المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العلاقة بين الغلو والتطرف والإفراط - الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف

[علي بن عبد العزيز الشبل]

الفصل: ‌العلاقة بين الغلو والتطرف والإفراط

‌العلاقة بين الغلو والتطرف والإفراط

ونحوهما

الغلو - في الحقيقة - أعلى مراتب الإفراط في الجملة. فالغلو في الكفن مثلا هو المغالاة في ثمنه والإفراط فيه.

والغلو أخصّ من التطرف؛ إذ إن التطرف هو مجاوزة الحدِّ ، والبعد عن التوسط والاعتدال إفراطا أو تفريطا ، أو بعبارة أخرى: سلبا أو إيجابا ، زيادة أو نقصا ، سواء كان غلوا أم لا ، إذ العبرة ببلوغ طرفي الأمر ، وهو الغلو في قول القائل:

لا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد

كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ

فالغلو أخص من التطرف باعتبار مجاوزة الحد الطبيعي في الزيادة والنقص ، في حال النقص يسمى غلوا إذا بالغ في النقص ، فيقال: غلا في النقص ، كما في قول اليهود جفاء في حق المسيح ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. وكذلك في الزيادة إذا بالغ فيها كقول النصارى في المسيح ابن مريم غلوا.

والتطرف: الانحياز إلى طرفي الأمر ، فيشمل الغلو ، لكن الغلو أخص منه في الزيادة والمجاوزة ، ليس فقط بمجرد البعد عن الوسط إلى الأطراف.

أو بمعنى آخر: كل غلو فهو تطرف، وليس كل تطرفٍ غلوا.

الفرق بين الاستقامة و (الغلو والتطرف والإرهاب) :

ص: 16

في الواقع لا تلازم بين التمسك بالنصوص والغلو؛ فقد كان الصحابة رضي الله عنهم أشدَّ الناس تمسكا واقتضاء لنصوص الشريعة ، ومع هذا لم يحصل منهم غلو أو تشديد ، خلا في قضايا عينية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أرشد عليه الصلاة والسلام أصحابه إليها (1) وعلَّمهم وبيّن لهم طريق العبادة المعتدل ، فانتهوا. وسببه هو موافقة هذا الاستمساك منهم رضي الله عنهم لعلم صحيح، وفهم سليم ، وهمة حريصة على العلم والبصيرة ، فنجوا من الغلو فضلا عن الاستمرار فيه ، لكن لما بعد الناس عن زمان الأفاضل ، وصار الدين غريبا ، وأطبق الجهل على كثير من أهل الإسلام ، صار المتمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم العاضُّ عليها بنواجذه منبوذا مُستهزءا به في تلك المجتمعات ، وأطلقوا عليه عبارات النبز كالمتزمتين والغالين والمتطرفين والأصوليين والإرهابيين. . . . ونحوها من الألقاب التي روجتها بعض وسائل الإعلام عن أعداء الإسلام!

(1) كما في خبر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في إطالة الصوم ، المتفق على صحتها. رواها البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب كم يقرأ من القرآن ، ومسلم في كتاب الصيام ، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ، رقم (1159)، وحديث عبد الله بن الشخير في وفد بني عامر وفيه ((فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى) . فقلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال: ((قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)) رواه أبو داود والنسائي بأسانيد جيدة. وما قوله عليه السلام ذلك إلا سد لطريق الغلو فيه ، انظر: فتح المجيد 517.

ص: 17

والواقع أن التمسك بنصوص الكتاب والسنة ، وفهمها فهما صحيحا يعد عند هؤلاء المتهاونين بأحكام الشريعة الغافلين عنها ، غلوا وتطرفا ، وذلك بالنظر إلى ما هم عليه من تفريط ظاهر ، وقصور في إظهار منهج الإسلام.

ولنأخذ مثالا يوضح ما سبق: فدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية اتهمت من كثير من الناس - بتكفير الناس - الذي هو مظهر من مظاهر الغلو البارزة - أو أنهم خوارج. . . . . . ونحوها من ألقاب تفيد مجاوزة اعتدال الإسلام وسماحته ، وينبزونهم بألفاظ هي في الشريعة وصف لأقوام متشددين لا فقه لهم ولا نظر (1) وهي من ذلك براء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ، لكن ما حيلة من شرق بها إلا ذلك. والملحوظ أن المتمسكين بمدلولات النصوص الشرعية يكونون غلاة متشددين بنسبتهم إلى المفرطين الذين يحملون الإسلام وصفا ، وعند نسبتهم إلى ميزان الشريعة لا نجد عندهم معنى التمسك المطلوب ، وهو الاستقامة على أحكام الكتاب والسنة.

(1) انظر الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفيها بحث د. عبد الرحمن عميرة وغيره في: أسبوع الشيخ محمد. المجلد الثاني. وكذا ((دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) للدكتور العبد اللطيف.

ص: 18

فالمقصرون يلمزون المتمسكين بالغلو والتطرف والإرهاب أو التشدد ، على أن ما هم عليه هو اعتدال الإسلام وتوسطه ، وما أظهروه هو الاعتدال ، وهو في الحقيقة ليس كذلك؛ إذ هو التقصير والتفريط في بعض شعائر الإسلام وأحكامه. أما الاعتدال والتوسط فهو في دين الله ومنهاج دينه ، ولا يخفى أن من يتهم أحدا بالتطرف أو الغلو ونحوهما ، غايته التنفير والتحذير منهم وليس لكونهم متجاوزين لحدود الشريعة ووسطية الإسلام ، كما هو الحال فيمن اتهم دعوة الشيخ السلفية الإصلاحية بذلك؟!

أعني أن هذه الدعاوى ليست من باب الأسماء والأحكام ، أو لتبين معاني شرعية بقدر ما هي لأغراض وأهواء ذاتية أو محدودة. فتكون بذلك من تحميل مصطلحات الشارع ما لا تحتمل ، ومن استعمال المعاني الشرعية في الأغراض الشخصية الضيقة والغايات السياسية المحدودة!

ص: 19