عن أسيد بن حضير

أخرجه أحمد أيضا عن حماد بن سلمة: أنبأنا الحجاج بن أرطأة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عنه به إلا أنه قال: (مبارك)

والحجاج مدلس وقد عنعنه

ومن طريق رواه الطبراني في (الأوسط) كما في (المجمع) واقتصر هو والشوكاني في عزوه إليه وهو قصور

وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم أعرفه ولم يورد الحافظ في (التعجيل) مع أنه على شرطه

وقد رواه عباد بن العوام عن الحجاج قال: ثنا عبد الله بن عبد الله مولى بنى هاشم - وكان ثقة وكان الحكم يأخذ عنه - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به

ولعل هذا الصواب. وهو إسناد حسن صرح فيه الحجاج بالتحديث

أخرجه الطحاوي

ورواة عبيدة بن حميد الضبي عن عبد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ذي الغرة قال:

ص: 384

عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسير فقال: يا رسول الله تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل فنصلي فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا) فقال: أنتوضأ من لحومها؟ قال: (نعم) قال: أفنصلي في مرابض الغنم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم) قال: أفنتوضأ من لحومها؟ قال: (لا)

أخرجه عبد الله بن أحمد في (زوائد المسند) قال: ثنا عمرو بن محمد بن بكر الناقد: ثنا عبيد بن حميد عن عبيد الضبي عن عبد الله بن عبد الله - يعني قاضي الري - به

كذا وقع في الأصل: عن عبيدة الضبي. والظاهر أن قوله: عن عبيدة. زيادة من قلم بعض النساخ ووقع في موضع آخر من (المسند) هكذا على الصواب لكن فيه تحريفات أخرى فقال عبد الله بن أحمد: ثنا أبي: ثنا عمرو بن محمد الناقد قال: ثنا عبيدة بن حميد الضبي عن عبيد الله - كذا - ابن عبد الله به

فقوله: ثنا أبي زيادة أيضا لا معنى لها فإن الناقد يروي عنه عبد الله بن أحمد مباشرة كما في الرواية الأولى وما أعلم أن أحمد يروي عنه. والله أعلم

وبالجملة فإسناد هذا الحديث صحيح رجاله رجال البخاري غير عبد الله ابن عبد الله وهو الرازي مولى بني هاشم وهو ثقة. والظاهر أن له إسنادين عن شيخه ابن أبي ليلى

وله عنه إسناد ثالث فقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق: أنا

ص: 385

سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أنصلي في أعطان الإبل؟ قال: (لا) قال: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: (نعم) قال: أفنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: (نعم) قال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: (لا). قال عبد الله بن أحمد:

(عبد الله بن عبد الله رازي وكان قاضي الري وكانت جدته مولاة لعلي أو جارية) قال عبد الله:

(قال أبي: ورواه عنه آدم وسعيد بن مسروق وكان ثقة)

قلت: وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين فالإسناد صحيح أيضا

وأخرجه الطحاوي عن عبد الله بن إدريس عن الأعمش به. وقد ورد عنه بزيادة فيه ويأتي قريبا

ومنها: عن سبرة بن معد نحو حديث أبي هريرة بلفظ: (مراح) بدل: (أعطان)

أخرجه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وأحمد من طريق عبد الله بن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني: أخبرني أبي عن أبيه مرفوعا

وهذا سند حسن وهو على شرط مسلم إلا أن عبد الملك هذا فيه كلام وقد وثقه العجلي

ومنها: عن عبد الله بن مغفل المزني وهو:

ص: 386

الحديث الثاني: أخرجه ابن ماجه والطحاوي والبيهقي وأحمد وكذا الطيالسي والروياني في (مسنده) من طرق عن الحسن البصري عنه (1) وقال في (الزوائد):

(إسناده صحيح)

وهو كما قال إلا أن الحسن البصري مدلس. لكن في (المسند) ما يشعر بأنه سمعه من عبد الله بن مغفل فقد ساق بهذا الإسناد ثلاثة أحاديث هذا آخرها واولها حديث: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها. . .) الحديث

ثم رواه في مكان آخر عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. . . فذكره. وفيه:

فقال له رجل: يا أبا سعيد ممن سمعت هذا؟ قال: فقال: حدثنيه - وحلف - عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم منذ كذا وكذا ولقد حدثنا في ذلك المجلس

فهذا يفيد بأنه سمع منه أحاديث أخرى في ذلك المجلس فالظاهر أن هذا منها. والله أعلم

والحديث روى منه النسائي النهي عن الصلاة في أعطان الإبل

(1) مرفوعا: بلفظ: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين). وقال النووي (3/ 160): (إسناده حسن). وهذا قصور ولا أدري ما منعه من تصحيحه؟ فإن كان هو ما أشرنا إليه من التدليس فذلك إن ثبت هنا يمنع الحكم عليه بالحسن فتأمل

ص: 387

وأما الزيادة التي بين المربعين فهي رواية لأحمد من طريق ابن إسحاق: ثني عبيد الله بن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي عن الحسن به بلفظ:

(لا تصلوا في عطن الإبل فإنها من الجن خلقت ألا ترون. . .) إلخ. وزاد:

(وصلوا في مراح الغنم فإنها هي أقرب من الرحمة). وفي (المجمع):

(رواه أحمد والطبراني في (الكبير) ورجال أحمد ثقات وقد صرح ابن إسحاق بقوله: ثني)

قلت: فالإسناد حسن وعبيد الله بن طلحة وإن لم يوثقه غير ابن حبان فقد روى عنه ثقتان: أحدهما صفوان بن سليم والآخر حماد بن زيد. وفي (التقريب) أنه:

(مقبول). وأما قول الشوكاني:

(إسناده صحيح)

فغير صحيح

وقد رواه البيهقي من طريق الشافعي: أنبأ إبراهيم بن محمد عن عبد الله ابن طلحة به نحوه

وللحديث شاهد من حديث البراء بن عازب قال:

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال:

ص: 388

(لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين)

وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال:

(صلوا فيها فإنها بركة)

أخرجه أبو داود والبيهقي وأحمد من طريق أبي معاوية: ثنا الأعمش عن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه

وهذا سند صحيح رجاله رجال الشيخين غير عبد الله بن عبد الله وهو ثقة. وقد رواه غير هؤلاء مختصرا كما سبق قريبا

(المعاطن): جمع معطن بفتح الميم وكسر الطاء و (الأعطان) جمع عطن بفتح العين والطاء المهملتين قال الأزهري:

(العطن هو الموضع الذي تنحى إليه الإبل إذا شربت الشربة الأولى فتبرك فيه ثم يملأ لها الحوض ثانيا فتعود من عطنها إلى الحوض لتعل وتشرب الشربة الثانية وهو العلل) قال:

(ولا تعطن الإبل عن الماء إلا في حمارة القيظ - بتخفيف الميم وتشديد الراء -) قال:

(وموضعها الذي تترك فيه على الماء يسمى عطنا ومعطنا). نقله النووي في (المجموع)

ف (المعطن) موضع خاص لبروك الجمل وعليه ف (المبرك) أعم قال ابن حزم:

ص: 389

(وكل عطن فهو مبرك وليس كل مبرك عطنا لأن العطن هو الموضع الذي تناخ فيه عند ورودها الماء فقط والمبرك أعم لأنه الموضع المتخذ لبروكها على كل حال)

والحديثان وما في معناها يدلان على تحريم الصلاة في مبارك الإبل وهو مذهب ابن حزم وروى عن أحمد أنه قال:

(من صلى في عطن إبل أعاد أبدا)

وسئل مالك عمن لم يجد إلا عطن إبل قال:

(لا يصلي فيه) قيل: فإن بسط عليه ثوبا؟ قال:

(لا أيضا)

وقال الترمذي بعد أن ساق حديث أبي هريرة:

(وعليه العمل عند أصحابنا وبه يقول أحمد وإسحاق)

قال الشوكاني:

(وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة وعلى التحريم مع وجودها وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها وقد عرفت ما قدمنا فيه ولو سملنا أن النجاسة فيه لم يصح جعلها علة لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم إذ لا قائل بالفرق بين أرواث كل من الجنسين وأبوالها كما قال العراقي. وأيضا قد قيل: إن حكمه النهي ما

ص: 390

فيها من النفور فربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطعها أو أذى يحصل له منها أو تشوش الخاطر الملهي عن الخشوع في الصلاة وبهذا علل النهي أصحاب الشافعي وأصحاب مالك وعلى هذا فيقرق بين كون الإبل في معاطنها وبين غيبتها عنها إذ يؤمن نفورها حينئذ. ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ: (لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت)

قلت: ويعكر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى البعير كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى فهذا يدل على أن النهي ليس هو لاحتمال النفور لأن هذا محتمل أيضا في هذه الصورة الجائزة اتفاقا ولذلك فإني أرى أن النهي إنما هو بخصوص المكان المعطن والمبرك - سواء كانت فيه إبل أو لا - وقت الصلاة. وكلام ابن حزم يدل على هذا قال رحمه الله:

(لا تجوز الصلاة البتة في الموضع المتخذ لبروك جمل واحد فصاعدا ولا في المتخذ عطنا لبعير واحد فصاعدا والصلاة إلى البعير جائزة وعليه فإن انقطع أن تأوي الإبل إلى ذلك المكان حتى يسقط عنه اسم عطن جازت الصلاة فيه)

فالحديث لا يفيد التفريق الذي مال إليه الشوكاني. والله تعالى أعلم

ثم ذكر الشوكاني أقوالا أخرى في بيان العلة وكلها واهية لا برهان عليها ثم قال:

ص: 391

(إذا عرفت هذا الاختلاف في العلة تبين لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم كما ذهب إليه أحمد والظاهرية. وأما الأمر بالصلاة في مرابض الغنم فأمر إباحة ليس للوجوب اتفاقا)

وسيأتي بيان هذا في محله إن شاء الله تعالى

(الرابع: الحمام للحديث السابق)

وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). وحكم الصلاة في الحمام كهو في المقبرة - أعني: التحريم - لظاهر الحديث وهو مذهب أحمد وابن حزم بل ذهبا إلى بطلان الصلاة فيه وقال في (النيل):

(وقال أبو ثور: لا يصلى في حمام على ظاهر الحديث. وإلى ذلك ذهبت الظاهرية وروي عن ابن عباس أنه قال: لا يصلين إلى حش ولا في حمام ولا في مقبرة. قال ابن حزم: ما نعلم لابن عباس في هذا مخالفا في الصحابة وروينا مثل ذلك عن نافع بن جبير بن مطعم وإبراهيم النخعي وخيثمة والعلاء بن زياد عن أبيه. قال ابن حزم: ولا تحل الصلاة في حمام سواء في ذلك مبدأ بابه على جميع حدوده ولا على سطحه وسقف مستوقده وأعالي حيطانه خربا كان أو قائما فإن سقط من بنائه شيء يسقط عنه اسم حمام جازت الصلاة في أرضه حينئذ. انتهى. وذهب الجمهور إلى صحة الصلاة في الحمام مع الطهارة وتكون مكروهة وتمسكوا بعمومات نحو حديث: (أينما أدركت الصلاة فصل) وحملوا النهي على حمام متنجس

ص: 392

والحق ما قاله الأولون لأن أحاديث المقبرة والحمام مخصصة لذلك العموم)

وقد اختلفوا في حكمة النهي عن الصلاة في الحمام فقيل: لأنه تكثر فيه النجاسات وقيل: لأنه مأوى الشياطين قال النووي:

(وهو الأصح). والله أعلم

(الخامس: كل موضع يأوي إليه الشيطان كأماكن الفسق والفجور وكالكنائس والبيع ونحو ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم حين نزلوا في سفرهم وناموا عن صلاة الصبح:

(ليأخذ كل رجل برأس رحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان) فلم يصل فيه)

الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: عرسنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم. . . فذكره. قال: ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة

أخرجه مسلم والبيهقي

وقد روى هذه القصة مفصلا أبو قتادة وغيره من الصحابة لكن ليس فيها موضع الشاهد منه وقد تقدمت في (المواقيت)

قال النووي في (المجموع):

(الصلاة في مأوى الشيطان مكروهة بالاتفاق وذلك مثل مواضع الخمر والحانة ومواضع المكوس ونحوها من المعاصي الفاحشة والكنائس والبيع

ص: 393

والحشوش ونحو ذلك فإن صلى في شيء من ذلك ولم يماس نجاسة بدنه ولا ثوبه صحت صلاته مع الكراهة) ثم قال:

(واعلم أن بطون الأودية لا تكره فيها الصلاة كما لا تكره في غيرها وأما قول الغزالي: تكره الصلاة في بطن الوادي. فباطل أنكروه عليه وإنما كره الشافعي رحمه الله الصلاة في الوداي الذي نام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة لا في كل واد وقد قال بعض العلماء: لا تكره الصلاة في ذلك الوادي أيضاح لأنا لا نتحقق بقاء ذلك الشيطان والله أعلم. ويستحب أن لا يصلي في موضع حضره فيه الشيطان لهذا الحديث)

قلت: الحديث بظاهره يفيد ما هو أعلى من الاستحباب - أعني الوجوب - لأمره عليه الصلاة والسلام إياهم بالخروج فإذا كان هناك من يقول به فهو قولنا والله أعلم. وقال:

(وتكره الصلاة في الكنيسة والبيعة حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس ومالك رضي الله عنه

وقد روى البخاري تعليقا عن عمر أنه قال:

إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها والصور. وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل. وهذا أوصله البغوي في (الجعديات) وزاد فيه: فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر

وأما قول عمر فوصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: لما قدم الشام صنع له رجل من النصارى طعاما - وكان من عظمائهم - وقال: أحب أن

ص: 394

تجيئني وتكرمني فقاله له عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها - يعني التماثيل -. اه من (الفتح)

ثم حكى النووي عن بعض العلماء الترخيص في الصلاة في الكنيسة والبيعة ولعل ذلك فيما إذا كانت خالية عن الصور والتماثيل كما يفيده أثر ابن عباس وإلا فهو على إطلاقه بعيد عن الصواب لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صوره كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى محا ما فيها من الصور ثم هي بمنزلة المسجد المبني على القبر كما قال شيخ الإسلام في (الفتاوى) للحديث السابق: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك فقد صلى الصحابة في الكنيسة والله أعلم وقال في (الاختيارات):

(والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة المصورة فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك)

(السادس: الأرض المغصوبة لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا. . .} [النور / 27 - 28])

ص: 395

فنهى الله سبحانه المؤمنين عن مجرد الدخول بدون إذن وحرم ذلك عليهم فتحريم غصب الدار أو الأرض واللبث فيها أولى وتحريم الصلاة فيها أولى وأولى ولذلك كانت الصلاة في الأرض المغصوبة حراما بالإجماع كما نقله النووي. وإنما اختلفوا في صحة الصلاة فيها فالجمهور على أنها صحيحة وقال أحمد وابن حزم في (المحلى) و (الأحكام في أصول الأحكام)

(إنها باطلة)

والأقرب إلى الصواب ما ذهب إليه الجمهور لأن المنع لا يختص بالصلاة فلا يمنع صحتها. والله تعالى أعلم

(السابع: مسجد الضرار الذي بقرب قباء وكل مسجد بني ضرارا وتفريقا بين المسلمين لقوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل} إلى قوله: {لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة / 107 - 108])

قال علماء التفسير ما ملخصه:

(إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم. فصلى فيه عليه الصلاة والسلام فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى

ص: 396

في مسجد إخواننا ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام (1). فأتوه صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة - وغنما أرادوا بذلك الاحتجاج بصلاته فيه على تقريره وإثباته فعصمه الله من الصلاة فيه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم إن شاء الله) فلما انصرف من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار فدعا النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة فقال: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه) فخرجوا مسرعين فأحرقوا المسجد وهدموه)

وفي الآية دلالة على أنه لا تجوز الصلاة في مسجد الضرار وما في معناه من المساجد وقد ذهب إلى هذا المالكية وغيرهم ونص ابن حزم في (المحلى) بقوله تعالى في الآية: {لا تقم فيه أبدا} قال:

(فصح أنه ليس موضع صلاة)

(1) رجل من الخزرج كان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم وتمرد ولما فرغ الناس من أحد ورأى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يكون مرصدا له إذا قدم عليهم

ص: 397

قلت: والآية وإن كانت خاصة في مسجد الضرار فليس هو مقصودا بذاته كما لا يخفى بل المقصود الأوصاف التي وصف بها من الضرار والتفريق فكل مسجد وجدت فيه هذه الأوصاف أو بعضها كان له حكم مسجد الضرار ولذلك قال القرطبي في (تفسيره):

(قال علماؤنا: وكل مسجد بني ضرارا أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه). وقال أيضا:

(قال علماؤنا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد ويجب هدمه والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة ويجب منع الثاني ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجدبني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد فقال: لا أحب أن أصلي فيه لأنه بني على ضرار)

(الثامن: مواضع الخسف والعذاب فإنه لا يجوز دخولها مطلقا إلا مع البكاء والخوف من الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام [لما مر بالحجر]: (لا تدخلوا البيوت على هؤلاء القوم الذي عذبوا [أصحاب الحجر] إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فإني أخاف أن يصيبكم

ص: 398

مثل ما أصابهم) [ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه [بردائه وهو على الرحل] وأسرع السير حتى أجاز الوادي])

الحديث هو من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وله عنه ثلاثة طرق:

الأول: عن عبد الله بن دينار واللفظ المرفوع من كلامه عليه السلام هو له

أخرجه البخاري ومسلم وأحمد - والسياق له - في رواية والبيهقي من طرق عنه. وبعض أسانيده عند أحمد ثلاثي

وفي رواية للبخاري من طريق سليمان - وهو ابن بلال - عن عبد الله بن دينار بلفظ:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها فقالوا: قد عجنا منها واستقينا. فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين وهرقوا ذلك الماء

الثاني: عن نافع بلفظ:

نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستسقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كان تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا قال: (إني أخشى أن

ص: 399

يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم)

أخرجه أحمد: ثنا عبد الصمد: ثنا صخر - يعني ابن جويرية - عنه

وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجاه من طريق عبيد الله عن نافع به نحوه دون قولهم: ونهاهم. . . إلخ. وقال البخاري:

