المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا - الغلو والتطرف لدى اليونان - الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف

[علي بن عبد العزيز الشبل]

الفصل: ‌ثانيا - الغلو والتطرف لدى اليونان

‌ثانيا - الغلو والتطرف لدى اليونان

لماذا الوثنية اليونانية بالذات لتاريخ التطرف والغلو بها قديما؟

إن إيراد هذا السؤال مهم ، فلماذا العناية ببيان وثنية هؤلاء القوم؟ إنه انقداحُ ذهن وتلمسٌ من قوله تعالى في سورة براءة:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] .

فذكر سبحانه في هذه الآية مشابهة قول اليهود والنصارى في دعواهم البنوة لله عز وجل مَن قبلهم مِن الكافرين الذين قالوا مقالات هي أصل لهذه المضاهاة.

قال ابن كثير رحمه الله على قوله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}

أي: يشابهون من قبلهم من الأمم ، ضلوا كما ضل هؤلاء. (1) .

ونقل ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير"(2) .

(1) انظر «تفسير ابن كثير» 2 / 348.

(2)

انظر «زاد المسير» 3 / 289، و «معاني القرآن» لأبي جعفر النحاس 3 / 200 بنحو ما ذكره ابن الجوزي ، وانظر:«التسهيل لعلوم التنزيل» لابن الجزري 2 / 74.

ص: 22

وفي قوله تعالى: (يُضاهِئُونَ) قراءتان: بالهمزة وهي لعاصم وحده ، وبقية السبعة ((يضاهون)) بلا همز: وانظر: " السبعة " لابن مجاهد 314 ، و" القراءات العشر المتواترات " 192 ، " النشر " 1 / 406 ، و" التيسير " 118 عن الزجاج قوله:(يُضَاهِئُونَ) يشابهون قول من تقدمهم من كفرتهم ، فإنما قالوه اتباعا لمتقدميهم.

ثم قال ابن الجوزي: وفي قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} هاهنا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم عبدة الأوثان ، والمعنى أن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله ، قاله ابن عباس.

الثاني: أنهم اليهود ، فالمعنى أن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله ، شابهوا اليهود في قولهم: عزير ابن الله. قاله قتادة والسدي.

والثالث: أنهم أسلافهم ،تابعوهم في أقوالهم تقليدا ،قاله الزجاج وابن قتيبة. ا. هـ.

ونحوه ما حكاه القرطبي والشوكاني في تفسيرهما عند هذه الآية (1) وقبلهما الحافظ ابن جرير الطبري على آية براءة. وعلى كلٍ فالأقوال الثلاثة ليست متعارضة ، وليس الخلاف بينها اختلاف تضاد ، بل هو من قبيل اختلاف التنوع ، إذ المعنى يحتمل أحد الأقوال كما يحتملها جميعا.

(1)«تفسير القرطبي» 8 / 118-119 ، و «فتح القدير» 2 / 353.

ص: 23

ومما يدخل في معنى الذين كفروا من قبل اليهود والنصارى: مَن سبقهم من الأمم ، التي شابهت مقالة اليهود والنصارى في دعوى البنوة لله مقالتهم.

وهذه المقالة - بتولّد الآلهة وكون لها أبناء - عقيدة وثنية صريحة واضحة عند الأمة اليونانية القديمة!

فلذا دخل اليونانيون الوثنيون في مفهوم الآية ومنطوقها من هذا الاعتبار فهم ممن كفر قبلُ. وهو أيضا مظهر جلي للغلو والتطرف الديني الذي أورث العنف والتكفير والإرهاب لمن لم يوافقهم في العقيدة الوثنية.

هذا فضلا عن تأثير الوثنية اليونانية على من بعدها من الأمم حيث ظهر تأثيرهم الوثني على اليهود والنصارى وفرق وعلى بعض الفرق الضالة من الجهمية والمعتزلة والمتكلمين وقبلهم الفلاسفة. . . ، فضلا عن تأثيرهم في غيرهم من الأمم الوثنية المشركة من المجوس والهندوس والرومان. . . . إلخ.

فإذن في تجلية الغلو والتطرف والانحراف الوثني في العقيدة اليونانية بيان للذين كفروا من قبل ومبلغ معرفتهم بربهم ، المتمثل في أدنى دركات الجهل ، والعمى عن رب العالمين ،وإن بلغوا مبلغا متقدما في العمران المادي للدنيا بما خلفوه من تراث مادي بارز.

ص: 24

والموضوع أيضا من دلالة قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ، وقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، وقوله {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وقوله:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} .

ص: 25

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} .

وقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} .

وقوله تعالى في آخر السورة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

ولا شك أن اليونانيين وغيرهم من متقدمي الغلاة والمتطرفين في دينهم داخلون في مطلوب التفكر والاعتبار والاتعاظ ومحاذرة طريقهم ومناهجهم في الآيات. (1) .

(1) ينظر بحث الفقير إلى الله: «الانحرافات الوثنية في العقيدة اليونانية وآثارها» ط دار المسير بالرياض ، ط ، 1417هـ.

ص: 26