(تابعه أسامة عن نافع)

الثالث: عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به نحو حديث ابن دينار

أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي وأحمد من طريق الزهري عنه. وفيه الزيادة الأولى عند الجميع والأخرى عند البخاري والبيهقي إلا قوله: (بردائه وهو على الرحل) في رواية لأحمد وكذا البخاري في رواية

ففي الحديث النهي عن الدخول في أماكن المعذبين والمقام بها إلا باكيا قال البيهقي:

(فدخل في ذلك المقام للصلاة وغيرها)

وقد جاء في ذلك حديث صريح إلا أنه متكلم فيه أخرجه أبو داود وعنه البيهقي من طريقين ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري:

أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر

ص: 400

فلما برز فيها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال:

إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في ارض بابل فإنها ملعونة

ثم أخرجه عنهما أيضا عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري به بمعناه. قال الخطابي:

(في إسناد هذا الحديث مقال) وقال الحافظ في (الفتح):

(في إسناده ضعف)

قلت: ولعل علته الانقطاع بين أبي صالح - واسمه سعيد بن عبد الرحمن - وبين علي رضي الله عنه. فقد قال ابن يونس:

(روايته عن علي مرسلة)

ورجاله موثقون

وقد ورد موقوفا على علي فقال البخاري:

(ويذكر أن عليا رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل). وقال الحافظ:

(وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي الملح - وهو بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام - قال: كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه أي: تعداه ومن طريق أخرى عن علي قال: ما كنت لأصلي في أرض خسف الله بها). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الاقتضاء) بعد أن ساق حديث علي المرفوع من طريق أبي داود:

ص: 401

(وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أوضح من هذا عن علي رضي الله عنه نحو من هذا: أنه كره الصلاة بأرض بابل وأرض الخسف أو نحو ذلك. وكره الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه وقوله: نهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة. يقضي أن لا يصلي في أرض ملعونة والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب دخل في ذلك الصلاة وغيرها ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار: {لا تقم فيه أبدا} فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} [التوبة / 109] وقد روي أنه لما هدم خرج منه دخان)

والرواية التي عزاها لأحمد لعلها في مسائل عبد الله عنه أو غيرها فإني لم أجدها في (المسند) ثم قال شيخ الإسلام في (الاختيارات):

(ومقتضى كلام الآمدي وأبي الوفاء بن عقيل أنه لا تصح الصلاة في أرض الخسف وهو قوي ونص أحمد: لا يصلي فيها)

وأقول: إننا لم نجد دليلا على بطلان الصلاة وحديث النهي عن دخول أرض العذاب ليس خاصا بالصلاة حتى يقال بأنها باطلة فيها. وكذلك حديث علي لو صح لا يدل على البطلان ولذلك قال البيهقي بعد أن ساقه:

(وهذا النهي عن الصلاة فيها - إن ثبت مرفوعا - ليس لمعنى يرجع إلى

ص: 402

الصلاة فلو صلى فيها لم يعد وإنما هو - والله أعلم - كما ثنا. . .) ثم ساق حديث ابن عمر من طريق ابن دينار وفيه الإشارة إلى علة النهي وهو قوله عليه الصلاة والسلام:

(فإني أخاف أن يصيبكم مثل ما أصابهم)

نعم ظاهر النهي يفيد تحريم الصلاة فيها لكن قال الخطابي في (المعالم):

(ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل)

(التاسع: المكان المرتفع يقف فيه الإمام وهو أعلى من مكان المأمومين فلا يجوز له أن يصلي فيه فقد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه - يعني: أسفل منه -)

الحديث من رواية أبي مسعود البدري قال: (نهى. . . .) إلخ

أخرجه الدارقطني من طريق زياد بن عبد الله بن الطفل عن الأعمش عن إبرايم عن همام عنه. وقال:

(لم يروه غير زياد الكباء ولم يروه غير همام فيما نعلم)

قلت: ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم أيضا أتم منه عن همام قال: صلى حذيفة بالناس بالمدائن فتقدم فوق دكان فأخذ أبو مسعود بمجامع ثيابه فمده فرجع فلما قضى الصلاة قال له أبو مسعود: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 403

صلى الله عليه وسلم نهى أن يقوم الإمام فوق ويبقى الناس خلفه؟ قال: فلم ترني أجبتك حين مددتني؟

وإسناده حسن ورجاله ثقات

وفي زيادة بن عبد الله كلام من جهة حفظه وهو صالح كما قال ابن أبي حاتم عن أبيه وقد ذكر له هذا الحديث. وقد قال في (التقريب):

(صدوق ثبت في المغازي وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين)

قلت: لكنه لم يتفرد به فقد أخرجه أبو داود والحاكم أيضا من طريق يعلى بن عبيد: ثنا الأعمش به نحو رواية الحاكم الأولى إلا أنه قال:

ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟

وهذا له حكم المرفوع كما تقرر في المصطلح فهو بمعنى رواية زياد في الصريحة في الرفع ثم قال الحاكم:

(صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي

وهو كما قالا وصححه ابن خزيمة أيضا وابن حبان كما في (التلخيص) وكذلك صححه النووي في (المجموع) وعزاه للشافعي والبيهقي أيضا

ثم أخرجه أبو داود من طريق أخرى بنحوه بلفظ:

(إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم)

ص: 404

وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر والذي جبذه حذيفة. قال الحافظ:

(لكن فيه مجهول والأول أقوى)

والحديث دليل على تحريم وقوف الإمام في المكان المرتفع وقد اختلف العلماء في ذلك فقال النووي رحمه الله في (المجموع):

(قال أصحابنا: يكره أن يكون موضع الإمام أو المأموم أعلى من موضع الآخر فإن احتيج إليه لتعليمهم أفعال الصلاة أو ليبلغ المأموم القوم تكبيرات الإمام ونحو ذلك استحب الارتفاع لتحصيل هذا المقصود. هذا مذهبنا وهو رواية عن أبي حنيفة وعنه رواية أنه يكره الارتفاع مطلقا وبه قال مالك والأوزاعي وحكى الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي أنه قال: تبطل الصلاة)

قلت: ولعل مستنده في ذلك أن النهي الوارد خاص بالصلاة وذلك يفيد البطلان والله أعلم. وكان اللائق أن يكون هذا القول مذهبا لابن حزم ولكنه - على العكس من ذلك - ذهب إلى جوازه محتجا بحديث سهل بن سعد الآتي ولا دليل فيه كما يأتي بيان ذلك وضعف حديث ابن مسعود المذكور حيث قال:

(وهو خبر ساقط انفرد به زياد بن عبد الله البكائي وهو ضعيف). كذا قال وليس هو بهذه المنزلة في الضعف بحيث يقطع بضعفه ثم هو لم يتفرد به كما سبق بيانه

هذا وقد روى الطبري في (الكبير) عن عبد الله بن مسعود أنه كره أن

ص: 405

يؤمهم على المكان المرتفع. قال في (المجمع):

(ورجاله رجال الصحيح)

وقد ذهب بعضهم إلى أن المنهي عنه إنما هو إذا كان ارتفاع المكان قدر قامة وزيادة بشرط أن يكون في المسجد وعكس ذلك جائز عندهم ولا دليل على هذا التفصيل في السنة إنما هو مجرد رأي بل كل مكان يصح أن يقال فيه لغة وعرفا: إنه أرفع من مكان المؤتمين فهو منهي عنه

ولذلك قال الشوكاني بعد أن حكى أقوال العلماء في الفرق المشار إليه:

(والحاصل من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وغيره وبين القامة ودونها وفوقها لقول ابن مسعود: إنهم كانوا ينهون عن ذلك وقول ابن مسعود: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) الحديث) ثم قال:

(وأما ارتفاع المؤتم فإن كان مفرطا بحيث يكون فوق ثلاثمائة ذراع على وجه لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام فهو ممنوع للإجماع من غير فرق بين المسجد وغيره وإن كان دون ذلك المقدار فالأصل الجواز حتى يقوم دليل المنع ويعضد هذا الأصل فعل أبي هريرة المذكور ولم ينكر عليه)

قلت: أثر أبي هريرة المشار إليه علقه البخاري في (صحيحه) ووصله ابن أبي شيبة من طريق صالح مولى التوأمة قال: صليت مع أبي هريرة فوق المسجد بصلاة الإمام. قال الحافظ:

ص: 406

(وصالح فيه ضعف لكنه رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة فاعتضد)

وأخرجه أيضا الشافعي والبيهقي كما في (النيل)

وأقول أيضا: المؤتم إذا كان يصلي في مكان مرتفع فإما أن يكون ذلك لضرورة كضيق المكان أو غير ذلك وإما أن يكون لغير ضرورة فإن كان الأول فلا كلام فالضرورات تبيح المحظورات وإن كان الآخر وترتب منه قطع الصفوف والانفراد عن الصف - كما يفعله كثير من الناس المؤذنين وغيرهم والذين يصلون على السدة وأمامهم فراغ يتسع لصفوف كثير - فهو ممنوع غير جائز كما سيأتي بيانه في تسوية الصفوف

إن شاء الله

فإطلاق الشوكاني الجواز مع العلم بأنه غالبا يقترن مع الأمر المذكور ما أشرنا إليه من المحذور لا يخفى ما فيه ما فيه فتأمل

(غير أنه يستثنى من ذلك ما إذا ما إذا كان الوقوف في هذا المكان لتظهر أفعال الإمام وحركاته في الصلاة للمؤتمين ليتعلموا ذلك منه فإنه جائز بل مستحب لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مرة على المنبر (فكبر وكبر الناس وراءه وعلا على المنبر [ثم ركع وهو عليه] ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من صلاته ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إني إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)

هو من حديث سهل بن سعد قال:

ص: 407

(صحيح) أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة: انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها فعمل هذه الثلاثة درجات ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر. . . الحديث

أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد عنه والسياق لمسلم والزيادة التي بين القوسين للبخاري وغيره

والحديث واضح الدلالة لما ذكرنا لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي). وقد استدل لذلك الشافعية وغيرهم

وأما الاستدلال به على جواز ارتفاع مكان مطلقا كما استدل به الدارمي فقال بعد أن ساق الحديث:

(في ذلك رخصة للإمام أن يكون أرفع من أصحابه)

وكما صنع ابن حزم حيث قال:

(لا بيان أبين من هذا في جواز صلاة الإمام في مكان أرفع من مكان المأمومين)

وحكى البخاري عن شيخه علي بن عبد الله المديني عن أحمد بن حنبل أنه قال:

ص: 408

(فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث)

فهذا استدلال غريب من هؤلاء الأئمة لا يكاد عجبي ينتهي منه فكيف يستدلون به على الجواز مطلقا مع أنه مقيد بالتعليم بنص منه عليه الصلاة والسلام؟ وهل هذا إلا كمن يستدل به على جواز الصعود على المنبر والنزول منه في أثناء الصلاة مطلقا بدون قصد التعليم؟ وهل يقول بهذا عاقل؟ فسبحان من خص الأنبياء وحدهم بالعصمة. ولذلك قال الحافظ في (الفتح):

(وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل وقد صرح بذلك المصنف في حكاية عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل ولابن دقيق العيد في ذلك بحث فإنه قال: من أراد أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم لأن اللفظ لا يتناوله ولانفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره فلا بد منه)

فرحم الله ابن دقيق العيد فلقد كان دقيق النظر في الاستدلال منصفا في البحث لا تأخذه في الله لومة لائم

(العاشر: المكان بين السواري يصف فيه المؤتمون. قال عبد الحميد بن محمود:

(حسن صحيح) صلينا خلف أمير من الأمراء فأضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين [فجعل أنس بن مالك يتأخر] فلما صلينا قال أنس: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)

الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وأحمد عن سفيان الثوري عن

ص: 409

يحيى بن هاني بن عروة المرادي عن عبد الحميد به. والسياق للترمذي وقال:

(حديث حسن صحيح)

وما بين القوسين للنسائي وللحاكم المعنى وقال:

(صحيح). ووافقه الذهبي

وهو كما قالا. وصححه الحافظ أيضا في (الفتح)

وله شاهد من حديث هارون بن مسلم عن قتادة بن معاوية بن قرة عن أبيه قال: (صحيح الإسناد)(كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا)

أخرجه ابن ماجه والحاكم والطيالسي وقال الحاكم:

(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي

وهو عندي حسن فإن رجاله كلهم ثقات غير هارون بن مسلم فقال أبو حاتم:

(مجهول)

وذكره ابن حبان في (الثقات) وفي (التقريب) أنه:

(مستور). وقال الذهبي في الميزان بعد أن ذكر قول أبي حاتم إنه مجهول:

ص: 410

(قلت: روى عنه أبو داود والطيالسي وسلم بن قتيبة وعمر بن سنان)

قلت: فأشار بهذا إلى أنه معروف برواية هؤلاء الثقات عنه غير أن عمر ابن سنان لم أجد له ترجمة. وقد قال الشوكاني بعد أن تكلم عليه وعلى حديث أنس الذي قبله:

(ويشهد له ما أخرجه الحاكم وصححه من حديث أنس بلفظ:

(كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها وقال: لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف).)

قلت: وهو بهذا اللفظ غريب ولم أجده في (المستدرك) وقد أورده فيه من حديثه في موضعين كما سبقت الإشارة إلى ذلك بغير هذا اللفظ ثم إن كلام الشوكاني يفيد أنه حديث آخر غير حديث أنس الذي تكلم عليه سابقا. والله أعلم

ثم قال الشوكاني:

(والحديثان المذكوران في الباب يدلان على كراهة الصلاة بين السواري وظاهر حديث معاوية بن قرة عن أبيه وحديث أنس الذي ذكره الحاكم أن ذلك محرم والعلة في الكراهة ما قاله أبو بكر ابن العربي من أن ذلك إما لانقطاع الصف أو لأنه موضع جمع النعال. قال ابن سيد الناس: والأول أشبه لأن الثاني محدث. قال القرطبي: روي أن سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين. وقد ذهب إلى كراهة الصلاة بين السواري بعض أهل

ص: 411

العلم. قال الترمذي: وكره قوم من أهل العلم أن يصف بين السواري وبه قال أحمد وإسحاق وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك. انتهى

وبالكراهة قال النخعي وروى سعيد بن منصور في (سننه) النهي عن ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة. قال ابن سيد الناس: ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة. ورخص فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن المنذر قياسا على الإمام والمنفرد. قال ابن العربي: ولا خلاف في جوازه عند الضيق وأما عنده السعة فهو مكروه للجماعة فأما الواحد فلا بأس به وقد صلى صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين سواريها. انتهى. وفيه أن حديث أنس المذكور في الباب إنما وردفي حال الضيق لقوله: فاضطرنا الناس. ويمكن أن يقال: إن الضرورة المشار إليها في الحديث لم تبلغ قدر الضرورة التي يرتفع الحرج معها. وحديث قرة ليس فيه إلا ذكر النهي عن الصف بين السواري ولم يقل: كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ففيه دليل على التفرقة بين الجماعة والمنفرد ولكن حديث أنس الذي ذكره الحاكم فيه النهي عن مطلق الصلاة فيحمل المطلق على المقيد ويدل على ذلك صلاته صلى الله عليه وسلم بين الساريتين فيكون النهي على هذا مختصا بصلاة المؤتمين بين السواري دون صلاة الإمام والمنفرد وهذا احسن ما يقال. وما تقدم من قياس المؤتمين على الإمام والمنفرد فاسد الاعتبار لمصادمته لأحاديث الباب) ا. هـ كلام الشوكاني ببعض اختصار

وهو حق كله لا غبار عليه غير أن قوله: (إن حديث أنس عند الحاكم

ص: 412

فيه النهي عن مطلق الصلاة) ليس بظاهر عندي أنه مطلق بل هو مقيد بصلاة الجماعة كحديث معاوية بن قرة بدليل قوله: (لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف) فهذا عندي كالتفسير للنهي المذكور قبله والله أعلم. فإذا صح هذا وصح حديث أنس بهذه الزيادة فيكون فيها الإشارة إلى علة النهي وهي قطع الصفوف ولذلك أمر بإتمامها في الحديث نفسه والله أعلم

وقد صرح الإمام أحمد بهذا فقال أبو داود في (مسائله):

(سمعت أحمد سئل عن الصلاة بين الأساطين؟ قال: إنما كره لأنه يقطع الصف فإذا تباعد بينهما فأرجو)

ولذلك أقول: إنه ينبغي لمن أراد أن يبني مسجدا أو جامعا أن يأمر المهندس بأن يضع له خارطة تكون فيه السواري قليلة ما أمكن تقليلا للمفسدة التي تترتب على وجودها في المساجد من قطع الصفوف وتضييق المكان على المصلين وإنه لمن الممكن اليوم بناء المسجد بدون أية سارية بواسطة الشمنتو والحديد (الباطون) إذا لم يكن المسجد واسعا جدا وقد بنيت في دمشق عدة مساجد على هذه المثال كمسجد (لالا باشا) في شارع بغداد وجامع المرابط في المهاجرين وغيرهما فالصفوف فيهما متصلة كلها حاشا الصفوف الأمامية فإنها مقطوعة مع الأسف بسبب هذه البدعة التي عمت جميع المساجد تقريبا وأعني بذلك المنبر العالي الطويل ذا الدرجات الكثيرة فهو على كونه بدعة مخالفة لهديه عليه الصلاة والسلام في منبره ذي الثلاث درجات وعلى ما فيه من الزخرفة والنقوش والإسراف وتضييع

ص: 413

المال (1) - فهو بمنزلة السارية في قطع الصفوف بل إنه أضر منها لأنه يقطع صفوفا كثيرة على نسبة طوله فيجب على العلماء أن يبينوا ذلك وأن يدعوا في دروسهم ومواعظهم إلى إزالة هذه المنابر والرجوع بها إلى ما كان عليه منبره عليه الصلاة والسلام. وعلى من كان بيدهم الأمر تنفيذ ذلك تخليصا للمصلين من مفاسده

وإن من مفاسده التي لا توجد في السواري أنه يؤدي في بعض الأحيان إلى فساد الصلاة وبطلانها كما شاهدناه مرارا فكثيرا ما يتفق أن الإمام يسهو

(1) وما أحسن ما أورده الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله في كتابه (إصلاح المساجد من البدع والعوائد) حيث قال:

(قال فاضل: من الذي كان يجسر من أهل البصر في الأجيال التي كان التنافس بالغا حده في إقامة جدران المساجد والقباب وزخرفتها وبذل القناطير المقنطرة في أثاثها ورياشها؟ من الذي كان يجسر في تلك الأحيان أن يقول لأولئك المتبرعين: إنكم إنما تبنون صروحا لإيقاع العامة في أشراك البدع وتبذلون أموالكم لإحالة الدين إلى العبادات الصورية كما حصل في إشراك كل الأمم السالفة التي اعتاضت عن جمال العقيدة بجمال جدران المعابد وعن نور الإيمان بأنوار الهياكل حتى جعلوا شعائر الدين أشبه باحتفالات الولائم واقرب لاجتماعات المآدب لشدة ما تلتهي الأذهان بالنقوش والزخارف وما يشطح الفكر في التأمل في جوف المنافذ وإبداع المنابر مع أن القصد من تلك الاجتماعات كان تجريد العقل من ملهيات العالم المادي وتخليصه من فاتنات المظهر الطيني والذهاب بالروح على أجنحة ذلك الاجتماع المندمج إلى باب الرحمة القدسية لتطرقه بيد التجريد والعبودية الخالصة لترجع إلى عالمها بنور من عالم القدس يثبتها في جهادها ويقيمها على صراطها ويحميها عن فتن الدنيا ومداحضها حتى إذا أدت وظيفتها في هذه الحياة عرجت إلى عالمها بتلك القوة التي اكتسبتها ودخلت من جنان الفيض الإلهي في الحال التي أعدت لها. انتهى

ص: 414

عن التشهد الأول ويكبر قائما إلى الركعة الثالثة ويتابعه من وراءه وأما الذين وراء المنبر من الجهة اليمنى فلا علم عندهم بما طرأ على الإمام من السهو فيظنون أنه كبر على الصواب فيجلسون للتشهد بينا الإمام قائم فإذا ما كبر لركوع كبر هؤلاء للقيام فلا ينتبهون لما هم فيه من المخالفة وعدم المتابعة إلا حين يرفع الإمام رأسه من الركوع قائلا (سمع الله لمن حمده) وهنا تبدأ الرواية المضحكة المبكية فإنك ترى رجلا منهم يقطع الصلاة ويجدد البناء وآخر يحاول بزعمه إدراك الإمام ومتابعته فيقوم من التشهد ثم يقف لحظة ثم يركع ثم يرفع ثم يدرك الإمام في السجود أو فيما بعد ذلك

وقد يقع ما هو أغرب من ذلك فإنه قد يتفق أحيانا أن يفتح بعضهم على الإمام إذا هم بالقيام قبل التشهد إلى الثالثة ساهيا بقوله: (سبحان الله) فيسمع من وراء المنبر فيعلمون أن الإمام سها ولكنهم يجهلون ما صار إليه الإمام: أرجع إلى التشهد فيظلوا هم قاعدين أم كان قد استتم قائما لا يجوز له حينئذ الرجوع إلى التشهد فيبقى قائما فيقومون معه ولذلك تراهم في حيص بيص فبعضهم قاعد وبعضهم قائم وآخر قعد ثم قام ورابع على عكسه قام ثم قعد ظنا منه أن الإمام كذلك فعل كل هذه المهازل نتجت من مخالفة هديه عليه الصلاة والسلام في منبره فعسى أن يتنبه لهذا ولاة أمور المساجد فيقوموا بما يلزم عليهم من الإصلاح فيها: و {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق / 37]

ولذلك ذهب بعض العلماء من السلف إلى أن الصف الأول المقطوع بالمنبر

ص: 415

ليس هو الصف بل هو الصف المتصل بين يدي المنبر قال الغزالي في (الإحياء):

(ولا يغفل في طلب الصف الأول عن ثلاثة أمور (فذكر الأول والثاني منها ثم قال:) وثالثها: أن المنبر يقطع بعض الصفوف وإنما الصف الأول الواحد المتصل الذي في فناء المنبر وما على طرفيه مقطوع وكان الثوري يقول: الصف الأول هو الخارج بين يدي المنبر. وهو متجه لأنه متصل ولأن الجالس فيه يقابل الخطيب ويسمع منه ولا يبعد أن يقال: الأقرب إلى القبلة هو الصف الأول ولا يراعى هذا المعنى)

وبهذا جزم النووي في (المجموع) حيث قال:

(واعلم أن المراد بالصف الأول الذي يلي الإمام سواء تخلله منبر ومقصورة وأعمدة وغيرها أم لا)

وأيا ما كان فالصلاة وراء المنبر لا تخلو عن كراهة لتعرض الصلاة فيه للفساد والبطلان فإما أن يصلي في الصف الذي في الجهة الأخرى من المنبر حيث لا تخفى عليه حركات الإمام وإما أن يصلي في الصف الآخر وكذلك نفعل نحن إن شاء الله فلا نصلي بين السواري بل نتأخر عنها أو نتقدم كما فعل أنس بن مالك ولا فرق عندنا بين ذلك وبين الصلاة وراء المنبر لأن العلة واحدة ولأن في هذه الصلاة من التعرض لفسادها ما ليس في الصلاة بين السواري كما سبق. والله تعالى أعم

ص: 416

(7 - وما سوى هذه المواضع العشر فالصلاة فيها جائزة بدون أدنى كراهة وقد جاء النص على بعضها فوجب بيانها وهي:

أولا: المكان الذي أصابته نجاسة ثم ذهب أثرها بالجفاف فقد (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك) مع العلم بأنهم كانوا يقومون فيه للصلاة وغيرها)

الحديث من رواية ابن عمر رضي الله عنه

أخرجه البخاري وأبو داود والسياق له والبيهقي من طريق يونس عن ابن شهاب: ثنى حمزة بن عبد الله بن عمر قال: قال ابن عمر: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شابا عزبا وكانت الكلاب. . . الحديث

وهو عند البخاري معلق حيث قال: وقال أحمد بن شبيب: ثنا أبي عن يونس به. وليس في بعض النسخ لفظة: تبول

لكن عند البيهقي موصولا عن أحمد بن شبيب هذا

وقد تابعه عن الزهري صالح بن أبي الخضر لكنه خالفه في الإسناد فقال: عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه به

أخرجه أحمد

وصالح بن أبي الأخضر ضعيف من قبل حفظه لا سيما إذا خالف الثقة كما هنا

ص: 417

والحديث استدل به أبو داود على ما ذكرنا حيث قال:

(باب في طهور الأرض إذا يبست). ثم ذكر الحديث

قال ابن القيم رحمه الله في (الإغاثة):

(وقد نص أحمد على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس ثم تجففه الشمس فينشر عليه الثوب الطاهر فقال: لا بأس به. وهذا كقول أبي حنيفة: إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس. وهو وجه لأصحاب أحمد حتى إنه يجوز التيمم بها وحديث ابن عمر رضي الله عنه كالنص في ذلك)

قلت: فذكره ثم قال:

(وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس)

وقال الشيخ علي القاري في (الموضوعات) بعد أن ذكر الحديث:

(فلولا اعتبار أنها تطهر بالجفاف كان ذلك بقية لها بوصف النجاسة مع العلم بأنهم يقومون عليها في الصلاة ألبتة لصغر المسجد وكثرة المصلين فيكون هذا بمنزلة الإجماع في مقام تحقيق النزاع)

وقد سبق زيادة بسط للمسألة في تطهير النجاسات

(ثانيا: مرابض الغنم فقد (سئل عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقالوا: صلوا فيها فإنها بركة)

الحديث صحيح الإسناد وهو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه

ص: 418

وقد تقدم بتمامه مع الكلام عليه تخريجا وتصحيحا في النهي عن الصلاة في مرابض الإبل

(وفي حديث آخر: (وصلوا في مراح الغنم فإنها هي أقرب إلى الرحمة)

وهذا من حديث عبد الله بن مغفل. أخرجه أحمد بسند حسن كما تقدم هناك

(وقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا في مراح الغنم وامسحوا رغامها فإنها من دواب الجنة)

وهذا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وله عنه ثلاثة طرق:

الأول: عن يعقوب بن كاسب: ثنا ابن أبي حازم عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عنه مرفوعا به

أخرجه البيهقي

وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات غير أن يعقوب بن كاسب - وهو ابن حميد - وكثير بن زيد فيهما بعض الكلام من قبل حفظهما ولكن ذلك لا ينزل حديثهما عن رتبة الحسن لا سيما إذا لم يتفردا به. وقد قال في (التقريب):

(كثير بن زيد صدوق يخطئ ويعقوب بن حميد بن كاسب وقد نسب لجده صدوق ربما وهم)

ص: 419

الطريق الثاني: رواه مسلم بن إبراهيم عن سعيد بن محمد الزهري (وفي النسخة: الجوهري) عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم

ذكره البيهقي هكذا معلقا وهؤلاء كلهم ثقات رجال الستة غير سعيد ابن محمد أو الزهري أو الجوهري فلم أجد له ترجمة

الثالث: عن إبراهيم بن عيينة قال: سمعت أبا حيان يذكر عن أبي زرعة أن ابن عمرو بن جرير عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ:

(إن الغنم من دواب الجنة فامسحوا رغامها وصلوا في مرابضها)

أخرجه البيهقي

وهذا إسناد حسن أيضا رجاله ثقات غير إبراهيم بن عيينة وهو صدوق يهم كما في (التقريب) غير أن راوي هذا الحديث عنه سختويه بن مازيار لم أجد من ترجمه

والحديث أورده في (المجمع) بلفظ:

(سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مرابض الغنم؟ قال: امسح رغامها وصل في مراحها فإنها من دواب الجنة)

رواه البزار. وفيه عبد الله بن جعفر بن نجيح وهو ضعيف وقال أحمد بن عدي:

(يكتب حديثه ولا يحتج به)

ص: 420

قلت: لكنه يتقوى بما قبله من الطرق فالحديث بها صحيح ولا يضره أنه جاء موقوفا كما قال البيهقي:

(ورواه حميد بن مالك عن أبي هريرة موقوفا عليه وقيل: مرفوعا والموقوف أصح)

فإن الرفع زيادة يجب قبولها لا سيما أن الموقوف في معنى المرفوع ههنا لأنه لا يقال بمجرد الرأي لأنه لا يجوز لأحد أن يقول: دابة كذا من دواب الجنة. إلا بنص من المعصوم كما هو ظاهر لا يخفى

هذا وفي الصلاة في مرابض الغنم أحاديث أخرى سبق ذكرها فيما تقدمت الإشارة إليه

قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان):

(ومن ذلك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة حيث كان وفي أي مكان اتفق سوى ما نهى عنه) قال:

(وكان يصلي في مرابض الغنم وأمر بذلك ولم يشترط حائلا. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي فإنه قال: أكره ذلك إلا إذا كان سليما من أبعارها)

ثم ذكر ابن القيم حديث أبي هريرة وابن مغفل وأشار إلى بعض ما أشرنا إليه ثم قال:

(فأين هذا الهدي من فعل من لا يصلي إلا على سجادة تفرش فوق البساط

ص: 421

فوق الحصير ويضع عليها المنديل ولا يمشي على الحصير ولا على البساط بلى يمشي عليها نقرا كالعصفور؟ فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود: لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنتم على شعبة من ضلالة) ا. هـ باختصار

واعلم أن الأمر بالصلاة في مرابض الغنم في هذه الأحاديث إنما هو للإباحة لا للوجوب. قال العراقي:

(اتفاقا وإنما نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين فأجاب في الإبل بالمنع وفي الغنم بالإذن وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ: (فإنها بركة) فهو إنما ذكر لقصد تبعيدها عن حكم الإبل كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة ووصف أصحاب الغنم بالسكينة) ذكره الشوكاني

وإنما قلنا بجواز الصلاة في غير المواضع التي سبق ذكرها لعدم ورود النهي عنها أو لعدم صحته كالصلاة في قارعة الطريق وفوق ظهر الكعبة وفي بطن الوادي ونحوها ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركتها) فهذا عام يجب التمسك به في كل مكان إلا ما خص منه مما سبق ذكره. وبالله تعالى التوفيق

(ثالثا: جوف الكعبة تطوعا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح (صلى في [جوف] الكعبة [ركعتين] بين الساريتين [وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع])

ص: 422

ثم إن الحديث وإن كان ورد في النافلة فالظاهر أن الفريضة مثلها في هذا الجواز لاستواء أحكام الفرائض والنوافل وجوبا وتحريما وإباحة إلا ما استثناه الشارع ولا استثناء هنا)

الحديث هو من رواية ابن عمر رضي الله عنه

أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وابن ماجه والطحاوي والبيهقي والطيالسي وأحمد من طرق كثيرة مطولا ومختصرا عن نافع عنه قال:

قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة وأرسل إلى عثمان بن طلحة فجاء بالمفتاح ففتح الباب قال: ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وأمر بالباب فأغلق فلبثوا فيه مليا ثم فتح الباب فقال عبد الله: فبادرت الناس فتلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا وبلال على إثره فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قلت: أين؟ قال: بين العمودين تلقاء وجهه. قال: ونسيت أن أسأله كم صلى

والسياق لمسلم. وهو عند الترمذي مختصرا جدا عنده إلا الصلاة وفيه الزيادة الأولى. وهي عند مسلم أيضا من طريق أخرى عن ابن شهاب: أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه نحوه

ص: 423

وهذه الطريق عند البخاري والنسائي أيضا والطحاوي والبيهقي - وعزاه للبخاري - وأحمد وكذا الدارمي

والزيادة الأخيرة عند أبي داود والنسائي والطحاوي وأحمد والبيهقي من الطريق الأولى بسند صحيح على شرط الشيخين وللبخاري معناه

وأما الزيادة الوسطى فهي من طريق أخرى عن ابن عمر. أخرجه البخاري والنسائي والبيهقي وأحمد من طرق عن سفيان بن سليمان قال: سمعت مجاهدا قال: أتي ابن عمر - وهو في منزله - فقيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد دخل الكعبة قال: فأقبلت فأجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج وأجد بلالا قائما بين البابين فقلت: يا بلال هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم ركع ركعتين بين هاتين الساريتين وأشار له بين الساريتين اللتين على يسارك إذا دخلت قال: ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين

والسياق لأحمد

وقد تابعه على هذه الزيادة: (ركعتين) ليث وهون ابن أبي سليم وخصيف كلاهما عن مجاهد

أخرجهما أحمد

ولم ينفرد بها مجاهد عن ابن عمر بل تابعه عبد الله بن أبي مليكة عند النسائي وأحمد وإسناده صحيح. وعمرو بن دينار أيضا مختصرا

ص: 424

عند أحمد وسنده صحيح أيضا على شرط الستة

وكذلك رواه الطحاوي

وللحديث شواهد منها:

عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين

أخرجه أبو داود والطحاوي والبيهقي وأحمد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عنه

ويزيد هذا هو الهاشمي وهو ضعيف لسوء حفظه

لكن الحديث أورده الحافظ في (الفتح) بلفظ:

(قال: فلما خرج عليه الصلاة والسلام سألت من كان معه فقالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى. أخرجه الطبراني بإسناد صحيح)

فالظاهر أنه عند الطبراني من غير طريق يزيد هذا وإلا لما صححه الحافظ وهو القائل في ترجمته من (التقريب):

(ضعيف كبر فتغير وصار يتلقن)

ومن طريقه رواه الطحاوي أيضا بنحو رواية الطبراني

ومنها عن شيبة بن عثمان يرويه عنه عبد الرحمن بن الرجاج قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان إن ابن عباس يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 425

دخل الكعبة فلم يصل؟ قال: بلى صلى ركعتين عند العمودين المقدمين ثم ألزق بهما ظهره

أخرجه الطحاوي من طريق عبد الله بن مسلم بن هرمز عنه

وعبد الله هذا ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وغيرهما

وأما عبد الرحمن بن الرجاج فلم أعرفه وقد أورده في (المجمع) بنحوه وقال:

(رواه الطبراني في (الكبير) وفيه عبد الرحمن بن الزجاج - كذا بالزاي وفي الطحاوي بالراء - ولم أجد من ترجمه)

قلت: ولعل الحافظ العسقلاني عرفه فقد قال:

(أخرجه الطبراني بإسناد جيد)

لكن يشكل عليه أنه من طريق ابن هرمز وقد ضعفه هو في (التقريب) بيد أنه يحتمل أن يكون الطبراني رواه من غير طريقه. والله أعلم

ومنها عن عثمان بن طلحة:

أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى ركعتين وجاهك حين تدخل بين الساريتين

أخرجه الطحاوي وأحمد والطبراني في (الكبير) من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنه

وهذا سند قوي كما قال الحافظ ورجاله رجال مسلم

ص: 426

وروى منه الطيالسي الصلاة في الكعبة من هذا الوجه. وعنه البيهقي وقال:

(فيه إرسال بين عروة وعثمان). وتعقبه ابن التركماني بقوله:

(قلت: عروة سمع أباه الزبير وحديثه عنه مخرج في (صحيح البخاري) في مواضع والزبير أقدم موتا من عثمان بن طلحة فلا مانع من سماع عروة من عثمان وعلى أن صاحب (الكمال) صرح بسماعه منه)

ومنها عن جابر قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت يوم الفتح فصلى فيه ركعتين. أخرجه الطحاوي من طريق أبي الزبير عنه

ورجاله ثقات لكن أبو الزبير مدلس وقد عنعنه

هذا وقد استشكل قول ابن عمر في الروايات السابقة عنه عن بلال أنه قال: نعم صلى ركعتين. مع قوله في الرواية الأولى من طريق نافع عنه: ونسيت أن أسأله كم صلى

وقد أجاب عن ذلك البيهقي وغيره بأنه (يحتمل أن يكون ابن عمر أخبر عن اقل ما يكون صلاة وسكت عما زاد عليهما لأنه لم يسأل بلالا)

فعلى هذا فقوله: ركعتين. من كلام ابن عمر لا من كلام بلال وهو بعيد كما ترى ومع ذلك فقد قال الحافظ بعد أن ذكر نحو هذا الجمع:

(وقد وجدت ما يؤيد هذا ويستفاد منه جمع آخر بين الحديثين وهو ما أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة من طريق عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع

ص: 427

عن ابن عمر في هذا الحديث: (فاستقبلني بلال فقلت: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ههنا؟ فأشار بيده أي صلى ركعتين بالسبابة والوسطى) فعلى هذا يحتمل قوله: نسيت أن أسأله كم صلى. على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا وإنما استفاد منه صلاة الركعتين بإشارته لا بنطقه)

قلت: وهذا أقرب من الجمع الأول

ثم إن الحافظ قد أبعد النجعة حيث عزا حديث ابن أبي رواد لابن شبة مع أنه في (المسند) باللفظ المذكور تماما

هذا ولحديث ابن عمر طرق أخرى مختصرا عند الطيالسي وأحمد والبيهقي والطحاوي بلفظ:

(صلى في البيت). زاد في رواية:

(وسيأتي من ينهاكم عنه فتسمعون منه. قال - يعني ابن عباس -. زاد أحمد:

(قال: وكان ابن عباس جالسا قريبا منه)

وسنده صحيح على شرط مسلم وهو من طريق شعبة عن سماك الحنفي: سمعت ابن عمر به

ورواه سعد عن سماك قال: سمعت ابن عباس يقول: لا تجعل شيئا من البيت خلفك وأتم به جميعا. وسمعت ابن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه

ص: 428

وسنده صحيح أيضا على شرطه

وقول ابن عباس هذا رواه الطبراني أيضا بلفظ:

ما أحب أن أصلي في الكعبة من صلى فيها فقد ترك شيئا خلفه ولكن حدثني أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخلها خر بين العمودين ساجدا ثم قعد فدعا ولم يصل. قال في (المجمع):

(رواه الطبراني في (الكبير) وفيه ابن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس)

قلت: وقد صح عن ابن عباس أنه كان ينفي كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وهو لم يشاهد ذلك وإنما كان يروي ذلك تارة عن أخيه الفضل كما في هذه الرواية وكذلك هي في (المسند) وغيره من طرق أخرى. وتارة يرويه عن أسامة بن زيد كما في مسلم وغيره ولعله يأتي حديثه في استقبال القبلة إن شاء الله تعالى

لكن العلماء أخذوا برواية بلال ومن معه من الأصحاب لأنها زيادة ثقة ولأنه مثبت والمثبت مقدم على النافي كما هي القاعدة في مثل هذا الاختلاف. ومعنى قول أسامة: لم يصل: لم أره صلى. فهو لم يعلم ذلك وأولئك علموا ومن علم حجة على من لم يعلم

ولذلك ذهب الجمهور إلى جواز الصلاة في البيت الفرض والنفل وبه قال أبو حنيفة والثوري وجمهور العلماء كما قال النووي في (المجموع) وقال الترمذي:

ص: 429

(حديث بلال حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم لا يرون بالصلاة في الكعبة بأسا وقال مالك بن أنس: لا بأس بالصلاة النافلة في الكعبة وكره أن تصلى المكتوبة في الكعبة وقال الشافعي: لا بأس أن تصلى المكتوبة والتطوع في الكعبة لأن حكم النافلة والمكتوبة في الطهارة والقبلة سواء)

وهذا الذي قاله الشافعي هو الحق إن شاء الله تعالى لأن الحديث وإن كان قد ورد في النافلة فالظاهر أن الفريضة مثلها في هذا الجواز لاستواء أحكام النوافل مع أحكام الفرائض وجوبا وتحريما وإباحة إلا ما استثناه الشارع ولا استثناء هنا

ولوضوح هذا الذي قاله الشافعي ذهب إليه ابن حزم وهو من هو في ظاهريته فقد قال: في (المحلى) ردا على أتباع مالك ما نصه:

(ما قال أحد قط: إن صلاته المذكورة صلى الله عليه وسلم كانت إلى غير القبلة وقد نص عليه الصلاة والسلام على أن الأرض كلها مسجد وباطن الكعبة أطيب الأرض وأفضلها فهي أفضل المساجد وأولاها بصلاة الفرض والنافلة ولا يجوز لغيرالراكب أو الخائف أو المريض أن يصلي نافلة إلى غير القبلة والتفريق بين الفرض والنافلة بلا قرآن ولا سنة ولا إجماع خطأ. وبالله تعالى التوفيق)

ومع وضوح هذا وظهوره فقد خالف فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث اختار ما ذهب إليه مالك رحمه الله فقال في (الاختيارات):

ص: 430

(ولا تصح الفريضة في الكعبة بل النافلة وهو ظاهر مذهب أحمد وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت فإنها كانت تطوعا فلا يلحق الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت ركعتين ثم قال: هذه القبلة. فيشبه - والله أعلم - أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقيب الصلاة خاج البيت بيانا لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كان في الفرض لأجل أنه صلى التطوع في البيت وإلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد لهذا الكلام من فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع محل الشبهة وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بمعنى ما سمع)

قلت: ابن عباس الذي روى الحديث لم يفهم هذا المعنى بهذا التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ من صلاة النافلة في الكعبة دون الفريضة فإنه نفى أن يكون عليه الصلاة والسلام قد صلى مطلقا في البيت حيث قال: ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة. ثم إنه رضي الله عنه لم يسمع هذا الكلام منه عليه الصلاة والسلام مباشرة كما يشير إليه كلام الشيخ وإنما أخذه عن أسامة أو غيره من الصحابة كما سبق ذكره وحينئذ فهو وغيره سواء ممن لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم

ثم إن كلام الشيخ يفيد جواز استقبال بعض بنية الكعبة في النافلة وأما في الفريضة فلا بد من استقبالها كلها وليت شعري كيف يمكن استقبالها كلها عمليا فإنه من البديهي أن مستقبل الكعبة من خارجها إنما يستقبل

ص: 431

منها ما هو على سمته أمامه ثم يبقى أكثرها من عن يمينه ويساره غير مستقبلها؟ وحينئذ ما الفرق بين هذا وبين الصلاة داخلها وهو في كلا الحالين إنما يستقبل بعضها. ولذلك قال ابن حزم رحمه الله:

(واحتج أتباع مالك بأن قالوا: إن من صلى داخل الكعبة فقد استدبر بعض الكعبة (قال:) إنما قال الله عز وجل: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 150] فلو كان ما ذكره المالكيون حجة لما حل لأحد أن يصلي في المسجد الحرام لأنه هو القبلة بنص كلام الله تعالى في القرآن وكل من يصلي فيه فلا بد له من أن يستدبر بعضه فظهر فساد هذا القول. وأيضا فإن كل من صلى إلى المسجد الحرام أو إلى الكعبة فلا بد له من أن يترك بعضها عن يمينه وبعضها عن شماله ولا فرق عند أحد من أهل العلم في أنه لا فرق بين استدبار القبلة في الصلاة وبين أن يجعلها عن يمينه أو عن شماله فصح أنه لم يكلفنا الله عز وجل قط مراعاة هذا وإنما كلفنا أن نقابل بأوجهنا ما قابلنا من جدار الكعبة أو من جدار المسجد قبالة الكعبة حيثما كنا فقط)

وأما قول الشيخ رحمه الله: (فلا بد لهذا الكلام من فائدة) فهو حق لكن ليس من الظاهر من هذا الكلام ما فهمه شيخ الإسلام من الفرق بين النافلة والفريضة في الاستقبال وكأنه لذلك لم يذهب إليه أحد من الشراح فقد ذكر الحافظ في المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: (هذه القبلة) أربعة أقوال للعلماء ليس فيها هذا الذي ذهب إليه الشيخ وسيأتي

ص: 432

ذكرها إن شاء الله تعالى فيما سبقت الإشارة إليه

ذلك ويدل لجواز الصلاة أيضا هذا الحديث الآتي:

(وقالت عائشة رضي الله عنها:

(كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر وقال: إن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا في بنائها فأخرجوا الحجر من البيت فإذا أردت أن تصلي في البيت فصل في الحجر فإنما هو قطعة منه)

الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي أيضا والطحاوي - والسياق له - وأحمد من طريق علقمة بن أبي علقمة عن أمه عنها. وقال الترمذي:

(حسن صحيح)

قلت: وأم علقمة هذه اسمها مرجانة وهي مشهورة وفي (التقريب):

(إنها مقبولة)

وقد تابعتها صفية بنت شيبة وهي ثقة مشهورة من رجال الشيخين

أخرجه النسائي والطيالسي مختصرا بلفظ:

قلت: يا رسول الله ألا دخلت البيت؟ قال: (ادخلي الحجر فإنه من البيت)

وإسناده صحيح على شرطهما

ص: 433

وله طريق أخرى عنها يرويه عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن عائشة نحو الأول

أخرجه البيهقي وأحمد ورجاله ثقات إلا أن عطاء كان قد اختلط

(وقال عليه الصلاة والسلام لعثمان بن طلحة: (إن كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي)

أخرجه أبو داود والطحاوي وأحمد عن سفيان قال: ثني منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة أم منصور قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة قال. . . فذكره

وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم وليس عند الطحاوي: عن خاله مسافع. فالحديث عنده عن منصور بن صفية عن صفية بنت شيبة قالت

وقد رواه عن منصور أخوه محمد بن عبد الرحمن فجعل بعض الحديث عن منصور عن أمه مباشرة وبعضه عن منصور عن مسافع عن أم منصور

أخرجه الإمام أحمد فقال: ثنا علي بن إسحاق قال: أنا عبد الله قال: أنا محمد بن عبد الرحمن عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه عن

ص: 434

أم عثمان بنت سفيان وهي أم بني شيبة الأكابر - قال محمد بن عبد الرحمن:

وقد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا شيبة ففتح فلما دخل البيت ورجع وفرغ ورجع شيبة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أجب. فأتاه فقال: إني رأيت في البيت قرنا فغيبه قال منصور: فحدثني عبد الله بن مسافع عن أمي عن أم عثمان بنت أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في الحديث: فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يلهي المصلين

ومحمد بن عبد الرحمن ذكره ابن حبان في (الثقات) وقال الحافظ في (التقريب):

(إنه ضعيف)

قلت: وقد خالف سفيان في عدة مواضع من هذا الحديث:

أولا: جعل الحديث بعضه عن منصور عن أمه وبعضه عنه عن عبد الله ابن مسافع عن أمه

ثانيا: سمى الواسطة بين منصور وبين أمه عبد الله بن مسافع وقال سفيان: مسافع بن شيبة قال: سمى صحابي الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيبة وسماه سفيان: عثمان بن طلحة والصواب رواية سفيان وهي تدل على ضعف محمد بن عبد الرحمن هذا. والله أعلم

والحديثان يدلان على ما دل عليه الحديث السابق من جواز الصلاة في جوف الكعبة:

ص: 435

أما الأول منهما فمن حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة رضي الله عنها على محبتها الصلاة فيه إلا أنه عليه الصلاة والسلام أمرها أن تصلي في الحجر وعلل ذلك بأنه من البيت فدل على جواز الصلاة في البيت كله وفيه الحجر ولعله عليه الصلاة والسلام إنما أمرها أن تصلي فيه دون جوف الكعبة وقتئذ لأن الحجر أفضى لها وأبعد عن مخالطة الرجال

وأما الثاني فقد أشار عليه الصلاة والسلام فيه إلى جواز الصلاة فيه حيث أمر بإزالة ما يشغل المصلي فيه عن الخشوع

وقد استدل بالحديثين على ما ذكرنا من الجواز الطحاوي رحمه الله ونقل القول به عن أبي حنيفة وصاحبيه وهو مذهب الجمهور كما سبق بل ذهب الشافعية إلى أن التنفل في الكعبة أفضل من خارجها وكذا الفرض إن لم يرج جماعة وأمكن الجماعة الحاضرين الصلاة فيها فإن لم يمكن فخارجها أفضل قال الشافعي:

(لا موضع أفضل ولا أطهر للصلاة من الكعبة). كذا ذكره النووي في (المجموع) ثم قال فيه:

(فإن قيل: كيف جزمتم بأن الصلاة في الكعبة أفضل من خارجها مع أنه مختلف بين العلماء في صحتها والخروج من الخلاف مستحب؟ فالجواب أنا إنما نستحب الخروج من خلاف محترم وهو الخلاف في مسألة اجتهادية أما إذا كان الخلاف مخالفا سنة صحيحة كما في هذه المسألة فلا حرمة له ولا

ص: 436

يستحب الخروج منه لأن صاحبه لم تبلغه هذه السنة وإن بلغته وخالفها فهو محجوج بها. والله أعلم). وهذا كلام حق يجب حفظه فإن كثيرا من المشايخ يتساهلون في كثير من السنن لمجرد أن فيها خلافا من بعض العلماء وقد ذكر ابن القيم في (الزاد) نحو ما نقلناه عن النووي ونص كلامه في ذلك:

(الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين السنة فإذا تبينت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها فإن كان تركها لأجل الاختلاف احتياطا فترك ما خالفها واتباعها أحوط وأحوط فالاحتياط نوعان: احتياط للخروج من خلاف العلماء واحتياط للخروج من خلاف السنة. ولا يخفى رجحان أحدهما على الآخر)

(8 - وتجوز الصلاة على ما يفرش على الأرض من بساط ونحوه مما يجوز القعود عليه وكان طاهرا فقد (كان عليه الصلاة والسلام يصلي على الخمرة)

ثبت هذا الحديث عن جمع من الصحابة:

(1)

ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وله عنها طريقان:

أخرج الأول: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجه والبيهقي والطيالسي وأحمد وعن سليمان الشيبان عن عبد الله بن شداد عنها

ص: 437

وأخرج الطريق الآخر: أحمد وكذا النسائي بنحوه

(2)

عبد الله بن عباس:

أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي والطيالسي وأحمد عن عكرمة عنه وهو لفظ الحاكم: بساط. بدل: الخمرة

وهو رواية لأحمد والبيهقي وكذلك رواه ابن ماجه وكذا البيهقي من طريق زمعة بن صالح عن عمرو بن دينارعن ابن عباس. وقال الترمذي:

(حسن صحيح)

(3)

عائشة:

أخرجه الطيالسي وأحمد من طريق حماد ابن سملة عن الأرزق بن قيس عن ذكوان عنها

وهذا سند صحيح رجاله رجال الصحيح

وله طريق أخرى في (المسند) عن عروة عنها وهو صحيح أيضا على شرط الستة

(4)

أنس بن مالك: وله عنه طريقان:

الأول: عن قتادة عنه

أخرجه الطبراني في (الصغير)

ص: 438

والأخر: عن أنس بن سيرين عنه

أخرجه البيهقي

(5)

أم سليم:

أخرجه أحمد والبيهقي عن عفان قال: ثنا وهيب قال: ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك عنها

وهذا إسناد صحيح على شرط الستة

(6)

أم سلمة:

أخرجه أحمد أيضا: ثنا عفان: ثنا وهيب قال: ثنا خالد عن أبي قلابة عن بعض ولد أم سلمة عنها

وإسناده كالذي قبله لولا هذا البعض الذي لم يسم لكن أورده الهيثمي في (المجمع) فقال:

(رواه أبو يعلى والطبراني في (الكبير) و (الأوسط) ورجال الأول رجال الصحيح)

فلعله جاء مسمى عند أبي يعلى. والله أعلم

(7)

ابن عمر:

أخرجه أحمد عن شريك عن أبي إسحاق عن البهي عنه ثم أخرجه من وجه آخر عن شريك به إلا أنه قال:

ص: 439

(عن عائشة أو عن ابن عمر. شك شريك)

وشريك سيئ الحفظ

(8)

أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم:

رواه الطبراني في (الكبير) وأبو يعلى. ورجاله رجال (الصحيح)

(9)

جابر بن عبد الله:

عند البزار

وفيه الحجاج بن أرطأة وفيه اختلاف كما في (المجمع)

واعلم أن (الخمرة) بضم الخاء المعجمة وسكون الميم: هي مقدار ما يضع الرجل وجهه في سجوده من حصير أو نسيج خوص ونحوه من النبات ولا تكن خمرة إلا في هذا المقدار وسميت خمرة لأن خيوطها مستورة لبعضها. كذا قال ابن الأثير في (النهاية). وفي (الفتح):

(وقال الخطابي: هي السجادة يسجد عليها المصلي. ثم ذكر حديث ابن عباس في الفأرة التي جرت الفتيلة حتى ألقتها على الخمرة التي كان صلى الله عليه وسلم قاعدا عليها. ففي هذا تصريح بإطلاق الخمرة على ما زاد على قدر الوجه)

قلت: حديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والحاكم من طريق عمرو بن طلحة قال: ثنا أسباط عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس به وتتمته:

ص: 440

فاحترقت منها مثل موضع درهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على مثل هذا فتحرقكم)

وهذا سند جيد وقال الحاكم:

(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي

(وعلى الحصير)

فيه أحاديث:

(1)

عن أنس بن مالك وله عنه طرق وألفاظ:

الأول: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حصير

أخرجه هكذا مختصرا الدارمي وأحمد وهو في (الصحيحين) وغيرهما مطولا ويأتي فيما بعد

الثاني: عن شعبة عن أنس بن سيرين قال: سمعت أنس بن مالك قال: قال رجل من الأنصار: إني لا أستطيع الصلاة معك - وكان رجلا ضخما - فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فدعاه إلى منزله فبسط له حصيرا ونضح طرف الحصير وصلى عليه ركعتين. . . الحديث

أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد

ص: 441

وأخرجه الطيالسي من هذا الوجه مختصرا بلفظ:

صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين على حصير

الثالث: عن ثابت عنه مختصرا دون قوله: ركعتين

أخرجه الطبراني في (الصغير)

(2)

عن أبي سعيد الخدري:

أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي على حصير يسجد عليه

رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والبيهقي وأحمد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عنه

وقوله: (يسجد عليه). تفرد به مسلم وأحمد

(3)

عن المغيرة بن شعبة بلفظ:

كان يصلي على الحصير والفروة المدبوغة (1)

(1) أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من طريق يونس ابن الحارث عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن أبيه عنه. وقال الحاكم:

(صحيح على شرط الشيخين) وقال الذهبي:

(على شرط مسلم)

وهو وهم فإن يونس بن الحارث وعبيد الله الثقفي ليسا من رجال الشيخين. ثم إن الأول منهما ضعيف والآخر مجهول أشار ابن حبان إلى أن حديثه عن المغيرة منقطع كما في (التقريب) والحديث أخرجه أحمد من هذا الوجه بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أو يستحب أن يصلي على فروة مدبوغة

ص: 442

(4)

عن عائشة بلفظ: كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل فثاب إليه ناس فصلوا وراءه

أخرجه البخاري عن المقبري عن أبي سلمة عنها

وذكره الحافظ في (الفتح) بلفظ:

كان له حصير يبسطه ويصلي عليه

ولعله ذكره بالمعنى أو أنه راوية للبخاري

وأما ما رواه أبو يعلى عن شريح أنه سأل عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير فإني سمعت في كتاب الله: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} [الإسراء: 8]؟ قالت: لم يكن يصلي عليه

ففي ثبوته نظر وإن قال الهيثمي:

(رجاله موثقون). وقال شيخه العراقي:

(رجاله ثقات)

فإن هذا لا يستلزم صحة الإسناد كما لا يخفى على النقاد وقال الشوكاني:

(وكيفية الجمع بين حديثها هذا وسائر الأحاديث أنها إنما نفت علمها ومن علم صلاته على الحصير مقدم على النافي وأيضا فإن حديثها وإن كان رجاله ثقات فإن فيه شذوذا كما قال العراقي)

ص: 443

قلت: وهذا هو الجواب الصحيح. وأما الجواب الذي قبله فهو مبني على أن عائشة لم ترو الصلاة على الحصير وليس كذلك كما علمت

(ومرة (صلى على حصير وقد اسود من طول ما لبس)

هو من حديث أنس رضي الله عنه أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام فأكل منه ثم قال رسول الله: قوموا فلأصلي بكم) قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف

أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأحمد ثلاثتهم عن مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عنه. واللفظ للبخاري

ورواه النسائي وأحمد من طرق أخرى عن إسحاق نحوه وفيه: فسجد عليه

ورواه أيضا مختصرا وقد سبق في الحديث الأول

(و (على الفراش الذي يرقد عليه هو وأهله) و (كان من أدم حشوه ليف)

هو من حديث عائشة رضي الله عنه

أخرجه أحمد: ثنا ابن نمير قال: ثنا هشام عن أبيه عنها قالت:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بينه وبين القبلة

على الفراش

ص: 444

الذي يرقد عليه هو وأهله فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت

وهذا سند صحيح على شرط الستة

ثم أخرجه من طريق يحيى عن هشام به نحوه

وكذلك أخرجه من طريق يحيى عن هشام به نحوه

وكذلك أخرجه البخاري عن يحيى به

وقد أخرجه مسلم عن وكيع بن هشام به دون ذكر الفراش

ثم أخرجه البخاري من طريق الزهري: أخبرني عروة بن الزبير به نحو حديث ابن نمير

وللحديث طرق أخرى عن عائشة نحو رواية وكيع عن هشام. وسيأتي إن شاء الله تعالى في (السترة)

ثم روى أحمد بإسناد الأول عن عائشة قالت:

كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف

ثم أخرجه هو ومسلم والترمذي في (الشمائل) من طرق عن هشام به

وفي لفظ لأحمد:

كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يرقد عليه هو وأهله من أدم محشوا ليفا

وله عند الترمذي طريق أخرى رواه عن عبد الله بن ميمون قال: أنبأنا جعفر بن محمد عن أبيه عنها

ص: 445

وهذا سند ضعيف لضعف عبد الله بن ميمون وانقطاعه بين محمد - وهو الباقر - وبين عائشة

وروى البخاري تعليقا ووصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور كلاهما عن ابن المبارك عن حميد قال: كان أنس يصلي على فراشه

وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على جواز الصلاة والسجود على كل ما يبسط دون الأرض وقد حكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ولم يروا بالصلاة على البساط والطنفسة بأسا وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء. ففيها رد على منكره ذلك من المتقدمين كالأسود وأصحابه ووافقهم مالك فقد قال في (المدونة):

(وكان مالك يكره أن يسجد الرجل على الطنافس وبسط الشعر والثياب والأدم وكان يقولك لا بأس أن يقوم عليها ويركع عليها ويقعد عليها ولا يسجد عليها ولا يضع كفيه عليها). قال ابن حزم:

(هذا قول لا دليل على صحته والسجود واجب على سبعة أعضاء: الرجلين والركبتين واليدين والجبهة والأنف وهو يجيز وضع جميع هذه الأعضاء على ما ذكرنا حاشا الجبهة فأي فرق بين أعضاء السجود؟ ولا سبيل إلى وجود فرق بينها لا من قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول صاحب ولا من رأي له وجه)

ص: 446

ولعل مالكا ومن وافقه لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة وإلا فالقول بكراهة ما فعله عليه الصلاة والسلام مرارا وتكرارا مشكل إذ هو عليه الصلاة والسلام لا يفعل المكروه إلا للبيان في بعض الأحيان عن بعض العلماء كأن ينهى عن شيء ثم يفعله دلالة على أن النهي ليس للتحريم بل للتنزيه فأين النهي هنا؟

فالحق ما ذهب إليه الجمهور من الجواز بدون أدنى كراهة {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب / 21]

هذا وأما الصلاة في النعلين فجائزة بشرطه وقد سبق الكلام عليه في الأمر الثالث مما يجوز الصلاة فيه فراجعه

(9 - ويجب بناء المساجد في كل قرية أو محلة لا مساجد فيها وهم بحاجة إليها فقد (أمر صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور) يعني: المحال التي فيها الدور)

الحديث من رواية عائشة رضي الله عنه قالت. . . فذكرته وتمامه: وأن تنظف وتطيب

أخرجه أبو داود وعنه ابن حزم وابن ماجه كلاهما عن زائدة بن قدامة والترمذي وأحمد وعنه البيهقي كلاهما عن صالح بن عامر الزبيري وابن ماجه أيضا عن مالك بن سعيد ثلاثتهم عن هشام بن عروة عن أبيه عنها

وهذا سند صحيح على شرط الشيخين ولا يضره رواة من رواه عن هشام عن أبيه مرسلا كما أخرجه الترمذي وقال:

ص: 447

(هذا أصح من الحديث الأول)

فإن زائدة ومالك بن سعيد ثقتان حجتان احتج بهما الشيخان وغيرهما وقد وصلاه والوصل زيادة يجب قبولهاز وقد رواه موصولا ابن خزيمة أيضا في (صحيحه) كما في (الترغيب)

وللحديث شواهد منها:

عن سمرة بن جندب أنه كتب إلى ابنه: أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نصنعها في ديارنا ونصلح صنعتها ونطهرها

أخرجه أبو داود وعنه البيهقي من طريق جعفر بن سعد ابن سمرة: ثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن أبيه سمرة

وهذا سند ضعيف لضعف جعفر هذا وجهالة من فوقه

لكن له طريق أخرى يتقوى بها أخرجه أحمد من طريق بقية عن إسحاق بن ثعلبة عن مكحول بن سمرة بن جندي قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها

وهذا سند ضعيف بقية مدلس وقد عنعنه وإسحاق بن ثعلبة قال أبو حاتم:

(مجهول منكر الحديث)

ومكحول لم يسمع من سمرة كما قال الحافظ في (التعجيل)

ص: 448

وهنا وهمان وقع فيهما بعض الأجلة لا بد من التنبيه عليهما فقد ذكر الحديث بهذا اللفظ مجد الدين في (المنتقى) وقال:

(رواه أحمد والترمذي وصححه) وقال الشوكاني:

(رواه أحمد بإسناد صحيح. وكذا رواه غيره بأسانيد جيدة)

قلت: والوهم الأول عزوه للترمذي ولم نجده في (سننه) ولا ذكره النابلسي في (الذخائر)

والآخر: أن أحمد رواه بسند صحيح وليس بصحيح بل ولا حسن كيف ذلك وفيه التدليس والانقطاع والجهالة؟

نعم له شاهد قوي عند أحمد: ثنا يعقوب: ثنا أبي عن أبي إسحاق - كذا والصواب: ابن إسحاق - ثني عمرو - كذا بالواو والصواب: عمر بحذف الواو - ابن عبد الله بن عروة بن الزبير عن جده عروة عمن حدثه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصنع المساجد في دورنا وأن نصلح صنعتها ونطهرها

وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير ابن إسحاق وهو ثقة وقد صرح بالتحديث. وأما قول الهيثمي:

(رواه أحمد وإسناد صحيح)

ففيه شيء من التساهل

قوله: (الدور) قال ابن حزم:

ص: 449

هي المحلات والأرباض تقول: دار بني عبد الأشهل ودار بني النجار تريد محلة كل طائفة منهم). وقال البغوي في (شرح السنة):

(يريد المحال الذي فيها الدور ومنه قوله تعالى: {سأريكم دار الفاسقين} [الأعراف: 145] لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة: دارا ومنه الحديث: ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد). نقله الشوكاني

وقال الشيخ علي القاري في (المشكاة):

(الدور) جمع (دار): وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة والمراد: المحلات فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا أو محمول على اتخاذ بيت في الدار للصلاة كالمسجد يصلي فيه أهل البيت قاله ابن الملك والأول هو المعول وعليه العمل. ثم رأيت ابن حجر ذكر أن المراد ههنا المحلات والقبائل وحكمة أمره لأهل كل محلة ببناء مسجد فيها أنه قد يتعذر أو يشق على أهل محلة الذهاب للأخرى فيحرمون أجر المسجد وفضل إقامة الجماعة فيه فأمروا بذلك ليتيسر لأهل كل محلة العبادة في مسجدهم من غير مشقة تلحقهم. وقال البغوي: قال عطاء: لما فتح الله تعالى على عمر رضي الله عنه الأمصار أمر المسلمين ببناء المساجد وأمرهم أن لا يبنوا مسجدين يضار أحدهما الآخر ومن المضار فعل تفريق الجماعة إذا كان هناك مسجد يسعهم فإن ضاق سن توسعته أو اتخاذ مسجد يسعهم)

وقال ابن حزم بعد أن أورد حديث ابن عباس الآتي بلفظ: (ما أمرت بتشييد المساجد) قال:

ص: 450

(فلم يأمر عليه الصلاة والسلام ببناء المساجد في كل مكان وأمر ببناء المساجد في الدور فصح أن الذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام هو غير الذي أمر به فإذ ذلك كذلك فحق بناء المساجد هو كما بين صلى الله عليه وسلم بأمره وفعله وهو قال: (وعلى قدر ما بناها عليه الصلاة والسلام والدور هي المحلات. . .). مسجدهم الذي لا حرج عليهم في إجابة مؤذنه للصلوات الخمس فما زاد على ذلك أو نقص مما لم يفعله عليه الصلاة والسلام فباطل ومنكر والمنكر واجب تغييره. . .). قال: (وقد هدم ابن مسعود مسجدا بناه عمرو بن عتبة بظهر الكوفة ورده إلى مسجد الجماعة)(1)

(1) وفي كتاب (إصلاح المساجد من البدع والعوائد) للشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله (ص 103 - 104):

(قال السيوطي في كتاب (الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع): (ومن تلك المحدثات كثرة المساجد في الملحة الواحدة وذلك لما فيه من تفريق الجمع وتشتيت شمل المصلين وحل عروة الانضمام في العبادة وذهاب رونق وفرة المتعبدين وتعديد الكلمة واختلاف المشارب ومضادة حكمة مشروعية الجماعات أعني اتحاد الأصوات على أداء العبادات وعودهم على بعضهم بالمنافع والمعونات والمضارة بالمسجد القديم أو شبه المضارة أو محبة الشهرة والسمعة وصرف الأموال فيما لا ضرورة فيه)

وقال شيخ الإسلام رحمه في (تفسير سورة الإخلاص)(ص 172 - 173) بعد أن ذكر مسجد الضرار:

(ولهذا كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه ذلك ويرون العتيق أفضل من الجديد لأن العتيق أبعد عن أن يكون بني ضرارا من الجديد الذي يخاف الذي فيه وعتق المسجد بما يحمد به ولهذا قال: {ثم محلها إلى البيت العتيق} وقال: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} فإن قدمه يقتضي كثرة العبادة فيه أيضا وذلك يقتضي زيادة فضله)

ص: 451

(ولذلك لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يمكث فيها إلا قليلا من الأيام حتى بنى مسجده الشريف كما قال أنس رضي الله عنه: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أمر ببناء المسجد فارسل إلى ملأ من بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله قال: فكان فيه قبور المشركين وخرب ونخل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعل عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول [وهو ينقل اللبن:

هذا الحمال (1) لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر]

اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصارالمهاجرة

وفي رواية:

اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة)

الحديث أوردناه مختصرا فإن فيه بعد قوله: أربع عشرة ليلة:

(ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى أتى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر. . . إلخ

(1) أي محمول

ص: 452

أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والطيالسي وأحمد والبيهقي من طرق عن أبي التياح عنه به

ورواه ابن ماجه من طريق حماد بن سلمة عن أبي التياح مختصرا

وهو رواية لأحمد وللترمذي منه من طريق شعبة عنه أنه كان يصلي في مرابض الغنم

والرواية الأخرى للبخاري من حديث عائشة في حديث الهجرة بنحو حديث أنس وفيه الزيادة التي بين المربعين

(وفي بنائها فضل عظيم وأجر كبير قال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 18] وقال صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجدا لله تعالى [ولو كمفحص قطاة] [أو أصغر] [يذكر فيه اسم الله] بنى الله له في الجنة مثله)

الحديث رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه

أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي من طريق ابن وهب: أخبرني عمرو أن بكيرا حدثه أنه سمع عبيد الله الخولاني يذكر:

ص: 453

أنه سمع عثمان بن عفان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم قد أكثرتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(من بنى مسجدا - قال بكير: حسبت أنه قال: - يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)

وله طرق أخرى عن عثمان:

فأخرجه مسلم والترمذي والدارمي وابن ماجه والبيهقي أيضا وأحمد عن عبد الحميد بن جعفر: ثني أبي عن محمود بن لبيد:

أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك فأحبوا أن يدعه على هيئته فقال. . . فذكره باللفظ المذكور أعلاه دون الزيادات الثلاثة التي بين الأقواس فهي في حديث غير حديث عثمان إلا الزيادة الأولى فإنها عند ابن أبي شيبة في حديث الباب من وجه آخر عن عثمان كما في (الفتح)

وقد جاءت عن غيره أيضا فأخرجه الطبراني في (الصغير) والبيهقي من طرق عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر مرفوعا بلفظ:

(من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة)

وهذا سند صحيح

وقد رواه البزار أيضا وابن حبان في (صحيحه) كما في (الفتح)

ص: 454

و (الترغيب) ورواه الطيالسي عن قيس عن الأعمش به موقوفا. والمرفوع أصح

ثم أخرجه الطيالسي وأحمد من حديث جابر عن عمار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا مثل حديث أبي ذر وزاد: (لبيضها)

وجابر هو الجعفي ضعيف

ورواه البزار أيضا

وأما الزيادة الثانية فهي من حديث جابر مرفوعا:

(من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة)

أخرجه ابن ماجه من طريق إبراهيم بن نشيط عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي عن عطاء بن أبي رباح عنه. قال في (الزوائد):

(إسناده صحيح ورجاله ثقات)

قلت: وهم من رجال مسلم غير إبراهيم بن نشيط وهو ثقة. وقال المنذري:

(إسناده صحيح ورواه ابن خزيمة في (صحيحه)

ويشهد له حديث أنس عند الترمذي من طريق نوح بن قيس عن عبد الرحمن مولى قيس عن زياد النميري عنه بلفظ:

ص: 455

(من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا. . .) والباقي مثله

وأشار المنذري لضعفه وذلك لأن عبد الرحمن هذا مجهول

وزياد النميري - وهو ابن عبد الله - ضعيف كما في (التقريب). قال الشوكاني:

(له طرق أخرى عن أنس منها عند الطبراني ومنها عند ابن عدي وفيهما مقال)

قلت: ولعل بعضها يقوي بعضا

وأما الزيادة الثالثة: فهي من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا:

(من بنى لله مسجدا يذكر فيه اسم الله تعالى بنى الله له بيتا في الجنة)

أخرجه ابن ماجه وأحمد من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة عنه

وإسناده صحيح رجاله رجال الصحيح

ورواه ابن حبان في (صحيحه) وأعله المزي بالانقطاع بين عثمان هذا وعمر. ورده الحافظ في (التهذيب) بأنه مبني على قول الواقدي وهو وهم منه وبأنه صرح عثمان بسماعه من عمر في رواية ابن جرير الطبري في (تهذيب الآثار)

ويشهد له حديث عمرو بن عبسة مرفوعا بهذا اللفظ إلا أنه قال:

(ليذكر الله عز وجل فيه)

ص: 456

أخرجه النسائي وأحمد من طريق بقية: ثنا بحير ابن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عنه

وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات وقد صرح بقية بالتحديث

قال النووي رحمه الله:

(يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم: (مثله) أمرين:

أحدهما: أن يكون معناه: بنى الله تعالى له مثله في مسمى البيت. وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

الثاني: أن معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا)

والقول الأول هو الأظهر وقد ارتضاه الحافظ في (الفتح) والله تعالى أعلم

ثم إن مما يجب التنبه له أن هذا الفضل إنما هو لمن بنى مسجدا مبتغيا به وجه الله تعالى كما يدل لذلك قوله في الحديث: (لله). ويدل لهذا أيضا النصوص العامة من الكتاب والسنة

وأما من قصد بذلك الفخر والمباهاة والتقرب إلى الدهماء كما يفعله كثير من الأمراء والكبراء فليس فيه إلا الوزر ولذلك قال الحافظ:

(فائدة: قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص. انتهى. ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد

ص: 457

المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر بالجملة)

(ويستحب أن يباشر بناء المسجد بنفسه ما أمكنه اقتداء منه به صلى الله عليه وسلم فقد كان يبني مسجده والصحابة يناولونه الطين والحجارة وهو يقول: (ألا إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)

الحديث قطعة من حديث أنس رضي الله عنه قال:

كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار وكان فيه نخل وقبور المشركين فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ثامنوني به) فقالوا: لا نأخذ له ثمنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبنيه وهم يناولونه وهو يقول. . . إلخ

قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يبني المسجد حيث أدركته الصلاة

أخرجه ابن ماجه وأحمد عن وكيع: ثنا حماد بن سملة عن أبي التياح عنه

وهذا سند صحيح على شرط مسلم

وقد أخرجه هو والبخاري وغيرهما من طرق أخرى عن أبي التياح به مطولا لكن ليس فيه موضع الشاهد منه وقد سبق لفظه قريبا

وأخرج أحمد من طريق عمرو بن أبي عمرو عن ابن عبد الله بن حنطب عن أبي هريرة: أنهم كانوا يحملون اللبن لبناء المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم قال: فاستقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عارض لبنة على بطنه فظننت أنها قد شقت عليه قلت: ناولنيها يا رسول الله. قال:

(خذ غيرها يا

ص: 458

أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة). قال في (المجمع):

(رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)

كذا قال وهو على إطلاقه غير صحيح فإن ابن عبد الله هذا - واسمه المطلب - لم يرو له البخاري في (صحيحه) ولا مسلم. وإنما روى له الأولى في (جزء القراءة) ثم هو صدوق كثير التدليس والإرسال. وبقية رجاله ثقات رجال الستة

(وينبغي أن يلاحظ في بنائه أمور:

الأول: أن يصلح صنعته ويتقن بناءه فقد كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصنع المساجد في دورنا وأن نصلح صنعتها)

هو من حديث بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن وقد جاء مسمى في بعض الروايات وهو سمرة بن جندب كما سبق قريبا ومضى الكلام عليه وتخريج هناك

(الثاني: أن لا يشيده ويرفع بنيانه لقوله عليه الصلاة والسلام:

(ما أمرت بتشييد المساجد)

هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا وتمامه: قال ابن عباس:

(لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)

أخرجه أبو داود وعنه ابن حزم والبيهقي

ص: 459

من طريق سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن أبي فزارة عن يزيد ابن الأصم عنه به

وهذا سند صحيح على شرط مسلم وقد صححه ابن حبان كما في (بلوغ المرام) وقد أخرج البخاري تعليقا قول ابن عباس المذكور قال الحافظ:

(وإنما لم يذكر البخاري المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله)

قلت: ومن وصله جاء بزيادة فيجب قبوله إذا كانت من ثقة كما ههنا إن أبا فزارة - واسمه راشد بن كيسان - ثقة كما قال الحافظ في (التقريب) وقد احتج به مسلم

ثم إن قوله ابن عباس هذا قال القاري:

(وهو موقوف لكنه في حكم المرفوع) وقال الصنعاني:

(كأنه فهم من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل)

وقد روي مرفوعا لكن سنده ضعيف

أخرجه ابن ماجه: ثنا جبارة بن المغلس: ثنا عبد الكريم بن عبد الرحمن البجلي عن ليث عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا بلفظ:

(أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها وكما شرفت النصارى بيعها)

ص: 460

وليث - وهو ابن أبي سليم - ضعيف

وجبارة بن المغلس أشد ضعفا منه

ثم رواه ابن ماجه عن جبارة هذا عن عبد الكريم بن عبد الرحمن عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب مرفوعا في (الفتح):

(رجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المغلس ففيه مقال). وقال في ترجمته في (التقريب):

(إنه ضعيف). ولذلك قال ابن كثير:

(وفي إسناده ضعف)

قال الخطابي في (معالم السنن):

(التشييد رفع البناء وتطويله) وكذلك قال البغوي كما في (النيل) وزاد:

(ومنه قوله تعالى: {بروج مشيدة} [النساء: 78] وهي التي طول بناؤها يقال: شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه: إذا بنيته بالشيد وهو الجص وشيدته تشييدا: طولته ورفعته)

وقيل: المراد بالبروج المشيدة المجصصة قال ابن رسلان:

(والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي وفيه رد على من حمل قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن

ص: 461

ترفع} [النور / 36] على رفع بنائها وهو الحقيقة بل المراد أن تعظم فلا يذكر فيها الخنى من الأقوال وتطييبها من الأدناس والأنجاس ولا ترفع فيها الأصوات. انتهى)

ومعنى الحديث: (ما أمرت برفع بنائها ليجعل ذريعة إلى الزخرفة والتزيين الذي هو من فعل أهل الكتاب وفيه نوع توبيخ وتأنيب) قال المناوي في (الفيض). وقال الصنعاني:

(وفي قوله: ما أمرت. إشعار بأنه لا يحسن ذلك فإنه لو كان حسنا لأمره الله به)

(الثالث: أن لا يزخرفه ويزينه لأنه تضييع للمال فيما لا فائدة فيه لما فيه من إلهاء المصلي عن الخشوع الذي هو روح الصلاة ولبها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا ينبغي أن يكون في البيت (الكعبة) شيء يشغل المصلي) وقد تقدم)

الحديث قاله عليه الصلاة والسلام حينما رأى قرني الكبش - كما سبق في الصلاة في الكعبة - فماذا كان يقول عليه الصلاة والسلام لو رأى هذه النقوش والزخارف التي افتتن بها بعض أمراء المسلمين وملوكهم؟

وقد رويت أحاديث صريحة في النهي عن زخرفة المساجد ولكنها كلها لا تخلو من ضعف ولذلك آثرنا هذا الحديث الصحيح فإنه يقوم مقامها في المعنى ولا بأس من أن نسوق ما تيسر منها

ص: 462

فمنها: عن أنس مرفوعا:

(ابنوا المساجد واتخذوها جما)

أخرجه البيهقي من طريق ليث عن أيوب عنه

وليث - هو ابن سليم - ضعيف

ثم هو منقطع فقد قال ابن عبد البر كما في (زاد المعاد):

(ولم يسمع أيوب عن أنس عندهم شيئا)

ومنه تعلم أن رمز السيوطي له بالحسن ليس بحسن

وقد نقل شارحه المناوي تضعيفه عن ابن القطان ومغلطاي والذهبي

وذكر له السيوطي شاهدا من حديث ابن عباس بلفظ:

(رواه ابن أبي شيبة) ورمز لحسنه أيضا ولم يتعقبه الشارح بشيء والله أعلم

ومنها: عن ابن عمر قال: نهانا - أو نهينا - أن نصلي في مسجد مشرف

أخرجه البيهقي أيضا من طريق ليث عن مجاهد عنه

وهو ضعيف لما علمت من حال ليث. وفي (مجمع الزوائد):

(رواه الطبراني في (الكبير) ورجاله رجال الصحيح غير ليث بن أبي سليم وهو ثقة مدلس وقد عنعنه)

ص: 463

ثم روى البيهقي عن أبي عبيد أنه قال في حديث ابن عباس:

أمرنا أن نبني المساجد جما والمدائن شرفا قوله:

(جما): الجم التي لا شرف لها وكذلك البناء إذا لم يكن له شرف فهو أجم وجمعه جم)

ومنها: عن عبادة بن الصامت قال:

قالت الأنصار: إلى متى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجريد؟ فجمعوا له دنانير فأتوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نصلح هذا المسجد ونزينه؟ فقال:

(ليس لي رغبة عن أخي موسى عريش كعريش موسى)

رواه الطبراني في (الكبير) وفيه عيسى بن سنان: ضعفه أحمد وغيره ووثقه العجلي وابن حبان وابن خراش في رواية

قلت: وفي (التقريب):

(هو لين الحديث)

ومنها: عن أبي الدرداء مروفوعا:

(إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم)

أخرجه الحكيم الترمذي وكذا ابن المبارك في (الزهد) بإسناد ضعيف كما في (الفيض)

ورواه ابن أبي الدنيا في (المصاحف) عن أبي هريرة موقوفا بلفظ:

ص: 464

(إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصافحكم فعليكم الدمار). كما في (منتخب كنز العمال)

ومنها: عن عمر بن الخطاب مرفوعا:

(ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم)

وسنده ضعيف كما سبق قريبا

وقد روى البخاري تعليقا عنه أنه:

(أمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس)

قال الحافظ:

(هو طرف من قصة في ذكر تجديد المسجد النبوي)

وفي (المرقاة):

(ومر ابن مسعود بمسجد مزخرف فقال: لعن الله من فعل هذا). ولم يعزه لأحد

وبالجملة فمجموع هذه الأحاديث يدل على ثبوت نهيه عليه الصلاة والسلام عن زخرفة المساجد وقد أشار إلى ذلك في الحديث الآتي:

(وقال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد)

الحديث أخرجه النسائي والدارمي وابن ماجه

ص: 465

والبيهقي وأحمد من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس مرفوعا به

وهذا سند صحيح على شرط مسلم ولفظ النسائي:

(من أشراط الساعة أن يتباهى. . .) الحديث

وقد تابعه قتادة عن أنس

أخرجه أبو داود والطبراني في (الصغير) من طريق محمد بن عبد الله الخزاعي: ثنا حماد بن سملة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس وقتادة عن أنس مرفوعا باللفظ الأول وقال الطبراني:

(تفرد به الخزاعي)

قلت: وهو ثقة كما في (التقريب). وقال البخاري في (صحيحه):

(وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا)

قال الحافظ:

(وهذا التعليق رويناه موصولا في (مسند أبي يعلى) و (صحيح ابن خزيمة) من طريق أبي قلابة: أن أنسا قال: سمعته يقول: يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من طريق أخرى عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ الأول وعند أبي نعيم في كتاب المساجد من الوجه الذي عند ابن خزيمة: يتباهون بكثرة المساجد)

ص: 466

وفي هذا الحديث والذي قبله كراهة تزويق المساجد وتزيينها بالنقوش والحمرة والصفرة وكل ما يلهي المصلي ويشغله عن الخشوع الذي هو روح جسم العبادة كما قال الصنعاني وفوق هذا ففيه إضاعة المال بدون أية فائدة للمسجد وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من الحر والقر كما سبق عن عمر رضي الله عنه وزخرفتها ليس من ذلك في شيء ولذلك نهى عنه عمر رضي الله عنه بقوله: وإياك أن تحمر أو تصفر. قال ابن بطال:

(كأن عمر فهم ذلك من رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال: (إنها ألهتني عن صلاتني). قال الحافظ:

(ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة)

ثم ذكر الحديث المتقدم قريبا عن عمر مرفوعا بلفظ:

(ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم)

وقد روى البخاري وأبو داود وأحمد وعنه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنه:

أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره

ص: 467

عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة (الجص) وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج

قال الحافظ:

(و (الساج): نوع من الخشب معروف يؤتى به من الهند وقال ابن بطال وغيره: هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلوا في تحسينه فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم كان عثمان - والمال في زمانه أكثر - فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه كما سيأتي بعد قليل

وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة. . . وقال ابن المنير: لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة. وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال وإن كان لخشيته شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة. وفي حديث أنس علم من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع فوقع كما قال)

قال الشوكاني:

(ومن جملة ما عول عليه المجوزون للتزيين بأن السلف لم يحصل منهم

ص: 468

الإنكار على من فعل ذلك وبأنه بدعة مستسحسنة وبأنه مرغب إلى المسجد وهذه حجج لا يعول عليها من له حظ في التوفيق لا سيما مع مقابلتها للأحاديث الدالة على أن التزيين ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نوع من المباهاة المحرمة وأنه من علامات الساعة كما روي عن علي عليه السلام وأنه من صنع اليهود والنصارى وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب مخالفتهم ويرشد إليهاعموماوخصوصا. ودعوى ترك إنكار السلف ممنوعة

لأن التزيين بدعة أحدثها أهل الدول الجائرة من غير مؤاذنة لأهل العلم والفضل وأحدثوا من البدع ما لا يأتي عليه الحصر ولا ينكره أحد وسكت العلماء عنهم تقية لا رضا بل قام في وجه باطلهم جماعة من علماء الآخرة وصرخوا بين أظهرهم بنعي ذلك عليهم. ودعوى أنه بدعة مستحسنة باطلة وقد عرفناك وجه بطلانها في شرح حديث: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) في باب الصلاة في ثوب الحرير والغصب. ودعوى أنه مرغب إلى المسجد فاسدة لأن كونه داعيا إلى المسجد ومرغبا إليه لا يكون إلا لمن غرضه وغاية قصده النظر إلى تلك النقوش والزخرفة فأما من كان غرضه قصد المساجد لعبادة الله - التي لا تكون عبادة على الحقيقة إلا مع خشوع وإلا كانت كجسم بلا روح - فليست إلا شاغلة عن ذلك كما فعله صلى الله عليه وسلم في الأنبجانية التي بعث بها إلى أبي جهم وكما تقدم من هتكه للستور التي فيها نقوش وكما سيأتي في (باب تنزيه قبلة المصلي عما يلهي) وتقديم البدع المعوجة التي يحدثها الملوك توقع أهل العلم في المسالك

ص: 469

الضيقة فيتكلفون لذلك من الحجج الواهية ما لا ينفق إلا على بهيمة)

ومما يدلك على أن دعوى كون السلف لم يقع منهم الإنكار على من فعل التزيين به دعوى باطلة في الجملة: ما روى سعيد بن منور: ثنا سفيان عن [ابن] أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال: دخلت مع ابن عمر مسجدا بالجحفة فنظر إلى شرفاته فخرج إلى موضع فصلى فيه ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا - يعني الشرفات - شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر أن تكسر)

نقلته من (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية)

وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الستة غير إسماعيل هذا وهو ثقة كما في (التقريب)

وفي (المدونة) لابن القاسم:

(قال: سمعت مالكا وذكر مسجد المدينة وما عمل في قبلته من التزويق وغيره قال: كره ذلك الناس حين فعلوه وذلك يشغل الناس في صلاتهم ينظرون إليه فيلهيهم)

من أجل ذلك كره كثير من العلماء الصلاة في المساجد المزخرفة والمزينة فقال المناوي في (الفيض):

(قالت الشافعية: وتكره الصلاة في مسجد مشرف لما في (سنن البيهقي)

ص: 470

عن ابن عمر: نهانا - أو نهينا - أن نصلي في مسجد مشرف. وأخذ منه كراهتها في المزوق والمنقوش بالأولى لما فيه من شغل قلب المصلي ويحرم نقشه واتخاذ شرفات له من غلة ما وقف على عمارته أو مصالحه)

وبالغ ابن حزم فقال:

(ولا تجزئ الصلاة في مسجد أحدث مباهاة أو ضرارا على مسجد آخر إذا كان أهله يسمعون نداء المسجد الأول ولا حرج عليهم في قصده والواجب هدمه وهدم كل مسجد أحدث لينفرد فيه الناس كالرهبان أو يقصدها أهل الجهل طلبا لفضلها وليست عندها آثار لنبي من الأنبياء عليهم السلام

وفي كلامه الأخير إشارة إلى جواز قصد آثار الأنبياء للصلاة عندها وهذه مسألة اختلف فيها العلماء قديما والذي يترجح عندنا المنع من قصدها لأنه لا دليل من الكتاب والسنة على جوازه ولأنه قد يؤدي إلى الغلو وهو منهي عنه ولنهي عمر رضي الله عنه فقد روى سعيد بن منصور في (سننه): ثنا أبو معاوية: ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه قال:

خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] و {لإيلاف قريش} [قريش: 1] في الثانية فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض)

ص: 471

وهذا إسناد صحيح على شرط الستة

فقد كره رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي عيدا وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا. وهذا مذهب مالك وغيره من أهل المدينة فقد كانوا يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي في المدينة ما عدا قباء وأحدا

وتفصيل القول في هذا المقام راجعه في (اقتضاء الصراط المستيقيم)

وما رجحناه من المنع إنما هو في المواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقا وأما الأماكن التي كان عليه الصلاة والسلام يقصدها للصلاة والدعاء عندها فقصدها من أجل ذلك سنة اقتداء به عليه السلام. ثم إن ذلك المنع إذ لم يقترن به شد رحل وأما إذا اقترن به ذلك فهو ممنوع قطعا لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. . .) الحديث وسيأتي إن شاء الله تعالى

هذا وأما المحراب في المسجد فالظاهر أنه بدعة لأننا لم نقف على أي أثر يدل على أنه كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

أقول هذا وإن كان لم يخف علينا قول ابن الهمام في (الفتح):

(فإنه بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم

فإن هذا بحاجة إلى سند ومعرفة من روى ذلك من المحدثين والحفاظ المتقدمين فقد رد ذلك من هو أقعد في الحفظ من ابن الهمام فقد قال

ص: 472

السيوطي فيما نقله المناوي:

(خفي على قوم كون المحراب في المسجد بدعة وظنوا أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه ولا في زمن أحد من خلفائه بل حدث في المائة الثانية مع ثبوت النهي عن اتخاذه). ثم تعقب قول الزركشي المشهور:

(إن اتخاذه جائز لا مكروه ولم يزل عمل الناس عليه بلا نكير). بأنه:

(لا نقل في المذهب فيه وقد ثبت النهي عنه)

وكأنه يعني بالنهي الذي أشار إليه ما أخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن مغراء عن ابن أبجر عن نعيم بن أبي هند عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب -)

وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير عبد الرحمن بن مغراء وهو إنما تكلم في روايته عن الأعمش وليس هذا منها كما ترى وقد قال الذهبي في ترجمته من (الميزان):

(ما به بأس إن شاء الله تعالى وروى الكديمي أنه سمع عليا يقول: ليس بشيء تركناه لم يكن بذاك). قال ابن عدي عقيب هذا:

(هذا الذي قاله علي هو كما قال وإنما أنكر على أبي زهير - كنية ابن مغراء - أحاديث يرويها عن الأعمش لا يتابعه عليها الثقات وقال أبو زرعة: صدوق)

ص: 473

قلت: وقول أبي زرعة هذا هو الذي اعتمده الحافظ في (التقريب) فقال: (صدوق تكلم في حديثه عن الأعمش). وقال الهيثمي في (المجمع) بعد أن ساق الحديث بلفظه:

(رواه الطبارني وفيه عبد الله بن مغراء وثقه ابن حبان وغيره وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش وليس هذا منها)(1). وقال السيوطي فيما نقله المناوي:

(حديث ثابت وهو على رأي أبي زرعة ومتابعثه صحيح وعلى رأي ابن عدي حسن)

ومن ثم رمز له في (الجامع) بالحسن وتعقبه المناوي بما نقله عن الذهبي أنه قال في المذهب على البيهقي:

(قلت: هذا خبر منكر تفرد به عبد الرحمن بن مغراء وليس بحجة)

قلت: والحق أن الحديث حسن والحكم عليه بالنكارة غير ظاهر والذهبي نفسه قد قال في ابن مغراء أنه لا بأس به كما سبق آنفا وأقل ما يفيده هذا القول أن حديثه حسن إذا تفرد به والقول بأنه ليس بحجة على إطلاقه يناقض هذا الذي في (الميزان) وأما إذا قيل: إنه ليس بحجة إذا خالف فهو حق وهنا لم يخالف فكان حديثه حسنا. والله تعالى أعلم

(1) قلت: إن كان يعني بتضعيف ابن المديني له تلك الرواية التي سبق ذكرها عن الذهبي من طريق الكديمي فإنه لا يجوز الاحتجاج بها لأن الكديمي - واسمه محمد بن يونس - أحد المتروكين كما في (الميزان) بل كذبه بعضهم

ص: 474

غير أن الاستدلال بالحديث على النهي عن المحاريب المبتدعة في المساجد - كما فهم السيوطي على ما نقله المناوي عنه صراحة ويشير إليه كلامه المذكور سابقا - غير ظاهر وإن سبقه البيهقي إلى ذلك حيث أورد الحديث في (باب في كيفية بناء المساجد) قال المناوي متعقبا كلام السيوطي المشار إليه:

(أقول: وهذا بناء منه على ما فهمه من لفظ الحديث أن مراده بالمحراب ليس إلا ما هو المتعارف عليه في المسجد الآن ولا كذلك فإن الإمام الشهير المعروف بابن الأثير قد نص على أن المراد بالمحاريب في الحديث صدور المجالس قال: ومنه حديث أنس: كان يكره المحاريب. أي: لم يكن يحب أن يجلس في صدور المجالس ويرتفع على الناس. انتهى)

قلت: وفيه أن ابن الأثير لم ينص على ما ذكره المناوي فإن نص كلامه في النهاية:

(المحراب): الموضع العالي المشرف وهو صدر المجلس أيضا ومنه سمي محراب المسجد وهو صدره وأشرف موضع فيه ومنه حديث أنس. . .) إلخ كلامه الذي نقله المناوي. فأنت ترى أنه لم يتعرض لذكر الحديث الذي نحن في صدده مطلقا فكيف يقول المناوي:

(قد نص على أن المراد بالمحاريب في الحديث صدور المجالس)؟

وإنما نص على أن هذا هو المراد بالمحاريب في حديث أنس الذي أورده هو نفسه - أعني: ابن الأثير - وليس يخفى أنه لا يلزم من ورود هذا اللفظ

ص: 475

(المحاريب) في حديث أنس بمعنى صدور المجالس أن يكون هذا المعنى هو المراد من كل حديث ورد فيه هذا اللفظ ومنه هذا الحديث

لكن الذي رجح عندي كون الحديثين بمعنى واحد: هو ورود اسم الإشارة في حديث الباب: (هذه المذابح - يعني المحاريب) مما يدل على أن المشارإليه - وهي المحاريب - كانت موجودة في عهده عليه الصلاة والسلام بينما محاريب المساجد بالمعنى المصطلح عليه لم تكن في عهده عليه الصلاة والسلام باعتراف السيوطي فكيف يسوغ حينئذ حمل الحديث عليها وفيه الإشارة إليها وهي غير موجودة؟ فتعين أن المراد من المحاريب في هذا الحديث صدور المجالس كما هو المراد في حديث أنس. والله أعلم

هذا وقد روي ما يشير إلى أن المحاريب في المساجد لم تكن معروفة في عهده عليه الصلاة والسلام فقد روى الطبراني في (الأوسط) و (الكبير) عن جابر بن أسامة الجهني قال:

لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بالسوق فقلت: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالو: يريد أن يخط لقومك مسجدا قال: فأتيت وقد خط لهم مسجدا وغرز في قبلته خشبة فأقامها قبلة

قال في (المجمع):

(وفيه معاوية بن عبد الله بن حبيب ولم أجد من ترجمه)

وفي حفظي أن بعض العلماء من الذين يذهبون إلى جواز المحراب في

ص: 476

المسجد ذكر أن من فوائده الدلالة على جهة القبلة

ونحن نقول: إن ذلك إنما يحتاج إليه إذا لم يكن في المسجد منبر فإنه لا منبر فيه فلا مانع من وضع خشبة تدل على القبلة كما في هذا الحديث ذلك خير من المحاريب التي في اتخاذها تشبه بالنصارى. فقد روى البزار عن عبد الله بن مسعود أنه كره الصلاة في المحراب وقال: إنما كانت في الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب. يعني: أنه كره الصلاة في الطاق. قال في (المجمع):

(ورجاله موثقون)

قلت: ورواه سعيد بن منصور أيضا بلفظ أنه كان يكره الصلاة في الطاق وقال: إنه من الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب

وروى عن عبيد بن أبي الجعد قال:

كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المسجد - يعني الطاقات (1)

ومن الملاحظ في هذا الأثر أنه فسر المذابح في المسجد بالطاقات وهي المحاريب بالمعنى المصطلح عليه كما فسر في الحديث المذابح بالمحاريب مما يدل على أنها هي الطاقات وهذا مما يقوي ما فهمه السيوطي من الحديث لولا اسم الإشارة فيه

(1) أورده والذي قبله شيخ الإسلام في (الاقتضاء)(ص 63)

ص: 477

والمقام - بعد - بحاجة إلى تحقيق وتدقيق زيادة على ما تقدم فمن كان عنده شيء من ذلك فليكتب والله لا يضيع أجر من أحسن عملا

وقد نص على كراهة المحاريب في المساجد ابن حزم وقال:

(وروينا عن علي بن أبي طالب أنه كان يكره المحراب في المسجد وعن إبراهيم النخعي (1)

(1) أنه كان يكره أن يصلي في طاق الإمام. قال سفيان الثوري: (ونحن نكرهه). ولذلك قال الشيخ علي القاري في (المرقاة)(1/ 473) في شرح حديث أنس: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في القبلة):

(أي جدار المسجد الذي يلي القبلة وليس المراد بها المحراب الذي يسميه الناس قبلة لأن المحاريب من المحدثات بعده صلى الله عليه وسلم ومن ثم كره جمع من السلف اتخاذها والصلاة فيها. قال القضاعي: وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ عامل للوليد بن عبد الملك على المدينة لما أسس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهدمه وزاد فيه. ويسمى موقف الإمام من المسجد محرابا لأنه أشرف مجالس المسجد ومنه قيل للقصر: محراب لأنه أشرف المنازل وقيل: المحراب مجلس الملك سمي به لانفراده فيه. وكذلك محراب المسجد لانفراد الإمام فيه وقيل: سمي بذلك لأن المصلي يحارب فيه الشيطان)

وأما ما في (عون المعبود على سنن أبي داود):

(ما قاله القاري من أن المحاريب من المحدثات بعده عليه السلام فيه نظر لأن وجود المحراب في زمنه عليه السلام يثبت من بعض الروايات

أخرج البيهقي في (السنن الكبرى) عن وائل بن حجر قال:

حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهض إلى المسجد فدخل المحراب ثم رفع يديه للتكبير)

نقله الشيخ عبد الحي الكتاني في (التراتيب الإدارية) وأقره

قلت: وهذا تعقب وإقرار لا طائل تحته لأن الحديث المذكور ضعيف جدا لأن البيهقي =

ص: 478

(الرابع: أن لا يبنيه على قبر فإنه يحرم ذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت: (فلولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قوما اتخذوا قبورأنبيائهم مساجد)

الحديث الأول من حديث عائشة والآخر من حديث أبي هريرة

= أخرجه من طريق محمد بن حجر الحضرمي: حدثنا سعيد بن عبد الجبار بن وائل عن أبيه عن أمه عن وائل به

وهذا سند فيه ثلاثة علل: ضعف بعض رواته والانقطاع والشذوذ في متنه

أما الأولى فهي محمد بن حجر الحضرمي قال الذهبي في (الميزان):

(له مناكير وقال البخاري: فيه بعض النظر). وأقره الحافظ في (اللسان) ونقل عن أبي أحمد الحاكم أنه قال:

(ليس بالقوي عندهم)

قلت: وشيخه سعيد بن عبد الجبار ضعيف أيضا كما في (التقريب)

وأما الثانية فهي أن عبد الجبار بن وائل لا يعرف أنه سمع من أمه وقد قيل: إنه لم يسمع من أبويه كما في (التهذيب)

وأما الثالثة فهي أن حديث وائل رضي الله عنه في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم قد جاء في (صحيح مسلم) والسنن والمسانيد وغيرها من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة ليس في شيء منها ذكر المحراب إلا في هذه الرواية الضعيفة فدل على شذوذها. بل نكارتها

انظر الطرق المشار إليها في البيهقي (2/ 24 و 25 و 26 و 28 و 30 و 57 و 58 و 72 و 81 و 98 و 99 و 111 و 112 و 131 و 132 و 178)

ص: 479

وكلاهما صحيح. وقد سبق تخريجهما مع أحاديث أخرى وردت في الباب في (الصلاة في المساجد المبنية على القبور)

وفي هذا الأحاديث تحريم بناء المساجد على القبور فإن البناء من معاني اتخاذ المساجد على القبور كما تقدم بيانه هناك وقد جاء في بعض الروايات مصرحا بذلك بلفظ:

(صحيح)(بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)

أخرجاه

وقد ذهب إلى التحريم كثير من العلماء فقال الإمام محمد في كتابه (الآثار):

(ولا نرى أن يزاد على ما خرج منه (القبر) ونكره أن يجصص أو يطين ويجعل عنده مسجدا)

والكراهة عنده للتحريم عند الإطلاق وأما الشافعي فقال في (الأم):

(وأكره أن يبنى على القبر مسجد قال: أكره هذه للسنة والآثار وإنه كره - والله أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين - يعني يتخذ قبره مسجدا - ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده)

وفي (المجموع):

ص: 480

(واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر سواء كان الميت مشهورا بالصلاح أو غيره لعموم الأحاديث)

قلت: لكن الكراهة عندهم للتنزيه. ومن الدليل على ذلك أنهم قالوا: ويكره أن يصلي على قبر. فقال النووي:

(هكذا قالوا: (يكره) ولو قيل: يحرم لحديث أبي مرثد وغيره مما سبق لم يبعد)

فلو أن النووي رحمه الله قال مثل هذا في قول أصحابه بكراهة البناء لكان أحق وأولى لأن النهي عن البناء أشد وأرهب منه عن الصلاة إلى القبر كما لا يخفى على من وقف على الأحاديث الواردة في هذا الموضوع. ولذلك قال شيخ الإسلام في (الاقتضاء):

(فأما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه ومن العلماء من أطلق فيه لفظ الكراهة (كأنه يشير إلى الشافعي) فما أدري عنى به التنزيه أو التحريم؟ ولا ريب في القطع بتحريمه)

ثم ساق الأحاديث الواردة في هذا الباب. وقال القرطبي في (تفسيره) ما ملخصه:

(فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عن ممنوع)

ص: 481

ثم ذكر حديث عائشة الأخير ثم قال:

(قال علماؤنا (المالكية): وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد). وقال شيخ الإسلام أيضا في (تفسير سورة الإخلاص):

(قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور. ويجب هدم كل مسجد بني على قبر وإن كان الميت قد قبر في مسجد وقد طال مكثه سوي القبر حتى لا تظهر صورته فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته ولهذا كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أولا مقبرة للمشركين وفيها نخل وخرب فأمر بالقبور فنبشت وبالنخل فقطع وبالخرب فسويت فخرج عن أن يكون مقبرة فصار مسجدا. ولما كان اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها محرما لم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يكن يعرف قط مسجد على قبر)

هذا وقد يتوهم أن المحذور إنما هو اتخاذ المساجد على القبور بعدالدفن لا لو بني المسجد أولا وجعل القبر في جانبه ليدفن فيه واقف المسجد أو غيره. قال الشوكاني:

(قال العراقي: والظاهر أنه لا فرق وإنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد فهو داخل في اللعنة بل يحرم الدفن في المسجد وإن شرطوا أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدا. والله أعلم)

ص: 482

فإن قيل: فما قصة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نراه الآن في مسجده صلى الله عليه وسلم؟ قلت: الجواب في شرح مسلم للنوي حيث قال:

(قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في التعظيم والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنو على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلىالمحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ولهذا قالت في الحديث:

(ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا)

وفي ذكره الصحابة في هذه القصة نظر وإن تبعه على ذلك العيني في (العمدة) فإن ذلك لم يقع بحضور أي صحابي فقد قال ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي):

(وكان على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة وكان من آخرهم موتا جابر بن عبد الله وتوفي في خلافة عبد الملك فإنه توفي سنة

ص: 483

ثمان وسبعين والوليد تولى سنة ست وثمانين وتوفي سنة ست وتسعين فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك. وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب (أخبار المدينة) - مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياخه وعمن حدثوا عنه: أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائبا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه)

ثم ذكر ابن عبد الهادي عن شيخ الإسلام ابن تيمية:

(أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة كان قد مات عامة الصحابة ولم يبق إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ سن التمييز الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة ويقال لها: سنة الفقهاء)

وبالجملة فإنما أدخلوا قبر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مسجده لحاجة توسيعه والظاهر أنهم لم يجدوا فسحة من الجهات الأخرى ليزيدوا منها إلى المسجد وقد كان عمر وعثمان رضي الله عنهما قد زادا فيه من جهة القبلة فاضطروا إلى أخذ الزيادة من جهة الحجرات فصار بذلك قبره في

ص: 484

المسجد الشريف ولكنهم - مع حاجتهم إلى هذا العمل - قد احتاطوا للأمر حيث فصلوا القبر عن المسجد فصلا تاما بالجدر المرفوعة حسما للمحذور كما سبق ذكره عن النووي والله تعالى أعلم

(الخامس: أن يقلل فيه السواري ما أمكن وكل ما يكون سببا لقطع الصفوف لما سبق من النهي عن الصف بين السواري)

(السادس: أن يجعل فيه بابا خاصا بالنساء لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء)

الحديث أخرجه أبو داود من طريق عبد الوارث: ثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا به. قال نافع:

(فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات)

وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين. قال أبو داود:

(وقال غير عبد الوارث: قال عمر. وهذا أصح)

ثم ساقه من طريق إسماعيل عن أيوب عن نافع قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. . . بمعناه. وهو أصح

ثم روى عن بكير عن نافع أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء

وسنده صحيح أيضا

ص: 485

ثم استدركت فقلت: إنه منقطع قال أحمد بن حنبل:

(نافع عن عمر منطقع)

قلت: وهذا لا ينفي صحة حديث ابن عمر المرفوع لأن من رفعه معه زيادة علم فيجب قبولها إذا كانت من ثقة والأمر كذلك هنا فإن عبد الوارث هذا هو ابن سعيد بن ذكوان العنبري وهو ثقة كما في (التقريب)

ونهي عمر رضي الله عنه عن الدخول من باب النساء يؤيد المرفوع ولا يضعفه. والله أعلم

والحديث بوب له أبو داود ب (باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال)

(السابع: أن لا يجعل فيه خوخات وأبواب ينفذ إليه منها من حوله من ساكني البيوت لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) وفي لفظ: (باب) في الموضعين)

الحديث من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال:

(عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر وبكى فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال: فكان رسول الله هو

ص: 486

المخير وكان أبو بكر أعلمنا به

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام لا تبقين. . .) إلخ

أخرجه البخاري ومسلم والترمذي واللفظ لهما وأحمد واللفظ الآخر له وهو رواية للبخاري وقال الترمذي:

(حديث حسن صحيح)

وله شاهد من حديث ابن عباس بنحوه

أخرجه البخاري وأحمد وسيأتي لفظه في (المناهي) فقرة (12)

وفي الباب قوله عليه الصلاة والسلام:

(سدوا أبواب المسجد غير باب علي)

أخرجه أحمد من طريق أبي عوانة: ثنا ابو بلج: ثنا عمرو بن ميمون عن ابن عباس به مرفوعا

وأخرجه الترمذي من طريق شعبة عن أبي بلج به نحوه. وقال:

(حديث غريب لا نعرفه عن شعبة بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه). ثم قال:

(وأبو بلج اسمه يحيى بن سليم)

ص: 487

قلت: وهو مختلف فيه ففي الميزان:

(وثقه ابن معين وغيره ومحمد بن سعد والنسائي والدارقطني وقال أبو حاتم: صالح الحديث لا بأس به وقال البخاري: فيه نظر وقال أحمد: روى حديثا منكرا وقال ابن حبان: كان يخطئ وقال الجوزجاني: غير ثقة ومن مناكيره هذا الحديث). وقال الحافظ في (التقريب):

(صدوق ربما أخطأ)

قلت: وبقية رجال أحمد ثقات رجال الشيخين فالإسناد حسن عندي وقد قال الحافظ في (الفتح):

(رواه أحمد والنسائي ورجالهما ثقات)

وهو عند النسائي من طريق أبو عوانة كما في (البداية) وزادا:

(فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره)

وحكم الذهبي على الحديث بأنه منكر لأن أبا بلج لم يتفرد به بل له شواهد كثيرة:

منها: عن سعد بن أبي وقاص قال:

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي رضي الله عنه.

ص: 488

أخرجه أحمد من طريق عبد الله بن شريك عن عبد الله بن الرقي الكناني عنه

ورجاله ثقات غير ابن الرقيم هذا لم يرو عنه سوى ابن شريك هذا ولذلك قال الحافظ في (التقريب) والخزرجي في (الخلاصة) إنه مجهول

وأما الهيثمي فزعم أنه حسن حيث قال:

(رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في (الأوسط) وزادا:

قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي؟ قال: ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها. وإسناد أحمد حسن)

وتبعه الحافظ في (الفتح) فقال:

(وإسناده قوي ورواية الطبراني في (الأوسط) رجالها ثقات)

قلت: فتناقض الحافظ فإن قوله: (إسناده قوي) يناقض قوله في بعض رواته: إنه مجهول كما سبق. وأما طريق الطبراني ومن ذكر معه فيظهر أنها طريق أخرى عن سعد فقد ساقه الحافظ ابن كثير من طريق أبي يعلى بسند آخر فيه من لم أعرفه وغالب الظن أنه وقع في أسماء رجاله تحريف مطبعي. والله أعلم

ومنها: عن زيد بن أرقم قال:

كان لنفر من أصحاب رسول الله أبواب شارعة في المسجد فقال يوما: (سدوا هذه الأبواب إلا باب علي) قال: فتكلم في ذلك الناس قال: فقام

ص: 489

رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه. ثم قال:

(أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي وقال فيه قائلكم وإني - والله - ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت بشيء فاتبعته)

أخرجه أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا عوف عن ميمون أبي عبد الله عنه

ورجاله ثقات رجال الشيخين غير ميمون هذا وهو البصري مولى ابن سمرة وهو ضعيف كما في (التقريب) وفي (المجمع):

(وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح)

وساق له الذهبي هذا الحديث وقال:

(قال العقيلي عقبه: وقد روي من طريق أصلح من هذا وفيها لين أيضا)

وأما الحافظ في (الفتح) فقال:

(أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات)

كذا قال وقد تناقض أيضا وهو في (مستدرك الحاكم) من طريق أحمد وقال:

(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي

ومنها: عن ابن عمر قال:

ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب

ص: 490

إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد وأعطاه الراية يوم خيبر)

أخرجه أحمد عن هشام بن سعد عن عمر بن أسيد عنه

وهذا إسناد حسن كما قال الحافظ

قلت: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير هشام بن سعد فمن رجال مسلم وحده وهو صدوق له أوهام كما قال في (التقريب)

وعمر بن أسيد هو عمرو بن أبي سفيان بن أسيد كما في كتب الرجال

وفي الباب عن علي نفسه وجابر بن سمرة وابن عباس أيضا لكن أسانيدها لا تستحق الذكر فاقتصرنا على ما سبق

ولحديث ابن عمر طريق أخرى رواه الطبراني في (الأوسط) وكذا النسائي كما في (التفح) من طريق العلاء بن عرار بمهملات قال: فقلت لا بن عمر: أخبرني عن علي وعثمان. . . فذكر الحديث وفيه:

(ورجاله رجال الصحيح إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في (الموضوعات)

أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا

ص: 491

على بعض طرقه عنهم وأعله بعض من تكلم فيه من رواته وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب ابي بكر. انتهى. وأخطأ في ذلك خطأ شنيعا فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة مع أن الجمع بين القصتين ممكن)

ثم ذكر وجه الجمع بينهما وخلاصته:

(أن باب علي رضي الله عنه كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره فلذلك لم يؤمر بسده وإنهم لما سدوا الأبواب بأمره عليه الصلاة والسلام أحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلى المسجد منها فأمروا بعد ذلك بسدها). واستحسن الحافظ في هذا الجمع

قلت: وفيه نظر بين عندي لأنه على هذا لا منقبة لعلي رضي الله عنه في إبقاء بابه طالما أنه لم يكن له غيره فمن أين يدخل ويخرج؟ فهو مضطر فإذنه عليه الصلاة والسلام له يكون للضرورة ولا فرق حينئذ بينه رضي الله عنه وبين غيره إذا كان في مثل بيته مع أن الأحاديث المتقدمة تفيد أنها منقبة لعلي رضي الله عنه حتى إن ابن عمر رضي الله عنه تمنى أن تكون له هذه المنقبة كما سبق فالأقرب في الجمع ما ذكره ابن كثير رحمه الله حيث قال بعد أن ساق بعض طرق هذا الحديث:

ص: 492

(وهذا لا ينافي ما ثبت في (صيح البخاري) من أمره عليه الصلاة والسلام في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر الصديق لأن نفي هذافي حق علي كان في حال حياته لاحتياج فاطمة إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها فجعل هذا رفقا بها وأما بعد وفاته فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالناس إذ كان الخليفة عليهم بعد موته عليه الصلاة والسلام وفيه إشارة إلى خلافته)

هذا والظاهر أن أمره عليه الصلاة والسلام بسد الخوخات والأبواب هو من قبيل سد الذرائع لأن وجودها يؤدي إلى استطراق المسجد وهو منهي عنه كما يأتي في المناهي فقرة (12) ولذلك قال الحافظ في صدد ذكر ما في الحديث من الفوائد:

(وأن المساجد تصان عن التطرق إليها لغير ضرورة)

وسيأتي عن القرطبي نحوه فيما أشرنا إليه

(ويجوز بناؤها على:

(أ) متعبدات الكفار بعد كسرها وتغيير معالمها قال طلق بن علي رضي الله عنه: خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا. . . فقال: (أخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم. . . واتخذوها مسجدا)

الحديث مختصر وتمامه بعد قوله: بيعة لنا: فاستوهبناه من فضل طهوره فدعا بماء فتوضأ وتمضمض ثم صبه في إداوة وأمرنا فقال:

ص: 493

(أخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوها مسجدا)

قلنا: إن البلد بعيد والحر شديد والماء ينشف. فقال:

(مدوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيبا)

فخرجنا حتى قدمنا بلدنا فكسرنا بيعتنا ثم نضحنا مكانها واتخذناها مسجدا فنادينا فيه بالأذان قال: والراهب رجل من طيء فلما سمع الأذان قال: دعوة الحق. ثم استقبل تلعة من تلاعنا فلم نره بعد

أخرجه النسائي: أخبرنا هنادي بن السري عن ملازم قال: ثني عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي

وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات غير ملازم - وهو ابن عمر - وقيس ابن طلق وهما صدوقان كما في (التقريب) وفي قيس بن طلق خلاف لاينزل حديثه عن درجة الحسن قال الذهبي في (الميزان):

(ضعفه أحمد ويحيى في إحدى الروايتين عنه وفي رواية عثمان بن سعيد عنه: ثقة ووثقه العجلي وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا: ليس ممن تقوم به حجة قال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسنا لا صحيحا)

والحديث أخرجه ابن حبان في (صحيحه) مطولا عن أبي خليفة: ثنا مسدد بن مسرهد: ثنا ملازم به كما في (المرقاة) و (نصب الراية)

ص: 494

وأحمد عن محمد بن جابر عن عبد الله بن بدر به مختصرا

وله شاهد من حديث عبد الله بن عمير السدوسي:

أنه جاء بإدواة من عند النبي صلى الله عليه وسلم قد غسل النبي صلى الله عليه وسلم وجهه ومضمض فيه وبزق في الماء ثم غسل يده ثم ملأ الإداوة وقال:

(لا تردن ماء إلا ملأت الإدواة على ما بقي فيها فإن أتيت بلادك فرش به تلك البقعة واتخذه مسجدا) قال: فاتخذوه مسجدا قال عمر وقد صليت أنا فيه. قال الهيثمي:

(رواه الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) وعمر بن شقيق ذكره هو وأبوه ابن أبي حاتم ولم يذكر فيهما جرحا ولا غيره)

والحديث يدل على جواز اتخاذ البيع مساجد وغيرها من الكنائس ونحوها ملحق بها بالقياس قال الشوكاني:

(وكذلك فعل كثير من الصحابة حين اقتحموا البلاد جعلوا متعبداتهم متعبدات للمسليمن وغيروا محاريبها)

وفي الباب عن عثمان بن أبي العاص:

أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره ان يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم

أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي من طريق أبي همام الدلال: ثنا سعيد بن السائب عن محمد بن عبد الله بن عياض عنه

ص: 495

سكت عليه الحاكم والذهبي وقال الشوكاني:

(رجال إسناده ثقات ومحمد بن عبد الله بن عياض ذكره ابن حبان في (الثقات) وكذلك أبوهمام ثقة واسمه محمد بن محمد الدلال البصري)

قلت: ولم يصنع الشوكاني شيئا فإن ابن عياض هذا وإن ذكره ابن حبان في (الثقات) فهو على قاعدته من توثيق المجهولين ففي مثل هذا لا يليق بالمحققين أن يعتمدوا على توثيقه وحده ولذلك قال الذهبي في (الميزان):

(لا يعرف روى عنه سعيد بن السائب) وقال الحافظ في (التقريب):

(مقبول)

وكل هذا يدل على أن الرجل غير معروف مما يجعل حديثه غير صالح للاحتجاج به ولذلك أعرضنا عن ذكره في الأصل وأوردناه هنا كشاهد

ثم إن قوله: (واسمه محمد بن محمد) ليس بصواب بل هو محمد بن محبب - بفتح المهملة والموحدة الأولى كمعظم - فلا أدري أتصحف على الشوكاني نفسه أم على بعض من نسخ كتابه. ثم هو ثقة وكذلك سائر الرواة حاشا ابن عياض

(ب) قبور المشركين بعد نبشها فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما (أمر ببناء المسجد في الحائط (البستان) كان فيه قبور المشركين فأمر بها صلى الله عليه وسلم فنبشت) كما تقدم)

والحديث من رواية أنس وقد سبق ذكره بتمامه قريبا وإنما أوردنا منه هنا

ص: 496

ما يناسب المقام. قال الحافظ في (الفتح):

(وفي الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع وجواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها وجواز بناء المساجد في في أماكنها)

(ثم إن المساجد هي أحب البقاع إلى الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم:

(أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها)

الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وله تتمة:

(وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)

أخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهران مولى أبي هريرة عنه

وله شواهد منها:

عن جبير بن مطعم أن رجلا قال: يا رسول الله أي البلدان أحب إلى الله؟ واي البلدان أبغض إلى الله؟ قال: (لا أدري حتى أسال جبريل عليه السلام فأتاه جبريل فأخبره أن أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق). قال المنذري:

(رواه أحمد والبزار - واللفظ له - وأبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد). وقال الهيثمي:

ص: 497

(ورجال أحمد وأبي يعلى والبزار رجال الصحيح خلا عبد الله بن محمد ابن عقيل وهو حسن الحديث وفيه كلام)

قلت: هو عند الحاكم وأحمد من طريق زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه به دون ذكر المساجد. وقال الحاكم:

(صحيح الإسناد. وقد رواه قيس بن الربيع وعمرو بن ثابت بن أبي المقدام عن عبد الله بن محمد بن عقيل). وقال الذهبي:

(قلت: زهير ذو مناكير هذا منها وابن عقيل فيه لين)

قلت: لكن لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن لا سيما إذا توبع وزهير بن محمد لم ينفرد به كما صرح الحاكم فبرئت عهدته منه (1)

ومنها عن عبد الله بن عمرو نحوه. قال المنذري:

(رواه الطبراني (الكبير) وابن حبان في (صحيحه)

وقال الهيثمي:

(رواه الطبراني في (الكبير) وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط في آخر عمره وبقية رجاله موثقون)

(1) ولذلك قال الحافظ في (الفتح)(4/ 269): (أخرجه أحمد والبزار وصححه الحاكم وإسناده حسن)

ص: 498

قلت: وأخرجه الحاكم أيضا من طريق جرير عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر قال:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي البقاع خير؟ فقال: (لا أدري). قال: فأي البقاع شر؟ فقال: (لا أدري) فأتاه جبريل فقال: سل ربك فقال جبريل: ما نسأله عن شيء. فانتفض انتفاضة كاد أن يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم فلما صعد جبريل قال الله تعالى: سألك محمد: أي البقاع خير؟ فقلت: لا أدري وسألك أي البقاع شر؟ فقلت: لا أدري؟ قال: فقال: نعم قال: فحدثه أن خير البقاع المساجد وأن شر البقاع الأسواق. وقال الحاكم:

(صحيح). ووافقه الذهبي

وفيه ما ذكره الهيثمي في عطاء وقد ذكره الذهبي نفسه في (الميزان) عن أحمد أنه قال:

(من سمع منه (يعني عطاء) قديما فهو صحيح ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء)

وقد صرح أحمد - كما في التهذيب أو غيره - أن جريرا ممن سمع عنه حديثا. وقال ابن معين:

(اختلط وما سمع منه جرير وذووه ليس من صحيح حديثه)

وقد جاء في حديثه هذا ألفاظ ظاهرة النكارة مما لم يرد في الأحاديث

ص: 499

الأخرى وذلك يدل على اختلاطه لكن أصل الحديث صحيح بشواهده المتقدمة

(وفي إتيانها والذهاب فضائل كثيرة جاءت فيها أحاديث نبوية نجتزئ بذكر بعضها:

(أ)(من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر)

الحديث قال المنذري:

(رواه الطبراني في (الكبير) عن سلمان رضي الله عنه بإسنادين أحدهما جيد. وروى البيهقي نحوه موقوفا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صيح). وقال الهيثمي:

(رواه الطبراني في (الكبير) وأحد إسناديه رجاله رجال الصحيح)

قلت: وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا بلفظ

(إن بيوت الله في الأرض المساجد وإن حقا على الله أن يكرم الزائر)

قال الهيثمي:

(رواه الطبراني في (الكبير) وفيه عبد الله بن يعقوب الكرماني وهو ضعيف)

قلت: وإسناده في (الكبير) هكذا: ثنا العباس بن حمدان الأصبهاني: ثنا عبد الله بن أبي - كذا - يعقوب الكرماني نا عبد الله بن يزيد المقرئ: نا

ص: 500

المسعودي عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون عنه

والعباس بن حمدان هذا هو الحنفي يروي عنه الطبراني كثيرا وخرج له حديثا واحدا في (معجمه الصغير) ولم أجد من ترجمه ولعله في (طبقات الأصبهانيين) لابن حيان ومنه نسخة في المكتبة الظاهرية فليراجع. وبقية رجال الإسناد ثقات غيرالكرماني فهو ضعيف كما قال الهيثمي وسبقه الذهبي

(ب): (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح)

الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن يزيد بن هارون - شيخ أحمد فيه -: أخبرنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعا. قال الحافظ:

(وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقا لكن المقصود منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة والصلاة رأسها والله أعلم)

(ج): (من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة ذاهبا راجعا)

هو من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

أخرجه الإمام أحمد من طريق ابن لهيعة: ثنا حيي بن عبد الله أن أبا عبد الرحمن حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص به مرفوعا

ص: 501

وهذا سند حسن. وابن لهيعة إنما يخشى من تفرده لسوء حفظه وهو في نفسه ثقة وقد توبع فقد قال الهيثمي بعد ساق الحديث:

(رواه أحمد والطبراني في (الكبير) ورجال الطبراني رجال الصحيح ورجال أحمد فيهم ابن لهيعة). وقال المنذري:

(رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني وابن حبان في (صحيحه)

والظاهر أن ابن حبان أيضا رواه من غير طريق ابن لهيعة فإن هذا عنده ضعيف فقد قال فيه:

(قد سبرت أخباره من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودا وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرا فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات فألزق تلك الموضوعات بهم)

ثم لعل الطبراني رواه من طريق غير طريق حيي بن عبد الله فإن هذا ليس من رجال الصحيح والهيثمي يقول في رجاله:

(إنهم رجال الصحيح)

بدون استثناء. والله أعلم

(د): (من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة)

أورده المنذري من حديث أبي الدرداء مرفوعا وقال:

ص: 502

(رواه الطبراني في (الكبير) بإسناد حسن وابن حبان في (صحيحه) ولفظه: من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد آتاه الله نورا يوم القيامة)

وقال الهيثمي:

(رواه الطبراني في (الكبير) ورجاله ثقات)

وله شواهد كثيرة بمعناه يرتقي بها إلى درجة الصحة فمنها:

عن أبي هريرة: رواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن كما قال المنذري وتبعه الهيثمي

ومنها عن بريدة: أخرجه أبو داود عن إسماعيل أبي سلمان الكحال عن عبد الله بن أوس عنه. قال المنذري:

(ورجاله ثقات)

قلت: كلا فإن عبد الله بن أوس لم يوثقه أحد غير ابن حبان وتوثيقه في مثل هذه الحالة غير حجة لما أعلمناك عنه مرارا آخرها قبيل بناء المساجد على قبور المشركين ولذلك قال ابن القطان فيه:

(مجهول الحال ولا نعرف له رواية إلا بهذا الحديث من هذا الوجه). وقال الحافظ في (التقريب):

(لين الحديث)

ثم الحديث عزاه المنذري وغيره للترمذي ولم أجده في (سننه) مع أن

ص: 503

النابلسي ذكر في (الذخائر) أنه في (الصلاة) من (سننه) ومع ذلك فلم أعثر عليه. والله أعلم (1)

ومنها عن أنس أخرجه ابن ماجه والحاكم عن سليمان بن داود الصائغ عن ثابت عنه. وقال الحاكم:

(إنها رواية مجهولة)

وكفى به تضعيفا وعلته سليمان هذا قال العقيلي:

(لا يتابع على حديثه)

ومنها عن سهل بن سعد الساعدي عندهما أيضا من طريق إبراهيم بن محمد البصري: أنبأ يحيى بن الحارث الشيرازي - وكان ثقة وكان عبد الله داود يثني عليه - قال: ثنا زهير بن محمد التيمي وأبو غسان المدني عن أبي حازم عنه. وقال الحاكم:

(صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي

وقد وهما وذلك لأن إبراهيم بن محمد البصري وشيخه يحيى بن الحارث الشيرازي ليسا من رجال الشيخين ثم الأول منهما لم يوثقه غير ابن حبان وقال:

(يخطئ)

(1) ثم عثرت عليه في باب (ما جاء في فضل العشاء والفجر في جماعة)(1/ 435) وقال: (حديث غريب من هذا الوجه)

ص: 504